شرح الرسالة التدمرية
فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران: 102] .
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) [النساء: 1]. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" [الأحزاب: 70-71].
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وبعد :
فإن الله عز وجل ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته كما قال سبحانه: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56].
ومن رحمة الله تعالى بخلقه، ومنته عليهم أن بعث رسله مبشرين ومنذرين وداعين إلى توحيده، ومحذرين من عبادة ما سواه كما قال عز وجل ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ " [النحل: 36] وقال سبحانه: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا بbrك‰ç7ôم$$s" [الأنبياء:25] .(1/1)
وقد ختم الله تعالى الرسالات برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وجعل دعوته عامة كما قال عز وجل (( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" [الأعراف: 158] فلا يقبل الله تعالى من أحد -بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم -- ديناً سوى الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن رسالته ناسخة للرسالات، ودعوته عامة لجميع الأمم والناس.
ولقد قام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - برسالته خير قيام، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله الغمة، وجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
ومضى الصحابة الكرام رضي الله عنهم على سنة نبيهم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، والتحذير مما يضاده، أو ينافي كماله، وسار على نهجهم التابعون، وسلف الأمة الصالحون، مصداقاً لقوله:( لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، ما يضرهم من كذبهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) (1).
ومن الأئمة الأعلام، الذين كان لهم قدم صدق في هذا المقام، شيخ الإسلام أحمد ابن عبدالحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي المولود سنة 661هـ والمتوفى سنة 728هـ، فقد دعا إلى دين الله، وقارع خصومه بالقلم واللسان والسنان، فكان بحق من المجددين لهذا الدين، وممن جمع خصالاً لا تكاد تجتمع في شخص واحد، فرحمه الله رحمة واسعة، ورفع درجاته في عليين.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى + إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" برقم 7460، ومسلم بنحوه في كتاب الإمارة برقم 4951.(1/2)
وقد ألف وكتب -رحمه الله- في فنون شتى، لا سيما فيما يتعلق بتقرير العقيدة، والرد على أهل البدع بشتى أصنافهم وفرقهم، فسطر القواعد، والضوابط، والمسائل، والأصول، وكشف عوار المبطلين والزائغين الذين زخرفوا مقالاتهم، وموهوا بمصطلحاتهم وشبهاتهم، فأضحت كتبه -رحمه الله- مرجعاً لطلاب الحق، ومورداً عذباً ينهل منه من يريد السير على نهج السلف الصالح.
وإن من أهم مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- الرسالة التدمرية، لاشتمالها على خلاصة كثير من القضايا والمسائل التي تحدث عنها في كثير من كتبه الأخرى، لا سيما فيما يتعلق بتقرير منهج السلف الصالح في إثبات الأسماء والصفات والرد على المخالفين لهم في هذا الباب، وكذا بعض مسائل الشرع والقدر، فقد عرض شيخ الإسلام لهذا كله بأسلوب مركز، وعبارات محكمة ومختصرة حوت كثيراً من المقاصد التي بثها الشيخ في كتبه الكثيرة.
لذلك جاءت بعض عبارات هذه الرسالة وجملها مجملة وغامضة على كثير من طلبة العلم، تحتاج إلى من يوضحها، ويحل مشكلها.
وقد اهتم بعض العلماء المعاصرين بشرحها والإفصاح عن مقاصدها(1)، وكان من أول شروحها وأفضلها الشرح المسمى بـ"التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية" للشيخ فالح بن مهدي آل مهدي الدوسري -رحمه الله- المتوفى عام 1392هـ وهو شرح مختصر قام بتأليفه لما أسند إليه في كلية العلوم الشرعية تدريس "الرسالة التدمرية" فلاحظ أنها في حاجة ماسة إلى شرح يكشف النقاب عن غامضها، ويميط اللثام عن مراميها، ويجمع مفصلها، ويوضح مجملها. كما ذكر ذلك في مقدمة شرحه المشار إليه(2).
وهو شرح كما ذكر مؤلفه -رحمه الله- مختصر، وفيه إجمال، كما أنه يضمنه نقولاً عن شيخ الإسلام دون الإشارة إلى ذلك.
__________
(1) انظر الدليل إلى المتون العلمية للشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم القاسم ص 216-218.
(2) انظر التحفة المهدية ص 15.(1/3)
وممن قام بشرح الرسالة التدمرية أيضاً شيخنا العلامة فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك -حفظه الله- فقد شرحها مرات عديدة، حين كان يقوم بتدريسها في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، واجتهد في تقريب معانيها للطلاب، وتوضيح مشكلها.
ولما كثر سؤال بعض طلبة العلم عن شرح الشيخ للرسالة التدمرية، وأكدوا رغبتهم فيه، والحاجة إلى إخراجه ليستفاد منه، تم عرض الموضوع على فضيلته فأذن بصياغته وإخراجه -جزاه الله خيراً-.
وقد سار العمل في إخراج هذا الشرح بالخطوات التالية:
1- تفريغ الأشرطة المسجلة بصوت الشيخ حين شرحه للرسالة في القاعات الدراسية لطلاب كلية أصول الدين، وتنسيق بعض عباراتها وجملها بما يناسب طباعتها.
2- جمع ما كتبه تلاميذ الشيخ من شرحه.
3- قراءة جميع الشرح بعد تنسيقه، على فضيلة الشيخ لتقييد بعض الاستدراكات، ومن ثم إقراره.
4- طباعة الشرح مع أصل الرسالة بحيث يكون النص المشروح أعلى الصفحة والشرح أسفلها.
5- العناية بعزو الآيات وتخريج الأحاديث والآثار.
6- الإحالة في بعض المسائل إلى مواطن أخرى، لا سيما من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية لمن أراد التوسع فيها.
وأحب أن أنبه إلى أن فضيلة شيخنا لم يشرح القاعدة السابعة، لأنها ليست موجودة في كثير من نسخ التدمرية، وربما تكون مأخوذة من كتاب آخر للمؤلف ومدرجة في الرسالة التدمرية، ولأن موضوع بعضها موجودة في القاعدة الأولى، ولذا فقد اكتفى شيخنا بالتعليق الموجز عليها.
وبعد فإني أحمد الله تعالى أن يسر إخراج هذا الشرح المبارك لهذه الرسالة العظيمة.
وأتوجه بالشكر الجزيل لفضيلة شيخنا الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك على إذنه بالعمل على إخراج شرحه وما بذل في سبيل ذلك من أوقاته الثمينة للقراءة عليه. وأسأل الله تعالى أن يبارك في عمره، وأن يجزل له المثوبة، ويضاعف له الأجر، وأن يجعل ذلك له من العلم الذي ينتفع به من بعده.(1/4)
كما أشكر فضيلة الدكتور محمد بن عودة السعوي الذي أذن باعتماد نص الرسالة التدمرية الذي حققه، والاستفادة من تحقيقه.
وأشكر فضيلة الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف الذي أذن بالاستفادة من الإحالات التي علقها على نسخته من التدمرية، فأفدنا منها في كثير من الإحالات.
وأشكر أيضاً فضيلة الشيخ عبدالله بن عايض القحطاني، والذي اعتمدنا ما كتبه من شرح الشيخ لبعض مقدمة الرسالة وللقاعدة الخامسة.
وأشكر كل من أسهم في إخراج هذا الشرح، سواء بتفريغ لأشرطته، أو بتصحيح لطباعته، أو بمتابعة واهتمام.
وأسأل الله تعالى أن يبارك في الجهود، ويسدد الخطى، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويرزق الجميع الإخلاص في الأقوال والأعمال إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه:
سليمان بن صالح الغصن
قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة
بكلية أصول الدين بالرياض
ترجمة الشارح
فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك
فضيلة الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر بن براك البراك، يرجع نسبه إلى العرينات من سبيع.
ولد في عام 1352هـ من شهر ذي القعدة في بلدة البكيرية، إحدى مدن منطقة القصيم.
نشأ في تلك البلدة، وبعد عام من ولادته توفي والده، فتربى في طفولته عند أخواله من عائلة البراك، ولما بلغ من العمر خمس سنين ذهب مع والدته إلى مكة، وكان في كفالة زوج والدته: محمد بن حمود بن براك، ابن عم والدته.
وفي مكة التحق بالمدرسة الرحمانية، وكان عمره سبع سنين، ولما كان في السنة الثانية الابتدائية أصابه وجع في عينيه، فقد على إثره بصره.
عاد بعد ذلك مع أسرته إلى بلدته البكيرية، وحفظ القرآن على يد عمه عبدالله بن منصور البراك، وكان عمره عشر سنين تقريباً، ثم راجع حفظه للقرآن على يد مقرئ البكيرية عبدالرحمن بن سالم الكريديس.(1/5)
وفي عام 1365هـ تقريباً بدأ الشيخ في طلب العلم؛ فقرأ على الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السبيل جملة من كتاب التوحيد، وفي الآجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن مقبل -الذي كان مقيماً في البكيرية بعد إعفائه من قضائها- الثلاثة الأصول، كما استفاد من الشيخ محمد بن صالح الخزيم.
بعد ذلك رحل الشيخ مع أسرته إلى مكة، وكان عمره قرابة الرابعة عشرة، والتقى بالشيخ عبدالله بن محمد الخليفي إمام المسجد الحرام، وقرأ عليه في النحو من الآجرومية، كما التقى بالشيخ صالح بن حسين العلي المعروف بالعراقي وهو أحد كبار تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وصديق للشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، واستفاد منه في لقاءات معه في بيته، وفي المسجد الحرام.
ولما عين الشيخ صالح العراقي عام 1369هـ مديراً لمدرسة العزيزية بالدلم أحب أن يرافقه الشيخ عبدالرحمن البراك للدراسة على يد الشيخ عبدالعزيز بن باز، فرحل معه في شهر ربيع الأول من تلك السنة، وهناك أحس الشيخ بشيء من الغربة والفراغ، ولما حضر حفلاً في المدرسة العزيزية أقيم على شرف الشيخ عبدالعزيز بن باز، وألقيت فيه كلمات وقصائد، أعجب بمستوى الطلاب والدروس، مما دفعه للالتحاق بتلك المدرسة، فالتحق بالصف الرابع - وهو أعلى الصفوف الموجودة فيها تلك السنة- وكان من أهم ما استفاده في تلك الدراسة الإلمام بقواعد التجويد الأساسية.
وفي تلك السنة -1369هـ- سافر مع الشيخ عبدالعزيز بن باز برفقة مجموعة من طلابه إلى الحج، وبعد عودته وفي مطلع عام 1370هـ ترك المدرسة وآثر حفظ المتون والمذاكرة مع طلاب الشيخ عبدالعزيز بن باز.(1/6)
وكان الشيخ عبدالرحمن البراك طيلة مدة إقامته في الدلم ملازماً لدروس الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي كان له مجلسان، بعد الفجر، وبعد المغرب، وربما جلس بعد الظهر، وكان يُقرأ عليه بعد الفجر بعض المتون، ككتاب التوحيد، والأصول الثلاثة في التوحيد، وبلوغ المرام، وعمدة الأحكام، في الحديث، كما يُقرأ عليه في النحو وفي بعض الكتب المطولة كتفسير ابن كثير.
وأما بعد المغرب فكان يُقرأ عليه الرحبية في الفرائض، والآجرومية في النحو.
وفي الظهر يُقرأ عليه في بعض كتب الحديث كمسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر، الذي كانت أجزاؤه الأولى قد صدرت في تلك الفترة.
وقد حفظ شيخنا الشيخ عبدالرحمن البراك في تلك المدة كتاب التوحيد، والأصول الثلاثة، ونظم الرحبية، ومتن الآجرومية، ومتن القطر، وقدراً من ألفية ابن مالك في النحو، وقدراً من ألفية العراقي في علوم الحديث.
وكان شيخنا مدة إقامته في الدلم والتي قاربت سنة ونصف في رعاية الشيخ صالح ابن حسين العراقي، وكان مقيماً في بيته، وفي هذه المدة درس عليه علم العروض الذي كانت للشيخ صالح عناية به، وممن زامل الشيخ في تلك الفترة الشيخ عبدالله ابن قعود، والشيخ سليمان بن عبدالعزيز بن سليمان.
في مطلع عام 1371هـ بدأت الدراسة في المعهد العلمي بالرياض وكان شيخنا أحد المقبولين فباشر الدراسة فيه, وكان من أبرز أساتذة المعهد ذلك الوقت فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وفضيلة الشيخ عبدالرزاق عفيفي، والشيخ عبدالرحمن الأفريقي، والشيخ محمد عبدالرزاق حمزة.
وممن زامل الشيخ في الدراسة في المعهد فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم، والشيخ محمد بن ردن البداح، والشيخ عبدالله بن قعود، والشيخ عبداللطيف بن محمد الشديد، وغيرهم.
وقد تخرج الشيخ من المعهد عام 1374هـ والتحق بكلية الشريعة وتخرج منها عام 1378هـ، وكان ممن درّسه فيها إضافة إلى السابقين الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الرشيد.(1/7)
عمل الشيخ بعد تخرجه مدرساً في المعهد العلمي مدة ثلاث سنوات، ثم ا نتقل عام 1382هـ إلى كلية الشريعة، ودرس فيها الحديث والتفسير والتوحيد، ولما صارت "الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية" جامعة باسم: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1394هـ، وتم افتتاح كلية أصول الدين عام 1396هـ، وصُنف الأساتذة للتخصص، صار الشيخ أحد أعضاء قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين، فكان يلقي الدروس، ويشارك في المجالس العلمية، وفي الإشراف على الرسائل العلمية ومناقشتها إلى أن تقاعد وذلك عام 1420هـ.
وقد تشرفتُ بالتتلمذ على يد الشيخ والقراءة عليه في بيته كما كنتُ درست عليه في المرحلة الجامعية وفي مرحلة الدكتوراه حيث أشرف على رسالتي التي بعنوان: (موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة).
ولا يزال الشيخ مستمراً في إلقاء الدروس العلمية لا سيما في مسجده بعد صلاة الفجر والمغرب في فنون متنوعة، وللشيخ عدد كثير من التلاميذ الذين طلبوا العلم على يديه، كما أن له مشاركات في الإفتاء والإصلاح، وله من الصفات الحميدة ما أعلم أنه لا يرضى الكتابة عنها.
أسأل الله تعالى أن يمد في عمره على طاعته، وأن يبارك في علمه وعمله، وأن يحسن له الختام، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
قال الشيخ، الإمام، العالم، العلاَّمة، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، أوحد عصره، وفريد دهره، ناصر السُنَّة، وقامع البدعة، تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن الشيخ، الإمام العلامة، شهاب الدين عبدالحليم بن الشيخ ، الإمام، العلامة، شيخ الإسلام مجد الدين، أبي البركات، عبد السلام بن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه وأرضاه:(1/8)
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قوله "الحمد لله، نحمده ونستعينه..." إلخ.
افتتح الشيخ هذا الكتاب -كما هي عادته في أجوبته- بخطبة الحاجة، وتارة يختصر ويقول: "الحمد لله" فقط، وتارة ينشيء خطبة ويظهر فيها تحري السجع من غير تكلف وهو قليل، وهذه الخطبة تعرف بخطبة الحاجة، وهي خطبة مأثورة ليست من إنشاء الشيخ، إذ كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعلمها أصحابه كما ذكر ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه -(1).
..............................................................................
ويذكر أهل العلم هذه الخطبة في باب الجمعة وفي باب النكاح تنبيهاً على شرعية هذه الخطبة عند عقد النكاح، لأن عقد النكاح ليس كغيره من العقود، فيستحب العلماء قراءة هذه الخطبة عند عقد النكاح، وهذه الخطبة المأثورة رواها الإمام مسلم(2) وأهل السنن، وألفاظها متقاربة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/392-393 برقم 3720، 3721، والنسائي في كتاب النكاح، باب ما يستحب من الكلام عند النكاح برقم 3279، 3280، والترمذي في كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح برقم 1105، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب خطبة النكاح برقم 1892.
(2) رواها الإمام مسلم في صحيحه مختصرة في كتاب الجمعة برقم 867 عن جابر.(1/9)
وهذه الخطبة من جوامع الكلم الذي أوتيه -عليه الصلاة والسلام-؛ فمن خصائصه أنه أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، فيأتي بالعبارة القصيرة التي تحمل معاني كثيرة، وخطبة الحاجة من هذا، فإنها قصيرة لكنها اشتملت على أصول الدين: فاشتملت على التوحيد بأنواعه الثلاثة، وإثبات القدر، وإثبات الرسالة، وفيها تفويض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، والالتجاء إليه(1)، ويتضح هذا بما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: "الحمد لله": من هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا خطب افتتح خطبته بالحمد والثناء على الله، والله سبحانه قد حمد نفسه وعلّمنا أن نحمده، وافتتح كلامه بالحمد فقال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ ةOٹدmچ9$#" [الفاتحة: 1-2]. وفي الحديث القدسي "قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: "الحمد لله رب العالمين" قال الله: حمدني عبدي" الحديث(2).
..............................................................................
وقد اختلف أهل العلم من المفسرين وشراح الحديث في الحمد والشكر؛ فمنهم من قال: الحمد والشكر شيء واحد وهو تعظيم المنعم والثناء عليه قولاً أو فعلاً.
__________
(1) يراجع في الكلام على بعض معاني هذه الخطبة مجموع فتاوى شيخ الإسلام 14/12-40، 18/285-290.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (395)، كتاب الصلاة.(1/10)
وقال آخرون: بل بينهما فرق، فالحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري وأما الشكر فهو تعظيم المنعم على إنعامه بالقول أو الفعل، وبهذا تكون العلاقة بين الحمد والشكر العموم والخصوص الوجهي. فإن العلاقة بين الكلمات والمعاني تارة تكون العموم والخصوص، وتارة تكون المماثلة، وتارة تكون المباينة، فالعلاقة بين الإنسان والحجر المباينة، والعلاقة بين الإنسان والبشر المماثلة، لكن العلاقة بين الإنسان والحيوان العموم والخصوص المطلق، فأحدهما أعم مطلقاً والثاني أخص مطلقاً، فتقول: كل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنساناً، فبعض الحيوان إنسان، وهذا أيضاً مثل العبادة والصلاة، فبينهما عموم وخصوص مطلق، أما العموم والخصوص الوجهي فضابطه أن المعنيين يجتمعان في حال، وينفرد كل منهما في حال، ويُمَثِّل أهل المنطق لهذا بالأبيض والإنسان فإنهما يجتمعان في الإنسان الأبيض، وينفرد كل واحد منهما فالأبيض في الثلج والأسود
في الإنسان الأسود، وهكذا نقول في الحمد والشكر -على القول بالفرق- وهو الصحيح، فبينهما عموم وخصوص وجهي، فيجتمعان في الثناء على الله باللسان بما أَنْعَم، فتعظيمه باللسان فيما أنعم به على عباده حمد وشكر، وينفرد الشكر في التعظيم بالفعل، وينفرد الحمد في الثناء باللسان في غير مقابل نعمة، فالله تعالى هو المحمود على كل حال، محمود على السراء والضراء فحمده على السراء حمد وشكر، وحمده على الضراء حمد وليس بشكر، وعلى هذا يكون الشكر أعم من
..............................................................................
حيث الأداة، فالثناء إنما يكون باللسان، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، ويستشهد العلماء لهذا بقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وجاء في القرآن (( اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ â'q(1/11)
9$#"[سبأ: 13]، والحمد أعم من حيث المقتضي، فالمقتضي للحمد أوسع من المقتضي للشكر، فالمقتضي للشكر هو النعم والمقتضي للحمد صفات الكمال مطلقاً، فالثناء على الشجاع بشجاعته والصبور بصبره حمد وليس شكر، لكن الثناء على الشجاع بما قام به من النصر للآخرين ومن عونه لغيره حمد وشكر(1).
و"أل" في "الحمد لله" للاستغراق، و"أل" تأتي لمعان كثيرة: للعهد الذهني والحضوري، وتأتي للجنس. والتي تأتي للجنس تارة تأتي للدلالة على الحقيقة، وتارة تأتي للاستغراق، والمراد بها هنا الاستغراق، فيكون معنى "الحمد لله" أي كل الحمد لله تعالى، والذي يستحق الحمد كله والثناء كله والتمجيد كله هو المتصف بجميع صفات الكمال، إذن فإثبات الحمد كله لله تعالى يدل على أنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، وليس هذا إلا لله تعالى وحده، والمخلوق قد يُحمد، ولكن يحمد على ما عنده من المحامد، وما عنده من المحامد ليس أصيلاً فيه بل هو موهوب له، وفضل من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يكرم من يشاء بما شاء من
المحامد والفضائل. وأعظم الناس استحقاقاً للحمد أكثرُهم محامدَ وفضائل وهو-
.............................................................................
نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -- وهذا يتصل بالكلام على اسمه "محمد"، فاسمه هذا عليه الصلاة والسلام عَلَم وصفة، فهو علم على شخصه - صلى الله عليه وسلم -، ويدل أيضاً على معنى عظيم(2).
أما المستحق للحمد كله على الإطلاق لذاته فهو الله تعالى.
__________
(1) ينظر في الفرق بين الحمد والشكر في: مدارج السالكين(2/256-257) وعدة الصابرين (ص 190-191). والفرق بين الحمد والمدح والثناء والمجد في: بدائع الفوائد (2/92-96) والوابل الصيب (ص 119).
(2) ينظر جلاء الأفهام (ص 87-107) وزاد المعاد (1/89).(1/12)
ويلاحظ بهذا أن إثبات الحمد لله تعالى تضمن نوعاً من أنواع التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات، فهو سبحانه الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شريك له في ذلك ولا شبيه، فهذا كله يتضمنه إثبات الحمد، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها عدل وحكمة ورحمة.
قوله: "نحمده" هذا فيه توكيد للحمد الأول، فله الحمد الثابت لأن الجملة الاسمية "الحمد لله" تفيد الثبات. وله الحمد المتجدد لأن الجملة الفعلية "نحمده" تفيد التجدد. فهو تعالى المستحق للحمد كله على الإطلاق، وله منَّا أن نحمده حمداً متجدداً في الحاضر وفي المستقبل كل بحسب ما وفقه الله تعالى، فهو سبحانه كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه عباده، قال أعلم الخلق به - صلى الله عليه وسلم - (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)(1) والعباد لا يستطيعون أن يثنوا على الله تعالى كما يستحق بذاته، لأن العباد لا يعلمون كل ما لله من الأسماء والصفات حتى الرسول ، لا يعلم كنه صفاته سبحانه وتعالى، لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-:
..............................................................................
(لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "وقال عليه الصلاة والسلام في حديث الشفاعة: "فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي)(2). وحمد العباد لربهم بحسب علمهم به تعالى، فمن كان أعلم بأسماء الله تعالى وصفاته كان أقدر على حمده ممن ليس كذلك، ومن كان أيضاً أعلم بنعمه وأكثر استحضاراً لها كان أقدر على حمده وشكره.
__________
(1) أخرجه مسلم (1/352) كتاب الصلاة برقم 486.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب "ذرية من حملنا مع نوح" برقم 4712 ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان برقم 194.(1/13)
قوله: "نستعينه" السين والتاء في اللغة العربية يفيدان الطلب، فقول العبد "أستعين الله" بمعنى: اللهم أعني، و"أستهديه" بمعنى: اللهم اهدني، و"نستغفرك" بمعنى: اللهم اغفر لنا، فالسين والتاء للطلب في الغالب فقوله "نستعينه" فيه طلب العون من الله تعالى، وطلب العون من الله يتضمن الاعتراف بتفرده تعالى بالملك وبالعطاء والمنع، والاعتراف بالفقر إليه، قال الله سبحانه: ((x‚$ƒخ) نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ عْüدètGَ،nS"[الفاتحة: 4] فعلى العبد أن يعبد ربه، وعليه مع ذلك أن يتوكل عليه، وأن يستعين به؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، وكذلك في حمدنا له، لا قدرة لنا على حمده، ولا قوة لنا أن نحمده إلا بعون منه تعالى، ولهذا قرن ذكر الحمد بذكر الاستعانة.
قوله: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" هذا مما تضمنته هذه الخطبة وهو اللجؤ إلى الله تعالى والاعتصام به سبحانه من شريْن عظيمين: شر
.............................................................................
النفس وسيئات الأعمال، ولا يقي ويحفظ العبد من المخاطر والشرور إلا الله سبحانه وتعالى؛ فحقيق بكل مؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى مما يخاف ويحذر.
قوله: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا" المراد بالنفس هنا النفس الأمارة بالسوء؛ فإن النفوس لها ثلاثة أحوال(1): نفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، ونفس لوامة، وشر النفس الأمارة بالسوء دعوتها وأمرها بالسوء كما قال تعالى ((¨bخ) النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي "[يوسف: 53] وما يترتب على ذلك ويتبعه.
__________
(1) يراجع كتاب الروح لابن القيم المسألة الحادية والعشرون، ص 294.(1/14)
قوله: "وسيئات أعمالنا" سيئات الأعمال قيل: المراد بها الأعمال السيئة، وهي المعاصي، فإضافة السيئات إلى الأعمال على هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعمال السيئة، وقيل: المراد بسيئات الأعمال العقوبات المترتبة على الأعمال؛ لأنها تسوء من وقعت عليه، فإضافة السيئات إلى الأعمال على هذا من إضافة المسبِّب إلى السبب، فالأعمال التي هي المعاصي سبب للعقوبات، فعلى الأول التعوذ من السبب الذي هو الأعمال السيئة، وعلى الثاني التعوذ من المسبِّب الذي هو العقوبات(1).
فمن وقاه الله شر نفسه وسوء عمله فقد أفلح ونجا، وهذان الشران هما مصدر كل سوء وشر يتضرر به العبد كما قال تعالى (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ("[الشورى: 30]، قال ابن القيم في هذا التعوذ:
.............................................................................
سل العياذ من اثنتين
شر النفوس وسيئ الأعمال
ولقد أتى هذا التعوذ منهما
ڑڑهما اللتان بهلك هذا الخلق كافلتانِ
ما والله أعظم منهما شرانِ
في خطبة المبعوث بالقرآن
قوله: "من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له" في هذا اعتراف بتفرد الرب سبحانه وتعالى بالهداية والإضلال، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدى. وهذا المعنى جاء صريحاً في القرآن، قال تعالى ((}ّ
__________
(1) يراجع كتاب إغاثة اللهفان (1/123) والداء والدواء (ص 172)، وبدائع الفوائد (2/208)، وطريق الهجرتين (ص 93).(1/15)
s9r& اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ويخوّفونك بالذين من دونه ومن يضلل فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل ". وقال سبحانه: ((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا #Y‰د©َگ'D"[الكهف: 17] ، وقال تعالى: ((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrçژإ£"sƒّ:$#"[الأعراف: 178] وقال سبحانه: (( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ tbqà‰yJ÷ètƒ"[الأعراف: 186] فالرب تعالى هو المتفرد
بالهدى والإضلال، وهو المتفرد بالعطاء والمنع كما في الحديث في الذكر بعد الصلاة وفي الذكر بعد الرفع من الركوع: "لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد"(1) ففي هذا إقرار بتفرد الرب بالعطاء والمنع، ومن أنواع هذا العطاء والمنع: الهدى والضلال، ومن أدلة هذا المعنى في القرآن قوله سبحانه وتعالى: ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ "[فاطر: 2] وقال تعالى: ((وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ قO
دmچ9$#"[يونس: 107].
والهداية نوعان:
هداية خاصة، وهداية عامة:
أما الخاصة فهي التي يعبر عنها بهداية التوفيق والإلهام، والهداية العامة هي التي يعبر عنها بهداية الدلالة والإرشاد، ومن شواهد الهداية الخاصة قوله تعالى:
..............................................................................
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري (1/289) كتاب صفة الصلاة برقم 844، باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم (1/343) كتاب الصلاة برقم 194.(1/16)
(( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ "[الأنعام: 90] وقوله تعالى: (( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ "W‰èd"[محمد: 17] وقوله تعالى: ((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ "[الكهف: 17] وقوله تعالى: ((y7¨Rخ) لَا تَهْدِي مَنْ |Mِ6t7ômr&"[القصص: 56] ومن شواهد الهداية العامة قوله تعالى: ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ 5O
ة)tGَ،oB"[الشورى: 52] وقوله تعالى: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا #·'qàےx."[الإنسان: 3] وقوله (($¨Br&ur ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى 3"y‰çlù;$#"[فصلت: 17] وقوله تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ "[البقرة: 185] ونحوها من الآيات.
والفرق بين الهدايتين من وجهين:
الوجه الأول: أن الهداية العامة عامة للخلق، وأما الهداية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين.
الوجه الثاني : أن الهداية العامة تكون من الرسل وأتباعهم، وأما الهداية الخاصة فليست مقدورة لهم بل هي خاصة لله عز وجل.
..............................................................................
وفي ضوء ما تقدم تكون الهداية المذكورة في هذه الخطبة، خطبة الحاجة، من الهداية الخاصة التي تُفَسر بالتوفيق والإلهام. والهدى من الله سبحانه يكون بالتوفيق
والإلهام، والإضلال يكون بمنع هذا التوفيق، فمن منعه الله التوفيق ولم يمنحه إياه، لزم من ذلك أن يَضل، فالعبد بين التوفيق والخذلان، فمن وفقه الله اهتدى، ومن لم يوفقْه ضل كما قال الله سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)(1).
__________
(1) أخرجه مسلم (4/1994) كتاب البر والصلة، برقم 2577، والترمذي (4/656) كتاب صفة القيامة، باب 48.(1/17)
وهذا الإقرار والاعتراف يتضمن توحيد الربوبية؛ فإن كونه تعالى رب كل شيء يقتضي أنه المتفرد بالعطاء والمنع والهدى والإضلال، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية.
قوله: "وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" هاتان الشهادتان هما أصل دين الإسلام كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث متفق على صحته(1)، والشهادة هي العلم والإقرار بالشيء، فلابد في الشهادة من العلم كما قال تعالى: ((wخ) مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ tbqكJn=ôètƒ"[الزخرف: 86]
..............................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (1/11) كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم برقم 8، ومسلم (1/45) كتاب الإيمان برقم 16.(1/18)
ولابد من الإقرار، فقول العبد: أشهد ألا إله إلا الله، أي: أقر وأعترف ظاهراً وباطناً بأنه لا إله إلا الله، فتضمنت الشهادتان الإقرار بالتوحيد الذي هو أصل دين الرسل والإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي لا يتحقق إسلام العبد إلا بها مع التوحيد، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)(1) الحديث وكلمة التوحيد مركبة من نفي وإثبات، من نفي إلهية كل ما سوى الله تعالى، وإثبات الإلهية له سبحانه، إذن فالتوحيد لا يتحقق إلا بنفي وإثبات، إلا بكفر وإيمان، كفر بالطاغوت، وإيمان بالله تعالى، قال سبحانه: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ îLىخ=tو" [البقرة: 256]، وقوله "وحده" حال، وقوله "لا شريك له" حال أيضاً، فالكلمتان حالان مؤكدتان، فـ "وحده" تأكيد لما تضمنته كلمة الشهادة من الإثبات، و"لا شريك له" تأكيد للنفي.
والمراد بالإله هنا المستحق للعبادة، أو المعبود بحق،فلا معبود بحق إلا الله وأصل معنى الإله في اللغة هو المعبود، فكل معبود سوى الله فهو معبود بالباطل، والله وحده هو المستحق للعبادة، كما قال تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ "[الحج: 62].
وشهادة ألا إله إلا الله هي أصل دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، وشهادة أن محمداً رسول الله هي من أصل دين الإسلام الذي بعث الله تعالى به محمداً - صلى الله عليه وسلم -،
..............................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (1/17) كتاب الإيمان، باب "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" برقم 25، ومسلم (1/51) كتاب الإيمان برقم 22.(1/19)
فالشهادتان هما أصل دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وهما متلازمتان من حيث الحكم لا تصح إحداهما إلا بالأخرى، ويعبر عن هاتين الشهادتين بالأصلين وهما التوحيد والرسالة، ولابد في شهادة أن محمداً رسول الله من الإقرار بأنه - صلى الله عليه وسلم - عبدالله وأنه رسول الله تعالى إلى الناس كافة وأنه خاتم النبيين، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في الصحيحين مرفوعاً "من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"(1) وكما في التشهد: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبدالله ورسوله"(2)، وهذه الشهادة للنبي -عليه الصلاة والسلام- بأنه عبدالله ورسوله هي الصراط المستقيم بين طريق الغالين وطريق الجافين في حقه -عليه الصلاة والسلام-، فإن الناس في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - طرفان ووسط:
فريق جفوا وهم الأكثرون، فكذبوه أو قصّروا في متابعته فيما جاء به، فهؤلاء فرّطوا في حقه -عليه الصلاة والسلام-.
وفريق من الناس غلوا فيه فرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله فيها، ولاشك أنه -عليه الصلاة والسلام- سيد ولد آدم وأنه خاتم النبيين وأنه سيد المرسلين
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (3/1267) كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" برقم 3435، ومسلم (1/77) كتاب الإيمان برقم 28.
(2) أخرجه البخاري (3/1271) كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم برقم 3445، وابن حبان (2/147).(1/20)
- صلوات الله وسلامه عليه-، لكن من الجاهلين من غلا حتى جعل له شيئاً من خصائص الإلهية والربوبية كالذي يقول:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
ويقول :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم(1)
وأقوال أهل الغلو كثيرة، فمن نسب للرسول -عليه الصلاة والسلام- شيئاً من خصائص الربوبية كتدبيره للعالم أو القدرة على كل شيء أو نسب إليه مغفرة الذنوب والنجاة من النار فقد غلا فيه.
فهو - صلى الله عليه وسلم - عبد ولا يزول عنه هذا الوصف، بل إن منزلة العبودية هي أساس الشرف للرسل والمؤمنين؛ ولهذا يذكر الله تعالى نبيه بوصف العبودية في أعلى المقامات، فقال سبحانه وتعالى في مقام الإسراء: ((z`"ysِ6ك™ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ $|ءّ%F{$#"[الإسراء: 1] وقال في مقام التحدي: ((وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى $tRد‰ِ7tم"[البقرة: 23] وقال تعالى في مقام الدعوة: ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ çnqممô‰tƒ"[الجنّ: 19] وقال سبحانه وتعالى في مقام الإنذار((x8u'$t6s? الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ #·چƒةtR"[الفرقان:1].
إذن فشهادة أن محمداً عبده ورسوله هي الوسط، وهي الصراط المستقيم بين طريق الغالين وطريق الجافين المكذبين والمفرطين في طاعته -عليه الصلاة والسلام-
....................................................................................
واتباعه وتحقيق متابعته. فالشهادة بأن محمداً عبده ورسوله تقتضي تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
__________
(1) من قصيدة البردة للبوصيري، وانظر الكلام على هذه الأبيات في تيسير العزيز الحميد، ص 222-223.(1/21)
قوله: "صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً" الصلاة على الرسول -عليه الصلاة والسلام- هي من أفضل الأعمال. وقد أخبر الله تعالى أنه هو وملائكته يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر المؤمنين بذلك فقال: ((¨bخ) اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا $¸J
خ=َ،n@"[الأحزاب: 56].
وأحسن ما قيل في تفسير الصلاة من الله والملائكة: أن الصلاة من الله ثناؤه على عبده، والله تعالى يصلي على المؤمنين، وأيضاً الملائكة تصلي على المؤمنين كما قال سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ $VJ
دmu'"[الأحزاب: 42]. وجاء في الحديث الصحيح أن العبد إذا خرج من بيته إلى المسجد فجلس في المسجد ينتظر الصلاة "لا تزال الملائكة تصلي عليه تقول اللهم صلّ عليه اللهم اغفر له ما دام في مصلاه ما لم يحدث"(1) ولكن لنبينا عليه الصلاة والسلام من صلاة الله تعالى وصلاة ملائكته ما يليق بمقامه، فله الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من صلاة الله سبحانه وملائكته(2).
....................................................................................
__________
(1) أخرجه بنحوه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة برقم 647 وفي باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة برقم 569، ومسلم في كتاب المساجد برقم 649.
(2) ينظر: جلاء الأفهام (ص 76-86)، وبدائع الفوائد (1/26).(1/22)
أما صلاة المؤمنين على النبي -عليه الصلاة والسلام- فمعناها: الدعاء له بأن يصلي الله عليه، ولابد من هذا القيد، فليس كل دعاء يقال إنه صلاة، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد ثم قالوا: له علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد" إلى آخر الحديث بألفاظه المختلفة(1). إذن فالصلاة من العباد تكون بسؤال الله تعالى أن يصلي عليه فهي إذن دعاء مخصوص، وإن كانت الصلاة في اللغة هي الدعاء في الجملة، لكن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين تكون بسؤال الله أن يصلي عليه".
وبعد هذا كله يلاحظ أن هذه الخطبة اشتملت على أصول الدين:
1- التوحيد بأنواعه الثلاثة، توحيد الإلهية الذي دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله، وتوحيد الربوبية الذي تضمنته جملة "من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له" كما يتضمنه الالتجاء والتعوذ؛ فإن الاستعانة والالتجاء والتعوذ كل ذلك يتضمن توحيد الربوبية.
وتوحيد الأسماء والصفات يتضمنه الحمد، فإثبات الحمد كله لله تعالى يتضمن أنه تعالى المتصف بجميع المحامد.
2- كما تضمنت هذه الخطبة إثبات الرسالة، وذلك هو مضمون شهادة أن محمداً رسول الله .
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم 6357، ومسلم في كتاب الصلاة برقم 406.(1/23)
3- وتضمنت هذه الخطبة أيضاً أصلاً من أصول الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، وهذا مستفاد مما تضمن توحيد الربوبية فقوله "من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له" وكذلك الاستعانة به والالتجاء إليه والتعوذ كل ذلك يتضمن الإيمان بالقدر خيره وشره، وذلك أن توحيد الربوبية يتضمن إثبات القدر، ولهذا كانت الآيات المتضمنة لأصول الإيمان مشتملة على خمسة من أصول الإيمان وهي الإيمان بالله والملائكة والكتب والنبيين واليوم الآخر، كقوله تعالى في سورة البقرة: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى ¾دmخm6مm"الآية[البقرة: 177] وقوله تعالى في سورة النساء: ((`tBur يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا #´‰دèt/"[النساء: 136] ولم يذكر فيها الأصل السادس وهو الإيمان بالقدر خيره وشره لأنه يتضمنه الأصل الأول وهو الإيمان بالله تعالى، فإن الإيمان بالله تعالى رباً وإلهاً، والإيمان بكمال ربوبيته وملكه يتضمن أن الله على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه الخالق لكل شيء؛ وهذا هو تحقيق الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر يتضمن المراتب الأربع المعروفة ومنها عموم المشيئة وعموم الخلق، إذن فإثبات القدر يدخل في توحيد الربوبية، ولهذا نقول: إن هذه الخطبة اشتملت أيضاً على إثبات القدر الذي هو الأصل السادس من أصول الإيمان.
تنبيه:
وهنا مسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ونقلها عنه
....................................................................................(1/24)
تلميذه العلامة ابن القيم -رحمه الله- وهي: أنه يلاحظ في جمل هذه الخطبة أنها جاءت بصيغة الجمع "نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا" وفي الشهادتين جاءت بصيغة الإفراد "وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، وهذه هي الصيغة الصحيحة، فلا تقول: "ونشهد" بصيغة الجمع، فما السر في ذكر الجمل الأولى بصيغة الجمع وذكر الشهادتين بصيغة الإفراد؟ ذكر شيخ الإسلام المؤلف أن لهذا وجهين(1):
الأول: أن الجمل الأولى فيها دعاء وطلب من الله سبحانه وتعالى، وهذا مما تدخله النيابة، فالمسلم يدعو لنفسه ويدعو لإخوانه، وأما الشهادتان وهي التوحيد والإقرار بالرسالة فإنهما لا ينوب فيهما أحد عن أحد، فلا تدخلهما النيابة.
الوجه الثاني: أن الجمل الأولى هي إنشاء، أما الشهادتان فهما إخبار من الإنسان عن نفسه بما يعتقد، ولا يمكن لأحد أن يخبر في هذا على الحقيقة إلا عن نفسه،وأما إذا قلنا: فلان يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فهذا إخبار عما أظهر لا عما يعتقد في نفسه، فهذا من السر في الفرق بين جمل هذه الخطبة، والله أعلم.
قوله "أما بعد" هذه الكلمة يؤتى بها للدلالة على الشروع في المقصود، وهي جملة كان من هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- استعمالها في خطبه، فبعد حمد الله والثناء عليه يقول: "أما بعد" وهذه الجملة للناس فيها كلام من حيث أول من قالها، واختلفوا في هذا اختلافاً كبيراً، فقيل: أول من قالها داود عليه السلام،
...................................................................................
__________
(1) ينظر تهذيب سنن أبي داود لابن القيم 3/54.(1/25)
وقيل: أول من قالها سحبان بن وائل الخطيب المشهور، وهناك أقوال حتى فُسِّر بها قوله تعالى في شأن داود عليه الصلاة والسلام ((çm"oY÷ s?#uنur الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ة>$sـدƒّ:$#"[ص: 20] وهذا مرجوح، بل المراد الفصل الذي يفصل بين الحق والباطل ويفصل بين المتخاصمين(1). فمن بديع الكلام أن يؤتى بها للانتقال من الافتتاح إلى الدخول والشروع في المقصود. وهذه الكلمة تفسر عند أهل اللغة بـ "مهما يكن من شيء بعد" فـ"أما" شرطية، وجوابها هو ما بعد الفاء.
و"بعد" ظرف مبني على الضم في محل نصب لحذف المضاف إليه ونية معناه فهو مقطوع عن الإضافة لفظاً لا معنى.
__________
(1) قال الحافظ في فتح الباري (2/470): "واختلف في أول من قالها، فقيل: داود -عليه السلام- رواه الطبراني مرفوعاً من حديث أبي موسى الأشعري وفي إسناده ضعف، وروى عبد بن حميد والطبراني عن الشعبي موقوفاً أنها فصل الخطاب الذي أعطيه داود، وأخرجه سعيد بن منصور من طريق الشعبي فزاد فيه عن زياد بن سمية.
…وقيل: أول من قالها يعقوب، رواه الدارقطني بسند واه في غرائب مالك، وقيل: أول من قالها يعرب ابن قحطان، وقيل: كعب بن لؤي أخرجه القاضي أبو أحمد الغساني من طريق أبي بكر بن عبدالرحمن بسند ضعيف، وقيل: سحبان بن وائل، وقيل: قس بن ساعدة، والأول أشبه، ويجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إلى العرب خاصة، ثم يجمع بينها بالنسبة إلى القبائل"ا.هـ.(1/26)
أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس، من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين، وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم، والإرادة والعبادة، لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة، وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات.
قوله "أما بعد: فقد سألني..." إلخ.
الشيخ في هذه الجملة يذكر السبب الباعث له على التأليف وهو أمران:
الأول: سؤال بعض الراغبين في العلم.
والثاني: أهمية ما سألوا عنه.
وبيّن أيضاً الموضوع الذي سألوا عنه وهو الأصلان: التوحيد والصفات، والشرع والقدر.
كما بين -رحمه الله تعالى- الأسباب المقتضية لأهمية هذين الأصلين والعناية بهما وتحقيقهما.
قوله "فقد سألني من تعينت إجابتهم" أي وجبت إجابتهم وجوباً عينياً فإن الواجب عند الأصوليين نوعان:
واجب كفائي وواجب عيني، أو فرض كفاية وفرض عين -على القول الصحيح أنه لا فرق بين الواجب والفرض-:
فالواجب العيني: هو ما يجب على كل فرد أو يجب على فرد معين.
والواجب الكفائي هو ما يقوم فيه البعض عن البعض، فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
....................................................................................(1/27)
وفرض الكفاية قد يصير فرض عين بسبب من الأسباب، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإفتاء والتعليم والدعوة إلى الله -عز وجل- كل هذه من فروض الكفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، لكن قد تتعين هذه الواجبات، فإذا لم يكن هناك من يقوم بهذا الواجب ويكفي وجب على كل قادر على القيام به أن يقوم به، فإذا لم يكن هناك من يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا المكان، أو بواجب الدعوة إلى الله تعالى أو بواجب الإفتاء أو التبليغ والتعليم صار واجباً وجوباً عينياً على القادر على القيام به، لأنه ليس هناك من يقوم بهذا الواجب في هذا المكان، أو في هذه الواقعة المعينة.
فالشيخ هنا ذكر أنه قد سأله من تعينت عليه إجابتهم، وذلك لعدم من تقوم به الكفاية، بحيث يمكن لهؤلاء السائلين أن يجدوا عنده الجواب الشافي عما سألوا عنه.
والشيخ -رحمه الله تعالى- كان يتكلم كثيراً في مسائل أصول الاعتقاد كما يدل على ذلك كتاباته ومؤلفاته الواسعة في هذا المضمار.
قوله "من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر" هذا هو موضوع التأليف ومحور الكلام الآتي.
والتوحيد والصفات والشرع والقدر أصلان من أصول الاعتقاد:
فالأصل الأول: هو الإيمان بأن الله واحد لا شريك له ولا شبيه، والإيمان بأنه سبحانه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والأصل الثاني: الإيمان بالشرع والقدر.
....................................................................................
والشرع هو دين الله تعالى الذي شرعه لعباده، من الأوامر والنواهي، وأصل ذلك كله عبادته وحده لا شريك له، كما سيأتي.(1/28)
والقدر يطلق ويراد به التقدير تقدير الله تعالى مقادير الأشياء علماً وكتابة، ويطلق القدر على الشيء المقدَّر، فتقول فيما يحدث في الوجود: "هذا قَدَرٌ" ومن ذلك قول عمر - رضي الله عنه -: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"(1) يعني نفر مما قدره سبحانه إلى ما قدره فالإيمان بالقدر يعني الإيمان بالتقدير السابق كما قال -عليه الصلاة والسلام- "كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(2).
وهذان الأصلان داخلان في أصول الإيمان الستة، فالأصل الأول يدخل في الإيمان بالله تعالى، وفي الإيمان بكتبه، والإيمان برسله: فمن الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته والإيمان بصفاته، ومن الإيمان بالله الإيمان بتوحيده تعالى وصفاته، أي الإيمان بما أنزل الله في كتبه، ومن الإيمان بالرسل الإيمان بما أخبرت به عن الله تعالى وصفاته.
أما الأصل الثاني وهو الإيمان بالشرع والقدر:
فإن الإيمان بالقدر أصل برأسه من أصول الإيمان الستة، وهو داخل في الإيمان بالله تعالى كما تقدم، وأما الإيمان بالشرع فيدخل في الإيمان بالله سبحانه وكتبه ورسله، لأن من الإيمان بالله الإيمان بأمره ونهيه الذي بعث به رسله، ومن الإيمان
....................................................................................
بالقرآن -وهو أشرف الكتب المنزلة- الإيمان بما اشتمل عليه من الأوامر والنواهي ومن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بما جاء به من الأوامر والنواهي.
إذن هذان الأصلان داخلان في أصول الإيمان، فأدلتهما هي أدلة تلك الأصول الستة، وقد تقدمت الإشارة إليها، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (5/2162) كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، برقم 5729، ومسلم (4/1740) كتاب السلام برقم 2219.
(2) أخرجه مسلم (4/2044) كتاب القدر برقم 2653.(1/29)
ثم ذكر رحمه الله الأسباب الموجبة لأهمية هذين الأصلين المقتضية لتحقيقهما فقال: "لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين": لأنه لا قوام لدين العبد إلا أن يحقق توحيد الله، ويؤمن بوحدانيته، ويؤمن بصفاته، ولا يستقيم دين العبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يؤمن بشرع الله تعالى، وتحقيق هذين الأصلين يكون بمعرفة الحق من الباطل فيهما، وبإقامة الأدلة عليهما، ودفع الشبه المعارضة لهما، وهذا لا يكون إلا لطلاب العلم، أما العوام فيكفيهم معرفة الحق، لأنهم قاصرون عن معرفة الأدلة، فالتحقيق بالنسبة للعامي أن يعرف الحق، فمن آمن بأنه تعالى واحد لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، كفاه ذلك إجمالاً. إذن فكل مكلف هو في حاجة إلى هذين الأصلين؛ هذا هو السبب الأول.
قوله "وكثرة الاضطراب فيهما" هذا هو السبب الثاني؛ فإن الأمر المهم إذا كان فيه اضطراب وشبهات وخلاف يجب على العاقل أن يعتني به ليخرج من هذا الاضطراب بالحق الناصع، والنور الساطع، ومما يبين أن الاضطراب يقتضي مزيد عناية للتحقيق في المقام أن المسائل المجمع عليها لا تحتاج إلى مزيد جهد، أما المسائل التي فيها خلاف فهي تحتاج من طالب العلم ومن أهل العلم جهداً للوصول إلى
....................................................................................
الحق، أو لمقاربة الحق، أو لمعرفة الراجح من تلك المسائل التي وقع فيها الخلاف، -أعني مسائل الفقه- أما غالب مسائل الاعتقاد فإن فيها خطأ وصواباً، حقاً أو باطلاً، وليس فيها راجح ومرجوح، فما دل عليه الكتاب والسنة هو الحق وما سواه فهو الباطل.(1/30)
وهذان الأصلان هما من أعظم ما وقع فيه الاضطراب بين فرق الأمة؛ ففي باب الأسماء والصفات: من الناس من يسلب عن الله تعالى جميع الأسماء والصفات مبالغة في التنزيه، ومن الناس من يثبت لله صفات مثل صفات المخلوق مبالغة في الإثبات، وبين هذين الطرفين طوائف من الناس، وكل فريق من أولئك أيضاً هم طوائف فالمعطلة طوائف، والمشبهة طوائف، فاضطربت المذاهب في هذا الأصل.
وكذلك في الشرع والقدر اضطراب واسع، فمن الناس من ينفي الشرع والقدر وينكرهما، ومن الناس من يثبت القدر ويكذب بالشرع، ومن الناس من هو بالعكس، فكان لابد من التنصيص على وجوب الإيمان بالشرع والقدر، وأيضاً فالجمع بين الشرع والقدر له معنى وذلك أن كلاً منهما يتعلق بأفعال العباد، فالقدر هو موجَب الإرادة الكونية، والشرع هو موجب الإرادة الشرعية، فهما متعلقان بأفعال المكلفين، فما يقع من أفعال المكلفين فإنه تجري فيه الأحكام الكونية والأحكام الشرعية، فطاعة المؤمن موجب الإرادتين، وكفر الكافر هو موجب الإرادة الكونية، فالإرادتان يجتمعان في إيمان المؤمن، وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي؛ إذن فالشرع والقدر بينهما ارتباط من حيث تعلقهما بأفعال المكلفين، فإن أفعال العباد لا تخرج عن قدر الله تعالى، ولهذا فإن الذين .
....................................................................................
اختلفوا في القدر اختلفوا في أفعال العباد، فالجبرية يقولون: لا فعل للعبد، والقدرية النفاة يقولون: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، والحق أن أفعال العباد هي أفعالهم لا أفعال الله، والعباد وأفعالهم كلهم خلق الله تعالى على حد قوله تعالى ((ھ!$# خَالِقُ كُلِّ &نَسx""[الزمر: 62] وقوله تعالى عن إبراهيم ((ھ!$#ur خَلَقَكُمْ وَمَا tbqè=yJ÷ès?"[الصافات: 96].
ثم ذكر الشيخ السبب الثالث لأهمية تحقيق هذين الأصلين:(1/31)
بقوله: "فإنهما مع حاجة كلّ أحد إليهما ومع أن أهل النظر والعلم،والإرادة والعبادة لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال" المعنيون بالدين فئتان: أهل علم، وأهل عبادة، أي من يغلب عليه جانب العلم والنظر والبحث في المسائل، ومن يغلب عليه جانب السلوك والعبادة والإرادة والنواحي القلبية، والعبرة في تصنيف الناس بما يغلب عليهم، من الناس من هو من أهل العبادة ومن أهل العلم، وكل من الفئتين منهم المنحرف والمستقيم، فأهل السنة والجماعة المعتصمون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فيهم العلماء وفيهم العبّاد بحسب ما هو الأغلب على أحوالهم، وهذا لا يعني أن العلماء ليس عندهم عبادة، وأهل العبادة ليس عندهم علم، ولكن الحكم على الغالب، ومنهم من يوصف بهذا وهذا؛ والمخالفون لأهل السنة منهم أهل علم، ومنهم أهل عبادة، وأهل النظر من الخارجين عن مذهب أهل السنة والجماعة هم المتكلمون والفلاسفة، والخارجون عن مذهب أهل السنة والجماعة من أهل العبادة والإرادة يعرفون بالصوفية.
....................................................................................
وقوله "لابد أن يخطر لهم في ذلك" أي في هذين الأصلين فيما يتعلق بوحدانية الله وصفاته، وفيما يتعلق بالشرع والقدر.
وقوله "من الخواطر والأقوال" أي من الخواطر القلبية والأقوال الاعتقادية.
وقوله "ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال" أي إلى فرقان يميزون به بين الحق والباطل، والصدق والكذب فمن لم يكن له نور من هدى الله تعالى فإنه عند ورود الشبهات على قلبه إما أن يعتقد الباطل، أو يبقى في حيرة وتردد، والمخرج من هذا هو الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فبهما يحصل الخروج من مضايق الشك، ومن مضايق الاعتقادات الباطلة.(1/32)
وبسبب عدم الاعتصام بهدى الله تعالى حصلت الحيرة والتردد، فهناك المشبهة لم يفهموا من نصوص الأسماء والصفات إلا ما يماثل صفات المخلوقين فشبهوا الله بخلقه؛ والمعطلة توهموا فيها التشبيه فرأوا أن هذا لا يليق فنفوا عن الله تعالى صفاته، وفريق ترددوا كالأشاعرة، فأثبتوا مثلاً كلام الله لكنهم لم يثبتوه على طريقة أهل السنة، ولم ينفوه على طريقة المعتزلة بل قالوا: إنه تعالى يتكلم، ولكن كلامه معنى نفسي واحد قديم ليس تابعاً لمشيئته تعالى، ولا هو بحرف ولا صوت.
قوله: "لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات" هذا هو السبب الرابع لأهمية تحقيق هذين الأصلين، فأكثر خوض الناس في مسائل الاعتقاد بالباطل، والخوض فيها بالحق يكون بالنظر الصحيح والنقل الصحيح والعقل الصريح، فالنظر مثلاً في أسماء الله وصفاته على ضوء قواعد ونظريات فلسفية وخيالات خوض بالباطل، لكن الخوض فيها من خلال التدبر لآيات الله
....................................................................................
تعالى الشرعية، وهي آيات القرآن، أو التدبر لآيات الله الكونية، أو التدبر لسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وبالنظر في كلام السلف الصالح كل هذا من الخوض فيها بالحق، أما الخوض في القضايا الغيبية بمجرد الفكر من غير تعويل على الأسس الصحيحة، أو في ضوء آراء المتفلسفة والمتكلمين فهذا خوض بالباطل، وليس للإنسان أن يعول فيما يقوله في شأن الله وفي شأن اليوم الآخر على ما يتخيله، بل على ما جاء في الكتاب والسنة، فأكثر الناس خاض في هذا الميدان بالحق حيناً وبالباطل أحياناً كما يشهد به الواقع.(1/33)
قوله: "وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات" هذا هو السبب الخامس لتحقيق هذين الأصلين، والشبهة ما يشتبه فيها الحق بالباطل، وقد تكون الشبهة عقلية كالنظريات التي يُدَّعى أنها معقولات وهي خيالات وأوهام، أو أدلة نقلية لا يصح بها الاستدلال على ما استدل بها عليه، فلا يلزم من صحة الدليل صحة الاستدلال، لأن من الناس من يستدل بالشيء على ما لا يدل عليه، فيكون غالطاً في الاستدلال.
فالشبهات ترد على القلوب أحياناً بوساوس الشيطان، فتورث شكوكاً في القضايا العقدية، والمسائل الخبرية، وأحياناً ترد هذه الشبهات على القلب بما يلقيه بعض الجاهلين، وبعض المضلين، من أقوال يتكلمون بها، فيقع هذا الكلام في القلب، فيثير قلقاً وشبهة تكدر صفو الإيمان، لكن الإيمان إذا كان قوياً فإنه يرد تلك الشبهة ويدفعها إما بتصور فسادها، أو يدفعها بمجرد أنها تعارض الحق، فالشبهة يدفعها المؤمن تارة بمعرفته وعلمه أنها باطلة، وتارة يردّها بمجرد علمه
....................................................................................
بأنها تعارض الحق، فمجرد معارضتها للحق دليل على بطلانها، كما إذا ورد حديث يعارض نصاً من نصوص القرآن ويناقضه، فإنك تعلم أن هذا غلط وليس بصحيح فإما أن يكون موضوعاً أو يكون وهماً، مثل الحديث الذي يدل على أن الله خلق الخلق في سبعة أيام(1)
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين برقم 2789 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل".
وانظر: إعلال شيخ الإسلام لهذا الحديث وأقوال العلماء عليه في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 18/18-19.(1/34)
فقد نص العلماء على أن هذا الحديث وهم لأنه يعارض صريح القرآن في أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
فورود الشبهات على القلوب إذن يقتضي العناية بتحقيق هذين الأصلين، لأن العناية بهما مما تدفع به هذه الشبهات الواردة على القلوب، أما من فقد التحقيق العلمي، والتحقيق الإيماني فإنه يتعرض لتأثير الشبهات على قلبه، حتى يضل بها، وتوقعه في أنواع الضلالات، أما من عنده بصيرة في دينه، وعنده إيمان مشرق فإنه يدفع تلك الشبهات.
فهذه خمسة أسباب لأهمية هذا الموضوع:
والسبب الخامس أخص من الثالث، فعطفه على ما قبله من عطف الخاص على العام والله الموفق.
فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر، الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة، الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتاً.
والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الأخير معروف عند العامة والخاصة، معروف عند أصناف المتكلمين في العلم، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء: أمر أو نهي أو إباحة.
قوله "فالكلام في باب التوحيد والصفات..." إلخ.
ذكر الشيخ في هذه الجملة الفرق بين الأصلين المتقدمين المسؤول عنهما: التوحيد والصفات، والشرع والقدر.
والفرق بينهما من وجوه:
الأول: الفرق بينهما من جهة نوع الكلام، فإن الكلام يقسمه أهل العلم من علماء النحو والبيان وكذلك الفقهاء يقسمونه إلى قسمين:
خبر وإنشاء، أو خبر وطلب:(1/35)
والخبر يدور على النفي والإثبات نحو "محمد قائم.. و"محمد ليس بقائم" وعلى التصديق والتكذيب، فإن الخبر إما أن يكون صدقاً أو كذباً، ولهذا يعرف أصحاب المعاني الخبر بأنه ما يحتمل الصدق والكذب لذاته".
قوله "لذاته" أي بقطع النظر عن قائله، فإذا نظرت إلى الكلام بقطع النظر عن الأدلة وبقطع النظر عن القائل تقول: هذه الجملة تحتمل الصدق والكذب "لكن
....................................................................................
الأخبار الصادقة التي يخبر بها الصادقون -وأعلى ذلك أخبار الله سبحانه وتعالى- هي أخبار صادقة لا تحتمل الكذب كما قال تعالى ((ô`tBur أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ $ZVƒد‰tn" [النساء: 87].
والطلب يدور على المحبة والبغض وعلى الحض والمنع، نحو: "قم" و"لا تقم" والطلب له صيغ كثيرة وأنواع ليس هذا محل ذكرها.
قوله "والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات، والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض، والحض والمنع" فهذا أمر جبلي في الإنسان، فالذي يقول لك مثلاً: قمْ "لا تقول له: صدقت، أو كذبت" والذي يقول لك: فلان مسافر، أو فلان لم يقدم "تقول له: صدقت، أو كذبت. فمما فطر الله تعالى عليه عباده الفرق بين التصديق والتكذيب والحب والبغض والحض والمنع.
قوله "نفياً وإثباتاً" أي من حيث الغاية، فإن غاية الأمر الإثبات، وغاية النهي النفي، فقولك: اذهب، اجلس، ونحوه غايته ومقصودة حصول المطلوب، وهذا هو معنى الإثبات، وقولك: لا تذهب، لا تجلس ونحوه غايته ومقصودة عدم ونفي، وبهذا يكون الطلب متضمناً للنفي والإثبات.(1/36)
قوله "كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان": جمع يمين وهو القَسَم فالفقهاء ذكروا في هذا الكتاب أن الكلام ينقسم إلى خبر وطلب. لأنهم يقسمون اليمين إلى: يمين مكفَّرة، ويمين غير مكفرة، واليمين المكفرة هي التي تدخلها الكفارة، وغير المكفرة هي التي لا تدخلها الكفارة، فالحلف على المستقبل على فعل أو ترك، هذا هو الإنشاء، والحلف على أمر واقع هو الخبر.
....................................................................................
فاليمين المكفرة هي الحلف على مستقبل كأن يقول قائل: والله لأفعلنّ كذا، أو والله لا أفعل كذا "فإن حنث بأن حصل خلاف ما حلف عليه وجبت عليه الكفارة، وإن تحقق ما حلف على فعله أو تَرَكَ ما حلف على تركه كان باراً بيمينه ولا كفارة عليه.
وأما الحلف على أمر واقع فهو اليمين التي لا تدخلها الكفّارة لأنها إن كانت صدقاً فلا موجب للكفارة، وإن كانت كذباً فالكذب لا تمحوه الكفارة بل لا تمحوه إلا التوبة إلى الله تعالى.
والمقصود أن الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر، والكلام في الشرع والقدر من باب الطلب، وإيضاح هذا: أن العبارات التي يعبر بها عن مسائل التوحيد والأسماء والصفات خبرية، كجمل سورة الإخلاص ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&"[سورة الإخلاص] وقوله تعالى ((}ّ(1/37)
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ çژچإءt7ّ9$#"[الشورى: 11] وقوله تعالى ((uqèd الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ îLىخ=tو"[الحديد: 3] وقوله -عليه الصلاة والسلام- "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا" الحديث(1) وقوله "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته"(2) وقوله "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة"(3) ونحوها، حتى العبارات التي يتكلم بها الإنسان إذا أراد أن يخبر عن
....................................................................................
الله تعالى فإن كلامه هذا خبر كقوله: "الله تعالى عظيم، الله تعالى فوق عرشه، الله تعالى ليس حالاً في مخلوقاته... إلى آخره، حتى الأقوال الأخرى المردودة كقول المبتدعة: إن الله جسم، أو ليس بجسم، ونحوها من الألفاظ التي لا يصح إطلاقها نفياً ولا إثباتاً، وكقول بعض المبتدعة: إن الله تعالى لا ينزل إلى السماء الدنيا، أو لا يجيء يوم القيامة وإنما يجيء أمره، فكل هذا من باب الخبر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل برقم1145، ومسلم(1/521) كتاب صلاة المسافرين برقم 758.
(2) أخرجه مسلم (4/2102) كتاب التوبة برقم 2746، وابن حبان (2/382).
(3) أخرجه البخاري (3/1040) كتاب الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم برقم 2826، ومسلم في كتاب الإمارة برقم 1890.(1/38)
وأما الكلام في الشرع والقدر فهو من باب الطلب، والواقع أن الذي من باب الطلب هو الشرع، فالكلام فيه شيء من التجوز أو التغليب، تغليب الشرع على القدر، وبين الشرع والقدر ارتباط وثيق لأن كلاً منهما متعلق بأفعال المكلفين، فكل ما وقع من أفعال المكلفين فإنه بقدر الله تعالى، وكلها يتعلق بها الشرع، لأن أفعال المكلفين إما طاعة أو معصية أو مباحة. فالذي نصوصه من باب الطلب هو الشرع، وأما نصوص القدر فهي من باب الخبر لما تقدم أن الإيمان بالقدر هو من الإيمان بالله تعالى، لأن الإيمان بالقدر هو الإيمان بعلم الله تعالى السابق، وكتابته لمقادير الأشياء، والإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والإيمان بعموم خلقه تعالى، وهذا كله من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
وأما الشرع فهو الأوامر والنواهي، وهو دين الله تعالى الذي جعله لعباده يسيرون عليه، فالكلام فيه من باب الطلب كقوله تعالى: (((#qكJ
د%r&ur الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ tûüدèد.؛چ9$#"[البقرة: 43] وقوله تعالى: (((#rك‰ç6ôم$#ur اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " [النساء: 36] الآية وقوله تعالى: ((ںw تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ 3"tچ"s3ك™"[النساء: 43] وقد يأتي الكلام بصورة الخبر ومعناه الأمر كما قال تعالى: ((4س|سs%ur رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا "[الإسراء: 23] وقال ((¨bخ) اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى $ygخ=÷dr&" [النساء: 58] الآية.
وإذا كان كذلك فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال. ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل.(1/39)
قوله "وإذا كان كذلك فلابد..." إلخ.
قوله: "وإذا كان كذلك" أي إذا كان الأمر أن الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر، والكلام في الشرع والقدر من باب الطلب... الخ.
قوله: "فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب" إلى قوله "خالياً من الزلل" هذا فرق آخر بين الأصلين المتقدمين وهو الفرق بينهما من جهة ما يجب على العبد فيهما.
قوله: "ولابد له في أحكامه" أحكام الله تعالى نوعان: أحكام شرعية وأحكام كونية، وهذا التقسيم من جنس تقسيم الإرادة، والأمر، والقضاء، والكتابة، والإذن، والجعل، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم إلى شرعي وكوني، ومن شواهد الحكم الكوني قوله -سبحانه وتعالى-: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ tûüدJإ3"ptّ:$#"[يونس: 109] وقوله تعالى: ((ô`n=sù أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ tûüدJإ3"ptّ:$#"[يوسف: 80] وقوله تعالى عن يعقوب - عليه السلام -: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ tbqè=إe2uqtFكJّ9$#" [يوسف: 67] وقوله تعالى: ((ں@"s% رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ "[الأنبياء: 112] ومن شواهد الحكم الشرعي قوله تعالى: ((ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ "[الممتحنة: 10] وقوله تعالى: ((¨bخ) اللَّهَ يَحْكُمُ مَا ك‰ƒجچمƒ"[المائدة: 1] وقوله تعالى: ((بbخ) الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا
....................................................................................
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا ... cqكJn=ôètƒ"[يوسف: 40].
فيجب على العبد أن يثبت أحكام الله تعالى.(1/40)
قوله "ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره" إثبات الخلق يتضمن الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى على كل شيء قدير، وهذا معنى قول الشيخ "فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته".
فالشيخ رحمه الله تعالى عبر عن الأصل الثاني بالأحكام.
قوله: "ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل" أي والمتضمن بيان ما يسخطه، فإن الله تعالى بيّن لنبيه -عليه الصلاة والسلام- ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال، وبيّن ما يسخطه ويبغضه من الأقوال والأعمال ففيه شيء من الاكتفاء بالمذكور عن غيره لدلالته عليه.
قوله: "ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل" أي من أثبت الخلق كله لله، وقال إن الله خالق كل شيء، ويدخل في هذا أفعال العباد، وآمن مع ذلك بشرع الله تعالى وأنه أمر عباده ونهاهم، فقد حقق الإيمان بالشرع والقدر.
وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول، كما دلت على ذلك سورة ((ِ@è% هُوَ اللَّهُ î‰ymr&" ودلت على الآخر سورة ((ِ@è% يَا أَيُّهَا ... crمچدے"x6ّ9$#" وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان يقرأ - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك.
وقوله: "وهذا يتضمن التوحيد في عبادته" إلى آخره هذا هو الفرق الثالث بين الأصلين، وهو فرق بينهما من حيث تضمنهما لنوعي التوحيد.
قوله "وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل" أي أن الإيمان بالشرع والقدر يتضمن التوحيد في العبادة، والتوحيد في العبادة له اسم آخر وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، ويعبر عن هذا النوع بالتوحيد الطلبي، لأن نصوصه طلبية.(1/41)
قوله: "والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول" أي الأصل الأول وهو التوحيد والصفات يتضمن التوحيد في العلم والقول، ويعبر عن هذا النوع بالتوحيد في المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي الخبري، لأن نصوصه أخبار.
وهذا الكلام يتضمن تقسيم التوحيد إلى هذين القسمين، والمشهور أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ولا مشاحة بين التقسيمين، ولا منافاة بينهما بل هما طريقتان مآلهما إلى شيء واحد، فإفراد الله تعالى في العبادة وفي القصد والإرادة والعمل هو توحيد الإلهية، وإفراد الله تعالى في الأمور الاعتقادية العلمية القولية هو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
....................................................................................
وهذه الأقسام مترابطة، فالتوحيد في العلم والقول يستلزم التوحيد في العبادة، والتوحيد في العبادة يتضمن التوحيد في العلم والقول. فالرب المالك لكل شيء، الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الموصوف بصفات الكمال، هو المستحق للعبادة، فهذا معنى الاستلزام، والإله المستحق للعبادة هوا لنافع الضار المعطي المانع الفعال لما يريد، وهذا معنى تضمن توحيد العبادة لتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.(1/42)
وبعض أهل الأهواء والأغراض يستنكرون هذا التقسيم ويقولون إنه بدعة، وهذا مغالطة، فإنه إذا كان هذا التقسيم بدعة فكل ما جاء به العلماء من تقسيمات لمسائل العلم وتبويب وبيان أسماء للأحكام كله بدعة!، وهي كانت موجودة في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحقيقة، ولكن الأسماء والمصطلحات ليست موجودة، فأنواع التوحيد موجودة كلها في القرآن وفي السنة، لكن هذا الاصطلاح وهو أن التوحيد ينقسم إلى كذا وكذا، والتعبير عنه بهذه العبارات هذا هو الجديد، وهذا من طبيعة نشأة العلوم وتصنيف المسائل وتقسيم المعاني، فمن يقول إنه بدعة، فهو مبطل مغالط، حتى الذين يقولون مثل هذا الكلام عندهم تقسيم للتوحيد، كالأشاعرة عندهم أن التوحيد ينقسم إلى توحيد في الذات وتوحيد في الصفات وتوحيد الأفعال، والصوفية عندهم توحيد العامة وتوحيد الخاصة وتوحيد خاصة الخاصة.
والتوحيد في الأصل هو جعل الشيء واحداً، وهو في حق الله تعالى اعتقاد أنه واحد لا شريك له في أفعاله، كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة، وإفراده
....................................................................................
بهذا المعنى هو معنى توحيد الربوبية، ولابد أيضاً من اعتقاد تفرده بماله من الأسماء والصفات، فلا شريك له ولا شبيه، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات، كما أنه لابد من الإيمان بتفرده باستحقاق الإلهية وتخصيصه مع ذلك بالعبادة وذلك بعبادته وحده لا شريك له، وهذا هو توحيد الإلهية، أو توحيد العبادة، فلابد من توحيده تعالى في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته.(1/43)
والمشركون الذين واجهتهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بالدعوة كانوا مشركين في العبادة أو الإلهية، أما في الربوبية فلم يكونوا مشركين، ومن أجل ذلك قال العلماء إن التوحيد الذي فيه الخصومة بين الرسل والكفار من أممهم هو توحيد العبادة؛ ولهذا كل رسول كان يقول لقومه: (((#rك‰ç7ôم$# اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ے¼çnçژِچxî" [الأعراف: 59]؛ لأنهم كانوا مقرين بربوبية الله تعالى كما قال تعالى: ((ûبُs9ur سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ "[لقمان: 25] وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ " [الزخرف: 87] ولهذا احتج الله سبحانه وتعالى عليهم فيما أنكروه بما أقروا به كما قال تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ tbqà)Gs?" الآية[البقرة: 21]، وقال تعالى ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا tbqà)Gs?"[يونس: 31] فبمراعاة هذا التقسيم للتوحيد نفرق بين من ينكر الكل مثل الملاحدة الجاحدين للخالق، فهؤلاء ينكرون التوحيد كله، لأن من أنكر وجود الخالق لم يبق معه شيء من الإيمان، أما
....................................................................................(1/44)
المشركون وهم غالب الأمم فعندهم شيء من الإيمان، قال الله تعالى: (($tBur يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ tbqن.خژô³oB" [يوسف: 106] فعندهم إيمان ولكنه إيمان لا يكفي للدخول في الإسلام، ولا يكفي للنجاة من العذاب، فشرط ذلك شهادة ألا إله إلا الله، ومعنى الإله كما تقدم المعبود، والإله الحق هو الله تعالى، فلا معبود بحق إلا الله تعالى، وكل معبود سواه فهو باطل، فالتوحيد لا يتحقق إلا بشهادة ألا إله إلا الله، ولهذا كانت هذه الشهادة هي أصل دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، هذا ما يتعلق بتقسيم التوحيد بمناسبة قول الشيخ رحمه الله "وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده" إلى آخره.
قوله: "كما دلت على ذلك سورة قل هو الله أحد" أي دلت على التوحيد في العلم والقول سورة "قل هو الله أحد".
قوله "ودلت عل الآخر سورة قل يا أيها الكافرون" أي ودلت على التوحيد في العبادة والتوحيد في القصد والإرادة والعمل سورة "قل يا أيها الكافرون".
فسورة "قل هو الله أحد" دلت على التوحيد في العلم والقول نصاً، وسورة "قل يا أيها الكافرون" دلت على توحيد العبادة نصاً.
وقوله -سبحانه وتعالى-: "قل يا أيها الكافرون" إلخ هذا خطاب لجميع الكفار بإعلان البراءة منهم ومن عبادتهم ومن معبوداتهم وإعلان أن العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا هو توحيد العبادة.
وأما سورة "قل هو الله أحد" ففيها الإخبار بأن الله تعالى هو الأحد الصمد، فاسمه الأحد يدل على أنه واحد لا شريك له ولا شبيه له في ذاته وفي صفاته
....................................................................................(1/45)
وأسمائه وأفعاله، واسمه الصمد فسر بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب لأنه الغني، وفسر بأنه السيد الكامل في سؤدده وفي غناه وفي حكمته وفي علمه، وأنه الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، وقوله تعالى "لم يلد" فيه رد على اليهود والنصارى والمشركين الذين نسبوا إليه الولد، وقوله "ولم يولد" لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، فلا بداية لوجوده، أما المولود فيكون موجوداً بعد العدم، وفي هذا النفي تأكيد لأحديته وصمديته، وقوله سبحانه "ولم يكن له كفواً أحد" أي لم يكن أحد مثلاً له سبحانه، فهي تشبه قوله تعالى "ليس كمثله شيء".
قوله: "وهما سورتا الإخلاص" لأنهما مشتملتان على التوحيد الخالص فهما مخلصتان لأصل الدين بكل معانيه.
قوله "وبهما كان يقرأ - صلى الله عليه وسلم - بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك" كالوتر في آخر الليل، وفي سنة المغرب، وفي ذلك افتتاح لليل والنهار واختتام لليل والنهار بالتوحيد بتلاوة هاتين السورتين(1).
وبهذا تنتهي المقدمة، وقد اشتملت على : سبب التأليف، وذكر الموضوع الذي فيه الكلام والبحث، وعلى الأسباب المقتضية لتحقيق هذين الأصلين، وعلى الفروق بين الأصلين: من حيث نوع الكلام، وبعد هذه المقدمة يأتي الشروع في الكلام على الأصل الأول، والله الموفق.
فأما الأول، وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه.
قوله "فأما الأول وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب..." إلخ.
أي الحكم الواجب في مسائل هذا الباب.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/107-108، زاد المعاد 1/306-307.(1/46)
قوله "أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفته رسله نفياً وإثباتاً فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه" هذه القاعدة في هذا الباب، وهذا هو تحقيق الإيمان بالله وبكتابه ورسله، فمن الإيمان بالله وكتبه ورسله الإيمان بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا داخل في مثل قوله تعالى: (((#qمZدB$t"sù بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا "[التغابن: 8] ولهذا قال الأئمة: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيه، فمن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر؛ لأنه مكذب لما أخبر الله به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر لأنه مخالف لقوله تعالى: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ çژچإءt7ّ9$#" [الشورى: 11] وقوله تعالى: ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $w
دJy™"[مريم: 65]، ومن وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه فإنه قائل على الله تعالى بلا علم، ومما حرمه الله تعالى على عباده القول عليه من غير علم، ومما يأمر به الشيطان: القول على الله بغير علم كما قال تعالى: (($yJ¯Rخ) يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا tbqكJn=÷ès?"
.................................................................................................................
[البقرة: 169]، وهذا معنى قولنا: إن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، يعني يوقف فيها مع النصوص، فما دلت النصوص على ثبوته أثبتناه، وما دلت على نفيه نفيناه، وما سكتت عنه سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فمن أثبت شيئاً أو نفاه بغير دليل فهو قائل على الله بغير علم، فالأمور ثلاثة:(1/47)
ما دلت النصوص على إثباته وجب إثباته.
وما دلت على نفيه وجب نفيه.
وما لم تدل على إثباته أو نفيه وجب الإمساك عنه، فمما يجب إثباته له تعالى: الحياة، والسمع، والبصر، والاستواء على العرش، والمحبة، والغضب؛ ومن أسمائه: الصمد، الحي، القيوم، العلي، كما سيأتي.
ومن الأمور التي يجب نفيها عنه ما نفاه عن نفسه من النوم والسنة والأود واللغوب والنسيان، والصاحبة والولد وغيرها. وكذلك مما يجب نفيه عنه فيما يُثْبت له مماثلة المخلوقات، فنثبتُ له ما أثبته لنفسه مع نفي مماثلته لخلقه.
وأما ما لم تدل النصوص على إثباته ولا على نفيه فنمسك عنه نفياً وإثباتاً مثل الأذن، فالسمع ثابت له تعالى بالسمع والعقل، أما الأذن فيجب الإمساك عنها نفياً وإثباتاً، وكذلك أصابع القدمين فيثبت لله سبحانه صفة القدمين، ويمسك عن أصابعهما نفياً وإثباتاً، وأما الأصابع التي جاءت بها النصوص فهي أصابع اليد.
كما في حديث: (إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك)(1).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى "لما خلقت بيدي" برقم 7414، ومسلم في كتاب صفات المنافقين برقم 2786.(1/48)
وقد عُلم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها، إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع ما أثبته من الصفات - من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا tbqè=yJ÷ètƒ" [الأعراف: 180] وقال تعالى: ((¨bخ) الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "[فصلت: 40].
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل كما قال تعالى: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ çژچإءt7ّ9$#"[الشورى: 11] ففي قوله: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " رد للتشبيه والتمثيل، وقوله ((uqèdur السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " رد للإلحاد والتعطيل.
قوله: "وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها" إلخ طريقة سلف الأمة وأئمتها هي ما تقدم تقديره في الأصل الواجب في هذا الباب، وهي إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله -عليه الصلاة والسلام- من غير إلحاد في أسمائه ولا في آياته، فطريقتهم هي الصراط المستقيم، وهي الحق الذي دل عليه السمع والعقل، فإن العقل والفطرة كليهما يقتضي أن الله تعالى مستحق لكل كمال، ومستحق لتنزيهه عن كل نقص، فإذا كان المخلوق يوصف بالكمالات فالله سبحانه أحق بالكمال، فكل كمال يوصف به المخلوق لا نقص فيه فالخالق(1/49)
....................................................................................
أولى به، وكل نقص ينزه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه عنه؛ فهو تعالى أحق بكل كمال وأحق بالتنزيه عن كل نقص، وقد دل السمع على ذلك، فقد جاء بإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى إجمالاً وتفصيلاً، وجاء بتنزيهه تعالى عن النقائص والعيوب وعن مماثلة المخلوقات.
إذن فطريقة سلف الأمة مستمدة من الكتاب والسنة، فهم يعتمدون في هذا الباب على كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما جاء في الكتاب والسنة هو موجب العقل و الفطرة، فالعقل الصريح لا يناقض ولا يعارض النقل الصحيح.
وطريقة سلف الأمة وأئمتها طريقة مثلى ووسط بين مذاهب الناس، فإن الناس اضطربوا في باب الأسماء والصفات وصاروا فرقاً متناقضة متفرقة، وأهل السنة والجماعة هم الوسط بين أهل الإفراط والتفريط والغلو والتقصير؛ فأهل التعطيل أفرطوا في التنزيه، وفرّطوا في الإثبات، وهم الجهمية ومن تبعهم، وأهل التشبيه أفرطوا في الإثبات، وفرّطوا في التنزيه فلم ينزهوا الله تعالى عن مماثلة المخلوقات، وأهل السنة والجماعة توسطوا، فلا إفراط ولا تفريط، ولذلك أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إثباتاً بلا تشبيه، فخالفوا المعطلة والمشبهة، حيث أثبتوا إثباتاً بلا تشبيه، ونزهوا الله عن جميع النقائص والعيوب فخالفوا الطائفتين.
وبرئ مذهب أهل السنة والجماعة من البدع التي وقع فيها غيرهم في كلام الله تعالى، وفي كلام رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وفي أسماء الله وصفاته، فلا
....................................................................................
تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا إلحاد، فهذه خمسة معان باطلة ومنكرة، أما أهل الضلال فهم بين معطل وممثل ومحرف ومفوِّض، والكل ملحد في أسماء الله وفي آياته.(1/50)
قوله: "سلف الأمة وأئمتها": أصل السلف من يتقدم غيره، ولا سيما من تقدم قومه أو جنسه، فإنه يكون سلفاً لهم، فسلف الكفار هم من تقدم منهم، وسلف الأخيار هم من تقدم منهم فسلف هذه الأمة هم صدرها، وأصدق ما تنطبق عليه هذه الكلمة الصحابة، فإنهم سلف هذه الأمة الوسط الخيار، والسلف والخلف من الأمور النسبية، فكل من تقدم غيره وجنسه يكون سلفاً، فالصحابة سلف الأمة على الإطلاق ولكن التابعون وتابعوهم هم سلف لمن جاء بعدهم، فالسلفي حينئذ هو المقتفي للسلف الصالح والمهتدي بهديهم، وهذه الأمة لها أئمة وعامة، فالأئمة هم العلماء العاملون، وقد اجتمعت أوصاف الإمامة في الخلفاء الراشدين -رضي الله تعالى عنهم-، فإنهم أئمة في العلم وفي العمل، وفي الولاية، ولكن المراد هنا الأئمة في العلم والدين، وعطف الأئمة على السلف من عطف الخاص على العام.
قوله "ومن غير تحريف" التحريف مأخوذ من الحرف بمعنى الطرف، ففيه تغيير وميل، وهو في الاصطلاح: تغيير كلام الله أو كلام رسوله عن وجهه لفظاً أو معنى، وهذا التغيير فيه جنوح عن الصواب والحق، فكان فيه انحراف عن الوسطية والعدل، فالتحريف والانحراف بينهما تقارب من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، والتحريف يكون للألفاظ ويكون للمعاني، والأغلب إطلاقه على تغيير المعنى،
....................................................................................
وتغيير اللفظ يكون بالزيادة والنقص، ومن أمثلة التحريف اللفظي ما يروى عن إمام المعطلة جهم بن صفوان أنه طلب من أحد القراء أن يقرأ قوله تعالى: ((zN¯=x.ur اللَّهُ مُوسَى $VJ(1/51)
خ=ٍ6s?"[النساء: 164] بنصب لفظ الجلالة لأنه حينئذ لا يكون في الآية دلالة على تكلم الله تعالى، وإنما فيها أن موسى كلم الله تعالى، وكون العبد يكلم ربَّه لا ينكره أحد، فكل عبد يدعو ربه عز وجل كما قال - صلى الله عليه وسلم - (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه)(1) وخاصية موسى عليه الصلاة والسلام أن الله كلمه، وهذا إنما يتحقق على القراءة الصحيحة "وكلم الله موسى تكليماً"، فقال له المسؤول: هب أنه أمكنك ذلك، فكيف تصنع بقوله تعالى: (($£Js9ur جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ ¼çm ... /u'"[الأعراف: 143]، وهذا لأنه يمتنع في اللغة العربية أن يكون الضمير في قوله "وكلمه" في محل رفع، ويتعين أن يكون مفعولاً به، و "رب" هو الفاعل.
وأما التحريف المعنوي فهو صرف اللفظ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى غيره بغير حجة توجب ذلك، كما قال المعطلة يد الله قدرته، الاستواء هو الاستيلاء، المحبة هي إرادة الإنعام، والغضب هو إرادة الانتقام.
قوله: "ولا تعطيل" التعطيل مأخوذ من العَطَل بمعنى الخلو، والمراد به هنا تعطيل الرب تعالى عن صفات كماله، وذلك بنفي أسمائه وصفاته سبحانه فالمعطل يخلي الرب عن صفاته، أو عن أسمائه وصفاته عند غلاتهم.
....................................................................................
والتحريف يستلزم التعطيل، وأما التعطيل فلا يستلزم التحريف؛ لأن التعطيل قد يكون بغير التحريف، فقد يكون بالتفويض فإن المعطلة يقفون من النصوص:
__________
(1) أخرجه البخاري (1/159) كتاب الصلاة، باب حك البزاق باليد من المسجد برقن 405، ومسلم بنحوه (1/390) كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم 1230.(1/52)
إما موقف التحريف، وإما أن يفوضوا، فمن ينفي مثلاً حقيقة الاستواء على العرش وهو العلو والارتفاع، يقول: معنى قوله تعالى " استوى على العرش" استولى، فيكون حينئذ معطلاً محرفاً: معطلاً للصفة عن الله، ومحرفاً للنص، وقد يقول من ينفي حقيقة الاستواء: الله أعلم بمراده بقوله "ثم استوى على العرش" وهذا ليس فيه دلالة على إثبات الاستواء على العرش، وهذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله تعالى، فيكون هذا معطلاً مفوضاً، وبهذا يعلم أن تحريف النصوص يستلزم التعطيل، وأما التعطيل فلا يستلزم التحريف لأن المعطل قد يلجأ إلى التفويض لا إلى التحريف.
قوله: "من غير تكييف" التكييف مأخوذ من الكيفية وهي هيئة الشيء التي هو عليها، ويستفهم عن الحال بـ "كيف"، فالتكييف تحديد كنه الصفة أو السؤال عنها بـ "كيف"، لأن السائل عنها بـ "كيف" يريد تحديدها وبيان كنهها، فصفات الله سبحانه لا يجوز تكييفها والتعرض لكيفيتها ولا السؤال عن ذلك. والتكييف هو الذي نصّ العلماء على نفيه ونفي العلم به، وقالوا في نصوص الصفات: تمرّ كما جاءت بلا كيف، أي: دون السؤال عن كيفيتها، ودون تكييف لها. وقال الأئمة في الاستواء ونحوه: "الاستواء معلوم، أو غير مجهول، والكيف مجهول".
فالكيفية لا يجوز للعبد التعرض لها، ولكن صفات الله تعالى لها كيفية لا نعلمها، فأهل السنة لا ينفون الكيفية، ولكن ينفون التكييف، فهم ينفون العلم بالكيفية، فلا يعلم كيف هو إلا هو، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو.
....................................................................................(1/53)
قوله "ولا تمثيل" التمثيل مأخوذ من المِثل، وهو النظير، فالتمثيل هو الحكم على الشيء بأنه مثلٌ لشيء آخر، والمراد بالتمثيل هنا تمثيل الخالق بالمخلوق، أو تمثيل المخلوق بالخالق، والتشبيه الذي قامت الأدلة على نفيه وإبطاله هو وصف الخالق بخصائص المخلوق أو وصف المخلوق بخصائص الخالق، وهذا المقام اضطرب فيه الناس ونشأ عنه ما نشأ من التعطيل، فإن المعطلة قالوا إن إثبات الصفات لله تعالى هو التشبيه، فأوجب لهم هذا أن ينفوا الصفات؛ لأنهم قالوا: إن المخلوقات توصف بهذه الصفات، فلو أثبتنا لله الصفات للزم من ذلك التمثيل فنفوها، هذه هي شبهتهم، ولكن التشبيه الذي ورد نفيه وإبطاله في النصوص هو وصف الله بخصائص المخلوق، أو العكس، فالعلم ليس من خصائص الخالق، فإن المخلوق يوصف بالعلم أيضاً، وهكذا السمع والبصر ونحوها، فمطلق العلم والسمع والبصر مثلاً معاني مشتركة في اللفظ والمعنى، فالله تعالى يوصف بالعلم حقيقة، لكن العلم المختص به سبحانه وتعالى والمخلوق يوصف بالعلم حقيقة، لكن المناسب له، فوصف المخلوق حينئذ بالعلم ليس فيه تشبيه المخلوق بالخالق، ووصف الخالق بالعلم مثلاً ليس فيه تشبيه الخالق بالمخلوق، لكن العلم المحدث المحدود هو من خصائص المخلوق، والعلم الأزلي المحيط بكل شيء الذي لا تبلغ العقول كنهه ولا مداه هو من خصائص الخالق، فمن قال إن المخلوق يعلم الغيب فقد شبه المخلوق بالخالق، فالقدرية الغلاة وقعوا في ضرب من التشبيه وهو تشبيه الخالق بالمخلوق، وقول اليهود: يد الله مغلولة، من تشبيه الخالق بالمخلوق؛ لأنهم وصفوا الله بخصائص المخلوق، فاليهود بهذا القول مشبهة، وكذا قولهم: إن
....................................................................................(1/54)
الله لما خلق السماوات والأرض استراح، فيه تشبيه للخالق بالمخلوق، وأما قول النصارى: إن عيسى ابن الله، ففيه تشبيه الخالق بالمخلوق من وجه، وذلك بنسبة الولد إليه، وفيه أيضاً تشبيه المخلوق بالخالق حيث ألَّهوا المسيح، فالنصارى وقعوا بهذا في نوعي التشبيه، والمشركون الذين عبدوا مع الله تعالى سواه وقعوا في تشبيه المخلوق بالخالق، فهذا هو التمثيل الذي يجب نفيه وبرئ منه مذهب أهل السنة والجماعة.
والتكييف والتمثيل بينهما تلازم، فكل من كيّف صفات الله تعالى فقد شبه الله بخلقه، وتمثيل الخالق بالمخلوق يستلزم التكييف.
قوله "من غير إلحاد" الإلحاد في اللغة الميل، ومن هذا سمي الشق في جانب القبر لحداً لميله عن وسط القبر، فكل ميل هو إلحاد لغة، وأما في الاصطلاح فهو الميل عن الحق إلى الباطل، علماً أو عملاً، وأكثر ما يطلق اسم الإلحاد في كلام العلماء على الإلحاد الاعتقادي، وقد يخصونه بشر أنواع الإلحاد، وهو إنكار وجود الرب سبحانه وتعالى، فيسمى الدهرية ملاحدة لأنهم منكرون للخالق والنبوات والمعاد، فهم شر الملاحدة، ولكن جنس الإلحاد لا يختص بهم، فاسم الإلحاد في الشرع يشمل أموراً كثيرة، كما سيأتي في الكلام على الإلحاد في أسماء الله تعالى، وفي آياته سبحانه.
والشرك الذي هو عبادة غير الله مع الله من شر الإلحاد، وهو إلحاد في عبادة الله بصرف محض حقه -سبحانه وتعالى- إلى غيره.
والإلحاد أعم هذه المعاني أعني: التكييف والتمثيل والتحريف والتعطيل، فالتحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل كلها إلحاد: فالتحريف إلحاد في آيات الله،
....................................................................................(1/55)
والتعطيل إلحاد في أسماء الله تعالى وفي صفاته، والتكييف إلحاد أيضاً في أسماء الله وصفاته والتمثيل كذلك، فإن من شبه الله تعالى بخلقه فقد ألحد في أسماء الله وصفاته، والتعطيل والتشبيه معنيان متباينان، فالمشبهة غلوا في الإثبات، والمعطلة غلوا في النفي، والتعطيل والتمثيل بينهما تلازم من وجه، فالتشبيه يستلزم التعطيل، والتعطيل يستلزم التشبيه، فكل مشبه معطل من وجه، وكل معطل مشبه من وجه، وذلك أن من أثبت لله تعالى صفات تماثل صفات المخلوقين فهو مشبه، وهو أيضاً معطل؛ لأنه لم يثبت لله ما يستحقه من الصفات بل وصف الله بصفات لا تليق به سبحانه وتعالى، فصار بهذا الاعتبار معطلاً وإن كان أصل مذهبه التشبيه، والمعطل الذي نفى عن الله الأسماء والصفات، أو نفى الصفات هو مشبه لله بالجمادات والمعدومات والممتنعات ففر من تشبيه الله بالموجودات ووقع في تشبيهه بالجمادات، فوقع في تشبيه أقبح، فكان بذلك معطلاً مشبهاً، وإن كان أصل مذهبه التعطيل، فبان بهذا أن التمثيل يستلزم جنس التعطيل، والتعطيل يستلزم جنس التشبيه، والإلحاد يعم الجميع.
قوله: "فإن الله ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: ((!ur الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ "[الأعراف: 180] الإلحاد في أسمائه هو الميل بها عن الحق والصراط المستقيم وذلك يشمل أنواعاً من الإلحاد، فالإلحاد في أسمائه تعالى يكون بنفيها كما هي طريقة الجهمية، ويكون بنفي معانيها كما هي طريقة المعتزلة، ويكون بتسمية المخلوق بها مثل تسمية المخلوق بعالم الغيب وملك الملوك وفي الحديث "إن أخنع اسم عند الله رجل
....................................................................................(1/56)
يسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله"(1) ويكون بتسميته تعالى بما لم يسم به نفسه كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له علة الوجود، وتسميته بواجب الوجود، وإن كان يصح الإخبار به عن الله تعالى، فيقال: الله و(3) الوجود، ولكن ليس من أسمائه ذلك، ويكون الإلحاد في أسماء الله بالاشتقاق من أسمائه كما فعل المشركون، فاشتقوا من أسمائه تعالى لأسماء آلهتهم كاللات من الإله، والعزى من العزيز، ومن الإلحاد في أسمائه الذي ذكره في كتابه ما ذكر الله عن المشركين في قوله سبحانه ((ِNèdur يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ "[الرعد: 30] وقوله ((#sŒخ)ur قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا $tRمچمBù's?"[الفرقان: 60].
قوله: وقال تعالى "إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا" هذا تهديد بالإخبار باطلاع الله تعالى، فالله كثيراً ما يذكر العلم في تهديده للكافرين والمنحرفين والمعتدين لحدوده.
قوله تعالى "أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة" هذا تهديد للملحدين في آياته بالإلقاء في النار.
وآيات الله تعالى نوعان:آيات كونية، وآيات شرعية.
ومن شواهد الآيات الكونية قوله تعالى ((ô`دBur آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي ئكgs)n=yz"[فصلت: 37] وقوله ((ô`دBur آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ "[الروم: 23] وقوله سبحانه ((وَمِنْ
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله برقم 6206، ومسلم في كتاب الأدب -واللفظ له- برقم 2143.(1/57)
آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " [الروم: 24] وقوله ((وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ ضچƒد‰s%" [الشورى: 29] وشواهدها كثيرة.
ومن شواهد الآيات الشرعية قوله تعالى: ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ $YZ"yJƒخ)" [الأنفال: 2] وقوله تعالى: ((مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا "[البقرة: 106] وقوله تعالى: ((îou'qك™ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ "[النور: 1] وقوله تعالى: ((#sŒخ)ur تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ $yg÷èyJَ،o""[لقمان: 7] وقوله تعالى: (($O!9# (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ ةOإ3ptّ:$#"[لقمان: 1] ونحوها كثير.
والآيات الكونية هي المخلوقات، والآيات الشرعية هي كلمات الله تعالى المنزلة والإلحاد في آيات الله تعالى الشرعية يكون بالتكذيب بها وجحدها ويكون بالاستهزاء بها، ويكون بالزعم بأنه ليس لها معنى مفهوم كما هو مذهب التفويض، ويكون بتحريفها عن مواضعها، قال الله تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ $·è(1/58)
دHsd"[النساء: 140] والاستهزاء بآيات الله إنما ينشأ عن الكفر بها كما قال تعالى: (($tB يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي د‰"n=خ7ّ9$#"[غافر: 4]، هذا من جملة الإلحاد في آيات الله الشرعية.
....................................................................................
أما الإلحاد في آيات الله تعالى الكونية فإنه يكون بجحد خالقها سبحانه، وبجحد دلالتها على الخالق، وبنفي حكمته تعالى في خلقها، كأن يقول قائل: إن هذا الشيء مخلوق لا لحكمة، أو يقول: هذا حادث بغير مشيئة الله، كما تقوله القدرية في أفعال العباد؛ هذا ما يتعلق بالإلحاد في أسماء الرب سبحانه وآياته. وأهل السنة والجماعة يثبتون لله أسماءه وصفاته ولا يلحدون في أسمائه ولا في آياته، ويلاحظ بعد هذا أن مذهب أهل السنة والجماعة يتميز عن المذاهب الضالة بأمور:
أولاً: أنه وسط بين مذاهب الضلال، فأهل السنة وسط في باب الأسماء والصفات، وطريقتهم هي المثلى، فإنها وسط بين التعطيل والتمثيل.
ثانياً: أن مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتهم في باب الأسماء والصفات وغيره مستمدة من الكتاب والسنة ومطابقة للعقل الصحيح، بينما المذاهب المنحرفة مستمدة من الأهواء والخيالات التي لا أصل لها في عقل ولا سمع،فهي مخالفة لموجب العقل وموجب النقل، وإن زعم الزاعمون أنها موجب العقل.
ثالثاً: خلو مذهب أهل السنة والجماعة من المعاني الباطلة التي وقع فيها من خالفهم، كالتحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل.
رابعاً: وهو مستفاد مما تقدم أن مذهب أهل السنة والجماعة يتضمن ثلاثة أصول يقوم عليها:
الأول: إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: تنزيهه تعالى عن مماثلة المخلوقات وعن كل نقص.(1/59)
....................................................................................
الثالث: نفي العلم بالكيفية.
وهذه الأصول مستفادة من النصوص وقد تضمنتها الآية الكريمة ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ çژچإءt7ّ9$#"[الشورى: 11] فهذه الآية دلت على الحق ورد الباطل في باب الأسماء والصفات، فدلت على أنه تعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن مماثلة المخلوقات، وأنه تعالى ليس كمثله شيء، وهذا يتضمن نفي العلم بالكيفية، فإن نفي التشبيه يستلزم نفي التكييف ونفي العلم بالكيفية، لأن ما لا نظير له لا يمكن العلم بكيفيته، لأن الشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره، والله تعالى لا نظير له، والعباد لم يشاهدوه، فلا سبيل لهم إلى العلم بكيفيته سبحانه، فقوله تعالى: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " رد للتشبيه والتكييف ففيه الرد على أهل التشبيه، وقوله سبحانه وتعالى: ((uqèdur السَّمِيعُ çژچإءt7ّ9$#" رد للإلحاد والتعطيل، فإن فيها إثبات اسمين من أسمائه تعالى وهما السميع والبصير، وفيها إثبات صفتين من صفاته وهما السمع والبصر.
فهذه أبرز خصائص مذهب أهل السنة والجماعة.
قوله: "ففي قوله: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " رد للتشبيه والتمثيل" قوله تعالى: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "" نص في نفي تشبيه المخلوق بالخالق، لأن تقدير الآية: ليس شيء مثله تعالى، ونفي هذا التشبيه يستلزم نفي التشبيه الآخر وهو تشبيه الخالق بالمخلوق، فإنه سبحانه إذا لم يكن له كفو من خلقه لزم أنه ليس مثل أحد من خلقه، لأنه سبحانه لو كان مثل أحد من خلقه كان هذا المخلوق مثله
....................................................................................
تعالى، ومن الآيات الدالة على نفي التمثيل عن الله قوله تعالى ((ِNs9ur يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&" وقوله سبحانه ((@yd تَعْلَمُ لَهُ $w(1/60)
دJy™" وغيرها كثير، ويلاحظ أن هذه الآيات كلها دالة على نفي مماثلة شيء من المخلوقات للخالق سبحانه ولا نجد آية فيها التنصيص أو التصريح بنفي مماثلة الخالق تعالى لخلقه، وذلك والله أعلم لأن الغالب على الخلق تشبيه المخلوق بالخالق، فإن المشركين كلَّهم -كما تقدم- واقعون في تشبيه المخلوق بالخالق، فقوله تعالى ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " ونحوها من الآيات فيها رد على أهل التشبيه، وفيها وهو المقصود الأول إبطال الشرك، لأن الشرك يتضمن تشبيه المخلوق بالخالق، ولا يوجد في الأمم من يقول: إن الله مثل خلقه من كل وجه، وقد يصف الله بشيء من صفات المخلوق كما قالت اليهود: إن الله فقير، يد الله مغلولة، فالآيات جاءت بإبطال الشرك الواقع والتمثيل الغالب على الأمم، والله أعلم.
تنبيه:
الكاف في قوله تعالى ((}ّ
s9 ¾دmخ=÷WدJx." للتشبيه والأصل أنها بمعنى مثل، ويلاحظ في هذه الآية أن الكاف و"مثل" اجتمعتا، فاختلف النحويون والمفسرون فمنهم من قال: الكاف صلة زيدت للتأكيد، لتأكيد مضمون الكلام، والمعنى إذن: ليس مثله شيء، وهذا سهل، وواضح، ولا إشكال فيه.
ومنهم من قال: إن كلمة "مثل" هي الصلة، والتقدير: ليس كهو شيء، وهذا يؤول إلى المعنى الأول، لأن الكاف بمعنى مثل، ولكن الأول أولى من هذا، لأن الزيادة في الحروف معهودة في اللغة، أما وقوع الاسم زائداً فهذا لا يكاد يوجد في اللغة.
....................................................................................(1/61)
ومنهم من قال: لا مانع من أن يكون المعنى: ليس مثل مثله شيء، ويكون هذا من قبيل الوصف بطريق الكناية كما تقول العرب: مثلك لا يفعل كذا، أو لا يعطي الزهيد في المدح، ومثلك لا يلاقي الشجعان في الذم بالجبن، ومثلك لا يعطي الجزل، في الذم بالبخل، وليس المقصود مدح المثل ولا ذمه، وإنما المقصود مدح أو ذم المخاطب بطريق الكناية، والأقوال الثلاثة مذكورة في بعض كتب التفسير كتفسير الشوكاني، والأمر في هذا سهل، فإن المقصود من قوله تعالى "ليس كمثله شيء" هو نفي أن يكون لله مثل من خلقه، وهذا لا خلاف فيه، والله تعالى أعلم.
والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى: ((çnô‰ç7ôم$$sù وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ $w
دJy™"[مريم: 65] قال أهل اللغة: "هل تعلم له سمياً" أي نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال مسامياً يساميه. وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: "هل تعلم له مثلاً أو شبيهاً"(1).
وقال تعالى: ((لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&" وقال تعالى ((ںxsù تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ ... cqكJn=÷ès?"[البقرة: 22] وقال تعالى: (( ... ئدBur النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ "[البقرة: 165].
قوله: "والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل..." إلخ.
هذا فيه بيان طريقة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- في وصف الله تعالى في الإثبات وفي النفي، وقد تقدم أن الحق هو وصفه تعالى بما وصف به نفسه ووصفته رسله إثباتاً ونفياً، بإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله؛ وهنا بيان لنوع هذا الإثبات وهذا النفي الذي جاءت به الرسل.
__________
(1) الدر المنثور، تفسير آية 56 من سورة مريم 4/503.(1/62)
قوله "والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل" الخ. أي بإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال على وجه التفصيل، وبنفي ما لا يصلح له
....................................................................................
سبحانه على وجه الإجمال، فالمدح يكون بإثبات الكمالات، وبنفي المعايب والنقائص، والطريقة المثلى في المدح أن تذكر المحامد مفصلة، وتنفى المعايب مجملة، فطريقة الرسل في الإثبات والنفي هي الموافقة للعقل والذوق السليم والأدب الرفيع.
والمراد بالإجمال هو التعميم والإطلاق، والتفصيل هو التعيين والتخصيص، ويتضح هذا بالأمثلة، فتقول في النفي المجمل: فلان مترفع عن الرذائل، وتقول في النفي المفصل: فلان ليس بجبان، ليس بفاحش، ليس بلعان، وتقول في الإثبات المجمل: فلان ذو أخلاق جميلة، وذو صفات حميدة، وتقول في الإثبات المفصل: فلان كريم، وشجاع، وصبور، وحليم، وحافظ ومقدام، وما أشبه ذلك.
فطريقة الرسل هي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات وهذا أمر أغلبي وليس بمطرد، فمعنى ذلك أن الإثبات قد يأتي مجملاً كما أن النفي قد يأتي مفصلاً. ثم بعد هذا ساق الشيخ رحمه الله تعالى شواهد النفي المجمل وشواهد الإثبات المفصل، وبدأ بشواهد النفي المجمل.
قوله: وقال تعالى: ((ِNs9 يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد" الشاهد قوله تعالى: ((ِِNs9ur يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&"، ومثلها قوله تعالى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " وقوله: ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $w
دJy™" ونحوها.
قوله: وقال تعالى: ((ںxsù تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ ... cqكJn=÷ès?" وقال تعالى (( ... ئدBur النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ " اشتملت هذه الآيات على نفي
....................................................................................(1/63)
الكفو والند والسمي والمثل، وهي معاني متقاربة، فكلها تفسر بالشبيه والنظير وما أشبه ذلك، فنفي الكفو والمثل والسمي والند نفي مجمل، ووجه الإجمال في هذه الآيات أن نفي الكفو والند والمثل والسمي جاء مطلقاً غير مقيد بشيء، فتضمنت نفي الند عن الله في كل شيء، ونفي جميع النقائص الثابتة للمخلوق.
وقوله تعالى ((ِNs9 يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&" وقوله ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $w
دJy™" كلها أخبار، ومعنى قوله ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $w
دJy™" لا سمي له.
وقوله تعالى: ((ںxsù تَجْعَلُوا لِلَّهِ #Y
#y‰Rr&" هذا طلب، واستشهد بهذه الآية في باب الصفات لأن النهي فيها يتضمن النفي، نفي أن يكون لله ند، فالمعنى: لا تجعلوا لله أنداداً لأنه ليس له ند، وهذا هو المقصود، كذلك قوله تعالى: (( ... ئدBur النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ "[البقرة: 165] هذا ذم من الله تعالى للذين جعلوا لله أنداداً يحبونهم كمحبتهم لله، وهذا نوع من الخبر المراد به الطلب، لأن الذم فيه نهي، ولكن هو في نفس الأمر يتضمن نفي الند عن الله، فإن الله إنما ذم هؤلاء على ذلك لأنه تعالى لا ند له.
وقوله: "كحب الله" حب: مصدر أضيف إلى لفظ الجلالة وهو مفعول، فكيف يقدر الفاعل؟
قيل: كحبهم لله، وهذا يتضمن التسوية، فأشركوا في التسوية في المحبة، والمراد: يحبون أوثانهم وأندادهم كما يحبون الله.
وقيل: كحب المؤمنين لله، فيكون حبهم لأندادهم أكثر من حبهم لله تعالى.
....................................................................................
وقد رجح شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- الأول، لأن الواقع منهم التسوية كما في قوله تعالى عن الكفار: (( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ "[الشعراء: 97-98].
وقوله: "أشد حباً لله".(1/64)
قيل: أشد من حب المشركين لله.
وقيل: أشد من حب المشركين لأندادهم، أي أن المؤمنين يحبون الله أشد من حب المشركين لأندادهم وهذا أنسب.
فالآيات كلها تدل على نفي الند عن الله، لكن منها ما يدل على ذلك نصاً، ومنها ما يدل على ذلك بدلالة التضمن أو اللزوم، فنهيه سبحانه عن أن يتخذ من دون أنداداً يستلزم نفي الند عن الله.
وقال تعالى: (((#qè=yèy_ur لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ ×Lىخ=tو" [الأنعام: 100-101].(1/65)
قوله: وقال تعالى "وجعلوا لله شركاء الجن" الآية، قوله تعالى "وجعلوا" أي اعتقدوا وافتروا، وقوله "الجن" يحتمل أنه منصوب على أنه بدل من "شركاء" ويكون المفعول الثاني هو الجار والمجرور، ويحتمل أن يكون منصوباً بنزع الخافض أي: جعلوا لله شركاء من الجن، أو يكون "شركاء" مفعول ثاني مقدم، و"الجن" مفعول أول مؤخر، والمعنى: وجعلوا لله الجن شركاء، ولعل التقدير الأول أظهر، وقوله "وخلقهم" هذه جملة معترضة، أي والحال أن الله تعالى خلقهم ومع ذلك أشركوا به وقوله تعالى "وخرقوا له" أي اخترعوا وافتروا، وقوله سبحانه "بنين وبنات بغير علم" فيه تنزيه الله تعالى عن اتخاذ البنين والبنات، وفيه رد على المشركين الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، قوله سبحانه وتعالى "سبحانه وتعالى عما يصفون: هذا هو الشاهد من الآية على النفي المجمل فإن قوله "سبحانه" نفي لأن التسبيح فيه معنى النفي، كما أن الحمد فيه إثبات كما تقدم، وهذا عام في تنزيهه تعالى عن كل ما يصفه به الجاهلون والمفترون والمشركون من الولد أو الصاحبة أو الشريك أو غير ذلك من النقائص والعيوب، فالنفي في هذه الآية مستفاد من قوله "سبحانه وتعالى"، وهو نفي مجمل لأنه عام، فكل آية فيها هذا الأسلوب فهي من قبيل النفي المجمل، وقوله تعالى "بديع السماوات والأرض" أي مبتدي خلقهما على غير مثال سابق، وقوله
....................................................................................
سبحانه "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم" أي الكل خلقه، وليس شيء من الموجودات ابناً له، بل الكل عبيده(1) كما قال سبحانه: (((#qن9$s%ur اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ ... cqمBtچُ3oB"[الأنبياء: 26].
__________
(1) درء التعارض 1/35-36، مجموع فتاوى 2/444-445.(1/66)
وقال تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي إ7ù=كJّ9$#"[الفرقان: 1-2].
قوله: وقال تعالى: ((xx8u'$t6s? الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ #·چƒةtR"[الفرقان: 1]، الشاهد في هذه الآية قوله سبحانه: ((xx8u'$t6s? الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى ¾حnد‰ِ6tم"، والبركة هي كثرة الخير، والله سبحانه وتعالى هو الذي بيده الخير، والبركة كلها بيده، وهو الذي يبارك في من شاء، كما قال تعالى عن عيسى -عليه الصلاة والسلام-: ((سح_n=yèy_ur مُبَارَكًا أَيْنَ مَا àMZà2"[مريم: 31]، ويبارك سبحانه فيما شاء من البقاع، ومن العباد، فهو الذي يبارك والعبد مبارك، والله تعالى يوصف بأنه تبارك، يعني كثر خيره وكثرت بركته، وهو ذو البركة التي لا حد لها. ويفسَّر "تبارك" بـ "تعالى وتقدس"، وهذا من معاني "تبارك"، فـ"تبارك" يتضمن إثبات الخير والبركة له -سبحانه وتعالى- وأنه ذو البركة التي لا نهاية لها، ويتضمن تنزيهه تعالى عن النقائص والعيوب، ولهذا قال المفسرون: تبارك يعني: تعالى وتقدس؛ وبهذا الاعتبار تكون الجملة دالة على نفي مجمل.
وهذه الصيغة لا تستعمل إلا في حقه -سبحانه وتعالى-، فلا يضاف "تبارك" إلا إلى الله تعالى أو إلى اسم من أسمائه تعالى كما قال تعالى: ((x8tچ"t6s? اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ اP#tچّ.M}$#ur"[الرحمن: 77] وقال ((x8u'$t6s? اللَّهُ رَبُّ tûüدHs>"yèّ9$#"[الأعراف: 54]، أما المخلوق فلا يقال فيه: تبارك بل يقال: بارك الله فيه، وهذا شيء مبارَك، ويُدعا له بالبركة فيقال: بارك الله فيه، ولا يقال: هذا شيء تبارك، ولا يقال: تبارك فلان، ولا تباركت علينا يا فلان، كما يجري على ألسنة العامة، فإن "تبارك" يدل(1/67)
....................................................................................
على أن البركة ذاتية وليس ذلك إلا لله وحده، فإن الله تعالى هو الذي بركته ذاتية، أما المخلوق فإن بركته هدية من الله وعطية من عباده، فلهذا "تبارك" لا يضاف إلا إلى الله أو إلى اسم من أسمائه ولا يضاف إلى المخلوق لا إلى عاقل ولا إلى غير عاقل.
وقال تعالى: ((فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ tûüإءn=ّكJّ9$#" إلى قوله: ((z`"ysِ6ك™ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ... ْüدJn="yèّ9$#" [الصافات 149-182] فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلم على المرسلين، لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات.(1/68)
قوله: وقال تعالى "فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون" الآيات قوله سبحانه "فاستفتهم" أي اسألهم سؤال توبيخ، وقوله تعالى "ألربك البنات ولهم البنون" هذا توبيخ لمن زعم أن الملائكة بنات الله، مع أنهم كانوا يكرهون البنات لأنفسهم كما قال تعالى: ((tbqè=yèّgs†ur لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا ... cqهktJô±tƒ"[النحل: 57] قوله تعالى ((÷Pr& خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ ... crك‰خg"x©"[الصافات: 150] "أم" تسمى المنقطعة وتفسر بـ "بل" والهمزة، أي بل أخلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون، والمعنى هل حضروا خلق الملائكة فيرون أنهم إناث وبنات، قوله تعالى "ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون" هذا تكذيب لهم مؤكد بـ "إن" واللام، قوله تعالى "أصطفى البنات على البنين" هذا استفهام توبيخ أيضاً، قوله تعالى "ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون" الآيات. أنكر الله تعالى عليهم هذه الفرية وهذه المقولة
....................................................................................(1/69)
الباطلة بشتى أنواع الإنكار وبيّن أن مقالتهم تلك لا سند لها من عقل ولا شرع، وهذه الآيات فيها نفي الولد عن الله تعالى، وفيها تغليظ الإنكار على من زعم ذلك بأساليب عدة، قوله تعالى "وجعلوا" أي: وجعل المشركون، قوله "بينه وبين الجنة نسباً" قيل: المراد بالجنة الملائكة والنسب الذي جعلوه بينه وبينهم هو نسب البنوة والأبوة، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، والقول الثاني: أن المراد بالجنة الجن المخلوقون من نار، والنسب الذي جعلوه بين الله وبين الجن هو أنهم جعلوهم شركاء لله كما قال تعالى في الآية السابقة (((#qè=yèy_ur لِلَّهِ شُرَكَاءَ £`إgّ:$#" أو قول بعض العرب: إن الله تعالى أصهر إلى سروات الجن، يعني له صاحبة من الجن، فهو نسب مصاهرة وليس النسب المعروف، وهذا القول أعني القول بأن المراد الجن، وأن المراد بالنسب أحد الأمرين أو كلاهما هو الصواب، لأن الجنة لم يأت إطلاقها على الملائكة في القرآن أبداً، والجنة في القرآن يراد بها الجن كما قال تعالى ((z`دB الْجِنَّةِ ؤ¨$¨Z9$#ur" وكما قال تعالى ((ôM£Js?ur كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ tûüدèuHّdr&"[هود: 119] والمراد بالجنة الجن، فوجب أن المراد هنا الجن كما في سائر المواضع، ولو كان المراد بالجنة الملائكة لكان ذكر هذا المعنى تكراراً مع ما ذكر من قبل في الآيات المتقدمة، قوله تعالى ((ô‰s)s9ur عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ tbrçژ|طَsكJs9" أي لمحضرون للحساب ومحضرون في العذاب، قوله تعالى "سبحان الله عما يصفون" هذا هو الشاهد من هذه الآيات هذا هو النفي المجمل، فالمعنى تنزيهاً لله عن كل ما يصفه به المشركون وقوله "إلا عباد الله المخلصين" كالرسل وأتباعهم -صلوات الله وسلامه عليهم-، قوله تعالى: ((z`"ysِ6ك™ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا ... cqàےإءtƒ" الله تعالى نزه(1/70)
....................................................................................
نفسه في هذه الآية عما يصفه به المشركون والمفترون وفي هذا ذم لهم فيما وصفوا به رب العالمين.
قوله "وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات" فقوله تعالى "سبحان ربك رب العز عما يصفون" نفي مجمل، فكلمة "سبحان" دالة على التنزيه ونفي النقائص عن الرب تعالى وقوله "عما" يدل على الإجمال والعموم، وقوله تعالى "والحمد لله رب العالمين" فيه دلالة على إثبات جميع المحامد له تعالى، فهذا الحمد إذن يتضمن إثباتاً مجملاً كما تقدم بيانه في خطبة الحاجة.
فائدة:
النفي تارة يكون بأداة من أدوات النفي مثل: لم ولا النافية والاستفهام الإنكاري، وتارة يكون النفي معلوماً من مدلول الكلمة كـ "سبحان" فإن معناها تنزيهاً لله عن كذا وكذا.(1/71)
وأما الإثبات المفصل، فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله ((ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "[البقرة: 255] الآية بكمالها، وقوله "قل هو الله أحد الله الصمد" السورة، وقوله "وهو العلي الحكيم" "وهو العليم القدير" "وهو السميع البصير" "وهو العزيز الحكيم" "وهو الغفور الرحيم" ((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا ك‰ƒجچمƒ"[البروج: 14-16] ((هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ×ژچإءt/"[الحديد: 3-4] وقوله ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ َOكgn="yJôمr&" [محمد: 28] وقوله ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ے¼çmtRq™6دtن†ur" [المائدة: 54] وقوله ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ "[المائدة: 119] وقوله ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا $VJ(1/72)
دàtم" [النساء: 93] وقوله ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ ... crمچàےُ3tGsù" [غافر: 10] وقوله ((هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ â'qمBW{$#" [البقرة: 210] وقوله ((NèO اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا tûüدèح !$sغ" [فصلت: 11] وقوله ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى $VJ
خ=ٍ6s?"[النساء: 164] وقوله ((çm"uZ÷ƒy‰"tRur مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ $|إgwU"[مريم: 52] وقوله ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ ... cqكJمم÷"s?"[القصص: 74] وقوله ((إِنَّمَا
........................................................................................
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ مbqن3u
sù"[يس: 82] وقوله تعالى ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ قO
إ3ptّ:$#"[الحشر: 22-24].(1/73)
إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
قوله: "وأما الإثبات المفصل.." إلخ.
هذه الآيات التي ساقها المصنف -رحمه الله تعالى- فيها إثبات الكثير من أسماء الله تعالى الحسنى ومن صفاته العلى على وجه التفصيل؛ لأن فيها تنصيصاً على الأسماء، وتعييناً لها، وتخصيصاً لها بالذكر.
وكل اسم من أسماء الله متضمن لصفة، ففيها إثبات ما دلت عليه من الأسماء مع ما تضمنته من الصفات، فهو الحكيم والحكمة صفته والسميع والسمع صفته، والبصير والبصر صفته، والغفور والمغفرة صفته، والرحيم والرحمة من صفاته، وهكذا، ومن هذه الشواهد قوله تعالى ((uqèd الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي t,n=y{" الآية وفيها إثبات اسم الأول والآخر والظاهر والباطن والعليم والبصير لله تعالى، وفيها إثبات صفة الخلق والاستواء والعلم والمعية
....................................................................................
والبصر.
ومن الشواهد أيضاً قوله سبحانه ((t$ِq|،sù يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ے¼çmtRq™6دtن†ur"[المائدة: 54].
وقد مضى أن القاعدة في منهج الرسل الإثبات المفصل لصفات الله تعالى والنفي المجمل، وهذه قاعدة أغلبية، وإلا فقد يأتي إثبات مجمل ونفي مفصل.
فمن النفي المفصل قوله تعالى: ((ںw تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ " وقوله تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا كNqكJtƒ" وقوله تعالى: ((ںwur يَظْلِمُ رَبُّكَ #Y‰tnr&" وقوله: ((لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا س|
ƒ" وقوله ((لَمْ يَلِدْ وَلَمْ ô‰s9qمƒ" ونحو ذلك.(1/74)
وأما النفي المجمل فكقوله تعالى ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $wٹدJy™" وقوله ((ںxsù تَضْرِبُوا لِلَّهِ tA$sVّBF{$#" وقوله ((ِNs9ur يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&" وقوله ((z`"ysِ6ك™ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا ڑcqàےإءtƒ" ونحو ذلك.
وقد ذكر المؤلف هنا جملة من الآيات التي فيها ذكر بعض أسماء الله وصفاته على وجه التفصيل والتعيين، وكل اسم من أسماء الله تعالى متضمن لصفة من صفاته.
ومن شواهد الإثبات المجمل قوله تعالى: ((!ur الْأَسْمَاءُ 4سo_َ،çtّ:$#" وقوله تعالى: ((ك‰ôJysّ9$# لِلَّهِ رَبِّ ڑْüدJn="yèّ9$#"[الفاتحة: 1] وقوله تعالى ((!ur الْمَثَلُ الْأَعْلَى " قال المفسرون أي ولله الوصف الأكمل والأطيب.
وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات.
قوله: "وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم.." إلخ.
بعد أن بين المؤلف رحمه الله طريقة الرسل في صفات الله تعالى وهي الطريقة القويمة الحكيمة الموافقة للعقول والفطر السليمة، شرع في بيان طرق أهل الضلال الحائدين المائلين عن طريقة الرسل، فذكر الكفار والمشركين وأهل الكتاب.
وأهل الكتاب منهم المؤمن الموحد الذي اتبع رسوله، ومنهم الكافر.
والصابئة منهم المؤمنون الحنفاء، ومنهم الكفار المشركون، ومن هؤلاء قوم إبراهيم وهم طوائف.(1/75)
والمتفلسفة هم أهل الفلسفة الذين احترفوا الفلسفة اليونانية. وكأن الشيخ يقصد بهم المنتسبين للإسلام منهم، وقد يراد بهم المنتسبين للإسلام وغير المنتسبين له.
والفلاسفة أنواع، منهم الفلاسفة الدهريون، وهؤلاء لا كلام معهم هنا، وإنما الكلام مع الفلاسفة الإلهيين الذين يقرون بالخالق في الجملة وهم أنواع:
....................................................................................
منهم من يقر بصفات الله تعالى في الجملة، ومنهم من ينكر الصفات.
وزعيم ملاحدة الفلاسفة اليونانيين من يسمونه المعلم الأول، وهو أرسطو فهو زعيم الشرك والتعطيل والإلحاد، وقد تبعه بعض من ينسب إلى الإسلام كابن سيناء الذي يعظم من قبل بعض الجهلة أو الزنادقة المنتسبين للإسلام.
قوله "والقرامطة الباطنية" الباطنية صفة موضحة لأن كل قرمطي باطني، وإن كانت الباطنية أعم فيدخل فيها كل من جعل للنصوص ظاهراً وباطناً، فيدخل فيهم الإسماعيلية والنصيرية والدروز والاتحادية من ملاحدة الصوفية.
وقد تطلق القرامطة ويراد بها الباطنية بمعناها العام، لأن القرامطة هم سلف وأصل الباطنية.
أكثر ما تطلق الباطنية على الرافضة وكما قال بعض العلماء "يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض" فهم في الحقيقة كفار أعداء لله ورسله والمؤمنين وإن كانوا يتسترون ويظهرون حب آل البيت.
القرامطة: الطائفة التي ظهرت في الأحساء آخر القرن الثالث فعاثوا في الأرض فساداً بقيادة أبي ظاهر الجنابي الذي قتل الحجيج وقلع الحجر الأسود.
وسموا قرامطة نسبة إلى أحد زعمائهم وهو حمدان قرمط، واسم القرامطة قد يطلق على الباطنية عموماً، وقد يراد به طائفة من طوائفهم، مثل اسم الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد يطلق هذا اللقب على بدعة التعطيل خاصة فيقال فلان جهمي، أو فيه تجهم، أي تعطيل للصفات وإن كان الجهم جمع عدة بدع كالجبر في القدر، والإرجاء في الإيمان.(1/76)
....................................................................................
وقد ذكر الشيخ هنا أن هؤلاء الزائغين عن طريقة المرسلين من المتفلسفة والجهمية والباطنية ونحوهم على ضد منهج الرسل، ذلك أنهم يصفون الله تعالى بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل.
الصفات السلبية: هي صفات النفي.
ووصف الله تعالى بالصفات السلبية أي وصف الله تعالى بالنفي غير ممتنع، ولكن عيب هؤلاء في هذا الباب يظهر في مخالفتهم لطريقة الرسل من وجوه:
1- التفصيل في النفي.
2- عدم إثبات شيء من الصفات الثبوتية.
3- أنما يصفون الله تعالى به من الصفات السلبية لا يتضمن إثباتاً عندهم.
قوله "ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقا".
الوجود المطلق ضد الوجود المعين، مثل لفظ الإنسان المطلق، والإنسان المعين. فقولك مثلاً الإنسان حيوان ناطق، أو كائن حي، فهذا هو الإنسان بمعناه المطلق وهو تفسير لحقيقة الإنسان بالمعنى العام، ولا تقصد بذلك إنساناً معيناً. أما إذا قلت فلان إنسان، أو هذا الإنسان فإنك تقصد بلفظ الإنسان شيئاً معيناً.
فالإنسان بالمعنى المطلق لا يوجد في الخارج، وإنما يوجد في الخارج الإنسان المعين.
وكذلك الوجود، فقولك وجودي، أو وجودك، فهذا وجود معين، وقولك الوجود فهذا المعنى وجود مطلق مشترك بين سائر الموجودات.
....................................................................................
وإثباتهم لله وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحقيق، لأن الوجود المطلق لا يوجد إلا في الأذهان. ولا يمكن أن يوجد في الأعيان وفي الخارج، لأنه لا يوجد في الخارج والأعيان إلا الوجود المعين في الأفراد.
وما يوجد في الذهن قد يكون موجوداً في الخارج، وقد يكون ممكن الوجود في الخارج، وقد يكون ممتنع الوجود في الخارج، ومن أنواع الوجود الذهني الذي يمتنع تحققه في الخارج الوجود المطلق.(1/77)
وهؤلاء الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالصفات السلبية المحضة على وجه التفصيل يستلزم قولهم غاية التعطيل، وغاية التمثيل.
أما استلزامه غاية التعطيل فلأنه يؤول إلى إنكار وجود الله تعالى حيث عطلوا الله تعالى عن أسمائه وصفاته تعطيلاً يستلزم نفي الذات، لأنه يمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات.
وأما استلزامه غاية التمثيل فلأنهم مثلوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات.
فإذا قالوا إنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ففي هذا تشبيه له بالجمادات، وإذا قالوا إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يرى ففي هذا تشبيه له بالمعدومات.
وإذا قالوا إنه ليس بحي ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ففي هذا تشبيه له بالممتنعات.
فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين، فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم -بزعمهم- إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب، وما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات.
وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد، واجب بذاته، غني عما سواه، قديم، أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم. فوصفوه بما يمتنع وجوده، فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم.
قوله: "فغاليتهم يسلبون عنه النقيضين.." إلخ.
بعد أن ذكر الشيخ مذهب المعطلة على جهة الإجمال وهو أنهم لا يصفون الله تعالى إلا بالصفات السلبية على جهة التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً فهذا قدر مشترك بينهم ولكنهم طوائف، فهم ليسوا على درجة واحدة، ففيهم غلاة، وفيهم دون ذلك.
بعد ذلك شرع الشيخ في ذكر تفصيل مذاهب المعطلة:
فمذهب غلاة المعطلة أنهم لا يصفون الله تعالى إلا بسلب النقيضين.(1/78)
والنقيضان -في اصطلاح المناطقة-: هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً كالوجود والعدم، والحركة والسكون في الشيء الواحد والوقت الواحد.
....................................................................................
فهؤلاء الغلاة يقولون عن الله تعالى أنه لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، وهلم جرا(1).
فالتعطيل سلب الصفات الثبوتية عن الرب تعالى، أما هؤلاء فغلوا حتى سلبوا عنه النقيضين، أي الصفة ونقيضها، وهذا المذهب يصدق على الباطنية القرامطة.
وشبهتهم في ذلك -حسب زعمهم- أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا عنه النقيضين فراراً من تشبيهه بالموجودات والمعدومات.
وقد رد عليهم الشيخ وبين فساد مذهبهم، فذكر أن هذا القول -أي سلب النقيضين- ممتنع في بداهة العقول، أي أن فساده وامتناعه أمر بدهي مدرك، لا تحتاج معرفته إلى نظر وطول فكر.
ثم بين أنهم فروا من تشبيهه بالموجودات والمعدومات فوقعوا في شر من ذلك ألا وهو التشبيه بالممتنعات، فالموجود أكمل من المعدوم، والمعدوم الممكن أكمل من المعدوم الممتنع، إذ المعدوم قد يكون ممكناً، وقد يكون ممتنعاً، فكل ممتنع معدوم، وليس كل معدوم ممتنع، فسلبُ النقيضين كجمع النقيضين كلاهما ممتنع.
وقد جرهم هذا المذهب الباطل الذي خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - جرهم إلى تحريف نصوص الوحيين، والمقصود بالتحريف هنا التحريف المعنوي، وتحريف الباطنية للنصوص الشرعية شر أنواع التحريف، فإنه ليس عليه أي دليل. بل هو صرف للنص الشرعي عن ظاهره دون أي دليل ولا قرينة فهو من باب
....................................................................................
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/197.(1/79)
اللعب بمعاني الألفاظ الشرعية، كتحريفهم معنى قول الله تعالى: ((yltچtB الْبَحْرَيْنِ بb$uة)tGù=tƒ" قالوا علي وفاطمة، وقالوا في ((ôM7s? يَدَا أَبِي لَهَبٍ ،=s?ur"[المسد: 1] قالوا أبوبكر وعمر وهكذا تحريفهم لمعاني الشرائع.
وأيضاً فإن من دلائل فساد قولهم هذا أي -سلب النقيضين وتشبيه الله تعالى بالممتنعات- أنهم ناقضوا فيه ما علم بالاضطرار من أن الوجود -أي هذا الكون- لابدّ له من موجد واجب بذاته، والواجب هو الذي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم.
وقوله: "غني عما سواه" أي لا يفتقر إلى غيره وهذا من لوازم وجوب وجوده.
وقوله "قديم" هذه صفة موضحة لأنه لو لم يكن قديماً لم يكن واجباً، فالقدم من لوازم وجوب وجوده.
واختلف في إطلاق لفظ القديم اسماً لله تعالى، وقد شاع عند أهل الكلام إطلاق القديم علماً على الله تعالى، والصواب أن القديم ليس من أسماء الله الحسنى، وإن كان يجوز الإخبار عنه تعالى بذلك، لأن القديم هو المتقدم على غيره، والله متقدم على كل شيء وهو ما لا بداية لوجوده.
والقدم نوعان: قدم نسبي كتقدم الأب على ابنه، وقدم مطلق وهو التقدم على كل شيء، وهذا خاص بالله تعالى، ويدل على ذلك اسمه الأول، كما فسر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنت الأول فليس قبلك شيء"(1) فهذا المعنى حق.
....................................................................................
قوله "أزلي" هذه كلمة مؤكدة لما قبلها فهي تأكيد لكلمة قديم، فأزلي نسبة إلى الأزل وهو مقابل للأبد، فالأزلي ما لا بداية له، والأبدي ما لا نهاية له.
والفرق بين القديم والأزلي أن القديم ما لا بداية لوجوده، والأزلي ما لا بداية له وجوداً أو عدماً فهو أعم من القديم.
قوله "لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم" هذا تأكيد لما سبق وهو وصف لواجب الوجود.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم 2713.(1/80)
قوله "فوصفوه بما يمتنع وجوده" وهو سلب النقيضين فهؤلاء وصفوا الله تعالى بما يجعله ممتنعاً، فضلاً عن أن يكون موجوداً، أو واجب الوجود، أو قديماً.
وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات، دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
قوله: "وقاربهم طائفة من الفلاسفة.." إلخ.
بعد أن ذكر الشيخ الطائفة الأولى من الزائغين عن منهج المرسلين في مسألة الصفات وهم الباطنية الذين يصفون الله بسلب النقيضين. ذكر الطائفة الثانية ممن قاربوهم في ضلالهم وإن كانوا أخف منهم وهم طائفة من الفلاسفة الإلهيين، لأن من الفلاسفة من يثبت لله تعالى الصفات في الجملة، ومنهم المعطلة وفي مقدمتهم معلمهم الأول والثاني والفارابي وابن سينا، فهؤلاء وصفوا الله تعالى "بالسلوب" أي بالصفات السلبية أي بالنفي، فالسلب هو النفي.
"والإضافات" هي الصفات الإضافية، والإضافة هي النسبة والشيء الإضافي هو الشيء النسبي، فهو ليس أمراً وجودياً بل أمر اعتباري معنوي، فالصفة الإضافية هي المعنى الذي لا يعقل إلا بوجود مقابل له، ومثال ذلك القبلية والبعدية والأبوة والبنوة، فالقبلية مثلاً ليست صفة ذاتية للشيء، بل صفة باعتبار ما بعده وكذا الأبوة فهي صفة باعتبار ابنه وإن كان هذا الأب ابناً باعتبار أبيه، فهو اكتسب الصفة بالنسبة لغيره، وليست صفة ملازمة له كيده وطوله ولونه.
ويلاحظ أن هذه الصفات الإضافية لا وجود لها حقيقة، وإنما وجودها عقلي معنوي.
ومن الأمثلة التي تذكر لذلك تسمية الفلاسفة لله تعالى العلة الأولى، وهذا مثل تسمية المتكلمين لله تعالى بالقديم.
....................................................................................(1/81)
فكون الشيء علة يقتضي معلولاً، فالعلية صفة إضافية باعتبار وجود معلول، فهي صفة إضافية نسبية لا وجود لها حقيقة، بخلاف صفة الخلق واسم الخالق فالله تعالى هو الخالق اسماً ووصفاً، ولو لم يوجد خلق فهو لم يكتسب هذه الصفة من شيء خارج عنه -وهو الخلق- كما تكتسب العلة وصف العلية باعتبار وجود المعلول، وكما يكتسب الأب وصف الأبوة بوجود ابن له.
ومن أسباب منع إطلاق لفظ العلة الأولى على الرب تعالى والتي يقصد بها الفلاسفة العلة التامة التي يستلزم وجودها وجود المعلول، أنه يلزم من هذا اللفظ أن وجود الرب يسلتزم وجود المخلوقات، وهذا باطل لأن وجود الله تعالى لا يلزم منه وجود مخلوقاته، ولهذا نجد الفلاسفة الذين أطلقوا هذا اللفظ والوصف على الله تعالى قالوا بقدم العالم لما سبق.
فالفلاسفة لا يصفون الله تعالى بصفات الإثبات بل بالسلوب والإضافات، ويجعلونه هو "الوجود المطلق بشرط الإطلاق"(1) أي وجود لا يقيد بأي صفة. بل يقيد بالإطلاق، أي بأن يقال هو الوجود المطلق، وهو ما يقابل الوجود المعين، كما لو قلت: الإنسان -فهذا مطلق- وإذا قلت - الإنسان المطلق فهذا مقيد بشرط الإطلاق، ولا يمكن وجوده في الخارج، بخلاف ما لو قلت: إنسان دون تقييده بالإطلاق، فقد يوجد في الخارج معيناً، ويمكن أن تقيده أيضاً ببعض الصفات، كما لو قلت إنسان كبير، أو أسود، ونحو ذلك.
وقد عُلم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم، مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحداً للعلوم الضروريات.
قوله: "وقد علم بصريح العقل..." إلخ.
أي: علم بالعقل الصريح أي السليم الذي لا يعتريه شك ولا شبهة أن هذا أي الوجود المطلق لا يوجد إلا في الذهن، دون ما خرج عنه من الموجودات.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/343-344، 204.(1/82)
ومن مقولات الفلاسفة أن الصفة هي الموصوف، وأن كل صفة هي الصفة الأخرى، فلا فرق بين معنى صفة وأخرى، فالعلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والإرادة هي الحياة، ونحو ذلك.
ويجعلون العلم هو العالم، فيكابرون القضايا البديهيات، ويجحدون العلوم الضروريات.
وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام، من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات.
والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات.
قوله: "وقاربهم طائفة ثالثة..." إلخ.
أي: قارب الفلاسفة طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، وإن كانوا ليسوا كالفلاسفة في الضلال، فهم أثبتوا لله تعالى الأسماء دون ما تضمنته من الصفات.
وأهل الكلام هم الذين يعتمدون على نظريات فلسفية، واستدلالات عقلية في باب الاعتقاد.
وسموا بأهل الكلام إما لكثرة كلامهم وجدلهم. أو لأن أعظم قضية وقع فيها الخلاف بين الأمة هي مسألة كلام الله تعالى.
وعلم الكلام هو تلك العلوم، والنظريات، والشبهات، والجدليات، في أبواب الاعتقاد، وقد صار في عرف بعض المتأخرين علماً على علم التوحيد، والصواب أنه لا ينبغي تسمية علم أصول الدين بعلم الكلام، لأن الكلام مذموم، والعقيدة المستمدة من كلام الله ورسوله، وقضاياها وأدلتها ليست من الكلام المذموم.
....................................................................................
وأشهر طوائف المتكلمين المعتزلة الذين كان لهم صولة وجولة في عهد المأمون، لما أحاطوا به، وأثروا عليه، وألبوه على كل من يخالفهم في الرأي، لا سيما أهل السنة والجماعة.(1/83)
ويدخل فيمن تبع المعتزلة، الرافضة والزيدية، فإنهم اعتنقوا كثيراً من أصول المعتزلة في باب الأسماء والصفات، وفي حكم أهل الكبائر في الآخرة.
والقاسم المشترك بين المعتزلة في باب الأسماء والصفات أنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ثم يختلفون في التعبير، فمنهم من يقول: إن أسماء الله تعالى كالأعلام المحضة المترادفة والعلم المحض هو اللفظ الذي لا يدل إلا على العلمية ولا يدل على الوصفية في شيء. كما لو سمي البليد حافظاً ونابهاً، وكما لو سمي البخيل كريماً.
فجردوا أسماء الله تعالى عما تضمنته من المعاني.
ومنهم من يقول: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر.
والفرق بين هؤلاء ومن قبلهم أن هؤلاء لم يطلقوا اسم الله تعالى إلا مقروناً بالتصريح بنفي ما تضمنه من الصفة أما الأولون فليسوا كذلك، وإن كان الجميع متفقين على نفي الصفة، وإنما الخلاف بينهم في التعبير فقط.
وأشار الشيخ إلى فساد مقالة هؤلاء ومناقضتها لصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول، ومن دلائل وعلامات هذا التناقض التسوية في الحكم بين المختلفات، أو التفريق بين المتماثلات، كنفيهم للصفات مع إثباتهم للأسماء، مع أن الجميع قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة، وكلها مضافة إلى الله تعالى، فيلزمهم إما أن يثبتوا الجميع، أو ينفوا الجميع، وسيأتي مزيد كلام في ذلك.
وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات.
قوله: "وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء..." إلخ.(1/84)
بعد أن عرض الشيخ مذاهب المعطلة باختلاف طوائفهم، بين أنهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره، وفي شر منه.
فالغلاة فروا من تشبيهه بالموجودات والمعدومات فلزمهم التشبيه بالممتنعات، وهذا أقبح من التشبيه بالموجود، أو المعدوم الممكن، وإن كان الجميع باطلاً.
وهكذا الفلاسفة ينفون عن الله الصفات بشبهة أن إثباتها يلزم عليه التركيب.
وكل من نفى شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فراراً من شيء فلابد أن يقع في نظيره أو في شر مما فر منه.
ولو أن هؤلاء جميعهم أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات، وفرقوا بين المختلفات، كما هو مقتضى العقول السليمة المتجردة عن الأهواء المضلة، والتعصب.
كما قال تعالى: ((÷Pr& حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا دM"ysخ="¢ء9$#"[الجاثية: 21] وقال تعالى: ((ôQr& نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ "[ص 28].
....................................................................................
ومن دلائل مناقضة مذهب الفلاسفة للمعقول تسويتهم بين المختلفات، كما سووا بين الصفات، وجعلوا هذه الصفة هي الصفة الأخرى كما سبق.
ومن دلائل مناقضة مذهب المعتزلة للمعقول تفريقهم بين المتماثلات، كما فرقوا في الإثبات بين أسماء الله وصفاته، فأثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، كما سبق.
فلو أن هؤلاء كانوا من أصحاب النظر الصحيح والعقل الصريح لما وقعوا في هذا التناقض، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هوا لحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد.(1/85)
ولكن هؤلاء الضلال المعطلة ليسوا من أهل العقل ولا النقل، بل هم من أهل القضايا المجهولات التي يظنونها ويزعمونها قضايا عقلية، كما إذا قالوا إن الوجود المطلق موجود في الخارج، أو إن العلم هو العالم.
ومعنى قوله "يسفسطون في العقليات" أي يقفون من العقليات موقف أهل السفسطة منها وهو المكابرة والإنكار(1).
ومعنى قوله "يقرمطون في السمعيات" أي يفعلون في السمعيات فعل القرامطة، وهو اللعب بمعانيها وصرفها عن ظاهرها إلى معانٍ أخرى لا يحتملها اللفظ ولا يدل عليها السياق.
وذلك أنه قد عُلم بضرورة العقل أنه لابد من موجود قديم غني عما سواه، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد عُلم بالاضطرار أن المحدَث لابد له من محدِث، والممكن لابد له من واجب، كما قال تعالى: ((÷Pr& خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ڑcqà)خ="y‚ّ9$#"[الطور: 35]، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقاً خلقهم.
قوله: "وذلك أنه قد علم بضرورة العقل..." إلخ.
يريد الشيخ أن يبين أن إثبات الصفات لله تعالى لا يلزم منه تمثيله بخلقه، كما أن الله تعالى موجود والمخلوق موجود، ولا يلزم من ذلك تماثلهما في صفة الوجود.
وقرر الشيخ أن من المعلوم بضرورة العقل أنه لابد من موجود قديم غني عما سواه، ودليل ذلك ما نشاهده من حدوث المحدثات -أي المخلوقات كالحيوان والمعدن والنبات، لأن المحدث ممكن الوجود، فليس بواجب، لأن عدمه قبل وجوده ينفي وجوبه، لأن الواجب لا يعدم، وليس بممتنع لأن الممتنع لا يمكن أن يوجد، فوجوده ينفي امتناعه.
فالأشياء في حكم العقل ثلاثة: واجب وممكن وممتنع.
فالواجب: ما لا يقبل الحدوث ولا العدم.
والممكن: ما يقبل الوجود والعدم.
والممتنع: ما لا يقبل الوجود.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 19/135.(1/86)
فهذه المحدثات لابد لها من موجد محدث لها، كما هو موجب العقل والفطرة،
....................................................................................
ودليل ذلك ما ذكره تعالى من الدليل العقلي في قوله: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" أي أخلقوا من غير خالق، أم هم الخالقون لأنفسهم، فالمخلوق لا يخلو إما أن يكون خلق نفسه، أو وجد من غير خالق، أو أن يكون له خالق خلقه. وهذا هو الحق والأولان باطلان ممتنعان.
والمحدِث الخالق الذي تنتهي إليه المحدثات يمتنع أن يكون محدَثاً مخلوقاً، بل يجب أن يكون واجباً قطعاً للتسلسل، فإن التسلسل في الفاعلين والمفعولين ممتنع، بمعنى أنه ما من فاعل إلا وله فاعل إلى ما لا نهاية، لأن ذلك يستلزم ألا يوجد شيء، والوجود ثابت بالحس. فطريق العلم بالواجب هو العقل، بدلالة الآيات الكونية وطريق العلم بجنس المحدَث هو الحس.
وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن، يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصُّه ووجود هذا يخصُّه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره، فلا يقول عاقل -إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود- إن هذا مثل هذا؛ لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود، لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصُّه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما.
قوله: "وإذا كان من المعلوم بالضرورة..." إلخ.(1/87)
تقدم الدليل الضروري الفعلي على وجود الواجب القديم، وإذا كان من المعلوم بالاضطرار أن في الوجود ما هو واجب وما هو ممكن، وكل منهما يصدق عليه أنه موجود، فالله تعالى موجود، والإنسان موجود، وسائر المخلوقات موجودة. فالخالق والمخلوق يتفقان في مسمى الوجود، أو الموجود، عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص والتقييد، فإذا قيل: موجود، فهذا الاسم يصدق على كلِّ ذي وجود فالموجود ضد المعدوم، فيدخل فيه كل موجود، سواء كان واجباً أو ممكناً، ولكن لا يلزم من اتفاقهما عند الإطلاق والتجريد تماثلهما عند الإضافة والتخصيص والتقييد، بل وجود الواجب مختص به، ووجود الممكن
....................................................................................
مختص به، فالوجود المطلق معنى مشترك في مدلوله، ومسماه، ومعناه لا يختص به الخالق ولا المخلوق(1).
وإذا قيل: الوجود الواجب، فيختص بالموجود الواجب. أما إذا قيل الوجود الممكن فيختص بالموجود الممكن.
فعند الإضافة والتقيد والتخصيص لا يقع الاشتراك، بل يأخذ كل ما يخصه.
والإضافة والتقييد والتخصيص تنويع في التعبير، لأن الإضافة تتضمن تقييداً، والتقييد فيه تخصيص.
وبهذا يعلم أنه لا يلزم من الاشتراك بالاسم العام تماثل المسميين المتغايرين في خصائصهما.
ويضرب الشيخ لذلك مثلاً بوجود العرش والبعوضة، فالعرش موجود، والبعوضة موجودة، ولا يلزم من وصف كل منهما بالوجود، أن يكونا متماثلين، بل لكل منهما وجود يخصه ويناسبه، وإن كانا متفقين في مسمى الاسم المطلق، والمعنى العام المشترك للفظ الوجود الذي لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد في الذهن.
فالاشتراك بين العرش والبعوضة إنما هو في مسمى الوجود العام الكلي المشترك، الذي لا يوجد إلا في الذهن.
أما في الخارج فلا اشتراك بينهما، فليس في الخارج شيء اشتركا فيه.
__________
(1) منهاج السنة 2/116-118.(1/88)
....................................................................................
فللعرش وجود يخصه، وللبعوض وجود يخصه، واسم الوجود حقيقة في كل منهما، كما هو حقيقة في كل موجود.
وإذا لم يلزم من اتفاق العرش والبعوضة في مسمى الشيء والوجود عند الإطلاق تماثل مسماهما -أي تماثل مسمى الشيء والوجود- عند الإضافة والتخصيص والتقييد، وهذا بين مخلوق ومخلوق، فمن باب أولى ألا يلزم ذلك بين الخالق والمخلوق.
فلفظ وجود أو موجود باعتبار الإطلاق والتقييد لها ثلاث حالات، ويختلف المدلول باختلاف هذه الأحوال:
فمدلوله عند الإطلاق هوا لمعنى المشترك بين الخالق والمخلوق، وعند الإضافة إلى الخالق ما يختص به الخالق من الوجود.
وعند الإضافة إلى المخلوق ما يختص به المخلوق من الوجود.
وهكذا القول في سائر ما ورد من الأسماء مضافاً إلى الله، ومضافاً إلى بعض العباد(1).
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، فكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل(2) مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما(3)، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
قوله: "ولهذا سمى الله نفسه بأسماء..." إلخ.
بعد أن قرر الشيخ قاعدة اختلاف مدلول اللفظ بالإطلاق والتقييد، وأنه لا يلزم من اتفاق المسميين في اسم عند الإطلاق تماثلهما في معناه عند التقييد، كما وضح ذلك في لفظة "موجود"، أراد أن يبين حال الاتفاق وحال الاختلاف في أسماء الخالق والمخلوق، فاللفظ الذي يطلق على الخالق والمخلوق له ثلاث حالات يختلف معناه باختلافها:
__________
(1) منهاج السنة 2/118-120، 587-589.
(2) في نسخة: تماثل.
(3) في نسخة: لا اتفاقهما.(1/89)
1- حال الإطلاق، ومدلوله معنى كلي مشترك.
2- حال الإضافة إلى الخالق، ومدلوله ما يختص بالرب تعالى.
3- حال الإضافة إلى المخلوق ومدلوله ما يختص بالمخلوق.
....................................................................................
فأسماء الله تعالى المضافة إليه مختصة به، وأسماء العباد المضافة إليهم مختصة بهم. وأسماء العباد توافق أسماء الله تعالى إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص يعني عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص.
ولا يلزم من اتفاق الاسمين، أي اسم الخالق والمخلوق عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص والتقييد تماثل مسماهما، فضلاً عن اتحاد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سمى الله نفسه حياً، فقال: ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "[البقرة: 255] وسمى بعض عباده حياً، فقال: (( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ اc'yغّ9$#"[الروم: 19] وليس هذا الحي مثل هذا الحي، لأن قوله ((¢'yغّ9$#" اسم لله مختص به، وقوله: ((كlجچّƒن† الْحَيَّ مِنَ دMحhyJّ9$#" اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق.
ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يُفهم منها ما دلَّ عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص، المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
قوله: "فقد سمى الله نفسه حيا..." إلخ.(1/90)
لفظ "الحي" نجده في أسماء الله تعالى كما نجده في أسماء المخلوقين، فالله تعالى يسمى بالحي، كما أن المخلوق كذلك. ولكن ليس الحي الذي هو الله أو اسم الله كالحي الذي هو المخلوق، وأما إذا قطع لفظ "الحي" عن الإضافة إلى الخالق أو المخلوق فإنه يدل على معنى لفظ "الحي" الكلي المشترك الذي هو مسمى الاسم المطلق، والذي لا وجود له إلا في الذهن، فليس في الخارج شيء اسمه الحي مشترك بين الخالق والمخلوق، ولكن العقل يفهم قدراً مشتركاً للفظ الحي، وهذا المعنى المشترك ثابت في حق الخالق كما هو ثابت في حق المخلوق، ولابد من هذا حتى تُفهم الألفاظ.
فإذا قلنا "الحي" -مطلقاً دون إضافة إلى الخالق أو المخلوق- فإن مدلول هذه الكلمة، وجود حياة أي ضد الموت.
....................................................................................
أما إذا أضيف إلى الله تعالى كما في قوله سبحانه: ((ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " فإنا نفهم من لفظ الحي أنه تعالى ذو حياة، التي هي ضد موت -وهذا مدلول اللفظ العام، كما أنا نفهم أيضاً أنه ذو حياة كاملة، لا يعتريها موت ولا نقص فهي حياة واجبة، لا يعتريها الحدوث ولا العدم، ولا يعلم العباد كنهها، وهذا مدلول اللفظ الخاص أي المضاف إلى الله تعالى.
كذلك إذا أضيف اسم "الحي" إلى المخلوق كما في قوله تعالى ((يخرج الحي من الميت" فإنا نفهم من اللفظ -الحياة التي هي ضد الموت وهذا مدلول اللفظ العام للحي، كما أنا نفهم منه أيضاً أنها حياة حادثة بعد أن لم تكن، وأنها قابلة للفناء، ومعرضة للعلل والآفات، وهي حياة موهوبة من الله تعالى، كما قال تعالى ((ب@è% اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ َOن3çFدJمƒ"[الجاثية: 26] وهذا مدلول اللفظ الخاص المضاف إلى المخلوق.
وقول المؤلف في أسماء الله تعالى إنها "يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق" أي مدلول الاسم العام المشترك.(1/91)
وقوله "وما دل عليه بالإضافة والاختصاص..." أي: ويفهم منه عند إضافته إلى الله تعالى المعنى الخاص بالرب سبحانه، الذي لا يشاركه فيه المخلوق، فلو فسرت ما أضيف إلى الله تعالى بالمعنى العام الكلي المشترك فقط دون ما هو من خصائص الله تعالى لم تكن أعطيته حقه من البيان لمعناه؛ لأن المعنى الكلي المشترك ليس من خصائص الرب سبحانه، بل هو مشترك بين الخالق والمخلوق، فعند الإضافة لابد أن يقيد بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والعكس كذلك.
وكذلك سمى الله نفسه عليماً حليماً، وسمى بعض عباده عليماً، فقال: ((وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ 5Oٹخ=tو"[الذاريات: 28] يعني إسحاق، وسمّى آخر "حليماً" فقال: ((فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ 5Oٹخ=ym"[الصافات: 101] يعني: إسماعيل وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم.
وسمى نفسه سميعاً بصيراً، فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا #Zژچإءt/" [النساء: 58]. وسمى بعض عباده سميعاً بصيراً: ((إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا #·ژچإءt/"[الإنسان:2] وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير.
وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال: ((إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ زOٹدm'" [البقرة: 143]. وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ زOٹدm'" [التوبة: 128] وليس الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم.(1/92)
وسمى نفسه بالملك فقال: ((الْمَلِكُ â¨r'‰à)ّ9$#"[الحشر: 23] وسمى بعض عباده بالملك فقال: ((tb%x.ur وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ $Y7َءxî"[الكهف: 79] ((tA$s%ur الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ "[يوسف: 50] وليس الملك كالملك.
وسمى نفسه بالمؤمن فقال: ((الْمُؤْمِنُ عئدJّygكJّ9$#"[الحشر: 23]، وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال: ((`yJsùr& كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا tb¼âqtFَ،o"" [السجدة: 18] وليس المؤمن كالمؤمن.
....................................................................................
وسمى نفسه بالعزيز فقال: ((â"ƒح"yèّ9$# الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ "[الحشر: 23] وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال: ((دMs9$s% امْرَأَةُ ح"ƒحoyèّ9$#" [يوسف: 5] وليس العزيز كالعزيز.
وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال: ((ڑپد9؛xx. يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ 9'$6y_"[غافر: 35] وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر.
ونظائر هذا متعددة.
قوله: "وكذلك سمى الله نفسه..." إلخ.
أي أن لفظة عليم أو اسم عليم عند الإطلاق يدل على مطلق العلم، أي ذو علم، وإن شئت قلت: ذو علم كثير، لأن الكثرة والقلة من الأمور النسبية، فهذا المعنى الكلي المشترك يصدق في حق الخالق والمخلوق.
لكن العليم اسم الله تعالى يدل على ما يختص بالرب تعالى وهو العلم الكامل الشامل المحيط بكل شيء، ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وإذا قيل عليم اسم للمخلوق فهو ما يختص به المخلوق من العلم الموهوب المحدود الذي يعتريه الخطأ والنسيان.(1/93)
وهكذا في اسم السميع فله معنى عام أي ذو سمع، والسمع ضد الصمم، وهو إدراك الأصوات، وهذا المعنى الكلي المشترك لا يختص به الرب تعالى، أما إذا قيل إن الله سميع فهذا يدل -إضافة إلى المعنى العام المطلق- يدل على المعنى الخاص بالله تعالى، مثل كون سمعه تعالى يسمع جميع الأصوات، ليس بمحدود ولا موهوب، بل لم يزل سبحانه سميعاً سمعاً لا يعلم العباد كنهه.
وهكذا يقال في بقية الأسماء التي ذكرها المؤلف، فيفهم من الاسم عند الإطلاق معنى كلي مشترك بين الخالق والمخلوق، ويفهم منه عند الإضافة والتخصيص والتقييد معنى خاص يليق بالخالق سبحانه وتعالى لا يشركه فيه المخلوق. كما يفهم منه معنى خاص يليق بالمخلوق عند تسميته به.
وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال: ((ںwur يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ "[البقرة: 255] وقال: ((أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ "[النساء: 166] وقال: ((¨bخ) اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ كûüدGyJّ9$#"[الذاريات: 58] وقال: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً "[فصلت: 15].(1/94)
وسمّى صفة المخلوق علماً وقوة، فقال:((!$tBur أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا Wxٹخ=s%"[الإسراء: 85]، وقال:((s-ِqsùur كُلِّ ذِي عِلْمٍ زOٹخ=tو" [يوسف: 76] وقال: (((#qمmجچsù بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ ةOù=دèّ9$#"[غافر: 83] وقال: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ مچƒد‰s)ّ9$#"[الروم: 54] وقال: ((وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى ِNن3د?qè%"[هود: 52] وقال: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا 7‰&÷ƒr'خ/"[الذاريات: 47] أي: بقوة، وقال:((ِچن.ّŒ$#ur عَبْدَنَا yٹ¼مryٹ ذَا الْأَيْدِ " [ص: 17] أي ذا القوة، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة.
وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، فقال: ((`yJد9 شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ ڑْüدJn="yèّ9$#"[التكوير: 28-29] وقال: ((¨bخ) هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا $VJإ3ym"[الإنسان: 29-30].
وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، فقال: ((ڑcrك‰ƒجچè? عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ زOٹإ3ym"[الأنفال: 67].
ووصف نفسه بالمحبة، ووصف عبده بالمحبة فقال: ((t$ِq|،sù يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ے¼çmtRq™6دtن†ur"[المائدة: 54] وقال: ((ِ@è% إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ "[آل عمران: 31].
....................................................................................
ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال: ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ "[المائدة: 119].(1/95)
ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه.
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ ڑcrمچàےُ3tGsù"[غافر: 10] وليس المقت مثل المقت.
وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، كما وصف عبده بذلك، فقال: ((ّtbrمچن3ôJtƒur وَيَمْكُرُ اللَّهُ "[الأنفال: 30] وقال: ((ِNهk¨Xخ) يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ #Y‰ّx." [الطارق: 15-16] وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد.
ووصف نفسه بالعمل، فقال: ((َOs9urr& يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا tbqن3خ="tB"[يس: 71] ووصف عبده بالعمل، فقال:((Lن!#t"y_ بِمَا كَانُوا tbqè=yJ÷ètƒ" [السجدة: 17] وليس العمل كالعمل.
قوله: "وكذلك سمى صفاته بأسماء..." إلخ.
بعد أن ذكر المؤلف -رحمه الله- أمثلة على أسماء لله تعالى توافق أسماء بعض مخلوقاته، وبين أوجه الاتفاق والافتراق بينها، ذكر هنا أمثلة لصفات الله تعالى، فقد سمى الله -عز وجل- صفاته بأسماء، كالعلم والقوة، فهذه أسماء صفاته، وأما أسماؤه فمثل العليم والقوي.
وهذه الأسماء التي سمى بها صفاته، سمى بها صفات بعض خلقه. فاسم صفة العبد توافق اسم صفة الرب تعالى في المعنى عند الإطلاق، أي في المعنى العام
....................................................................................
الكلي المشترك، أما عند الإضافة إلى الرب فيكون لها المعنى المختص بالرب تعالى، وعند الإضافة إلى المخلوق يكون لها المعنى المختص بالمخلوق، كما سبق في مسألة أسماء الله تعالى.
فالعلم -مثلاً- اسم لصفة المخلوق، وهو موافق للعلم الذي هو اسم لصفة الخالق إذا قطع عن الإضافة.(1/96)
فالعلم إذا أطلق ولم يقيد بالإضافة إلى الخالق أو المخلوق يكون له معنى عام كلي وهو ضد الجهل، أو هو إدراك الأشياء على ما هي عليه، وهذا المعنى مشترك بين علم الخالق وعلم المخلوق.
أما إذا أضيف العلم إلى الله تعالى كما في قوله ((ںwur يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ " فيكون له معنى مختص بالرب تعالى في كيفيته ومداه ومتعلقه، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون، يعلم الأشياء علماً تاماً مفصلاً، يعلم ما في صدور العباد، يعلم ما يخفون وما يعلنون، وعلمه تعالى واجب ذاتي، فهو لم يزل ولا يزال عليماً، موصوفاً بالعلم لم يحدث له العلم، وعلمه لم يسبقه جهل، ولا يعتريه نسيان، كل هذا من معاني العلم المختص بالرب تعالى.
وأما إذا أضيف العلم إلى المخلوق كما في قوله تعالى: ((!$tBur أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا Wxٹخ=s%" فيكون له معنى مختص بالعبد، فهو علم محدود وموهوب، علم يسبقه جهل، ويعتريه نسيان.
...................................................................................
وعلى هذا النسق يكون الكلام في بقية أسماء الصفات التي ذكر المؤلف -رحمه الله- شواهدها؛ فللصفة معنى عام كلي مشترك عند الإطلاق يصدق على صفة الله تعالى وعلى صفة المخلوق، وللصفة معنى خاص عند إضافتها إلى الله تعالى لا يشركه فيها المخلوق، وللصفة معنى خاص عند إضافتها إلى المخلوق تليق بعجزه وقصوره.
تنبيهات:
1- قوله تعالى: ((uن!$uK،،9$#ur بَنَيْنَاهَا 7‰&÷ƒr'خ/" تفسير الأيد هنا بالقوة ليس من باب التأويل، فليس لفظ الأيد جمعاً للفظ "يد" بل هو لفظ مفرد، وهو مصدر على وزن "فَعْل" من آد، يئيد" أيداً أي قوة.
أما لفظ "أيدي" فهي على وزن "أفعل". فهذه الآية المذكورة دليل على صفة القوة وليست دليلاً على صفة اليد.(1/97)
2- من الفروق بين مشيئة الله تعالى، ومشيئة العبد، أن مشيئة الله تعالى صفة له وهي نافذة، أما مشيئة العبد فهي مخلوقة ومقيدة. فقد يشاء العبد ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وكل شيء بمشيئة الله تعالى.
3- بين صفة الرضا والمحبة تقارب وتلازم، ولكن لا يلزم من التلازم وحده اتحاد المعنى، ولا يصح تفسير أحدهما بالآخر، فالرضا ضد السخط، والمحبة ضد البغض والكراهة.
4- الله تعالى يوصف بالمكر والكيد، وبينهما تقارب في المعنى، لكن ينبغي أن يقيد، فيقال يمكر بمن يستحق المكر وكذا الكيد.
....................................................................................
ووصف الله تعالى بهما على الحقيقة، فلا يصح ما يقوله بعض المفسرين من أن المكر والكيد ينسب إلى الله تعالى على سبيل المشاكلة اللفظية، والمجانسة، أي على سبيل المجاز.
ومطلق المكر ليس بممدوح ولا مذموم، ومكر المخلوق قد يكون ممدوحاً إذا كان بمن يستحق، وقد يكون مذموماً إذا لم يكن كذلك، كما إذا كان على وجه الظلم والعدوان.
والمكر من الله تعالى كله محمود لأنه كله عدل بمن يستحقه، وليس مكر الله كمكر المخلوق.
فمن مكر الله تعالى بالكفار في الدنيا استدراجهم كما قال تعالى: ((tbqç7|،ّts†r& أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا tbrمچمèô±o""[المؤمنون: 55-56] ((وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ ×ûüخgoB"[آل عمران: 178]، ومن مكره تعالى بالمنافقين في الآخرة أن يكونوا مع المؤمنين في بعض مواقف القيامة ثم تنطفئ عنهم الأنوار كما قال تعالى: ((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا #Y'qçR"[الحديد: 13]. ومن مكره تعالى بالمنافقين في الدنيا قبول علانيتهم.(1/98)
فهذا كله يدل على أن المكر من الله تعالى حقيقة، وليس على سبيل المشاكلة اللفظية.
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة، فقال: ((وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ $|إgwU"[مريم: 52] وقوله: ((tPِqtƒur ِNخgƒدٹ$uZمƒ"[القصص: 62] وقال: (($yJكg1yٹ$tRur !$yJهk5u'" [الأعراف: 22] ووصف عباده بالمناداة والمناجاة، فقال: ((¨bخ) الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا ڑcqè=ة)÷ètƒ"[الحجرات: 4] وقال: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ tAqك™چ9$#"[المجادلة: 12] وقال: ((إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ بb؛urô‰مèّ9$#ur"[المجادلة: 9] وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة.
ووصف نفسه بالتكليم في قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى $VJٹخ=ٍ6s?"[النساء: 164] وقوله: ((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ ¼çmڑ/u'"[الأعراف: 143] وقوله: ((y7ù=د? الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ "[البقرة: 253]، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله: ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ ×ûüدBr&"[يوسف: 54] وليس التكليم كالتكليم.
ووصف نفسه التنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة، فقال: ((ّŒخ)ur أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ çژچخ6y‚ّ9$#"[التحريم: 3] وليس الإنباء كالإنباء.(1/99)
ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال: ((ك`"oH÷qچ9$# (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ tb$ut6ّ9$#"[الرحمن: 1-4] وقال: ((تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ " [المائدة: 4] وقال: ((ô‰s)s9 مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ spyJٍ6دtّ:$#ur"[آل عمران: 164] وليس التعليم كالتعليم.
....................................................................................
وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: ((|=إزxîur اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ "[الفتح: 6] ووصف عبده بالغضب في قوله: (($£Js9ur رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ $Zےإ™r&"[الأعراف: 150] وليس الغضب كالغضب.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر ذلك في آيات من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره، في مثل قوله: (((#¼âqtGَ،tFد9 عَلَى ¾حnح'qكgàك"[الزخرف: 13] وقوله:((#sŒخ*sù اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى إ7ù=àےّ9$#" [المؤمنون: 28] وقوله: ((وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ " [هود: 44] وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال: ((دMs9$s%ur الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ "[المائدة: 64] ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله: ((ںwur تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ إفَ،t6ّ9$#"[الإسراء: 29] وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم. ونظائر هذا كثيرة.(1/100)
فلابد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى -كان معطلاً، جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات. ومن قال: [له](1) علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حُبٌ كحبي، أو رضاً كرضاي، أو يدان كيديَّ، أو استواء كاستوائي- كان مشبهاً، ممثلاً لله بالحيوانات، بل لابد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.
....................................................................................
ويتبين هذا بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين -ولله المثل الأعلى- وبخاتمة جامعة.
قوله: "ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة..." إلخ.
ذكر المؤلف جملة من النصوص التي ذكر فيها الله تعالى بعض صفاته ومنها: المناداة، والمناجاة، والتكليم، والإنباء، والتعليم، والغضب؛ ووصف بعض خلقه بهذه الصفات نفسها، وكل صفة من هذه الصفات لها معنى عام كلي عند الإطلاق يشترك فيه الخالق والمخلوق، ولها معنى خاص عند الإضافة والتخصيص، فإذا أضيفت إلى الرب تعالى صار لها معنى خاص بالرب تعالى لا يشركه فيه المخلوق، وإذا أضيفت إلى المخلوق كان لها معنى خاص بالمخلوق يليق به، لا يماثل صفة الخالق -سبحانه وتعالى-.
وصفة الله تعالى لا نعلم كنهها وحقيقتها.
والمناداة هي الخطاب بصوت مرتفع، والمناجاة بصوت خفي؛ ووصف الله تعالى بالمناداة والمناجاة والتكليم دليل على أن كلامه بصوت خلافاً لقول الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى النفسي، وأن ما سمعه موسى وما في القرآن إنما هو عبارة عن كلام الله.
والغضب ضد الرضى، وهو مستلزم لكراهة المغضوب عليه، وهو بهذا المعنى عام مشترك، ثم إذا أضيف إلى الخالق سبحانه صار له معنى يخصه، وإذا أضيف إلى المخلوق صار له معنى يخصه.
فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه.
__________
(1) سقطت من بعض النسخ.(1/101)
....................................................................................
فمن جحد ما وصف الله به نفسه كان معطلاً بجحده ونفيه لصفات الله تعالى، وكان أيضاً ممثّلاً لله تعالى بالمعدومات والجمادات، لأن ذلك من مستلزمات التعطيل.
ومن شبه صفات الله تعالى بصفات خلقه، كان ممثّلاً لله تعالى بخلقه.
والواجب أن يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات بلا تمثيل، وأن ينزه عن صفات النقص بلا تعطيل.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- أن ما سبق يتبين ويتضح بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين، وبخاتمة جامعة.
أما الأصلان اللذان أشار إليهما المؤلف هنا فهما غير الأصلين اللذين سبق ذكرهما وهما التوحيد، والشرع والقدر.
فالمراد بالأصلين هنا هما الأصلان اللذان يمكن أن يناقش على ضوئهما نفاة الصفاة وهما:
1- أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
2- أن القول في الصفات كالقول في الذات.
وأما المثلان والقياسان اللذان ذكرهما المؤلف فهما:
1- مقارنة موجودات الآخرة بموجودات الدنيا.
2- الروح.
فصل
فأما الأصلان:
فأحدهما - أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
فإن كان المخاطب ممن يقرّ بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة. ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه، وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.
قيل له: لا فرق بين ما نفيته، وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.
وإن قال: إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام.(1/102)
قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق. قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يُلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه. قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
....................................................................................
فهذا المفرِّق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبيّن للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات. فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك.
قوله: "فأما الأصلان فأحدهما..." إلخ.
بدأ الشيخ بالكلام عن الأصل الأول، وهو أن "القول في بعض الصفات كالقول في بعض".
وهذا الأصل الذي ذكره الشيخ صحيح معقول، ومعناه أن حكم الصفات واحد، فما يجب في بعضها من إثبات أو نفي، أو لزوم تمثيل، يجب في بعضها الآخر وذلك أنها متماثلة من حيث أن الموصوف بها واحد، ومصدرها واحد، والواجب التسوية بين المتماثلات.
وفي هذا الأصل يرد الشيخ -رحمه الله- على أهل التعطيل باختلاف فرقهم من أشاعرة ومعتزلة وجهمية وفلاسفة، وكل من نفى شيئاً من الصفات بحجة استلزام إثباتها للتمثيل.
وقد بدأ الشيخ بالرد على المشهور من مذهب الأشاعرة، وهو إثبات سبع صفات، وتأويل، أو تفويض الباقي.(1/103)
فهم يثبتون الحياة والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، حقيقة وينازعون في بقية الصفات كالمحبة، والرضى، والغضب، والكراهة، ويجعلونها من قبيل المجاز، ويفسرونها إما بالإرادة، أي بإرادة الإنعام بالنسبة للمحبة والرضى، وإرادة الانتقام بالنسبة للغضب والكراهة، وإما أن يفسروها
....................................................................................
ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات فيقولون في المحبة -مثلاً- إنها النعم، وفي الغضب إنه العقوبات. فيقال لمن يفرق بين الصفات فيثبت بعضاً وينفي بعضاً، لا فرق بين ما أثبت وما نفيت، فإن كان ما نفيته يستلزم التشبيه عندك فعليك أن تنفي ما أثبته لاستلزامه التشبيه كذلك؛ لأن القول في بعض الصفات كالقول في بعض. فالموصوف بها واحد، ومصدر تلقيها واحد، وإن قال إن ما أثبته لا يستلزم التشبيه، فعليه أن يثبت البقية كذلك وإلا وقع في التناقض.
فيلزم هذا المفرق واحد من ثلاثة ليخرج من تناقضه:
1- إما أن يثبت الجميع على وجه التمثيل، وهذا باطل ينكره الجميع.
2- وإما أن يثبت الجميع على وجه يليق بالله تعالى، يعني بدون تمثيل، وهذا هو الحق.
3- وإما أن ينفي الجميع، فيلحق بالمعتزلة وسيأتي الكلام معهم.
فإن فسر ما ينفيه من صفات الله تعالى بمعاني صفات المخلوقين، كقوله في الغضب -مثلاً- إنه غليان دم القلب لطلب الانتقام. قيل له: وكذلك يمكن أن تفسر معاني ما تثبته من صفات الله تعالى بمعاني صفات المخلوقين، كأن يقال في الإرادة إنها: ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة.
فإن قال: الإرادة بهذا المعنى إرادة المخلوق، قيل له: والغضب بالمعنى الذي فسرته غضب المخلوق، فلا يلزم من نفي معنى الصفة المختص بالعبد نفي المعنى الحق اللائق بالله تعالى، فعليك كما أثبت إرادة تليق بالله ليست كإرادة المخلوق وهكذا في بقية الصفات التي تثبتها، عليك أن تثبت لله غضباً يليق به تعالى ليس(1/104)
....................................................................................
كغضب المخلوق، وهكذا في سائر الصفات التي تنفيها بحجة استلزامها للتشبيه. وبياناً لتناقض هذا المفرق، وهو الأشعري، فإنه يحتج عليه بكلامه مع خصمه المعتزلي الذي ينفي الصفات التي يثبتها هو، فإذا قال المعتزلي للأشعري: ليس لله تعالى إرادة، ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإن هذا الأشعري الذي يثبت الكلام والإرادة لله تعالى يرد على المعتزلي بقوله: إن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات.
فهكذا يقول له -أهل السنة- المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك، أي إنه يتصف بها الرب ولا تكون كصفات المخلوقات(1).
فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دلَّ على القدرة، والتخصيص دلَّ على الإرادة، والإحكام دلَّ على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع البصر والكلام أو ضدّ ذلك.
قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان:
أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت. والسمع قد دلَّ عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.
قوله: "فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل..." إلخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/353، 6/45، 117-124، درء التعارض 1/128، مختصر الصواعق لابن القيم 1/22 وما بعدها.(1/105)
أي فإن قال هذا المفرق إنما أثبته من الصفات السبع دل العقل على إثباته، وبيان ذلك: أن الفعل الحادث دل على القدرة، أي فهذه المخلوقات دالة على قدرة الخالق، والتخصيص دل على الإرادة، أي تخصيص بعض المخلوقات بأشياء دون بعض دليل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، فإحكام وإتقان الصنعة دليل على العلم، وهذا العالم في غاية الإتقان والسنن الثابتة المنتظمة، وهذه الصفات الثلاث، القدرة، والإرادة، والعلم، لا تكون إلا للحي فهي دالة على الحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك من الصمم والعمى والخرس، وهذا الضد باطل وممتنع في حق الله تعالى، فوجب وصفه بالسمع والبصر والكلام.
....................................................................................
وأهل السنة والجماعة لا ينازعون الأشاعرة في إثبات الصفات السبع، ولا في طريقة إثباتها بالعقل، لأنه استدلال صحيح، فهي ثابتة بالعقل كما أنها ثابتة بالشرع، وإنما ينازعونهم في بقية الصفات التي نفوها.
فيقال لهذا الذي أثبت سبع صفات لدلالة العقل عليها دون بقية صفات الله تعالى التي يرى أن العقل لا يدل عليها يقال لك عن هذا جوابان(1):
الجواب الأول: أن يقال افرض أن العقل دل على الصفات السبع، ولم يدل على بقية الصفات، فلو سلمنا جدلاً بذلك فإن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، لإمكان أن يثبت بدليل آخر، فعدم الدليل العقلي على ما نفيت من الصفات لا يدل على نفي تلك الصفات، فليس لك أن تنفي ما لم يدل عقلك عليه، فإن من المقرر أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل، فمجرد عدم دلالة العقل على إثبات صفة لا يكفي دليلاً على نفيها، بل لابد من دليل على نفيها.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 6/46، الأصفهانية ص 8-10.(1/106)
والمطالبة بالدليل يكون في الأشياء الخارجة عن أصلها إثباتاً أو نفياً، أما ما كان الأصل فيه الإثبات أو النفي فالبناء على الأصل هو الدليل.
وهناك قاعدة أصولية وهي: عدم العلم ليس علماً بالعدم.
ثم يقال لهذا النافي لما عدا الصفات السبع بحجة عدم دلالة العقل عليها إن السمع -أي الشرع- قد دل على إثبات ما نفيته، ولم يعارض هذا الدليل السمعي معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض
....................................................................................
المقاوم.
فالدلالة ليست منحصرة في العقل، بل هناك أدلة أخرى، فما لم يثبت بالدليل العقلي يمكن إثباته بالدليل السمعي. ونظير ذلك أن ما لم يثبت بالقرآن يمكن أن يكون ثابتاً بالسنة كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فليس لأحد أن ينفي دلالة السنة على ذلك لعدم دلالة القرآن عليه.
الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم، يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدلّ على محبتهم، وعقاب الكفّار يدلّ على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته -وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدلّ على حكمته البالغة؛ كما يدلّ التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته، من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة.
قوله: "الثاني أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات..." إلخ.
هذا هو الجواب الثاني في الرد على من ينفي ما سوى الصفات السبع بحجة عدم دلالة العقل عليها.(1/107)
وهو جواب بالمعارضة وعدم التسليم، فيقال له: يمكن إثبات ما نفيته أو بعض ما نفيته بنظير ما أثبت به الصفات السبع من العقليات(1)، فمثلاً: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد أي بالمشاهدة، والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه كنصر موسى -عليه السلام- وإهلاك فرعون وجنوده.
....................................................................................
والغايات المحمودة: أي العواقب الحميدة والثمرات والنتائج الطيبة التي تترتب على مفعولاته -أي مخلوقاته- ومأموراته -أي شرائعه- هذه العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى.
أي: أن دلالة العواقب الحميدة على الحكمة، أولى من دلالة التخصيص على المشيئة لقوة العلة الغائية، أي أن العلة الغائية أقوى تأثيراً في حصول الفعل من العلة الفاعلية، لأن العلة الفاعلية لا تستلزم وجود الفعل، أما العلة الغائية فهي تستلزم وجود الفعل مع العلة الفاعلية في الجملة.
والعلة الغائية هي: الحكمة، وهي ما يفعل الشيء لأجله، وتدخل عليها لام التعليل، ويقابلها العلة الفاعلية وهي: التي يكون بها الشيء، وتدخل عليها باء السببية. فإذا كتبت فائدة علمية، فيدك وقلمك والقرطاس هذه علة فاعلية أي يكون بها الشيء، ونفس الفائدة العلمية علة غائية أي لأجلها حصلت الكتابة.
وما جاء في القرآن من الكلام عما في المخلوقات من النعم والحكم أعظم وأكثر مما فيه من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة(2).
وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات، ويقر بالأسماء، كالمعتزلي، الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/299.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/35-48، 398-401.(1/108)
قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات(1) الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً وتجسيماً، لأنا لا نجد في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم. قيل لك: ولا نجد(2) في الشاهد ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء، بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم.
فكل ما يحتج به من نفى الصفات، يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً لذلك كان جواباً لمثبتي الصفات.
قوله: "وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات..." إلخ.
الخطاب هنا مع المعتزلي الذي ينكر الصفات، ويقر بالأسماء فيثبت لله -مثلاً اسم الحي والعليم والقدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة.
فهذا يرد عليه في ضوء الأصل المتقدم، فيقال: القول في الصفات كالقول في الأسماء، فلا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات، فإن كان إثبات الأسماء لا محذور فيه فكذلك الصفات، وإن كان إثبات الصفات فيه محذور فكذلك الأسماء، فيلزمه أحد ثلاثة أمور ليخرج من تناقضه:
....................................................................................
1- أن ينفي الجميع، الأسماء والصفات، فيخرج عن مذهبه إلى مذهب الجهمية.
2- أو يثبت الجميع وإن لزم عليه محذور التمثيل.
3- أو يثبت الجميع على الوجه اللائق بالله تعالى وهذا هو الحق.
فإن قال هذا المعتزلي الذي يثبت الأسماء وينكر الصفات: إن إثبات الصفات كالحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً وتجسيماً، لأنا لا نجد في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم(3).
__________
(1) في بعض النسخ: وبين إثبات.
(2) في نسخة: تجد.
(3) درء التعارض 1/127-130.(1/109)
قيل له: وكذلك لا نجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن كنت نفيت الصفات لأنك لا تجد في الشاهد متصفاً إلا الجسم، فيلزمك نفي الأسماء، بل ونفي كل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم.
وقول المؤلف: "فكل ما يحتج به من نفى الصفات -يعني المعتزلي- يحتج به نافي الأسماء الحسنى -يعني الجهمي، فما كان جواباً لذلك- يعني المعتزلي على الجهمي -كان جواباً لمثبتي الصفات" يعني على المعتزلي.
فالحجة التي نفى بها المعتزلي الصفات يحتج بها الجهمي على نفي الأسماء، وما يرد به المعتزلي على الجهمي لنفيه الأسماء، يرد به أهل السنة والجماعة على المعتزلي لنفيه الصفات.
وإن كان المخاطب من الغلاة، نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود، الحي العليم القدير.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
قوله: "وإن كان المخاطب من الغلاة..." إلخ.
الخطاب هنا مع صنف من الغلاة، وهم الذين ينفون الأسماء والصفات وهؤلاء غلاة بالنسبة للمعتزلة، وكل الغلاة ينفون الأسماء والصفات وهذا الوصف يصدق على الجهمية والفلاسفة، بل وحتى الباطنية وإن كان الباطنية عندهم غلو أعظم من ذلك.
وشبهة من نفى أسماء الله وصفاته فقال إن الله -تعالى- ليس بحي ولا عليم ولا قدير وليس بموجود وليس له حياة ولا علم ولا قدرة، وهكذا بقية الأسماء والصفات، وشبهته في ذلك أن إثباتها يستلزم تشبيه الله بالموجود الحي العليم القدير، فيحمل ما جاء في القرآن من أسماء الله وصفاته على أنها أسماء لمخلوقاته، أو أنها مجاز.
وهذه الشبهة عنها جوابان:(1/110)
الأول: على فرض التسليم بأن إثبات هذه الأسماء والصفات يسلتزم التشبيه بالموجودات، فيقال: ونفي الأسماء والصفات يسلتزم التشبيه بالمعدومات، وهو أقبح من التشبيه بالموجودات.
....................................................................................
الثاني: سيذكره الشيخ فيما بعد، ومضمونه الجواب بالمنع وهو أنه لا يلزم من اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات عند الإطلاق التشبيه الذي نفته الأدلة العقلية والنقلية. فالاتفاق في القدر المشترك والمعنى الكلي عند الإطلاق لم تنفه الأدلة، ولا يستلزم التشبيه، وإنما المنفي ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق أو المخلوق.
فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم، أو الحياة والموت، والعلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل.
قوله: "فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات..." إلخ.
أي: أن هذا النافي للأسماء والصفات لما أُلزم بالتشبيه بالمعدومات انتقل من الوصف بالنفي فقط إلى الوصف بالنفي، ونفي النفي، يعني ينتقل من نفي الصفات الثبوتية إلى نفي النقيضين فيقول: لا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا حي ولا ميت، فانتقل عن أن يكون جهمياً غالياً إلى أن يكون باطنياً.
والجواب عن هذا الذي ينفي النقيضين أنه يلزم منه التشبيه بالممتنعات، فإن سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات، والممتنع أبعد عن الكمال من المعدوم الممكن(1).
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/355-361.(1/111)
فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما.
قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان، تقابل السلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر.
وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل؛ فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية، وقد قال الله تعالى: ((ڑْïد%©!$#ur يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ ڑcqèWyèِ7مƒ"[النحل: 20-21] فسمى الجماد ميتاً وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.
قوله: "فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين..." إلخ.
هذا اعتذار ممن ينفي النقيضين عن إلزامه تشبيه الله -تعالى- بالممتنعات حيث قال: إن هذا الإلزام يلزم من ينفي النقيضين عن القابل لهما، أما ما ليس قابلاً لهما فيجوز نفيهما عنه، فالجدار -مثلاً- لما كان غير قابل للحياة والموت، والعمى والبصر، ونحو ذلك صح نفي هذين المتقابلين عنه، فيقال ليس بحي ولا ميت، ولا أعمى ولا بصير ونحو ذلك، والله تعالى غير قابل للاتصاف بالصفة ولا ضدها فيصح نفيهما عنه.
وقبل ذكر الرد عليه نبين بعض المصطلحات الواردة في كلام المؤلف:
فالنقيضان هما: المتقابلان اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً في شيء واحد مثل: السلب والإيجاب، والوجود والعدم.
....................................................................................
والضدان هما: الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان كالسواد والبياض، فإنه يمتنع أن تكون نقطة سوداء وبيضاء في وقت واحد لكن يمكن أن تكون حمراء.(1/112)
والعدم والملكة هما: الأمران المتقابلان اللذان، أحدهما وجودي والآخر عدمي، وهو عدم ذلك الوجودي عما من شأنه أن يقبله كالحياة والموت بالنسبة للإنسان فيمتنع نفيهما عنه.
فهذا النافي للصفة وضدها كالحياة والموت، والبصر والعمى، لما قيل له إنه يلزم من ذلك نفي النقيضين وهو ممتنع، قال: إن هذا الإلزام إنما يلزم في النقيضين، وهذه المتقابلات من قبيل العدم والملكة لا من قبيل السلب والإيجاب، والمتقابلان تقابل العدم والملكة يجوز نفيهما عمّا ليس قابلاً لهما.
ويرد على من نفي النقيضين عن الله -بنفيه الصفة وضدها- بحجة أن الله غير قابل للاتصاف بذلك يرد عليه بجوابين:
الجواب الأول: المنع، والجواب بالمنع من ناحيتين:
أ- سلمنا صحة نفي النقيضين عن الله تعالى على أنهما يتقابلان تقابل العدم والملكة، فلو صح ذلك في الصفات، فإنه لا يصح في الوجود والعدم، لأنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، لا تقابل العدم والملكة، باتفاق العقلاء، فإنه يلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر في أي شيء.
ب- أن ما ذكرته من أن الحياة والموت والعلم والجهل يصح نفيهما عما ليس قابلاً لهما فهذا اصطلاح اصطلح عليه الفلاسفة المشاؤون -أتباع أرسطو وسموا بذلك لأنهم يتعلمون فلسفتهم حال مشيهم- فهو اصطلاح فلسفي، وليس حكماً
....................................................................................
عقلياً ولا شرعياً، والاصطلاحات اللفظية لا تدل على نفي الحقائق العقلية، ولا تغير منها شيئاً.
فدعوى أنه يجوز نفي هذه المتقابلات عما ليس قابلاً لها كما مثلوا في نفي الحياة والموت عن الجدار، هذا اصطلاح فلسفي أما عند العقلاء وفي لغات العالم فالجدار ميت، والحجر ميت، والعصا ميتة، ودعوى أن الجدار غير قابل للحياة وكذا العصا غير مسلّم، فالعصا قبلت الحياة كما في عصى موسى، والطين قابل للحياة، كما سيأتي في القاعدة الأولى.(1/113)
واستشهد الشيخ هنا بقول الله تعالى عن أصنام المشركين: ((ڑْïد%©!$#ur يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ ڑcqèWyèِ7مƒ"[النحل: 20-21].
فسمى الجماد ميتاً، وهذا معروف في لغة العرب وغيرهم(1).
وقيل لك، ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما. فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك.
وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم. وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات. وهذا غاية التناقض والفساد.
قوله: "وقيل لك ثانياً..." إلخ.
هذا هو الجواب الثاني من الرد وهو على فرض التسليم. والرد بهذا من وجهين:
أ- بالنسبة لهذه المتقابلات إذا سلمنا أنه يجوز نفيها عما ليس قابلاً لها، فما لا يقبل الاتصاف بواحد من هذه المتقابلات أعظم نقصاً من القابل لها، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجدار الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما -على حد زعمهم- فلو قالوا إن الله يقبل الاتصاف بالحياة والموت لكان أهون من قولهم إنه لا يقبل الاتصاف بهما -حسب اصطلاحهم- لأن ما لا يقبل كالجدار أعظم نقصاً من القابل لهما. فهذا فرّ من تشبيه الله تعالى بالأحياء القابلة للكمال، فوصفه بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/88، 538، الصفدية ص 90-96، درء التعارض 2/222-223، 4/9-10، 35-40، 159-160.(1/114)
....................................................................................
ب- وبالنسبة للوجود والعدم لو سلمنا جواز نفيهما عما ليس بقابل لهما فإذا كان من المعلوم بصرائح العقول امتناع وصف الشي بأنه موجود معدوم، أو نفي الوجود والعدم عنه، وإذا كان ذلك ممتنعاً عقلاً فإن جعل الشيء غير قابل للاتصاف بالوجود والعدم أعظم امتناعاً. فهذا الذي نفى الصفة وضدها عن الله ومنع قبول اتصاف الله تعالى بالوجود والعدم، جعل جود الرب الواجب الذي لا يقبل العدم جعله أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد.
وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين: الوجود والعدم. ورفعهما كجمعهما. ومنهم من يقول: لا أثبت واحداً منهما، وامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منها في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق.
وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدر قبوله لهما -مع نفيهما عنه- فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يقدر قابلاً لهما مع نفيهما عنه. وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً، وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود المقبول وجب.
وقد بسط هذا في موضع آخر، وبين وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
قوله: "وهؤلاء الباطنية: منهم من يصرح برفع النقيضين..." إلخ.(1/115)
يشير الشيخ هنا إلى من قال أنا أنفي النفي والإثبات، فمنهم من يصرح بنفي النقيضين فيقول: لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ومنهم من يقول أنا لا أثبت واحداً منهما، أي لا أقول موجود ولا معدوم، ولا لا موجود ولا لا معدوم(1)، فامتناعه عن إثبات أحدهما لا يغير من الواقع شيئاً، ولا
....................................................................................
يمنع تحقيق واحد منهما في نفس الآخر، بل هو مثل سكوت الساكت وجهل الجاهل.
وقول المؤلف: "وما جاز لواجب الوجود قابلاً، وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره...".
أي: إذا جاز أن يكون الله تعالى قابلاً للشيء، وجب أن يكون قابلاً له، لعدم توقف صفاته على غيره، فالممكن الذي يقبل الوجود لا يجب له الوجود، لأن وجوده متوقف على غيره، أما الله تعالى فلا يتوقف اتصافه بصفاته على غيره، فما جاز لواجب الوجود قبوله صار واجباً، أي بمعنى وجب أن يكون قابلاً(2).
فصفة العلم والسمع والبصر والحياة وغيرها من الصفات الذاتية واجبة لله تعالى، وأما الصفات الفعلية فتوصف بالجواز لا الوجوب.
وقيل له أيضاً: اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل، الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
قوله: "وقيل له أيضاً: اتفاق المسميين..." إلخ.
يرد الشيخ هنا على الجهمي الذي سبق ذكر شبهته في نفي الأسماء والصفات وهي شبهة استلزام الإثبات للتشبيه، وذكر الشيخ هناك أحد الجوابين عن هذه الشبهة وهو جواب بالتسليم.
وهنا يذكر الجواب الثاني وهو جواب بالمنع وهو:
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/327.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/76-77، الصواعق المرسلة لابن القيم 4/1323.(1/116)
أن اتفاق المسميين -عند الإطلاق- في الأسماء والصفات ليس هو التمثيل الذي نفته الأدلة العقلية والشرعية، فليس في إثبات القدر المشترك -الذي هو المعنى العام الكلي للصفة- تمثيل، وإنما التمثيل المنفي ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق سبحانه وتعالى، أو المخلوق، مما يختص بوجوبه، أو جوازه، أو امتناعه.
فأما ما يختص الرب بوجوبه فكالصفات الذاتية كالحياة والقدرة.
وأما ما يختص بجوازه فالصفات الفعلية كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة.
وأما ما يختص بامتناعه فالنقائص، وهذه هي أحكام العقل الثلاثة.
ومما يختص المخلوق بوجوبه الحدوث والافتقار.
ومما يختص المخلوق بجوازه عليه فكالحياة وبعض صفات الكمال والنقص.
ومما يختص المخلوق بامتناعه فكل ما يختص به الرب تعالى من صفات الكمال.
وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهال، الذين يظنون أن كل معنى سماه مسمٍ بهذا الاسم يجب نفيه. ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل.
وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغي والضلالة.
قوله: "وأما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل..." إلخ.
أي يقال لهذا الجهمي الذي ينفي أسماء الله وصفاته: إن ما نفيته ثابت بالأدلة الشرعية والعقلية، وتسميتك إثبات ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه وتلبيس على الجهال الذين تؤثر عليهم العناوين والأسماء المخالفة للحقائق؛ فيظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم الذي هو التشبيه يجب نفيه.
فالجاهل يتأثر بتسمية المعطل إثبات الصفات لله تعالى تشبيهاً وتجسيماً، فتؤثر هذه التسمية على دينه وعقله، ويبادر إلى تكذيب الحق المعلوم بالسمع والعقل، ويخرج إلى التعطيل المستلزم للكفر والجهالة، والغي والضلالة.(1/117)
أما أهل العلم والبصيرة فلا تؤثر عليهم هذه التسميات الكاذبة، والاصطلاحات الحادثة، فإن الاصطلاحات اللفظية الحادثة لا تغير ولا تنفي الحقائق العقلية والشرعية الثابتة.
فمن نفى التشبيه عن الله تعالى ممن لم يعرف باتباعه لمنهج أهل السنة والجماعة، فإنا نستفصل عن مراده بالتشبيه الذي نفاه، فإن قصد بذلك نفي
....................................................................................
صفات الله تعالى الثابتة له بحجة استلزام إثباتها للتشبيه، فيرد عليه نفيه، فليس في إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به تشبيه، وإن قصد بنفي التشبيه ما هو من خصائص المخلوق؛ فنعم.
وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع.
قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً.
فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيباً ممتنعاً.
وقوله: "إن قال نفاة الصفات..." إلخ.
يذكر المؤلف -رحمه الله- هنا شبهة أخرى لنفاة الصفات، وهي شبهة معروفة عن الفلاسفة حيث زعموا أن إثبات صفات متعددة متغايرة المعنى كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر يلزم منه التركيب، أي يلزم منه أن تكون ذات الله -تعالى وتقدس- مركبة فيجب نفي الصفات، لاستلزامها هذا المعنى الممتنع الباطل.
والمركب -على وجه التقريب-: هو المكون من شيئين مثلاً يعني المنقسم، وله معان في اللغة والاصطلاح، وهو في اصطلاح الفلاسفة ما يُميَّز فيه وجه عن وجه، يعني ما يتميز بعضه عن بعض، فيكون متميزاً له جوانب ومعان.(1/118)
وهم يغلون في توحيد الله، فيقولون إنه واحد من جميع الوجوه، ومن هنا نفوا الصفات، لأنها تتضمن إثبات معان للذات الواحدة.
....................................................................................
ويجيب الشيخ عن هذه الشبهة المعروفة بـ"شبهة التركيب" عند الفلاسفة، بأنا لو سلمنا جدلاً بأن إثبات الصفات تركيب فأنتم -أيها الفلاسفة- تقولون: بأن الله تعالى: موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، وهذه معان متعددة ومتغايرة، وهو تركيب عندكم(1) ومع ذلك تثبتونه لله تعالى وتسمونه توحيداً، فإن كان إثبات هذه المعاني عندكم توحيداً، فإثبات الصفات لله تعالى توحيد، وإن كان إثبات الصفات لله تعالى يعد عندكم من التركيب الممتنع، لإفادتها معان متعددة، فكذلك ما أطلقتموه على الله تعالى يعد تركيباً ممتنعاً، يعني أنا نقول لكم فيما نفيتم كما تقولونه فيما أثبتم، ونقول لكم فيما أثبتم ما تقولونه فيما نفيتم.
- وإطلاق الفلاسفة على الله تعالى بأنه "عقل" لا يجوز لما يلي:
1- أنه لفظ مبتدع لم يرد به الشرع.
2- أنه مأخوذ من العقال، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن الوقوع فيما لا يحسن، ويمنعه عنه، وهذا المعنى لا يليق بالله تعالى لأنه يشعر بنقص يناسب المخلوق. بل الله تعالى عالم، وعليم، وعلام الغيوب -سبحانه وتعالى-.
وأما القول بأنه معقول فهذه اللفظة تتضمن نسبة العقل إلى الإنسان، فهو يعقل صفات الله تعالى، أي يعلمها ويفهم معناها بعقله، فالمسألة هنا أسهل.
- وكذلك إطلاق لفظ عشق وعاشق ومعشوق لا يجوز في حق الله تعالى لما يلي:
....................................................................................
1- أنه لم يرد في الشرع بل هو لفظ مبتدع.
__________
(1) درء التعارض 1/100، منهاج السنة 2/540-561.(1/119)
2- أنه يتضمن معنى لا يناسب في حق الرب تعالى، بل يقال فيه، ويطلق عليه ما ورد في الكتاب والسنة من أن الله تعالى يحب أولياءه ويحبونه.
- بقي سؤال هنا وهو هل يجوز إطلاق لفظ التركيب على الله تعالى نفياً أو إثباتاً؟
والجواب: أن يقال إن لفظ التركيب كغيره من الألفاظ المحدثة، والمحتملة، مثل التجسيم والتشبيه، فقد يتضمن نفيها نفي المعنى الحق، وقد يتضمن إثباتها إثبات المعنى الباطل، ولذا وجب الاستفصال والتفصيل، فلا تنفى مطلقاً، ولا يثبت معناها مطلقاً.
وقد ناقش شيخ الإسلام هذا المعنى في بعض كتبه كالمنهاج(1) وغيره، وبين أن المركب يحتمل معان منها:
1- ما كان متفرقاً ثم اجتمع.
2- ما يقبل الانقسام والتفرق.
3- ما تقوم به العديد من الصفات -كما عند الفلاسفة.
فالأول والثاني باطلان ممتنعان على الله تعالى لأنه سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولا تجزّؤ في ذاته.
....................................................................................
وأما الثالث فهو باطل من جهة اللغة، فليس في لغة العرب تسمية الواحد الموصوف بالصفات مركباً.
وأما من جهة المعنى فهو ثابت لله تعالى وإن سماه الفلاسفة تركيباً، فالاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية.
وذلك أنه من المعلوم في صريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع.
__________
(1) منهاج السنة 2/164-180، درء التعارض 3/402-405، 419-420، 5/140-147، وفهرس مجموع الفتاوى 36/113.(1/120)
وحينئذ، فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب، كان وجود كل مخلوق -يعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي، الذي لا يقبل العدم.
وإذا قدّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذٍ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير.
قوله: "وذلك أنه من المعلوم..." إلخ.
يؤكد الشيخ ما سبق في رده على الفلاسفة في شبهة التركيب، فيبين أنه من المعلوم بصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، وهذا فيه رد على الفلاسفة في قولهم إن العلم هو القدرة، وهكذا بقية الصفات، فكل صفة معناها هو معنى الصفة الأخرى.
كما أنه من المعلوم أن نفس ذاته ليس هو معنى كونه عالماً قادراً، وهذا يرجع إلى إبطال قولهم: إن الصفة هي الموصوف.
فمن جوز أن تكون الصفة هي الصفة الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، أي: مناقضة للعقول، ثم إن من قال بهذا القول فإنه متناقض، ووجه تناقضه أنه إذا جوز الوحدة بين هذه المعاني
....................................................................................
المتعددة المختلفة، إذا جوّز ذلك لزمه أن يجوز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، أي: وجود هذا الممكن هو وجود ذاك الممكن، فوجود هذا الإنسان هو وجود ذلك الإنسان الآخر، والثالث، والرابع وهلمّ جرّا من بقية الموجودات من حيوانات وجمادات ومن جميع المعاني المتعددة. فإذا جعل العلم هو القدرة، والسمع هو البصر وهكذا، وجعل العلم هو العالم، فطرد ذلك أن يكون وجود الموجودات واحداً، فالوجود عنده واحد بالعين لا بالنوع.
والواحد بالعين هو الذي لا يقبل الشركة، أي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.
والواحد بالنوع هو المشترك أي الذي لا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه.(1/121)
فهؤلاء جعلوا الوجود واحداً، جعلوا الوجود الواحد بالنوع واحداً بالعين، فصار وجود الممكن هو وجود الواجب، أي صار وجود المخلوق الذي يعدم بعد وجوده، ويوجد بعد عدمه -صار هذا- هو نفس وجود الرب الو(3) الغني عن كل ما سواه، الذي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، وإذا كان الواقع كما يقوله هؤلاء الفلاسفة لزم أن يكون الوجود الواجب -أي وجود الرب تعالى- موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وعيب، طالما أنه لا فرق بين وجود الواجب والممكن، أي الخالق والمخلوق.
وهذا اللازم يصرح به أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، أي عمموه وأطلقوه والتزموا به.
....................................................................................
وقد تبين مما سبق أن أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير، أي سواء أجيب عنها بفرض التسليم أو بالمنع، كما سبق في نقاش الأشاعرة والمعتزلة والجهمية والفلاسفة والباطنية.
وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصفات، لا ينفي شيئاً -فراراً مما هو محذور- إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلابد له في آخر الأمر من أن يثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، فيقال له: وهكذا القول في جميع الصفات، وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.
قوله: "وهذا باب مطرد..." إلخ.
يختم الشيخ هذا الأصل بالإشارة إلى تناقض المخالفين النفاة الذين ينفون ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صفات الله تعالى سواء نفياً عاماً أم نفياً لبعضها.(1/122)
فكل من نفى شيئاً مما جاء في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من صفات الله تعالى، فراراً من محذور متوهم لديه، فلابد أن يثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه(1).
ولابد لهذا النافي أن يثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، وإلا خرج إلى التعطيل والجحد المحض لوجود الرب تعالى.
وإذا أثبت موجوداً متصفاً بصفات تميزه عن غيره ليس كسائر الموجودات، قيل له: وهكذا القول في جميع الصفات، أي فنثبتها على وجه يليق بالله تعالى ليس مماثلا فيها لشيء من خلقه.
....................................................................................
وبعد إثبات الأسماء والصفات فلابد أن يعلم بأنها تدل ويفهم من معانيها قدر مشترك تتواطأ أي تتفق فيه المسميات مثال ذلك: إذا قلنا: الله موجود. فإنه يدل على قدر مشترك يدل على مطلق الوجود وهو مسمى الاسم المطلق: وجود أو موجود فنفهم من قولنا: الله موجود، المعنى العام الكلي المشترك للفظ الوجود، كما نفهم منها ما يدل عليه التخصيص والإضافة إلى الرب تعالى مثل كون وجوده واجباً قديماً ونحو ذلك.
ولابد من هذا القدر المشترك الذي تتفق فيه المسميات، ولولا ذلك لما فهم الخطاب، فإذا قرأنا قوله تعالى: ((ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " فنفهم من قوله الحي قدراً مشتركاً، ومعناً عاماً، هو مسمى الاسم المطلق للفظ الحي، وهو كونه ذو حياة، والحياة ضد الموت، ولابد من وجود هذا القدر المشترك حتى يفهم الخطاب، ولو لم يكن هذا المعنى مفهوماً لم نعلم معاني أسماء الله وصفاته، ولم نميز بينها. ولكان الله تعالى خاطبنا بما لا نعقل ولا نفهم.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/351-353.(1/123)
ومع ذلك يجب أن نعلم أن ما اختص الله تعالى به عن خلقه من معاني صفاته من حياة وسمع وبصر وقدرة وغير ذلك فوق وأعظم مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، لأن كنه صفات الله تعالى وحقائقها لا ندركها ولا يمكن أن نحيط بها أو نتخيلها.
وهذا يتبين بالأصل الثاني -وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟
قيل له: كيف هو؟
فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته.
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له. فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه، وأنت لا تعلم كيفية ذاته!
وإذا كنت تقر بأن له ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره، وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم، وكلامهم ونزولهم واستواؤهم.
قوله: "وهذا يتبين بالأصل الثاني..." إلخ.
هذا هو الأصل الثاني من الأصلين اللذين سبق أن نوه عنهما المؤلف بقوله: "وهذا يتبين بأصلين شريفين..".
....................................................................................
فالأصل الأول سبق الكلام فيه وهو "أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض"، وقد رد به المؤلف على الأشاعرة والمعتزلة والجهمية والفلاسفة والباطنية.(1/124)
وأما الأصل الثاني فهو الذي ذكره المؤلف هنا بقوله: "القول في الصفات كالقول في الذات"، يعني أن حكم الذات والصفات واحد، فما يقال في أحدهما من إثبات أو نفي يقال في الآخر، وما يوصف به أحدهما من تنزيه أو تمثيل يصدق على الآخر، فالقول فيهما واحد.
وجميع الطوائف يقرون بأن لله تعالى ذاتاً وحقيقة ثابتة في نفس الأمر، ولا تشبه سائر الذوات فيقال لهم: فكذلك هذه الذات موصوفة بصفات لا تشبه صفات المخلوقين، فالله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهذا الأصل يمكن أن يرد به على جميع الطوائف، لكن أخص من يرد به عليه من الطوائف الجهمية، كما يمكن أن يرد به على أهل التكييف، الذين يذكرون لصفات الله كيفية، أو يسألون عن كيفيتها.
ولفظ "الذات" لم يرد في النصوص الشرعية إطلاقه على الله تعالى إلا فيما يضاف إليه من شرائعه كما في شعر خبيب لما أرادوا قتله قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
يقول أهل اللغة إن ذات مؤنث لفظ "ذو" بمعنى صاحب، ولم تأت في اللغة بمعنى الحقيقة، فيقال جاء محمد نفسه ولا يقال ذاته(1)، وقيل بل ورد وإن كان
....................................................................................
قليلاً كما في الأثر "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذات الله"(2)
__________
(1) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 3/334.
(2) قال الزبيدي: "رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني في الأوسط، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي وضعفه والأصبهاني، وأبو النصر في الإبانة. وقال: غريب.. وقال السخاوي: وهذه الأخبار أسانيدها ضعيفة، لكن اجتماعها يكسبها قوة،ومعناه صحيح".
انظر تخريج أحاديث إحياء علوم الدين 6/2457-2459، كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1/311.
وذكر الحافظ ابن حجر نحو هذا اللفظ موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما. وقال "وسنده جيد" كما في فتح الباري 13/383.(1/125)
.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
فإنه يجاب بما جاء عن بعض السلف كالإمام ربيعة بن أبي عبدالرحمن(1) والإمام مالك(2) وغيرهما(3) من الجواب المحكم والذي جاء فيه:
الاستواء معلوم: يعني معلوم معناه في اللغة وهو علا وارتفع.
والكيف مجهول: أي: كيفية الصفة مجهولة لنا، فالواجب إمرارها كما جاءت دون سؤال عن كيفيتها.
والإيمان به واجب: أي: الإيمان بالاستواء واجب لأنه داخل في الإيمان بالله وكتبه ورسله، وهو من مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، لأن من مقتضاها تصديقه فيما أخبر، واستواء الرب تعالى على العرش هو مما أخبرنا الله به في كتابه وبلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
....................................................................................
والسؤال عن الكيفية بدعة؛ فلم يكن من منهج السلف السؤال عن كيفية صفات الرب تعالى، لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
فالسؤال عما استأثر الله بعلمه بدعة، ثم إنه طلب شيء لا سبيل إليه، وليس هذا من شأن العاقل.
وهذا الجواب المأثور عن بعض السلف في السؤال عن كيفية الاستواء يمكن أن يقال في السؤال عن كيفية أي صفة من صفات الله تعالى.
ثم ذكر المؤلف جواباً آخر لمن سأل عن الكيفية، فإذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟
قيل له: كيف هو؟ أي يسأل عن كيفية ذات الرب تعالى.
فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته.
__________
(1) أخرجه اللالكائي 3/398، وذكر شيخ الإسلام أنه رواه الخلال، ورجال إسناده كلهم أئمة ثقات، الفتوى الحموية 5/40، مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
(2) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 515-516.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/365.(1/126)
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذا العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، فإذا انتفى العلم بكيفية الموصوف، انتفى العلم بكيفية الصفة بطريق الأولى. فكيف تطالب بالعلم بكيفية الصفات وأنت لا تعلم كيفية الذات(1).
فإذا كنت تقر بأن لله تعالى ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء من خلقه، فكذلك سائر صفاته سبحانه وتعالى، فإنه يجب إثباتها ونفي مماثلتها لصفات الخلق، ونفي العلم بكيفيتها.
وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً ونفى شيئاً، بالعقل إذاً ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة، نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقاً.
ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض -الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِمَ تأولتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح. فهذا تناقضهم في النفي.
قوله: "وهذا الكلام لازم لهم في العقليات..." إلخ.
أي إلزام من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بأن يثبت الكل دون تفريق بين المتماثلات، أو ينفي الكل، وإلا وقع في التناقض، كما ألزمنا من أثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات بأن يثبت لله تعالى أيضاً صفات لا تشبه الصفات، ولا تعلم كيفيتها، فهذا الاحتجاج والإلزام بالتسوية بين المتماثلات، وترك التناقض، هذا لازم حتى في العقليات، وفي تأويل السمعيات.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/114.(1/127)
فإن من نفى شيئاً أو أثبت شيئاً من صفات الله تعالى بالعقل، فإنه يلزم فيما نفاه من الصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسنة بنظير ما أثبته، والعكس كذلك، وإلا وقع في التناقض، كما سبق من أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض. كما سبق الجواب عمن زعم أن العقل يدل على إثبات بعض الصفات دون بعض.
....................................................................................
ولو طولب هذا المفرق بين الصفات بين المحذور في هذا والمحذور في هذا لم يجد فرقاً صحيحاً، بل هو متناقض، وحجته داحضة، وإذا كان الأمر كذلك وجب إثبات كل ما جاء به الدليل الصحيح السالم عن المعارض من صفات الله تعالى.
ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض قانون وقاعدة مطردة مستقيمة، بل هم متناقضون -كما سبق- فيثبتون بعض الصفات على ظاهرها. وينفون بقية الصفات، ويمنعون إجراءها على ظاهرها؛ فهم مفرقون بين الصفات ونصوص الصفات دون قانون مستقيم، وليس لهم جواب صحيح عن هذا التناقض الظاهر في التفريق بين المتماثلات.
ثم إن هؤلاء المتناقضين لهم تجاه نصوص الصفات التي ينفونها أحد طريقين: إما التفويض وإما التأويل.
فأما التفويض: فهو عندهم إجراء النصوص على ظاهرها من غير فهم لمعناها، فليس لها معنى مفهوم عندهم، وربما قالوا لها تأويل لا يعلمه إلا الله.
وأما التأويل: فهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر لدليل. وسيأتي حديث مطوّل عنه في القاعدة الخامسة.
فأهل التأويل والتفويض يتفقون على نفي الصفة، وتعطيل النص عن معناه الحقيقي الدال على وصف الرب تعالى بما يليق به.
ويختلفون في تخريج النص وموقفهم منه، فأهل التفويض يقولون ليس له معنى مفهوم، وأهل التأويل يقولون له معنى مفهوم، ثم يفسرونه بالإرادة أو ببعض المفعولات كما تقدم.(1/128)
وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النصَّ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط. ولو فسِّر ذلك بمفعولاته -وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب- فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فرّ منه، فإن الفعل المعقول لابدّ أن يقوم أولاً بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبّه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات.
قوله: "وكذلك تناقضهم في الإثبات..." إلخ.
التناقض في الإثبات متلازم مع التناقض في النفي، ففي كلا الحالتين يثبت نظير ما ينفي، وينفي نظير ما يثبت.
فهذا المتأول الذي ينفي المعنى الظاهر الذي هو الاحتمال الراجح، ويثبت المعنى المرجوح متناقض، ووجه تناقضه أنه لا فرق بين المعنى المصروف إليه والمعنى المصروف عنه الذي ينفيه، فإنه يلزمه في المعنى المصروف إليه الذي يثبته نظير ما يلزمه في المعنى المصروف عنه الذي ينفيه، فإن كان يلزم في المعنى المصروف عنه محذور فإنه لازم أيضاً في المعنى المصروف إليه، وإن كان لا يلزم في المعنى المصروف إليه محذور فكذلك لا يلزم في المعنى المصروف عنه محذور، فالكلام فيهما واحد فهذا المتأول لم يستفد شيئاً من هذا التأويل.
....................................................................................(1/129)
وذكر الشيخ لذلك مثالاً وهو صفة المحبة، فظاهرها محبة حقيقية تليق بالله تعالى، ولكن المتأول صرفها إلى معنى الإرادة، لظنه أن إثبات صفة المحبة يلزم منه التشبيه، فيقال له يلزمك في الإرادة نظير ما يلزم عندك مما فررت منه في صفة المحبة.
وكذلك إذا فسر الصفة بمفعولات الله تعالى أي، بما يخلقه الله من الثواب والعقاب كما إذا فسر المحبة بالثواب، أو الغضب بالعقاب المفعول، فإنه يلزمه فيما فسر به الصفة نظير ما توهم وفر منه من المحذور اللازم على إثبات الصفة على حقيقتها -حسب زعمه-.
وبيان ذلك أن الفعل لابد أن يقوم بالفاعل، فالكلام لابد أن يقوم بمتكلم، والقدرة لابد أن تقوم بقادر وهكذا.
فالمفعولات لابد أن تكون بفعل، والفعل لابد أن يقوم بفاعل.
فهذه المخلوقات المفعولات التي فسروا بها الصفات لابد أن تكون موجودة بفعل قام بالفاعل.
وأيضاً فالثواب والعقاب -المفعول- إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، أي أن ما أثبتوه من الثواب والعقاب مستلزم لما نفوه من المحبة والرضا والغضب والسخط.
ثم يقال لهم: إن فعل الرب الذي حصلت به تلك المفعولات من الثواب والعقاب، إما أن يجعلوه مثل فعل العبد، فهذا تمثيل، وإما أن يثبتوه على خلاف ذلك أي على وجه يليق بالله تعالى، فيقال لهم: فكذلك سائر صفاته تعالى.
فصل
وأما المثلان المضروبان:
فإن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات، من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماء ولحماً وفاكهة وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً.(1/130)
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها، هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى -فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق. وهذا بين واضح.
قوله: "وأما المثلان المضروبان..." إلخ.
بعد أن ذكر الشيخ الأصلين اللذين يرد بهما على نفاة الصفات، شرع في ذكر المثلين المضروبين في ذلك.
فالمثل الأول ما أخبر الله تعالى به عما في الجنة من المخلوقات مما أعد لأوليائه من أصناف النعيم من المطاعم والمشارب والملابس والمساكن وغير ذلك، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماء ولحماً وغير ذلك، وقد قال ابن عباس - رضي الله
....................................................................................
عنهما- "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء"(1) فموجودات الآخرة موافقة لموجودات الدنيا في الاسم، وفي مسمى الاسم المطلق، وهو المعنى العام الكلي المشترك، ولكنها مع ذلك ليست مماثلة لها بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره للآية (25) من سورة البقرة، وابن أبي حاتم في تفسيره برقم260،1/66، وذكره السيوطي في الدر المنثور وعزاه لمسدد وهناد في الزهد وابن المنذر، والبيهقي في البعث. الدر المنثور 1/82، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5410.(1/131)
وإذا كان هذا التباين موجوداً بين المخلوقات وفي صفاتها المتفقة في الأسماء وفي المعنى الكلي المشترك، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا؛ لأن المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق(1).
فإثبات القدر المشترك الذي به تفهم الألفاظ لا يلزم منه التماثل في الخصائص.
فبين ماء الدنيا وماء الآخر قدر مشترك، وهو المعنى العام الكلي للفظ الماء، وكذلك بين لبن الدنيا ولبن الآخرة قدر مشترك، وبين خمر الدنيا وخمر الآخرة قدر مشترك، وهكذا بقية الأمور التي أخبر عنها الرب تعالى، ولكل من موجودات الدنيا وموجودات الآخرة خصائص لا يشركه فيها الآخر.
....................................................................................
فنحن نعلم وندرك أن اللبن شراب يشرب، وهكذا الخمر والماء وبينها فروق، وندرك أن هذه الثلاثة من أنواع الشراب وليست شيئاً يلبس أو يسكن، فنحن نفرق بين معناها ومعنى المساكن والملابس والمطاعم و الحور العين التي في الجنة.
فلابد من إثبات القدر المشترك بين الأشياء المتفقة في أسمائها، وهذا القدر المشترك هو المعنى العام، وهو مسمى الاسم عند الإطلاق الذي به يفهم معنى اللفظ المطلق والغائب، ثم عند إضافته وتقييده ينضاف إليه معنى آخر يخصه غير المعنى العام المشترك، ولابد من هذا القدر المشترك حتى تفهم الألفاظ ويمكن التخاطب بها.
وليس هذا المعنى العام والقدر المشترك هو التشبيه الذي نفته الأدلة النقلية والعقلية.
فالاتفاق وثبوت القدر المشترك لا يستلزم التماثل في الخصائص.
وهذا المثل المضروب هنا قريب مما ذكره المؤلف سابقاً في مسألة وجود البعوضة والعرش.
ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق:
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/115، 207-208، 347-348، 9/295، منهاج السنة 2/157.(1/132)
فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وأن مباينة الله لخلقه أعظم.
والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل طواف من أهل الكلام: المعتزلة ومن وافقهم.
والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر.
ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها، لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام رمضان كتمان أسراهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله.
وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات.
....................................................................................
وقد يوجب في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنّهم أكفر من اليهود والنصارى.
قوله: "ولهذا افترق الناس..." إلخ.
يذكر الشيخ هنا فرق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر:(1/133)
- فأهل السنة والجماعة وهم السلف الصالح والأئمة وأتباعهم: آمنوا بكل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، آمنوا بما جاء في الكتاب والسنة من ذلك كله، مع علمهم وإيمانهم بمباينة موجودات الآخرة لموجودات الدنيا، وأن مباينة الله تعالى لخلقه أعظم من مباينة هذه المخلوقات بعضها بعضاً.
فمذهب أهل السنة والجماعة متفق ومنتظم ومنسجم مع العقل والنصوص الشرعية، لا اضطراب فيه ولا تناقض.
- والفرقة الثانية طوائف من أهل الكلام: وهم الذين أثبتوا ما أخبر الله به من الثواب والعقاب في الآخرة في الجملة، ونفوا كثيراً مما أخبر الله به عن نفسه، ويدخل في هؤلاء المعتزلة والجهمية والأشاعرة، فهؤلاء كلهم فرّقوا بين ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، فأثبتوا بعضاً ونفوا بعضاً، فوقعوا في التناقض حيث فرقوا بين ما جاءت النصوص الشرعية بإثباته، وإن كان بين هؤلاء اختلاف في إثبات بعض أمور الآخرة، فالمعتزلة تنكر الشفاعة لأهل الكبائر، وتوجب لهم الخلود في النار، ومنهم من ينازع في الحوض والميزان، بخلاف الأشاعرة، والجهمية تقول بفناء الجنة والنار، بخلاف المعتزلة والأشاعرة.
- والفرقة الثالثة: القرامطة الباطنية والفلاسفة ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، فينفون أسماء الله
....................................................................................
وصفاته، كما ينفون حقائق اليوم الآخر، وربما لبّسوا فقالوا: البعث روحاني، وجعلوا ما يكون في الدار الآخرة من النعيم والعذاب من باب التخييل الذي لا حقيقة له.(1/134)
وكثير من هؤلاء يجعلون الشرائع من هذا الباب، فيجعلون لما أمر الله به وما نهى عنه تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس بمعرفة أسرارهم، وصيام رمضان بكتمان أسرارهم، وحج البيت الحرام بالسفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الله ورسله، وتحريف للكلم عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله وشرائعه(1).
فهذه المعاني التي يفسرون بها شرائع الله لا تمت إلى المعنى الحقيقي بصلة لا لغة ولا شرعاً، وليس عليها أي دليل لا صحيح ولا فاسد، بل هي من باب التحريف والإلحاد الظاهر.
وقد يقولون بأن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من كبرائهم ومحققيهم أسقطوا عنه التكاليف، فرفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات، لأن هذه التكاليف إنما تلزم العامة -حسب زعمهم- ويقصدون بهم من هو خارج مذهبهم، وهذا يقولونه مصانعة، وإلا فليس في الحقيقة لديهم شرائع يؤمنون بها.
....................................................................................
وقد يوجد في بعض المنتسبين للتصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب الباطنية ويتبعها، كالقول بأن للشرع معنى باطناً غير الظاهر، أو أن بعض الناس يصل إلى درجة تسقط عنه التكاليف.
ويستفاد من هذا أن الباطنية نوعان:
باطنية الرافضة وهم الذين يتظاهرون بالتشيع لآل البيت، وباطنية الصوفية.
فيشتركون بأن للنصوص معاني باطنه تخالف ما يفهمه المسلمون منها، وكل منهم يؤول النصوص بحسب ما يتفق مع الشعار الذي يتخذه.
فباطنية الصوفية يظهرون شعار السلوك والعبادة، وباطنية الرافضة يظهرون شعار التشيع لآل البيت.
والذين ينطبق عليهم وصف أصحاب السلوك الذين ذكرهم الشيخ هم أصحاب وحدة الوجود، القائلين بأن وجود الرب عين وجود العبد.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/474، 35/133.(1/135)
وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى يؤمنون بالله وتميزه عن خلقه، كما يؤمنون باليوم الآخر في الجملة، ويقرون بالجنة والنار والشرائع في الجملة. أما هؤلاء الباطنية فحقيقة مذهبهم الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه ممثالة المخلوقات، كما دلَّ على ذلك الآيات البينات - كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات.
قوله: "وما يحتج أهل الإيمان والإثبات..." إلخ.
يذكر الشيخ هنا موازنة بين الباطنية وأهل الكلام.
فأهل الكلام شاركوا الباطنية والفلاسفة في نفي ما نفوا من الصفات على اختلاف طوائفهم كما شاركوا أهل السنة في الإيمان باليوم الآخر.
فكل ما يرد به على الباطنية في إلحادهم وتحريفهم يرد به على من شاركهم في بعض إلحادهم وتحريفهم، فإذا قيل للباطنية: إن تحريفكم لنصوص الشرع باطل ومخالف للمعقول والمنقول واللغة، يقال لمن حرّف معاني نصوص الصفات أو بعضها: إن تحريفكم لها ونفيكم لحقيقة معناها مخالف للمعقول والمنقول واللغة وهكذا، ولهذا تسلط عليهم الفلاسفة واحتجوا عليهم بتأويلهم لنصوص الصفات على ما تأولوه من نصوص المعاد والشرائع.
فمن أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات كما دلت على ذلك الأدلة العقلية والنقلية، كان ذلك هو الحق الموافق للنقل والعقل، الهادم لأساس الإلحاد والضلال.(1/136)
والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن يُنزه عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسم.
قوله: "والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال..." إلخ.
وبعد أن ذكر الشيخ المثل المضروب بأسماء نعيم الجنة وموافقتها لبعض الأسماء المشاهدة في الدنيا وذكر مواقف الناس من ذلك، ختم الحديث عن ذلك بالتأكيد والتذكير بأن الله تعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، كما قال تعالى ((فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا tbqçHs>÷ès?"[النحل: 74] وقال تعالى: ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "[الشورى: 11].
فأما ضرب الأمثال التي تتضمن تعظيمه وتبين أنه تعالى أولى بالكمال، وأولى بالتنزيه عن النقص من خلقه فهذا وارد في القرآن كما في قوله تعالى: ((z>uژںر لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ ضن!#uqy™..."[الروم: 28].
فهذا من قياس الأولى ومضمونه أنه إذا كان المملوك منكم لا يكون شريكاً لمالكه، ولا يرضى المالك أن يكون المملوك شريكاً له ومساوياً له، فالله تعالى أولى ألا يكون أحد من خلقه وعبيده شريكاً له.
....................................................................................(1/137)
فلا يجوز أن يشترك الخالق والمخلوق في قياس تمثيل يستوي فيه الفرع والأصل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده(1).
فقياس الشمول مصطلح منطقي معروف وهو الدليل المكون من مقدمتين فأكثر، والمقدمة هي القضية التي تكون جزء الدليل.
وقياس التمثيل هو القياس المعروف عند الأصوليين، وهو إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما؛ وحقيقة القياسين واحدة، إلا أنهما مختلفان في الأسلوب والصيغة.
وتقريب هذا بالمثال التالي:
فمثال القياس الفقهي -قياس التمثيل- إلحاق النبيذ بالخمر في التحريم لجامع الإسكار، فالنبيذ فرع، والخمر أصل، والحكم التحريم، والعلة الإسكار.
وهذا القياس يمكن أن يصاغ بصيغة قياس الشمول فيقال:
النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فالنبيذ حرام.
فلا يجوز استعمال قياس التمثيل ولا الشمول في حق الله تعالى، فلوازم صفات المخلوق لا تلزم في صفات الله تعالى.
وأهل البدع يستعملون قياس الشمول في حق الرب تعالى ومن ذلك قولهم: الصفات لا تقوم إلا بجسم وكل جسم مركب، فلو كان لله -تعالى- صفات لكان
....................................................................................
جسماً، ثم لكان مركباً، فيلزم من ذلك التركيب والتشبيه، فينفون عن الله تعالى الصفات بناء على أنه يلزم في حق الخالق ما يلزم في حق المخلوق.
فلا يجوز أن يستعمل في حق الرب تعالى هذا القياس وإنما يستعمل في حقه قياس الأولى كما قال تعالى ((!ur الْمَثَلُ الْأَعْلَى ".
والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل، فله المثل الأعلى في الواقع وفي قلوب المؤمنين.
والمثل الأعلى يتضمن قياس الأولى، وهو أن كل كمال ثبت للمخلوق -لا نقص فيه- فالخالق أولى به.
فمثلاً نقول العلم صفة كمال، والمخلوق يتصف بالعلم، فالخالق أولى بالاتصاف بصفة الكمال هذه من المخلوق، لئلا يكون المخلوق أكمل من الخالق.
__________
(1) درء التعارض 7/362، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 9/119، 19/17، مختصر الصواعق 2/119- 120.(1/138)
وتقييد الكمال بكونه -لا نقص فيه- احتراز من بعض الكمالات التي يوصف بها المخلوق وهي كمال في حقه، ولكنها تتضمن نقصاً، فالإنسان الذي يولد له أكمل من العقيم، والإنسان الذي يأكل الطعام أكمل من المريض الذي لا يأكل، ولكن هذا الكمال يستلزم نقصاً في المخلوق، فالولد يستلزم التجزء في الإنسان، لأن الولد جزء من الوالد، كما أنه يستلزم النظير، فالولد نظير والده، ويستلزم الحاجة من وجه كحاجته إليه في معونته مثلاً. كما أن الأكل يستلزم الحاجة إلى الطعام، وكذلك كل ما تنزه عنه المخلوق من صفات النقص فالخالق أولى بأن ينزه عنه.
....................................................................................
فإذا كان المخلوق منزهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم كما سبق في ذكر المثل بموجودات الآخرة مع موجودات الدنيا فالخالق -سبحانه وتعالى- أولى ألا يماثل خلقه، وإن حصلت موافقة في الاسم، المتضمنة للاشتراك في المعنى العام الكلي المشترك الذي هو مسمى الاسم عند الإطلاق.
وهكذا القول في المثل الثاني - وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسَلّ منه كما تسل الشعرة من العجين.
والناس مضطربون فيها:
فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تتردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة، أو المزاج، أو نفس البدن.(1/139)
ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عَرَض. وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة. وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة. وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجه عنها، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع.
قوله: "وهكذا القول في المثل الثاني..." إلخ.
يذكر الشيخ هنا المثل الثاني المضروب في الرد على نفاة الصفات فيمثل بالروح التي فينا والتي جعلها الله قواماً لأبداننا، فالإنسان مكون من روح وبدن، ولا
....................................................................................
قيمة للبدن بلا روح، أما الروح فهي كائن موجود قائم بنفسه، فلا تفتقر في وجودها إلى البدن بدليل أنها تنفصل من البدن ويكون لها شأن بعد فراقها البدن. وهذه الروح جاء وصفها بصفات ثبوتية وسلبية، فقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تقبض من البدن، وتُسل منه كما تسل الشعرة من العجين.
فهذه الروح التي فينا رغم قربها واتصالها بنا، فالناس مختلفون فيها ومضطربون في شأنها اضطراباً عظيماً يصل إلى التناقض(1) ويلخص الشيخ مواقفهم في ثلاثة اتجاهات:
الأول: طوائف من أهل الكلام جعلوا الروح من جنس الأجسام المشاهدة وعبروا عن ذلك بعبارات مختلفة منها:
1- البدن …2- جزء من البدن …3- صفة من صفات البدن أي عرض.
4- النَفَس أي ما يحصل بعملية التنفس من تردد الهواء في البدن.
__________
(1) الروح لابن القيم: المسألة التاسعة عشرة ص 237.(1/140)
5- المزاج أي مجموع الطبائع في ذات الإنسان.
وكل هذه العبارات التي ذكرها أهل الكلام في الروح باطلة، لا تعبر عن حقيقتها وهي مخالفة لما جاء في النصوص من صفاتها، فالروح ليست هي البدن وليست جزءاً منه كالكبد والطحال، وليست صفة من صفاته كالطول والبياض، وليست هي النفس الداخل إلى البدن والخارج منه، وليست هي المزاج، بل هي شيء آخر جاء وصفه في النصوص الشرعية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكما
....................................................................................
يأتي شيء من ذلك إن شاء الله.
الثاني: قول طوائف من الفلاسفة وهو قول مناقض لقول أهل الكلام فقد وصفوا الروح بضد ما توصف به الأجسام المشاهدة، فوصفوها بما يصفون به واجب الوجود من الصفات السلبية بل بسلب النقيضين، مما لا يتصف به إلا المعدوم والممتنع.
فيقولون في الروح إنها: لا داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له، ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، ونحو ذلك من العبارات التي نجد أن بعضها مقارب لبعض في المعنى، وأكثرها دالة على سلب النقيضين، مما لا يوصف به إلا المعدوم الممتنع.
وقد يقولون: إن الروح لا تدرك الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، أي أنها لا تدرك شيئاً من الموجودات المشاهدة، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة أي المعاني الكلية التي لا توجد إلا في الذهن كالمعنى المفهوم من كلمة إنسان أو حيوان أو وجود ونحو ذلك من المعاني الكلية المشتركة.
ويلاحظ أن هذا القول هو في المعنى نفس قولهم في أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات.
وهذا المعنى باطل فإن الروح حقيقة قائمة بنفسها ولها إدراك.
وبهذا يتبين أن حقيقة مذهب الفلاسفة إنكار الروح وإن زعموا أنهم يقرون بها، لأنهم وصفوها بما يمتنع وجوده.(1/141)
....................................................................................
الثالث: من الأقوال في الروح القول الحق وهو أن الروح حقيقة موجودة قائمة بنفسها، موصوفة بصفات مثل أنها تذهب وتجيء، وتصعد وتهبط، وتقبض وترسل، وتنعم وتعذب، وهي عالمة، وقادرة، وسميعة، وبصيرة وغير ذلك مما جاء من صفاتها في النصوص.
وهي مع ذلك مغايرة في حقيقتها للأجسام المشهودة(1).
وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل.
قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات موجودة وهي غير مشار إليها.
وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال.
قوله: "وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع..." إلخ.
يعني: إذا قيل لهؤلاء الفلاسفة: إن وصفكم الروح بهذه الصفات ممتنع، فليس هناك موجود موصوف بسلب النقيضين.
قالوا: إن هذا ليس بممتنع بدليل أن الكليات موجودة وهي غير مشار إليها.
والرد عليهم أن الكليات أي المعاني الكلية لا توجد كلية إلا في الذهن، ولا يمكن أن توجد في الخارج إلا ممثلة في الأجزاء والأفراد والأعيان.
وهؤلاء الفلاسفة إنما يعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذه الخيالات والأقوال المتناقضة التي لا يخفى فسادها على غالب الجهال فضلاً عن العقلاء والعلماء.
واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح -التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة- ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرِّفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ.
قوله: "واضطراب النفاة والمثبتة..." إلخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/115-116، 4/216-231.(1/142)
يبين الشيخ هنا سبب كثرة اضطراب الناس في الروح من المثبتين والنفاة، ويدخل في المثبتين أهل الكلام، وأما النفاة فهم الفلاسفة الذين يسمون الروح بالنفس الناطقة، فيذكر أن سبب ذلك الاضطراب أن الروح ليست من جنس البدن ولا من جنس العناصر -يعني الأصول التي تتكون منها الأشياء- ولا من جنس المولدات الناشئة عن العناصر، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، ولذلك اضطرب فيها المنحرفون عن منهج الرسل.
فمنهم من لا يعرّفها إلا بالسلوب وهم الفلاسفة، ومنهم من يجعلها من جنس الأجسام المشاهدة كما هو مذهب طوائف من أهل الكلام.
وكلا القولين خطأ، أي: قول من يجعل الروح من جنس الأجسام المشاهدة، وقول من لا يصفها إلا بالسلوب المستلزمة لامتناع وجودها.
وإطلاق القول عليها بأنها جسم، أو ليست بجسم، يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي.
فإن أهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن. وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: ((#sŒخ)ur رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ "[المنافقون: 4] وقال تعالى: ((¼çnyٹ#y-ur بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ "[البقرة: 247].
وأما أهل الكلام، فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المنفردة.
ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة. وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية.
ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه ويقال: إنه هنا أو هناك.(1/143)
فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه ويتبعه بصر الميت -كما قال النبي ×: إن الروح إذا خرج تبعه البصر(1)، وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء- كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح.
قوله: "وإطلاق القول عليها بأنها جسم..." إلخ.
يذكر الشيخ هنا مسألة: هل الروح جسم أم ليست بجسم؟ ويبين أن إطلاق القول بأنها جسم أو ليست بجسم لا يصح؛ لأن الجسم له معنى في اللغة كما أن له
....................................................................................
معاني اصطلاحية متعددة غير معناه اللغوي، ولهذا تعين الاستفصال عن معناه المراد إطلاقه على الروح حتى يعلم مدى صحته أو فساده.
فالجسم في اللغة هو الجسد والبدن كما قال تعالى: ((#sŒخ)ur رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ "[المنافقون: 4] وقال تعالى ((¼çnyٹ#y-ur بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ ةOَ،ةfّ9$#ur"[البقرة: 247]، وبهذا الاعتبار وهذا المعنى لا يصح إطلاق الجسم على الروح بل بينهما فرق ولهذا يقال: الروح والجسم.
وأما الجسم في اصطلاح أهل الكلام فله عدة معان منها(2):
1- الموجود 2- القائم بنفسه 3- ما يقبل الإشارة إليه.
وهذه المعاني الثلاثة تصدق على الروح ويصح إطلاقها عليها.
4- المركب من الجواهر المنفردة، والجواهر المفردة هي الأجزاء الصغيرة، والجوهر الفرد -عندهم- هو الجزء الذي لا يتجزأ، وهذا القول باطل ولا يصح إطلاقه على الروح لما يلي:
أ- لعدم التسليم بقضية الجوهر الفرد الذي يفسرونه بأنه الجزء الذي لا يتجزأ، فإن الجسم إذا قسمته أقساماً فإنه لا يزال في هذه القسمة حتى ينعدم أو يستحيل إلى شيء آخر، فلا يبقى فيه شيء مما يسمونه الجوهر الفرد.
__________
(1) أخرجه مسلم (2/634) كتاب الجنائز برقم 920 بلفظ "إن الروح إذا قبض تبعه البصر".
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/434، 17/317، منهاج السنة 1/264، 2/530-531، درء التعارض 1/119.(1/144)
ب- أنه على فرض التسليم بصحة القول في الجوهر الفرد، وتركيب الأجسام منها، فإنه لا يصح إطلاقه على الروح وعالم الغيب مثل الملائكة والجن.
....................................................................................
5- المركب من المادة والصورة أو الهيولى والصورة، والهيولى هي مادة الشيء وأصله الذي يركب منه، وهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الروح، فالله أعلم بحالها وهي من علم الغيب ولا يجوز التكلم به إلا بدليل.
تنبيهات:
الأول: تعريف ابن القيم للروح بأنها: جسم خفيف، نوراني، علوي، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، والدهن في الزيتون، والنار في الفحم، وهي مغايرة في ماهيتها للأجسام المشهودة.." (1) هذا التعريف عليه مناقشات منها:
1- قوله إنها: جسم، هذا عليه مناقشة لما عرفنا أن الجسم يطلق على معان، منها ما يصدق على الروح، ومنها ما لا يصدق على الروح.
2- قوله إنها: جسم خفيف، هذا من التكلم في الغيب.
3- قوله: نوراني علوي: هذا يصدق على روح المؤمن، أما الروح الخبيثة فهي مظلمة سافلة.
الثاني: لقائل أن يقول: لماذا الخوض في معاني الروح وأقوال أهل البدع فيها والله تعالى يقول: ((ڑپtRqè=t"َ،o"ur عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ 'خn1u'"[الإسراء: 85] والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أن الروح في الآية اختلف في المراد بها على أقوال: فقيل المراد بها جبريل، وقيل: ملك آخر عظيم، وقيل: بل المراد بها الوحي، وقيل: المراد بها
....................................................................................
الروح التي تقوم عليها الحياة وهي الروح التي فينا فالآية محتملة، وإذا وقع الاحتمال بطل الاستدلال.
__________
(1) الروح ص 242.(1/145)
وإذا كان الراجح في معنى الروح في الآية أنها التي بها الحياة، فليس في الآية نهي عن إجابة من سأل عنها،ومعنى قوله ((ب@è% الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ 'خn1u'" أي من جملة ما أمر الله به أي الأمر الكوني، وكل مخلوق فهو كائن بأمر الله الكوني.
الثاني: أن للكلام في الروح فائدتين:
إحداهما: معرفة الحق من الباطل في هذه المسألة والرد على الأقوال الفاسدة فيها.
الثانية: معرفة ما جاء في النصوص عن الروح من صفات، فنعلم أن الروح محدثة وليست قديمة لقوله تعالى ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ &نَسx"" فكل ما سوى الله مخلوق.
وإذا قيل هل الروح تموت؟ فيقال إن أريد بالموت مفارقة البدن فنعم بهذا الاعتبار، وإن أريد بالموت عدمها من هذا الوجود وذهاب حياتها بعد فراقها البدن فالروح لا تموت بهذا المعنى.
ونجد في النصوص أن الروح تقبض وترسل كما قال تعالى: ((ھ!$# يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ '‡K|،oB"[الزمر: 42].
كما نجد في النصوص أن الروح تهبط وتصعد، وتنعم وتعذب، وغير ذلك من الصفات الواردة في النصوص الشرعية للروح.
والمقصود، أن الروح إذا كانت موجودة حية، عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها.(1/146)
فإذا كان من نفى صفات الروح جاحداً معطلاً لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات- فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات.
قوله: "والمقصود أن الروح إذا كانت موجودة..." إلخ.
بعد أن عرض الشيخ أقوال الناس في الروح واضطرابهم فيها وذكر سبب اضطرابهم، وحكم إطلاق اسم الجسم على الروح نفياً أو إثباتاً، بعد هذا الاستطراد الذي لابد منه يصل إلى المقصود الذي به إيضاح وجه الاستشهاد بالمثل الثاني الذي هو الروح.
وبيان ذلك: أن الروح الموصوفة بأنها موجودة، وحية وعالمة وقادرة، وسميعة، وبصيرة، وتصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، إذا كانت العقول قاصرة وعاجزة عن تكييفها وتحديديها، والسبب في ذلك عدم
....................................................................................
مشاهدتهم لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره، وإذا كانت تلك الروح الموصوفة بتلك الصفات مباينة لما هو مشاهد من الأجسام المخلوقة، وليست مماثلة لها والعقول عاجزة عن تكييفها وإدراك حقيقتها، فالخالق سبحانه وتعالى، أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، من مباينة الروح لما سواها من المخلوقات، وأهل العقول أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها. وهذا من باب قياس الأولى.
وهذا المثل يمكن أن يرد به على أهل التكييف، وأهل التعطيل، فيرد به على أهل التكييف القائلين بتماثل صفات الخالق والمخلوق لتوافقها في الاسم.
ويرد به على أهل التعطيل النافين لصفات الله تعالى بحجة أن إثبات صفات الله تعالى الموافقة في الاسم لصفات خلقه يلزم منه التمثيل.(1/147)
فيرد على الجميع بأن هذه الروح الموصوفة بما توصف به الأجسام المشاهدة من الوجود، والقبض، والإرسال، والصعود، والنعيم، والعذاب وغير ذلك، هذه الروح موصوفة بهذه الصفات حقيقة وهي مباينة لما سواها من المخلوقات، ولا يلزم من وصفها بما توصف به الأجسام المشاهدة أن تكون مماثلة لها.
وإذا كانت هذه المباينة حاصلة بين المخلوق الموصوف والمخلوق فالخالق أعظم مباينة لخلقه بما يستحقه من الصفات من مباينة المخلوق للمخلوق.
وإذا كانت العقول عاجزة عن إدراك حقيقة هذه الروح وتكييفها، فهي أعجز عن درك حقيقة الباري تعالى وتكييفه.
.................................................................................................................
وإذا كان من نفى صفات الروح جاحداً معطلاً لها، وهذا يصدق على الفلاسفة، ومن مثّلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهذا يصدق على أهل الكلام، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات؛ فلا يغير غلط الغالطين فيها من الحقيقة شيئاً. فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات، فلا يغير مذهب أهل التعطيل، ولا مذهب أهل التمثيل مما يجب لله تعالى من الإثبات والتنزيه شيئاً.
فصل
وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة:
القاعدة الأولى
أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي. فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: ((ںw تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا ×PِqtR"[البقرة: 255].
قوله "القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي..." إلخ.
هذه القاعدة شرعية وعقلية.(1/148)
فهي شرعية لدلالة النصوص عليها، كما في سورة الإخلاص، ففيها إثبات ونفي، فالإثبات في قوله تعالى: ((ِ@è% هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ ك‰yJ¢ء9$#" والنفي في قوله تعالى: ((ِNs9 يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&".
وكذلك قوله تعالى: ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى: 11] فهذا نفي وقوله: ((uqèdur السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "[الشورى: 11] إثبات، فتجد في النص الواحد والآية الواحدة نفياً وإثباتاً وكما في آية الكرسي ففيها إثبات ونفي.
وقوله تعالى: ((w يَضِلُّ رَبِّي وَلَا
tƒ"[طه: 52] نفي، وهكذا.
فمنهج الرسل في صفات الله تعالى مشتمل على النفي والإثبات، النفي المجمل لصفات النقص والعيب، والإثبات المفصل لصفات الكمال.
....................................................................................
وهذه القاعدة عقلية؛ لأن المدح والكمال إنما يكون بإثبات المحامد، ونفي النقائص، وفي هذا رد على المعطلة الذين لا يصفون الله إلا بالسلوب، دون إثبات لصفات الكمال.
كما أن في هذا رداً على اليهود، وعلى الذين يصفون الله بصفات النقص، وفيها رد على الممثلة الذين يصفون الله بمثل صفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقول المؤلف "إن الله سبحانه موصوف بالإثبات" أي إثبات صفات الكمال.
وقوله "والنفي" أي نفي النقائص والعيوب.
وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً. ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
قوله "وينبغي أن يعلم أن النفي..." الخ.
النفي لا يكون مدحاً إلا إذا تضمن إثبات كمال.
فالنفي نوعان: نفي محض، ونفي غير محض.(1/149)
فالنفي المحض ليس بمدح لأنه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً.
وأما النفي غير المحض فهو المتضمن لإثبات الكمال.
ووجه ضلال المعطلة الذين يصفون الله بالنفي المحض أو بالسلوب، أنهم اقتصروا على وصف الله تعالى بصفات السلب فقط، ولم يثبتوا له صفات الكمال، ومعلوم أن السلب المحض ليس بشيء؛ ولهذا يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح كقوله: ((ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ " إلى قوله: ((وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا "[البقرة: 255].
فنفي السِّنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم.
وكذلك قوله: ((ںwur يَئُودُهُ $uKكgفàّےدm" أي لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها. بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته، وعيب في قوته.
وكذلك قوله تعالى: ((ںw يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ &ûüخ7oB"[سبأ: 3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.
وكذلك قوله تعالى: ((ô‰s)s9ur خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ 5>qنَ-9"[ق: 38] فإن نفي مسّ اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة، ونهاية القوة. بخلاف المخلوق الذي يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه.
قوله "فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه..."الخ.
يجب أن يعلم أن كل ما وصف الله به نفسه من النفي متضمن لإثبات كمال ضده، وليس في شيء مما وصف الله به نفسه نفي محض.(1/150)
ومن ذلك قوله تعالى في آية الكرسي: ((ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا ×PِqtR" فنفى سبحانه وتعالى عن نفسه السنة والنوم، والسنة بداية النوم، والنوم -معروف- وهو أخو الموت (وهو دونه).
....................................................................................
ونفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيومية، فحياته لا يعتريها نقص، وقيوميته كذلك.
فالله تعالى نزه نفسه عن السنة والنوم والموت، كما قال تعالى ((ِ@2uqs?ur عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا كNqكJtƒ"[الفرقان: 58] وفي ذلك تأكيد لكمال حياته.
والله تعالى قائم بنفسه وعلى كل نفس بما كسبت، فلا قيام للوجود إلا به، وهو لا يغفل كما قال تعالى ((ô‰s)s9ur خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ t,ح !#tچsغ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ tû,خ#دے"xî" [المؤمنون: 17].
وهو سبحانه لا يؤوده حفظهما، أي لا يكرثه حفظ العالم العلوي والعالم السفلي، فلا يلحقه بسببه مشقة ولا ثقل.
وهذا يدل على كمال قوته، وأنها لا يعتريها ضعف ولا مشقة كما يعتري قوة المخلوق وقوله تعالى ((ô‰s)s9ur خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ 5>qنَ-9"[ق: 38] هذه الآية نزلت لما قال اليهود: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح بعد ذلك، أي أنه لحقه التعب والإعياء فاستراح، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله (($tBur مَسَّنَا مِنْ 5>qَ-9" وكلمة "لغوب" نكرة واقعة في سياق النفي المتصل بـ "من" مما يؤكد أنه سبحانه لم يلحقه أي لغوب، واللغوب هو النقص في الجهد، ونفي اللغوب عن الله مطلقاً، يدل على كمال قدرته، ونهاية قوته، وكيف يلحقه لغوب وهو الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، كما قال تعالى: (($yJ¯Rخ) قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ مbqن3u
sù"[النحل:(1/151)
....................................................................................
40] ولو شاء الله تعالى لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة، ولكن له حكمة في ذلك، خلقها في ستة أيام: قيل إنها كأيامنا، وقيل إنها أيام طويلة أي كل يوم ألف سنة.
وهما قولان للمفسرين، والأقرب لظاهر القرآن أنها كأيامنا (الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة) كما جاء بيان ذلك وتفصيله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فنفي اللغوب متضمن لإثبات كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف قدرة المخلوق فإنها محدودة ويعتريها ضعف، وإعياء، وملل، وحاجة إلى الراحة، وهكذا في جميع أنواع النفي عن الله تعالى، فهو متضمن لإثبات كمال الضد، وانظر مثلاً قوله تعالى: ((¨bخ) اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ "[النساء: 40] فنفي الظلم عن الله تعالى يدل على كمال العدل، ولو لم يتضمن ذلك لم يكن مدحاً.
وقد قال الشاعر يذم عشيرته:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فتركهم للظلم من ضعفهم وعجزهم وليس لعدلهم.
والله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن الظلم وهو قادر عليه لكنه لا يفعله لكمال عدله، وليس لعجزه ولا لامتناعه عليه.
وكذلك قوله: ((w تُدْرِكُهُ مچ"|ءِ/F{$#"[الأنعام: 103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة، كما قاله أكثر العلماء. ولم ينف مجرد الرؤية، لأن المعدوم لا يُرى، وليس في كونه لا يُرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يُحاط به وإن رُئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رُئي لا يحاط به رؤية.
فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.
قوله "وكذلك قوله "لا تدركه الأبصار"...." إلخ.(1/152)
دلت الآية على نفي إدراك الأبصار لله تعالى.
وقد اختلف المفسرون في الآية على قولين:
القول الأول: أن نفي الإدراك يعني نفي الرؤية بالأبصار. وهذا يحمل على أحد أمرين:
1- نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في الدنيا.
2- نفي رؤية الكفار لله تعالى بأبصارهم في الآخرة.
وعلى هذا لا متعلق للمعتزلة بهذا التفسير، ولا يصح تفسيرهم للآية بأنها نفي لرؤية الله تعالى بالأبصار مطلقاً.
القول الثاني: وهو قول أكثر أهل العلم، وهو الصحيح، أن الإدراك في اللغة العربية أخص من مطلق الرؤية، فقد تقول رأيت ولكن لا تقول أدركت، لأن الإدراك يتضمن الإحاطة، فالله تعالى يُرى ولكنه لا يدرك، أي: لا يحاط به لكمال
....................................................................................
عظمته، كما أنه يُعلم ولكن لا يحاط به علماً، وهذا هو المدح. أما القول بأنه لا يرى مطلقاً فلا مدح فيه لأن المعدوم لا يرى كذلك(1).
وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً.
وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايث له؛ إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت، ولهذا قال محمود ابن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم؟
قوله "وإذا تأملت ذلك وجدت..." الخ.
__________
(1) الرد على الزنادقة والجهمية وللإمام أحمد ص 59 فمن عقائد السلف، تأويل مختلف الحديث ص 139، 146، منهاج السنة 1/288-289، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/111، حادي الأرواح ص 207-209.(1/153)
الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالسلوب أي بالصفات السلبية -وهم الفلاسفة والباطنية- لم يثبتوا إلهاً محموداً، أي: يستحق الحمد والثناء؛ لأن السلوب المحضة لا مدح فيها، لأنه ليس في السلب المجرد إثبات شيء من صفات الكمال، بل لم يثبتوا موجوداً؛ لأن سلب جميع الصفات يستلزم نفي الذات.
هذا الكلام ينطبق على المعتزلة لأنهم هم الذين يقولون: إن الله تعالى لا يُرى ولا يتكلم... إلخ. ومثل ذلك يوصف به الجماد أو الناقص. وقد استشهد الشيخ بقول الإمام العادل محمد بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق أنه لا يُرى ولا يتكلم وليس فوق العرش وكل ما وصفه به من صفات سلبية، قال له: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم، وهذا إلزام مفحم للمعطل؛ لأن السلب المحض وصف للعدم، وليس فيه إثبات لموجود.
وكذلك كونه لا يتكلم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها لا يتصف به إلا الجماد والناقص.
فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له.
قوله "وكذلك كونه لا يتكلم..." الخ.
الصفات السلبية منها ما لا يوصف به إلا الجماد والناقص، والناقص كالإنسان العاجز كنفي الكلام والسمع والبصر، ومنها ما لا يوصف به إلا المعدوم مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا القول ينطبق على المعتزلة والأشاعرة، ويقصد الشيخ بذلك الموازنة بينهم وبين الباطنية، فمن قال من المعتزلة والأشاعرة: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، بمنزلة من قال: إنه ليس بقديم ولا محدث، ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره، وهم الباطنية.
ومن قال: إنه ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتاً، أصم، أعمى، أبكم.
قوله "ومن قال: إنه ليس بحي..." الخ.(1/154)
هذا القائل إما أن يريد نفي الأسماء والصفات أو نفي المعاني.
وهذا الكلام يصدق على الفلاسفة والجهمية الذين لا يصفون الله بالصفات الثبوتية ولا يصدق على الباطنية لأنهم ينفون النقيضين.
فمن قال: إن الله تعالى ليس بحي ولا سميع ولا بصير، لزمه أن يقول: إن الله تعالى ميت وأصم وأعمى، وهذا وصف بالنقائص فيكون باطلاً، وفي هذا رد على أصل منهجهم.
أما ما سبق من أن نفي الصفات يسلتزم التشبيه بالمعدوم فهو رد على شبهتهم في زعمهم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.
فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، وما لا يقبل البصر كالحائط، لا يقال له: أعمى ولا بصير.
قوله "فإن قال: العمى عدم البصر..." الخ.
هذا اعتذار من الجهمية نفاة الأسماء والصفات لما قيل لهم: إن نفيكم صفات الكمال عن الله تعالى يلزم منه اتصافه بضدها من صفات النقص، قالوا: إن هذا يلزم لو كان النفي عما من شأنه أن يقبل الاتصاف بهذه الصفات وضدها، كالبصر والعمى والسمع والصمم بالنسبة للإنسان. أما إذا نفيت عما لا يقبل الاتصاف بها فلا يلزم من نفيها اتصافه بضدها أو نقيضها، لأنه لا يلزم من نفي ذلك اتصافه بالصمم والعمى، كما لا يلزم من نفي الحياة عنه اتصافه بالموت.
فتضمن قولهم ذلك أن الله تعالى لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال، فلا يلزم من نفيها عنه اتصافه بضدها من النقائص؛ لأنه بزعمهم غير قابل لذلك كله.
والشيخ هنا يناقش الجهمية نفاة الأسماء والصفات.
ويجيب عن اعتذار الجهمية هنا بأربعة أجوبة.
الجواب الأول والثاني بالمنع والمعارضة.
والجواب الثالث والرابع على فرض التسليم.
قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت، والعمى والخرس والعجمة.
وأيضاً: فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية، ابتلعت الحبال والعصي.(1/155)
قوله "قيل له: هذا اصطلاح..." الخ.
هذان جوابان من الأجوبة الأربعة، وهما مبنيان على المنع.
فالجواب الأول: إن القول بأن ما لا يقبل الاتصاف بالحياة -مثلاً- لا يوصف بالموت كالجدار. إن هذا اصطلاح اصطلحتموه. والاصطلاحات اللفظية لا تنفي الحقائق العقلية. فليس في المعقول أن ما لا يوصف بالحياة والسمع والبصر يمتنع وصفه بالموت والصمم والعمى.
الجواب الثاني:
أن يقال لهم: لا نسلم بأن شيئاً من الموجودات لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات، بل كل موجود يقبل الاتصاف بهذه الصفات ونقائضها، فالجدار لا نقول إنه لا يقبل الاتصاف بالحياة والسمع والبصر؛ لأن كلمة "لا يقبل" تعني المستحيل -أي الممتنع لذاته- والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد حياً، وقدرة الرب نافذة وشاملة كما جعل عصى موسى -وهي جماد- جعلها حية ابتلعت الحبال والعصي كما قال تعالى: ((!$uZّ
ym÷rr&ur إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا tbqن3دùù'tƒ"[الأعراف: 187] فصارت ثعباناً بمجرد إلقائها كما قال تعالى: ((4†s+ّ9r'sù عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ ×ûüخ7oB"[الأعراف: 107]. وكذلك الطين الجماد الذي يعمله عيسى - عليه السلام - يكون طيراً حياً بإذن الله كما قال تعالى ((ّŒخ)ur تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي "[المائدة: 110].
وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى، ولا الكلام ولا الخرس، أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس.(1/156)
فإذا قيل: إن الباري -عز وجل- لا يمكن اتصافه بذلك، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك، مع أنه إذا جُعل غير قابل لهما كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منهما، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات، فكيف ينكر من قال ذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيه بالحي!
قوله "وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف..." الخ.
بعد أن ذكر الشيخ جوابين بالمنع ذكر الجوابين الآخرين المبنيين على فرض التسليم وهما الثالث والرابع.
الجواب الثالث: أن يقال: ما لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً من القابل لها مع اتصافه بنقائضها. فالجدار الذي لا يقبل الاتصاف بشيء من هذه الصفات -على حد زعمهم- أعظم نقصاً من القابل لها مع اتصافه بنقائضها، كالإنسان الأعمى والأخرس والأصم. فالجدار أعظم نقصاً من هذا الإنسان الناقص، لأن الجدار -على زعمهم- لا يقبل الاتصاف بالكمال، فالاتصاف بصفات الكمال من الأمور المستحيلة بالنسبة للجدار، لكن الإنسان الأصم الأعمى الأخرس يقبل الاتصاف بصفات الكمال، وما يقبل الكمال أكمل مما لا يقبل.
....................................................................................
ثم على قولهم: إن الله تعالى لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال، فيه تشبيه لله تعالى بالجمادات -على زعمهم بأن الجماد لا يقبل الاتصاف بمثل الكلام والسمع والبصر- فكيف ينكر من قال هذا على غيره -ممن يثبت لله صفات الكمال- ما يزعم أنه تشبيه بالحي، فالتشبيه بالأحياء خير من التشبيه بالجمادات لو فرض ذلك.(1/157)
وأيضاً فنفس نفي هذه الصفات نقص، كما أن إثباتها كمال، فالحياة من حيث هي، هي -مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها- صفة كمال. وكذلك العلم والقدرة، والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك. وما كان صفة كمال فهو -سبحانه وتعالى- أحق بأن يتصف به من المخلوقات، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل منه.
قوله "وأيضاً فنفس هذه الصفات نقص..." الخ.
الجواب الرابع: على فرض أن العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر وأن عدم الحياة في الجدار لا يسمى موتاً، فإن نفي صفات الكمال نقص، كما أن إثباتها كمال، فنفي الحياة نقص وإن لم يسم في حق الجدار موتاً، ونفي السمع في حق الجدار نقص وإن لم يسمى صمماً.
فالحياة من حيث هي، هي صفة كمال بغض النظر عن الموصوف بها سواء كان الرب أو الإنسان، وكذا باقي صفات الكمال، ونفيها نقص لأن مجرد نفي الكمال نقص.
فإذا كانت الصفة من حيث هي هي صفة كمال والمخلوق متصف بها، والخالق غير متصف بها لزم من ذلك أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، وهذا ظاهر الفساد؛ لأن المخلوق لا يكون أفضل من الخالق.
واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولوا: ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي.
ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين.
وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي ولا سميع ولا بصير.
وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه.
فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم.
قالوا: إنما يلزم ذلك لو كان قابلاً لذلك.
وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً.
قوله "واعلم أن الجهمية المحضة..." الخ.
يوازن الشيخ هنا بين نوعين من النفاة.(1/158)
فالطائفة الأولى الجهمية المحضة -وهم غلاة الغلاة- الذين ليس عندهم شائبة إثبات، وهم الذين يصفون الله تعالى بسلب النقيضين، فيقولون: لا موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي، فيصفون الله بالنفي ونفي النفي، وقولهم: لا موجود ولا ليس بموجود يساوي قولهم: لا موجود ولا معدوم؛ لأن جملة "ليس بموجود" تعني المعدوم، ووصفهم لله تعالى بذلك ممتنع في بداهة العقول كالجمع بين النقيضين، وسلب النقيضين، وهؤلاء هم الباطنية.
....................................................................................
والطائفة الثانية الذين يصفون الله تعالى بالنفي فقط فيقولون: ليس بحي ولا سميع ولا بصير، وضلال هؤلاء يظهر من وجهين:
أحدهما: أن سلب صفات الكمال عن الله تعالى يلزم منه اتصافه بضدها من النقائص.
الثاني: زعمهم في الرد على هذا الإلزام أن الله تعالى غير قابل للاتصاف بهذه الصفات ولا ضدها، وقد سبق بيان ما يترتب على ذلك من مفاسد.
وكذلك من ضاهى هؤلاء، وهم الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه -إذا قيل لهم: هذا ممتنع في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره.
قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلاً لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين.
قوله "وكذلك من ضاهى هؤلاء..." الخ.
يقصد الشيخ بذلك أن بعض من نفى العلو من الأشاعرة قد ضاهى بحجته حجة من ينفون عن الله النقيضين، حيث قالوا: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ومن المعلوم أن هذا الكلام ممتنع في ضرورة العقل، وهو كقول الباطنية بأن الله تعالى ليس بقديم ولا محدث، ولا واجب ولا ممكن، ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.(1/159)
فإذا قيل لهم: إن قولكم بأن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه من باب سلب النقيضين وهو ممتنع، قالوا: إنما يكون كذلك لو كان الله تعالى قابلاً لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، و الله تعالى ليس بمتحيز، فلا يمتنع نفي هذين المتقابلين عنه لأنه ليس بقابل.
فيقال لهم: علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق، لا يستثنى منه موجود. والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، متميز عنها، فهذا هو الخروج.
فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم، وتارة ما هو خارج العالم، فإذا قيل: ليس بمتحيز، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه.
فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر، وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل. كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل.
قوله: "فيقال لهم: علم الخلق بامتناع الخلو ..." الخ.
رد الشيخ على اعتذارهم السابق بوصف الله تعالى بسلب النقيضين بأنه غير قابل فلا يكون ممتنعاً رد على هذا بردين:
الأول: أن من المعلوم عند العقلاء، علماً عاماً لا يستثنى منه شيء، امتناع الخلو عن النقيضين، ومن ذلك: كون الموجود لا داخل العالم ولا خارجه، فتقسيمهم الموجودات إلى نوعين: موجود غير متحيز لا يتمنع خلوه عن هذين النقيضين، وموجود متحيز يمتنع خلوه عن هذين النقيضين، تقسيم باطل.
الثاني: أن المتحيز إما أن يراد به ما تحيط به الأحياز والأمكنة والظروف الوجودية، وهذا هو الداخل في العالم.
وإما أن يراد به المنحاز عن العالم، وهذا هو الخارج عنه وهو الخالق سبحانه، فإذا قالوا: إنه ليس بمتحيز، والتحيز يطلق على المعنيين السابقين، صار معناه أنه لا
....................................................................................(1/160)
داخل العالم ولا خارجه، فاحتجوا على الدعوى بالدعوى، فأصل دعواهم أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، فلما قيل لهم: إن هذا سلب للنقيضين، وهو ممتنع. قالوا إنما يكون ممتنعاً لو كان قابلاً، والله تعالى ليس بقابل؛ لأنه غير متحيز فلا يكون ممتنعاً، فاحتجوا على دعواهم بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بدعواهم بأنه غير متحيز، ومعنى غير متحيز ليس بداخل العالم ولا خارجه، فالعبارتان معناهما واحد، وإنما غيروا العبارة إيهاماً لمن لا يفهم حقيقة قولهم بأن معنى العبارة الثانية يختلف عن معنى العبارة الأولى.
والحق أنه نفس المعنى الفاسد الذي علم فساده بضرورة العقل كما فعل أولئك الباطنية في قولهم: إنه ليس بحي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا جاهل فكل ذلك من قبيل سلب النقيضين.
وبهذا انتهى الكلام عن هذه القاعة التي أصلها: أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي، وأن ذلك موجب العقل والسمع، وأن الله موصوف بإثبات الكمالات ونفي النقص، وأن النفي الذي يوصف به هو النفي المتضمن لإثبات الكمال، فما لا يتضمن إثبات كمال من النفي فإنه نقص.
القاعدة الثانية
أن ما أخبر به الرسول عن ربه -عزّ وجلّ- فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه.
وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها. مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة.
قوله: "القاعدة الثانية: أن ما أ خبر به الرسول..." الخ.
يبين الشيخ هنا حكم ما يُذكر من الألفاظ في صفات الله تعالى، فما ورد منها في الكتاب والسنة وجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف معناه.(1/161)
وقوله: "وإن لم يفهم معناه" ليس المقصود أن شيئاً مما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى لا يفهم معناه، ولكن المقصود أن الناس يتفاوتون في أفهامهم، فبعض الناس قد لا يفهم معنى بعض الصفات، فيجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به في كتابه، وبما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من صفات الله تعالى وإن لم يفهم معناه، كما لو سمع قوله تعالى: ((ك`"oH÷qچ9$# عَلَى الْعَرْشِ 3"uqtGَ™$#"[طه: 5]، وجب عليه أن يؤمن أن الله تعالى استوى على العرش وإن لم يفهم معناه، ثم بعد الإيمان يأتي السؤال عن معنى الاستواء.
وقول الشيخ: "وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة..." إلخ. هذا التعبير يشعر بأن بعض الصفات ثابتة بالإجماع. ولكن الشيخ استدرك ذلك الفهم فقال: مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة... فجميع صفات الرب تعالى ثابتة في الكتاب والسنة أو أحدهما.
وما تنازع فيه المتأخرون، نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك.
قوله: "وما تنازع فيه المتأخرون..." الخ.
يذكر الشيخ هنا حكم الألفاظ المحدثة في صفات الله تعالى، وهو مما تنازع فيه المتأخرون.
فما كان كذلك فإنه لا يجوز قبوله، بل يجب التوقف فيه، و الاستفصال عن مُراد المتكلم به، فإن أراد حقاً قُبل، وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن أراد حقاً وباطلاً فُسر وفصل: فيقبل ما أراد من الحق ويرد ما أ راد من الباطل.(1/162)
ثم يقال بعد ذلك لمن أراد بهذه الألفاظ معنى صحيحاً: ما أردته حق، ولكن التعبير عنه بهذه الألفاظ خطأ، لأنها لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ولأنها ألفاظ مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وذكر الشيخ مثالين تطبيقيين على هذه القاعدة، وهما لفظا الجهة والتحيز(1).
فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السماوات. وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم.
ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ونحو ذلك.
وقد عُلم أنه ما ثَمّ موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
قوله: "فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود..." الخ.
لفظ الجهة لفظ مجمل محدث، وقد أوضح الشيخ ما فيه من الإجمال؛ فقد يراد بالجهة شيء مخلوق أي شيء موجود غير الله. وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله أي قد يراد به ما ليس بموجود من المخلوقات، بمعنى أن لفظ الجهة قد يراد به أمر وجودي، وقد يراد به أمر عدمي، فقد يطلق لفظ الجهة على العرش، أو السماوات - وهي موجودة مخلوقة.
وقد يطلق لفظ الجهة على ما فوق العالم وما وراء المخلوقات من العدم. ولهذا كان هذا اللفظ مجملاً محتملاً، كما أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة نفيه ولا إثباته كما جاء في إثبات لفظ العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه ونحو ذلك.
ومن المعلوم بالضرورة أن ما ثم في الوجود إلا الخالق والمخلوق فالموجود قسمان: واجب وممكن أو قديم ومحدث.
....................................................................................
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/304، 355، درء التعارض 1/229.(1/163)
والخالق مباين للمخلوق، أي ليس حالاً فيه، فالله تعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو بائن من خلقه فوق كل شيء وعالٍ على كل شيء سبحانه وتعالى.
فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات؛ أم تريد بالجهة ما وراء العالم، فلا ريب أن الله فوق العالم، بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات. فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل.
قوله "فيقال لمن نفى الجهة..." الخ.
على ضوء ما سبق من معنى الجهة وما يراد بها، يستفصل ممن نفاها وممن أثبتها فيقال للنافي: أتريد بالجهة شيئاً موجوداً مخلوقاً أم تريد بها ما وراء العالم؟ فإن أردت بها الأول فنفيك صحيح؛ لأن الله تعالى ليس داخل المخلوقات، وإن أردت الثاني فنفيك باطل؛ لأن الله تعالى فوق العالم بائن من المخلوقات.
ويقال لمن أثبت أن الله تعالى في جهة: أتريد بذلك أن الله تعالى فوق العالم، أم تريد بالجهة شيئاً موجوداً فيكون الله تعالى داخلاً في المخلوقات؟ فإن أردت الأول فحق، وإن أردت الثاني فباطل(1).
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/262-264، 6/38-40، منهاج السنة 2/323-324.(1/164)
وكذلك لفظ المتحيز، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، وقد قال الله تعالى: (($tBur قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ " [الزمر: 67] وقد ثبت في الصحاح عن النبي × أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)(1).
وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)(2)، وفي حديث ابن عباس: (ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)(3).
وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها، ليس حالاً فيها. فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه.
قوله "وكذلك لفظ المتحيز..." الخ.
اللفظ الثاني من الألفاظ المحدثة المجملة التي ذكرها الشيخ: لفظ المتحيز، فهو لم يأت في صفات الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فالواجب الاستفصال عن معناه؛ فإن أريد به معنى حقاً قبل المعنى الحق ورددنا اللفظ المحدث المحتمل، وإن أريد به معنى باطلاً رد المعنى الباطل واللفظ المحدث؛ فلفظ المتحيز قد يراد به أن الله تعالى
....................................................................................
__________
(1) الحديث أخرجه: البخاري (4/1812) كتاب التفسير، باب تفسير قوله تعالى +الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة"، ومسلم (1/522) كتاب صفات المنافقين برقم 2787.
(2) أخرجه بنحوه ابن جرير في تفسيره لسورة الزمر آية 67.
(3) أخرجه ابن جرير موقوفاً على ابن عباس عند تفسيره سورة الزمر آية 67.(1/165)
تحوزه المخلوقات، أي: تحيط به، فهذا باطل؛ لأن الله تعالى أكبر وأعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، فهو الكبير المتعال، وهو العلي العظيم، ومن دلائل عظمته أنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، والذي عليه أكثر أهل السنة أن الكرسي موضع القدمين كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما(1).
ومن دلائل عظمته أنه تعالى يقبض الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، كما قال تعالى: (($tBur قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ "[الزمر: 67] وكذلك الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض.
وجاء هذا المعنى في عدد من الأحاديث عن جماعة من الصحابة.
ومن شواهد هذا المقام: الحديث الذي يروى أنه تعالى: يأخذ السماوات والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما كما يقول الغلام بالكرة، وهذا التصوير تقريب لكمال تصرفه تعالى في هذه العوالم على كثرتها وعظمها، فهي صغيرة وضئيلة في جانب عظمته سبحانه وتعالى.
ومما استشهد به في هذا المقام الأثر الذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما (ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) فهو العظيم الذي لا أعظم منه، و هو الكبير المتعالي فيمتنع مع هذه
....................................................................................
__________
(1) هو ما رواه الطبراني في المعجم الكبير (12/39) عن ابن عباس أنه سئل عن معنى قوله تعالى +وسع كرسيه السموات والأرض" قال: موضع القدمين. ورواه الحاكم عن ابن عباس بلفظ "الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره" وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي 2/282.(1/166)
العظمة التي لا تحيط بها عقول العباد، يمتنع أن يحويه شيء من مخلوقاته، فهو أعظم وأكبر من أن تحيط به مخلوقاته، فضلاً عن أن يحيط به شيء منها.
وإن أريد بالمتحيز المنحاز عن العالم المباين للمخلوقات، فهو كما قال أئمة السلف: فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ومعنى بائن من خلقه أنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته.
فالمتحيز إما أن يراد به ما تحيط به الأحياز، وهو الدخول في العالم والمخلوقات، وإما أن يراد به المنحاز الخارج عن العالم.
فإن أريد المعنى الأول، فهو باطل في حق الله تعالى؛ لأنه تعالى خارج العالم وليس حالاً في مخلوقاته.
وإن أريد به المعنى الثاني، فهو حق، لكن التعبير بهذا اللفظ خطأ لما سبق من أنه محدث ومحتمل.
وإن أريد به المعنيان جميعاً فهو باطل(1)، وهو كقول من قال: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه، وقد سبق مناقشة ذلك في آخر القاعدة الأولى.
ومثل لفظ الجهة والتحيز باقي الألفاظ المحدثة المجملة المحتملة كالجسم والتركيب ونحو ذلك.
القاعدة الثالثة
إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد.
فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله -سبحانه وتعالى- أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
قوله: "القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد..." الخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/264، 17/343-347، منهاج السنة 2/350-358.(1/167)
هذه القاعدة مناسبة للتي قبلها، فإن مضمون القاعدة السابقة بيان حكم ما يجب فيه التفصيل، ومقصود هذه القاعدة تطبيق ذلك على لفظ الظاهر، أي نصوص الصفات؛ فلفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك،فهو لفظ مشترك يدل على أكثر من معنى، فلابد فيه من الاستفصال والتفصيل في الحكم(1).
وظاهر الكلام هو: المعنى الذي يتبادر ويسبق إلى ذهن ذي الفهم السليم المستقيم، العارف بلغة الخطاب. فظاهر نصوص صفات الله تعالى عند السلف الصالح هو ما يليق بالله تعالى من الصفات.
أما الجاهل بالله تعالى أو ذو الفهم الفاسد، فإن ظاهر نصوص الصفات عنده التمثيل، فيتبادر إلى ذهنه من ألفاظ النصوص مماثلة صفات الله تعالى لصفات
..............................................................................................................
خلقه، ولما كان لفظ الظاهر -ظاهر نصوص الصفات- له أكثر من معنى، وصار فيه إجمال واشتراك وجب الاستفصال والتفصيل فيه على ما يلي:
1- فمن قال: إن الظاهر من نصوص الصفات مراد، وأراد بالظاهر إثبات الصفات على ما يليق بالله تعالى ويختص به، فقوله حق وهو مصيب في اللفظ والمعنى.
2- ومن قال: إن ظاهرها مراد، وزعم أن ظاهرها مماثلة صفات الله تعالى بصفات خلقه، فقوله باطل من جهة اللفظ والمعنى. فليس التمثيل ظاهرها، وليس التمثيل بمراد فالله تعالى ليس كمثله شيء سبحانه.
3- ومن قال: إن ظاهرها ليس بمراد، وظاهرها عنده إثبات الصفات لله تعالى، وإثبات الصفات عنده تشبيه، فظاهرها عنده التشبيه وهذا الظاهر ليس بمراد.
فهذا مبطل في زعمه أن ظاهرها التشبيه، ومبطل في نفيه للصفات بناء على هذا الاعتقاد والتوهم، وإن كان مصيباً من وجه، وهو نفي ما قصد إليه من التمثيل، لكنه مبطل حيث نفى المعنى الحق لصفات الله تعالى.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/358-362، 5/108.(1/168)
4- ومن قال: إن الظاهر ليس بمراد؛ لأن ظاهرها التمثيل، وهذا ليس بمراد بل المراد إثبات صفات تليق بالله تعالى، فهذا يمكن أن يكون مصيباً في المعنى ومخطئاً في اللفظ حيث زعم أن ظاهرها التمثيل، وهذا إنما يليق بالجاهل السني، يعني السني في معتقده، لكنه جاهل، قاصر الفهم والتصور يتبادر إلى فهمه المعنى الباطل، ولكنه لا يثبته وإنما يثبت المعنى اللائق بالله تعالى.
....................................................................................
و هذا الجاهل، وأولئك المعطلة كلهم تضمن كلامهم أن ظاهر كلام الله كفر وضلال؛ لأن ظواهر نصوص صفات الله تعالى - على فهمهم وزعمهم- التمثيل بصفات خلقه وهو كفر وضلال.
وهذا الكلام منهم يتضمن الطعن في حكمة الله تعالى وحسن بيانه، مع أن الله تعالى وصف كتابه بأنه أحسن الحديث كما قال عز وجل:((ھ!$# نَزَّلَ أَحْسَنَ د]ƒد‰ptّ:$#" [الزمر: 23].
وهل من الحكمة أن يخاطب الله تعالى عباده بما يُفهم منه خلاف مراده؟ وهل يكون هذا إلا من عاجز عن البيان، أو جاهل بما يتكلم به، أو مُلْبس مُعَمِّي غاشٍ لا يريد إيضاح مراده. وكل هذا مما يجب تنزيه الله تعالى عنه، وتنزيه رسوله - صلى الله عليه وسلم - عنه وهو أعلم الناس بالله وأقدر الناس على البيان، وأنصحهم للخلق، ولهذا قال الشيخ هنا: "السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله -سبحان وتعالى- أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال".
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل.
قوله: "والذين يجعلون ظاهرها ذلك..." الخ.(1/169)
أي: الذين يجعلون ظاهر نصوص الصفات المعنى الفاسد يغلطون من وجهين أي من أحد وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ حقيقة، فيجعلون اللفظ محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر الفاسد - في زعمهم-.
وتارة يردون المعنى الحق لاعتقادهم أنه معنى فاسد وليس كذلك.
مثال ذلك قوله تعالى: ((ك`"oH÷qچ9$# عَلَى الْعَرْشِ 3"uqtGَ™$#"[طه: 5].
فالأول يزعم أن ظاهر النص وصفه تعالى باستواء مثل استواء المخلوق على ظهور الفلك والأنعام، مع اعتقاده بأن هذا ليس مراداً بل المراد وصفه -تعالى- باستواء يخصه، وهذه حال الجاهل الذي سبق ذكره. فغلطه حيث جعل المعنى الفاسد هو ظاهر النص، فقوله بفساد تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه صحيح، وقوله: إن هذا الظاهر ليس بمراد، صحيح، لكن زعمه أن هذا المعنى الفاسد هو ظاهر النص غلط.
والثاني يقول: إن ظاهر هذه الآية، وصفه تعالى بالاستواء على العرش، والاستواء هذا إنما هو من صفات المخلوق وخصائصه، فلا يجوز أن يقال: إن الله تعالى مستو على العرش، بمعنى أنه فوق العرش، فيقول: ليس هذا الظاهر بمراد،
....................................................................................
بل المراد بـ"استوى" على العرش استولى على العرش، أو أقبل على خلق العرش ونحو ذلك.
فهذا اعتقد أن ظاهر النص -الذي هو المعنى الحق- اعتقد أنه معنى فاسد فنفاه، وهذا معنى قول الشيخ "يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل".
فكل من الأول والثاني جعل ظاهر النص معنى فاسداً، لكن الأول غلط من جهة أنه جعل المعنى الفاسد حقيقة هو ظاهر اللفظ -النص- حتى يكون النص محتاجاً إلى تأويل، وليس كما ظن. والثاني رد المعنى الحق، الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقاده أنه معنى باطل، فهو غالط في اعتقاده أنه معنى باطل، وفي نفيه هذا المعنى الحق، بناء على اعتقاده وتصوره الفاسد.(1/170)
فظهر بهذا أن الأول مخطئ من جهة اللفظ، أي: الحكم على لفظ النص، ومصيب من جهة المعنى، وهو نفيه للمعنى الفاسد.
والثاني مخطئ من جهة اللفظ والمعنى، مصيب فيما قصد إليه من نفي ما اعتقد أنه باطل، وهذا هو المعطل للصفات.
فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني..)(1) الحديث، وفي الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)(2)، وقوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)(3).
فقالوا: قد عُلم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
قوله "فالأول: كما قالوا في قوله "عبدي جعت فلم تطعمني"..." الخ.
ذكر الشيخ هذه الأمثلة لمن يغلط فيجعل المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ، فيكون محتاجاً إلى تأويل حسب ظنه وزعمه. والواقع أن المعنى الفاسد ليس هو ظاهر اللفظ، لأنه جاء في النص ما يفسر ويوضح المعنى.
__________
(1) أخرجه مسلم بنحوه في كتاب البر والصلة برقم 2569 (4/1990).
(2) أخرجه الخطيب في تاريخه (6/328) وقال في كشف الخفاء "رواه الطبراني في معجمه، وأبو عبيد القاسم بن سلام عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه، ورواه القضاعي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه.. وله شواهد، فالحديث حسن، وإن كان ضعيفاً بحسب أصله". انظر كشف الخفا 1/348-349. وقال في تمييز الطيب من الخبيث ص 77: "وقد روي موقوفاً على ابن عباس، قال شيخنا: هو موقوف صحيح".
(3) أخرجه مسلم بنحوه (4/2045) كتاب القدر، برقم 2654، وابن حبان في صحيحه (3/184) والحاكم في المستدرك (1/506).(1/171)
ففي الحديث الأول، وهو قوله تعالى في الحديث القدسي (عبدي جعت فلم تطعمني..) الحديث ليس ظاهره أن الله تعالى يجوع، ويمرض لأنه جاء في الحديث ما يوضح المعنى، ويبين أن المراد جوع العبد ومرضه، فمن جعل المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ونفاه فهو مصيب من جهة المعنى، حيث نفى المعنى الفاسد عن الله تعالى، ولكنه غلط من جهة اللفظ، حيث جعل هذا المعنى الفاسد هو ظاهر لفظ الحديث.
....................................................................................
المثال الثاني: ما ورد في الأثر الذي يروى مرفوعاً وموقوفاً. ولم يثبت مرفوعاً "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه "فبعض الغالطين يظن أن ظاهر الأثر أن الحجر الأسود هو صفة الله ويده اليمين، وهذا الظاهر ليس بمراد، فهذا الشخص غلط في زعمه بأن ظاهر الأثر هو المعنى الفاسد، وإلا كان قد أصاب في نفي هذا الظاهر المتوهم الفاسد، لأن في الأثر ما يدفع هذا المعنى الفاسد كما سيبينه الشيخ بعد قليل.
المثال الثالث: حديث "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء" قالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق، فزعموا أن ظاهر الحديث يدل على أن أصابع الرب تعالى داخلة في أجوافنا، متصلة بقلوبنا، ولذا قالوا بأن الظاهر غير مراد. فيقال: إن هذا النافي قد أحسن في نفيه لهذا المعنى الفاسد وفي نفيه لأن يكون هذا المعنى الفاسد مراداً، ولكنه غلط في زعمه وظنه بأن هذا المعنى الفاسد هو ظاهر الحديث. ومنشأ غلطه اعتقاده بأن البينية تقتضي الاتصال والملاصقة، وليس الأمر كذلك؛ فالبينية في اللغة العربية لا يلزم منها اتصال ولا التصاق، بل قد تقتضي ذلك وقد لا تقتضيه، كما في لفظ المعية فهي تقتضي مطلق المصاحبة، وقد يكون معها امتزاج وقد لا يكون.
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق.(1/172)
أما الحديث: فقوله: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: (يمين الله في الأرض) وقال: (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه) ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، ففي نصّ الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً، وأنه محتاج إلى التأويل مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس.
وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسراً: (يقول الله: عبدي جعت فلم تطعمني. فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضت فلم تعدني. فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده).
وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسراً ذلك بأنك (لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده). فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل.
قوله "فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها..." الخ.
بدأ الشيخ ببيان المعنى الصحيح للأمثلة الثلاثة، والرد على زعم من زعم أن ظاهر هذه النصوص هو المعنى الفاسد، وأن هذا الظاهر ليس بمراد فقال: أما
....................................................................................
الحديث الواحد: يعني الأول. وبدأ بذكر أثر ابن عباس وبين معناه الصحيح ونبه إلى أن المعتمد أن هذا الأثر إنما يعرف عن ابن عباس وأنه ليس بمرفوع(1).
__________
(1) نقض التأسيس 3/103-104، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/397-398، 580-581، درء التعارض 5/239.(1/173)
ثم ذكر حديث أبي هريرة وبين بذكر بقية الحديث أنه ليس فيه ما يوجب التوهم الفاسد، لأن الحديث جاء مفسراً ومبيناً إذ قال: "مرض عبدي فلان، وجاع عبدي فلان" إلى آخره، فجعل جوعه جوعه ومرضه مرضه، الضمير في الأول فجعل جوعه: للعبد وفي الثاني جوعه: للرب. وهكذا في قوله ومرضه مرضه، وفسره بقوله: لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، فمن أطعم الجائع وجد جزاءه عند ربه.
وقوله: "فلو عدته لوجدتني عنده" أي لو عدت المريض لله لوجدتني عنده، وهذه عندية تتضمن القرب والمعية الخاصة، فمن عاد المريض فاز بهذا القرب وهذه المعية(1).
وقوله: "مرض عبدي فلان" الأظهر أن العبودية هنا هي العبودية الخاصة؛ وبفهم الحديث لا يبقى فيه لفظ يحتاج إلى تأويل.
فائدة:
كل قرب خاص يتضمن المعية الخاصة ولا عكس.
وأما قوله : ( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه. و لا في قول القائل: هذا بين يدي. ما يقتضي مباشرته ليديه. وإذا قيل: ((ة>$ys،،9$#ur الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ اعِ'F{$#ur"[البقرة: 164]، لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض. ونظائر هذا كثيرة.
قوله "وأما قوله: "قلوب العباد"..." الخ.
وكذلك في هذا المثال الثالث من ظن أن ظاهره أن أصابع الرب متصلة بالقلوب، وأنها داخلة في أجواف العباد، فيوجب تأويل هذا الحديث لأن ظاهره ليس بمراد. فهذا غالط من جهة اللفظ حيث زعم وتوهم أن ظاهر الحديث أن أصابع الرب في قلوب وأجواف العباد، وإن كان مصيباً في نفي هذا المعنى الباطل الذي توهمه.
ونقول: إن ما توهمه من ظاهر الحديث غير صحيح، فالحديث لا يدل على ذلك لأن لفظة "بين" لا تقتضي اتصالاً ولا ملاصقة، كما إذا قال القائل: هذا بين يدي، وكذلك كون السحاب بين السماء والأرض لا يقتضي ذلك اتصاله بالسماء ولا بالأرض(2).
__________
(1) درء التعارض 5/233-336.
(2) نقض التأسيس 3/142-143.(1/174)
ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: (($tB مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ "[ص: 75] فقيل هو مثل قوله: ((َOs9urr& يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا $VJ"yè÷Rr&"[يس: 71].
فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: (($yJخ6sù كَسَبَتْ ِ/ن3ƒد‰÷ƒr&"[الشورى: 30] وهناك أضاف الفعل إليه، فقال: (($yJد9 àMّ)n=yz" ثم قال: ((£"y‰uخ/".
وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: ((ِ@t/ يَدَاهُ بb$tGsغqف،ِ6tB"[المائدة: 64] وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: (("جچّgrB $uZد^مôمr'خ/"[القمر: 14].
نظير قوله: ((حnد‰uخ/ à7ù=كJّ9$#" [الملك: 1] و((x8د‰u
خ/ çژِچy‚ّ9$#"[آل عمران: 26] في المفرد.
فالله -سبحانه وتعالى- يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: (($¯Rخ) فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا $YZ خ7oB"[الفتح: 1] وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط، لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك.
فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت يدي. لكان كقوله: (($£JدiB عَمِلَتْ !$uZƒد‰÷ƒr&" وهو نظير قوله: ((حnد‰uخ/ à7ù=كJّ9$#"، و((x8د‰u
خ/ çژِچy‚ّ9$#" ولو قال: خلقت بيدي. بصيغة الإفراد، لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: ((àMّ)n=yz" التثنية.
....................................................................................(1/175)
هذا، مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)(1) وأمثال ذلك.
قوله "ومما يشبه هذا القول..." الخ.
أي: ومما يشبه من يجعل المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ من يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله.
وجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله يؤدي بصاحبه إلى مخالفة اللغة وعدم معرفة المراد، كمن يسوي بين معنى قولك: محمداً أكرمت، وقولك: أكرمت محمداً.
وقد ذكر الشيخ لذلك مثلاً، وهو اعتقاد بعض الناس أن قوله تعالى (($tB مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " مثل قوله تعالى: ((َOs9urr& يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا $VJ"yè÷Rr&" فصاحب هذا الظن يعتقد أن الله تعالى خلق الأنعام كما خلق آدم، وأن المراد بالآيتين التعبير باليدين عن الفاعل، وليس المراد إثبات صفة اليدين ولا خلق آدم باليدين، فهم جعلوا آية [ص] وهي قوله تعالى (($tB مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ £"y‰uخ/" الصريحة في إثبات صفة اليدين لله تعالى جعلوها نظير آية [يس] وهي قوله تعالى: ((َOs9urr& يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا $VJ"yè÷Rr&" وليس الأمر كذلك، بل هذا غلط من جهة اللفظ والمعنى، وقد ذكر الشيخ الفروق بين الآيتين كما يأتي في كلامه إن شاء الله. لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيهاً بقوله (($yJخ6sù
....................................................................................
كَسَبَتْ ِ/ن3ƒد‰÷ƒr&"[الشورى: 30] وهناك أضاف الفعل إليه فقال: "لما خلقت" ثم قال: "بيدي".
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1458) كتاب الإمارة رقم 1827.(1/176)
وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله ((ِ@t/ يَدَاهُ بb$tGsغqف،ِ6tB"[المائدة: 63] وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع فصار كقوله (("جچّgrB $uZد^مôمr'خ/"[القمر 14].
وهذا في الجمع نظير قوله ((حnد‰uخ/ à7ù=كJّ9$#"[الملك:1] و((x8د‰u
خ/ çژِچy‚ّ9$#"[آل عمران: 26] في المفرد.
فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله: (($¯Rخ) فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا $YZ خ7oB"[الفتح:1] وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي. كان كقوله "مما عملت أيدينا" وهو نظير قوله "بيده الملك" و"بيدك الخير" ولو قال خلقت بيدي، بصيغة الإفراد لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: "خلقت بيدي" بصيغة التثنية.
هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون من كلمهم وأهليهم وما ولوا" وأمثال ذلك.
قوله "لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي.."إلخ.
....................................................................................
ذكر الشيخ هنا فروقاً من جهة اللفظ ومن جهة المعنى بين آية [ص] وآية [يس] وهي كما يلي:
الأول: أنه في آية [ص] أسند الفعل إلى نفسه حيث قال "خلقت" وفي آية [يس] أسند الفعل إلى الأيدي فقال "عملت أيدينا" وهذا فرق لفظي.
الثاني: في آية [ص] ذكر الله تعالى نفسه بصيغة الإفراد وفي آية [يس] ذكر الله تعالى نفسه بصيغة الجمع الدالة على التعظيم.(1/177)
الثالث: في آية [ص] ذكر اليدين بصيغة التثنية. وفي آية [يس] ذكرها بصيغة الجمع.
الرابع: أنه في آية [ص] أسند الفعل إلى نفسه وعداه إلى اليدين بالباء، أما في آية [يس] فإنه أسند الفعل إلى الأيدي، وحينئذ فلا مجال للتعدية بالحرف.
فهذه أربعة فروق لفظية، وهي فروق لها أثر في الدلالة والمعنى. وقد ذكر الشيخ في ضوء ذلك بعض المقارنات وهي:
آية [ص] تشبه آية المائدة وهي قوله تعالى: ((ِ@t/ يَدَاهُ بb$tGsغqف،ِ6tB" من حيث ذكر اليدين بلفظ التثنية.
وآية [يس] تشبه عدداً من الآيات: فهي شبيهة بقوله تعالى: (($yJخ6sù كَسَبَتْ ِ/ن3ƒد‰÷ƒr&" من حيث إسناد الفعل إلى الأيدي.
وهي شبيهة بقوله تعالى: (("جچّgrB $uZد^مôمr'خ/" وذلك من جهة ذكر المثنى بلفظ الجمع، فالمثنى في اللغة العربية إذا أضيف إلى مثنى أو جمع فإنه يجمع، ومن
....................................................................................
شواهده قوله تعالى:(((# qمèsـّ%$$sù $yJكgtƒد‰÷ƒr&"[المائدة: 38] وقوله تعالى:((ô‰s)sù صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " [التحريم:4].
فكذلك هنا لما ذكر الله تعالى نفسه بصيغة الجمع الدالة على التعظيم، وأضاف الصفة المثناة إليه، ذكرها بصيغة الجمع، كما في قوله: "أيدينا" وقوله "بأعيننا" كما أن آية [يس] تشبه آية الملك، وهي قوله "بيده الملك"، وآية آل عمران، وهي قوله: "بيدك الخير" من جهة ذكر لفظ اليد بصيغة المفرد، والمفرد المضاف يعم كل ما يدخل تحت مسماه، وقد دلت النصوص الأخرى أن لله تعالى يدين تليقان به سبحانه، لا تماثل أيدي المخلوقين، كما هو الشأن في سائر صفاته، وهذه الآيات وإن كانت تدل على إثبات صفة اليد لله تعالى إلا أن الآيات الواردة في إثبات هذه الصفة بعضها أصرح من بعض في الدلالة على ذلك والبعد عن شبهة المجاز.(1/178)
فأصرح آية في ذلك وأبعد آية عن شبهة المجاز آية [ص] وهي قوله تعالى: (($yJد9 خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " ثم آية المائدة وهي قوله ((ِ@t/ يَدَاهُ بb$tGsغqف،ِ6tB" وإن كان الجمع مما يستدل به عند أهل السنة و الجماعة على إثبات هذه الصفة.
وهناك فرق بين الآيتين في المعنى وهو:
أن آية [ص] تدل على خلق آدم باليدين، وفيه فضيلة لآدم وخصوصية تشريف.
أما آية [يس] فلا تدل على أن الله تعالى خلق الأنعام بيديه، ولو كانت تدل على ذلك لم يكن لآدم خصوصية على سائر المخلوقات؛ فهذا الأسلوب في اللغة
....................................................................................
العربية لا يدل على خصوص فعل اليدين، بل يعبر بهذا عن مطلق الفعل سواء كان باليد أو بغيرها. مثل قوله تعالى: ((!$tBur أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ ِ/ن3ƒد‰÷ƒr&" [الشورى: 30]، فيدخل في ذلك كل ما كسبه الإنسان سواء كان بيديه أم بغيرها من سائر جوارحه، ومن أساليب اللغة العربية إسناد الفعل لليدين؛ وإن لم يكن الفعل حصل باليدين، لأنهما أداة الفعل في الغالب، فيقال: هذا بما كسبت يداك، وإن كان شيئاً قاله بلسانه.
فهذا فرق بين الآيتين فالله تعالى خلق آدم بيديه وخصه بذلك تكريماً وتشريفاً.
وخلق سائر الأنعام بمشيئته وقدرته وكلماته الكونية فبطل بهذا قول من قال: إن آية [ص] مثل آية [يس] بما سبق بيانه من الفروق اللفظية والمعنوية(1).
وكما دل القرآن على إثبات اليدين فقد دلت السنة المتواترة على ذلك، وأجمع السلف على إثبات صفة اليدين لله تعالى.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/365-370، رد الدارمي على المريسي ص 386-398 ضمن عقائد السلف، الصواعق المرسلة لابن القيم 1/266، مختصر الصواعق 2/155-163.(1/179)
ومن أدلة السنة على ذلك حديث عبدالله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم وغيره قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وقوله "عن يمين الرحمن" أي يلون يده اليمين بدليل قوله "وكلتا يديه يمين" ومعنى يمين أي ذات يمن وخير وبركة، وفي ذلك احتراز لدفع توهم النقص في اليد الأخرى ولله تعالى يدان، ونطق القرآن بإثبات اليمين كما قال تعالى:((فV؛uq"yJ،،9$#ur مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ "[الزمر: 67].
....................................................................................
وورد في بعض الألفاظ تسمية اليد الأخرى بالشمال كما في صحيح مسلم. وفي بعض الألفاظ قال اليد الأخرى.
فإحدى يدي الرب تعالى تسمى اليمنى، وله يد أخرى، وإن كان وصف اليمين شاملاً لكلتا يديه سبحانه وتعالى، ولو كانت كلتا يديه تسمى بذلك لم يكن لتخصيص المقسطين بأنهم عن يمين الرحمن معنى، لا سيما وقد قال: وكلتا يديه يمين.
وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد -كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا وقدرته كقدرتنا.
وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير.(1/180)
فكذلك إذا قالوا في قوله: (( يُحِبُّهُمْ ے¼çmtRq™6دtن†ur"[المائدة: 54]، ((zسإج' اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا çm÷Ztم"[المائدة: 119]، وقوله: ((NèO اسْتَوَى عَلَى ؤ¸َگyêّ9$#"[الأعراف: 54]: إنه على ظاهره؛ لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضا كرضاه.
قوله "وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص..." الخ.
هذا رجوع للكلام على أصل القاعدة بعد استطراد، والمراد بالقائل هنا أي: القائل: إن ظاهر نصوص الصفات مراد أو غير مراد. والمراد بالنصوص المتنازع في معناها ما عدا الصفات السبع، كنصوص صفات الفرح والرضى والمحبة والاستواء، والنصوص المتفق على معناها هي نصوص الصفات السبع كالعلم والقدرة والحياة، والكلام هنا مع الأشاعرة.
وقوله: "والظاهر هو المراد في الجميع..." إلخ. هذا الكلام معترض لبيان مذهب أهل السنة والجماعة، وهو أن الظاهر مراد في الجميع أي: في النصوص المتفق على معناها، والمتنازع في معناها، فظاهرها مراد، وهي على حقيقتها، وليس معنى
..............................................................................................................
ذلك أن صفات الله تعالى مثل صفات المخلوق، بل لله تعالى من هذه الصفات كلها ما يناسبه، ويختص به، ويليق به سبحانه، لا يشركه ولا يشبهه في ذلك أحد من خلقه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين، لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي. وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً.
قوله "فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات..." الخ.(1/181)
المراد بالمستمع هنا هو المخاطب الذي يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، فلا يخلو إما أن يريد بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين، أو ما يليق بالله تعالى ويختص به.
فإن كان يعتقد أن ظاهر الجميع -أي: النصوص المتنازع في معناها والنصوص المتفق على معناها- إن كان يعتقد أن ظاهرها هو التمثيل، فيجب عليه أن ينفي هذا الظاهر الذي يظنه.
وإن كان يعتقد أن ظاهر الجميع هو ما يليق بالله تعالى ويختص به، فليس له نفي شيء من ظاهر هذه النصوص إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا ما هو من جنس ما ينفي به المعطلة سائر الصفات، كشبهة التشبيه، وشبهة التركيب، وشبهة التجسيم، تلك الشبه التي يتذرع بها الفلاسفة والجهمية ونحوهم لنفي سائر الصفات دون تفريق بين الصفات.
وبيان هذا، أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد؛ ومنها ما هي معان وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا؛ فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه.
فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه، كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)(1) فشبَّه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي.
قوله "وبيان هذا، أن صفاتنا..." الخ.
__________
(1) أخرجه بمعناه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" برقم 7437.(1/182)
أي وبيان ما تقدم من أن ظاهر جميع نصوص الصفات مراد؛ لأن الظاهر هو ما يليق بالله تعالى ويختص به، كما هو قول أهل السنة والجماعة، مما يبين هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان أي متعينة متشخصة وأجسام، والجسم هو الشيء الكثيف كالبدن، وهي أبعاض لنا أي بعض منا، تقول: يد الإنسان بعضه، ووجهه بعضه، أو بعض منه. ومن صفاتنا ما هي معان وأعراض، أي معنوية لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة.
....................................................................................
ولم يقل المسلمون -لما أخبر الله تعالى عن نفسه بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل قالوا: إن ظاهر ذلك مراد؛ لأن مفهومه في حقه ليس كمفهومه في حقنا، فصفاته لا يقال لها أعراض، لأن العرض هو الذي يعرض ويزول، ولا يقال لها أبعاض؛ لأن ذلك يشعر بالتجزؤ ومن نزه الله تعالى عن الأعراض والأبعاض من نفاة الصفات، فلابد من مواجهته بالاستفصال كما تقدم في حكم الألفاظ المجملة في القاعدة الثانية، وكذلك لما أخبر الله أنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، وهو التمثيل، فلما كان هذا الظن وهذا المفهوم منتفياً لم يقل المسلمون: إن ظاهر نصوص الصفات غير مراد، بل قالوا: إن ظاهره مراد؛ لأن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى من الوصف الذي يناسبه، فكما أن للمخلوق صفة تناسبه، فلله تعالى صفة تناسبه.
وإذا كانت ذات الله تعالى ليست مثل ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ليست كصفات المخلوقين، والكلام في الصفات كالكلام في الذات. وقد قال تعالى: ((}ّ
s9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى:11] فالله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.(1/183)
وقوله: "وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه": المنسوب هو الصفة، والمنسوب إليه هو الموصوف، أي: ليست الصفة المنسوبة إلى الله كالصفة المنسوبة إلى المخلوق، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه: أي: وليس الخالق الذي تنسب إليه صفاته كالمخلوق الذي تنسب إليه صفاته.
....................................................................................
واستشهد الشيخ هنا بحديث الرؤية وقد ذكره بمعناه، وقد جاء بألفاظ كثيرة ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر)(1) الحديث. فالرؤية والرائي في الموضعين في الحديث متعلقة بالمخلوق ولذا شبه الرؤية بالرؤية، فرؤية المؤمنين لربهم تشبه رؤيتهم للشمس صحواً والقمر ليلة البدر من حيث:
1- الجلاء والوضوح وعدم الخفاء.
2- أنها رؤية من العلو، وفيه رد على الأشاعرة القائلين بأنه يرى لا في جهة.
3- الرؤية من غير إحاطة.
وأما المرئي فالمذكور أولاً هو الله تعالى والمذكور ثانياً هو القمر، ولا يقصد في الحديث تشبيه المرئي بالمرئي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ولهذا قال الشيخ تعليقاً على هذا الحديث: فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي.
القاعدة الرابعة
وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين؛ ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها - كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنَّ أن مدلول النصوص هو التمثيل.
__________
(1) رواه البخاري كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:+وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" برقم 7434، ومسلم في كتاب الإيمان برقم 182.(1/184)
الثاني - أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطّله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله -حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل- قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه.
الثالث- أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب تعالى.
الرابع- أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات.
فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحداً في أسمائه وآياته.
قوله "القاعدة الرابعة: وهي أن كثيراً من الناس..." الخ.
....................................................................................
أي: أن ما سبق تقريره من أن ظاهر نصوص الصفات مراد وهو ما يليق بالله تعالى ويختص به من صفات الكمال، وأن الزعم بأن الظاهر غير مراد باطل، سواء جعل الظاهر هو التمثيل فهو باطل من حيث ظن أن ذلك هو ظاهر النصوص وإن أثبت الصفات على ما يليق بالله تعالى، أو جعل الظاهر الذي هو ما يليق بالله من إثبات الصفات تمثيلاً فهو مبطل من حيث نفى الظاهر اللائق بالله تعالى، وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة التي سيتكلم عليها المؤلف هنا، ومدارها عما يترتب عليه توهم التشبيه في صفات الله تعالى، وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين.(1/185)
هذا التنويع الذي ذكره المؤلف راجع إلى تنوع الناس في توهم التمثيل، فمنهم من يتوهم ذلك في كل الصفات كالجهمية والمعتزلة، ومنهم من يتوهم ذلك في كثير منها أو أكثرها كالأشاعرة ونحوهم؛ ثم إن هذا المتوهم يريد أن ينفي تلك الصفات التي فهم منها التمثيل، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: ظنه واعتقاده أن ظاهر نصوص الصفات مماثلة صفات الله لخلقه، فجعل مدلول كلام الله الكفر والضلال.
الثاني: أنه لما اعتقد أن ظاهر النصوص التمثيل ونفى الصفات من أجل ذلك، عطّل النصوص عما دلت عليه من الحق الذي أراده الله ورسوله.
وهذان المحذوران يتعلقان بالنصوص الشرعية، فقد جمع فيهما بين التعطيل والتمثيل.
الثالث: أنه ينفي عن الله تعالى صفات كماله بغير علم، فيعطل الرب عما يجب له من صفات الكمال.
....................................................................................
الرابع: أن تعطيله ذلك يؤول به إلى وصف الله تعالى بنقيض صفاته، فيصفه بصفات الجمادات والناقصات، أو المعدومات والممتنعات.
وهذان المحذوران يتعلقان بصفات الرب تعالى، وهذه الأربعة كلها محذورة وتنافي تعظيم الله تعالى وتعظيم كلامه، وكل واحد من هذه الأربعة كاف في بيان فساد مذهب المعطلة.
ثم إن الشيخ بعد أن فصل هذه المحاذير ذكرها مجملة مبيناً أنها من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وذلك في قوله "فيكون قد عطل صفات الكمال... إلخ، فقوله "فيكون قد عطل صفات الكمال" إلى قوله "والمعدومات" فيه ذكر للثالث والرابع وقوله "وعطل النصوص عما دلت عليه" إلى قوله "بالمخلوقات" فيه ذكر الثاني ثم الأول.
وقوله: "فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل" فيه إجمال لتلك المحاذير بعد إجمال.(1/186)
مثال ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش؛ فأما علوه ومبيانته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله.
قوله "مثال ذلك أن النصوص كلها..." الخ.
أي: مثال ما وقع فيه توهم تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه: أن النصوص الشرعية قد تظافرت وتنوعت بوصف الله تعالى بالعلو على المخلوقات، والاستواء على العرش، وهناك فروق بين الاستواء على العرش والعلو وهي:
1- أن العلو ثابت بالعقل والسمع، وأما الاستواء فطريق العلم به هو السمع.
2- أن العلو صفة ذاتية، وأما الاستواء فصفة فعلية.
3- أن العلو عام على جميع المخلوقات، أي: أن الله تعالى عالٍ على جميع الخلق، وأما الاستواء فهو خاص بالعرش.
ولم يأت في الكتاب ولا في السنة وصف الله تعالى بأنه لا داخل العالم ولا خارجه كما يقوله نفاة العلو المعطلة؛ لأن هذا قول باطل ممتنع.
فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: ((ں@yèy_ur لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ¾حnح'qكgàك"[الزخرف: 12-13] فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخرَّ المستوي عليها. فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار.
قوله "فيظن المتوهم أنه إذا وصف..." الخ.(1/187)
أي: يظن هذا المتوهم أن الله تعالى إذا وصف بالاستواء على العرش لزم أنه يكون استواؤه كاستواء المخلوق على الفلك والأنعام، ومعلوم أن استواء المخلوق على غيره يكون محمولاً ومعتمداً على ما تحته من سفينة أو سيارة أو غير ذلك، فلو غرقت السفينة أو عثرت الدابة لخرّ من فوقها لأنه تبع لها.
فهذا المتوهم ظن أنه يلزم من استواء الله تعالى على العرش ما يلزم من استواء المخلوق على المخلوق، فيريد أن ينفي هذا المعنى الباطل الذي فهمه، فينفي تبعاً لذلك ما دل عليه النص من المعنى الحق، فيقول هذا المتوهم في تفسير الاستواء: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، فإن كان مؤولاً قال: إنه الاستيلاء، وإن كان مفوضاً قال الله أعلم بمراده به.
وقد فسر الاستواء عند السلف بالعلو والارتفاع، والاستقرار، والصعود، أما لفظ القعود فلم يذكر في الآثار المروية في تفسير الاستواء، وأما لفظ الجلوس فقد
....................................................................................
ورد في بعض الآثار نسبة الجلوس إلى الله تعالى، وأنه يجلس على كرسيه كيف شاء سبحانه، وربما أطلق بعض الأئمة هذا اللفظ أيضاً، وسياق كلام الشيخ يشعر بأن الاستواء يتضمن القعود(1)، لكن الأولى التوقف في إطلاق هذا اللفظ إلا أن يثبت.
ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء!، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم.
وقد عُلم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره.
وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك.
__________
(1) نقض التأسيس 1/435.(1/188)
قوله "ولا يعلم أن مسمى القعود..." الخ.
أي: يقال لهذا الغالط المتوهم في القعود والاستقرار ما يقال في الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في مفهوم الاستواء الذي يثبته والقعود والاستقرار فالله تعالى بهذا المعنى والاعتبار ليس مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً؛ لأنه تعالى منزه عن الحاجة بغناه عما سواه، وإن كانت الحاجة غير داخلة وأنه لا يدخل في مسمى القعود والاستقرار إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم.
فالمنفي هو الحاجة والافتقار، فهذا هو المعنى الذي يجب تنزيه الله تعالى عنه، فمدار النفي هو النقص، فما كان نقصاً وجب تنزيه الله تعالى عنه، ولا ينفي الكمال بناء على توهم النقص، فالله تعالى مستوٍ على العرش استواء يليق بجلاله،
....................................................................................
ليس فيه حاجة ولا افتقار؛ لأنه تعالى الغني عما سواه، وكل شيء محتاج إليه تعالى. فهذا المتوهم جعل الحاجة لازمة لمطلق الاستواء، ومثّل لذلك بسقوط المستوي على السفينة، وخرور الراكب على الدابة، وهذا غلط. فإن المعنى العام الكلي المشترك للاستواء لا يستلزم الحاجة، وإنما يستلزم الحاجة استواء المخلوق.
أما استواء الرب تعالى على العرش فهو استواء بلا حاجة ولا افتقار(1).
وهناك فروق بين الاستواء والاستقرار والقعود، فالاستواء فسر بالارتفاع والاستقرار والصعود والعلو، والاستقرار فيه معنى الثبات وهو خلاف الاضطراب، والقعود هو خلاف القيام.
فالقعود على الشيء، والاستقرار على الشيء، والاستواء على الشيء، فقد يكون قعوداً بلا استقرار والعكس كذلك. وأما الاستواء فإنه يتضمن الاستقرار، فكل استواء استقرار وليس كل استقرار استواءً.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/379.(1/189)
وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك. فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة.
فلو قُدِّر -على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه -تعالى الله عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه. أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه، بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به - فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق. بل لو قدر أن جاهلاً فهم مثل هذا، أو توهمه لبُين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه.
....................................................................................
فلما قال تعالى: ((uن!$uK،،9$#ur بَنَيْنَاهَا 7‰&÷ƒr'خ/"[الذاريات: 47] فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زُبُل ومجارف وأعوان وضرب لبن وجبل طين.(1/190)
ثم قد عُلم أن الله خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضاً فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها -فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه، أو عرشه! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات! وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأولى.
قوله "وليس في هذا اللفظ ما يدل ...." الخ.
يبين الشيخ رحمه الله: أنه لا أساس لهذا التوهم في دلالة ألفاظ نصوص الاستواء وذلك لوجوه:
1- أن الله تعالى ذكر استواء أضافه إلى نفسه كما أضاف إليه سائر الصفات كعلمه وسمعه وبصره وبنائه للسماء، فالقول في الاستواء كالقول في هذه الصفات.
2- أن من المعلوم أنه تعالى ليس مثل خلقه، فصفاته كذلك، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، فلو كان الله تعالى مثل خلقه لكانت صفاته مثل صفاتهم.
....................................................................................
3- أن من المعلوم أنه تعالى غني عن كل ما سواه وذلك يتضمن غناه عن العرش وإن كان مستوياً عليه، بل هو الممسك للعرش وما دون العرش.
4- أن علو الشيء على غيره لا يستلزم حاجته إلى ما دونه، وذلك ثابت في المخلوقات، فالسحاب فوق الأرض، والسماوات بعضها فوق بعض، وليس شيء من ذلك مفتقراً إلى ما تحته، فالله تعالى أولى ألا يلزم من علوه على خلقه واستوائه على عرشه حاجة أو افتقار، ومن المعلوم أن ما ثبت للمخلوق من الغنى فالله أولى به(1).
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 372.(1/191)
وقد بين الشيخ أن هذا المعنى الباطل لا يجوز توهمه في ألفاظ النصوص، ولا اعتقاد أنه ظاهرها، فضلاً عن أن يجوّز ذلك المعنى الباطل على الله تعالى وذلك في قوله "فهل هذا إلا جهل محض..."
وكذلك قوله: ((LنêYدBr&uن مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ â'qكJs?" [الملك: 16] من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات، فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه.
ولهذا يُفرَّق بين كون الشي في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله.
قوله "وكذلك قوله "LنêYدBr&uن مَنْ فِي دن!$yJ،،9$#..." الخ.
حرف "في" من حروف الجر ولها معانٍ، والأصل فيها الظرفية، ولكن هذه الظرفية تختلف بحسب ما قبلها وما بعدها ولهذا قال الشيخ: إنه يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم... إلخ أي: أن "في" في كل هذه التراكيب للظرفية، ولكن لكل تركيب خاصية يتميز بها عن الآخر.
- فالشيء في المكان يعني أنه قد يتسع لغيره.
- والجسم في الحيّز. والحيز ما شغله الجسم من الفراغ، وعلى هذا فالحيز لا يسع غير الجسم المتحيز فيه.
- والوجه في المرآة أي: صورته.
- والعرض في الجسم بمعنى أنه قائم به. وهكذا صار لكل تركيب معنى يخصه، وأفادت "في" في كل تركيب معنى خاصاً.
....................................................................................(1/192)
وقول الشيخ: "وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء يتقضي ذلك" أي يقتضي أنهما في داخل السماء، وهذا يدل على أن الشيخ يذهب إلى ذلك، وهذا هو المشهور عند المفسرين، والنصوص ليست صريحة في هذا؛ لأن لفظ السماء يحتمل السماء المبنية، والسماء بمعنى العلو، فالإخبار عن الشمس والقمر بأنهما في السماء ليس نصاً بأنهما داخل السماء، ومن أجل هذا الاحتمال لم يقطع المحققون بكذب ما ادّعاه بعض الأجانب من الوصول إلى القمر، ولم يكفروا من صدقهم، وقد دلت القرائن بعد ذلك على كذبهم.
فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء. ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء. ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن)(1).
فهذه الجنة، سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن كون الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: ((
ك‰ôJuù=sù بِسَبَبٍ إِلَى دن!$yJ،،9$#"[الحج: 15] وقال تعالى: (($uZّ9t"Rr&ur مِنَ السَّمَاءِ مَاءً #Y'qكgsغ" [الفرقان: 48].
قوله "فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض..." الخ.
من المعلوم أن العرش في السماء وليس في الأرض وكذا الجنة.
وإذا قيل: إن العرش في السماء، أو الجنة في السماء لم يلزم أن يكون العرش ولا الجنة داخل السماوات.
فقد ثبت أن العرش سقف الجنة، وهذه الجنة فوق الأفلاك، أي: فوق السماوات لأن السماوات مستديرة(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله برقم 2790.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/194.(1/193)
فالسماء يراد بها العلو سواء كان فوق الأفلاك أي: السماوات أم تحتها، كما في الآيتين اللتين ذكرهما المؤلف، فالسماء في الآية الأولى سقف الدار، وفي الثانية السحاب. وإذا كان الإخبار عن المخلوق بأنه في السماء لا يلزم منه أن يكون داخل السماوات، ولا شيء آخر، فالخالق تعالى أولى ألا يلزم في حقه ذلك إذ هو العلي الأعلى سبحانه وتعالى.
ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: ((`¨B فِي دن!$yJ،،9$#"[الملك: 16]: أنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء.
وكذلك الجارية لما قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء(1)، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها.
وإذا قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق.
قوله "ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين..." الخ.
لما بين الشيخ أن المراد بالسماء العلو، وأنه من المستقر في نفوس الناس أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، ذكر أنهم يفهمون من وصف الله تعالى بأنه في السماء أن معناه أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء، دون أن يكون في شيء موجود يحيط به، أو يحصره أو يحويه، فإن العلو يتناول ما فوق المخلوقات، وإذا كان المخلوق يمكن أن يوصف بأنه في العلو، دون أن يكون في شيء وجودي يحويه ويحيط به كما في العرش، فالخالق أولى وأحرى بألا يستلزم وصفه بأنه في السماء أن يكون في شيء وجودي، يحيط به، ويحصره.
فلكل مقام مقال:
فإذا قلنا: الطير في السماء، فإنه يعنى به العلو النسبي.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 537.(1/194)
....................................................................................
وإذا قلنا: الملائكة في السماء، فإنه يعنى به السماوات المبنية فإنهم عمارها.
وإذا قلنا: الجنة في السماء، كان هذا محتملاً أن تكون داخل السماوات، أو فوقها، وأما الفردوس التي سقفها عرش الرحمن، وهي أعلى الجنة، فإنها فوق السماوات، وهي في العلو، وهكذا العرش.
فكل ما كان في العلو فهو في السماء، وما فوق المخلوقات جميعاً فهو في العلو، العلو المطلق.
فالعلو نوعان: علو نسبي، وعلو مطلق.
فالعلو النسبي يكون في حق المخلوقات، فبعضها فوق بعض، فوصف المخلوق بالعلو هو بالنسبة لما دونه.
أما العلو المطلق على كل شيء، فهو في حق الباري سبحانه وتعالى، فله العلو المطلق ذاتاً وقدراً وقهراً.
وإذا قدّر أن السماء المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها، كما قال: ((ِNن3¨Yt7دk=|¹_{ur فِي جُذُوعِ ب@÷‚¨Z9$#"[طه: 71] وكما قال: ((#rçژچإ،sù فِي اعِ'F{$#"[آل عمران: 137] وكما قال: (((#qكsإ،sù فِي اعِ'F{$#"[التوبة: 2] ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح. وإن كان على أعلى شيء فيه.
قوله "وإذا قدر أن السماء المراد بها الأفلاك..." الخ.
هذا تمام الكلام على قوله تعالى: "أأمنتم من في السماء".
ما معنى أن الله في السماء؟ الأصل في معنى "في" أنها للظرفية، ومعنى السماء: العلو، فمعنى أن الله في السماء، أي: في العلو. وإذا قدر أن المراد بالسماء في قوله ((أأمنتم من في السماء" يعني الأفلاك أي السماوات السبع الطباق المبنية، فيتعين أن تكون "في" بمعنى: على، ولذلك شواهد في لغة العرب، وكما في الآيتين والمثالين اللذين ذكرهما المؤلف فإن "في" بمعنى على.(1/195)
وقول الشيخ: "وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك كان المراد أنه عليها" يريد لفظ السماء الذي في الآية، ويريد بالأفلاك السماوات السبع. وقد جعل هذا التفسير احتمالاً مما يدل على أن الراجح عنده أن معنى السماء في الآية العلو، و"في" للظرفية، ولا منافاة بين التفسيرين(1).
القاعدة الخامسة
أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، فإن الله تعالى قال: ((ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا #ZژچدWں2"[النساء: 82]، وقال: ((َOn=sùr& يَدَّبَّرُوا tAِqs)ّ9$#"[المؤمنون: 68]، وقال ((ë="tGد. أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو ة="t6ّ9F{$#"[ص:29]، وقال: ((ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ !$ygن9$xےّ%r&"[محمد: 24]، فأمر بتدبر الكتاب كله.
وقد قال تعالى: ((uqèd الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو ة="t6ّ9F{$#"[آل عمران: 7].
قوله "القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه..." الخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/106، شرح العقيدة الطحاوية 2/383.(1/196)
معنى هذه القاعدة أن علمنا بما أخبرنا الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات أو أمر المعاد معلوم لنا من وجه لا مطلقاً، فلو كان معلوماً لنا مطلقاً كنا محيطين بما أخبرنا به، والله تعالى يقول ((ںwur يُحِيطُونَ بِهِ $VJù=دم"[طه: 110]، ولو كنا لا نعلمه مطلقاً كانت هذه الأخبار ألفاظاً لاحظ لنا منها إلا مجرد التلاوة، من غير أن يكون للعقل والفهم حظ، فهذه الأخبار إذاً معلومة لنا من وجه دون وجه فإذا قرأناها فهمناها لكن فهماً محدوداً، فنفهمها من جانب ولا نحيط بها علماً أما الوجه الذي نعلمه فهو ما تدل عليه هذه النصوص حسب دلالة اللسان العربي، لأننا خوطبنا بلسان عربي مبين، والرسول عليه الصلاة والسلام عربي، فكل من
....................................................................................
يحسن اللسان العربي له حظ من فهم هذه النصوص، فنفهم هذه النصوص من جهة ما تدل عليه من المعنى بحسب دلالة اللغة، ولابد أيضاً من مراعاة السياق الذي وردت فيه، ودلالة النصوص المفسرة، فإن كلام الله تعالى يفسر بعضه بعضاً، والسنة تفسر القرآن، هذا هو الوجه الذي نعلمه، أما الوجه الذي لا نعلمه فهو الحقائق والكيفيات لتلك الأمور المخبر عنها، فلا نعلم حقائقها، ولا كيفياتها بل هي غيب، فيكون هذا الخبر معلوماً لنا من جهة معناه، وغير معلوم لنا من حيث حقيقته وكيفيته، فقوله تعالى ((ِ@t/ يَدَاهُ بb$tGsغqف،ِ6tB"[المائدة: 64] فيه خبر عن الله بأن يديه تعالى مبسوطتان، وهذا يدل على أن له تعالى، يدين ومن شأن يديه البسط، والبسط تقدم أنه يحتمل معنيين:(1/197)
أحدهما البسط ضد القبض، فالله تعالى يبسط يديه كما يشاء، ويقبضها كما يشاء، والآخر أن المراد بالبسط كثرة العطاء والجود، وكل من المعنيين حق، لكن المعنى الثاني أنسب للسياق، لأن المراد الرد على اليهود الذين وصفوا الله بالبخل وعبروا عن ذلك بقولهم "يد الله مغلولة" ويوضحه قوله بعدها "ينفق كيف يشاء" فنفهم من هذه الآية أنه تعالى له يدان، وأنهما مبسوطتان، وأنه تعالى ينفق كيف يشاء، وأن يديه ليست كيدي أحد من الخلق، وهذا يرجع إلى ما علم بالشرع والعقل من أنه تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وليس المراد باليدين القوة أو النعمة، فإن هذا وإن كان له أصل في اللغة إلا أنه يأباه السياق، ويأباه أيضاً ذكر اليدين بلفظ التثنية كما تقدم في المقارنة بين آية "ص" وآية "يس". فهذا هو الجانب الذي نعلمه، وهو موجب اللغة، والسياق، والنصوص
....................................................................................(1/198)
الأخرى المفسرة، ولكن لا نعلم كنه يديه وكيفيتهما، ولا يصح لنا أن نتخيل كيفية يدي الرب تعالى على نحو أيدي أحد من العباد، لأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، فمن قال: كيف يدي الرب؟ قلنا له: كيف الرب، فإذا قال: لا يعلم كيف هو إلا هو، قلنا: وكذلك يداه لا يعلم كيفيتهما إلا هو سبحانه وتعالى، فالقول في الصفات كالقول في الذات من حيث الثبوت ونفي التشبيه ونفي العلم بالكيفية، إذن فقوله تعالى ((بَلْ يَدَاهُ بb$tGsغqف،ِ6tB" معلوم لنا من وجه دون وجه، وهكذا سائر نصوص الصفات القول فيها واحد، وكذا نصوص المعاد القول فيها كالقول في نصوص الصفات، كما في المثل الأول المتقدم، فإذا قرأنا قوله تعالى: ((!$pkژدù أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى "[محمد: 15] وقوله تعالى (($uKحkژدù فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ ×b$¨Bâ'ur"[الرحمن: 68] وقوله (($uKحkژدù عَيْنَانِ بb$tƒجچّgrB"[الرحمن: 50] ونحوها فهذه النصوص معلومة لنا من وجه، فنفهم من هذه الآيات أن الله تعالى أعد لعباده أصناف النعيم، من مشارب، وملابس ومساكن، وزوجات كما قال تعالى ((Oكg"uZô_¨ry-ur بِحُورٍ &ûüدم"[الطور: 20] فيفهم من هذه الآية أن نساء الجنة حور عين، والحور جمع حوراء، والعين جمع عيناء، والحور هو شدة سواد العين مع شدة بياضها مع بياض البدن، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى، والعَيَنُ هو سعة العين، فضيق العين وصغرها مذموم في الصفات، فهذا كله مفهوم لنا بدلالة اللغة، ودلالة السياق، ولكن لا نعلم كنه هذه المطاعم والمشارب والملابس ولا نتصور ولا نتخيل حقيقة وكنه تلك الزوجات بدليل قوله تعالى ((ںxsù تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ &ûمüôمr&"[السجدة: 17] وقال تعالى في الحديث القدسي المتفق على صحته (أعددت(1/199)
لعبادي الصالحين ما لا عين
....................................................................................
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)(1)، فنعلم أن ما أخبر الله به ورسوله مما أعد الله لأوليائه في الجن أنه وإن كان موافقاً لما نعرفه في الدنيا كما قال ابن عباس فإنه ليس مثل ما في الدنيا، إذاً نصوص الوعد معلومة لنا من وجه دون وجه. وهذه القاعدة يقصد بها الرد على أهل التفويض الذين يقولون إن هذه النصوص خصوصاً نصوص الصفات من المتشابه فلا يفهم منها شيء ولا تدل على معنى يدركه السامع والمخاطب والتالي، فهي ألفاظ تقرأ فقط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري(3/1185) كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم3244، ومسلم (4/2174) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم 2824.(1/200)
والدليل على هذه القاعدة مركب من مجموع دليلين فأكثر، فأما الدليل على الوجه الأول فآيات التدبر كما قال الله تعالى: ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ !$ygن9$xےّ%r&" وقال: ((ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا #ZژچدWں2" وقال ((ë="tGد. أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ¾دmدG"tƒ#uن" فالله تعالى ذم الكافرين والمنافقين على إعراضهم عن تدبر القرآن، وفي هذا أمر للمؤمنين بتدبر القرآن وتدبر القرآن هو تعقل معانيه والنظر في دلالاته، وإنما يدرك معنى الكلام في أخرياته، فلا يفهم معناه إلا بعد استكماله، وقوله تعالى ((ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ ... c#uنِچà)ّ9$#" أي أغفلوا فلا يتدبرون القرآن، وإذا جاء حرف العطف بعد الهمزة فالراجح أن العطف على محذوف ويقدَّر بنحو ما ذكر، وقوله تعالى: (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو ة="t6ّ9F{$#" فيه بيان أن الله تعالى أنزل كتابه ليتفكر الناس
....................................................................................(1/201)
في آياته، ويعقلوا معانيها، لأن التدبر هو الطريق إلى فهم المراد من الكلام، ولكن لابد أن يكون هذا التدبر مبنياً على أصول الفهم، فلابد أن يكون إلمام باللغة العربية وبالأدلة الشرعية، وبالمأثور من التفسير، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين، قوله تعالى: ((ںxsùr& يَتَدَبَّرُونَ ... c#uنِچà)ّ9$#" تدل هذه الآية على وجوب تدبر القرآن كله لا بعضه، فعلم بهذا أن القرآن كله يمكن فهمه، لأن ما لا يمكن فهمه لا يؤمر بتدبره، لأنه لا معنى ولا فائدة لتدبره، فلو سمعت كلاماً أعجمياً وأنت لا تعرف هذه اللغة فإنه ليس بإمكانك أن تتدبره لتفهم شيئاً، فالكلام الذي يتدبر هو الذي يمكن فهمه، وما لا يمكن فهمه فلا يؤمر بتدبره، بل لا يمكن تدبره.
فلما أمر الله تعالى بتدبر القرآن كله علم أن القرآن كله يمكن فهمه ليكون حجة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وللتعبد بتلاوته والتعبد بتدبره ثم بالإيمان بمعانيه والعمل بأوامره ونواهيه. إذن فنصوص التدبر تدل على أنا نعلم ما أخبرنا به من نصوص الصفات ونصوص المعاد من وجه(1)، وهو الشق الأول من القاعدة.
وهناك أدلة أخرى من هذا الجنس تدل على هذا، كقوله تعالى ((#x"yd بَيَانٌ ؤ¨$¨Y=دj9"[آل عمران: 138] وقوله تعالى ((هُدًى ؤ¨$¨Y=دj9"[البقرة: 185] وما أشبهها وهذا ليس خاصاً ببعض، القرآن فكل القرآن بيان للناس، وهدى لهم، وما لا يفهم منه شيء لا يكون بياناً ولا هدى.
....................................................................................
ففي النصوص المتقدمة دليل على الشق الأول من القاعدة وهو أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه، "وفيها رد على أهل التفويض الذين يقولون: إن من نصوص القرآن ما لا يفهمه أحد، كما سيأتي في الكلام على المتشابه.
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/410-412، 5/157-159، 17/396-397، نقض التأسيس 2/203-249.(1/202)
والدليل على الشق الثاني من القاعدة، أي: الدليل على أن من مدلول هذه الأخبار ما لا يعلمه العباد آية آل عمران وهي قوله تعالى ((uqèd الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو ة="t6ّ9F{$#"[آل عمران: 7] والضمير في قوله تعالى: (($tBur يَعْلَمُ ے¼م&s#ƒحrù's?" يعود إلى الآيات المتشابهات، فلا يعلم تأويل المتشابه إلا الله تعالى، ويظهر من هذه الآية معارضة للآيات المتقدمة آيات التدبر ونحوها فإنها كما تقدم تدل على أن القرآن كله يمكن فهمه، وهذه الآية يظهر منها أن من آيات القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله سبحانه، وهذا تعارض في الظاهر، والجمع بينها هو القاعدة، وهو أن نقول: إن الآيات المتشابهات ليست ألفاظاً مجردة لا يفهم منها شيء، وليست معلومة من كل وجه بل هي معلومة من وجه دون وجه، ويتضح هذا بمعرفة معنى التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الحقيقة المخبر عنها في النصوص، كما سيأتي في الكلام على معاني التأويل، فالآيات المشابهات معلومة لنا من وجه دون وجه، فالوجه الذي نعلمه هو الذي نصل إليه بالتدبر، والوجه الذي لا نعلمه هو الذي استأثر الله تعالى بعلمه وأخبرنا بذلك في قوله (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ "، إذن فهذه القاعدة يستدل لها بمجموع النصوص، نصوص
....................................................................................(1/203)
التدبر وما أشبهها وآية آل عمران، وهي مستنبطة من هذه النصوص، وهي أيضاً تتضمن الجمع بين هذه النصوص، فبمراعاة مضمون القاعدة يحصل الجمع.
قوله تعالى: ((uqèd الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ". قد دلت آية آل عمران على أن القرآن نوعان: آيات محكمات وآيات متشابهات، والآيات المحكمات هنّ الأصل الذي يُرَدّ إليه غيره فالآيات المتشابهات ترد إلى الآيات المحكمات، وقد اختلف في المراد بالمحكمات والمتشابهات، فقيل: المحكم هو البيِّن الذي لا يشتبه معناه ولا يخفى على أكثر الناس، والمتشابه هو الذي يخفى معناه على بعض الناس، وقريب من هذا قول من يقول: المحكم هو ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، والمتشابه هو ما يحتمل أكثر من معنى، وقيل: المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ، وقيل: إن المحكم هو ما يجب الإيمان به والعمل أي يقتضي عملاً كنصوص الأوامر والنواهي والحلال والحرام، والمتشابه ما يجب الإيمان به ولا يقتضي عملاً، كالنصوص الخبرية التي تتضمن أموراً علمية عقدية، كما تضمنته سورة الإخلاص، وسيأتي لهذا مزيد بحث عند الكلام على المحكم والمتشابه بنوعية العام والخاص في ثنايا هذه القاعدة، فإن القرآن قد وصف بأنه كله محكم، وبأنه كله متشابه، وأن بعضه محكم وبعضه متشابه، كما في هذه الآية، آية آل عمران، ولهذا كان الإحكام نوعين، والمتشابه نوعين، والله أعلم.
قوله تعالى: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ " أي: يعرضون عن المحكم الواضح البين ويتبعون المتشابه الذي فيه خفاء واشتباه طلباً للصد عن سبيل الله، وتضليل الناس عن الحق، وطلباً لتأويله الذي
....................................................................................(1/204)
لا سبيل إلى معرفته، وهو ما استأثر بعلمه سبحانه، أو طلباً لتفسيره على ما يوافق أهواءهم، أو طلباً لتفسيره بغير علم، وتفسيره لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم على القراءة الأخرى.
قوله تعالى: (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ " إلخ فيها قراءتان فالجمهور من الأمة سلفاً وخلفاً على الوقف على قوله (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ "، وذهب بعض السلف إلى أن الوقف على قوله ((tbqم‚إ™؛چ9$#ur فِي ةOù=دèّ9$#" فعلى الأول الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه وتكون جملة ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا ¾دmخ/" مستأنفة فـ "الراسخون" مبتدأ، وجملة "يقولون" خبر المبتدأ، وعلى القراءة الثانية كما هو رأي مجاهد ومن معهُ يكون الراسخون في العلم يعلمون تأويله، وجملة "يقولون" مستأنفة، وإذا وصلت تكون الجملة الفعلية حالاً، أي: الراسخون في العلم يعلمون تأويله قائلين آمنا به، وتكون في محل نصب، قوله تعالى ((tbqن9qà)tƒ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا " هذا من كمال علمهم، فالعلم الصحيح يثمر الإيمان.
فهذه هي القاعدة، وهذا هو دليلها، ثم يأتي الكلام على ما يتعلق بمعاني التأويل.
وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ "، وهذا هو المأثور عن أُبَيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، ورُوي عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أوجه، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب(1).
__________
(1) رواه الطبري في مقدمة تفسيره 1/75، ط. دار المعارف.(1/205)
وقد رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمه أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها(1).
قوله "وجمهور سلف الأمة وخلفها..." الخ.
الاستدلال بالآية على القاعدة لا يتم إلا على مذهب الجمهور في الوقف في هذه الآية، لأن الآية على هذه القراءة تدل على أن من تأويل المتشابه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهذا هو المروي عن أئمة القراء من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم، ثم ذكر الشيخ أثر ابن عباس المشهور، وقد رواه ابن جرير وغيره، وهذا الأثر يدل على مضمون القاعدة أيضاً، فإنه يدل على أن هذه النصوص ليست معلومة للناس من كل وجه، بل من مدلولاتها ما لا يعلمه إلا الله، فالأوجه الثلاثة الأولى في هذا الأثر من علم العباد، فأما الذي تعرفه العرب من كلامها فكالمعاني اللغوية، فإن القرآن نزل بلسان عربي، فيعلم العرب معاني هذه الألفاظ لأنها جاءت بلغتهم، ولهذا كان المشركون
....................................................................................
__________
(1) رواه الطبري في مقدمة تفسيره 1/90، ط. دار المعارف.(1/206)
يستمعون للقرآن، ويدهشون إذا سمعوه، ويتواصفون بعدم استماعه، حذراً من التأثر به كما قال تعالى: ((tA$s%ur الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ tbqç7خ=َّs?"[فصلت: 26] فالمعاني اللغوية تعرفها العرب من كلامها، مثل معنى السماء والأرض والشمس والقمر والسرر والأرائك والنمارق ونحوها، وأما التفسير الذي لا يعذر أحد بجهله فهو المعاني الشرعية التي يتعلق بها التكليف كالإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصيام الشرعي، فلا يكفي معرفة المعاني اللغوية بل لابد من معرفة المعاني الشرعية لها، فالصيام مثلاً هو الإمساك في اللغة، لكن في الشرع هو الإمساك عن المفطرات التي أهمها ثلاثة؛ الأكل والشرب والجماع بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كذلك الزكاة والصلاة وغيرها، وقول ابن عباس: لا يعذر أحد بجهله "لعل المراد أنه لا يعذر أحد بعدم تعلمه وتحصيله، فلابد من معرفة المكلف للمعاني الشرعية، لكن لو وقع جهل ببعض هذه الأحكام لا عن تقصير وإعراض ولا تفريط فإنه يعذر، والتفسير الذي علمه العلماء هو تفاصيل الأحكام، ودقائق الاستنباط وتفاصيل الحكم في الجملة، فهذا من شأن العلماء، وأما التفسير الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما استأثر الله تعالى به من حقائق ما أخبر به، وتفاصيل حِكَمه تعالى في شرعه، فالحكم في شرعه وقدره لا يعلمها على التفصيل إلا الله سبحانه، إذن هذا الأثر من الشواهد التي يستشهد بها للقاعدة، فقول ابن عباس هذا يطابق ما دلت عليه الآيات المتقدمة من آيات التدبر ونحوها وآية آل عمران.
قوله "وقد روي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأوله" أي:
....................................................................................(1/207)
تأويل المتشابه، وإذا كان الراسخون في العلم يعلمون المتشابه فيكون الوقف في الآية على قوله تعالى: ((tbqم‚إ™؛چ9$#ur فِي ةOù=دèّ9$#"، هذا هو مقتضى قول مجاهد، ويدل على هذا أيضاً قوله "عرضت المصحف" المصحف مثلث الميم، مُصحف، مَصحف مِصحف، أي: القرآن الكريم، فالمصحف اسم لما كُتب فيه جميع القرآن قوله "من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها" فيه دلالة على أن القرآن كله يمكن فهمه، ويمكن السؤال عن معناه، ولو كان في القرآن ما لا يمكن فهم معناه لما صح السؤال عنه كله، ومعنى كلام مجاهد أنه يسأل ابن عباس عن ما يخفى معناه من المعاني الدقيقة والمعاني الشرعية التي يختص بعلمها الراسخون في العلم كابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
إذن فهذان قولان في الآية، من حيث القراءة، ومن حيث التفسير، فالجمهور على أن الوقف على قوله (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ " ومقتضى ذلك أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، والقول الثاني أن الوقف على قوله: ((tbqم‚إ™؛چ9$#ur فِي ةOù=دèّ9$#" ومضمون هذا أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، وهذان القولان بينهما تقابل بالسلب والإيجاب، والسلب والإيجاب نقيضان، فبينهما تعارض في الظاهر، ولكن في الحقيقة أنه لا تعارض بينهما، وهذا ما يريد الشيخ أن يقرره بقوله "ولا منافاة بين القولين... الخ.
ولا منافاة بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان:
أحدها - وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله- أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يتقرن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمود أو مذموم، وحق أو باطل؟
قوله "ولا منافاة بين القولين..." الخ.(1/208)
أي: قول جمهور الأمة سلفاً وخلفاً وهو أن الوقف على قوله تعالى (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ " ومقتضى هذا أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، وقول مجاهد ومن معه من أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فيكون الوقف على قوله سبحانه.. ((tbqم‚إ™؛چ9$#ur فِي ةOù=دèّ9$#"، وسبق أن ظاهرهما التعارض لأنها متقابلان تقابل السلب والإيجاب، فلابد من الجمع بينهما، فمجاهد كما سيأتي إمام المفسرين فلا يليق أن يقال: إنه خالف الجمهور وأتى بقول يناقض قول سائر المفسرين. وإذا أمكن الجمع بين القولين لم يكن هناك تناقض ولا اختلاف في الحقيقة، وغاية الأمر أن يكون من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، وغالب الخلاف بين المفسرين أنه من قبيل اختلاف التنوع، ثم قال الشيخ مبيناً ما يحصل به الجمع بين القولين "فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان"(1)، والتعارض بين هذين القولين يصح لو كان التأويل ليس له إلا معنى
....................................................................................
واحد، فإنه يمتنع حينئذ الجمع ولكن التأويل له معان، فيمكن الجمع بين قول الجمهور وقول مجاهد ومن معه بحمل كل من القولين على معنى من معاني التأويل، فالذي يقول: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه" يريد بالتأويل معنى غير المعنى الذي يريده من يقول: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وحينئذ يزول التعارض، والتوفيق بين القولين يحصل بمراعاة المعنى الثاني والثالث من معاني التأويل، لكن الشيخ ذكر المعاني الثلاثة. قوله "وهو اصطلاح كثير..." أي أن هذا اصطلاح محض ليس من اللغة في شيء.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/288-289، 5/35-36، 4/68، 69، 17/364-369، نقض المنطق ص 57، 58، درء التعارض 1/14، 206، 207، 5/234، 235، 282، 283، الصواعق المرسلة 1/177-178، 3/922، 923.(1/209)
قوله "أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به" أي: تفسير اللفظ بالمعنى البعيد وترك المعنى القريب فإذا قالوا: هذا النص مؤول" فالمراد أنه مصروف عن ظاهره إلى خلاف ظاهره، ولهذا يقول الأصوليون: إن الأدلة منها ما هو نص لا يحتمل إلا معنى واحداً، وهذا لا يتأتى فيه التأويل، ومنها ما يحتمل أكثر من معنى، ومن هذه المعاني ما هو قريب، ومنها ما هو بعيد، فحمله على المعنى القريب هو الظاهر، وهذا هو الواجب، إلا إذا كان هناك دليل يوجب حمله على المعنى الآخر البعيد فيكون مؤولاً.
قوله "وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل ذلك محمود أم ومذموم أو حق أو باطل؟" أي: أن الناس خاضوا في هذا، فمن الناس من يقول: يجب تأويل نصوص الصفات وهم أهل التأويل من المعطلة، ويقابل أهل التأويل من المعطلة أهل التفويض، كل من أهل التأويل وأهل التفويض ينفون الصفات عن الله سبحانه، لكنهم يختلفون في الموقف من نصوص الصفات. وهذا التأويل كتأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد
....................................................................................
بالنعمة أو القدرة، والوجه بالذات، أو بالثواب، وتأويل النزول بنزول الرحمة، أو نزول ملك من الملائكة، وتأويل قوله تعالى ((uن!%y`ur y7o/u'" بمجيء أمره، وظاهر هذا النص مثلاً أنه هو تعالى يجيء، والاحتمال المرجوح مجيء أمره، وهم يقولون: إن هذا التأويل لدليل، وهي في الحقيقة شبهات داحضة مردودة وقد بنوا عليها مذهبهم الباطل.(1/210)
هذا هو التأويل بالمعنى الأول، ولكن ما حكم هذا التأويل؟ نقول: إن كان الدليل الذي بني عليه هذا التأويل صحيحاً فالتأويل صحيح، لأنه عمل بالدليل الصحيح، وإن كان الدليل لا يصح كان التأويل الذي بني عليه باطلاً، وأما تأويل نصوص الصفات بمعنى صرفها عن ظاهرها إلى خلاف هذا الظاهر، فإنه باطل بدون تفصيل، لأنه ليس هناك دليل، فأهل التأويل من المعطلة ليس عندهم دليل يجب المصير إليه، ما هي إلا شبهات وحجج داحضة كقولهم: معنى ((uن!%y`ur y7o/u'" أي: أمره؛ لأن المجيء يتضمن انتقالاً، والانتقال ممتنع على الرب تعالى، أو قولهم: إن المجيء فعل حادث، والله منزه عن الحوادث" ومن المعلوم أنه لا دليل على نفي الحوادث عن الله تعالى، فهذا لفظ مبتدع، وهو لفظ محتمل أيضاً، فالمقصود أنه ليس عندهم دليل صحيح لهذا التأويل، فوجب إجراء كلام الله تعالى على ظاهره. هذا هو المعنى الأول من معاني التأويل، والشيخ ذكره لاستكمال معاني التأويل، وإلا فهذا المعنى كما تقدم محض اصطلاح لأهل الفقه وأصوله وأهل الكلام، لم يأت في القرآن ولا أصل له في اللغة العربية.
والثاني - أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنِّفين في التفسير: "واختلف علماء التأويل". ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره.
قوله "الثاني - أن التأويل بمعنى التفسير..." الخ.
هذا أحد معنيي التأويل الواردين في النصوص والمأثورين عن السلف، وهو مراد كثير من المفسرين من لفظ التأويل، وهو الذي عناه مجاهد بقوله "إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه".(1/211)
وقول الشيخ "ومجاهد إمام المفسرين.." إلخ بيان لمنزلة مجاهد في التفسير، مما يوجب اعتبار قوله ذلك، فيتعين أنه أراد بالتأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم التفسير، فلا يكون قوله معارضاً لقول الجمهور كما تقدم.
الثالث - من معاني التأويل- هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: ((ِ@yd يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بd,ysّ9$$خ/"[الأعراف: 53].
فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته.. وقال ((tA$s%ur يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ م@ِ6s%"[يوسف: 100] فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
قوله "الثالث - من معاني التأويل..." الخ.
هذا هو المعنى الثاني من معنيي التأويل الواردين في النصوص والمأثورين عن السلف، وهو التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهي عين المخبر به الموجود في الخارج، ومن شواهده آيتا الأعراف ويوسف.(1/212)
قوله تعالى ((ِ@yd tbrمچفàZtƒ" استفهام إنكاري بمعنى النفي أي: لا ينتظر هؤلاء الكفار المكذبون إلا تأويل ما أخبروا به من أمر البعث والجزاء والوعيد الشديد، قوله تعالى: ((wخ) ¼م&s#ƒحrù's?" أي تأويل ما جاء في الكتاب من الأخبار عن البعث الذي يكذب به الكفار، والعقاب الذي توعد الله به المكذبين، فإن هذه الآية بعد قوله تعالى ((ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون". فالتأويل هنا بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء. قوله "فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه مما يكون من القيامة إلخ" أي نفس الواقع في المعاد هو هذا التأويل فتأويل ما توعد الله تعالى به الكفار -مثلاً- هو نفس ما يكون من العقاب من دخولهم النار.
....................................................................................(1/213)
ومن الشواهد أيضاً على هذا المعنى قوله تعالى في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه أبواه وإخوته الأحد عشر ورفع أبويه على العرش وسجدوا له ((هذا تأويل رؤياي من قبل" أي هذه هي حقيقتها وتفسيرها الواقعي، قوله "فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا" أي ما وجد في الخارج وهو السجود هو تأويل الرؤيا التي رآها يوسف في أول أمره، فبدأت القصة بذكر الرؤيا وانتهت بتفسيرها التفسير الواقعي الخارجي، فالرؤيا لها تفسير يكون بالكلام، وتفسير يكون في الواقع، وقد اشتملت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام على نماذج من الرؤى، رؤيا يوسف أولاً، ورؤيا الفتيين، ورؤيا الملك، فرؤيا الملك فسرها يوسف عليه الصلاة والسلام كما قال الله تعالى ((ك#ك™qمƒ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ tbrçژإا÷ètƒ"[يوسف: 46-49] فهذا الكلام تفسير للرؤيا، ثم لما جاءت السنين الخصبة وبعدها السبع الشداد كانت هذه السنين تأويلاً بمعنى الحقيقة فصار للرؤيا تأويل بمعنى التفسير، وتأويل بمعنى الحقيقة، فيأتي الرائي فيقص على المعبِّر، فيفسرها بحسب ما أوتي، فهذا تأويل بمعنى التفسير، ولكن إذا وقع مقتضاها بحسب ما أوتي، فهذا تأويل بمعنى التفسير، ولكن إذا وقع مقتضاها ومضمونها في الخارج، أو بالفعل، فذلك تأويلها بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فيعقوب لما قص عليه يوسف(1/214)
عليه السلام
....................................................................................
الرؤيا فهم منها أن يوسف سيكون له شأن، لكن لا ندري هل يعقوب عليه الصلاة والسلام فهم أن الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً هي أبوا يوسف وإخوته؟ الله أعلم، وليس هذا ببعيد على يعقوب وهو نبي من أنبياء الله تعالى، وفيها أيضاً قرائن تدل على هذا كالشمس والقمر، والكواكب الأحد عشرة، فيوسف عليه السلام يذكر هذه الحال ويقول "هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً" أي صار لها واقعاً وحقيقة، والرؤيا التي لا يكون لها واقع أضغاث أحلام ومن حديث النفس، ولكن الرؤيا الصادقة هي التي يكون لها واقع، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدئ به الرؤيا الصادقة، فكان إذا رأى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح(1)، أي جاءت مطابقة لما رأى وشاهده.
والمقصود أن هذا هو المعنى الثالث، وسيعيد الشيخ رحمه الله تعالى ويوضح هذين المعنيين مزيد إيضاح في الفقرة التالية.
فائدة:
سجود يعقوب عليه الصلاة والسلام وأبنائه ليوسف عليه الصلاة والسلام كان جائزاً في شريعتهم، أما في شريعة الإسلام الخاتمة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يجوز كما قال - صلى الله عليه وسلم - (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)(2) لما أراد معاذ رضي الله تعالى عنه أن يسجد له وأنكر عليه ذلك، وقال تعالى: ((ںw تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (1/6) كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، حديث رقم 3.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/172) كتاب البر والصلة. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/215)
... crك‰ç7÷ès?"[فصلت: 37] وهذا السجود الذي كان من أبوي يوسف وإخوته ليس هو من العبادة، بل هو سجود تحية وتكريم، كما سجد الملائكة لآدم بأمر الله تعالى عبادةً لله تعالى، وتكريماً لآدم عليه السلام، وبهذا أظهر الله كرامة آدم وفضله، ولهذا يقول الناس يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة: "أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك"(1).
فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسَّر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله، وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأول القرآن(2). تعني قوله تعالى: ((ôxخm7|،sù بِحَمْدِ رَبِّكَ çnِچدےَّtGَ™$#ur" وقول سفيان بن عيينة: "السنة هي تأول الأمر والنهي.
فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر.
قوله "فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام..." الخ.
هذا كله توضيح للمعنيين الثاني والثالث من معاني التأويل، وهما التأويل بمعنى التفسير، والتأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.
قوله "فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر والكلام خبر وأمر" أي: أن التأويل الثالث هو الحقيقة الموجودة في الخارج، والكلام قسمان: خبر وإنشاء:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب "ذرية من حملنا مع نوح" برقم 4712، ومسلم في كتاب الإيمان برقم 194.
(2) أخرجه البخاري (1/281) كتاب صفة الصلاة، باب التسبيح والدعاء في السجود برقم 817، ومسلم (1/350) كتاب الصلاة برقم 484.(1/216)
فتأويل الأمر هو نفس فعل المأمور به، وتأويل النهي هو ترك المنهي عنه، وتأويل الخبر هو نفس المخبر عنه الموجود في الخارج، فقول الله تعالى (((#qكJ
د%r&ur no4qn=¢ء9$#" له تأويل بمعنى التفسير، وتأويل بمعنى الحقيقة، فتأويله بمعنى التفسير هو ما يعبر عنه المفسرون، كقولهم: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بإقام
....................................................................................
الصلاة، وهو أداؤها بواجباتها وسننها وشروطها كما بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا تحصل إقامة الصلاة، ونحو هذا الكلام، فكلام المفسرين هو من هذا التأويل، وأما تأويله بمعنى الحقيقة فهو أداء المسلم للصلاة، كما صلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهو -أي: المسلم- يتأول القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن" فتسبيحه عليه الصلاة والسلام واستغفاره هذا في الركوع والسجود هو التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وقولها رضي الله عنها "يتأول القرآن" أي: يعمل بهذا القرآن ويحقق حقيقة الأمر الذي أُمر به بهذا التسبيح وهذا الاستغفار، وتأويل قوله تعالى ((ôxخm7|،sù بِحَمْدِ رَبِّكَ çnِچدےَّtGَ™$#ur" بمعنى التفسير مثل أن يقول المفسر: هذا أمر من الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بتسبيحه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، وحمده سبحانه والثناء عليه بما هو أهله، وأمر من الله لنبيه بالاستغفار والتوجه إليه بطلب المغفرة. وعائشة رضي الله عنها أخبرت عن التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها لشيء، وهكذا تأويل قوله تعالى: ((tPِqtƒ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ "[التغابن: 9] بمعنى الحقيقة هو نفس ما يكون يوم القيامة من جمع الناس الأولين والآخرين ببعثهم من قبورهم وحشرهم، ومن(1/217)
شواهد التأويل بمعنى الحقيقة ما ذكره الشيخ عن سفيان بن عيينة: السنة هي تأويل الأمر والنهي "أي الطريقة المستقيمة والمثلى هي فعل المأمور به وترك المنهي عنه، وهذا هو تأويل الأمر والنهي، وبهذا يكون الشيخ قد ذكر المعنى الثالث
....................................................................................
من معاني التأويل شواهد من القرآن كما في الآيتين، وشواهد من المأثور من كلام السلف كقول عائشة رضي الله عنها وقول سفيان بن عيينة رحمه الله، والله أعلم.
ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة. كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء، لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ما لا يعلم بمجرد اللغة. ولكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف تأويل الخبر.
قوله "ولهذا يقول أبو عبيد وغيره ...." الخ.(1/218)
قوله "ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة" في نسخة "أبو عبيدة" أي معمر بن المثنى اللغوي، والصواب أنه أبو عبيد القاسم بن سلام، ومعنى كلامه رحمه الله: أن علماء الشرع أعلم بتأويل كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أهل اللغة كما تقدم من قول ابن عباس: وتفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير تعلمه العلماء، فالفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، ولهذا تفسر الألفاظ الشرعية لغة، ثم تفسر شرعاً، فيقال مثلاً: الصلاة لغة: الدعاء، وفي الشرع كذا وكذا، وهكذا الصيام والزكاة والحج ونحوها، قوله "لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهي عنه لعلمهم بمقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم -" أي: لأنهم يعلمون من المقاصد الشرعية ما لا يُعلم بمجرد اللغة، قوله "كما ذكروا ذلك في اشتمال الصماء" ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن اشتمال الصماء، و هي: لبسة معروفة، فأهل اللغة قالوا: إن اشتمال الصماء أن يلف الإنسان على نفسه ثوباً ويجعل يديه من داخل بحيث لا يكون له منفذ، أخذاً من الصمم وهو انسداد الأذن، والشيء الأصم الذي لا منفذ فيه، ففهم أهل اللغة من اشتمال الصماء هذا، وأما الفقهاء فعندهم أن اشتمال
....................................................................................(1/219)
الصماء هي أن يلتحف الإنسان بالثوب الواحد ويجعل طرفيه على عاتقه، وأما إذا كان إزار مع الثوب فالصحيح أنه لا بأس، فإذا أراد أن يخرج يده أدى هذا إلى انكشاف العورة، ولو انفلت الطرف الذي على الكتف كذلك، فالفقهاء فسروا اشتمال الصماء بنحو هذا التفسير وقالوا: السر في هذا النهي أنها مظنة لانكشاف العورة، فالفقهاء إذن أعلم؛ لأن المقصود الأول من اللباس هو ستر العورة، والمقصود الثاني الزينة، قال الله تعالى: ((ûسح_t6"tƒ آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ "[الأعراف: 26] وما نهي عنه من هذه اللبسات لأنها مظنة انكشاف العورة، فكل لبسة تعرض العورة للانكشاف فإنه ينهى عنها، وكل لبسة تكون أستر فهي أكمل وأفضل؛ لأنها تحقق المقصود الشرعي. والتأويل في كلام أبي عبيد رحمه الله تعالى الذي يظهر أنه صالح لأن يكون بمعنى التفسير ولأن يكون بمعنى الحقيقة، فالفقهاء أعلم بتأويل كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن كان أعلم بمقصوده كان أعلم بتطبيق ذلك والعمل به وأقدر عليه، والله أعلم.
قوله: "ولكن الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف تأويل الخبر".
هذا هو الفرق بين تأويل الأمر وتأويل الخبر، وهو أن تأويل الأمر لابد من معرفته، لأنه مقصود من المكلف أن يقوم به، بخلاف تأويل الخبر، فإنه ليس بلازم أن نعلم حقيقة الخبر وتأويله في الخارج على ما هو عليه، بل الغالب في الأخبار أن تكون غير معلومة، كما سيأتي في نصوص الأسماء والصفات ونصوص المعاد.
إذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد.(1/220)
ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وماءً وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته كحقيقته.
فأسماء الله تعالى وصفاته أولى -وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته.
قوله "وإذا عرف ذلك فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه..."الخ.
أي: إذا عرف ما تقدم من معاني التأويل وخصوصاً المعنى الثالث وهو الحقيقة، فتأويل ما أخبر الله به عنه نفسه وعن صفاته هو نفسه المقدسة وما قام به سبحانه وتعالى من الصفات، وهذا باعتبار المعنى الثالث من معاني التأويل وهو الحقيقة، فقوله تعالى: ((ك`"oH÷qچ9$# عَلَى الْعَرْشِ 3"uqtGَ™$#" هو نفسه تعالى وما قام به من الاستواء على العرش، وتأويل قوله ((¨bخ) اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا #Zژچإءt/" هو نفسه المقدسة وما قام به من السمع والبصر، وهكذا القول في سائر نصوص الصفات كقوله - صلى الله عليه وسلم - (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا)(1) الحديث. وهذا النوع من
....................................................................................
التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله تعالى كما سبق وكما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل برقم 1145، وأخرجه مسلم (1/521) كتاب صلاة المسافرين، برقم 1772.(1/221)
وهكذا تأويل نصوص الوعد والوعيد، ونصوص البعث وما يكون يوم القيامة، هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد يوم القيامة في الخارج، فتأويل قوله تعالى: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ 5>$t/"[الرعد: 23] وقوله سبحانه: ((×@خ=s%ur مِنَ الْآَخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ &ûüدè¨B"[الوقعة: 14-18] الآيات تأويلها هو نفس الموجود وما يكون من ذلك، فمن هذه الأمور ما يكون موجوداً الآن كالجنة، ولكن دخول المؤمنين الجنة بحيث يجلسون على تلك السرر، ويتكؤون عليها، وتطوف عليهم الولدان، يكون يوم القيامة.
وهكذا تأويل نصوص الوعيد، هو ما يكون من الوعيد، كما تقدم في قوله تعالى في تهديد الكفار ((ِ@yd يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ "[الأعراف: 53] أي: ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تأويل ما توعدوا به، وما وعدوا به في الكتاب المفصل، فإذا قامت القيامة، وانشقت السماء، وانتثرت الكواكب، وفجرت البحار، وبعثرت القبور، فكل هذا الواقع هو تأويل ما أخبر الله سبحانه به من أمر البعث والنشور والحشر والجزاء والثواب والعقاب باعتبار المعنى الثالث من معاني التأويل المتقدمة.
وأما تأويلها بمعنى التفسير فهو حال الآن، وهو معلوم لنا، كما سيأتي، وقدم تقدم، وهو نفس الكلام الذي نعبر به عن معاني هذه النصوص.
....................................................................................(1/222)
قوله "ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه" أي: السنة مثل القرآن الكريم، ففيها محكم ومتشابه، كما أن القرآن منه آيات محكمات وأخر متشابهات، ونفس ما قيل في المراد بالمحكم والمتشابه من القرآن هو ينطبق على المحكم والمتشابه من السنة، وليس في القرآن أو السنة متشابه بمعنى ما لا يفهمه أحد، وهذا قول أهل التجهيل، أهل التفويض لكن من تأويل المتشابه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
قوله "نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه" هذا هو الواجب في المحكم والمتشابه، وقد تقدم أن من الأقوال في المحكم والمتشابه أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ، فالواجب في الناسخ الإيمان به والعمل به، والواجب في المنسوخ الإيمان به، ولا يعمل به لأنه قد نسخ، فذُكر في كل من الأمرين ما هو أخص به، فالمحكم أخص بالعمل، والمتشابه أخص بالإيمان، وإلا فالإيمان يجب في الكل، في المحكم والمتشابه من القرآن والسنة.
قوله "لأن ما أخبر الله به عنه نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا كما أخبر أن في الجنة... إلخ" وهذا قد تقدم في المثل الأول، قوله "وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى". التشابه في اللفظ واضح، وأما التشابه في المعنى من بعض الوجوه فهو القدر المشترك، فإذا قرأ العربي النصوص التي فيها ذكر الماء والعسل والخمر واللبن في الجنة يعرف أن هذه أشربة وليست أموراً أخرى، بل هي أسماء لمسميات معقولة مفهومة، وإذا قرأ النصوص التي فيها ذكر الذهب والحرير عرف أن هذه أنواع من اللباس وهكذا. وقد تقدم في المثل الأول
....................................................................................(1/223)
أيضاً التأكيد على أن بين موجودات الدنيا وموجودات الآخرة قدر مشترك معنوي، وأن المشابهة ليست في اللفظ فقط، كما قد يتوهم البعض، ولكن مع الفارق، كما تقدم أن موجودات الآخرة توافق ما في الدنيا وليست مثلها، بل هي مباينة لها مخالفة لها، فيمكن حينئذ أن نقول: إن هذه النصوص التي أخبر الله بها عما في الآخرة متشابهة، بمعنى: أن هذه النصوص يخفى معناها على بعض الناس ويشتبه، أو أنها تدل على أمور علمية اعتقادية لا عملية، والمحظور أن يقال: إن هذه النصوص من المتشابه، بمعنى: ما لا يفهمه أحد على طريقة أهل التجهيل، إذن فمشابهة موجودات الآخرة لموجودات الدنيا في اللفظ والمعنى لا يستلزم أن تكون هذه الأمور التي أخبر الله عنها مثل ما في الدنيا ولا حقيقتها كحقيقتها، وهكذا ما أ خبر الله به عن نفسه.
قوله "فأسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه" أي من بعض الوجود "أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقته كحقيقته" المعنى أنه إذا كانت موجودات الآخرة مع ما بينها وبين ما في الدنيا من اتفاق ووجه شبه في اللفظ والمعنى لا تكون مماثلة لها بل هي مباينة، فأسماء الله وصفاته أولى أن لا تكون مماثلة لأسماء العباد وصفاتهم، من أجل ما بينها من اتفاق ووجه شبه، إذن فيصح أن يقال: إن نصوص الصفات متشابهة على هذا النحو، أي يشتبه معناها على بعض الناس الجهال، أو بعض الناس الذين تسربت إلى عقولهم الاعتقادات البدعية، فلم يفهموا من نصوص الصفات إلا التشبيه، وهذا ضلال مبين، ولكن أهل العلم والبصيرة يعلمون أن ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات ليس مثل أسماء العباد وصفاتهم، وإن كان بينها قدر مشترك، واتفاق من بعض الوجوه والله أعلم.(1/224)
والإخبار عن الغائب لا يُفهم إن لم يُعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد.
وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسرنا ذلك. وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
قوله "والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه..." الخ.
قد يرد سؤال على ما تقدم: لماذا أخبرنا الله تعالى عن هذه الأمور الغيبية العظيمة المباينة لما في الدنيا بهذه الأسماء التي لها معنى في الشاهد مما كان سبباً بالنسبة لبعض الناس أن يتوهموا التشبيه؟ أجاب الشيخ على هذا السؤال بالفقرة المذكورة.
قوله "والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد" أي: لابد للمخاطب المخبر عن ذلك الغيب من أمرين:
الأول: أن يعرف المعنى الذي في الشاهد، فإذا كان لا يعرف المعنى الذي في الشاهد فلا يمكن أن يعرف المخبر عنه في الغائب.
....................................................................................(1/225)
الثاني: أن يعرف دلالة اللفظ على ذلك المعنى، فقد يعرف المعنى ولكنه لا يعلم دلالة اللفظ عليه، مثال ذلك: إنسان لا يعرف التفاح ولا الموز، فإذا قلت له: اشتريت تفاحاً أو موزاً، فإنه لا يفهم هذا الخطاب، وإذا أريته التفاح والموز وأخبرته بأنها نوع من المأكولات عرف هذا الخطاب، وقبل ذلك لم يفهم ما قلت له، لأنه لا يعرف هذا المعنى فضلاً عن أن يعرف دلالة هذا اللفظ عليه، وقد يعرف هذا الإنسان هذا التفاح والموز ولكن لا يعرفه بهذا الاسم، كما لو كان أعجمياً لا يعرف التفاح والموز إلا بلغته الأعجمية، فهذا يعرف هذا المعنى ولكنه لا يعرف دلالة هذا اللفظ عليه، فإذا لم تمكن الترجمة فإنك تحضر التفاح والموز عنده وتشير إليه، وهو يعرفه من قبل لكنه استفاد منك دلالة اللفظ على هذا المعنى عندك.
إذن الإخبار عن الغائب لابد فيه من هذين الأمرين .
قوله "في الشاهد" أي في الحاضر عند العباد في الدنيا، وهذا الكلام قد تقدمت الإشارة إليه في آخر الأصل الأول في قول الشيخ: "لابد في كل ما يثبت لله من الأسماء والصفات من قدر مشترك ولولا ذلك لما فهم الخطاب". قوله "فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب...الخ" أي: أن هذه النصوص معلومة لنا من وجه دون وجه كما في مطلع هذه القاعدة، فنفهم معنى قوله تعالى: ((!$pkژدù أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ ضچ"pk÷Xr&ur" [محمد: 15] الخ" ومعنى سائر النصوص المشتملة على ذكر ما أعد الله لأوليائه من أصناف النعيم، فنفهم منها ما يمكن لنا إدراكه، أما حقائقها على ما هي عليه فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فنحن لا نتصور كنه ذلك الماء
....................................................................................(1/226)
واللبن، ولا كنه ما فيها من المتعة واللذة، فيجب مع فهمنا لتلك المعاني أن نفهم أن هذه المعاني ليست مثل ما في الدنيا، ولا حقيقتها كحقيقتها، فهذه النصوص إذن لها تأويلان، تأويل نعلمه، وتأويل لا نعلمه، وكذلك نصوص الأسماء والصفات كما تقدم، فلها تأويل نعلمه، وهو معانيها المفهومة بموجب اللغة والسياق، ولها تأويل لا نعلمه وهو حقائقها على ما هي عليه في الخارج، قوله ".. مثل التي لم تكن بعد" كأن الشيخ يشير إلى بعض أشراط الساعة مثلاً، فهذه قد تظهر للناس ويشاهدونها في الدنيا، مثل ما أخبر به من طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والمسيح الدجال وما يكون على يده.
ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: ((ك`"oH÷qچ9$# عَلَى الْعَرْشِ 3"uqtGَ™$#": قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان. فبين أن الاستواء معلوم وأن كيفية ذلك مجهولة.
ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)(1) وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابتك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عند)(2). وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم. وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره.
__________
(1) أخرجه مسلم (1/352) كتاب الصلاة، برقم 486.
(2) أخرجه الإمام أحمد 1/391، حديث رقم 3712، والحاكم 1/509-510، وابن حبان 3/53.(1/227)
قوله "ولهذا لما سئل مالك وغيره..." الخ.
الشاهد من هذين الأثرين قوله "الاستواء معلوم والكيف مجهول" أي أن معنى الاستواء معلوم لنا لأن الله تعالى خاطبنا بلسان عربي مبين، ومعناه كما تقدم الاستقرار والارتفاع والعلو ونحو ذلك، وأما الكيف فهو مجهول، وهو التأويل الذي لا نعلمه، فصار قول الأئمة هنا كمالك وربيعة رحمهما الله تعالى شاهداً
....................................................................................
للقاعدة "أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه" فالاستواء معلوم لنا من وجه دون وجه، فقوله تعالى: ((ك`"oH÷qچ9$# عَلَى الْعَرْشِ 3"uqtGَ™$#"[طه: 5] له تأويل نعلمه وهو التفسير وتأويل لا نعلمه وهو كيفية هذا الاستواء وحقيقته، لأن الاستواء صفة فعلية من صفات الله تعالى، والقول في الصفات كالقول في الذات، فكما أنه لا يعلم كيف هو إلا هو فلا يعلم كيفية استوائه إلا الله تعالى، وقوله "والإيمان به واجب"؛ لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه، وكل ما أخبر الله به عن نفسه يجب الإيمان به؛ لأنه تصديق لخبر الله تعالى وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام.
قوله "ومن الله البيان" أي: أن الله تعالى قد بيّن لعباده وعرفهم بنفسه ووصف نفسه لعباده، فنعرف ربنا بأنه استوى على العرش، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يجيء يوم القيامة.
قوله "وعلينا الإيمان" أي: ويجب علينا الإيمان بذلك.
قوله "ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله فلا يعلم ما هو إلا هو" يشبه هذا قولهم رحمهم الله في نصوص الصفات "أمروها كما جاءت بلا كيف" يعني: أثبتوا ما دلت عليه النصوص بلا بحث عن الكيفية ولا تكييف لتلك الصفات، لا بالقول ولا بالاعتقاد، والتفكير، فالله لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام.(1/228)
قوله "وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -" لا أحصي ثناء عليك" الحديث جاء هذا الحديث عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في الوتر هذا الدعاء، وقوله .. لا
....................................................................................
أحصي" أي: لا أبلغ ولا أقدر على ما تستحق من الثناء لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم كل ما لله تعالى من المحامد، ولا يدرك مدى وكمال صفاته سبحانه وتعالى على ما هي عليه، فلله من المحامد وصفات الكمال ما لا يعلمه أحد حتى الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا إذا جاء عليه الصلاة والسلام يوم القيامة ليشفع يسجد ويفتح الله عليه من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئاً لم يفتحه على أحد قبله(1).
فهذا الحديث يدل على أننا لا ندرك حقائق صفات الله تعالى وكمالها كما أ ننا لا نعلم كل ما لله من الأسماء ومن الصفات، فله أسماء وصفات لم يطلعنا عليها، أما الصفات التي أخبرنا بها فنحن نعلمها، ولكننا أيضاً لا ندرك كمالها وكنهها وحقائقها، ومن الدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وابن حبان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من عبد يصيبه هم أو غم فيقول" الحديث وفي آخره "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك..." الخ والشاهد من هذا قوله "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" فهذا نص في أن لله تعالى أسماء اختص بعلمها وطوى علمها عن العباد، وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى أسماء كثيرة، وكل اسم متضمن لصفة كمال، وفي هذا الحديث توسل بأسماء الله تعالى، والتوسل الجائز أنواع:
أولها: التوسل بأسمائه تعالى وصفاته، فقولك: يا الله، يا رحمن، يا رب،
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب "ذرية من حملنا مع نوح" برقم 4712، ومسلم في كتاب الإيمان برقم 194.(1/229)
هو توسل بأسماء الله، هذا التوسل قد يكون بصيغة الدعاء، وقد يكون بالباء كقولك: أسألك باسمك العظيم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أسألك بأنك الله لا إله إلا أنت،وهكذا.
قوله "سميت به نفسك" هذا هو شأن كل أسماء الله تعالى، فهو الذي سمى بها نفسه، ولا أحد من العباد يخترع له اسماً.
قوله "أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك" عطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام، وما أنزله تعالى في ما شاء من كتبه داخل في ما علّمه، فما يعلمه بعض عباده قد يكون في شيء من كتبه، وقد لا يكون، فقوله - صلى الله عليه وسلم - (أو علمته أحداً من خلقك) أعم من قوله "أو أنزلته في كتابك" فكل ما أنزله في كتابه فإنه قد علمه بعض عباده، ولكن قد يعلم بعض عباده من أسمائه ما لم يكن في كتابه، ومثال هذا أنه جاء في السنة من أسماء الله تعالى ما لم يأت في القرآن الكريم، مثل الشافي والحكم، ولكن أكثر الأسماء التي علمنا الله تعالى هي في القرآن.
وفي هذا الحديث أن أسماء الله تعالى لا تنحصر في تسعة وتسعين كما قد يتوهم ذلك بعض الناس من قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)(1)، فالتحقيق أن هذا الحديث لا يدل على حصر الأسماء في هذا العدد، لكن فيه الإخبار عن بعض أسماء الله تعالى، وأن من أسماء الله تسعة
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (2/981) كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط برقم 2736، ومسلم (4/2063) كتاب الذكر والدعاء برقم 6810.(1/230)
وتسعين من شأنها ومن فضلها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا الأسلوب لا يدل على الحصر كما إذا قيل "إن لله اسماً إذا دعي به أجاب" فإنه لا يدل على أنه ليس له إذا هذا الاسم، فالله تعالى له أسماء كثيرة سمى بها نفسه فمنها ما أنزله في ما شاء من كتبه، ومنها ما علمه بعض عباده، ومنها ما اختص به واستأثر به في علم الغيب عنده، ولا تنحصر الأسماء التي في كتبه، أو أنزلها في القرآن، أو علمها لمن شاء، لا تنحصر في تسعة وتسعين، والحديث لا يدل على الحصر، وخبر "إن" في الحديث هو قوله عليه الصلاة والسلام "من أحصاها دخل الجنة" وعلى هذا يكون قوله "لله" الجار والمجرور حالاً من هذه الأسماء، ويحتمل أن يكون خبر "إن" هو قوله "لله" فيكون خبراً مقدماً، وعندي أن الأول أظهر والله أعلم.
وإحصاء هذه الأسماء على مراتب:
فإنه يكون بمعرفة ألفاظها، وعدها، ويكون بفهم معانيها، ومن إحصائها أيضاً القيام بمقتضاها، وليس المقصود هو الإحصاء العددي فقط، ولكنه نوع إحصاء، فلاشك أن معرفة كون أسماء الله كذا وكذا من العلم النافع.
والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته؛ فنحن نفهم معنى ذلك، ونميز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالاتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات.
وكذلك أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك، ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها؛ هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات، كما إذا قيل: السيف، والصارم، والمهند؛ وقصد بالصارم معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟ والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات.(1/231)
قوله "والله سبحانه أخبرنا أنه عليم...." الخ.
يبين الشيخ بناء على ما سبق من أن نصوص الأسماء والصفات معلومة لنا من وجه، أن أسماء الله التي أخبرنا بها مفهومة لنا، فنفهم أنها أسماء لله تعالى دالة على صفاته، فلذلك نفرق بينها لاختلاف ما تدل عليه من الصفات ونعلم أنها جميعاً دالة على ذات الرب سبحانه، فلهذا قال الشيخ "فهي متفقة متواطئة من حيث الذات.."الخ أي: هي متحدة في دلالتها على ذات الرب، فكلها أعلام محضة، أي: لا تدل على معاني، فأسماء الله تعالى تدل على ذات الرب تعالى وتدل على معاني وصفات قائمة بالرب.
إذن فلا نقول إن أسماء الله مترادفة ولا متباينة مطلقاً، بل إنها مترادفة في دلالتها على ذات الرب، ومتباينة في دلالتها على الصفات، وهذا مبني على أن
....................................................................................
كل اسم متضمن لصفة، فلهذا نعلم أنها جميعاً أسماء لله، ونفرِق بين معانيها، فنفرِق بين معنى المغفرة والرحمة، ومعنى السمع والبصر، والعزة والحكمة والقوة وما أشبه ذلك ولهذا نقول: إن السميع هو البصير من حيث المسمى، فهما اسمان لمسمى واحد، ولكن السميع غير البصير من حيث المعنى والصفة فالسميع يدل على صفة السمع والبصير يدل على صفة البصر، وهكذا القول في سائر الأسماء.
قوله "وكذلك" أي: ونظير أسماء الله تعالى من حيث الاتفاق من وجه والاختلاف من وجه.(1/232)
قوله "مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب". النبي عليه الصلاة والسلام له أسماء كثيرة، وقد أخبر عن بعضها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب)(1) والعاقب الذي ليس بعده نبي فهذه الأسماء كلها أسماء لمسمى واحد وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كل اسم له معنى، فهي متحدة من وجه ومختلفة من وجه.
وهذه الأسماء أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى معانيها(2):
أما محمد وهو أشهر أسمائه، فهو علم وصفة في حقه عليه الصلاة والسلام، فهو علم عليه - صلى الله عليه وسلم - وله معنى هذا الاسم، وهو كثرة حمد الغير له، فهو محمد يحمده الناس والله تعالى يثني عليه، فمحمد اسم مفعول مشتق من حُمِّدَ يُحَمَّد فهو محمّد.
....................................................................................
وأما اسمه "أحمد" فهو أفعل تفضيل يدل على كثرة حمده لربه تعالى، أو كثرة حمد الغير له، فهو أحمد من غيره أي: أكثر حمداً لربه تعالى من غيره، أو أكثر نصيباً من حمد الغير أي: هو أحق بالحمد من سائر الناس، فالاسمان متقاربان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم 3532، ومسلم في كتاب الفضائل برقم 2354.
(2) زاد المعاد 1/87-94.(1/233)
أما الحاشر والعاقب فقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى معناها بقوله "الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي" وهذا هو الحشر يوم القيامة والرسول عليه الصلاة والسلام يقول "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى(1)، فالحاشر هو النبي الخاتم الذي ليس بعده إلا الساعة وحشر الناس، والماحي هو الذي محا الله به الكفر، وليس المراد بمحو الكفر هنا إزالة جميع الكفر عن وجه الأرض، بل المراد أن الله تعالى محا به من الكفر ما لم يمح بدعوة نبي سواه، وهذا يظهر بكثرة الأتباع، وأما العاقب فهو الذي يأتي بعد غيره، والرسول عليه الصلاة والسلام جاء بعد الأنبياء، فهو المقفي والعاقب لجميع النبيين كما قال الله تعالى: (($tBur مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ "[آل عمران: 144] أي قد مضت من قبله جميع الرسل فلا نبي بعده وهو خاتم النبيين، وأما ما جاء في ذكر المسيح (($¨B الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ م@ك™"چ9$#"[المائدة: 75] فلا يفهم على إطلاقه بل بعده رسول لم يأت كما قال الله تعالى عنه ((#Mژإe³t6مBur بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ "[الصف: 6]، فمعنى الآية حينئذ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله أكثر ومعظم الرسل، لا جميع الرسل والله أعلم.
....................................................................................
قوله "وكذلك أسماء القرآن" أي: ومن قبيل الأسماء التي تتحد من وجه، وهو المسمى، وتختلف من وجه، وهو المعنى، أسماء القرآن العظيم.
والقرآن هو كلام الله تعالى المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، الموجود بين دفتي المصحف، المبدوء بالفاتحة، المختوم بسورة الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب اللعان برقم 5301، ومسلم في كتاب الجمعة برقم 867.(1/234)
قوله "مثل القرآن والفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء وغير ذلك" فهذه الأسماء كلها لمسمى واحد وهو هذا الكتاب، ولكل اسم من هذه الأسماء معنى من المعاني، فهو كتاب لأنه مكتوب، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، ومكتوب في الصحف التي بأيدي المؤمنين، وهو القرآن من القَرْء بمعنى الجمع لأنه مجموع ومؤلف من حروف وكلمات وسور وآيات، أو من القَرْء بمعنى الإظهار لأنه كلام مُظْهَر بالتلاوة كما قال تعالى: ((#sŒخ*sù قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ ¼çmtR#uنِچè%"[القيامة: 18]، وهو الفرقان لأنه فارق بين الحق والباطل، وبين أولياء الله وأعداء الله،وبين النافع والضار كما قال تعالى ((x8u'$t6s? الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ #·چƒةtR" [الفرقان: 1]، وهو الهدى كما قال تعالى ((مچِky رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ "[البقرة: 185] وقال فيه أيضاً ((¨bخ) هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ مPuqّ%r&"[الإسراء: 9] أي يدل ويبيّن الطريقة المثلى ويهدي إلى الصراط المستقيم، وهو هدى لجميع الناس، ولكن لا ينتفع به إلا المؤمنون كما قال تعالى: (("W‰èd z`
ة)FكJù=دj9"[البقرة: 2] وقال في الآية
....................................................................................
الأخرى: (("W‰èd لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " فهذه أسماء لمسمى واحد وهو كلام الله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، المكتوب في المصاحف، وكل اسم يدل على صفة ثابتة للقرآن الكريم.(1/235)
ونظير هذا في اللغة العربية أسماء السيف، وهو الآلة الحادة المعروفة، فهو يسمى عند العرب الصارم والحسام والمهند والبتار والفيصل، فهذه أسماء لشيء واحد، وكل اسم منها يدل على معنى، و لكن لا تكون هذه الأسماء متباينة في الصفات إلا إذا قُصدت معانيها، وإذا لم تقصد معانيها فإنها تكون أعلاماً فقط، فإذا قيل في السيف المصنوع ـ في غير الهند ـ المهند" فإن هذا الاسم يكون علماً فقط، وإذا قيل: خذ الصارم" ولم يلاحظ معنى الصرم والقطع فإنه حينئذ يكون علماً، فقط ولكن إذا قيل: خذ الصارم" يعني السيف القاطع ولوحظ معنى الصرم والقطع فإن هذا الاسم يكون علماً وصفة، وكذا إذا قيل: خذ المهند "وهو مصنوع في الهند فعلاً فإنه يكون حينئذ علماً وصفة، ولهذا قال الشيخ رحمه الله تعالى "كما إذا قيل: السيف والصارم والمهند، وقصد بالصارم معنى الصرم وفي المهند النسبة إلى الهند" أي أنه لابد أن تكون هذه المعاني مقصودة وإلا كانت هذه الأسماء مجرد أعلام.
إذن فنظير أسماء الله تعالى من حيث إنها متفقة في الذات ومختلفة في الصفات أسماء القرآن العظيم، وأسماء النبي عليه الصلاة والسلام، وأسماء السيف، والله أعلم.
....................................................................................
قوله "ومثل هذه الأسماء" أي: الأسماء التي تكون متحدة من وجه، وهو المسمى، ومختلفة من وجه، وهو المعنى والصفة.(1/236)
قوله "والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات" ولهذا لا يصح أن تقول: إن أسماءه مترادفة، ولا أن تقول: إنها متباينة، فلابد من التقييد، فهي مترادفة من حيث دلالتها على الذات، ومتباينة من حيث دلالتها على الصفات، وهذا كله على طريقة أهل السنة والجماعة، وأما على طريقة المعتزلة فإنها مترادفة لأنهم يجعلون أسماءه أعلاماً محضة لا تدل إلا على الذات، فلا فرق عندهم بين السميع والبصير والعليم والحكيم، لأنها لمسمى واحد، ولا فرق بينها من جهة المعنى، لأنها عندهم لا تدل على معانٍ أصلاً والله أعلم.
ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه.
قال تعالى ((آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ ôMn=إ_ءèù"[هود: 1] فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا u'خT$sW¨B"[الزمر: 23] فأخبر أنه كله متشابه.
والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.(1/237)
والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: ((چ!9# تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ ةOإ3ptّ:$#"[يونس: 1] فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله: ((¨bخ) هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ ... cqàےخ=tGّƒs†"[النمل: 76]، وجعله مفتياً في قوله: ((ب@è% اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي ة="tGإ3ّ9$#"[النساء: 127] أي: ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هادياً ومبشراً في قوله: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ دM"ysخ="¢ء9$#"[الإسراء: 9].
قوله "ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن..." الخ.
قد يكون اسم الإشارة إشارة للقريب وهو ما ذُكر من أن أسماء الله تعالى
....................................................................................
متحدة من وجه ومختلفة من وجه ويحتمل أنه أراد الإشارة إلى ما في مطلع القاعدة من الكلام في تأويل المتشابه وأن منه ما يعلمه الراسخون في العلم ومنه ما لا يعلمه إلا الله تعالى.(1/238)
قوله "أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه" أي: ووصف بأنه كله متشابه، والدليل على الإحكام العام هو آية هود: ((چ!9# كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ ôMn=إ_ءèù"، والدليل على التشابه العام آية الزمر ((ھ!$# نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا u'خT$sW¨B"، وأما الدليل على الإحكام الخاص فآية آل عمران المتقدمة في مطلع القاعدة وهي قوله سبحانه ((çm÷ZدB آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ "[آل عمران: 7]. قوله "فينبغي أن يعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه": هذا لأنه لا يجوز أن يكون المعنى واحداً، لأنه لو كان المعنى واحداً لصار فيه تناقض، ولهذا يقال: إن بين دليل الإحكام العام والتشابه العام ودليل الإحكام الخاص والتشابه الخاص بينهما تعارض في الظاهر، ووجه هذا التعارض أن بعض هذه الأدلة تدل على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، وبعضها يدل على أن القرآن كله محكم وكله متشابه، فتعارضت هذه الأدلة في الظاهر من حيث العموم والخصوص، والطريق لدفع هذا التعارض هو معرفة المراد بالإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه.
قوله "والحكم هو الفصل بين الشيئين..." إلخ.
فتصاريف مادة حكم ترجع إلى معنى المنع، فحكم بمعنى منع في أصل اللغة،
....................................................................................
وذكر الشيخ رحمه الله شواهد لهذا المعنى بقول العرب حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وهو ما يوضع على فم الحيوان فيربط به العنان والخطام الذي يمنع الدابة من الاسترسال في الجري بغير إرادة صاحبها.(1/239)
ومن معنى الإحكام الفصل، والفصل فيه منع، فالحكم هو الفصل بين المشتبهات علما وعملاً، والحاكم يفصل بين المتنازعين في الخصومات. فهذا المعنى وهو الفصل يرجع إلى المنع، وهو المنع من الالتباس في الأمور المشتبهات، ويمنع الخصوم من تعدي بعضهم على بعض بأخذ الحقوق والتعدي، فهذه المادة تتضمن الفصل.
قوله "والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان" أي: أن آيات القرآن كلها متقنة وإتقانها من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى، ومتقن في المعنى لأنه مشتمل على التمييز، تمييز الصدق من الكذب في الأخبار، والرشد من الغي في التشريعات، فأخباره صادقة، وأحكامه عادلة، كما قال الله تعالى: ((ôM£Js?ur كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا Zwô‰tمur"[الأنعام: 115] صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام.
وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: ((ِqs9ur كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا #ZژچدWں2"[النساء: 82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله: ((ِ/ن3¯Rخ) لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ y7دùé&"[الذاريات: 8-9].
فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بضعاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه، أو عن نظيره، أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ.
وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته، أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، أو يفرِّق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة.(1/240)
وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضاً، ويناسب بعضها بعضها، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً -كان الكلام متشابهاً، بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضاً.
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، لا يناقض بعضه بعضاً.
قوله "وأما التشابه الذي يعمه..." الخ.
....................................................................................
قوله "وأما التشابه الذي يعمه" أي التشابه الذي يوصف به جميع القرآن.
قوله "فهو ضد الاختلاف المنفي عنه إلخ": أي أن الله تعالى وصف كتابه بالتشابه وهو التناسب، ونزهه عن الاختلاف الذي هو التناقض كما في قوله تعالى: ((ِqs9ur كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا #ZژچدWں2"، ومن الاختلاف المذموم أقوال الكفار المختلفة كما قال تعالى: ((ِ/ن3¯Rخ) لَفِي قَوْلٍ 7#خ=tGّƒ'C" أي في كلام متناقض ينقض بعضه بعضاً، فهذا يقول عن محمد: إنه كاهن، وهذا يقول إنه مجنون، والآخر يقول إنه ساحر. ثم بيّن الشيخ معنى التشابه الذي يوصف به كل القرآن وذلك في قوله: "فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضاً".
قوله "بل يأمر به" أي: مرة ثانية، ويكون في هذا توكيد.
قوله "أو بنظيره" أي: أو يأمر بنظيره، وهذا أيضاً يؤكد الأمر الأول وهذا الذي تقتضيه الفطر والعقول وهو التسوية بين المتماثلات. قوله "أو بملزوماته" أي: أو يأمر بما يستلزم هذا المعنى، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم.
قوله "إذا لم يكن هناك نسخ": فالنسخ ليس من التناقض في شيء لأنه تشريع لحكم في وقت، ثم رفعه في وقت آخر، أما التناقض فهو الأمر بالشيء ثم النهي عنه في وقت واحد بحيث يكون مأموراً به منهياً عنه، فهذا لا يجوز.(1/241)
وكتاب الله تعالى جار على هذا الأمر، فهو تعالى يأمر بالصلاة في مواضع كثيرة ويثني على المقيمين للصلاة، ويأمر بأحكام الصلاة وأوقاتها وهذا كله من الكلام المتشابه، وهكذا يأمر بالإنفاق عموماً، ويأمر بالزكاة خصوصاً، ويأمر
....................................................................................
بالإحسان عموماً، وهذا أيضاً من التشابه. وهو أيضاً ينهى عن الشرك كله، عن عبادة الملائكة، وعن عبادة الأنبياء، وعن عبادة الأصنام، وعن عبادة الجن، وينهى عن الشرك عموماً كما قال "ولا تشركوا به شيئاً"، وهذا من التشابه أيضاً.
قوله "أو ينفي لوازمه": الملزوم هو الذي لا ينفك عن غيره، واللازم هو الذي لا ينفك عن غيره، وقد يكون الشيئان متلازمين، أي: أن كلاً منهما مستلزم للآخر، وقد تكون الملازمة من طرف واحد، فالنهار وطلوع الشمس مثلاً متلازمان إذا اعتبرنا النهار يبدأ من طلوع الشمس، فيلزم من النهار طلوع الشمس، ويلزم من طلوع الشمس النهار، ومثال الملازمة الشرعية أن صحة الصلاة مستلزمة للطهارة، فلا يمكن أن تصح الصلاة والطهارة مفقودة، وهكذا وجود المشروط يستلزم وجود الشرط لا العكس، ولهذا يعرف الشرط بأنه ما لا يلزم من وجوده الوجود، ولا العدم، ويلزم من عدمه العدم، فإذا وجد المشروط وجد الشرط، فاللازم هو الشرط والملزوم هو المشروط.
فتبين بهذا أن العلاقة بين الإحكام العام والتشابه العام هي التلازم فكون القرآن كله متشابهاً يقتضي أنه محكم، وكونه متقناً يقتضي أنه متشابه، فالإحكام العام والتشابه العام إذن متلازمان.
بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.(1/242)
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهلُ العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلمَ العلماءُ أنه ليس هو مثله وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه.
قوله: "بخلاف الإحكام الخاص..." إلخ.
أي الذي يخص بعض القرآن وبهذا يكون الإحكام الخاص والتشابه الخاص ضدين، وقد تقدم في مطلع القاعدة الكلام على الإحكام الخاص والتشابه الخاص من حيث الدليل وهو آية آل عمران، وتقدم أيضاً ذكر جملة من أقوال المفسرين في المراد بالمحكم والمتشابه فمنها أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ، ومنها أن المحكم هو الواضح البين الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والمتشابه هو ما يخفى معناه على بعض الناس، أو ما يحتمل أكثر من معنى.
والتضاد بين الناسخ والمنسوخ وبين الواضح والخفي وبين ما لا يحتمل وما يحتمل ظاهر.
....................................................................................
فلا تكون الآية الواحدة محكمة ومتشابهة في نفس الوقت بالمعنى الخاص بل قد تكون محكمة ومتشابهة بالمعنى العام.(1/243)
ثم ذكر الشيخ هنا ضابط التشابه الخاص والإحكام الخاص بقوله "فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه، مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو مثله وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر"، وهذا التعريف من الشيخ لا ينافي ما سبق ذكره من أقوال المفسرين في آية آل عمران ((uçm÷ZدB آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ " فإن الشيخ هنا ذكر المعنى الذي يرجع إليه معنى التشابه، ومعنى الإحكام والأصل، وهذا المعنى لا يختص بالآيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى. بل يجري في الآيات المتشابهات، والأحاديث المتشابهة، كما يجري في المعاني والألفاظ المتشابهة، وفي الذوات المتشابهة، وغيرها.
فنطبق تعريف الشيخ للإحكام والتشابه الخاص على بعض ما قيل في معناهما(1):
مما قيل: إن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ، فهذا التعريف ينطبق عليه تعريف الشيخ المتقدم، فإن الآية المنسوخة تشبه الآية غير المنسوخة من حيث إنها آية، ومن حيث إنها تدل على حكم، والأصل أن هذا الحكم قائم وباق، ولكن الآية المنسوخة تخالف غير المنسوخة من جهة أن حكمها قد رفع، وبسبب
....................................................................................
هذا التشابه يحصل اشتباه عند بعض الناس، فإن من لم يبلغه الناسخ يغلط فيعمل بالدليل المنسوخ، لأنه لم يعلم الدليل المحكم الذي يزيل الاشتباه، ولهذا كان الواجب في المحكم والمتشابه كما تقدم هو الإيمان بالمتشابه، والعمل بالمحكم، ورد المتشابه إلى المحكم الذي يزيل الاشتباه.
وهكذا القول بأن المحكم هو المبيِّن، والمتشابه هو المجمل، لأنه بسبب ما فيه من الإجمال يشتبه لأنه يحتمل أكثر من معنى فيشبه غيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/383-389، 418-424.(1/244)
وقد تقدم أن نصوص الصفات ونصوص المعاد تقدم أنه يمكن أن تكون من المتشابه لا بمعنى التشابه عند أهل التفويض الذين يقولون: إن نصوص الصفات متشابهة بمعنى أنه لا يعلم معناها إلا الله تعالى"، ولكنها متشابهة بمعنى أنه يشتبه معناها ويخفى على بعض الناس كما مثل الشيخ رحمه الله في هذا الموضع بقوله "كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخر بما يشهدونه في الدنيا، فظن أنه مثله -أي مثل ما في الدنيا- فعلم العلماء أنه ليس هو مثله -أي مثل ما في الدنيا- وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه": ففرق بين قوله تعالى ((فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن" الآية وقوله تعالى (($uZّ9t"Rr&ur مِنَ السَّمَاءِ مَاءً #Y'qكgsغ" وقوله تعالى ((¨bخ)ur لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا $Zَح !$y™ tûüخ/جچ"
دj9" وقوله تعالى ((كlمچّƒs† مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ "، وهذا ماء غير آسن ولبن وخمر وعسل وذاك ماء ولبن وخمر وعسل ولكن مع الفارق فهذه آيات وردت في مشارب الدنيا، وتلك آيات وردت في مشارب الآخرة.
....................................................................................
قوله "وهذا التشابه" أي التشابه الخاص.
قوله "إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما" أي أن كل موجودين بينهما اشتباه و افتراق. وقد تكثر وجوه الاشتباه، وتقل وجوه الافتراق وقد يكون العكس.(1/245)
قوله "ثم من الناس..الخ": هذا هو الحاصل بسبب التشابه الخاص. قوله "من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبهاً عليه" أي من الناس من يدرك القدر المشترك ولا يدرك القدر المميز، فمن عرف المنسوخ ولم يعرف الناسخ يقع في الغلط، وهكذا من عرف المجمل ولم يعرف المبين، ومن عرف المطلق ولم يعرف المقيد، ومن عرف العام ولم يعرف الخاص. قوله "فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية": الشيء النسبي هو غير العام أي الذي يثبت للبعض دون البعض وأما الشيء العام أو الثابت على كل حال، فهذا يقال له اشتباه حقيقي، فاللفظ الذي لا يفهمه أحد اشتباه عام، وأما الذي يخفى معناه على بعض الناس فإن الاشتباه فيه نسبي، وقد عرف الشيخ الاشتباه النسبي بقوله بعد هذا الكلام "بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض".
إذن التشابه الذي في بعض نصوص القرآن من الاشتباه النسبي، فنصوص الوعد والوعيد، ونصوص الصفات يشتبه معناها على بعض الناس، ولهذا غلط الغالطون فظنوا أنها تدل على التشبيه، وأنه تعالى لو قامت به الصفات لزم من ذلك مشابهته لخلقه أما أهل العلم فإنهم يدركون أن أسماء الله تعالى وصفاته -وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم اتفاق من بعض الوجوه- لا تماثل
....................................................................................
صفات الخلق، وأن ما اختص الله به من ذلك فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.
قوله "ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه" أي أن أهل العلم يعرفون ويدركون الفرق والفصل فيزول عنهم الاشتباه، فيعرفون الناسخ من المنسوخ، والمطلق من المقيد، والعام من الخاص، ويردون المتشابه إلى المحكم الذي يزيل الاشتباه.
ومن هذا الباب الشُّبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلمَ بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل.(1/246)
والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات، لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد.
وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه -والقياس الفاسد لا ينضبط- كما قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة.
قوله "ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها..." الخ.
قوله "ومن هذا الباب": الباب يطلق ويراد به النوع والقسم، والمراد هنا ومن نوع التشابه الخاص.
قوله "الشبه" جمع شبهة وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل من الألفاظ أو المعاني، من الأدلة السمعية أو الأدلة العقلية. فهذه الشبه هي من قبيل التشابه الخاص الذي سبق تعريفه قريباً.
قوله "التي يضل بها بعض الناس" أي الذين لا يهتدون إلى ما يزيل الاشتباه ويكشفه.
....................................................................................(1/247)
وهذه الشبه تجري في الأمور الشرعية وفي الأمور العادية قوله "وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه": هذه قاعدة عقلية عامة كما يدل عليه قوله "ما من شيئين" -نكرة في سياق النفي ودخلت عليه "من" الزائدة-، سواء كانت في الألفاظ والذوات والصفات والأدلة وغيرها، حتى إن الأضداد كالسواد والبياض تجري فيها هذه القاعدة، فإن كلاً من السواد والبياض لون وعرض وغيرها، ويفترقان فيما بينهما من الضدية في الألوان، وهكذا النبي الصادق والمتنبيء الكذاب، بينهما اتفاق في أن كلاً منهما بشر وكلاً منهما يدعي النبوة، لكن مع الفارق، فهذا يقيم الله له من دلائل الصدق ما يضطر العقل لتصديقه، وهذا يظهر الله على يده ما يفضحه ويضطر العقل إلى تكذيبه.
قوله "والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات": فالقياس الفاسد من الشبهات التي يشتبه فيه الحق بالباطل، فيقع من لا بصيرة له في الخلط بسبب هذا القياس الفاسد، فمنشأ المعطلة هو قياس الخالق على المخلوق، ومنشأ شرك المشركين الذين اتخذوا مع الله تعالى آلهة أخرى زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى منشأ شركهم هو القياس الفاسد قياس الخالق على المخلوق، وهذا أفسد القياس.
وهكذا القياس الفاسد في الأحكام الفقهية، فمن القياس الفاسد القياس الذي يعارض ويخالف النص، وهو قياس فاسد الاعتبار.
وقد عرف الشيخ رحمه الله القياس الفاسد بقوله "لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه": فالقياس الصحيح هو تشبيه الشيء لغيره فيما يشبهه فيه،
....................................................................................(1/248)
أما قياس الشيء على غيره فيما لا يشبهه فهذا قياس فاسد ولهذا يقال: هذا قياس مع الفارق، كقياس المبطلين الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا" فجعلوا الربا مثل البيع أي أنه حلال، والله تعالى أحل البيع وحرم الربا فليس الربا مثل البيع، فقياسه عليه من القياس الفاسد.
قوله "والقياس الفاسد لا ينضبط" أي ليس له حدود، فيجري في مجالات كثيرة، فإذا كان قد وقع قياس الخالق على المخلوق، وقياس النبي على المتنبئ، أو المتنبئ الكذاب على النبي فكذلك ما دونه من باب أولى.
قوله "كما قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس" أي في أحكامهم وفي تصوراتهم وأقوالهم(1).
قوله "من جهة التأويل... الخ: فالتأويل الخطأ الذي هو صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح يكون في الأدلة السمعية لأنها ألفاظ، كصرف العام إلى الخاص وصرف المحتمل إلى المعنى البعيد فيحصل الخلط، والقياس يكون في الأدلة العقلية لأنها تتعلق بالمعاني، ومنشأ الخطأ في كل من التأويل والقياس هو التشابه.
وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق.
فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات -حتى ظنوا وجودها وجوده- فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع.
قوله "وقد وقع بنو آدم في عامة ..." الخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/355.(1/249)
قوله "وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام" أي بسبب التشابه، ثم قال الشيخ مصوراً مدى ما وقع من الضلال بسبب التشابه "حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود، فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق": وهؤلاء هم الاتحادية أو أصحاب وحدة الوجود، فالله عندهم هو هذا الوجود أو هذا الوجود هو الله، وزعموا أن إدراك هذه الحقيقة هو تحقيق التوحيد، وأن من صار إلى هذا صار من العارفين.
وهؤلاء الاتحادية قائلون بالاتحاد العام، لأن القائلين بالاتحاد أو القائلين بالحلول منهم من يقول بالحلول العام، ومن يقول بالاتحاد العام، ومنهم من يقول بالاتحاد الخاص أو حلول خاص.
....................................................................................
فأما القائلون بالاتحاد العام فهم أصحاب وحدة الوجود الذين يقولون: إن الله هو هذه الموجودات، فالوجود هذا شيء واحد، وأما تكثره فهو بحسب المظاهر، والحقيقة واحدة.
والقائلون بالحلول العام هم قدماء الجهمية، يقولون إن الله حال في كل مكان، تعالى الله عن قولهم، وهؤلاء هم الذين رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله، ونقض شبهاتهم التي تعلقوا بها من القرآن، وبين ما يتضمنه قولهم من الفساد في العقل مع مناقضته للسمع، فإن قولهم يتضمن أن الله موجود في الحشوش، وبطون الحيوان وكل مكان مستقذر تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
والفرق بين القول بالحلول والقول بالاتحاد ظاهر، فالقول بالحلول يتضمن تميز الوجودين وإثباتهما لكن أحدهما حل في الآخر، مثل الروح والبدن، فكل منهما له وجود لكن الروح حالة في البدن ولها حقيقة متميزة كما تقدم في المثل الثاني، وأما القائلون بالاتحاد فليس عندهم وجودان، بل الوجود عندهم واحد، وبهذا يتبين أن مذهبهم أقبح وهم أكفر.(1/250)
أما الاتحاد الخاص فكقول بعض النصارى: اتحد اللاهوت في الناسوت، فصارا شيئاً واحداً، وأما الحلول الخاص فكقول بعض النصارى: حل اللاهوت في الناسوت، وكقول غلاة الرافضة: إن الإله حل في علي وسائر الأئمة(1).
والله تعالى مباين لخلقه، ومبابينته لخلقه أعظم من مباينة أي مخلوق لمخلوق، وهو عال فوق جميع مخلوقاته، ومعنى كونه بائناً من خلقه أنه ليس في ذاته شيء
....................................................................................
من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وقد صوّر الشيخ هذا المعنى بقوله "مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء.... الخ.
قوله "مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء" أي من الخالق مع المخلوق، والمماثلة هي المشاركة في بعض الخصائص، والمخلوقات يكون بينها مباينة كما تقدم في المثل الأول أن موجودات الآخرة مباينة لموجودات الدنيا، فليست مثلها، وتقدم أيضاً أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة موجودات الآخرة لموجودات الدنيا. فلا شيء من المخلوقات أبعد عن مماثلة شيء آخر من الخالق مع المخلوق.
قوله "أو أن يكون إياه" أي لا شيء أبعد عن أن يكون هو الشيء الآخر من الخالق مع المخلوق، وهذه النسبة هي الوحدة، فإذا قلت: هذا هو ذاك "صار شيئاً واحداً.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 2/171-174، 21/256.(1/251)
قوله "أو متحداً به" أي لا شيء أبعد عن أن يكون متحداً بشيء آخر من الخالق مع المخلوق، والاتحاد هو امتزاج الحقيقتين حتى تكون حقيقة واحدة، ولا يكون هناك تميز لإحدى الحقيقتين عن الأخرى. قوله "أو حالاً فيه": أي لا شيء أبعد عن أن يكون حالاً في شيء آخر من الخالق مع المخلوق، وفي الحلول تكون الحقيقتان متميزتين كما تقدم، فالله تعالى أبعد عن مماثلة خلقه، أو أن يكون نفس الخلق، أو أن يتحد بالخلق، أو أن يحل فيه، من أي شيء إلى شيء آخر، ومع عظم التباين بين الخالق والمخلوق وقع الاشتباه على بعض الناس حتى ظن هؤلاء الملاحدة والجهلة وجود المخلوقات عين وجود الخالق، وحكم هؤلاء كما قال الشيخ "فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه"، وقد تقدم أيضاً أنهم هم الملاحدة الذين
....................................................................................
أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى.
قوله "وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود" هذا هو منشأ الاشتباه المتقدم.
قوله "فرأوا الوجود واحداً ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع": أي أنهم جعلوا الوجود المشترك واحداً بالعين لا واحداً بالنوع، والصواب المقطوع به أن الوجود المشترك واحد بالنوع.
والفرق بينهما أن الواحد بالعين هو ما لا يتصور فيه الاشتراك، والواحد بالنوع هو ما يتصور فيه الاشتراك، فالوجود المطلق مشترك، لكن وجودك أنت لا يتصور فيه الاشتراك، فالوجود المطلق واحد بالنوع، وهو اسم مطلق، ومعناه معنى كلي لا يختص بموجود دون موجود.
والمقصود مما تقدم التمثيل للضلال الذي منشأه الاشتباه.
وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى الوجود، لزم التشبيه والتركيب، فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات.(1/252)
وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة: مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك؛ فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه.
قوله "وآخرون توهموا أنه إذا قيل..." الخ.
قوله: "وآخرون توهموا.. الخ هذا مثال آخر لمن ضل بسبب التشابه بين الموجودات، وهؤلاء هم الذين تقدم ذكر مذهبهم وهم المعطلة نفاة الصفات الذين ينفون الصفات زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه، وهم الجهمية والمعتزلة، وكذلك الفلاسفة الذين ينفون الصفات بحجة أن إثباتها يستلزم التركيب، فهم لهم هاتان الشبهتان: شبهة التشبيه وشبهة التركيب.
قوله "لزم التشبيه والتركيب" أي تشبيه الخالق بالمخلوق، والتركيب في ذاته تعالى، في زعم الفلاسفة الذين يقولون: إن هذه معان متعددة متغايرة، وهي تركيب، والله منزه عن التركيب، وهذا لا يعنينا هنا، وإنما الذي يعنينا أن الطائفة هم الجهمية والمعتزلة والفلاسفة فهم الذين يشملهم قول الشيخ "وآخرون".
....................................................................................
قوله "فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي" أي أن إطلاق لفظ الوجود على الخالق والمخلوق من قبيل المشترك اللفظي، وهم قالوا هذا ليتخلصوا مما توهموه من التشبيه والتركيب.
والمشترك اللفظي هو ما اتحد لفظه وتعدد معناه، مثل "المشتري" للنجم وللمبتاع، والعين للعين الباصرة، وللعين الجارية، وللذهب، ومثل "سهيل" للنجم ولإنسان اسمه سهيل، فالاشتراك بين هذه المعاني إنما هو في اللفظ فقط، وأما معانيها فمختلفة(1).
__________
(1) منهاج السنة 2/118-120، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/210.(1/253)
والحق أن كلمة "موجود" تطلق على كل موجود، فالاشتراك بين الموجودات في هذه الكلمة في لفظها ومعناها ولابد، لأن الوجود ضد العدم.
وهذا المعنى ثابت لكل موجود، فكل موجود فهو غير معدوم. فالاشتراك حينئذ اشتراك معنوي.
والمشترك المعنوي يسمى المتواطئ وهو ما اتحد لفظه ومعناه سواء تفاوت المعنى أو لم يتفاوت، كلفظ "إنسان" يطلق على محمد وعمر وبكر وهكذا.
إذن فقول هؤلاء بالاشتراك اللفظي قول باطل، والدليل على أن الوجود متواطئ وليس بمشترك لفظي ذكره الشيخ بقوله: "فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم و محدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات": أي أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، وينقسم أيضاً إلى واجب وممكن، وإلى محسوس مشاهد وغائب غير مشاهد، ونحو ذلك، والانقسام يدل
....................................................................................
على أن بين القسمين وحدة، كالحب مثلاً فإنه ينقسم إلى قوت وما ليس بقوت، والإنسان ينقسم إلى ذكر وأنثى، وينقسم إلى أسود وأبيض، وينقسم إلى مؤمن وكافر، هذا هو الدليل على أن الوجود متواطئ والله أعلم.
قوله "وطائفة ظنت.. الخ" هذا مثال ثالث لمن ضل بسبب الاشتباه الذي يكون بين الأشياء، والطائفة هذه طائفة من الفلاسفة.(1/254)
قوله "ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه" أي أنهم جعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وسبق بيان أن المعاني الكلية المشتركة لا توجد إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات في الخارج، وهؤلاء لم يقصروا هذا على الوجود المشترك، بل زعموا أن في الخارج أيضاً كليات مطلقة، كوجود مطلق، وحيوان مطلق، وهكذا، وقد سبق ذكر هذا المعنى في مبحث الروح في المثل الثاني، وأن الذين لا يصفون الروح إلا بالسلوب يقولون: إنها لا تدرك المعاني المعينة، وإنما تدرك الأمور الكلية، لأن عندهم أن المعاني الكلية موجودة في الخارج(1).
فهذا نوع من الضلال بسبب الاشتباه.
فالمقولة الباطلة هنا اعتقاد أن في الخارج موجوداً مطلقاً، وكليات مطلقة، ومنشأ هذا الغلط هو أن الموجودات تشترك في مطلق الوجود، والحيوانات تشترك في مطلق الحيوانية، والأجسام تشترك في مطلق الجسمية، والناس يشتركون في مطلق الإنسانية. وهذه المقولة باطلة فليس في الخارج وجود مطلق، فكل ما في
....................................................................................
الخارج فهو معين جزئي ليس بمشترك، وكل شيء مستقل بوجوده عن غيره، إذن فالاشتراك بين الموجودات أو الحيوانات أو بين الأجسام أو بين أفراد الناس إنما هو في أمر ذهني لا في أمر موجود في الخارج(2).
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/203-207.
(2) منهاج السنة 2/588-594.(1/255)
قوله "فخالفوا الحس والعقل والشرع": أي أن قولهم هذا مخالف للحس فإنه معلوم بالحس أن ما في الخارج إنما هو جزئي، فليس هناك شيء مشترك يرى أو يلمس،وإنما الذي يدرك بالحس هو أمور معينة، وخالف أيضاً العقل، فإن من المعلوم بداهة أن المعنى الكلي لا يكون إلا في الذهن، وقد تقدم ذكر هذا المعنى عن الفلاسفة، وأنهم قالوا عن الله إنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يوجد إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات. وخالف قولهم هذا أيضاً الشرع، فإن الشرع قد جاء بأحكام، وإن كانت قد جاءت بصيغ عامة فإن هذه النصوص العامة إنما تتعلق بالأعيان والأفراد، فهي عامة ولكن واقعها إنما ينطبق على الأفراد فخالف هؤلاء الحس والعقل والشرع، فإنها تقتضي بعدم وجود الكليات في الخارج.
قوله "وهذا كله من أنواع الاشتباه": أي أن غلط الاتحادية حيث زعموا أن وجود الموجودات عين وجود الرب، وذلك بسبب اشتراك الموجودات في الوجود، وغلط الجهمية والمعتزلة والفلاسفة أيضاً حيث قالوا: إن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، حذراً مما توهموه من التشبيه والتركيب، وغلط من غلط من الفلاسفة حيث زعموا أن الموجودات إذا كانت تشترك في الوجود ففي الخارج
....................................................................................
موجود مطلق، وهكذا الشأن في سائر المعاني الكلية، فهي موجودة في الخارج، عندهم، وهذا كله من الضلال بسبب الاشتباه.
ومن هداه الله سبحانه فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينها من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم -الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.
قوله "ومن هداه الله سبحانه فرق بين الأمور..." الخ.(1/256)
أي أن من أنعم الله عليه بالهدى، فرق بين الأمور وإن اشتبهت من بعض الوجوه، لأنه يدرك ما بينها من الفرق والجمع، خلاف من تقدم ذكرهم، من فرق الضلال من الاتحادية والجهمية والفلاسفة.
قوله "وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام..." إلخ.
أي وهؤلاء المهديون لا يضلون بالمتشابه من الكلام، وهذا هو المقصود، لأن موضوع الكلام الآيات المتشابهات وهي من الكلام المتشابه.
قوله "لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم" أي يجمعون بين المحكم والمتشابه فيردون المتشابه إلى المحكم، وهذا هو منشأ الهداية، ففي القرآن متشابه وفي السنة أحاديث متشابهة وفي كلام الناس متشابه، فإذا ورد عن إمام من الأئمة مثلاً عبارة توهم كذا أو تدل على كذا فالواجب رد هذا الكلام المشكل إلى أصوله وإلى ما عُرف به وكلامه الواضح، وأما المغرضون والجاهلون فإنهم يضلون بالمتشابه من الكلام.
ثم مثل الشيخ رحمه الله للكلام المتشابه من القرآن في الفقرة الآتية لأن أصل الحديث هو الآيات المتشابهات كما في آية آل عمران "وأخر متشابهات".
"وهذا كما أن لفظ "إنا و"نحن" وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكم بها الواحد العظيم، الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له. فإذا تمسك النصراني بقوله (($¯Rخ) نَحْنُ نَزَّلْنَا tچّ.دe%!$#"[الحجر: 9] ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله ((ِ/ن3كg"s9خ)ur إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ قOٹدmچ9$#"[البقرة: 163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً -يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغ الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم.(1/257)
وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمه إلا هو (($tBur يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ "[المدثر: 31]، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء. فقد علم أنه هو وأعوانه -مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك- أمروا به، وقد يُعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك.
والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة.
قوله "وهذا كما أن لفظ إنا ونحن..." الخ.
تقدم أن من معاني المتشابه أنه اللفظ المحتمل، والمحكم هو البين الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، فهذا منه، والله تعالى يذكر نفسه كثيراً بصيغة الجمع كما قال
....................................................................................(1/258)
سبحانه (($¯Rخ) فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا $YZ خ7oB"[الفتح: 1] وقال ((!$¯Rخ) أَرْسَلْنَا %·nqçR"[نوح: 1] وقال ((ك`ّtwUur أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ د‰ƒح'uqّ9$#"[ق: 16] وقال ((uن!$uK،،9$#ur بَنَيْنَاهَا 7‰&÷ƒr'خ/"[الذاريات: 47] وقال تعالى: ((ô‰s)s9ur نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا tbqن9qà)tƒ"[الحجر: 97] وغيرها من الآيات فهذه الصيغة في اللغة العربية تحتمل أكثر من معنى، وقد بينها الشيخ بقوله "يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون له لا شركاء له" أي يتكلم بها الواحد الذي له من أسباب العظمة من الصفات أو من العبيد والجنود ما يجعله يعبر عن نفسه بهذه الصيغة، وله صفات كل صفة تقوم مقام واحد، فإذا كان هناك شخص محدث فقيه شاعر كاتب، فإن عُدّ الفرسان فهو معهم، وإن عُدّ المحدثون فهو معهم، وإن عُد الفقهاء فهو معهم، وإن عد الشعراء فهو معهم، فكل صفة ألحقته بتلك الطائفة، فالإنسان يكون بالصفة المتعددة بمثابة الجماعة، وهذا يبين كيف جاءت اللغة بإطلاق هذا اللفظ على الواحد الذي له من أسباب العظمة ما له من المعاني القائمة به، أو من الأتباع والعبيد لا شركاء له.
فصيغة "إنا" و"نحن" وغيرهما محتملة، وقد جاءت هذه الصيغة في القرآن الكريم كما تقدم، وجاءت في مواضع يخبر الله بها عن بعض المخلوقات يتكلمون بها عن جماعة كما قال تعالى عن الرسل (((#qن9$s% لَا عِلْمَ لَنَا "[المائدة: 109]، إذن فهذه الصيغة من المتشابه.
قوله "فإذا تمسك النصراني بقوله "إنا نحن نزلنا الذكر" ونحوه على تعدد الآلهة...: أي أن النصراني يقول بتعدد الآلهة، فإنه يقول بالتثليث ويحتج على هذا بمثل هذه الصيغة المحتملة في حد ذاتها.
....................................................................................(1/259)
قوله "كان المحكم كقوله ((ِ/ن3كg"s9خ)ur إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ قOٹدmچ9$#"[البقرة: 163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه" أي أن المحكم الذي يزيل هذا الاشتباه ويبطل هذا الاستدلال النصوص المصرحة بالوحدانية لله تعالى في ألوهيته وربوبيته مثل ((ِ/ن3كg"s9خ)ur إِلَهٌ وَاحِدٌ "((ِ@è% هُوَ اللَّهُ î‰ymr&" [الإخلاص: 1] ((ûسح_¯Rخ) أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا 'خTô‰ç6ôم$$sù"[طه: 14] ((ھ!$# لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " [البقرة: 255] ((uqèdur الْوَاحِدُ مچ"£gs)ّ9$#"[الرعد: 16]، فهذا هو المحكم وقد تقدم في القاعدة الثالثة أن الله تعالى يذكر نفسه تارة بصيغة الإفراد كما في آية ص، وفي غيرها من المواضع، ويذكر نفسه بصيغة الجمع، وكل من الصيغتين تدل على معنى حق، فصيغة الإفراد تدل على الوحدانية لله تعالى فهو الواحد الأحد المتفرد في ألوهيته وربوبيته فلا شريك ولا شبيه، وصيغة الجمع تدل على أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وكثرة جنوده وعبيده، فكل من الصيغتين لها دلالة ثابتة للرب تعالى، فصيغة الإفراد تدل على ما هو ثابت له من التفرد فهو الإله الذي لا شبيه له والرب الذي لا شريك له، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا شبيه له، في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله، وصيغة الجمع تدل على عظمته، وهذا يتضمن أسماءه الحسنى وصفاته العلى وعلى ما له من العبيد والجنود لا يعلم عددهم ولا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى.
فآيات التوحيد -النص- تبطل استدلال النصراني الباطل، فيجب رد المتشابه إلى المحكم الذي يبين المراد به ويزيل الاشتباه والباطل الذي يتعلق به المبطل(1).
....................................................................................
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/234، 13/145، 276-278، 17/377-378.(1/260)
قوله "وأما حقيقة ما دل عليه ذلك... إلخ: تقدم أن صيغة الجمع في حق الله تعالى من نوع المتشابه، وهذا الاشتباه نسبي -أي لبعض الناس- فأما من هداه الله تعالى فإنه يجمع بينها وبين المحكم فيعرف المراد من هذا وهذا، وهذه الصيغة من نصوص الصفات لأنها إخبار من الله عنه نفسه، فلها تأويل نعلمه، وتأويل لا نعلمه، والتأويل الذي نعلمه هو التأويل بمعنى التفسير، والذي لا نعلمه هو ما تدل عليه هذه النصوص من حقائق أسماء الله تعالى في الواقع وكثرة الجنود، ونحن نعلم أن لله سبحانه جنوداً كثيرين، وعبيداً كثيرين، لكن لا نعلم مداهم ولا نحصيهم ولا نعلم قوتهم، فالملائكة مثلاً نعلم أنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ونعلم أنهم كثيرون، ولكن لا نتصور ولا ندرك مدى هذه الكثرة، ولا مدى طاعتهم وخضوعهم وعبوديتهم لله تعالى، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ثم وازن الشيخ رحمه الله بين ورود هذه الصيغة في حق الله، كما في الآيات المتقدمة، وصدورها عن بعض الخلق، -وبينها بلا شك فرق- بقوله "بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء فقد علم أنه هو وأعوانه مثلَ كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به" أي وإن كان ابتداء الأمر من قبل الملك فإن الكاتب والحاجب والخادم ونحوهم له تأثير في هذا الأمر ومشاركة فيه، حتى إن الشفاعة عند المخلوق تتضمن نوع شركة للشافع مع المشفوع عنده، وأما الشافع عند الله تعالى فلا ملك له، بل الشفاعة كلها لله تعالى، فلا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، ولكن الشافع عند الملك من البشر له مشاركة، لأن المشفوع عنده يمكن أن يشفِّع أو يستجيب لهذا الأمر المطلوب وإن كان كارهاً، لأنه
....................................................................................
يرجو هذا الشافع ويخافه، ففرق بين ورود هذه الصيغة في حق الله سبحانه وورودها في حق المخلوق.(1/261)
قوله "ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة" فكل هذا لا يعلمه العباد وإن علموا أصل المعنى وهو أن هذا الفعل صادر عن قدرته ومشيئته، ولكن لا نتصور كنه وحقيقة قدرته تعالى وحكمته، ونحن نعلم شيئاً من الحكمة في حدود ما بينه سبحانه وما هدانا إليه، ولكن لا نسبة لما علمنا إلى ما لا نعلم من ذلك.
وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد المعنيين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل ((!$pkژدù أَنْهَارٌ مِنْ >ن!$¨B"[محمد: 15] فهنا قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو -مع ما أعد الله لعباه الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو.
ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه -تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال الإمام أحمد في كتابه الذي صنفه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأويله على غير تأويله.
وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق التأويل، كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله تعالى به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
قوله "وبهذا يتبين أن التشابه" الخ.
قوله "وبهذا يتبين أن التشابه" أي التشابه في الكلام.(1/262)
قوله" يكون في الألفاظ المتواطئة": وهي ما اتحد لفظه وتعدد معناه، مثل العين للباصر والجارية وغيرها، والمشتري للنجم والمبتاع، وسهيل للنجم ولمن اسمه
....................................................................................
سهيل، وفي القرآن مثل "عسعس" فقد فسر بأقبل وبأدبر، والقرء فسر بالطهر والحيض.
قوله "وإن زال الاشتباه بما يميز أحد المعنيين من إضافة وتعريف": فلفظ "المشتري" مشترك لفظي، ولا يعرف المراد منه إلا بالإضافة أو التعريف، فإذا قال شخص: ذهبت إلى السوق فلقيت المشتري، أو نظرت إلى السماء فرأيت المشتري "فإنه حينئذ يزول الاشتباه لوجود القرينة،وكذلك اسم المتواطئ يحصل بالاشتباه فلفظ "الماء" يطلق على أنواع المياه، الملح والعذب وغيره، ويطلق على الماء الذي في الجنة، والذي في الدنيا، وكذلك اللبن والخمر والعسل والفاكهة واللحم، كلها أسماء لها مسميات في الدنيا ومسميات في الآخرة، فهذه ألفاظ متواطئة، لأنها اشتركت في اللفظ والمعنى الكلي العام، وهو القدر المشترك، وقد تقدم أنه بسبب وجود هذا القدر المشترك اشتبه على بعض الناس المقصود بهذه الأنواع -أنواع النعيم- فالجاهل قد يظن أنها مثل ما يعرفه في الدنيا، فهذا غلط لوجود الاشتباه الذي منشأه التواطئ، وقوله "من إضافة أو تعريف": "أل" تكون للعهد الذهني أو للعهد الذكري، فهي تزيل الاشتباه عند من قد عهد هذا المعنى، وسبق الكلام معه فيه، كما لو قلت: يجب التمسك بالكتاب" والمراد القرآن الكريم، مع أن كلمة "الكتاب" في اللغة تطلق على كل مكتوب، فحصل التمييز بالتعريف، وإذا قلت: يجب التمسك بكتاب الله" حصل التمييز بالإضافة.
قوله "كما إذا قيل" فيها أنهار من ماء" فهنا قد خص هذا الماء بالجنة": فكلمة "ماء" لفظ متواطئ، ولكنه غير مطلق، بل مضاف إلى الجنة، فعلم بهذه
....................................................................................(1/263)
الإضافة أن هذا الماء ليس كمائنا في الدنيا، وهكذا اللبن والعسل والخمر، وإن اتفقت في الاسم والمعنى العام الكلي.
قوله "لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا وهو -مع أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله": وهذا قد سبق غير مرة أن نصوص الوعد لها تأويل نعلمه ولها تأويل لا نعلمه، فتفسيرها معلوم لنا فنعلم أن هذه من أصناف النعيم، وأنها أشربة وأخرى مأكولات، وأخرى مساكن، ونعرف أنها أمور عظيمة معرفة إجمالية، ولكن لا نتصور حقائقها، فلا يعلم حقائقها إلا الله تعالى.
قوله "وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها التي هي حقيقته لا يعلمها إلا هو": وهذا هو المقصود وهو أن نتوصل إلى القول في أسماء الله تعالى وصفاته، فأسماؤه وصفاته مدلولها ومعناها معلوم لنا من وجه وهو المعنى المستفاد من دلالة اللغة والسياق والنصوص المبينة، فلفظ "السميع" و"البصير" ونحوها من حيث هي متواطئة، فالسميع يطلق على كل ذي سمع، والحي يطلق على كل ذي حياة وهكذا، فإذا أضيفت إلى الله دلت على ما يختص به تعالى كما سبق، وإذا أضيفت إلى المخلوق دلت على ما يختص بالمخلوق، ومدلول أسمائه تعالى وصفاته الذي هو حقيقة لذات الرب وصفاته ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو، فنصوص الأسماء والصفات لها تأويل نعلمه، فنعرف معنى ((¨bخ) اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا #Zژچإءt/"[النساء: 58] ومعنى ((ھ!$#ur عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يچƒد‰s%"[البقرة: 284] ومعنى ((tb%x.ur اللَّهُ عَزِيزًا $¸Jٹإ3ym"[الفتح: 7] ونفرق بينها، أما الحقيقة التي دلت عليها هذه الأسماء
....................................................................................
فذلك من التأويل الذي لا نعلمه، ويتبين مما سبق من أول القاعدة أن التأويل منه المحمود ومنهم المذموم، ومنه ما يعلمه العباد ومنه ما لا يعلمه العباد.(1/264)
قوله "ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله" أي ولما كان التأويل منه المحمود ومنهم المذموم لم يذم الأئمة كالإمام أحمد وغيره التأويل مطلقاً، وإنما ذموا تأويل القرآن أو السنة أي تفسيرهما على غير وجههما وهو التحريف.
قوله "وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه ...إلخ فثبت أن التأويل يختلف معناه كما تقدم في مطلع القاعدة، ويختلف حكمه، ويختلف علم العباد به، فمنه ما يعلمه العباد ومنه ما لا يعلمه إلا الله، ومنه ما يحمد ومنه ما يُذَم، والمحمود منه هو تأويل كلام الله حسب ما تدل عليه أصول الفهم والدلالات وهذا هو الواجب فإن الله أنزل القرآن ليتدبر، والمذموم هو تأويله على غيره تأويله.
قوله "وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع": أي قد بسطنا الكلام على معاني التأويل وما يحمد وما يذم وما يعلم وما لا يعلم في غير هذا الموضع ومن ذلك ما تقدم في مطلع القاعدة، والشيخ يعرض لهذا في مواضع كثيرة في كتبه المطولة لأنه يتعلق بالقضية الكبيرة التي قامت فيها الخصومة وهي قضية الأسماء والصفات، فإن الخصومة فيها قائمة بين أهل السنة والمعطلة وأهل التفويض.
ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله، مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره؛ ويحتجون بقوله (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ " ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل.
وهذا تناقض منهم لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقاً.(1/265)
وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو، وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع، الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل! ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه! فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعاً كان الثابت مثله.
قوله "ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله..." الخ.
أي ومن لم يعرف تعدد معاني التأويل واختلاف حكمه.
قوله "اضطربت أقواله": أي وقع في التناقض.
قوله "مثل طائفة يقولون...": هذه طائفة المفوضة وإن لم يسمها الشيخ فقد نعتها بمذهبها وطريقتها، والمقصود بالمفوضة هنا مفوضة نصوص الصفات، فإنه قد تسلك طوائف أخرى مسلك التفويض في غير نصوص الصفات، وهؤلاء ليسوا المعنيين هنا.
....................................................................................
وهذا الكلام يربط آخر القاعدة بأولها، فإننا في مطلع القاعدة عرفنا أن المقصود بهذه القاعدة الرد على أهل التفويض، والآيات الدالة على تدبر القرآن كله فيها رَدٌّ عليهم.
ومذهب أهل التفويض في صفات الله تعالى هو التعطيل في الجملة سواء كان كلياً أو جزئياً. ولهم اسم يصوِّر فساد منهجهم وهو اسم "أهل التجهيل" لأن مضمون قولهم تجهيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتجهيل الصحابة معاني كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
قوله "مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره" أي أنهم ينفون التأويل مطلقاً، وينكرون على أهل التأويل ويلتقون معهم في نفي الصفات، فهم يختلفون معهم في موقفهم من النصوص ويتفقون معهم في نفي الصفات.(1/266)
قوله "وهذا تناقض منهم": أي استدلال المفوضة بهذه الآية على نفي التأويل مطلقاً تناقض منهم، والتناقض يكون بالتفريق بين المتماثلات وبالجمع بين المختلفات، ثم بين الشيخ هذا التناقض بقوله "لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل مطلقاً" أي أن الآية أثبتت تأويلاً لا يعلمه إلا الله وهم ينفونه مطلقاً، وهذا هو الوجه الأول من وجهي فساد استدلالهم بالآية، والوجه الثاني هو أن التأويل الذي أرادوه هو التأويل في اصطلاحهم وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، وهذا التأويل قالوا: لا يعلمه إلا الله، وتفسير التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى باطل لأنه تفسير لكلام الله بمعنى اصطلاحي، ولا يجوز تفسير القرآن
....................................................................................
بالمعاني الاصطلاحية التي اصطلح عليها الناس، بل يجب تفسيره إما بالمعاني اللغوية لأنه نزل بلسان عربي مبين، أو بالمعاني الشرعية التي بينها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى ((!$uZّ9t"Rr&ur إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ ڑcrمچ©3xےtGtƒ" [النحل: 44].
فالتأويل في القرآن إما أن يراد به الحقيقة وهذا هو الغالب، وإما أن يراد به التفسير.(1/267)
قوله "وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين... إلخ: هذا كلام معترض، وقد تقدم في آخر الأصل الثاني، مثال ذلك: قوله تعالى ((ِNهk™:دtن† ے¼çmtRq™6دtن†ur"[المائدة: 54] و((¨bخ) اللَّهَ يُحِبُّ tûüة)GكJّ9$#"[التوبة: 4]، ظاهرها إثبات المحبة لله تعالى وهم يقولون: المحبة ميل الشي إلى ما يلائمه، وهذا المعنى لا يليق به سبحانه، لأنه تشبيه، ففي ظاهر هذه النصوص محذور، فيصرفون معنى النص إلى معان أخرى كأن يقولوا: المعنى: يريد الإنعام والإحسان إليهم فهم فروا من إثبات حقيقة المحبة وصرفوا اللفظ إلى الإرادة، فنقول: إنه يلزم في الإرادة نظير ما يلزم في المعنى المصروف عنه وهو المحبة، فإن كان المنفي وهو المحبة باطلاً ممتنعاً فالمثبت وهو الإرادة مثله، وإن كان المثبت وهو الإرادة حقاً ممكناً كان المنفي وهو المحبة مثله، فلا فرق بين المعنى المصروف عنه والمعنى المصروف إليه، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم وتناقض وتفريق بين المتماثلات.
قوله "بغير دليل يوجب ذلك": من هنا صار هذا التأويل باطلاً وصار تحريفاً، وقد يكون لدليل لكنه لا يوجب أي غير دال على المطلوب.
وهذا كله بيان لتناقض أهل التأويل.
وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً ويحتجون بقوله تعالى: (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا ھ!$#"[آل عمران: 7] قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له أو بما لا يفهم منه شيء.(1/268)
وهذا مع أنه باطل فهو متناقض، لأنا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه، لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلاً، ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإن تلك المعاني التي دلت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى، لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني، ولا يفهم منه معنى أصلاً، لم يكن مشعراً بما أريد به، فلأن لا يكون مشعراً بما لم يرد به أولى.
فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأول، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا فلابد أن يكون له تأويل يخالف ظاهره.
لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجرى على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين. وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا
....................................................................................
معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيساً، وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ، أي تجري على مجرد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً، لأن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهم منه معنى من المعني. وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب.
قوله "وهؤلاء الذين ينفون التأويل..." الخ.(1/269)
قوله "وهؤلاء" هذا عود إلى أهل التفويض، ولهذا قلت إن الكلام على تناقض أهل التأويل معترض.
قوله "قد يظنون": "قد" هنا للتحقيق وليست للتقليل.
قوله "قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد": أي له معنى ولكن لا يفهمه أحد.
قوله "أو بما لا معنى له": أي بألفاظ ليس لها معنى وإنما أُنزلت للتعبد بتلاوتها.
قوله "أو بما لا يفهم منه شيء" أي أن اللفظ وإن كان له معنى ولكن لا يفهم منه شيء.
قوله "وهذا مع أنه باطل فهو متناقض": أي أن هذا الظن وإن كان باطلاً في ذاته شرعاً فهو باطل عقلاً، ووجه بطلانه شرعاً النصوص الكثيرة الدالة على أن لآيات القرآن معنى مفهوماً، والدليل على هذا ما تقدم في مطلع القاعدة من الأمر بالتدبر، فالله أمر بتدبر القرآن وذم المعرضين عن تدبره، فهذا يدل على أن جميع آيات القرآن لها معاني يمكن فهمها والوصول إليها بالتدبر فما لا يفهم منه شيء
....................................................................................(1/270)
وما لا يفهمه أحد ليس لتدبره فائدة، وأيضاً وصف القرآن الكريم بأنه هدى في آيات، وأنه شفاء ونور، وأنه أحسن الحديث، كلها تدل على أن آيات القرآن لها معاني يمكن الوصول إليها، وتحصل بها الهداية، فما لا يفهم منه شيء لا يكون هدى ولا شفاءً لما في الصدور، ولا يكون أحسن الحديث. وأيضاً فهذا الظن يتضمن الطعن في حكمة الله تعالى، وفي حسن بيانه، والطعن في كلامه، ففيه تنقص لرب العالمين أن يخاطب عباده بما لا يفهم منه شيء، أو بما لا معنى له، فالحكيم ينزه عن أن يتكلم بما لا يفهمه أحد لأنه إما أن يكون عاجزاً عن البيان، أو يكون مريداً للإلغاز والتلبيس، مع هذا كله فهو متناقض، وقد بينه بقوله "لأنا إذا لم نفهم منه... إلخ: هذا الكلام إلى آخر القاعدة كلها لبيان تناقض أهل التفويض فيما ظنوه، وقبل أن نبين هذا التناقض يجب أن نفهم أن كلامهم -حسب ما تقدم- قد تضمن نفي التأويل مطلقاً، وتضمن إثبات التأويل وذلك في استدلالهم بقوله تعالى: (($tBur يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا ھ!$#" كما تقدم قريباً، والتأويل في اصطلاحهم هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، أو صرف اللفظ عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى غيره.
فالتأويل الذي يوافق الظاهر ليس تأويلاً عندهم، والتأويل الذي يخالف الظاهر تأويل عندهم.
وتضمن كلامهم أيضاً أن النصوص لا يفهمها أحد، فتضمن كلامهم هذه الجوانب.
....................................................................................(1/271)
وتضمن أيضاً إجراء النصوص على ظاهرها، وإذا نظرنا إلى مجموع هذه الأمور يتجلى التناقض، فما لا يفهم منه شيء لا ظاهر له، فكيف يقولون: يجب إجراء النصوص على ظاهرها؟!، وما لا يفهم منه شيء معلوم أنه لا ظاهر له، فلا يصح أن يقال: له تأويل يخالف الظاهر، فضلاً أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، بل ولا يصح أن يقال: له تأويل يوافق الظاهر، ضرورة أنه لا ظاهر له، وأيضاً فما لا يفهم منه شيء لا يصح أن يقال: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافق الظاهر، لأن ما لا يفهم منه شيء لا ظاهر له، ثم إن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهمه، فخلاصة القول أن ما لا يفهم منه شيء لا يجوز أن يتكلم عنه بشيء، فلا يقال: له تأويل يخالف الظاهر ولا تأويل يوافق الظاهر، ولا يقال: ليس له تأويل، لأن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهم معنى من المعاني.
وأيضاً من التناقض نفي التأويل وإثباته كما سبق، فإذا قالوا: له تأول يخالف الظاهر، وقالوا: ليس له تأويل يخالف الظاهر، فهو تناقض لأنه جمع بين النفي والإثبات، فإن أرادوا بالظاهر في الإثبات معنى، وفي النفي معنى من غير بيان كان تلبيساً وإن أرادوا به معنى واحداً كان إثباتهم للتأويل ونفيهم له تناقضاً، فإن توارد النفي والإثبات على شيء واحد كان تناقضاً، وإن توارد النفي والإثبات على شيئين فلابد من البيان ولا يفهم منه شيء لا يشعر بمعنى أبداً لا بمعنى يوافق الظاهر ولا يخالف الظاهر، ولا يشعر بإثبات ولا يشعر بنفي، ولا يشعر بما أريد به ولا بما لم يرد به.
....................................................................................
قوله "لأنا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز أن يقال: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه": أما ما يخالف الظاهر فإنه لا يجوز أولاً: لأنه لا ظاهر له على قولهم، وثانياً: أن المعنى الذي يوافق الظاهر ليس تأويلاً على حد اصطلاحهم.(1/272)
قوله "فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلاً": أي لا تكون دلالته على ذلك المعنى الصحيح الذي يوافق الظاهر لا تكون دلالة على خلاف الظاهر، فلا يكون تأويلاً لأن التأويل عندهم هو دلالة اللفظ على خلاف ظاهره.
قوله "على هذا التقدير" أي على تقدير أن اللفظ لا يفهم منه شيء. قوله "فلا يجوز أن يقال إن هذا اللفظ متأول": أي اللفظ الذي لا يفهم منه شيء لا يجوز أن يقال إنه متأول بمعنى أنه مصروف عن المعنى الراجح إلى معنى مرجوح.
قوله "فضلاً عن أن يقال: أن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله": لأن هذا التأويل لا وجود له ولا حقيقة له لأن ما لا يفهم منه شيء ليس له تأويل يخالف الظاهر، وما لا وجود له لا يجوز أن يقال إن الله يعلمه موجوداً.
قوله "كانوا متناقضين": لأنهم جمعوا بين النفي والإثبات.
قوله "وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا معنى": أي إن أرادوا بالظاهر في الإثبات معنى، وفي النفي معنى...
قوله "كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً" أي أن ما لا يفهم منه شيء لا يجوز نفي التأويل عنه ولا إثبات تأويل له.
وببيان تناقض أهل التفويض ختم الشيخ هذه القاعدة والله أعلم.
القاعدة السادسة
أن لقائل أن يقول: لابدّ في هذا الباب من ضابط يُعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات، إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز.
فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم، لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتهم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل، الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.(1/273)
ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.
قوله "القاعدة السادسة: أن لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابط..." الخ.
محور هذه القاعدة بيان الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله تعالى مما لا يجوز في باب الأسماء والصفات.
فمن اعتمد فيما ينفيه من الأسماء والصفات على مجرد نفي التشبيه فليس بصحيح، ومن اعتمد فيما يثبته من الأسماء والصفات على مطلق الإثبات من غير تشبيه، فليس بصحيح كذلك.
....................................................................................
وقد بدأ الشيخ في مناقشة هذين الضابطين الفاسدين، وأخر التنبيه إلى الضابط الصحيح إلى ما بعد.
ونستعجل هنا ذكر الضابط الصحيح في هذا الباب وهو أمران؛ أحدهما: عقلي، والآخر سمعي.
فأما السمعي: فهو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، نفياً وإثباتاً، فيثبت ما جاءت النصوص الشرعية بإثباته بلا تكييف ولا تمثيل، وينفي ما جاءت النصوص بنفيه بلا تعطيل، على حد قوله تعالى: ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "[الشورى: 11].
أما الضابط العقلي: فهو أن يوصف الله تعالى بكل كمال على وجه الكمال وأن ينزه عن كل نقص، فكل كمال اتصف به المخلوق لا نقص فيه، فالخالق أولى بالاتصاف به فهذا الضابط مما يوجبه العقل.
أما الضابطان اللذان أشار إليهما الشيخ هنا، فكلاهما غير سديد ولا مفيد.
فالنافي لأسماء الله وصفاته إن اعتمد في نفيه على مجرد نفي التشبيه، أي: أنه يزعم أن إثباته تشبيه، فيقال له:
إن أردت أن إثبات الصفات لله تعالى يلزم منه تشابه الخالق والمخلوق من جميع الوجوه، أي: التمثيل، فهذا ليس بصحيح بل هو باطل، ولم يقل بذلك أحد.(1/274)
وإن أردت بالتشبيه المشابهة من وجه دون وجه أو المشاركة في الاسم، فإن هذا المعنى لا يصح نفيه، وليس من التشبيه المنفي عن الله تعالى، بل إن هذا المعنى لازم
....................................................................................
لهذا النافي فيما يثبته، ولو لم يثبت إلا صفة الوجود، فيقال له: إنه يلزم إثبات قدر مشترك بين وجود الخالق ووجود المخلوق وهو مطلق الوجود.
والتشبيه والتمثيل الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه هو مشاركة المخلوق للخالق فيما يختص به، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فهذا هو الممتنع بضرورة العقل، ولا يلزم من نفي هذا المعنى نفي المشابهة من بعض الوجوه، لأنه ما من شيئين إلا وبينهما تشابه من وجه.
ومن اعتقد أن التشابه من بعض الوجوه يلزم منه التماثل، فإنه يلزم على هذا أن يقول: إن السواد مثل البياض، والماء مثل النار، والطعام مثل التراب. فالحق أن المشابهة والاتفاق في بعض الوجوه لا يلزم منه التماثل.
فالاعتماد في النفي والتنزيه على مجرد نفي التشبيه ليس بسديد، لأنه يلزم منه ما التزمه المعطلة من نفي الصفات بحجة أن إثباتها يلزم منه التشبيه الذي هو الاتفاق من بعض الوجوه. ومعلوم أن هذا المعنى ليس هو التشبيه المنهي عنه. ولهذا وجب الاستفصال عن ا لمراد بلفظ التشبيه كما سبق.
ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبِّه. ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه.
وقد يفرَّق بين لفظ التشبيه والتمثيل، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبِّه ممثِّل، فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهاً ممثلاً، لأن القِدم عند جمهورهم هو أخص وصف الإِله، فمن أثبت لله صفة قديمة فقد أثبت له مثلاً قديماً، فيسمونه مِثْلاً بهذا الاعتبار.(1/275)
قوله "ولكن من الناس من يجعل التشبيه..." الخ.
أي: من الناس من يجعل للتشبيه معنى يصطلح على إطلاقه عليه، ويجعل من أثبت ذلك المعنى الذي فسر به التشبيه مشبهاً، كما يجعل المعتزلة إثبات الصفات لله تعالى تشبيهاً، والمثبت لها مشبهاً.
وقول الشيخ:
"وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل..." يشير فيه إلى التفريق بين اللفظين وذلك من جهتين(1):
الأولى: أن التمثيل أخص من التشبيه، فالتمثيل يراد به مطابقة الشيء للشيء في الأمر الذي ماثله فيه ومساواته، أما التشبيه فإنه أعم من التمثيل لأن من التشبيه المشابهة من بعض الوجوه دون بعض.
....................................................................................
الجهة الثانية: أن النصوص وردت بنفي المماثلة ولفظ التمثيل كما قال تعالى: ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى: 11] وقال تعالى:((ںxsù تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ " [النحل: 74] ولم يرد في شيء من النصوص نفي المشابهة. وإن كان في الاستعمال الدارج عدم التفريق بينهما فيقال هذا تشبيه وتمثيل.
ويذكر الشيخ شبهة للمعتزلة في نفيهم الصفات وجعلهم من أثبتها ممثلاً، ذلك أنه لما كان "القِدَم" عند جمهوهم أخص وصف للإله فمن أثبت لله تعالى صفة قديمة كالعلم والقدرة جعلوه مشبهاً ممثلاً؛ لأن هذا الإثبات -على زعمهم- يستلزم تعدد القدماء، المستلزم تعدد النظراء والأمثال والأشباه، أي: تعدد الآلهة، فكلامهم مبني على مقدمتين: الأولى: أن القدم أخص أوصاف الإله، والثانية: أن إثبات الصفات القديمة يلزم عليه إثبات مثل لله في أخص أوصافه وهو القدم، فيلزم عليه -عندهم- تعدد القدماء وتعدد الآلهة.
__________
(1) الجواب الصحيح 2/239-240، الحاوي للفتاوى للسيوطي 2/273.(1/276)
ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك.
قوله "ومثبتة الصفات لا يوافقونهم..." الخ.
أي: أن مثبتة الصفات سواء من أهل السنة والجماعة، أو من مثبتة الصفات في الجملة كالأشاعرة والكلابية، يخالفون المعتزلة في زعمهم أن القدم أخص أوصاف الإله، فإن القدم يمكن أن يطلق على صفات الله تعالى فيقال: صفات الله تعالى قديمة، بل حتى المخلوق فإنه يوصف بالقدم النسبي الذي هو التقدم على الغير، وإن لم يكن تقدمة مطلقاً كما سبق بيانه.
أما أخص أوصاف الله تعالى فهو ما لا يتصف به غيره، مثل: أنه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد. فمثل هذه الأوصاف لا يجوز أن تطلق على غيره تعالى بل ولا على صفاته. فلا يطلق على شيء من صفاته بأنها رب العالمين ونحو ذلك مما لا يتصف به غير الله تعالى(1).
فمن الصفات ما لا يوصف به إلا الرب تعالى، ومن الصفات ما يمكن أن تطلق على الرب تعالى، كما يمكن أن تطلق على صفاته.
ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم؛ ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان؛ ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القِدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقِدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أن النبي محدَث وصفاته محدَثة، وليست صفاته نبياً.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/138-140.(1/277)
فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية.
والقرآن قد نفى مسمَّى المثل والكفء والند ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمَّى التشبيه في اصطلاح المعتزلة.
قوله "ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول..." الخ.
يقصد الشيخ بالصفاتية هنا من يثبت الصفات في الجملة من أهل الكلام؛ كالكلابية والأشاعرة.
....................................................................................
وقد ذكر الشيخ أن هؤلاء الصفاتية لهم في إطلاق لفظ القدم على صفات الله تعالى مذاهب(1):
1- فمنهم من لا يقول: إن صفات الله قديمة، بل يقول: الله بصفاته قديم. فهذا الصنف يجد حرجاً من وصف الصفة بالقدم على انفراد، كأنه يشعر بأن إطلاق القدم على الصفة وحدها يشعر بوجود مستقل للصفة عن الموصوف، ثم يقول: الله بصفاته قديم، فيلزم من ذلك أن صفاته تعالى قديمة.
فهذا الصنف لا يرى إطلاق القدم على صفات الله تعالى إلا تبعاً.
2- ومنهم من يقول: الله قديم، وصفاته قديمة، ولا يرى حرجاً في ذلك، ولكنه لا يقول: الله وصفاته قديمان، لأن التثنية تشعر باستقلال الصفة عن الموصوف، ولأن هذا التعبير صريح بالاثنينية، ويشعر بالاستقلالية المتضمنة لتعدد القدماء، الأمر الذي خاف منه المعتزلة.
فالمسألة هنا لفظية.
__________
(1) الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ص 91 ضمن عقائد السلف، درء التعارض 5/46-50.(1/278)
3- والمذهب الثالث في ذلك أوسع، وهو من لا يرى حرجاً في إطلاق القول بأن الله تعالى قديم وصفاته قديمة، والله وصفاته قديمان، ولا يقتضي ذلك أن الذات المجردة عن الصفات موصوفة بالقدم، لأن الذات المجردة لا وجود لها، فضلاً عن أن توصف بالقدم، أو أن تختص بالقدم.
فإذا قلنا: الله قديم، أي: الله تعالى الموصوف بالصفات، وإذا قلنا: صفات الله تعالى قديمة، أي: الصفات القائمة بالذات، وليس معنى ذلك أن الصفات قائمة بغير الموصوف.
....................................................................................
والقول بأن صفات الله تعالى كلها قديمة فيه نظر؛ لأن صفات الله تعالى منها الذاتية، ومنها الفعلية.
أما الصفات الذاتية فإنها قديمة لأنها لازمة لذات الرب تعالى.
وأما الصفات الفعلية فلا يصح وصفها بالقدم مطلقاً لأنها تابعة لمشيئة الله عز وجل، وما كان تابعاً لمشيئة الله تعالى فلا يكون قديماً. نعم يقال في جنس الفعل: إنه قديم النوع ولكنه حادث الآحاد، وكذلك الكلام.
فيقال: إنه تعالى لم يزل فعالاً لما يريد، ولم يزل متكلماً إذا شاء، وأما آحاد الكلام والأفعال فهي حادثة بمشيئة الله.
ثم إن الصفة وإن وصفت بالقدم فإن ذلك لا يقتضي مشاركتها في شيء من خصائص الله تعالى، فالقدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بالصفات. فلا يلزم من ذلك أن تكون إلهاً فصفة الإله ليست إلهاً، فإن الصفة لا توصف بكل ما يوصف به الموصوف، فلا توصف بما يختص به الرب تعالى.
ومثال ذلك أن النبي حادث وصفاته حادثة، وليست صفة النبي نبياً، والإنسان حادث وصفاته حادثة وليست صفة الإنسان إنسان، فالإنسان اسم للموصوف وليس اسماً للصفة، وليس كل ما يطلق على الموصوف يصح إطلاقه على الصفة.
وقوله: "فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية"، الإشارة بقوله: فهؤلاء، إلى المعتزلة، والمراد بالصفاتية هنا خصومهم من الأشاعرة ونحوهم، فإذا أطلق المعتزلة(1/279)
....................................................................................
على الأشاعرة المثبتة للصفات في الجملة اسم التشبيه والتمثيل، كان هذا بحسب اعتقاد المعتزلة في أن إثبات الصفات أو شيء منها يلزم من التشبيه أو التمثيل، بناء على أصلهم أن القدم أخص أوصاف الرب تعالى، وهذا المعنى ينازعهم فيه خصومهم من الأشاعرة ونحوهم من الصفاتية كما تقدم.
ومن دلائل أن وصف الصفة بالقدم لا يستلزم المماثلة، وإثبات الصفات لا يستلزم إثبات النظراء: أن الصفة في اللغة العربية لا تعد مثلاً ولا نداً للموصوف. والله تعالى إنما نفى عن نفسه المثل والند و الكفء والسمي، فلا يدخل في ذلك نفي الصفة، لأن الصفة ليست مثلاً ولا نداً للموصوف في اللغة العربية، فلا تدخل في النص أصلاً.
ومن المعلوم أن نفاة الصفات يستدلون على نفيهم للصفات بمثل قوله تعالى: ((ِNs9ur يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&"[الإخلاص: 4] وقوله: ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $wٹدJy™"[مريم: 65] وقوله تعالى: ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ ضنï†x""[الشورى: 11] لقولهم إن إثبات الصفات يستلزم إثبات نظراء وأمثال لله تعالى.
فيقال لهم: إن الصفة ليست مثلاً ولا نداً للموصوف في اللغة العربية، وعلى هذا فلا يدخل إثبات الصفات في الأمثال والأنداد المنفية عن الله تعالى في مثل هذه النصوص.
ثم يقال للمعتزلة الذين يجعلون إثبات شيء من الصفات تشبيهاً: إن هذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، فليس من العقل ما ينفي مسمى التشبيه في اصطلاح المعتزلة الذي هو إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به، وليس من الشرع ما ينفي ذلك أيضاً، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية.
وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيّز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه.(1/280)
وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه.
فلهذا تجد هؤلاء يسمُّون من أثبت العلو ونحوه مشبِّهاً، ولا يسمُّون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبِّهاً، كما يقوله صاحب الإرشاد(1) وأمثاله.
قوله "وكذلك أيضاً يقولون ..." الخ.
يذكر الشيخ هنا شبهة لنفاة الصفات المعتزلة مركبة من مقدمتين:
الأولى: الصفات لا تقوم إلا بجسم.
الثانية: الأجسام متماثلة.
فالنتيجة: أن الله لا تقوم به الصفات؛ لأنها لو قامت به لكان مماثلاً لسائر الأجسام.
فنفوا الصفات حذراً من التمثيل.
ثم يبين الشيخ أن هذه الشبهة قال بها كثير من الصفاتية من الأشاعرة ونحوهم، فأخذوا بالمقدمة الثانية من هذه الشبهة وهي تماثل الأجسام، ولم يسلموا
....................................................................................
__________
(1) هو: الإرشاد إلى قواعد الأدلة في أصول الاعتقاد لأبي المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني.(1/281)
بالمقدمة الأولى وهي أن الصفات لا تقوم إلا بجسم، بل قالوا إن الصفات قد تقوم بما ليس بجسم(1) كما تقوم بالجسم، يعني أن الصفات لا تنافي التجسيم كما لا تستلزم التجسيم. ولكنهم وقعوا في التناقض، حيث زعموا أن إثبات بعض الصفات لا يستلزم التجسيم، وإثبات بعضها الآخر يستلزم التجسيم، فما يثبتونه من الصفات كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر لا يستلزم التجسيم، وما لا يثبتونه من الصفات كالعلو والاستواء والغضب والنزول يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة، فيلزم من ذلك التشبيه، فيجب نفيها عن الله تعالى بزعمهم. وهذا التفريق منهم تحكم وتناقض لأنه تفريق بين المتماثلات، وليس عليه دليل سمعي لا عقلي.
والحق أن ضابطهم في ذلك -الذي أدى بهم إلى التناقض- أن ما دلتهم عقولهم على إثباته لا يستلزم الجسمية، وما لم تدلهم عقولهم على إثباته أو دلتهم على نفيه نفوه وزعموا أن إثباته يستلزم الجسمية ولو جاءت به النصوص الشرعية.
وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات. والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق.
قوله "وكذلك قد يوافقهم على القول..." الخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/436.(1/282)
يقول الشيخ: إن القاضي أبا يعلى الحنبلي وأمثاله يثبت العلو وسائر الصفات، ولكنه يجعل العلو صفة خبرية -كما في أول قولي القاضي أبي يعلى(1)- فيكون الكلام في هذه الصفة كالكلام في صفة الوجه، أي: أنها من قبيل الصفات الخبرية السمعية التي لم يدل عليها العقل. وإنما تثبت لورود السمع بها فحسب، كما أنه قد يوافق من تقدم ذكرهم ممن يقول بتماثل الأجسام، فكأنه يقول: إن هذه الصفات تثبت لورود الخبر بها وإن استلزمت الجسمية، وأنها لا تنافي الجسمية.
وجعل القاضي صفة العلو صفة خبرية -يعني: سمعية فقط- ليس بصحيح، والصواب أن العلو صفة خبرية عقلية، أي دل على إثباتها السمع والعقل، بخلاف الوجه واليدين والاستواء ونحوها فإنها صفات خبرية محضة.
وظاهر كلام المؤلف أن أول قولي القاضي أبي يعلى جعل العلو صفة خبرية وأن قوله الآخر جعله صفة عقلية.
وإذا تأمل العاقل ما أثبتوه وما نفوه لم يجد فرقاً، فإذا كان ما نفوه يستلزم التشبيه فما أثبتوه كذلك، وإذا كان ما أثبتوه لا يستلزم التشبيه فما نفوه كذلك.
وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة. والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كلتا المقدمتين، وتارة بالاستفصال.
ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولى والصورة، ونحو ذلك. فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يُبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة. وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك.
قوله "وأصل كلام هؤلاء كلهم ..." الخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/360-361.(1/283)
يشير الشيخ إلى أن أصل كلام من تقدم ذكرهم من الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، فالمعتزلة يقولون هذا بإطلاق، والأشاعرة ونحوهم ممن يثبت بعض الصفات يقولون هذا فيما ينفونه من الصفات.
ثم يبين الشيخ أن مثبتة الصفات كلها يردون على شبهة من نفى الصفات أو بعضها المبنية على مقدمتين: إحداهما أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والثانية أن الأجسام متماثلة(1).
ويردون عليهم بأحد ردود أربعة:
إما بمنع المقدمة الأولى.
وإما بمنع المقدمة الثانية.
....................................................................................
وإما بمنع كلتا المقدمتين.
وإما بالاستفصال.
فهم تارة يمنعون المقدمة الأولى فيقولون: لا نسلم أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، فالصفات قد تقوم بما ليس بجسيم. كما تقول: علم واسع، خلق عظيم، ليل طويل.
وتارة يمنعون المقدمة الثانية فيقولون: لا نسلم بتماثل الأجسام، فالتراب جسم والطعام جسم، وليسا متماثلين، وكذا الماء والنار، والحجر والحيوان ونحو ذلك.
فالأجسام مختلفة متباينة متغايرة.
وتارة يمنعون المقدمتين.
وتارة بالاستفصال عن المراد بمعنى الجسم ومعنى التماثل.
أما لفظ الجسم فتقدم الكلام عليه وبيان أنه لم يرد بنفيه ولا إثباته نص في الكتاب ولا في السنة كما سبق في القاعدة الثانية، كما تقدم أيضاً شيء من معاني الجسم التي يفسر بها، فقد يفسر بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، كما قد يفسر بالمركب من الهيولى والصورة ونحو ذلك.
كما يستفصل عن المراد بالتماثل، فإن أريد به الاتفاق من بعض الوجوه، فهذا المعنى لا يصح نفيه لأنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما اتفاق من وجه.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/418-437، درء التعارض 1/115-121، منهاج السنة 2/165.(1/284)
وإن أريد بالتماثل أنه التماثل من كل وجه بحيث يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، فهذا المعنى باطل، فلا مماثلة بين الخالق والمخلوق في ذلك ولا في شيء مما يختص به سبحانه وتعالى.
....................................................................................
بل إن هذا المعنى لا يصح حتى في عموم الموجودات، فليس وجود الشيء مماثلاً لوجود سائر الموجودات، فالقول بتماثل الأجسام قول باطل على أي معنى فسر به الجسم.
وأشار الشيخ في معرض ذكره لمعاني الجسم إلى فساد ما فسروا به الجسم من أنه المركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فبين أن هذا التفسير مبني على أمرين فاسدين مخالفين لقول جمهور العقلاء.
أما الأمر الأول وهو القول بوجود الجوهر الفرد الذي فسروه بالجزء الذي لا يتجزأ فهذا باطل؛ لأن الجزء ينتهي بالتجزؤ إلى الاستحالة.
وأما الأمر الثاني، فهو الزعم بأن الجواهر متماثلة، فهذا باطل على فرض التسليم بوجود الجوهر الفرد، فإن ذرات وجزئيات التراب ليست كجزئيات الذهب، وهذه ليست كذرات الماء، وهكذا، فلا يصح القول بتماثل تلك الجزئيات.
والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة لـ "النَصب" على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناء على أن من أحبهما فقد أبغض علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي؛ وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى.
ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه. وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبيّنا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبيّنا فساد قول من يقول بتماثلها.
قوله "والمقصود أنهم يطلقون التشبيه..." الخ.(1/285)
يبين الشيخ هنا أن هؤلاء النفاة يطلقون التشبيه على ما يستلزم التجسيم في اعتقادهم من إثبات الصفات بناء على قولهم بتماثل الأجسام.
ومثبتة الصفات ينازعونهم في المقدمتين كما سبق تقريره.
ويضرب الشيخ لذلك مثلاً بإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بناء على أن من أحبهما فقد أبغض علياً، ومن أبغض علياً فهو ناصبي، وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى: وهي أن من تولى أبا بكر وعمر فقد أبغض علياً، فإنه يمكن أن يحبهما ويحب علياً كذلك.
فكذلك هؤلاء النفاة أطلقوا اسم التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على قولهم بتماثل الأجسام، والمثبتة ينازعونهم في المقدمتين.
....................................................................................
وهؤلاء النفاة يقولون: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه.
والحق أنه ما من شيئين موجودين إلا ويتفقان من وجه ويختلفان من وجه، فهذا أصل عام متفق عليه عند أكثر العقلاء.
وأيضاً، فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتماد باطل، وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى التشبيه، لكن نفي الجسم يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه، بأن يقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه. لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
قوله "وأيضاً فالاعتماد بهذا الطريق..."الخ.(1/286)
هذه مناقشة من الشيخ لمنهج الاستدلال عند النفاة على نفيهم الصفات، فهو يقول إنه ما دام من المتقرر عندكم نفي التجسيم بناء على أن الأجسام متماثلة، فيكفي أن تنفوا الصفات لاستلزامها التجسيم في زعمكم ولا حاجة إلى أن تنفوا الصفات لاستلزامها التشبيه والأجسام متماثلة، فهذا تطويل لا حاجه له.
وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد، إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة.
وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال، ونفى مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه. وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات.
قوله "وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد ..." الخ.
هذه الجملة فيها عود على ما بدأ الشيخ الكلام فيه في أول القاعدة من أن الاعتماد في تنزيه الله تعالى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد، أي: أنه غير سديد، لأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه.
بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب وإثبات الكمال، فهذا هو الضابط العقلي في تنزيه الله تعالى.
وكذلك في الإثبات فإنه يثبت له تعالى صفات الكمال على وجه لا يماثله فيه أحد، وينفى مماثلة غيره له فيها، والمماثلة المنفية هنا هي المماثلة فيما يختص به الرب تعالى.
فإن قيل : إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه.(1/287)
قيل: هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعاً؛ كما إذا قيل: إنه موجود حي عليم سميع بصير، وقد سمى بعض المخلوقات حياً عليماً سميعاً بصيراً، فإذا قيل: يلزم أن يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجوداً حياً عليماً سميعاً بصيراً. قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على الرب تعالى؛ فإن ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً مما ينافي صفات الربوبية.
وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود، أو الحياة أو الحي، أو العلم أو العليم، أو السمع والبصر أو السميع والبصير، أو القدرة أو القدير، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به أحدهما يمتنع اشتراكهما فيه.
فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال: كالوجود والحياة والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فكل موجودَين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود.
قوله "فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه..." الخ.
....................................................................................
تقدم أنه لابد من إثبات قدر مشترك بين ما يضاف للخالق وما يضاف للمخلوق، وهذا القدر المشترك هو مسمى الاسم المطلق.
وبناء على هذا يأتي هذا السؤال الذي ذكره الشيخ هنا، وهو أن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له من هذا الوجه، وامتنع عليه ما امتنع عليه من هذا الوجه.(1/288)
ومعنى ذلك أنه إذا كان بين صفة الخالق وصفة المخلوق قدر مشترك، جاز على الخالق ما يجوز على المخلوق من هذا الوجه الذي هو القدر المشترك ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه. أي: أن ما يستلزمه القدر المشترك يلزم أن يثبت للخالق والمخلوق من هذا الوجه، لأن لازم القدر المشترك مشترك. فهذا يقتضي إذن نفي القدر المشترك لاستلزامه أن يثبت للمخلوق ما ثبت للخالق من هذا الوجه جوازاً ووجوباً وامتناعاً.
والجواب أن هذا القدر المشترك إذا كان لا يستلزم محذوراً من نفي ما يجب إثباته، أو إثبات ما يجب نفيه عن الله تعالى، فلا مانع منه، وإن استلزم ما ذكر من الجواز والوجوب والامتناع من هذا الوجه يعني باعتبار القدر المشترك، ما دام أنه لا يستلزم محذوراً، فهو لا يستلزم وصف الخالق بخصائص المخلوق كالإمكان والحدوث، ولا وصف المخلوق بخصائص الخالق، كالوجوب والقدم المطلق.
ويمكن أن يوضح هذا المعنى بالتطبيق على لفظ الموجود، والوجود، والحي، والحياة، فالموجود هو الموصوف، والوجود هو الصفة، والحي هو الموصوف، والحياة هي الصفة.
....................................................................................
فتقول: الله موجود والمخلوق موجود، فلفظ موجود في الجملتين بينهما قدر مشترك: فهما يتفقان في مطلق الـ "موجود"، ووجود الخالق ووجود المخلوق بينهما قدر مشترك فهما يتفقان في مطلق الوجود.
وإذا قلنا: الله حي والمخلوق حي، فلفظ حي في العبارتين بينهما قدر مشترك: فهما يتفقان في مطلق الـ "حي"، كما أن حياة الخالق وحياة المخلوق بينهما قدر مشترك: فهما يتفقان في مطلق الحياة. ومطلق الحياة هو الاسم العام، ومدلوله هو القدر المشترك.
وإذا نظرنا في مطلق الحياة رأينا هذا المعنى الكلي لا يستلزم حدوثاً ولا وجوباً، فلا يستلزم شيئاً من خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، لأنه لو استلزم شيئاً من ذلك لم يكن مشتركاً.(1/289)
فالحي -مثلاً- من ليس بميت، وهذا المعنى مدرك بالعقل، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق، فيفهم من وصف الخالق تعالى بالحياة هذا المعنى، كما يفهم من وصف المخلوق الحي بالحياة هذا المعنى حال حياته. والحياة معنى وصفة كمال، فالحي أكمل ممن ليس بحي، فهذا اللازم ثابت في حق الخالق والمخلوق، وهذا المعنى لازم للقدر المشترك.
فالقدر المشترك ثابت ومشترك في حق الخالق والمخلوق، ولازم القدر المشترك أيضاً ثابت في حق الخالق والمخلوق، ومشترك، ولا محذور في إثباته، ولازم صفة الخالق مختص بالخالق، ولازم صفة المخلوق مختص بالمخلوق، فحياة الخالق تستلزم القدم، ولازم حياة المخلوق يستلزم الحدوث، ومطلق الحياة لا تستلزم حدوثاً ولا قدماً.
....................................................................................
وهذا الكلام يقال في سائر ما ذكره الشيخ من أمثلة في أسماء الله تعالى وصفاته.
فإذا كان القدر المشترك صفة كمال لا محذور فيه ولا يستلزم شيئاً من خصائص الخالق ولا المخلوق، لم يكن في إثبات هذا القدر المشترك محذور أصلاً.
بل إن إثبات هذا القدر المشترك ضروري لما تقرر من أنه ما من موجودين إلا وبينهما اتفاق من وجه واختلاف من وجه. ونفي هذا القدر المشترك يلزم منه التعطيل العام.
فإذا قيل مثلاً ليس بين وجود الخالق ووجود المخلوق قدر مشترك في مسمى الوجود لزم من ذلك إنكار وجود الرب تعالى، وهكذا في سائر الصفات، بل تعطيل وجود كل موجود.
ولهذا لما اطَّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة، وكان جهم ينكر أن يسمّى الله شيئاً، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام.
قوله "ولهذا لما اطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية..." الخ.(1/290)
أي: لما اطلع الأئمة على أن حقيقة قول الجهمية هو تعطيل وجود الخالق تعالى سموهم معطلة، فنفي أسماء الله تعالى وصفاته يستلزم غاية التعطيل.
ويذكر الشيخ أن جهما ينكر أن يسمى الله شيئاً(1)، ومعنى هذا عنده أن الله ليس بشيء، وهذا القول ظاهر البطلان.
والحق أنه يصح أن يخبر عن الله تعالى بأنه شيء، بل هو أكبر كل شيء، كما قال تعالى ((ِ@è% أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ " الآية[الأنعام: 19].
ولكن هذا الإطلاق من باب الخبر، لا من باب التسمية والثناء والدعاء، كما يطلق عليه بأنه موجود من باب الخبر أيضاً، ولكن لا يدعا بذلك، فلا يقال يا شيء أو يا موجود ونحو ذلك.
فباب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات.
وربما قالت الجهمية: إنه شيء لا كالأشياء، فقولهم: إنه شيء صحيح وقولهم إنه لا كالأشياء يدخلون فيه نفي الصفات، فمعنى كلامهم: إنه لا تقوم به أي صفة، فقولهم هذا حقيقته التعطيل والنفي المحض لأنهم ينفون القدر المشترك، ولازم ذلك التعطيل التام.
والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، تجب له لوازمها؛ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلاً، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه.
__________
(1) مقالات الإسلاميين 1/338.(1/291)
وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً، وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام، وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيَّناً مقيَّداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميّز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله.
قوله "والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه..."الخ.
المعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى يعني صفاته وحياته وعلمه وقدرته، بل حتى الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، تجب له لوازمها، وليس من لوازمها ما يختص به المخلوق كالإمكان والحدوث والنقص، فهذه من لوازم صفات المخلوق، وليست من لوازم صفات الخالق، بل ولا من لوازم القدر المشترك، والقدر المشترك هو مسمى الاسم العام المطلق، وهذا لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد في الذهن فقط.
....................................................................................
ومعنى كون الموجودات تشترك في هذا، أن هذا الاسم يطلق على هذا وعلى هذا، وأن معنى هذا الاسم ثابت لهذا ولهذا، لكن في حق كل واحد على ما يناسبه.
فالحيّ مطلقاً اسم لذي الحياة، بقطع النظر عن كون الحياة واجبة أو ممكنة، فمسمى هذا الاسم المطلق لا وجود له في الخارج لكنه يسمى به الخالق والمخلوق، فيطلق على الخلق على ما يناسبه ويختص به، كما يطلق على المخلوق بما يناسبه ويختص به، فليس بين الحي والحي اشتراك في أمر خارجي، بل حياة الخالق مختصة به لا يشركه فيها غيره، وحياة المخلوق مختصة به.(1/292)
كما سبق في تطبيق ذلك على لفظ "إنسان" الذي يصدق على كل واحد منا، هذا هو مسمى الاسم المطلق، وهذا المعنى المشترك إنما هو في الذهن، أما في الخارج فلا يوجد إلا معيناً مقيداً، فلا اشتراك فيما يخص كل واحد من معنى ووصف، فإذا مات شخص مثلاً فلا يلزم أن يموت الآخر، وإذا كفر شخص فلا يلزم أن يكون الآخر كذلك.
أما لوازم الإنسانية المطلقة أي: القدر المشترك فهي مشتركة بين كل الناس كاستلزام الإنسانية للإمكان والحدوث والافتقار والحيوانية والآدمية.
والمعاني التي يوصف بها الرب تعالى مما يصح إضافتها إلى الله تعالى تجب له لوازمها من العلم والقدرة والوجود والثبوت والحقيقة وغير ذلك، وليس من لوازم ما يوصف به الرب خصائص المخلوق، فالله تعالى منزه عن خصائص المخلوق كالإمكان والحدوث والنقص ونحو ذلك، كما أنه تعالى منزه عن ملزومات
....................................................................................
خصائص المخلوقين، والملزوم ما يستلزم غيره، فالله تعالى منزه عن النقص وعما يستلزم النقص، وانتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، فإذا كان الله تعالى منزها عن الافتقار فهو منزه عنه وعن ملزومه، أي عما يستلزم الافتقار. وهكذا بقية خصائص المخلوقين.
ثم أعاد الشيخ ما سبق أن ذكره وبينه من معنى القدر المشترك، وأنه لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً، كما سبق تطبيقه في لفظ الإنسان وغيره، فكل اسم من هذه الأسماء المطلقة والمعاني الكلية هو مشترك في الذهن والتصور، أما في الخارج فلا يوجد مشتركاً، وإنما يوجد معيناً في أفراد، ومعنى كونه مشتركاً أي: يصح إطلاق هذا الاسم العام على كل فرد منها، فهي مشتركة في مدلوله العام، فالمعنى العام لهذا الاسم يطلق على هذا وهذا، أي: على جميع أفراده في الخارج.
وليس معنى الاشتراك أن الموجودات في الخارج تشترك في شيء وأمر موجود في هذا وهذا.(1/293)
بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله المختصة به(1).
ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات، حذراً من ملزومات التشبيه؛ وتارة يتفطن أنه لابد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة.
ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ما هيته وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطئ، أو التشكيك، كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها؛ وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟، وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟
وقد كثر من أئمة النُظَّار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتَّحيُّر، وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة، ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة.
قوله "ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس..." الخ.
يذكر الشيخ أنه لما تقرر إثبات القدر المشترك، وأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتركان من وجه ويختلفان من وجه، ولما تقرر أيضاً أنه لابد من نفي التشبيه الباطل، لما كان الأمر كذلك، وقع كثير من الناس في التناقض والاضطراب، فتارة ينفون القدر المشترك على اعتقاد أنه من التشبيه الذي يجب نفيه، وتارة يرون أنه
....................................................................................
__________
(1) درء التعارض 5/112-120.(1/294)
لابد منه فيثبتونه ويجيبون به من نازعهم فيما أثبتوه، وهذا يصدق في حق من أثبت بعض الصفات ونفى بعضاً، فإنه لابد أن يثبت قدراً مشتركاً فيما أثبت، مع كونه ينفي هذا القدر المشترك فيما ينفيه من الصفات، فيقع في التناقض في المذهب وفي الشبهة.
وفي أثناء ذكر ذلك يستطرد الشيخ فيذكر بعض القضايا الكلامية التي كثر فيها النزاع وهي:
1- هل وجود الرب تعالى عين ماهيته أم زائد عليها؟
2- هل الوجود مقول على الموجودات بالاشتراك اللفظي أو التواطئ أو التشكيك؟
3- الأحوال هل هي موجود أو ليست موجودة.
4- هل المعدوم شيء أم ليس بشيء؟
5- هل وجود الموجودات زائد على ماهيتها أم لا؟
ونلاحظ أن الأول داخل في الخامس.
ويذكر الشيخ كثرة اضطراب المتكلمين وتناقضهم في ذلك وحكاية بعضهم أقوالاً لم يقلها أحد ثم يبين الصواب في ذلك.
وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الوجود كلفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل: إنها مشكِّكة، لتفاضل معانيها، فالمشكِّك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده، أو متماثلاً.
وبينا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن، لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به.
وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعيَّنة، فتتشابه بذلك وتختلف به.(1/295)
وأما هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر؛ إذ لكل مقام مقال.
والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما يُنفى عن الرب، وينزَّه عنه -كما يفعله كثير من المصنفين- خطأ لمن تدبَّر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة.
قوله "وبينا أن الصواب هو أن و جود كل شيء في الخارج..." الخ.
بدأ الشيخ هنا بذكر الصواب في المسائل التي تناقض واضطرب فيها المتكلمون.
....................................................................................
أما المسألة الأولى؛ وهي كون وجود الشيء عين ماهيته أو زائداً عليها، فالصواب أن وجود كل شيء موجود هو عين ماهيته في الخارج، وأن وجوده في الخارج زائد على وجوده في الذهن، فالوجود الذهني وجود علمي، ولا يلزم من كون الشيء موجوداً في الذهن أن يوجد في الخارج، بل قد يوجد في الخارج وقد لا يوجد(1).
وأما المسألة الثانية: وهي اشتراك الموجودات في الوجود هل هو من قبيل المشترك اللفظي، أو المتواطئ، أو المشكك فالمسألة فيها ثلاثة أقوال:
والقول الثاني والثالث الخطب فيهما يسير؛ لأن المشكك نوع من المتواطئ العام، فالمتواطئ هو الذي يشترك أفراده في معناه، سواء تفاضلوا في المعنى وتفاوتوا أو تساووا، والمشكك خاص بالمتواطئ الذي تفاضل أفراده في معناه، كما في مثال النور والضوء، فالسراج له ضوء، والشمس لها ضوء، فهما مشتركان في معنى الضوء العام مع تفاوت في حقيقته.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 2/156-157.(1/296)
وإنما سمي المشكك مشككاً لأن الناظر فيه يتردد ويتشكك هل هو من المتباين، أو من المتواطئ، فإذا نظر إلى التفاوت ظن أنه من المتباين، وإذا نظر إلى الاتفاق في المعنى جعله من المتواطئ، فالإنسان باعتبار أفراد الإنسان يعد متواطئاً، والضوء باعتبار التفاضل والتفاوت فيه يعد مشككاً.
وأما الوجود فالأقرب أن يكون مشككاً لوجود التفاوت العظيم في وجود الموجودات كما في وجود البعوضة ووجود العرش مثلاً (1).
....................................................................................
وأما المسألة الثالثة وهي: هل المعدوم شيء، أم ليس بشيء؟ فيه قولان، والصواب التفصيل.
فالمعدوم شيء في العلم، فله وجود في الذهن، وليس شيئاً في الخارج.
فتقول -مثلاً- أريد أن أفعل شيئاً، فهذا الشيء المذكور موجود في الذهن وليس موجوداً في الخارج.
ومن ذلك قوله تعالى: ((ِ@yd أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا #·'qن.ُ¨B" [الإنسان: 1] وقوله تعالى: ((ô‰s%ur خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ $\"ّx©"[مريم: 9] أي قبل الخلق. فوجوده في العلم بل وفي الرسم أيضاً؛ لأنه مكتوب وإن كان غير موجود في الخارج حينذاك، ومن ذلك قوله تعالى: (($yJ¯Rخ) قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ مbqن3uٹsù"[النحل: 40]، فهذا الشيء ليس موجوداً في الخارج لأنه يمتنع إيجاد الموجود، فهذا في الإثبات والأول في النفي(2).
وأما المسألة الرابعة وهي: الكلام في الأحوال إثباتاً ونفياً، فالظاهر أن المراد بالأحوال النسبة بين الصفة والموصوف، مثل قيام وقائم، فالصفة القيام، والموصوف القائم، والنسبة هي نسبة القيام إلى القائم، وبعضهم يعبر عن ذلك بـ: بكون الشيء قائماً، أو كونه عالماً، أو كونه قادراً ونحو ذلك.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/105، 201-210.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 2/155.(1/297)
فهذه النسبة ليست شيئاً زائداً موجوداً في الخارج، وإنما توجد الصفة والموصوف الذي قامت به تلك الصفة، فالنسبة، أي: نسبة الصفة للموصوف،
....................................................................................
وقيام الصفة بالموصوف وكون الشيء موصوفاً بالصفة معنى ذهني عقلي، وهو النسبة والإسناد والإضافة، فليس هناك شيء ثالث في الخارج زائد عن الصفة والموصوف(1).
وقول الشيخ: "والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة...".
وهي: أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فالاعتماد عليها من طرق النفي الباطلة، وهذا من ختم الكلام بما بدأ به تأكيداً له وتذكيراً به، حيث قال في مطلع القاعدة: "إذ الاعتماد على مجرد نفي التشبيه ليس بسديد".
فصل
وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله.
فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم أو التحيز ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسماً أو متحيزاً، وذلك ممتنع.
وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوه:
قوله "وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات..." الخ.
بعد أن بين الشيخ فساد الاعتماد في التنزيه على مجرد نفي التشبيه، ذكر هنا طريقة أخرى أفسد من سابقتها، وهي: الاعتماد في تنزيه الله تعالى عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر على نفي التجسيم والتحيز، وهذه الطريقة يسلكها نفاة الصفات أو بعضها من المعتزلة والأشاعرة.
__________
(1) درء التعارض 5/35-39، 9/395.(1/298)
فإذا أراد أولئك تنزيه الله تعالى عن صفات النقص كالبكاء والحزن والمرض، والولد والبخل والفقر، ونحو ذلك -مما يصفه به أعداء الله تعالى من اليهود وغيرهم-، فإذا أراد هؤلاء المتكلمون نفاة الصفاة أو بعضها تنزيه الله تعالى عن
....................................................................................
هذه الصفات ونحوها التي يعد القول بها من أعظم الكفر، فإنهم ينفونها بحجة أن إثباتها مستلزم للتجسيم والتحيز، وهذا ممتنع على الله.
والشيخ هنا يبين أن الاعتماد في تنزيه الله تعالى على هذه النقائص التي يصفه بها الكفار على حجة استلزامها للتجسيم، أن هذه الطريقة فاسدة لا يحصل بها المقصود من إبطال الباطل، بل إن سلوكها من قبل المعتزلة والأشاعرة سبب أن تسلط عليهم الملاحدة من نفاة الأسماء والصفات كالجهمية والباطنية والفلاسفة، فإنه يقولون: إنكم إذا نفيتم ما نفيتم من الصفات بحجة استلزامها للتجسيم، ورددتم على اليهود الذين وصفوا الله تعالى بالنقائص بالحجة نفسها، فكذلك يلزمكم ذلك فيما أثبتم من الصفات فإنه مستلزم للتجسيم(1).
ومناقشة الشيخ لهم هنا واعتراضه عليهم منصب على الدليل لا على أصل المسألة، فنفي النقائص عن الله تعالى حق، ولكن طريقتهم التي سلكوها في ذلك فاسدة لا يحصل بها المقصود، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها - أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معرِّف للمدلول، ومبين له، فلا يجوز أن يُستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود.
قوله "أحدها - أن وصف الله تعالى بهذه النقائص..." الخ.
__________
(1) منهاج السنة 2/563-565، 13/164-167، 16/425-431.(1/299)
الوجه الأول من وجوه بيان فساد طريقة المتكلمين في نفي النقائص عن الله تعالى بنفي التجسيم والتحيز أن يقال:
إن تنزيه الله تعالى عن هذه النقائص والآفات كالحزن والبكاء والمرض أظهر في العقل والدين من نفي الجسم والحيز عن الله تعالى، فإن نفي التحيز والتجسيم فيه من الخفاء والنزاع والاشتباه ما ليس في الأول، فليس في المسلمين من ينازع في نفي الحزن والبكاء والمرض ونحو ذلك عن الله تعالى؛ لأن كفر من وصف الله تعالى بذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام. بخلاف التجسيم مثلاً ففيه نزاع وخفاء واشتباه، فهناك من أثبته كالكرامية، وهناك من استفصل في معناه وهم أهل السنة وهكذا.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا يصح الاستدلال بالأخفى على الأظهر؛ لأن المفترض أن يكون الدليل أظهر وأبين من المدلول كما يفعل في الحدود، يعني: التعريفات، فالشيء يعرف بما هو معروف لدى المخاطب، لا بشيء أخفى من المعرَّف، أو بما لا يفهمه المخاطب.
فجعل هؤلاء نفي التجسيم دليلاً على نفي البكاء والحزن والمرض عن الله تعالى لا يصح، بل هو فاسد لما سبق.
الوجه الثاني - أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات يمكنهم أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال، فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحداً، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد.
قوله "الوجه الثاني - أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات..." الخ.
الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفون الله تعالى بالنقائص والآفات من اليهود ونحوهم يمكنهم أن يجيبوا عن دليل المتكلمين على نفي هذه النقائص، وهو نفي التجسيم والتحيز، فيقولون: نحن نثبت ما نثبت ولا نقول بالتجسيم والتحيز.
كما يقول مثل ذلك مثبتة صفات الكمال من أهل السنة والجماعة، الذين يثبتون لله تعالى صفات الكمال وينفون إطلاق لفظ التحيز والتجسيم.(1/300)
فيكون رد المتكلمين على الطائفتين واحداً، أي: يكون ردهم على من يثبت لله تعالى صفات الكمال بنفس الحجة التي ردوا بها على من يثبت لله تعالى صفات النقص، وهي القول باستلزام ذلك للتحيز والتجسيم.
وهذا يتضمن التسوية في الرد على من يصف الله تعالى بالنقائص ومن يصفه بصفات الكمال، وفي ذلك تسوية بين الحق والباطل، وما كان كذلك فهو في غاية الفساد.
الثالث - أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب، ثابت بالعقل و السمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة.
الرابع - أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي، فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم، لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً، قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتم حياً عالماً قادراً، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يُعلم بضرورة العقل.
ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن اثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد ونحو ذلك -إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم، لأنَّا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، قالت لهم المثبتة: فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، وهذا هكذا فإن كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم، فالآخر كذلك، فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين.
قوله "الثالث - أن هؤلاء ينفون صفات الكمال..." الخ.(1/301)
....................................................................................
أن هؤلاء النفاة من المعتزلة والأشاعرة يبنون قولهم في نفي الصفات على هذه الطريقة، وهي نفي التجسيم والتحيز. ومن المعلوم أن إثبات الصفات حق ثابت بالعقل والسمع، والحق لا يمكن أن يقوم على نفيه دليل صحيح، وأي دليل يقام على إبطال هذا الحق فهو باطل، وعليه فدليل هؤلاء على إبطال صفات الكمال بدلالة نفي التجسيم والتحيز دليل باطل لاستلزامه نفي الحق الثابت.
والوجه الرابع من وجوه فساد هذه الطريقة أن سالكيها متناقضون، والتناقض دليل الفساد، ولو كانت صحيحة لم تتناقض. والكلام هنا مع الأشاعرة والمعتزلة، فالمعتزلة يوافقون الأشاعرة في إثبات الأسماء، والأشاعرة يوافقون المعتزلة في نفي ما نفوه هم من الصفات.
فيقول المعتزلة للأشاعرة: إثباتكم لما أثبتم من الصفات يستلزم التجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم، فإثباتها مستلزم للتجسيم، والله تعالى منزه عن التجسيم.
فيقول لهم الأشاعرة: وأنتم يا معتزلة أثبتم لله تعالى أسماء، ومن المعلوم أنه لا يوجد في الشاهد مسمى بهذه الأسماء إلا ما هو جسم، فما أثبتموه من الأسماء مستلزم للتجسيم، وإذا كان هذا غير لازم في نظركم، فكذلك إثبات ما أثبتنا من الصفات غير مستلزم للتجسيم، فكل من أثبت شيئاً ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي.
فالمعتزلة يحتجون على الأشاعرة بما وافقوهم فيه من النفي، والأشاعرة يحتجون على المعتزلة بما وافقوهم فيه من الإثبات.
....................................................................................
وأهل السنة أيضاً يمكنهم أن يسلكوا هذه الطريقة فيحتجوا على كل منهم بما عندهم من الإثبات.(1/302)
فإذا قال الأشاعرة: إن إثبات الرضى والغضب والمحبة والبغض والاستواء والنزول والإتيان والمجيء والوجه واليد ونحو ذلك مستلزم للتجسيم، قال لهم أهل السنة وكذلك العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر، فإن كان إثبات هذه لا يستلزم تجسيماً وقد وصفتم الله تعالى بها، فكذلك الصفات السابقة التي نفيتموها لا تستلزم تجسيماً، وإن جعلتموها مستلزمة للتجسيم، فهذه كذلك فالقول فيها واحد.
وليس المراد -هنا- مناقشتهم، وإنما المراد بيان تناقضهم في سلوكهم هذه الطريقة في النفي والتنزيه، والتناقض دليل الفساد، فهذه الطريقة فاسدة.
ولما كانت هذه الطريقة فاسدة لم يسلكها أحد من السلف والأئمة. ولم يتكلم أحد من السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى نفياً ولا إثباتاً، كما لم يطلقوا أيضاً لفظ التحيز والجوهر؛ لأنها ألفاظ مجملة مبتدعة فيستفصل عن معناها، فإن أريد به حق قبل المعنى وعبر عنه بلفظ شرعي وترك هذا اللفظ المجمل المبتدع.
ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً -لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله تعالى بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتَدَع الذي أنكره السلف والأئمة.
قوله "ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص..." الخ.
بعد أن قرر الشيخ فساد الاعتماد في تنزيه الله تعالى على مجرد نفي التجسيم، بين أنه من أجل ذلك لم يسلكها السلف الصالح، فلم يأت عن أحد من السلف الصالح إطلاق القول في الجسم والجوهر والتحيز نفياً ولا إثباتاً.(1/303)
وقد تقدم في القاعدة الثالثة الكلام في أن هذا مما تنازع فيه المتأخرون، وأن الواجب في مثل هذا النوع الوقف عن إطلاق هذا اللفظ، والاستفصال عن المعنى المراد، فإن أراد المتكلم حقاً قبل المعنى، وإن أراد باطلاً رد، وإن أراد حقاً وباطلاً قبل الحق ورد الباطل.
ثم إنه يقال لمن أراد حقاً: أحسنت فيما أردت ولكن هذا اللفظ لا يطلق؛ لأمرين:
أحدهما: أنه لفظ مبتدع.
الثاني: أنه لفظ يحتمل حقاً وباطلاً، فلا يجوز استعمال مثل هذا اللفظ الذي يكون مدخلاً لأهل الباطل.
....................................................................................
ولأجل أن هذه الألفاظ مجملة، لم يذكر الله تعالى في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار شيئاً من هذا القبيل، وإنما أنكر عليهم وذمهم على ما نسبوه إليه من صفات النقص، كالفقر والبخل.
فصل
وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
قوله "فصل: وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً ..." إلخ.
يذكر الشيخ هنا الضابط الثاني:
وهو أنه لا يصح الاعتماد في إثبات الصفات لله تعالى على مجرد نفي التشبيه.(1/304)
فلو قيل بأنه يكفي في مطلق الإثبات مجرد نفي التشبيه للزم من ذلك بأنه يجوز -عقلاً- أن يوصف الله تعالى بما لا يحصى من الأعضاء والأفعال من غير تشبيه.
....................................................................................
كما لو قال مفترٍ على الله: إنه تعالى يأكل ويشرب، ويجوع ويعطش، ويبكي ويحزن، ونحو ذلك مما هو ممتنع عليه تعالى مع نفي التشبيه، أي: مع نفي مشابهة هذه الصفات لصفات الخلق. ويجعل ذلك مثل وصف أهل الحق لله تعالى بصفات الكمال مع نفي التمثيل حين يقولون مثلاً: إنه يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم.
وكذلك يثبت المفتري على الله أعضاء لله تعالى ممتنعة عليه، فيصفه بها مع نفي التشبيه، ويجعلها مثل وصفه تعالى بأنه له وجه لا كوجوه الخلق ويدان لا كأيديهم.
فالاعتماد فيما يجوز على الله في باب الإثبات على مجرد نفي التشبيه يلزم منه هذا الباطل، وهو تجويز وصف الله تعالى بما يتنزه عنه ويمتنع عليه مع نفي التشبيه، وما لزم منه الباطل فإنه باطل.
والظاهر أن الشيخ يقصد بذلك أهل الكلام مثل الأشاعرة فيما يرون جواز اتصاف الباري به عقلاً فيثبتونه مع نفي التشبيه، ومن المعلوم بداهة أنه لا يلزم من سلك هذه الطريقة أن يصف الله تعالى بهذه النقائص، وإن كان جوازها على الله لازم مذهبه؛ لأن القول الحق أن لازم المذهب ليس بمذهب إلا إذا التزمه صاحب المذهب، ولكن إذا كان يلزم عليه باطل دل على بطلانه.
فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته، إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات، فلابد من إثبات فرق في نفس الأمر.
فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجيء به السمع.(1/305)
قيل له: أولاً السمع هو خبر الصادق عمّا هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، وإن لم يكن قد نفاه، ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها، كما لا يجوز إثباتها.
قوله "فإنه يقال لمن نفى ذلك..." الخ.
يقول الشيخ: فإنه يقال لمن نفى ذلك أي: صفات النقص وما يجب تنزيه الله عنه من الأفعال والأعضاء مع إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليدين والصفات العقلية من العلم والقدرة والسمع وغيرها، يقال لهذا: ما الفرق بين ما نفيته وما أثبته ما دام أن عمدتك في الإثبات مجرد نفي التشبيه؟ وعلى هذا فإنه يلزمه على قاعدته في الإثبات أن يجيز إثبات الجميع مع نفي التشبيه دون تفريق بين الصفات.
فإن قال من يجعل الضابط له في مطلق الإثبات مجرد نفي التشبيه مع كونه ينفي النقائص عن الله تعالى، إن قال هذا في حجته في التفريق بين ما نفاه من صفات
....................................................................................
النقص وما أثبته من صفات الكمال: إن العمدة في الفرق بين ما أثبت وما نفيت السمع، يعني: النصوص الشرعية، فما جاء في النص إثباته أثبته، وما جاء في النص نفيه نفيته.
فهو يجعل الفرق بين إثبات صفات الكمال لله كالوجه واليدين، ونفي صفات النقص عن الله تعالى كالجوع والحزن والبكاء، مجرد أن الأول جاء به السمع والثاني لم يرد به السمع. والشيخ هنا يبين فساد الاعتماد على هذا المسلك.
فمن جعل العمدة في الفرق بين ما يثبت لله من صفات الكمال وما ينفي عنه من صفات النقص هو السمع، فما جاء في السمع إثباته أثبته، وما جاء في السمع نفيه نفاه، يقال له:(1/306)
أولاً : إن السمع خبر الصادق، والخبر الصادق إخبار بما الأمر عليه، أي: إخبار عن الواقع، وهذا حق في النفي والإثبات، وهذا الخبر هو الدليل على المخبر عنه،والدليل لا ينعكس، ومعنى أن الدليل لا ينعكس أي: لا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، إذ يمكن أن يكون الشيء ثابتاً في نفس الأمر وإن لم يرد به دليل من السمع، ما دام أنه لم يرد دليل معين على نفيه، وكان الأصل في الإثبات عندكم مجرد نفي التشبيه، والفرق بين ما يثبت وينفى ورود الدليل.
ومن المعلوم أن السمع -الكتاب والسنة- لم يرد بنفي كل هذه النقائص بأسمائها الخاصة: كالحزن، والبكاء، والجوع، ونحو ذلك.
فيلزم من جعل العمدة عنده في نفي النقائص عن الله تعالى مجيء نفيها في السمع ألا ينفي النقائص التي لم يرد السمع بالنص على نفيها باسمها، بل تبقى
....................................................................................
عنده من قبيل الجائز المسكوت عنه الذي لا يثبت ولا ينفى فلا تنفى؛ لأن السمع لم يرد بنفيها، ولا تثبت؛ لأن السمع لم يرد بإثباتها.
والحق أن هذه النقائص مما يجب تنزيه الله تعالى عنه ولو لم يرد نص خاص بكل منها، بل هي من الأمور الممتنعة على الله تعالى عقلاً وشرعاً كما يدل عليه المثل الأعلى.
وأيضاً، فلابد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى عنه، فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز والوجوب والامتناع، فلابدّ من اختصاص المنفي عن المثبَت بما يخصه بالنفي، ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت.
وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لابد من أمر يُثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافياً كان مخبِراً عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟
قوله "وأيضاً فلابد في نفس الأمر من فرق..." الخ.(1/307)
سبق أنه يلزم من جعل العمدة عنده في مطلق الإثبات الاعتماد على مجرد نفي التشبيه أن يجوز وصف الله تعالى بما لا يحصى من الأعضاء والأفعال والنقائص مع نفي التشبيه، وأنه يقال لمن أثبت لله تعالى الصفات الخبرية ونفى عن الله تعالى صفات النقص: ما الفرق عندك بين ما نفيته وما أثبته ما دام أن القاعدة عندك نفي التشبيه؟ وسبق أنه يجعل الفرق بين ما يثبت وما ينفى السمع، فما جاء في السمع إثباته أثبته، وما جاء في السمع نفيه نفاه، وتبين فساد هذا المسلك؛ إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فعدم الدليل المعين على نفي نقص من النقائص ليس دليلاً على عدمها، فيلزم على هذا المسلك أن تكون هذه النقيصة مما يجوز وجودها؛ لعدم الدليل المعين على نفيها باسمها، كما لم يدل دليل على إثباتها، فتكون مما يجوز عقلاً.
....................................................................................
ويبين الشيخ هنا أنه لابد من فرق في نفس الأمر بين ما يثبت لله تعالى من صفات الكمال، وما ينفى عنه من صفات النقص. فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع التفريق بينها في الجواز والوجوب والامتناع، فالأمور المتماثلة يمتنع التفريق بينها. فما كانت متماثلة في الجواز يمتنع التفريق بينها في الجواز، وما كانت متماثلة في الوجوب يمتنع التفريق بينها في الوجوب، وما كانت متماثلة في الامتناع يمتنع التفريق بينها في الامتناع.
فإذا جاء الشرع بإثبات شيء ونفي شيء يمنع أن يقال بالتسوية بينها في الجواز، بل لابد أن يكون هناك فرق في نفس الأمر بين ما جاء الشرع بإثباته وما جاء الشرع بنفيه، فالشرع قائم على الحكمة، ويمتنع في الحكمة التفريق بين المتماثلات أو التسوية بين المختلفات كما في الأوامر والنواهي.(1/308)
فلا يقال مثلاً: إنه لا فرق بين إثبات العدل لله تعالى ونفي الظلم عنه، إلا أنه ورد إثبات هذا بالسمع ونفي ذاك، بل الحق أن بينهما فرقاً في نفس الأمر، فالعدل كمال والظلم نقص.
فلابد أن يكون في المنفي عن الله تعالى ما يقتضي نفيه عقلاً عن الله تعالى، ولابد أن يكون فيما يثبت لله تعالى ما يقتضي إثباته، ويخصه بالثبوت.
فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا عُلم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم و (3) القدم -عُلم امتناع العدم والحدوث عليه، وعُلم أنه غني عمّا سواه، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجوداً بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه، فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي، فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حيّ قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه.
وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده. والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
قوله "فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة..." الخ.
بعد أن بين الشيخ أنه لابد من فارق في نفس الأمر بين ما يثبت لله تعالى وما ينفى عنه، وهو أن كل ما ثبت لله تعالى فهو كمال، وكل ما نفي عنه فهو نقص، وهذا الأمر معلوم بالعقل الصريح، ذكر هنا الدليل السمعي على نفي ما ينفى عن الله تعالى.(1/309)
وكأن سائلاً سأل: هل ورد الشرع بنفي هذه النقائص؟ والجواب: نعم. إلا أن بعضها ورد نفيه باسمه الخاص كقوله تعالى: ((ںw تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا ×PِqtR"[البقرة: 255] وقوله تعالى: ((ِ@2uqs?ur عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا كNqكJtƒ"[الفرقان: 58] وقوله تعالى (($tBur مَسَّنَا مِنْ 5>qنَ-9"[ق: 38]، ونظائر ذلك.
....................................................................................
ومنها ما ورد نفيه بإثبات ضده، فكل ما ورد السمع بإثباته لله تعالى من صفات الكمال فإنه مستلزم لنفي ضده من صفات النقص، فإثبات أحد الضدين مستلزم لنفي ضده وما يستلزم ضده. فكل ما نافى صفات كماله فإنه منفي عنه، فوصفه بالعلم مستلزم لنفي الجهل، ووصفه بالقدرة مستلزم لنفي العجز، ووصفه بالغنى مستلزم لنفي الفقر عنه، ونفي ما يستلزم الافتقار والحاجة إلى ما سواه بوجه من الوجوه، فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما نافى غناه المطلق فهو منزه عنه سبحانه وتعالى.
ومعلوم أنه تعالى موجود واجب الوجود بنفسه أزلي، فكل ما نافى كمال وجوده ووجوبه فإنه منزه عنه، فوجوب وجوده مستلزم نفي العدم والحدوث وامتناع ذلك عليه، وهكذا ما نافى قدرته وقوته من العجز والضعف فإنه منزه عنه، وما نافى حياته وقيوميته من النوم والسنة فإنه منزه عنه.
فالسمع جاء بإثبات جملة من أسماء الله الحسنى وصفات الكمال، وكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه؛ لأن ضد ذلك النقص كما ينفي السمع كل ما يماثل صفات الله تعالى.
ومن المقرر عقلاً أن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، ونفي الشيء إثبات لضده(1).
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/71-84، 537-539، منهاج السنة 2/160-163، 182-187.(1/310)
فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك وفرّقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي، لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم. فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً، ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عمّا هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.
قوله "فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه متسعة..." الخ.
يبين الشيخ فساد طريقة من اعتمد في نفي ما يتنزه الله تعالى عنه على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، حيث آلت بهم هذه الطريقة إلى التناقض في التفريق بين المتماثلات كما سبق.
ومن دلائل فساد هذه الطريقة أن كل من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بنفس الحجة: وهي أن إثباته يستلزم التشبيه والتجسيم.
وآل سلوك هذه الطريقة بالقرامطة إلى أن نفوا جميع الصفات، بل نفوا حتى النفي فقالوا: لا يقال الله موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي؛ لأن الإثبات تشبيه بالموجود، والنفي تشبيه بالمعدوم، فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً.
وهؤلاء فروا من تشبيه الله تعالى بالأحياء الكاملين فلزمهم تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات.
وقد تقدم أن ما يُنفى عنه سبحانه وتعالى - يُنفى لتضمن النفي الإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحاً له، لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزه عنه الرب تبارك وتعالى.(1/311)
والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد عُلم أنه حيّ والموت ضد ذلك فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسِنة ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب، نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك يتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته أو أفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنياً بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمُصْمَتُ الصمد أكمل من الآكل الشارب، ولهذا كانت الملائكة صمداً لا تأكل ولا تشرب.
وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك. والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: ((ھ!$# ك‰yJ¢ء9$#"[الإخلاص: 2] والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب. وهذه السورة هي نسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب. وقال في حق المسيح وأمه: (($¨B الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ "[المائدة: 75] فجعل ذلك دليلاً على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأَوْلَى والأحرى.
....................................................................................
والكبد والطحال ونحو ذلك، هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل والفعل، إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل.
قوله "وقد تقدم أن ما ينفى عنه سبحانه وتعالى ..." الخ.
هذا كله في بيان دلالة النصوص على تنزيه الله تعالى عن النقائص وملزوماتها، فإثبات صفات الكمال يستلزم نفي النقائص، ونفي النقائص مستلزم لإثبات صفات الكمال.(1/312)
فالسمع جاء بإثبات جملة من أسماء الله الحسنى، وصفات الكمال، وكل ما يضاد ذلك فالسمع ينفيه، لأن ضد ذلك النقص.
كما ينفي السمع كل ما يماثل صفات الله تعالى، ومن المقرر عقلاً أن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، ونفي الشيء إثبات لضده.
فمجرد النفي لا كمال فيه ولا مدح، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، ونفي الصفات عن المعدوم لا مدح فيه، فالنفي المجرد لا مدح فيه لأن فيه تشبيهاً بالناقصات، ومشابهة الناقص في صفات النقص نقص، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه يتنزه عنه الرب تبارك وتعالى.
فنفي النقص عن الله تعالى مستلزم لإثبات كمال ضده، فهو منزه عن كل ما ينافي كماله، فإذا كان موصوفاً بالحياة فهو منزه عما يضادها من الموت أو يضاد كمالها من النوم والسنة.
....................................................................................
ونفي اللغوب وما يستلزمه، يستلزم إثبات كمال القدرة والقوة. وهو سبحانه وتعالى منزه عن الأكل والشرب ونحو ذلك مما فيه افتقار إلى الغير واحتياج إليه في إعانته على قيام ذاته وأفعاله، فكل ذلك منفي عن الله تعالى لمنافاته كمال غناه.
كما ينفى الأكل والشرب عن الله تعالى لمعنى آخر أيضاً، وهو استلزامه للجوف، فالآكل والشارب أجوف، والله تعالى صمد كما قال سبحانه ((ھ!$# ك‰yJ¢ء9$#"، ومما فسر به الصمد أنه الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب.
كما أشار الشيخ إلى دليل ثالث لمنع الأكل والشرب عن الله تعالى، وهو أنه لما كانت الملائكة صمداً مستغنية عن الأكل والشرب وهذا كمال في حقها لا نقص فيه، فمن باب قياس الأولى، فالله تعالى أولى بهذا الكمال، فهو أولى بأن يكون مستغنياً عن الأكل والشرب غير مفتقر ولا محتاج إليه. فكل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.(1/313)
ومن دلائل نفي الأكل عن الله تعالى، أنه تعالى جعله دليلاً على نفي الألوهية في رده على النصارى الذين اتخذوا المسيح وأمه إلهين، فقال تعالى: (($¨B الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ " [المائدة: 75].
ووجه ذلك أن الأكل يستلزم افتقارها، والافتقار نقص ينافي الإلهية، فلو كان الله تعالى يأكل ويشرب لما كان في هذا دليل على بطلان إلهية المسيح وأمه، وإذا كان الله تعالى منزهاً عن الأكل والشرب فهو منزه عن آلائه وأعضائه: كالكبد والطحال ونحو ذلك، فثبت تنزهه سبحانه عن الأكل والشرب سمعاً وعقلاً.
....................................................................................
ثم يقرر الشيخ أن هذا بخلاف صفة الله فإنها للعمل والفعل، فهي مما يكون به العمل والفعل والله تعالى موصوف بذلك؛ إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر أن يفعل، هذا من ناحية النظر العقلي، والسمع ورد أيضاً بإثبات اليدين وإثبات الفعل.
لكن لو فرض أن الخبر جاء بإثبات الفعل ولم يأت بإثبات صفة اليد لم يكن لنا أن نثبتها لأنها من قبيل الجائز.
وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز، الذي ينزه الله عنه، بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم -فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك.
قوله "وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد ..." الخ.(1/314)
ثبت بالنص تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد كما في قوله تعالى: ((¼çm¯Rr&ur تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا #V$s!ur"[الجن: 3] وقال تعالى: ((كىƒد‰t/ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ ×Lىخ=tو" [الأنعام: 101].
وكما أنه سبحانه وتعالى منزه عن الصاحبة والولد، فهو منزه عن لوازم ذلك وما يتعلق به من الآلات والأسباب.
وكذلك ينزه الله تعالى عن البكاء والحزن، لاستلزام ذلك للضعف والعجز، وذلك صفة نقص مناقض لكمال قوة الله تعالى وقدرته، والله تعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص وما يستلزم النقص، فيوصف بالفرح والغضب دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، وبالقوة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم.
وأيضاً فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه وتعالى لا كفء له، ولا سمي له، وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيُعلم قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب، ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يُعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.(1/315)
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدَث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجوب والغنى، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
قوله "وأيضاً فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع..." الخ.
بعد أن ذكر الشيخ دلالة السمع على تنزيه الله تعالى عن النقص بطرق متعددة بين مطابقة السمع للعقل في دلالته على نفي المثيل كما قال تعالى: ((ِNs9ur يَكُنْ لَهُ كُفُوًا 7‰ymr&"[الإخلاص: 4] وقال تعالى: ((ِ@yd تَعْلَمُ لَهُ $wٹدJy™"[مريم: 65] وقال
....................................................................................
تعالى: ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى: 11] وقال تعالى: ((ںxsù تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ " [النحل: 74] ... وذلك بذكر الدليل العقلي على نفي المثيل، وهو أنه يعلم قطعاً أن الله تعالى ليس من جنس شيء من مخلوقاته: لا الملائكة، ولا السموات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا غير ذلك. بل يعلم قطعاً أن حقيقة الله تعالى أبعد عن مماثلة شيء من الموجودات من سائر الحقائق، وأن مماثلة الله تعالى لشيء من الحقائق أبعد من مماثلة حقيقة أي شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.
وهذا يشبه ما سبق في المثال الأول من أن مباينة الله تعالى لخلقه أعظم من مباينة أي مخلوق لمخلوق آخر.
ومثل ما سبق في القاعدة الخامسة من أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق.(1/316)
فالله تعالى لا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه مما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه سبحانه وتعالى، كما أن الله تعالى لا يشرك المخلوق في شيء من خصائصه.
والشيخ أشار في مطلع القاعدة السادسة إلى الدليل العقلي على إبطال التمثيل عند قوله: "وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل، الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له".
وهنا يوضح الشيخ هذا الدليل بأنه لو قيل بتماثل حقيقة الخالق وحقيقة
....................................................................................
المخلوق لجاز على كل منهما ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما يجب لها، وامتنع عليها ما امتنع عليها.
فيلزم على تقدير وجود المثل أن يكون الله تعالى الموصوف بوجوب الوجود والقدم والغنى مثل المخلوق الموصوف بالحدوث والحاجة وجواز العدم، وأن تكون صفات الله تعالى صفات للمخلوق وصفات المخلوق صفات لله تعالى، فيكون الشيء الواحد سواء كان الخالق أو المخلوق موصوفاً بالوجوب والعدم، والحدوث والقدم، والغنى والحاجة، وهذا يلزم منه الجمع بين النقيضين وهذا مما يعلم بالعقل امتناعه.
فثبت امتناع المثل لله تعالى.
قال الشيخ: "وهذا مما يعلم به فساد وبطلان قول المشبهة" والمشبه هو الذي يقول: لله -تعالى- بصر كبصري، ويد كيدي، ونحو ذلك، وهذا باطل، فبصر الله تعالى أزلي ولا يحده شيء، بخلاف بصر المخلوق الحادث المحدود الناقص المعرض للآفات. وسمع الخالق واسع لجميع الأصوات وهو أزلي لم يحدث له، أما سمع المخلوق فهو محدود وحادث.
فإن أراد بكون بصر الله تعالى وسمعه كبصر المخلوق وسمعه فقد جعل الأزليَّ كالمحدث وهذا جمع بين النقيضين، وهكذا إذا زعم أن سمع الله تعالى وبصره محدود كالمخلوق فقد أعظم على الله تعالى الفرية وتنقصه.(1/317)
وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك، لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله "وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ..." الخ.
يقول الشيخ: ليس المقصود هنا استيفاء وبيان كل ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات على وجه التفصيل، فإن هذا يعلم بتدبر الكتاب والسنة.
وليس المقصود كذلك استيفاء طرق كل ما ينزه الرب تعالى عنه، وإنما المقصود ذكر مجامع الطرق ومجامع الأدلة المفيدة لما يجب لله تعالى ويجوز عليه ويمتنع عليه.
ونتيجة ما تقدم أن ما قام الدليل على إثباته أثبتناه، وما دل الدليل على نفيه نفيناه، وما لم يقم الدليل على إثباته ولا على نفيه فإنا نمسك عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، إلا إذا دل العقل على إثباته فنثبته، أو دل على نفيه فننفيه، فالعقل دليل في الجملة على سبيل الإجمال.
وجعل العقل دليلاً هنا على ما لم يدل الدليل السمعي عليه افتراض نظري، وإلا فليس هناك شيء ينفى عن الله تعالى لم يدل عليه الدليل السمعي نصاً أو لزوماً.
فالعقل يدل على أن الله تعالى موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، ولكن مع ذلك فإنا لا نجد معنى منفياً عن الله تعالى لم يعلم نفيه إلا بالعقل، غاية
....................................................................................
الأمر أن تتطابق دلالة العقل مع دلالة السمع، أو تكون الدلالة للسمع فقط، كما سبق معنا في الإثبات أن من الصفات ما هو سمعي فقط، ومنها ما هو سمعي وعقلي.
فالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والرحمة والعلو ونحو ذلك معلومة بالسمع والعقل.(1/318)
وأما الاستواء واليدان والوجه والضحك والفرح ونحو ذلك، فإنما علمت بالسمع فقط.
وأما ما لم يقم دليل عقلي ولا سمعي على إثباته ولا على نفيه فإنا نسكت عنه فلا نثبته ولا ننفيه. مثال ذلك: "الأذن"، فليس في السمع ولا في العقل ما يثبتها أو ينفيها عن الله تعالى.
القاعدة السابعة
أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبين ما يستدل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بيّن من الآيات الدالة عليه، وعلى وحدانيته، وقدرته، وعلمه وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بيّن أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه.
فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بيّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها.
- والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع-
وهي أيضاً: عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً.
قوله:"القاعدة السابعة أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل..." الخ.
القاعدة السابعة ليست موجودة في كثير من نسخ التدمرية، ولعلها من زيادات المؤلف رحمه الله، ومضمونها يوجد بعضه في القاعدة الأولى والأصل الأول.
والشيء الزائد فيها الكلام في كون أدلة الشرع سمعية أو عقلية، والواقع أن أدلة السمع منها ما هو سمعي محض، ومنها ما هو سمعي عقلي، فهي سمعية؛ لأن الشرع جاء بها، وهي عقلية لأنها اشتملت على الدليل العقلي وأرشدت إليه(1).
....................................................................................
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/137 - 141، 16/469-471، درء التعارض 1/28-38، الصواعق المرسلة 2/460-499.(1/319)
فمثلاً قوله تعالى: ((zNtمy- الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ ×ژچإ،o""[التغابن: 7] فهذا دليل سمعي على البعث وأما قوله تعالى: (($ygoƒr'¯"tƒ النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ 7pxےُـœR" [الحج: 5] إلى قوله تعالى: (("tچs?ur الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَن اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي ح'qç7à)ّ9$#"[الحج: 5-7] فهذا خبر مشتمل على دليل عقلي حسي أيضاً.
وعلى هذا فما أخبرت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- منه ما تشهد به العقول والفطر السليمة، ومنه ما لا تحيله العقول، بل تجوزه، ولهذا قيل: إن الرسل لا يأتون بمحالات العقول بل بمحاراتها.
كما أشار الشيخ في هذه القاعدة إلى دلالة القرآن العقلية على الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد. وبيَّن أن هذه الأصول شرعية من وجهين:
الأول: أن الشارع أخبر بها.
الثاني: أنه بيّن الأدلة العقلية الدالة عليها.
وأن هذه الأصول أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل كذلك. وفند -رحمه الله- ما ذهب إليه كثير من أهل الكلام من أن هذه الأصول عقلية فقط؛ لظنهم أن طريق العلم بها هو العقل فقط، وزعموا أن النبوة وصدق الرسول لا يعلم إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل.
وكثير من أهل الكلام يسمي هذه الأصول العقلية لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط؛ فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق -الذي هو النبي- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل.(1/320)
ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها:
فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه(1) العقل.
وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.
قوله "وكثير من أهل الكلام يسمي هذه الأصول..." الخ.
فند الشيخ ما ذهبت إليه المعتزلة من توقف إثبات النبوة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وكذلك رد ما ذهبت إليه الأشاعرة ومن وافقهم من توقف إثبات النبوة على إثبات الصانع، وتوقف إثبات الصانع على إثبات حدوث العالم، وتوقف إثبات حدوث العالم على إثبات حدوث الأجسام إلى آخره... وما ترتب على ذلك من نفي أفعال الله الاختيارية ونفي صفاته.
كما أشار الشيخ في هذه القاعدة إلى دلالة العقل على الصفات السبع وغيرها كما تقدم تفصيله في الأصل الأول.
ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم، لظنهم أن العقل عارض السمع -وهو أصله- فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤوَّل، وإما أن يُفوَّض.
وهم أيضاً عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم.
وهؤلاء يضلون من وجوه:
__________
(1) رجح الدكتور محمد السعوي في تحقيقه للتدمرية أن تكون العبارة كما يلي: "ويجعلون التكذيب بالقدر مما يقتضيه -أو يثبته- العقل".(1/321)
منها ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة(1)، وليس الأمر كذلك، بل القرآن بيّن من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية.
ومنها ظنهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعنية التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ومنها ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة.
ومنها ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك، فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
....................................................................................
والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله: ((ںwr& يَعْلَمُ مَنْ t,n=y{"[الملك: 14].
قوله "ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة..." الخ.
بين الشيخ رحمه الله وجوهاً من ضلال هؤلاء في مذهبهم واستدلالهم وهي:
1- أنهم لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم، بل ولا على ما يوافق قولهم لظنهم أن العقل عارض السمع وهو أصل فيجب تقديمه عليه، ويجب تأويل السمع أو تفويضه.
2- ظنهم أن السمع قد دل على هذه الأصول -التوحيد والنبوة والمعاد- بطريق الخبر المجرد، وليس الأمر كذلك، بل القرآن بين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية كما تقدم.
__________
(1) لعل في العبارة نقصاً، وأصلها: "أن السمع -دل على هذه الأصول- بطريق الخبر تارة" ورجح الدكتور محمد السعوي في تحقيقه عبارة "المجرد" بدل "تارة".(1/322)
3- ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة.
4- ظنهم أن تلك الطريق المذكورة التي سلكوها صحيحة وهي باطلة.
5- ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، وهم غالطون في ذلك، فإن كل ما تعارض به نصوص الكتاب والسنة هو من المجهولات لا من المعقولات.
وقد اتفق النُظَّار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل -عند المحققين- أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم.
بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل.
وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل، كما أثبتته بذلك الأئمة مثل أحمد بن حنبل وغيره، ومثل عبدالعزيز المكي وعبدالله بن سعيد بن كُلاَّب.
بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك.
وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات، كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدَث. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع(1).
والمقصود هنا أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نُظَّار السنة في هذا الباب -أنه لو لم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف
....................................................................................
بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبَكَم.
__________
(1) منهاج السنة 2/330-342، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/136.(1/323)
وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أَولى.
وهذه الطريق غير قولنا: إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أَولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها.
وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويُضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي وأمثاله، مع أنه أصل القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية.
فقالوا: القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات، كالسمع والبصر والكلام، مع كونه حيّاً لكان متصفاً بما يقابلها -فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلَيْن وبيان أقسامهما.
فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين.
....................................................................................
فالأول هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما كقولنا: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان، ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر.
... من جهة واحدة، ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجباً بنفسه وممكناً بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان.
فإذا جعلتم هذا التقسيم، وهما النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليس هما السلب والإيجاب، فلا يصح حصر النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان في السلب والإيجاب.(1/324)
وحينئذ، فقد ثبت وصفان: شيئان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهو خارج عن الأقسام الأربعة.
وعلى هذا فمن جعل الموت معنى وجودياً فقد يقول: إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب.
وكذلك العلم والجهل، والصمم، والبكم، ونحو ذلك.
الوجه الثاني - أن يقال: هذا التقسيم يتداخل، فإن العدم والملكة يدخل في السلب والإيجاب، وغايته أنه نوع منه، والمتضايفان يدخلان في المتضادين، وإنما هو نوع منه.
....................................................................................
فإن قال: أعني بالسلب والإيجاب ما لا يدخل فيه العدم والملكة، وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له، ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طرفيه إلى الآخر.
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما - أن غاية هذا أن السلب ينقسم إلى نوعين، أحدهما: سلب ما يمكن اتصاف الشيء به، والثاني: سلب ما لا يمكن اتصافه به.
ويقابل الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب، والثاني إثبات ما يجب اتصافه به، فيكون المراد به سلب الممتنع وإثبات الواجب، كقولنا: زيد حيوان، فإن هذا إثبات واجب(1)، وزيد ليس بحجر، فإن هذا سلب ممتنع.
وعلى هذا التقدير، فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم، كقولنا: المثلث إما موجود وإما معدوم، يكون من قسم العدم والملكة، وليس كذلك، فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد عن المتقابلين جميعاً، ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم.
وأيضاً فإنه على هذا التقدير، فصفات الرب كلها واجبة له، فإذا قيل: إما أن يكون حياً أو عليماً أو سميعاً أو بصيراً أو متكلماً، أو لا يكون -كان مثل قولنا: إما أن يكون موجوداً وإما أن لا يكون، وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب، فيكون الآخر مثله، وبهذا يحصل المقصود.
فإن قيل: هذا لا يصح حتى يُعلم إمكان قبوله لهذه الصفات.
__________
(1) لعل الصواب "إثبات ممكن" لأن الحياة ليست واجبة للإنسان بل هي جائزة.(1/325)
....................................................................................
قيل له: هذا إنما اشتُرِط فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان، فأما الرب تعالى فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة، ضرورة أنه لا يمكن اتصافه بها وبعدمها باتفاق العقلاء، فإن ذلك يوجب أن يكون تارة حياً وتارة ميتاً، وتارة أصم وتارة سميعاً، وهذا يوجب اتصافه بالنقائص، وذلك منتف قطعاً.
بخلاف من نفاها، وقال: إن نفيها ليس بنقص، لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها، فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول: إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصاً. فإن فساد هذا معلوم بالضرورة.
وقيل له أيضاً: أنت في تقابل السلب والإيجاب، إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين لم يصح أن تقول: واجب الوجود إما موجود وإما معدوم، والممتنع الوجود إما موجود وإما معدوم، لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجوب، والآخر معلوم الامتناع.
وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول: إما أن يكون حياً وإما أن لا يكون، وإما أن يكون سميعاً بصيراً وإما أن لا يكون، لأن النفي إن كان ممكناً صح التقسيم، وإن كان ممتنعاً كان الإثبات واجباً، وحصل المقصود.
فإن قيل: هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب ونحن نسلم ذلك، كما ذكر في الاعتراض، لكن غايته أنه إما سميع وإما ليس بسميع، وإما بصير وإما ليس ببصير، والمنازع يختار النفي.
فيقال له: على هذا التقدير فالمثبَت واجب، والمسلوب ممتنع، فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له، وإما أن تكون ممتنعة عليه، والقول بالامتناع لا وجه له إذ لا دليل عليه بوجه.
....................................................................................
بل قد يقال: نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع، فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات، وقد علم فساد ذلك، وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له.(1/326)
واعلم أن هذا يمكن أن يُجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له، فإنها إما واجبة له، وإما ممتنعة عليه، والثاني باطل فتعيَّن الأول، لأن كونه قابلاً لها خالياً عنها يقتضي أن يكون ممكناً، وذلك ممتنع في حقه، وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار.
الجواب الثاني- أن يقال فعلى هذا إذا قلنا: زيد إما عاقل وإما غير عاقل، وإما عالم وإما ليس بعالم، وإما حي وإما غير حي، وإما ناطق وإما غير ناطق، وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها، لم يكن هذا دخلاً في قسم تقابل السلب والإيجاب.
ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة، وخلاف اتفاق العقلاء، وخلاف ما ذكروه في المنطق وغيره.
ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى، فلا يجتمعان في الصدق والكذب، فهذه شروط التناقض موجودة فيها.
وغاية فرقهم أن يقولون: إذا قلنا: هو إما بصير وإما ليس ببصير، كان إيجاباً وسلباً، وإذا قلنا: إما بصير وإما أعمى، كان ملكة وعدماً.
....................................................................................
وهذا منازعة لفظية، وإلا فالمعنى في الموضعين سواء، فعلم أن ذلك نوع من تقابل السلب والإيجاب، وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل: إنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر، فإن الاستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ العمى.
الوجه الثالث - أن يقال: التقسيم الحاصر أن يقال: المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب، وإما أن لا يختلفا بذلك، بل يكونان إيجابين أو سلبين، فالأول هو النقيضان، والثاني: إما أن يمكن خلو المحل عنهما، وإما أن لا يمكن، والأول هما الضدان كالسواد والبياض، والثاني هما في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتَين كالوجوب والإمكان، والحدوث والقدم، والقيام بالنفس والقيام بالغير، والمباينة والمجانبة، ونحو ذلك.(1/327)
ومعلوم أن الحياة والموت، والصمم والبكم والسمع، ليس مما إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحمرة بين السواد والبياض، فعُلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما فإذا انتفى تعين الآخر.
الوجه الرابع- المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوه، أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها، ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي الأعمى.
وحينئذ، فإذا كان الباري منزها عن نفي هذه الصفات -مع قبوله لها- فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى، إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين، واتصافه بالنقائص ممتنع، فيجب اتصافه بصفات الكمال، وبتقدير
....................................................................................
عدم قبوله لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص، وهذا أشد امتناعاً، فثبت أن اتصافه بذلك ممكن، وأنه واجب له، وهو المطلوب، وهذا في غاية الحسن.
الوجه الخامس- أن يقال: أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت، فإن عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي، وهو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج، كان هذا باطلاً من وجهين:
أحدهما- أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حيّة ولا ميتة، ولا ناطقة ولا صامتة، وهو قولكم، لكن هذا اصطلاح محض، وإلا فالعرب يصفون هذه الجمادات بالموت والصمت.
وقد جاء القرآن بذلك، قال تعالى: ((ڑْïد%©!$#ur يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ ڑcqèWyèِ7مƒ"[النحل:20-21]، فهذا في الأصنام وهي من الجمادات وقد وصفت بالموت.(1/328)
والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والموَتَان، قال أهل اللغة: الموَتَان، بالتحريك: خلاف الحيوان، يقال: اشْتَرِ الموَتَان ولا تَشْتَرِ الحيوان، أي: اشْتَرِ الأرضين والدّور، ولا تشتر الرقيق والدواب. وقالوا أيضاً: المَوَات: ما لا روح فيه.
فإن قيل: فهذا إنما سمي مواتاً باعتبار قبوله للحياة، التي هي إحياء الأرض.
....................................................................................
قيل: وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان، وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلاً للزرع والعمارة.
والخرص ضد النطق، والعرب تقول: لبن أخرس، أي خاثر لا صوت له في الإِناء، وسحابة خرساء، ليس فيها رعد ولا برق، وعَلَم أخرس، إذا لم يُسمع له في الجبل صوت صدى، ويقال: كتيبة خرساء، قال أبو عبيد: هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس لها قعاقع.
وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت، فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه، بخلاف الخرس، فإنه عجز عن النطق، ومع هذا فالعرب تقول: ما له صامت ولا ناطق، فالصامت الذهب والفضة، والناطق الإبل والغنم، والصامت من اللبن: الخاثر، والصَمُوت: الدرع التي إذا صُبَّت لم يسمع لها صوت.
ويقولون: دابة عجماء، وخرساء، لما لا ينطق ولا يمكن منه النطق في العادة، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جبار) (1).
وكذلك في العمى، تقول العرب: عَمَى الموجُ يَعْمِي عَمْياً إذا رمى القذى والزبَدَ، والأعميان: السيل والجمل الهائج، وعَمِيَ عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: ((ôMuدJyèsù عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ 7ح´tBِqtƒ"[القصص: 66].
....................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (2/545) كتاب الزكاة، باب في الركاز الخمس برقم 1499، ومسلم (3/1334) كتاب الحدود برقم 1710.(1/329)
وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها: إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت، ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام.
الثاني- أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك، فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة، كما جعل عصا موسى حية تبلع الحبال والعصي.
وإذا في إمكان العادات كان ذلك مما قد علم بالتواتر، وأنتم أيضاً قائلون به في مواضع كثيرة.
وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك، فيكون الخالق أَوْلَى بهذا الإمكان.
وإن عنيتم الإِمكان الذهني، وهو عدم العلم بالامتناع فهذا حاصل في حق الله، فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام.
الوجه السادس- أن يقال: هب أنه لابد من العلم بالإمكان الخارجي، فإمكان الوصف للشيء يُعلم تارة بوجوده له، أو بوجوده لنظيره، أو بوجوده لما هو الشيء أَوْلَى بذلك منه.
ومعلوم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ثابتة للموجودات المخلوقة، وممكنة لها، فإمكانها للخالق تعالى أَوْلَى وأحرى، فإنها صفات كمال، وهو قابل للاتصاف بالصفات، وإذا كانت ممكنة في حقه فلو لم يتصف بها لا تصف بأضدادها.
....................................................................................
الوجه السابع- أن يقال: مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته، سواء سميت عمى وصمماً وبكماً، أو لم تسم، والعلم بذلك ضروري، فإنا إذا قدرنا موجودَين، أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم، والآخر ليس كذلك - كان الأول أكمل من الثاني.(1/330)
ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات، فقال تعالى عن إبراهيم الخليل: ((دMt/r'¯"tƒ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ $\"ّx©"[مريم: 42]، وقال أيضاً في قصته: ((ِNèdqè=t"َ،sù إِنْ كَانُوا ڑcqà)دـZtƒ"[الأنبياء: 63]، وقال تعالى عنه: ((ِ@yd يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ tûüدJn="yèّ9$#"[الشعراء: 77].
وكذلك في قصة موسى في العجل: ((أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ڑْüدJخ="sك"[الأعراف: 148]، وقال تعالى: ((z>uژںرur اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ 8Lىة)tFَ،oB"[النحل: 77]، فقابل بين الأبكم العاجز وبين الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم.
....................................................................................
فصل(1/331)
وأما الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات، المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعاً -فنقول: إنه لابد من الإيمان بخلق الله وأمره، فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون، وقدّر المقادير وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى: ((َOs9r& تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ ×ژچإ،o""[الحج: 70]، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) (1).
قوله "وأما الأصل الثاني وهو التوحيد في العبادات..." الخ.
هذا هو الأصل الثاني، وسبق أن ذكر الشيخ الأصل الأول: وهو التوحيد في الصفات.
وقد عبر الشيخ عن الأصل الثاني بأنه التوحيد في العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر، وسبق أن أشار الشيخ إلى أن التوحيد بالشرع والقدر متضمن لتوحيد العبادة، فكل منهما متضمن للآخر.
وهنا سؤال وهو: ما وجه تضمن التوحيد في العبادات للإيمان بالشرع والقدر؟
....................................................................................
والجواب: أن مما يوضح هذا ما هو مقرر من أن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية. أما تضمن هذا الأصل للإيمان بالشرع والقدر؛ فلأن إفراد الله بالعبادة هو أصل الشرع ومداره، فعبادة الله تعالى وحده هي جماع الشرع، لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وأما تضمنه للإيمان بالقدر فلأن إفراد الله تعالى بالعبادة يتضمن إفراد الله تعالى بربوبيته وملكه وتدبيره وعموم خلقه، كما يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد العبادة.
__________
(1) أخرجه مسلم بنحوه (4/2044) كتاب القدر برقم 2653.(1/332)
وتوحيد الربوبية يتضمن الإيمان بالقدر؛ لأن من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، ويدخل في ذلك أفعال العباد.
وهذه الجملة من كلام الشيخ تتضمن وجوب الإيمان بمراتب القدر الأربعة وهي:
1- علم الله السابق: فإنه تعالى علم ما كان، وما سيكون، وعلم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم.
2- الكتابة: فقد كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
3- عموم مشيئته سبحانه وتعالى: فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى من الخير والشر.
4- عموم الخلق: أي: بأن الله تعالى خالق كل شيء، فهو سبحانه خالق العباد وقدرهم وأفعالهم الظاهرة والباطنة.
....................................................................................
فلا يكون الإنسان مؤمناً بالقدر إلا بالإيمان بالمراتب الأربع كلها.
والقدرية طائفتان:
1- غلاة: وهم الجبرية الذين يغلون في إثبات القدر.
2- نفاة: وهم الذين ينفون القدر.
والقدرية النفاة طائفتان:
الأولى: غلاة وهم منكرو القدر بمراتبه الأربعة: فينكرون علم الله تعالى وكتابته ومشيئته وخلقه.
والثانية: المتوسطون المقتصدون وهم المعتزلة فهؤلاء يثبتون مرتبة العلم والكتابة، وينكرون مرتبة المشيئة والخلق، فيخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله تعالى وخلقه.
وهذا المذهب - أي مذهب المعتزلة- في القدر شاع بين كثير من الكتاب المعاصرين، فيجعلون علاقة الله تعالى بأفعال عباده علاقة علم وكتابة، لا علاقة تأثير، فلا تأثير لمشيئة الله تعالى وخلقه في أفعال عباده عندهم.
ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه.(1/333)
وعبادته تتضمن كمال الذّل له والحب له، وذلك يتضمن كمال طاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قال تعالى: ((!$tBur أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ "[النساء: 64] وقال تعالى: ((ِ@è% إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ "[آل عمران: 31].
وقد قال تعالى: ((ِ@t"َ™ur مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً tbrك‰t7÷èمƒ"[الزخرف: 45]، وقال تعالى: ((!$tBur أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا بbrك‰ç7ôم$$sù"[الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ((tيuژں° لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ "[الشورى: 13]، وقال تعالى: (($pkڑ‰r'¯"tƒ الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ بbqà)¨?$$sù"[المؤمنون: 50-52]، فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعَلاَّت، وأنا أولى الناس بابن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي)(1).
قوله: "ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته..." الخ.
....................................................................................
__________
(1) أخرجه بنحوه البخاري (3/1270) كتاب الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم) برقم 3443، ومسلم (4/1837) كتاب الفضائل برقم 2365.(1/334)
بعد أن ذكر الشيخ وجوب الإيمان بالقدر ذكر هنا الإيمان بالشرع وهو أن الله تعالى أمر عباده بعبادته وحده لا شريك له بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. وهذه هي الغاية من خلق الجن والإنس.
وعبادة الله تعالى تتضمن كمال الذل لله تعالى والحب له، وذلك يستلزم كمال طاعته(1).
وللعبادة تعريفات، منها:
التعريف الأول: أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
التعريف الثاني: كمال الحب مع كمال الذل.
والصلاة ونحوها شعائر العبادة؛ لأنها يتعبد بها ويتذلل بها لله تعالى فهي عبادة، ولهذا لا ينبغي أن تسمى مظاهر العبادة لأنها هي التي يحصل بها التذلل والتقرب إلى الله تعالى.
والشعائر الشركية تذلل وتعبد لغير الله، كالذبح مثلاً، فالذبح على وجه التعظيم والتقرب عبادة.
فالشرك عبادة غير الله مع الله أو اتخاذ ند لله تعالى قال ابن القيم:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
... ذا القسم ليس بقابل الغفران
كان من حجر ومن إنسان
ويحبه كمحبة الديان
....................................................................................
وطاعة الرسول مطلقة؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه، فطاعته طاعة لله، قال تعالى: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ "[النساء: 80]. وقال تعالى: ((!$tBur أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ "[النساء: 64].
فاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتضمن عبادة الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ((ِ@t"َ™ur مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً tbrك‰t7÷èمƒ"[الزخرف: 45].
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10/19.(1/335)
فكل الرسل دعوا للتوحيد وحذروا من الشرك، ولم يشرع الشرك في أي رسالة، وأما ما جاء من السجود ليوسف عليه السلام فهو سجود تحية لا سجود عبادة، وقد كان سجود التحية جائزاً في شريعتهم وحرم في الشريعة المحمدية.
ومن دلائل دعوة الأنبياء للتوحيد وإقامة الدين بالإخلاص لله تعالى ما ذكره المؤلف من الآيات، كقوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا بbrك‰ç7ôم$$sù"[الأنبياء: 25].
فدين الرسل واحد وهو التوحيد كما قال تعالى ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ "[النحل: 36] والأمة هنا هي الملة، ومن دلائل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعلات، وأنا أولى الناس بابن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي) وأخوة العلات هم الأخوة لأب.
فالدين واحد وهو التوحيد، والشرائع مختلفة، كما قال تعالى: ((لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً %[`$yg÷YدBur"[المائدة: 48](1).
__________
(1) ينظر مقدمة الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.(1/336)
وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال تعالى عن نوح: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ tûüدHح>َ،كJّ9$#"[يوسف: 71-72]، وقال عن إبراهيم: ((`tBur يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ tbqكJخ=َ،oB"[البقرة: 130-132]، وقال عن موسى: ((tA$s%ur مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ tûüدJخ=َ،oB"[يونس: 84]، وقال في خبر المسيح: ((ّŒخ)ur أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا tbqكJخ=َ،مB"[المائدة: 111]، وقال فيمن تقدم من الأنبياء: ((مNن3ّts† بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ (#rكٹ$yd"[المائدة: 44]، وقال عن بلقيس أنها قالت: ((إ_Uu' إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ tûüدJn="yèّ9$#"[النمل: 44].(1/337)
فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، و المشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده.
....................................................................................
وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمر ثانياً باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين أمر به داخلاً في دين الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلِّي، فكذلك الرسل دينهم واحد، وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدِّين واحداً، كما لم ينع ذلك في شرعة الرسول الواحد.
قوله "وهذا الدين هو دين الإسلام..." الخ.
هذا الدين الواحد الذي بعث الله به رسله هو دين الله واسمه الإسلام في جميع الشرائع، في عهد نوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم.
وقد ذكر المؤلف عدة آيات تدل على ذلك فنوح قال: ((كNِچدBé&ur أَنْ أَكُونَ مِنَ tûüدHح>َ،كJّ9$#"[يونس: 72] وكذلك إبراهيم ويعقوب كما قال تعالى: ((4سœ"urur بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ tbqكJخ=َ،oB" [البقرة: 132] ... وهكذا.
وحقيقة دين الإسلام الاستسلام لله وحده بعبادته وحده لا شريك له. وطاعته كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، وهذه الحقيقة واحدة في دين جميع الرسل.
فالإسلام هو الاستسلام لله وحده، والناس بالنسبة للاستسلام لله ثلاثة أقسام:
....................................................................................
1- مستسلم لله وحده، فهذا هو المسلم الموحد على الحقيقة.(1/338)
2- مستسلم لله ولغيره وهذا هو المشرك.
3- المستكبر عن الاستسلام لله تعالى، وهو المستنكف عن عبادة الله.
والمشرك والمستكبر كل منهما كافر(1)، ولكن كفر المستكبر أعظم، والفرق بين المشرك والكافر، أن الكافر أعظم، فكل مشرك شركاً أكبر كافر، وليس كل كافر مشركاً. فالمكذب بالرسول كافر وإن لم يكن مشركاً.
والله تعالى يشرع ما يشاء وينسخ ما يشاء، فيجب الإيمان بالنسخ الذي أنكرته اليهود وجعلوه ذريعة للطعن في الرسول وتكذيبه، ويقولون: إن النسخ بداء أي: يبدو لله تعالى ما كان غائباً وخافياً عليه -تعالى الله عن قولهم وظنهم-.
والحق أن النسخ مرده الحكمة، فالله تعالى يشرع لعباده في كل وقت ما تقتضيه حكمته.
ومن قضايا النسخ في الشريعة الإسلامية: نسخ القبلة، حيث كان التوجه في البداية للصخرة وبعد ستة عشر أو سبعة عشر شهراً من الهجرة نسخ ذلك إلى استقبال الكعبة.
ولما بلغ بعض الصحابة النسخ وهم يصلون إلى بيت المقدس استداروا إلى الكعبة، وحولوا وجوههم إليها؛ امتثالاً وطاعة لأمر الله تعالى، فهم مطيعون لله تعالى في الحالين، ومستسلمون لأمره في الجهتين والوقتين والفعلين، وكل ذلك من الدين(2).
....................................................................................
فاستقبال بيت المقدس في الصلاة يوم كان مشروعاً هو من الدين، أما بعد النسخ فليس استقباله من الدين، وإنما يدخل في الدين الإيمان بأنه كان مشروعاً فنسخ.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10/14.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم 2/838-839، الصفدية 2/314.(1/339)
واختلاف شرائع الأنبياء لا يمنع أن يكون دينهم واحداً(1)، كما أن شريعة النبي الواحد قد تختلف من وقت لآخر بالنسخ ولا يخرجها ذلك عن وحدة الدين؛ لأن الدين هو طاعة الله تعالى في كل وقت بحسب ما أمر به في ذلك الوقت، والعبد في الفعلين والوقتين مطيع لله عابد له مستسلم له.
والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال تعالى: ((ّŒخ)ur أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ tûïد‰خ
9$#"[آل عمران: 81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه(2).
وقال تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا "[المائدة: 48].
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11/218-220، 35/364-365.
(2) جاء معنى هذا الأثر عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، يراجع تفسير آية [81] من سور آل عمران في تفسير ابن جرير الطبري، والقرطبي وابن كثير.(1/340)
وجعل الإيمان بهم متلازماً، وكفَّر من قال: إنه آمن ببعض وكفر ببعض، قال تعالى: ((¨bخ) الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ $y)ym"[النساء:150-151]، وقال تعالى: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا tbqè=yJ÷ès?" [البقرة: 85]، وقد قال
....................................................................................
لنا: (((# qن9qè% آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ قO
خ=yèّ9$#"[البقرة: 136-137]. فأمرنا أن نقول: آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، بل يكون كافراً، وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن.(1/341)
كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ z`ƒجچإ،"y‚ّ9$#"[آل عمران: 85] قالت اليهود والنصارى: فنحن مسلمون، فأنزل الله تعالى: ((!ur عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا "[آل عمران: 97] فقالوا: لا نحج، فقال تعالى: ((`tBur كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ tûüدJn="yèّ9$#"(1) [آل عمران: 97].
فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)(2)، ولهذا لما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أنزل الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "[المائدة: 3].
...................................................................................
وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، المتضمن لشريعة القرآن -ليس عليه إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام، المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبياً من الأنبياء -فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء.
قوله "والله تعالى جعل من دين الرسل.." الخ.
__________
(1) يراجع ما ذكره الطبري عند تفسير هذه الآية.
(2) أخرجه البخاري (1/12) كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم برقم 8، ومسلم (1/45) كتاب الإيمان برقم 16.(1/342)
مما يدل على أن دين الأنبياء واحد ودعوتهم واحدة أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به كما قال تعالى: ((ّŒخ)ur أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ tûïد‰خg"
$#" [آل عمران: 91].
وقد جعل الله تعالى الإيمان بالرسل متلازما، فلا يكون الشخص مؤمناً برسول حتى يؤمن بجميع الرسل، ومن كفر ببعضهم فقد كفر وبطل إيمانه كما قال تعالى: ((¨bخ) الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا " [النساء: 150-151]، ونحو ذلك من الآيات التي ذكرها المؤلف.
فمن كفر وكذب برسول فقد كفر وكذب بجميع المرسلين(1)، كما قال تعالى: ((ôM
x. قَوْمُ نُوحٍ tûüخ=y™ِچكJّ9$#"[الشعراء: 105]، وكان نوح عليه السلام أول
....................................................................................
الرسل وكما قال تعالى: ((ôMt/
. ثَمُودُ tûüخ=y™ِچكJّ9$#"[الشعراء: 141]، وغير ذلك من الآيات.
فيجب الإيمان بجميع الرسل، فمن بلغته -مثلاً- رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، بل يكون كافراً وإن زعم الإسلام والإيمان، وإن آمن بغيره من الرسل كعيسى أو موسى.
__________
(1) الصفدية 2/311.(1/343)
كذلك الإيمان بالرسول الواحد يقتضي الإيمان بكل ما جاء به، فمن آمن ببعض ما جاء به دون بعض لم يكن مؤمناً، كما يزعم بعض النصارى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى العرب خاصة، فهذا يقتضي تكذيبه في دعوى عموم الرسالة.
فمن جحد وجوب شيء من واجبات الإسلام التي أتى بها محمد - صلى الله عليه وسلم -: من الصلاة والزكاة والصيام والحج، فليس بمؤمن وإن شهد الشهادتين.
فهذه ثلاثة أوجه تدل على وحدة دين الرسل وأنه الإسلام:
الأول: أن حقيقة دعوتهم واحدة وهي حقيقة الإسلام.
الثاني: أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق أولهم ويؤمن به.
الثالث: أن الإيمان بهم متلازم.
وقد ذكر المفسرون أن اليهود والنصارى لما ادعوا الإسلام أنزل الله تعالى: ((!ur عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا "[آل عمران: 97] فقالوا: لا نحج وقال تعالى: ((`tBur كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ tûüدJn="yèّ9$#"[آل عمران: 97]. فالاستسلام لله تعالى لا يتم إلا بالإقرار بما لله تعالى على عباده، ومن ذلك الحج.
....................................................................................
والشيخ ذكر ذلك من باب التمثيل والاستشهاد والاعتماد، وإلا فإن اليهود والنصارى لو حجوا لم يقبل منهم ذلك، لأنهم غير مقرين برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم قد كفروا بسبب عدة أشياء منها:قتل الأنبياء، وتبديل الدين، وبتكذيب الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكفر اليهود بتكذيب المسيح، وكفر النصارى بتأليهه وأمه، كما كفروا جميعاً بامتناعهم عن الحج، فهذا الأخير نوع من أنواع كفرهم.(1/344)
وقد أشار المؤلف -رحمه الله- إلى تنازع الناس في وصف من تقدم من أتباع الأنبياء مثل من تقدم من أمة موسى وعيسى بالإسلام، فبعض العلماء يرى أنهم مسلمون وبعضهم يرى أنهم غير مسلمين، وقد ذكر الشيخ أنه نزاع لفظي وأن الإسلام يطلق إطلاقين: خاص وعام.
فالإسلام الخاص: هو الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، المتضمن لشريعة القرآن، فالإسلام بهذا المعنى والاعتبار ليس عليه إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو المعنى المتبادر عند الإطلاق، فإذا أطلق لفظ الإسلام اليوم فإنما ينصرف إلى هذا المعنى الخاص، كما قال تعالى: ((tPِquّ9$# أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " [المائدة:3] وحديث "بني الإسلام على خمس" الحديث.
وأما الإسلام العام: أي بمعناه العام المتمضن الاستسلام لله تعالى بعبادته وحده وإخلاص الدين له، وطاعته في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فهو يتناول شريعة كل نبي من أنبياء الله تعالى، وإسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء.
ومن شواهد إطلاق الإسلام بالمعنى العام قوله تعالى:((¨bخ) الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ قO"n=َ™M}$#" [آل عمران: 19] وقوله تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ çm÷YدB"[آل عمران: 85](1).
__________
(1) الاستقامة 2/302، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 19/111-114.(1/345)
ورأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله، وبها بعث الله جميع الرسل، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ "[النحل: 36]، وقال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا بbrك‰ç7ôم$$sù"[الأنبياء: 25]، وقال تعالى عن الخليل: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ tbqمèإ_ِچtƒ"[الزخرف: 26-28] وقال تعالى عنه: ((tA$s% أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ tûüدJn="yèّ9$#" [الشعراء: 75-77]، وقال تعالى: ((ô‰s% كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ے¼çny‰ômur"[الممتحنة: 4]، وقال تعالى: ((وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً tbrك‰t7÷èمƒ"[الزخرف: 45]، وذكر عن رسله: كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: (((#rك‰ç7ôم$# اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ے¼çnçژِچxî" [الأعراف: 59]، وقال عن أهل الكهف: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا(1/346)
شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ $\/ةx."[الكهف: 13-15].
قوله "ورأس الإسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله ..." الخ.
ذكر الشيخ أن رأس الإسلام مطلقاً -أي الإسلام العام- الذي هو دين جميع الرسل شهادة أن لا إله إلا الله، وذكر بعدها عدة آيات تفسر معناها الذي مضمونه
....................................................................................
عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت، كما قال تعالى: ((ô‰s)s9ur بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ "[النحل: 36]. فهي متضمنة للنفي والإثبات نفي عبادة ما سوى الله تعالى والبراءة من ذلك، وإثبات العبادة لله وحده كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ tbqمèإ_ِچtƒ" [الزخرف: 26-28] وكما ذكر الله تعالى عن نوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: (((#rك‰ç7ôم$# اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ے¼çnçژِچxî"[الأعراف: 59].
فشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن اعتقاداً وهو الاعتقاد بأن الله هو الإله الحق المستحق للعبادة وحده وأن كل معبود سواه باطل، كما تقتضي عملاً وهو البراءة مما يعبد من دونه، والبراءة من الشرك وأهله، وإفراده بالحب والعبادة والإخلاص، والطاعة المطلقة في أمره ونهيه.
وقد قال سبحانه وتعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ "[النساء: 48] ذكر ذلك في موضعين من كتابه.(1/347)
وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام -وأصل الشرك، الشرك بالشيطان- فقال عن النصارى: (((#ےrنsƒھB$# أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا ڑcqà2جچô±ç""[التوبة: 31] وقال تعالى: ((ّŒخ)ur قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ "[المائدة: 116-117]، وقال تعالى: (($tB كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ tbqكJخ=َ،oB"[آل عمران: 79-80]، فبيّن أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر.
قوله "وقد قال سبحانه وتعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به"..." الخ.
بعد أن ذكر الشيخ أوجب الواجبات وأعظم الحسنات هو شهادة أن لا إله إلا الله ذكر ما يضاد هذا الأصل وهو عبادة غير الله، فالشرك ضد التوحيد.(1/348)
والشرك أعظم الذنوب وأظلم الظلم كما في حديث ابن مسعود لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"(1). وكما قال تعالى:
.........................................................................................
((cخ) الشِّرْكَ لَظُلْمٌ زOٹدàtم"[لقمان: 13].
والشرك الذي يناقض أصل التوحيد والإيمان هو الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر فإنما يناقض كمال التوحيد الواجب.
فالموحد هو الذي أفرد الله تعالى بالعبادة وآمن أنه لا يستحقها غيره وكفر بما يعبد من دون الله، والمشرك هو الذي عبد مع الله غيره.
ومما يدل على عظم الشرك الأكبر خصائصه الثلاثة وهي:
1- أنه لا يغفر كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ ¾دmخ/"[النساء: 48].
2- أنه موجب للخلود في النار كما قال تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ "[المائدة: 72].
3- لا ينفع معه عمل كما قال تعالى: ((ûبُs9 أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ z`ƒخژإ£"sƒّ:$#"[الزمر:65] وقال تعالى: ((qs9ur أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا tbqè=yJ÷ètƒ" [الأنعام: 88]
وقسم العلماء الشرك الأكبر إلى أقسام:
فمنه شرك الطاعة وشرك المحبة، وشرك الدعوة والدعاء، وشرك الإرادة.
فدليل شرك الطاعة قوله تعالى:(((#ےrنsƒھB$# أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ "!$#" [التوبة: 31] وقوله: ((÷bخ)ur أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ tbqن.خژô³çRmQ"[الأنعام: 121].
ودليل شرك المحبة قوله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ "[البقرة: 165].
__________
(1) أخرجه البخاري (4/1626) كتاب التفسير، باب قول الله فلا تجعلون لله أنداداً برقم 4477، ومسلم (1/90) كتاب الإيمان برقم 86.(1/349)
....................................................................................
ودليل شرك الدعاء قوله تعالى: ((#sŒخ*sù رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ tbqن.خژô³ç""[العنكبوت: 65].
ودليل شرك الإرادة قوله تعالى: ((`tB كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا tbqè=yJ÷ètƒ"[هود: 15-16].
والشرك الأكبر بالنظر إلى المعبودين لا يمكن حصره، ولكن الشيخ هنا ذكر ما جاء منه في القرآن الكريم.
فمن ذلك الشرك في الملائكة والأنبياء والصالحين والكواكب والجن.
ومن دلائل الشرك بالأنبياء والملائكة ما ذكره الشيخ من قوله تعالى: ((ںwur يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ tbqكJخ=َ،oB"[آل عمران: 80] فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، ومن دلائل الشرك بالأنبياء آية المائدة: ((ّŒخ)ur قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ " [المائدة: 116] الآية ومن دلائل الشرك بالصالحين قوله تعالى: (((#ےrنsƒھB$# أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ "!$#"[التوبة: 31] وذلك بطاعتهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله.(1/350)
وليس معنى قوله (($\/$t/ِ'r&" أي مشاركون له في أفعاله من الخلق والملك والتدبير، بل المقصود بذلك اتخاذهم آلهة ومعبودين، فالرب يطلق في اللغة على المعبود، كما قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الأصول الثلاثة: والرب هو المعبود ومثل هذه الآية الآية الأخرى وهي قوله تعالى: ((ںwur يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ".
....................................................................................
والموجب لتفسير الأرباب بالمعبودين والآلهة أي بالشرك في توحيد الإلهية وليس بالشرك في توحيد الربوبية الموجب لذلك الواقع، كما ذكر الشيخ أنه لم يكن أحد من هؤلاء المشركين يعتقد مشاركة الأنبياء والأحبار والرهبان لله تعالى في الخلق والتدبير، بل كان شركهم في العبادة والطاعة.
ونبه الشيخ إلى أن الشرك الجامع للمشركين على اختلاف معبوداتهم هو الشرك بالشيطان، وذلك بطاعته في عبادة غير الله تعالى كما قال عز وجل: (((#râ""tFّB$#ur الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ×ûüخ7oB" [يس: 59-60].(1/351)
ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته، بل عامة المشركين بالله مقرّون بأنه ليس شريكه مثله، بل عامتهم مقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكاً أو نبياً أو كوكباً أو صنماً، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك(1) فأهلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، فقال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)(2).
وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية، الذين يقولون بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما أنها محدثة، فتكون من جملة المخلوقات له، والثاني أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور.
قوله "ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم..." الخ.
يقرر الشيخ هنا ما سبقت الإشارة إليه من أن اتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، ليس معناه جعلهم شركاء لله تعالى
....................................................................................
في ربوبيته، فلا أحد يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح ابن مريم شاركوا الله تعالى في خلق السموات والأرض.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1185.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1218.(1/352)
ولا أحد يزعم أن للعالم صانعين متكافئين في الصفات والأفعال، بل حتى المشركون الذين يعبدون غير الله عامتهم مقرون بأن معبودهم مع الله ليس مثل الله تعالى، بل يعتقدون أنه مملوك لله تعالى، سواء كان هذا المعبود نبياً أو ملكاً أو كوكباً أو صنماً(1).
ويشهد لهذا قول مشركي العرب في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". وقد عارضهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالتوحيد حيث قال: (لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول للمشركين إذا قالوا في التلبية لبيك لا شريك لك. يقول: (قد قد) -يعني يكفي يكفي-. وهذا يعني الأمر بالوقوف والاكتفاء بهذا دون ما بعده من عبارات الشرك والتناقض وهو قولهم: "إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فكيف يكون المملوك شريكاً للمالك؟!
وقد قال تعالى: ((z>uژںر لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ "[الروم: 28].
فهل يرضى أحد من الناس أن يكون مملوكه شريكه، يقاسمه، ويخافه كما يخاف الشركاء بعضهم بعضاً، ويداري بعضهم بعضاً؟
....................................................................................
فلا أحد يرضى بأن يكون هذا المملوك مشاركاً له في ملكه، فكيف يجعل العبد المخلوق مشاركاً للخالق سبحانه وتعالى؟
والمقصود أن عامة المشركين مقرّون بأن الشريك مملوك مخلوق لله تعالى، لكن قد يعتقدون أن لهذا الشريك شيئاً من التدبير أحياناً وإن كان مملوكاً، كما سيأتي التنبيه على هذا في قول القدرية، وقول عباد الكواكب الذين يعتقدون لها شيئاً من التدبير والتأثير استقلالاً.
__________
(1) درء التعارض 9/344-349، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11/51.(1/353)
فالشرك الغالب في الأمم هو الشرك في العبادة، وقد يوجد شرك في الربوبية لكنه أقل من الأول، ورغم وجود الشرك في الربوبية إلا أنه لا يصل إلى إثبات خالقين متكافئين للعالم. وإنما غاية ما وصل إليه الشرك في الربوبية اعتقاد أن بعض الموجودات خلق لغير الله: كأفعال العباد عند القدرية، وبعض المخلوقات التي يزعم عباد الكواكب أنها من صنع معبوداتهم، لكن الوجود كله راجع إلى خالق واحد.
وقد ذكر الشيخ أنه لم ينقل أحد من كتاب المقالات الذين جمعوا أقوال أهل الملل والنحل والديانات والآراء، لم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك لله تعالى في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل في الصفات، أي لم ينقلوا عن أحد إثبات خالقين متماثلين متكافئين، بل أعظم ما نقلوا من الشرك في الربوبية شرك الثنوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، وذكروا لهم في الظلمة قولين:
أحدهما: أنه محدثة وعلى هذا تكون مخلوقة من جملة المخلوقات.
....................................................................................
والقول الثاني : أنها قديمة لكنها لم تفعل إلا الشر، وعلى هذا فهي ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور.
فيكون الإله الكامل والخالق الكامل واحداً.
وبهذا يتبين أنه لم يقل أحد من مشركي العالم بوجود خالقين متكافئين متماثلين في ذاتهما وصفاتهما.(1/354)
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بيّنه في كتابه، فقال تعالى: ((ûح.s!ur سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ tbqè=دj.uqtGكJّ9$#" [الزمر: 38]، وقال تعالى: ((@è% لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى ڑcrمچysَ،è@"[المؤمنون: 84-89] إلى قوله: (($tB اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا ڑcqàےإءtƒ"[المؤمنون: 91] وقد قال تعالى: (($tBur يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ tbqن.خژô³oB"[يوسف: 106].
قوله "وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين..." الخ.
تقدم التنبيه إلى أن الشرك المشهور الظاهر في الأمم إنما هو الشرك في العبادة، فسائر الأمم مقرون بأن خالق العالم واحد، سوى ما ذهب إليه بعض الثنوية من القول بالأصلين، على ما بينهم من تفاوت في ذلك.(1/355)
يوضح هذا أن الله تعالى أخبر عن المشركين في كتابه أنهم يقرون بربوبيته تعالى كما في قوله: ((ûح.s!ur سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ " الآية، وقوله تعالى: ((@è% لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا
....................................................................................
ڑcrمچ©.xs?"[المؤمنون: 84-85] الآيات، وهذا من الاحتجاج بتوحيد الربوبية الذي أثبتوه على توحيد الإلهية الذي أنكروه، لأن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد العبادة.
فالمشركون يؤمنون بتوحيد الربوبية ويشركون بتوحيد الألوهية، فجمعوا بين الإيمان والشرك كما قال تعالى: (($tBur يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ tbqن.خژô³oB"[يوسف: 106]. ومن المعلوم أن الإيمان بتوحيد الربوبية فقط دون الألوهية لا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام ولا نجاته من النار.
فالإيمان بتوحيد الربوبية من الإيمان المطلوب شرعاً، ولكن لا يكون به وحده الشخص مسلماً(1).
وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر -غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع.
__________
(1) درء التعارض 1/226-227.(1/356)
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بُعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أولاً- لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.
قوله "وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط..." الخ.
يقول الشيخ بعدما تقدم تقريره وبيانه: يتبين ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد عند أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، حيث جعلوا التوحيد ثلاثة أنواع وعبروا عنها بما يلي:
إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، فمن أقر بهذه الأنواع الثلاثة فقد أتى بكل التوحيد عندهم.
وأشهر هذه الأنواع عندهم من حيث بحثه وتقريره هو النوع الثالث المسمى بتوحيد الأفعال، والذي معناه أن خالق العالم واحد، والمقصود به توحيد الربوبية.
ويحتج أهل الكلام على توحيد الأفعال عندهم الذي هو توحيد الربوبية بدليل التمانع وصورته كما يلي:
....................................................................................
لو كان للعالم خالقان فاختلفا بأن أراد أحدهما تحريك جسم، وأراد الآخر سكونه فلا يخلو الأمر من أحد ثلاثة أحوال:
إما أن ينفذ مرادهما وهذا ممتنع لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين.
وإما ألا ينفذ مرادهما وهذا ممتنع لأنه يستلزم رفع النقيضين وعجز كل منهما.
أو ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، وحينئذ فلا يكونان متماثلين بل يكون الرب هو الذي نفذ مراده، والآخر عاجزاً لا يصلح أن يكون رباً.
ودليل التمانع دليل عقلي صحيح، ولكن من خطأ أهل الكلام فيه أن فسروا به قول الله تعالى: ((ِqs9 كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا "[الأنبياء: 22]، وهذا غير صحيح لأن الآية في توحيد الإلهية، وهي تدل على امتناع تعدد الإله المعبود، وهو يستلزم امتناع تعدد الخالق.(1/357)
ومثل هذه الآية قوله تعالى: (($tB اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا ڑcqàےإءtƒ"[المؤمنون: 91].
أي لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق؛ لأنه من شأن الإله أن يكون له خلق وأن تكون قدرته نافذة، وقال: ((ںxyès9ur بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ "[المؤمنون: 91] لأن من شأن القادر أن يكون له العلو والرفعة على من سواه.
وعلى أحد التفسيرين قوله تعالى: ((@è% لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ Wxخ7y™"[الإسراء: 42] أي سبيلاً إلى مغالبته(1).
....................................................................................
فكل هذه الآيات تدل على أنه لا يمكن أن يوجد إله حق غير الله؛ لأنه لو فرض وجود إله آخر حق لفسدت السموات والأرض.
وهذا التوحيد الثالث عند أهل الكلام الذي يسمونه توحيد الأفعال وهو أن خالق العالم واحد، هذا حق، وإنما غلط أهل الكلام فيه من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: ظنهم أنه هو التوحيد المطلوب من المكلفين، والمقصود بدعوة الرسل. والحق أن هذا التوحيد مطلوب، لكن ليس هو كل التوحيد، ولا يكفي لدخول صاحبه في الإسلام، والرسل دعت إليه كما دعت إلى توحيد العبادة، لكن المقصود الأول هو الدعوة إلى توحيد العبادة.
الثاني: ظنهم أن هذا التوحيد هو معنى لا إله إلا الله، وفسروا الإلهية بالقدرة على الاختراع. وهذا غلط، فتوحيد الربوبية وكون الله تعالى هو الخالق، وإن كان هو من معنى لا إله إلا الله وهي تدل عليه بطريق التضمن، إلا أن معناها الصحيح لا معبود بحق إلا الله، فهي تفسر بتوحيد الإلهية والعبادة، لا بتوحيد الربوبية.
__________
(1) درء التعارض 1/226-228، 9/350-378، اقتضاء الصراط المستقيم 2/845-846، منهاج السنة 2/181-182.(1/358)
الثالث: أنهم لما جعلوا توحيد الأفعال الغاية العظمى والمقصود الأول من دعوة الرسل، أهملوا ذكر توحيد العبادة فلا يبحثون فيه ولا يتكلمون عنه في عقائدهم.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بما يسميه أهل الكلام بتوحيد الأفعال، فهم يقرون بأن الله تعالى خالق كل شيء كما أنهم مقرون بالقدر، وهم مع هذا مشركون.
....................................................................................
فلو كان معنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله، كما يقرره أهل الكلام، لكان المشركون موحدين، لأنهم مقرون بأن الله تعالى هو الخالق وحده. ولو كان الأمر كما يزعم أهل الكلام من معنى لا إله إلا الله لما امتنع المشركون من قولها لما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليها؛ لأنهم مقرون بألا خالق إلا الله تعالى.
وقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خالقو أفعالهم.
وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنية عن الخالق، مشاركة له في الخلق.
فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطِّل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون(1)، والكلام الآن مع المشركين بالله المقرِّين بوجوده، فإذاً هذا التوحد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون، بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام.
قوله "وقد تبين أن ليس في العالم من ينازع ..." الخ.
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/333-337.(1/359)
يذكر الشيخ هنا أنه ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، أي: ليس هناك من ينازع أن ليس للعالم خالقين متكافئين، فهو وإن وجد شرك في الربوبية لكنه لا يصل إلى درجة اعتقاد خالقين متكافئين، أو إثبات مثيل مشارك لله تعالى في خلق السموات والأرض.
نعم هناك من يجعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله كما عند القدرية المعتزلة نفاة القدر، الذين يجعلون أفعال العباد مخلوقة لهم.
....................................................................................
فهم أخرجوا أفعال العباد من خلق الله تعالى ومشيئته وملكه فأخرجوا بعض الموجودات من ملك الله وخلقه، وهذه صورة من صور الشرك في الربوبية، ولكن هؤلاء القدرية مع قولهم هذا فإنهم يقرون بأن الله تعالى خالق العباد، وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم.
أما أهل السنة والجماعة فيقرون أن الله تعالى خالق العباد وخالق قدرتهم وأفعالهم.
ومن صور الشرك في الربوبية، ما يزعمه أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور ومؤثرة استقلالاً، كما يجعلون الأسباب مؤثرة بنفسها: كاعتقادهم أن النار محرقة استقلالاً، وكما يعتقد أهل النجوم بتأثير الكواكب في الحوادث الأرضية. فكل هؤلاء وقعوا في الشرك في الربوبية، حيث جعلوا بعض الموجودات خلقاً لغير الله. ولكنهم لم يصلوا إلى اعتقاد خالقين متكافئين.
فتقرير أهل الكلام لتوحيد الربوبية الذي يسمونه توحيد الأفعال، أي: اعتقاد أن خالق العالم واحد، لا يصلح أن يرد به على المشركين في توحيد العبادة؛ لأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، ومنه تفرد الله تعالى بالخلق، كما لا يصلح أن يرد به على الجاحد المعطل للخالق لأن هذا الملحد يدعي عدم وجود خالق أصلاً لا واحداً ولا أكثر من ذلك.
وهذا معنى قول الشيخ "فأما من أنكر الصانع فذلك جاحد معطل..." إلخ.(1/360)
وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته، فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته سواء قال: إنه مشاركه، أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبّهه به في بعض الأمور.
وقد عُلم بالعقل امتناع أن يكون له مثلٌ في المخلوقات، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودَين قائمين بأنفسهما فلا بدّ بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك، وأن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابدّ من إثبات خصائص الربوبية. وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله "وكذلك النوع الثاني وهو قولهم ..." الخ.
تكلم الشيخ هنا عن النوع الثاني من أنواع التوحيد عند أهل الكلام، وهو قولهم: إن الله تعالى واحد في صفاته لا شبيه له. وهذا الكلام في ظاهره صحيح، ولو قال ذلك واحد من أهل السنة والجماعة لسلم له، ولكن أهل الكلام صاروا يستعملون ألفاظاً فيها إجمال ويدخلون فيها معاني باطلة، ولذا وجب الحذر والاستفصال عن مرادهم بالألفاظ التي يطلقونها، فيثبت الحق وينفى الباطل.
والكلام هنا يشبه ما سبق في مطلع القاعدة السادسة.
فيقال: إن قولهم بأن الله تعالى لا شبيه له، إن أرادوا المماثلة وهي المساواة من جميع الوجوه فهذا النفي حق، لكن لا يوجد في الأمم من أثبت لله تعالى مماثلاً له في ذاته وصفاته، وعلى هذا يمكن أن يقال إن هذا النفي لا فائدة منه، لعدم وجود قائل به أصلاً.
....................................................................................(1/361)
وقد يراد بنفي الشبيه نفي المشارك لله تعالى في شيء من خصائصه مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، وهذا حق، وهو معلوم بضرورة العقل امتناعه، إذ لو جازت هذه المشابهة لجاز أن يوصف المخلوق بصفات الخالق من نحو وجوب الوجود والغنى، ولجاز أن يوصف الخالق بصفات المخلوق من نحو الافتقار والفناء ونحو ذلك، وهذا باطل.
نعم، قد يوجد من يشبه بعض المخلوقات بالله في بعض الأمور كما ينسب المشركون الإلهية لمعبوداتهم، والإلهية من خصائص الله تعالى، وكذلك من ينسب علم الغيب لبعض الخلق، وكذا من ينسب بعض القدرة للخلق وهي لا تصلح إلا لله تعالى، ويحتمل أن يراد بنفي الشبيه، نفي الاتفاق والمشاركة بين الخالق والمخلوق بوجه من الوجوه، وتقدم أن هذا المعنى ممتنع نفيه؛ إذ ما من شيئين موجودين قائمين بأنفسهما إلا وبينهما اتفاق من وجه واختلاف من وجه، وتعطيل هذا القدر المشترك يلزم منه التعطيل المحض.
وتبين من ذلك أن قول أهل الكلام: إن الله تعالى واحد في صفاته لا شبيه له يحتمل حقاً وباطلاً.
ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو إنه يُرى في الآخرة، أو إن القرآن كلام الله منزّل غير مخلوق -يقولون: إنه مشبِّه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الجهمية والفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا: من قال: إن الله عليم قدير عزيز حكيم، فهو مشبِّه ليس بموحد.
وزاد غلاة الغلاة، وقالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات؛ لأن في كل منهما تشبيهاً له.
وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبّهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فراراً من تشبيههم -بزعمهم- له بالأحياء.(1/362)
ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً، وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك. فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون نفوسهم الموحِّدين.
قوله "ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم..." الخ.
تقدم أن أهل الكلام أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد بحجة نفي التشبيه، وحملة راية هذه البدعة هم المعتزلة؛ إذ إن من أصولهم الخمسة التوحيد الذي أدرجوا فيه نفي الصفات، وسموا أنفسهم موحدين، لذلك سموا من يثبت الصفات مشبهاً.
....................................................................................
فمن قال: إن لله تعالى علماً أو قدرة أو إنه يرى في الآخرة، أو إن القرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، من قال ذلك صار عند المعتزلة مشبهاً غير موحد.
وزاد عليهم غلاة الجهمية والفلاسفة والقرامطة، فنفوا أسماء الله تعالى الحسنى، فمن قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم صار عندهم مشبها ًغير موحد، فالمعتزلة عند هؤلاء مشبهة؛ لأنهم يثبتون لله تعالى الأسماء الحسنى.
وزاد عليهم غلاة الغلاة من الباطنية، وهم الذين وصفوا الله تعالى بسلب النقيضين فقالوا: إنه لا يوصف بالنفي ولا الإثبات؛ لأن في كل منهما تشبيهاً له، فالنفي تشبيه له بالمعدومات، والإثبات تشبيه له بالموجودات. فغلاة الجهمية عند هؤلاء ونحوهم الذين يصفون الله تعالى بالسلوب مشبهة لأنهم شبهوه بالمعدومات.(1/363)
ثم يقرر الشيخ أن هؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم لما فروا من تشبيه الله تعالى بالأحياء -بزعمهم- وقعوا في تشبيهه بالممتنعات -كما عند غلاة الغلاة -وبالمعدومات- كما عند غلاة الجهمية ونحوهم، -وبالجمادات- كما عند المعتزلة ونحوهم-.
فالتشبيه بالأحياء خير من التشبيه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات، وهذا على فرض أن إثبات الصفات يلزم منه التشبيه بالأحياء، والحق أن ذلك غير لازم؛ لأن صفات الله تعالى تثبت له على وجه يختص به ويناسبه ويليق به لا على نحو ما تثبت للمخلوق.
....................................................................................
فإذا كان وجود الله تعالى على وجه يختص به ويليق به ليس كوجود المخلوق، فكذلك علمه تعالى وحياته وقدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ثابتة له على الوجه اللائق به، ((}ّٹs9 كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "[الشورى: 11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
ومن الدليل على ذلك ما سبق تقريره في الأصل الثاني، وهو أن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أنه ليس في إثبات ذاته سبحانه إثبات مماثلة بذوات خلقه، فكذلك ليس في إثبات الصفات له إثبات مماثلة له بصفات خلقه.
وكذلك النوع الثالث، وهو قولهم: هو واحد لا قسيم له في ذاته، أو لا جزء له، أو لا بعض له -لفظ مجمل، فإن الله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع أن يتفرق، أو يتجزأ، أو يكون قد رُكِّب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد.
قوله "وكذلك النوع الثالث وهو قولهم: هو واحد لا قسيم له في ذاته..." الخ.
ذكر الشيخ هنا النوع الثالث من أنواع التوحيد عند أهل الكلام، وهو ثالث باعتبار الشرع له، وإلا فقد ذكره الشيخ أولاً عند ذكر أنواع التوحيد إجمالاً.(1/364)
وهو توحيد الذات، ويعبرون عنه بقولهم: إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، أو لا جزء له، أو لا بعض له(1). وهذا اللفظ مجمل يحتمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً.
فالمعنى الصحيح الذي يحتمله هذا اللفظ هو أن الله تعالى ليس مركباً من أجزاء، فلا يتجزأ، ولا يتبعض، بل هو أحد صمد، والصمد يتضمن عدم التجزؤ، ولذا كان الولد ينافي الصمدية؛ لأن الولد جزء من الوالد.
والمعنى الباطل الذي صار يحتمله اللفظ: هو ما أدخلوه فيه من نفي علو الله تعالى على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، فيدخلون هذه المعاني الباطلة في هذا اللفظ، ويجعلون ذلك من التوحيد.
....................................................................................
وقد ذكر الشيخ أنهم يدخلون نفي العلو في مفهوم عدم التجزؤ والتبعض، فيرون أن وحدة الذات تقتضي نفي العلو.
والواقع أن دخول نفي العلو في مسألة التجزؤ والتبعض غير واضح، فما المانع من إثبات العلو والقول بعدم التجزؤ والتبعض؟ فلو جعلوا نفي التجزؤ والتبعض أصلاً لنفي الوجه واليدين مثلاً لكان محتملاً؛ لأنهم إذا قالوا: إن الله تعالى منزه عن الأبعاض -وهذا من التعبيرات البدعية المجملة كما سبق- فإنهم يقصدون من ذلك نفي الوجه واليدين لأنها عندهم أبعاض.
فالإشكال هنا في جعل نفي العلو على العرش مندرجاً في قول الأشاعرة: إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، ولا جزء، ولا بعض له، فهذا غير ظاهر.
والذي يرفع هذا الإشكال أنّ نفيهم للعلو مبني على نفي الجسمية، فالجسم عندهم مركب، وكونه واحد في ذاته لا قسيم له ولا جزء ولا بعض، يتضمن نفي الجسمية، والعلو يستلزم التجسيم، فامتناع الجسم على الله تعالى يلزم منه امتناع العلو.
فأنواع التوحيد الثلاثة عند الأشاعرة فيها حق وباطل.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 17/449.(1/365)
فإثبات أن الله تعالى واحد في أفعاله حق، ونفي أن يكون له شريك يشاركه في أفعاله حق، ونفي أن يكون تعالى متجزئاً أو متبعضاً حق.
لكن إدخال نفي الصفات في مسمى التوحيد باطل، وكذا اعتقاد أن توحيد الربوبية هو التوحيد المطلوب فقط، واعتقاد أن توحيد الربوبية هو معنى لا إله إلا الله باطل، وكذا تفسيرهم الإله بأنه القادر على الاختراع باطل، وكذا إغفالهم توحيد العبادة باطل.
فقد تبين أن ما يسمونه توحيداً فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقاً، فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا فيه من الشرك الذي وصفهم الله به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل لا بدّ أن يعترفوا بأنه لا إله إلا الله.
وليس المراد بـ الإله هو القادر على الاختراع، كما ظنّه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أنه لا إله إلا هو، فإن المشركين كانوا يقرُّون بهذا وهم مشركون، كما تقدم بيانه. بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يُعبّد فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آله. والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهاً آخر.
قوله "فقد تبين أن ما يسمونه توحيداً فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل..." الخ.
بعد أن ذكر الشيخ أقسام التوحيد عند أهل الكلام ومناقشتها وما فيها من حق وباطل، بين الشيخ أنه لو كان جميع ما ذكره أهل الكلام من أنواع التوحيد حقاً، وأقر به المشركون لم يخرجوا بذلك من الشرك الذي وصفهم الله تعالى به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: ((#qè=çGّ%$$sù الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ ¨@à2"[التوبة: 5].(1/366)
فلا يحرجون من الشرك إلا بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، والابتعاد عن الشرك الذي هو اتخاذ إله آخر مع الله تعالى .
....................................................................................
والإله في اللغة العربية هو المألوه أي: المعبود: اسم مفعول وليس معناه آله اسم فاعل، فالإلهية استحقاق العبادة، وليست القدرة على الاختراع(1).
فمعنى لا إله إلا الله عند أهل الكلام: لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا هو توحيد الربوبية، توحيد الأفعال، فعند أهل الكلام أن من أقر بأن الله تعالى هو القادر على الاختراع فقد شهد أنه لا إله إلا الله.
ومن المعلوم أن المشركين كانوا يقرون بهذا، ولم يخرجهم إقرارهم بهذا عن كونهم مشركين.
وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة، إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرّين بذلك مع أنهم مشركون -فكذلك طوائف من أهل التصوف، المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل. فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله أو من سادات الأولياء.
قوله "وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار..." الخ.
هذا شروع في ذكر مقارنات بين بعض الطوائف؛ طوائف المتكلمين والمتصوفة.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/202.(1/367)
وقد علم مما تقدم أن غاية ما يقرره أهل الكلام ومنهم المثبتون للقدر المنتسبون للسنة -وهم الأشاعرة-، غاية ما يقررونه من التوحيد، توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، فإن غاية ما عندهم من تحقيق التوحيد، إنما هو توحيد الربوبية، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، ومن المعلوم أن الرجل لا يصير بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله، أو من سادات الأولياء.
....................................................................................
فالغاية عند هؤلاء الصوفية، الفناء في توحيد الربوبية، فيفنى العارف ويغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، وبمعبوده عن عبادته، بحيث يفنى من لم يكن -وهو المخلوق-، ويبقى من لم يزل -وهو الخالق-، وليس المراد بالفناء عندهم فناء حقيقة وجود المخلوقات عن الوجود، وإنما المراد: فناؤها عن الشعور(1).
فيفنى العارف بمشهوده -أي: بربه، والضمير هنا يرجع للعبد- عن شهوده، أي: عن مشاهدته له، والضمير هنا في الصدر يصلح أن يرجع للرب ويصلح أن يرجع للعبد، وهو أحسن، فيغيب بمشهوده ومذكوره ومعروفه وموجوده، أي: بربه عن كل شيء حتى عن نفسه ومعرفته وذكره لربه وعبادته، فلا يشعر بشيء من ذلك.
وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقرون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المبائن لمخلوقاته.
وآخرون يضمّون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا. وهذا شرّ من حال كثير من المشركين.
وكان جهم ينفي الصفات، ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه، لكنّ جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/199.(1/368)
قوله "وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقرون..." الخ.
يذكر الشيخ هنا أن من الصوفية من يقرّ بتوحيد الربوبية مع إثبات الصفات، فهم مع فنائهم في توحيد الربوبية أثبتوا الخالق للعالم المبائن لمخلوقاته.
ومن الصوفية من يضم إلى فنائه في توحيد الربوبية واقتصاره عليه يضم إلى ذلك نفي الصفات، وهذا يشبه ما عليه المعتزلة. ويقرر الشيخ أن هؤلاء شر من حال كثير من المشركين؛ لأن المشركين كانوا يثبتون في الجملة صفات الله تعالى، وهؤلاء نفوا الصفات وجعلوا التوحيد هو توحيد الربوبية، وهذا هو تحقيق قول جهم بن صفوان، فإنه كان ينفي الصفات ويقول بالجبر وشهود الربوبية فقط.
وجهم بن صفوان إمام أهل التعطيل، وقد اشتهر عنه ثلاث بدع:
1- بدعة التعطيل في الأسماء والصفات.
2- بدعة الجبر في باب القدر، وهو من مقتضيات غلوه في توحيد الربوبية(1).
....................................................................................
3- بدعة الإرجاء في باب الإيمان فالإيمان عنده هو المعرفة فقط(2).
فجهم شر من المشركين من حيث نفيه للصفات، لكنه يفارقهم ويكون أحسن منهم من حيث إثباته للأمر والنهي والثواب والعقاب والرسالات والمعاد، ثم إن قوله بالإرجاء، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة، هذا القول يضعف قوله وتقريره للأمر والنهي والثواب والعقاب.
والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان، مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات.
والكُلاَّبية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/11-120، 129-132، 393-397.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 7/194-195.(1/369)
والكلابية: هم أتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كُلاَّب، الذي سلك الأشعري خلفه، وأصحاب ابن كلاب، كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما -خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل.
قوله "والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم..." الخ.
ثم يذكر الشيخ بعض الموازانات العامة بين بعض فرق أهل الكلام في مسائل القدر والإيمان والصفات ومسائل الأسماء والأحكام.
فالنجارية والضرارية يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان، كما يقاربونه في نفي الصفات وتعطيلها.
أما الكلابية والأشعرية فهم وإن كانوا خيراً من النجارية والضرارية في باب الصفات لإثباتهم الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، إلا أن أقوالهم في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام مقاربة لأقوال الجهمية والنجارية والضرارية، فعندهم جبر وإرجاء.
....................................................................................
فالأشاعرة يقولون: إن أفعال العباد مخلوقه لله وهي كسب للعبد، فهم يتحاشون أن تكون فعلاً للعبد؛ لأن الفعل عندهم هو المفعول فهي أفعال لله -وليس عندهم فرق بين الفعل والمفعول- وهي كسب للعبد، وقد قال بعض العلماء: إن كسب الأشعري لا حقيقة له، لأنهم يقولون إنه لا أثر لقدرة العبد في فعله، والكسب عندهم مقارنة الفعل للقدرة الحادثة، فهم منكرون للأسباب، ولهذا فإن حقيقة قولهم إنكار قدرة العبد ومشيئته واختياره، وهذا هو قول جهم، إلا أن جهماً صرح بنفي ذلك مطلقاً والأشاعرة لم يصرحوا بذلك بل حاولوا التوفيق والتلفيق بين الحق والباطل.
وبين الشيخ أن الأشعري سلك مسلك عبدالله بن سعيد بن كلاب.(1/370)
ثم يقارن بين أصحاب ابن كلاب والأشعرية فيذكر أن أصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا، وهذا أي في باب الصفات وباب القدر ومسائل الأسماء والأحكام، فالشيخ يفضلهم على الأشاعرة في ذلك(1).
وهذا الأسلوب من المقارنة يرجع إلى ما أمر الله به من العدل في الحكم كما قال تعالى: ((#sŒخ)ur قُلْتُمْ (#qن9د‰ôم$$sù"[الأنعام: 152].
فالكفار وإن اشتركوا في الحكم فلا يقال: إنهم في الكفر سواء، بل إن بعض الكفار أكفر من بعض، وحكم الله تعالى الشرعي والجزائي قائم على هذا، فالواجب إنزال كل أحد منزله في الخير والشر.
....................................................................................
وهكذا المبتدعة، فهذه الطوائف لما ابتدعت بدعاً، وجب معرفة ما بينهم من تفاوت في تلك البدع، فبعضهم أقرب إلى الحق من بعض، فمن يثبت بعض الصفات خير ممن ينفي كل الصفات، ومن ينفي الصفات ويثبت الأسماء خير ممن ينكر الأسماء والصفات.
ويذكر الشيخ معياراً للخيرية والعلو والفضيلة في الأفراد والطوائف فيقول: كلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل، والعكس بالعكس فكلما كانت أقوال الشخص وأحواله أبعد عن منهج السلف كان بضد ذلك أبعد عن الصواب.
وهذا ينبهنا إلى أصل عظيم وهو اعتبار الصحابة رضي الله عنهم القدوة في جملتهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم قاموا بالإسلام بأقوالهم وأفعالهم، فإن اتفقوا، فقولهم حجة، وإن اختلفوا فهم متفاضلون، ويعرف الصواب من أقوالهم بعرضها على الكتاب والسنة، وإذا لم يتبين، فيرجح بينهم، فقول الخلفاء الراشدين مقدم على غيرهم.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6/520-521.(1/371)
والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم. وأما في الصفات والقدر، والوعد والوعيد، فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة.
قوله "والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر..." الخ.
قول الكرامية في الإيمان: إنه إقرار باللسان فقط قال فيه الشيخ إنه: "قول منكر لم يسبقهم إليه أحد".
فالمنافق عند الكرامية مؤمن كامل الإيمان؛ لإقراره بلسانه وإن كان في الدرك الأسفل من النار، فهم خالفوا الجماعة في اسم المنافق دون حكمه الجزائي الأخروي(1).
والحق أن المنافق يسمى في الشرع منافقاً لا مؤمناً كما قال تعالى: ((z>ةjyèمدj9 اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ " [الأحزاب: 73] فلو كان المنافق مؤمناً لدخل في قوله: ((z>qçGtƒur اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ "، وهكذا سائر الآيات التي تذكر أهل الإيمان. فقول من يقول: إن الإيمان هو التصديق خير منهم في ذلك.
ثم يذكر الشيخ أن أقوالهم في الصفات والقدر والوعد والوعيد أحسن من سائر الطوائف الكلامية التي خالفت أهل السنة والجماعة.
....................................................................................
ففي الصفات نجدهم يثبتونها، ولكنهم يطلقون على الله تعالى لفظ الجسم، وفي صفة الكلام نجدهم يقولون: إن الله تعالى يتكلم بمشيئته، ولكنهم يقولون إنه حدث له الكلام، فهم على ما عندهم من ذلك خير ممن ينفي الصفات، وهكذا في بقية الأبواب.
__________
(1) مجموع الفتاوى 8/140-141، 475-476.(1/372)
وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغلوا فيه، فهم يكذِّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب.
والإقرار بالأمر والنهي، و الوعد والوعيد، مع إنكار القدر، خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكان قد نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة.
قوله "وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات..." الخ.
يعقد الشيخ هنا موازنة بين المعتزلة والجهمية في ثلاثة أشياء؛ في الصفات، والقدر، والوعد والوعيد.
فأما في الصفات فهم مقاربون للجهمية، حيث إن المعتزلة تنفي الصفات وجهماً ينفي الأسماء والصفات.
وأما في القدر فهم متناقضون، فجهم يغلو في إثبات القدر إلى حد الجبر والمعتزلة ينفون القدر، ففيهم نوع شرك وذلك بإخراجهم أفعال العباد عن خلق الله وجعلهم العبد يخلق فعله بنفسه.
والمعتزلة يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد إلى حد الغلو في ذلك، حيث قالوا بإخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، وبتخليده في النار.
وأما جهم فإنه قال: إن الإيمان هو المعرفة، ولا يضر مع الإيمان ذنب. فالمعتزلة وعيدية، والجهمية مرجئة.
....................................................................................(1/373)
وبعد هذه المقارنة يبين الشيخ أن المعتزلة على قبح قولهم خير من الجهمية، فإن الإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد -مع إنكار القدر- خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي، والوعد والوعيد(1)؛ لأن هذا الأخير يؤدي إلى فساد الدين والدنيا، وعدم استقرار أمور الفرد والجماعة. فبدعة الجبر والإرجاء أقبح وأظهر فساداً من بدعة إنكار القدر والقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار.
ومن آثار هذا التفاوت بين الطائفتين أن إنكار الأمر والنهي والقول بالإرجاء والجبر لم يظهر في عهد الصحابة، وإنما ظهرت بدايتها في القرن الثاني، بخلاف التكذيب بالقدر فقد ظهر في زمن الصحابة، وكذلك بدعة التكفير بالمعاصي ظهرت في عهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وهذا يدل على أن بدعة التكذيب بالقدر، والقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار أخف وأخفى من بدعة الجبر والإرجاء وإنكار الأمر والنهي.
ويذكر الشيخ لهذا قاعدة وهي: إنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخف وأخفى، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة. فالبدع الكبيرة الظاهرة لا تأتي إلا بعد أن تسبقها بدع أصغر منها وأخفى(2).
فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية، مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبَّهون بالمجوس، وهؤلاء يشبَّهون بالمشركين الذين قالوا: ((ِqs9 شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ "[الأنعام: 148]، والمشركون شر من المجوس.
قوله "فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية..." الخ.
بعد أن ذكر الشيخ موازنة بين القدرية والجبرية، بيّن أن غلاة المتصوفة يشهدون الحقيقة الكونية، أي: يشهدون أن الله تعالى رب كل شيء، ومليكه، وخالق كل شيء، ويعرضون عن الأمر والنهي، فهم قائلون بالجبر والإرجاء أي: إنهم سالكون مسلك جهم.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/100.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/489.(1/374)
فهؤلاء شر من القدرية المعتزلة، فإن القدرية المعتزلة يشبهون بالمجوس؛ لأنهم جعلوا العبد يخلق فعل نفسه. فجعلوا خالقاً مع الله، وهؤلاء الصوفية المرجئة الجبرية يشبهون بالمشركين الذين قالوا: ((ِqs9 شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ "[الأنعام: 148]، والمشركون شر من المجوس.
وهذا تأكيد لما سبق من قول الشيخ: إن الإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد.
ومما يبين أن المشركين شر من المجوس في الحكم جواز أخذ الجزية من المجوس؛ لأنهم مشبهون بأهل الكتاب كما في الحديث: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)(1)، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزية من مجوس هجر(2). أما المشركون الوثنيون فلا تؤخذ منهم الجزية على قول جمهور أهل العلم.
فهذا أصل عظيم، على المسلم أن يعرفه، فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين، أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة، فإقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلابد من الكلام في هذين الأصلين.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس برقم 617، ص 217.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب برقم 3157.(1/375)
الأصل الأول: توحيد الإلهية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين -كما تقدم- بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى، قال تعالى: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا ڑcqن.خژô³ç""[يونس: 18]، فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء الشفعاء مشركون، وقال تعالى عن مؤمن يس: ((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا بrنة)Zمƒ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
....................................................................................(1/376)
بbqمèyJَ™$$sù"[يس: 20-25]، وقال تعالى: (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ tbqكJمم÷"s?"[الأنعام: 94]، (فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء)، وقال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ ڑcqمèy_ِچè?"[الزمر: 43-44]، وقال تعالى: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا ?ىدےx©"[السجدة: 4]، وقال تعالى: ((ِ'ةRr&ur بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا سىدےx©"[الأنعام: 51].(1/377)
وقد قال تعالى: ((`tB ذَا الَّذِي يَشْفَعُ ے¼çny‰Yدم"[البقرة: 255]، وقال تعالى: (((#qن9$s%ur اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ tbqà)دےô±مB"[الأنبياء: 26-28]، وقال تعالى: ((/x.ur مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ #سyجِچtƒur"[النجم: 26]، وقال تعالى: ((ب@è% ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ ¼çms9"[سبأ: 22-23].
....................................................................................
وقد قال تعالى: ((ب@è% ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ #Y'rنّtxC"[الإسراء: 56-57]، قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون عزيراً والمسيح والملائكة، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيّن فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه.
قوله " فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه..." الخ.(1/378)
يذكر الشيخ هنا أصل الإسلام وأساسه الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة، أي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وبمخالفة شهادة التوحيد يقع الإنسان في الشرك، وبالإخلال بشهادة الرسالة يقع في البدعة.
وكثير من الناس أخل بتحقيق هذين الأصلين أو أحدهما، وهو يظن أنه قد حققهما كمن يقف عند شهود الحقيقة الكونية والإقرار بتوحيد الربوبية.
وهذا في الحقيقة لا ينجيه من عذاب الله تعالى إذا لم يقترن به شهادة ألا إله إلا الله واعتقاد أنه لا يستحق العبادة أحد سواه، وشهادة أن محمداً رسول الله بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
ثم يفصل الشيخ في هذين الأصلين:
الأصل الأول: توحيد الإلهية، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم اتخذوا وسائط بينهم وبين الله تعالى يدعونهم، ويستشفعون بهم من دون الله
....................................................................................
تعالى، كما قال عز وجل: ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا ڑcqن.خژô³ç""[يونس: 18].
فأخبر الله تعالى أن المشركين لم يعبدوا ما عبدوا معتقدين أنهم ينفعون أو يضرون أو يملكون أو يدبرون، وإنما عبدوهم على أنهم شفعاء ووسائط بينهم وبين الله تعالى.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله جملة من الآيات المبينة لحقيقة ما يثبت وما ينفي من الشفاعة.
فأبطل الشفاعة التي يظنها المشركون لآلهتهم، وأثبت الشفاعة التي تكون بإذنه ورضاه.(1/379)
فأما الشفاعة التي يظنها المشركون لآلهتهم فهي كشفاعة المخلوق عند المخلوق، حيث تكون بغير إذنه ولا رضاه، بل قد يقبل المشفوع عنده الشفاعة مضطراً؛ لأنه يرجو أو يخاف الشافع. أما الله تعالى فإن الملك كله له، فلا أحد يشفع إلا من بعد إذنه ورضاه، ولهذا يأتي الكلام في اتخاذ المشركين لهم شفعاء مربوطاً بتفرده تعالى بالملك، كما قال عز وجل: ((دQr& اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ ڑcqمèy_ِچè?"[الزمر: 43-44] وقوله تعالى: ((لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ "[البقرة: 255].
....................................................................................
فأبطل تعالى ما ظنه المشركون من الشفاعة كما قال: (($tB لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ ني$sـمƒ"[غافر: 18] وقال: (($yJsù تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ tûüدèد
9$#"[المدثر: 48].
والشفاعة المثبتة هي التي تكون بإذن الله سبحانه للشافع أن يشفع وهم أولياء الله، وتكون لمن رضي عنه وهم أهل التوحيد، كما في حديث: "من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"(1) وكما قال
تعالى: ((ںwur يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ 4س|سs?ِ'$#"[الأنبياء: 28] وقال تعالى: ((/x.ur مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ #سyجِچtƒur"[النجم: 26].
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث برقم 99.(1/380)
وقد دلت هذه الآيات التي ذكرها المؤلف رحمه الله على أن هؤلاء الذين عبدوا ما عبدوا زاعمين أنهم يشفعون لهم أنهم مشركون كما في آية يونس: قال تعالى: (( ... crك‰ç7÷ètƒur مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا ... cqن.خژô³ç"" [يونس: 18]. فالله تعالى لا يعلم أحداً يشفع عنده بغير إذنه، ولا أحداً يكون له شريكاً، أي: لا يوجد شيء من ذلك فهؤلاء شركاء في الزعم والادعاء وليسوا شركاء على الحقيقة، كما قال تعالى: ((ô‰s)s9ur جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ tbqكJمم÷"s?"[الأنعام: 94].
فمن زعم إلهاً مع الله فهو أعظم الناس إفكاً وكفراً. ومن اتخذ شفعاء ووسطاء
....................................................................................
بينه وبين الله يدعوهم فقد أشرك شركاً يناقض شهادة ألا إله إلا الله ويناقض التوحيد الذي هو أصل دين الرسل.
وهذا من بيان الشيء بضده، فبمعرفة الشرك يعرف التوحيد، والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء.
وكثير ممن عاش في الكفر يكون أعرف بكمال الإسلام ومحاسنه ممن ولد في الإسلام وعافاه الله من ظلمات الكفر.
فالصحابة رضي الله عنهم مع أن أكثرهم عاش في الكفر والشرك، هم أكمل الناس إيماناً، وهم أعرف الناس بسوء الكفر وقبح الجاهلية. وفي أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: "إنما ينقض الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".(1/381)
ومعرفة الجاهلية قد تكون بالعيش فيها قبل الدخول في الإسلام وقد تكون بالتعلم.
ومن تحقيق التوحيد أن يُعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى، قال تعالى: ((w تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا Zwrنّƒ
[الإسراء: 22]، وقال تعالى: ((!$¯Rخ) أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ "[الزمر: 2-3]، وقال تعالى: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ tûïدe$!$#"[الزمر: 11]، وقال تعالى: ((ِ@è% أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ tûïجچإ
9$#" [الزمر: 64-66] وكل من أرسل من الرسل يقول لقومه: (((#rك‰ç6ôم$# اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ "[هود: 50].
قوله "ومن تحقيق التوحيد أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقا ..." الخ.
يذكر الشيخ أن مما يوضح تحقيق التوحيد أن يعلم أن لله تعالى حقاً على عباده لا يشركه فيه أحد من خلقه.
فتحقيق التوحيد يكون بترك وفعل؛ ترك عبادة غير الله من أنواع الشرك، وفعل العبادة لله تعالى،وهذا معنى لا إله إلا الله. فمن عبد مع الله غيره لم يكن موحداً ولو عبد الله تعالى، ومن لم يعبد الله تعالى لم يكن موحداً وإن لم يعبد غير الله. فالتوحيد يكون بعبادة الله وحده لا شريك له على حد قوله تعالى: ((أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ "[النحل: 36]، وقول الرسل لأممهم: (((#rك‰ç6ôم$# اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ "[هود: 50].(1/382)
....................................................................................
فالله تعالى قد يأمر بعبادته وقد ينهى عن الشرك به، وقد يقرن بينهما كما قال تعالى: ((`yJsù يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ 4's+ّOâqّ9$#"[البقرة: 256].
والله تعالى أمر بعبادته على وجه العموم كما أمر بأنواع من العبادة على وجه الخصوص.
فمن الأول: قوله تعالى على لسان الأنبياء: (((#rك‰ç6ôم$# اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ "[هود: 50] وقوله: ((y‰ç7ôمr& اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ tûïدe$!$#"[الزمر: 11] وقوله: ((بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ tûïجچإ3"
$#"[الزمر: 66].
ومن الثاني وهو الأوامر الخاصة ببعض العبادات كما في قوله تعالى في التوكل: (('n?tمur اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷soB"[المائدة: 23]، وقوله في الخوف: ((ںxsù تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷soB"[آل عمران: 175]. وهكذا بقية العبادات كالخشية والتقوى والصلاة والصيام وغير ذلك.(1/383)
وقد قال تعالى في التوكل: (('n?tمur اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷soB"[المائدة: 23]، (('n?tمur اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ tbqè=دj.uqtGكJّ9$#"[إبراهيم: 12] وقال تعالى: ((ِ@è% حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ tbqè=دj.uqtGكJّ9$#"[الزمر: 38]، وقال تعالى: ((ِqs9ur أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ ڑcqç6دî؛u'" [التوبة: 59]، فقال في الإيتاء ((!$tB آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "[التوبة: 59]، وقال في التوكل: (((#qن9$s%ur حَسْبُنَا ھ!$#"[التوبة: 59] ولم يقل: ورسوله، لأن الإيتاء هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما حلله، والحرام ما حرّمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: ((!$tBur آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا "[الحشر: 7]. وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كاف عبده، كما قال تعالى: ((tûïد%©!$# قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ م@إ2uqّ9$#"[آل عمران: 173]، فهو وحده حسبهم كلهم.
وقال تعالى: (($pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ ڑْüدZدB÷sكJّ9$#"[الأنفال: 64] أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم. وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول. وهذا في اللغة كقول الشاعر:
فحسبك والضحاكَ سيف مهند(1)
__________
(1) هذا عجز بيت وصدره [إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا]، وقد ذكره ابن القيم في سياق كلامه على أية الأنفال رقم 64 في زاد المعاد 1/35-36.(1/384)
....................................................................................
وتقول العرب: حسبك وزيداً درهم، أي: يكفيك وزيداً جميعاً درهم.
قوله "وقد قال تعالى في التوكل ..." الخ.
هذا كله في تقرير الأصل الأول وبيان أن التوحيد لا يتحقق إلا بعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه.
ويذكر الشيخ هنا بعض العبادات التي أمر الله بها وأدلتها، فمن ذلك: التوكل كما قال جل وعلا: (('n?tمur اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷soB"[المائدة: 23]، فالتوكل على الله وحده دون ما سواه، وهذا يؤخذ من أسلوب الحق في قوله تعالى: (('n?tمur اللَّهِ (# qè=©.uqtGsù"[المائدة: 23] فهو مثل قوله: ((إياك نعبد"، فلا يتوكل إلا على الله كما لا يعبد سواه.
وقال تعالى: ((`tBur يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ "[الطلاق: 3]، أي: كافيه مما يخاف، ومدح الله المؤمنين الذين قالوا عند تخويفهم بجمع الناس: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال تعالى: ((tûïد%©!$# قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ م@إ2uqّ9$#"[آل عمران: 173] فهو وحده حسبهم كلهم. وقال تعالى: ((ِqs9ur أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ ڑcqç6دî؛u'"[التوبة: 59].
فجعل الإيتاء لله ورسوله، والإيتاء هو الإعطاء الشرعي المتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالطاعة في ذلك تكون للرسول كما تكون لله قال تعالى: ((`¨B يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ "[النساء: 80] وقال تعالى: ((!$tBur آَتَاكُمُ
....................................................................................(1/385)
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ (#qكgtFR$$sù"[الحشر: 7] فالحلال ما حلله، والحرام ما حرم والدين ما شرعه(1).
فالإيتاء الشرعي يكون من الله تعالى ابتداء ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلاغاً، وإذا رزق الله العبد مالاً حلالاً فهذا إيتاء شرعي وكوني، وينفرد الإيتاء الكوني فيما يحصل للعبد من كسب حرام.
وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كاف عبده، ولهذا كان الحسب والرغبة لله وحده فلا يتوكل إلا عليه ولا يرغب إلا إليه. ومن ذلك قوله تعالى: (($pkڑ‰r'¯"tƒ النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ ڑْüدZدB÷sكJّ9$#"[الأنفال: 64] أي: الله وحده كافيك وكاف من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو التفسير الصحيح للآية، وليس معناها ما قاله بعضهم من أن المراد أن الله والمؤمنين حسبك، فإن هذا غلط بل الله وحده كاف نبيه وكاف عباده المؤمنين.
ويتبيّن الفرق بين القولين بالكلام في إعراب الموصول، فقوله تعالى:((ڑپç7َ،ym ھ!$#" حسب مبتدأ وهي مضاف، والكاف مضاف إليه، ولفظ الجلالة خبر.
وقوله: ومن اتبعك، الواو عاطفة على الضمير المجرور وهو الكاف، ولا بأس -على الصحيح- من العطف على الضمير المتصل المجرور ولو من غير إعادة العامل، والمعنى: حسبك ومن اتبعك من المؤمنين اللهُ، فـ "من" هنا معطوفة على الضمير المجرور في موضع جر. أو أن الواو عاطفة لجملة على جملة، أي: حسبك
....................................................................................
الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله كذلك، فتكون من مبتدأ، أو تكون الواو للمعية؛ فإن العرب تقول: حسبك وزيداً درهم، أي: يكفيك وزيداً معك درهم، فالواو للمعية وزيداً منصوب على المعية. فتكون من هنا في موضع نصب.
ومن ذلك قول الشاعر:
فحسبك والضحاك سيف مهند
__________
(1) منهاج السنة 2/446.(1/386)
وقيل إن الواو عاطفة و"من" معطوف على لفظ الجلالة، وهذا القول ضعيف، بل هو غلط؛ لأن معناه: أن الله والمؤمنين حسب الرسول، فيقال: فمن حسب المؤمنين إذن؟!(1).
وقال تعالى: ((وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِن حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ڑْüدZدB÷sكJّ9$$خ/ur"[الأنفال: 62] فما يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - من نصرة المؤمنين، فإنه من كفاية الله فإنه سبحانه وتعالى هو الذي قيض المؤمنين وأيدهم ووفقهم حتى قاموا بما يجب عليهم من نصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال في الخوف والخشية والتقوى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح!$xےّ9$#"[النور: 52] فأثبت الطاعة لله وللرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: (('خoTخ) لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ بbqمèدغr&ur"[نوح: 2-3] فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وقال تعالى: ((فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا "[المائدة: 44] وقال تعالى: ((فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷soB"[آل عمران: 175] وقال الخليل عليه السلام: ((y#ّں2ur أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ ڑcqكJn=÷ès?"[الأنعام: 81] قال الله تعالى: ((tûïد%©!$# آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ tbrك‰tGôgoB" [الأنعام: 82].
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 1/118، اقتضاء الصراط المستقيم 2/826-827، منهاج السنة 7/201-206، قاعدة عظيمة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 17-18.(1/387)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: ((cخ) الشِّرْكَ لَظُلْمٌ زOٹدàtم"(1)، وقال تعالى: ((}'"ƒخ)ur بbqç7ydِ'$$sù"[البقرة:40]، و((}'"ƒخ)ur بbqà)¨?$$sù"[البقرة:41].
قوله "وقال في الخوف والخشية والتقوى...." إلخ.
....................................................................................
من العبادات التي ذكرها الشيخ وذكر أدلة لها: الخوف والخشية والتقوى قال تعالى ((ںxsù تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷soB"[آل عمران: 175]، وقال تعالى: ((ںxsù تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا "[المائدة: 44] وقال تعالى: ((}'"ƒخ)ur بbqà)¨?$$sù"[البقرة: 40] وقال تعالى:((}'"ƒخ)ur بbqç7ydِ'$$sù"[البقرة: 40] وقال سبحانه: ((`tBur يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح!$xےّ9$#"[النور: 52].
__________
(1) أخرجه البخاري (1/21) كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: "واتخذ الله إبراهيم خليلا" برقم 3360، ومسلم (1/114) كتاب الإيمان برقم 124.(1/388)
فجعل الطاعة لله وللرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، وقال جل وعلا عن إبراهيم الخليل عليه السلام: (( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ tbrك‰tGôgoB" [الأنعام: 81-82]، والمراد بالظلم هنا: الشرك كما في الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم).
والظلم ثلاثة أنواع: ظلم العبد لنفسه بالشرك، وظلم العبد لنفسه بالمعاصي، وظلم العبد لغيره من المخلوقات بالاعتداء على أموالهم وأعراضهم ودمائهم وسائر حقوقهم.
فمن سلم من الظلم كله فاز بالأمن التام، والهدى التام، ومن سلم من
....................................................................................
الشرك الأكبر ولكنه خلط إيمانه ولبسه بشيء من ظلم النفس أو ظلم العباد، نقص من أمنه وهدايته بقدر ما معه من ذلك الظلم.
ومن لبس إيمانه بشيء من الشرك الأكبر فلا أمن له ولا هدى، ومآله إلى النار وبئس القرار.(1/389)
فكل من أتى بالتوحيد وسلم من الشرك الأكبر حصل له أمن، فأصل التوحيد يعصم صاحبه من الخلود في النار، وكمال التوحيد يعصم صاحبه من دخول النار. فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، فمن قالها خالصاً من قلبه وصدقاً من قلبه لم يدخل النار؛ لأنه حقق التوحيد وابتعد عن كل ما ينقضه أو ينقصه، فمن أكل الربا أو مال اليتيم لم يحقق التوحيد، بل هو متوعد بالنار، وهو تحت مشيئة الله كما قال تعالى: ((¨bخ) اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ âن!$t±o""[النساء: 116].
ومن هذا الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا)(1)، وقال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد)(2). ففي الطاعة قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو، وفي المشيئة أمر أن يجعل ذلك بحرف ثم، وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة للرسول. بخلاف المشيئة، فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إلا أن يشاء الله.
قوله "ومن هذا الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول..." الخ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في أبواب الجمعة، باب الرجل يخطب على قوس، برقم 1097، وفي كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح برقم 2119.
(2) أخرجه بنحوه ابن ماجه (1/685) كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت برقم 2118، وأخرجه أحمد في مسنده (5/72، 393) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 3628.(1/390)
يبين الشيخ هنا الفرق بين ما يختص الرب به، وما هو مشترك، فهو من حق الله تعالى وحق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يتبين في الطاعة، فطاعة الله تعالى وطاعة رسوله متلازمتان، فطاعة الله طاعة للرسول وطاعة الرسول طاعة لله كما قال تعالى: ((`¨B يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ "[النساء: 80] ولهذا فإن الأنبياء يأمرون بطاعتهم كما في قوله تعالى: ((بbr& اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ بbqمèدغr&ur"[نوح: 3].
وليس أحد من الخلق يطاع طاعة مطلقة إلا الرسول، أما غيره ممن يؤمر بطاعتهم فطاعتهم مقيدة، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الطاعة في المعروف)(1).
...................................................................................................................
وعلى ذلك يجوز أن تعطف طاعة الرسول على طاعة الله بحرف الواو فتقول: أطيعوا الله ورسوله، أو أطيعوا الله والرسول كما قال تعالى:(((#qمèدغr&ur اللَّهَ ¼م&s!qك™u'ur" [الأنفال: 46]، وقال (((#qمèدغr& اللَّهَ وَأَطِيعُوا tAqك™چ9$#"[محمد: 33].
أما المشيئة فلا يجوز عطف مشيئة أحد على مشيئة الله تعالى بحرف الواو، فلا تقول: ما شاء الله وشئت، ولا ما شاء الله وشاء فلان. بل إما أن تقول: ما شاء الله وحده، أو تقول: ما شاء الله ثم شاء فلان كما في حديث: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد) فعطف مشيئة المخلوق على مشيئة الله تعالى بحرف الواو من الشرك الأصغر في الألفاظ.
ويعلل الشيخ النهي عن عطف مشيئة العبد على مشيئة الله بحرف الواو بأنه "ليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله، ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد".
__________
(1) أخرجه البخاري (6/2612) كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة، للإمام ما لم تكن معصية، برقم 7145..(1/391)
فلا تلازم بين مشيئة العبد ومشيئة الله، فقد يشاء الله تعالى ما لا يشاء العبد، وقد يشاء العبد ما لا يشاء الله، ولكن لا تكون مشيئة العبد إلا أن يشاء الله، فمشيئة الله تتعلق بمشيئة العبد، وبما شاءه العبد، فالله تعالى شاء مشيئة العبد، وشاء حصول ما شاءه العبد، فتكون مشيئة العبد وما شاءه العبد كل منهما قد شاءه الله، وأحياناً تكون مشيئة العبد -وذلك بمشيئة الله- ولكن لا يكون ما شاء العبد لأن الله تعالى لم يشأه، وأحياناً يكون الأمر بما لم يشأه العبد، فمشيئة الله تعالى قد تتعلق بمشيئة العبد وبما شاءه العبد وحصل منه، وأحياناً تتعلق بأحدهما دون الآخر.
....................................................................................
فلا تلازم بين مشيئة الله تعالى ومشيئة العبد، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إلا أن يشاء الله.
وإذا كان الأمر كذلك، لم يصح عطف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى بحرف الواو المقتضية للتسوية، بل بثم المقتضية للترتيب والتراخي؛ لأن مشيئة العبد متراخية عن مشيئة الله، ومترتبة على مشيئة الله تعالى.(1/392)
الأصل الثاني: حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعلينا أن نؤمن به، ونطيعه، ونتبعه، ونرضيه، ونحبه، ونسلم لحكمه، وأمثال ذلك، قال تعالى: ((`¨B يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ "[النساء: 80]، وقال تعالى: ((!$#ur وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا ڑْüدZدB÷sمB"[التوبة: 62]، وقال تعالى: ((ِ@è% إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ "[التوبة: 24]، وقال تعالى: ((ںxsù وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا $VJٹخ=َ،n@"[النساء: 65]، وقال تعالى: ((ِ@è% إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ "[آل عمران: 31] وأمثال ذلك.
قوله "الأصل الثاني: حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ..." الخ.
الأصل الثاني هو الإقرار بالرسالة وهو مضمون شهادة أن محمداً رسول الله، وهو الأصل الثاني الذي يتميز به أهل الإسلام من أهل الكفر، والأصل الأول هو توحيد الألوهية الذي هو مضمون شهادة ألا إله إلا الله.(1/393)
وهذا الأصل الثاني الذي هو مضمون شهادة أن محمداً رسول الله يتبين بمعرفة ما تقتضيه هذه الشهادة، فهي متضمنة الإقرار برسالته إلى الناس كافة بل إلى الثقلين؛ الجن والإنس، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا يسع أحداً الخروج عما جاء به، كما تتضمن وتقتضي محبته وإرضاءه والتحاكم إليه وطاعته طاعة مطلقة، واتباع ما جاء به(1)، وهذا عنوان محبة الله تعالى كما قال تعالى: ((ِ@è% إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
....................................................................................
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ "[آل عمران: 31]، وطاعته تكون باتباع أمره واجتناب نهيه كما قال تعالى: ((!$tBur آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " [الحشر: 7] وكما قال تعالى: (($tBur كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا $YZ خ7oB"[الأحزاب: 36] وقال تعالى: ((ئtBur يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا $ygدù" [النساء: 13-14].
ومن مقتضيات هذه الشهادة تحكيمه - صلى الله عليه وسلم - في كل صغير وكبير من أمور الدين، والرضا والتسليم لحكمه على حد قوله تعالى: ((ںxsù وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا $VJٹخ=َ،n@"[النساء: 65].
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 2/834.(1/394)
ولعل هذه الآية أعظم وأبلغ آية في بيان حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول بأبلغ عبارة فقال: ((ںxsù"، وأكد هذا النفي بالقسم بأعظم مقسم به فقال ((y7خn/u'ur".
وفي تخصيص هذا الوصف، وهو ربوبيته للرسول تنبيه على أن هذا التشريف وهذا التفصيل والتنويه هو من آثار ربوبيته تعالى لنبيه. وكرر أداة النفي "لا" في قوله: ((ںxsù" وقوله ((ںw ڑcqمYدB÷sمƒ" ثم لم يقتصر الأمر على مجرد التحكيم، بل شرط مع ذلك عدم وجود الحرج في النفوس، كما شرط التسليم المطلق.
....................................................................................
فمن لم يحقق هذه الصفات فهو ناقص الإيمان أو عديم الإيمان، ومن الآيات الدالة على وجوب تقديم محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سائر الخلق آية المحبوبات الثمانية في سورة براءة وهي: قوله تعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ ِNà2نt!$oYِ/r&ur"الآية[التوبة: 24].
ومن مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله التقيد بشرعه وعدم الإحداث فيه؛ لأن كل محدثة في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(1)، فكل عبادة وكل عقيدة وكل دين يتدين به شخص لم يرد في الشرع فهو بدعة مردودة على صاحبها، وهي مخالفة لحقيقة شهادة أن محمداً رسول الله.
وأعظم الناس ضلالاً في هذا الأصل من اعتقد أن أحداً يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فالمخالفون لهذا الأصل الثاني شهادة أن محمداً رسول الله إما أن يكونوا مكذبين أو مبتدعين، كما أن المخالفين للأصل الأول: التوحيد، إما أن يكونوا مشركين أو مستنكفين عن عبادته سبحانه وتعالى.
فصل
__________
(1) أخرجه البخاري (6/2675) كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" برقم 2697، وأخرجه مسلم (3/1343) كتاب الأقضية برقم 1718.(1/395)
إذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره: بقضائه وشرعه.
وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية.
فالمجوسية، الذين كذّبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدتهم أنكروا عموم مشيئة الله وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم.
والفرقة الثانية: المشركية، الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال الله تعالى: ((مAqà)uy™ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ &نَسx""[الأنعام: 148] فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدّعي الحقيقة من المتصوفة.
والفرقة الثالثة: الإبليسية، وهم الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا تناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكر مثل ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب(1).
قوله "وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره..." الخ.
يشير الشيخ هنا بقوله: "إذا ثبت هذا" إلى ما سبق من تقرير الإيمان بالشرع والقدر وتقرير التوحيد والرسالة، فإذا ثبت هذا فإنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره،
....................................................................................
أي بقضائه وشرعه، ثم يبين الشيخ أن الخائضين في القدر والشرع من أهل الضلال انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية ومشركية وإبليسية(2).
__________
(1) ذكر الشهرستاني الشبهات التي أثارها إبليس في مناظرته للملائكة في اعتراضه على قدر الله تعالى وحكمته وعدله، وذكر الشهرستاني أنها مسطورة في شرح الأناجيل وفي التوراه. الملل والنحل 1/16-18، وقد طعن شيخ الإسلام في ثبوت ما ذكر كما في مجموع الفتاوى 8/114-115، منهاج السنة 6/307.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/256-261.(1/396)
فالمجوسية هم الذين كذبوا بالقدر وآمنوا بالشرع، وهؤلاء هم القدرية، والقدرية يراد بهم في أغلب الأحيان القدرية النفاة في مقابل القدرية الجبرية الغلاة.
وهؤلاء القدرية النفاة فرقتان: غلاة، ومقتصدون. وهذا الانقسام يرجع إلى مراتب القدر الأربع.
فالغلاة -وهم متقدموا القدرية- ينفون علم الله السابق وكتابته، فيقولون: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، وعليه فلا كتابة أيضاً، بل الأمر -عندهم- أنف يعني مستأنف لم يسبقه علم ولا كتابة.
وأما المقتصدون، فهم عموم المعتزلة ومن وافقهم، فينفون عموم مشيئة الله تعالى وخلقه، يعني: يخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله تعالى وخلقه وقدرته، فيقولون: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، فهم يثبتون العلم السابق والكتاب الأول فيثبتون المرتبتين الأوليين من مراتب القدر الأربعة وهي:
1- علم الله السابق بكل شيء.
2- كتابة كل شيء مقدر وكائن حتى تقوم الساعة.
3- عموم مشيئة الله، وهو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
4- عموم خلق الله تعالى للأشياء، فإنه تعالى خالق كل شيء بما في ذلك أفعال العباد.
....................................................................................
فالمقتصدون من القدرية أقروا بالمرتبتين الأوليين وأنكروا المرتبتين الأخيرتين، أما الغلاة فإنهم أنكروا كل المراتب، فانفردوا بإنكار مرتبة العلم والكتابة، وشاركوا سائر القدرية في إنكار مرتبة عموم المشيئة وعموم الخلق.
وقد كفر الأئمة غلاة القدرية كما قال الشافعي: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا".(1/397)
وطائفة القدرية تعرف عند أهل العلم بالمجوسية أو مجوس هذه الأمة، وقد ورد في ذمهم آثار مرفوعة وموقوفة كما روي في الحديث: (القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم)(1).
ووجه تسميتهم بالمجوس؛ أن المجوس يقولون بخالقين: النور والظلمة، وهؤلاء يقولون بخالقين؛ حيث جعلوا العباد خالقين لأفعالهم، فأشبهوا المجوس في القول بتعدد الخالق.
والفرقة الثانية: المشركية وهم الذين أقروا بالقدر وأنكروا الشرع، وهؤلاء هم الجبرية وقد ذكر الله تعالى سلفهم بقوله: ((مAqà)uy™ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ &نَسx""[الأنعام: 148]، فمن احتج بالقدر على الأمر الشرعي وعارض الأمر بالقدر فهو من هؤلاء الجبرية المشبهين بالمشركين.
....................................................................................
وهذا المذهب وقع فيه كثير من المتصوفة الذين يدعون الحقيقة، فيقفون عند شهود الحقيقة الكونية، ويفنون في توحيد الربوبية، ويعرضون عن الأمر والنهي.
الطائفة الثالثة الإبليسية: وهم الذين أقروا بالأمرين، أي: بالشرع والقدر، ولكنهم طعنوا في حكمة الرب وعدله، وجعلوا ذلك تناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وسموا بذلك لأنهم سلكوا في ذلك مسلك مقدمهم إبليس الذي عارض بين الأمر والقدر، فقال كما حكى الله تعالى عنه: ((!$yJخ6sù أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ tLىة)tFَ،مKّ9$#"[الأعراف: 16] وقال: ((ةb>u' بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ tûüدèuHّdr&"[الحجر: 39].
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في القدر برقم 4691، والحاكم في مستدركه 1/85 وبنحوه أحمد 5/407، وابن أبي عاصم في السنة برقم 329، وضعفه الألباني في تحقيقه للسنة لابن أبي عاصم 1/145.(1/398)
فهو يؤمن ويعرف بأنه مأمور بالسجود، ويعلم أن ما حصل منه كان بقدر الله، فاعترض وطعن في حكمة الله تعالى.
وهذا سبيل بعض الملاحدة الذين يعارضون بين الشرع والقدر.
والمقصود أن هذا مما يقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، فيؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين.
ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه ما هو من أصول الإيمان.
ومع هذا لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: ((#س¨Lym إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ "[الأعراف: 57] وقال تعالى: (("د‰ôgtƒ بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ةO"n=،،9$#"[المائدة: 16] وقال تعالى: (('@إزمƒ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا "[البقرة: 26] فأخبر أنه يفعل بالأسباب.
قوله "والمقصود أن هذا مما يقوله أهل الضلال..." ا لخ.
بعد أن ذكر الشيخ فرق الضلال الثلاثة الخائضين في القدر ذكر المذهب الحق، مذهب أهل السنة والجماعة الذين وصفهم بقوله أهل الهدى والفلاح، كما قال تعالى: ((y7ح´¯"s9'ré& عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ ڑcqكsخ=ّےكJّ9$#"[البقرة: 5].
فهم يؤمنون بهذا وهذا أي بالشرع والقدر.
ثم فصل الشيخ وبين حقيقة إيمانهم بالقدر، وهو الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأن لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في كتاب مبين.
....................................................................................(1/399)
فالإيمان بهذا الأصل يتضمن الإيمان بمراتب القدر الأربعة وهي: الإيمان بعموم علم الله، وكتابه، ومشيئته، وخلقه.
ومع إيمان أهل الهدى والفلاح بالقدر وأن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، فهم لا ينكرون ما خلقه الله تعالى من الأسباب التي يخلق بها المسببات، بل هم يثبتون الأسباب.
ويدخل في إثبات الأسباب إثبات الأمر والنهي، وهذه من المسائل الكبيرة التي انقسم فيها الناس واختلفوا فيها تبعاً لاختلافهم في القدر.
والأسباب نوعان: أسباب كونية، وأسباب شرعية، فمن الأسباب الكونية: إنزال الماء بالسحاب، وإثبات الزرع بالماء كما قال تعالى: ((uqèdur الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ "[الأعراف: 57]، فالباء في قوله به سببية. وهكذا سائر الأسباب التي تحصل من المخلوقات هي أسباب كونية.
ومن أدلة الأسباب الشرعية: الإضلال والهداية بالقرآن كما قال تعالى : (('@إزمƒ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا "[البقرة: 26]، فالقرآن في ذاته خير ورحمة وهدى فقد يكون النافع ضاراً لأسباب خارجية، ولعدم سلوك الطريقة الصحيحة للانتفاع به، فالقرآن سبب لهداية من أراد الله هدايته فيحصل له الانتفاع به، ويكون سبباً لضلال من أراد الله إضلاله وشقاوته فيكذب ويعرض عنه، وكما قال تعالى : (("د‰ôgtƒ بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ةO"n=،،9$#"[المائدة: 16].
فالطاعات والمعاصي أسباب شرعية، والواقع منها يكون أسباباً شرعية وكونية.
....................................................................................(1/400)
فأهل الهدى والفلاح كما يثبتون القدر وعموم خلق الله تعالى للأشياء فإنهم يثبتون الأسباب، وأن الله تعالى يخلق بها، فيخلق الأرزاق بأسباب، ويخلق الولد بأسباب وهكذا.
ومن قال : يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد.
قوله "ومن قال: يفعل عندها لا بها..." الخ.
اختلف الناس في مسألة الأسباب على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الأسباب مؤثرة في مسبباتها بمشيئة الله تعالى وتقديره، وهذا هو المذهب الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
الثاني: إنكار الأسباب وهو متضمن لإنكار تأثير الأسباب، وهذا مذهب الجبرية الغلاة الذين نفوا فعل العبد ومشيئته واختياره.
الثالث: اعتقاد أن الأسباب مؤثرة في مسبباتها بذاتها وطبعها، وقد أخذ بنصيب من ذلك القدرية الذي أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله تعالى وزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه، فمن قال: إن الله تعالى يخلق عند الأسباب لا بها، فقد خالف الشرع والحس، فهم يقولون إن الله تعالى يخلق الشبع عند الأكل لا بالأكل فليس الأكل سبباً للشبع. كما يقولون إن الله يخلق النبات عند وجود الماء في الأرض لا أن الماء مؤثر في حصول النبات وهكذا،فالباء عند هؤلاء في مثل قوله تعالى: ((فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ "[الأعراف: 57] للمصاحبة وليست للسبية.
كما أن لام التعليل عند هؤلاء تكون للعاقبة والضرورة لأن من ينكر الأسباب ينكر الحكمة أيضاً. فليس عندهم علة غائية ولا فاعلية بل ليس ثم إلا المشيئة النافذة العامة.
....................................................................................
وإثبات المشيئة حق، ولكن لا يمنع أن يكون شيء بتأثير شيء آخر، والجميع بمشيئة الله تعالى.(1/401)
فمنكرو الأسباب أنكروا ما خلقه الله تعالى من القوى والطبائع، فأنكروا ما خلقه الله من القوى التي يفعل بها الحيوان مثل قدرة العبد.
والجبرية أنكروا قدرة العبد وإرادته وقالوا: إن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى ولا تأثير لقدرة العبد، حتى قالوا: أنه ليس للعبد قدرة ولا مشيئة.
فقول الجبرية داخل في عموم إنكار الأسباب لأن قدرة العبد سبب لفعله.
كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، ولابدّ له من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إلا الله وحده، قال تعالى: ((`دBur كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ tbrمچ©.xs?"[الذاريات: 49] أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد.
ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد، لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد- كان جاهلاً، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان، إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، فالنار التي جعل الله فيها حرارة، لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، وإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
قوله "كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله..." الخ.
أي: فمن جعل الأسباب هي المبدعة والخالقة للمسببات، ومن ذلك من جعل قدرة العبد هي المبدعة لفعله، كقول القدرية المعتزلة إن العبد يخلق فعل نفسه، فهذا شرك بالله، حيث جعل السبب هو المبدع والموجد للمسبب استقلالاً.(1/402)
ولهذا قال بعض العلماء: إن الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد، هذا من نوع الشرك في العبادة. وجعل الأسباب هي المؤثرة في مسبباتها من نوع الشرك
....................................................................................
في الربوبية، وإنكار أن تكون الأسباب أسباباً ومحوها قدح في العقل والشرع، والإعراض عن الأسباب وتعطيلها بالكلية قدح في الشرع، لأن الشرع جاء بالأخذ بالأسباب.
وقد ذكر الشيخ أنه لا يوجد في المخلوقات سبب واحد مؤثر في شيء آخر مستقلاً بالسببية، بل ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه، وأيضاً فإنه ما من سبب إلا وله مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه.
وبهذا يتبين أنه ليس في الوجود شيء يستقل بفعل شيء إلا الله وحده كما قال تعالى: ((`دBur كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ tbrمچ©.xs?"[الذاريات: 49]، أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. ومن ذلك يتبين فساد قول الفلاسفة بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فالله الواحد لم يصدر عنه -عندهم- إلا واحد وهو العقل الأول. فهذا الكلام باطل عقلاً وشرعاً ومتناقض(1).
أما في حق لله تعالى فبطلانه ظاهر، فالله تعالى خالق كل شيء فليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان إلا الله وحده الذي خلق الأزواج كلها.
وأما بالنسبة للمخلوق فليس هناك مخلوق يصدر عنه شيء استقلالاً، بل لابد له من سبب أو أسباب أخرى تعينه في حصول مسببه، ولابد من زوال الموانع التي تمنع تأثيره.
....................................................................................
وقد ضرب الشيخ لذلك مثلين:
__________
(1) درء التعارض 9/339.(1/403)
أحدهما: النار التي جعل الله فيها الحرارة، فإنه لا يحصل الإحراق بها إلا بملاقاة محل قابل للاحتراق، فإذا وقعت مثلاً على السمندل -وهو طائر لا يتأثر بالنار- أو على الياقوت -وهو حجر صلب شفاف لا تذيبه النار- فإنها لا تحرقهما، وكذا إذا طلي الجسم بمادة تمنع إحراقه بطل مفعول النار فيه.
والمثال الثاني: الشمس: فإن تأثير شعاعها متوقف على ملاقاة جسم قابل لانعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف يمنع نفوذ الشعاع لم يحصل تأثيره.
فلا يوجد سبب مستقل بالتأثير، بل لابد من وجود أسباب أخرى وزوال موانع(1).
والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد، فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده(2).
ولابدّ من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه.
والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابدّ له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميّز بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميّزون به بين ما يفعلونه ويتركونه.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/133-139، 166-177.
(2) أخرجه اللالكائي في السنة برقم 1112، وابن بطة في الإبانة برقم 1619، والآجري في الشريعة ص 215.(1/404)
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابدّ له من فعل وترك، فإن الإنسان همّام حارث، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصدق الأسماء حارث وهمّام)(1)، وهو معنى قولهم متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة هو متحرك بها، فلابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟.
وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل
....................................................................................
والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم إياهم.
قوله "والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر..." الخ.
يذكر الشيخ هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر خلافاً للقدرية النفاة. والإيمان بالقدر من تمام التوحيد أي: توحيد الربوبية، كما أن التكذيب بالقدر موقع في الشرك في الربوبية.
واستشهد الشيخ رحمه الله بقول ابن عباس رضي الله عنهما عن القدر إنه نظام التوحيد، أي: به ينتظم التوحيد وتستقيم عقيدة المسلم، فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده.
ومن وحد الله تعالى وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. فمن آمن بأن الله تعالى خالق كل شيء ثم زعم أن العبد يخلق فعل نفسه فإن ذلك ينقض توحيده.
ولابد من الإيمان بالشرع خلافاً للجبرية الغلاة، فيجمع المسلم بين الإيمان بالشرع والقدر.
ويبين الشيخ المراد بالشرع بأنه الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وهذا هو مضمون ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء برقم 4950، وأحمد في مسنده (4/345)(1/405)
والإنسان مفتقر ومضطر إلى شرع في حياته الدنيا، ولو كان يعيش وحده فلابد له من شرع يميز به بين ما يفعل وما يترك، وما ينفعه وما يضره(1).
....................................................................................
وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، وفض خصوماتهم وبيان أحكام جناياتهم، ومعاملاتهم مع غيرهم، فهذا كله من الشرع، وليس الشرع مقصوراً عليه.
فالإنسان وإن كان منفرداً فلابد له من فعل وترك، فإن الإنسان بطبعه همام حارث، مريد فعّال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصدق الأسماء حارث وهمام).
فإذا كان الإنسان له إرادة وهو متحرك بها، فلابد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار، وهل يصلحه أو يفسده، فهو محتاج إلى ما يميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد من إراداته وأفعاله وتروكه في حياته الدنيا والآخرة، وهذا هو الشرع.
وقول الشيخ إنه لا يمكن للآدميين أن يعيشوا بلا شرع..
إن كان المراد أنه لا يمكن أن يعيشوا عيشة سعيدة بلا شرع الله فهذا واضح، فإن الأمم الكافرة وإن عاشت ما عاشت، ومتعت بما متعت به فحياتها مليئة بالنغص ومآلها إلى جحيم وشقاء، وبقدر بعد الناس عن شرع الله تعالى يكون شقاؤهم، وبقدر تمسكهم بشرع الله تكون سعادتهم.
وإن أريد أنه لابد لهم من شرع ونظام -وإن كان من وضع البشر- ينظم حياتهم فإنه يحصل لهم من استقامة العيش بحسب ما فيه.
وكل ما عند الأمم الكافرة من أنظمة صالحة تتضمن إقامة عدل وإيصال حق، ومنع ظلم، فإنه موجب شرع الله، وقد يكون مأخوذاً من شرع الله، فإنهم قد يأخذون من شرع الله ما لا يتعارض مع أهوائهم.
....................................................................................
__________
(1) مجموع الفتاوى 19/99، 20/67.(1/406)
والأفعال النافعة والضارة منها ما يعرف بالفطرة كما يعرف الانتفاع بالأكل والشرب، ومنها ما يعرف بالتجربة والعقل والاستدلال والدراسة كسائر الصناعات.
ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع: كالطاعات، والمعاصي، ومعرفة ما يحبه الله ويرضاه وما يسخطه.
وجاء الشرع أيضاً بتأكيد ما علم بالفطرة أيضاً كما قال تعالى: ((ûسح_t6"tƒ آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا (# qèùخژô£è@"[الأعراف: 31]، فلا يجوز للإنسان أن يأكل أو يشرب إلى حد السرف المضر، كما لا يجوز أن يترك من الأكل والشرب ما يضر به، حتى الصيام إن كان يضر به كالمريض، فإن عليه أن يأكل ويشرب ويدع الصيام.
وفي هذا المقام تكلم الناس في الأفعال هل يعرف حسنها وقبحها بالعقل، أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل؟، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذّ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه.
وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعلم إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله و صفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك.(1/407)
وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو مما دل عليه قوله تعالى: ((y7د9؛xx.ur أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا y"[الشورى: 52] وقوله تعالى: ((ِ@è% إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ ز=ƒجچs%"[سبأ: 50]، وقوله تعالى: ((ِ@è% إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ "[الأنبياء: 45].
ولكن طائفة توهمت أن للحسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح يخرج عن هذا، فكلتا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت.
قوله "وفي هذا المقام تكلم الناس في الأفعال..." الخ.
....................................................................................
يذكر الشيخ هنا اختلاف الناس في أحكام الأفعال: هل يعرف حسنها وقبحها بالفعل، أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالفعل؟ وهذه مسألة كبيرة تعرف بمسألة التحسين والتقبيح، أو مسألة الحسن والقبح، أي: حسن الأفعال وقبحها.
فمن الناس من جعل العقل مدركاً لحسن الأفعال وقبحها، ومنهم من أحال معرفة حسن الأفعال وقبحها بالعقل، وزعم أن ذلك لا يدرك إلا بالشرع.
وقبل الخوض في ذلك يذكر الشيخ أن هناك أمراً متفقاً عليه بين الجميع وهو أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل، ومعنى كون الفعل ملائماً للفاعل أي: سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، ومعنى كونه منافراً أي: سبباً لما يبغضه ويؤذيه ويضر به ويؤلمه.(1/408)
وهذا القدر والمعنى في الفعل، وهو الملاءمة والمنافرة، منه ما يعلم بالعقل والتجربة، ومنه ما يعلم بالشرع، ومنه ما يعلم بالفطرة، ومنه ما يعلم بكل ذلك(1).
وأما معرفة تفاصيل ذلك، والغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة والثواب والعقاب، فهذا لا يعلم إلا بالشرع.
فعقول الناس قاصرة عن معرفة تفاصيل اليوم الآخر، وتفاصيل الشرائع، وما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته.
فهذا كله لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعملون كل ذلك على سبيل الإجمال.
....................................................................................
فتفاصيل هذه الأشياء مصدرها الشرع الذي هو الروح والهدى والنور الذي جاء من عند الله كما قال تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ..."[الشورى: 52] الآية. فلا يمكن الوصول إلى تفاصيل العلوم الشرعية إلا بالوحي.
والعلوم الشرعية الأساسية ثلاثة أقسام:
1- العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله.
2- العلم بأمر الله تعالى ونهيه ودينه.
3- العلم بالجزاء.
فالهداية إلى تفاصيل هذه الأمور لا تكون إلا بالوحي كما قال تعالى: ((ِ@è% إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ ز=ƒجچs%"[سبأ: 50] وقال تعالى: ((ِ@è% إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ "[الأنبياء: 45].
فمن جعل حسن الأفعال وقبحها يعلم بالعقل وهم المعتزلة، ومن جعله يعلم بالشرع وهم الأشاعرة، كل منهما أخرج معنى الملاءمة والمنافرة عن مسألة الحسن والقبح، فليس معنى الحسن والقبح كون الشيء ملائماً أو منافراً عندهما وهذا غلط.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/90، 308-312، منهاج السنة 3/28-29.(1/409)
ويلاحظ أن كلا المذهبين أخطأ في مسألة الحسن والقبح، والصواب أن الأفعال منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح، حسناً وقبحاً ذاتياً، يعرف بالعقل، وأن كل ما كان حسن في العقل فإن الشرع يأمر به ويزيده الأمر به حسنا، وكل ما هو قبيح فإن الشرع ينهى عنه فيزيده قبحاً. فلا تعارض بين العقل والشرع في هذه المسألة ولا
....................................................................................
غيرها. ولا يخرج حسن الفعل وقبحه عن كونه ملائماً أو منافراً. فالصواب إثبات الحسن والقبح العقليين والشرعيين، فالصلاة -مثلاً- فعل حسن بالشرع والعقل، وكذا التوحيد والإحسان إلى الخلق.
والشرك فعل قبيح عقلاً وشرعاً وكذا الظلم والزنا. والإحسان فعل ملائم، والظلم والعدوان فعل منافر، ولكن الجزاء على فعل الحسن أو القبيح لا يكون إلا بالشرع. فالمعتزلة أصابوا في جعلهم الحسن والقبح مدركاً بالعقل، وأخطأوا حيث أخرجوه عن معنى الملاءمة والمنافرة. كما غلطوا أيضاً حيث لم يثبتوا الحسن والقبح الشرعيين وجعلوا الشرع مجرد كاشف لما أدركه العقل.
كما غلطوا في جعلهم العقل موجباً للأحكام الشرعية، فأثبتوا إيجاباً وتحريماً وثواباً وعقاباً بمجرد العقل، فما دل العقل على حسنه فهو واجب، وما دل على قبحه فهو محرم، وفعله موجب للعقاب.(1/410)
والصواب أن العقل وإن دل على حسن الفعل وقبحه فإنه لا يقتضي وجوباً ولا تحريماً، فلا وجوب إلا بالشرع، ولا تحريم إلا بالشرع، فالأحكام التشريعية لا تؤخذ إلا من الشرع، والعقاب لا يكون إلا بعد ورود الشرع. كما قال تعالى: (($tBur كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ Zwqك™u'"[الإسراء: 15]، فالأفعال الحسنة سبب للثواب، والأفعال القبيحة سبب للعقاب، ولكن هذه السببية مربوطة بالشرع لا سيما مسألة العقاب، فالعقاب لا يترتب على مجرد الأفعال مطلقاً، بل لابد من قيام الحجة وبلوغ الرسالة كما قال تعالى: (($tBur كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
....................................................................................
يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا ڑcqà)Gtƒ"[التوبة: 115]، وقال تعالى: ((Iwِqs9ur أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ tûüدZدB÷sكJّ9$#"[القصص: 47](1).
ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية -تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته وأنه لا تتصور قدرته على ما هو قبيح، أو أنه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/434-436، مفتاح دار السعادة 2/2-118.(1/411)
والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة أو تركه من العذاب والنقمة. والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يؤمر به وينهى عنه.
قوله "ثم إن كلتا الطائفتين لما كانت تنكر..." الخ.
يبين الشيخ -رحمه الله- أن المعتزلة والأشاعرة، وهم ينكرون أن يوصف الله تعالى بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله -تعالى- لا يفعل ما هو قبيح، تنازعوا هل لا يفعله لأنه ممتنع لذاته، ولا تتصور قدرته عليه، أو أنه سبحانه وتعالى لا يفعله وأنه منزه عنه لمجرد كونه قبيحاً عقلاً؟ على قولين.
فمثلاً اتفق الجميع على امتناع الظلم من الله تعالى، لكن الأشاعرة قالوا إنه لا يفعله لأنه مستحيل عليه، وغير متصور منه، ولا يقدر عليه، لأنه إنما يتصرف في ملكه، ومن الظلم التصرف في ملك الغير. وهذا القول باطل؛ لأن المستحيل لا يمتدح بتركه والتنزه عنه والله تعالى يقول: (($tBur رَبُّكَ بِظَلَّامٍ د‰خ7yèù=دj9"[فصلت: 46].
....................................................................................
والمعتزلة قالوا: لا يفعله لأنه قبيح عقلاً، فهم في الحقيقة قاسوا الخالق على المخلوق، فجعلوا كل ما قبح من الخلق قبح من الخالق فما ظنوه بعقولهم قبيحاً منعوه عن الله تعالى، وهذا هو الذي آل بهم إلى إنكار القدر فنسبوا إلى الله العجز، وأخرجوا كثيراً من الموجودات عن ملكه ومشيئته، وذلك أنهم أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله تعالى؛ لأن تعلق مشيئة الرب بأفعال العباد من الظلم الذي يجب تنزيه الرب عنه بزعمهم، وسموا ذلك عدلاً.(1/412)
وكلا القولين في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أي: في مسألة الحسن والقبح، بإثبات الحسن والقبح العقليين، ونفي الحسن والقبح العقليين، وإخراجهما ذلك عن معنى الملاءمة والمنافرة.
وقد دلت الدلائل الشرعية على أن الأشياء في ذاتها حسنة أو قبيحة قبل ورود الشرع بالأمر أو النهي.
فالله تعالى سمى المأمور معروفاً والحلال طيباً، كما سمى المنهي عنه منكراً والحرام خبيثاً.
كما قال تعالى: ((NèdمچمBù'tƒ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ y]ح´¯"t6y‚ّ9$#"[الأعراف: 157]، وقال تعالى: ((y7tRqè=t"َ،o" مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ "[المائدة: 4].
والأشاعرة الذين قالوا إنما يعرف الحسن والقبيح من الشرع فقط قالوا: إن الأشياء في ذاتها متساوية فلا توصف بالحسن والقبح في ذاتها، ونشأ عن ذلك نفي حكمة الرب تعالى، فعندهم لا فرق بين التوحيد والشرك، وإنما صار التوحيد
....................................................................................
حسناً بالأمر به، وصار الشرك قبيحاً بالنهي عنه، ولو انعكس الواقع في الأمر والنهي لانعكس الحسن والقبح.
وهكذا الحال في الصدق والكذب، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار. فلا فرق في حقيقة الأمر بين إثابة الأبرار بالجنة، وعقاب الفجار بالنار، وإنما الأمر راجع إلى محض المشيئة الإلهية. فلا حكم ولا تعليل عندهم، فقد تقتضي المشيئة تعذيب الأبرار، وتنعيم الفجار.(1/413)
فالأشياء في ذاتها سواء من الأفعال أو الأقوال أو الذوات، وإذا كان الأمر كذلك -عندهم- فالله تعالى -على هذا- غير مستحق للحمد على ما فعله من العدل، أو تركه من الظلم، ولا على ما فعله من الإحسان والنعمة، أو تركه من العذاب والنقمة؛ لأن الذي يستحق المدح والحمد هو الذي يضع الأشياء مواضعها، وهؤلاء عندهم أن جميع الأفعال جائزة ولا فرق بينها، وهذا يتضمن نفي حكمة الرب تعالى. وهذا باطل، فالله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها في أمره ونهيه وفعله.
والآخرون وهم المعتزلة نزهوه عن فعل القبيح بناء على مفهوم القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له. فهم سووا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه.
فمن نظر إلى القدر فقط، وعظّم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميّز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه، فهم مخالفون أيضاً لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء، فيميّز بين ما يؤكل ويشرب، وما لا يؤكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية.
قوله "فمن نظر إلى القدر فقط وعظم الفناء..." الخ.
يتكلم الشيخ هنا عن الجبرية من غلاة الصوفية الذين يغلون في إثبات القدر ويفنون في توحيد الربوبية، ويقفون عند الحقيقة الكونية ويعرضون عن الأمر والنهي وهم الذين تقدم تسميتهم بالمشركية.(1/414)
فهؤلاء ينظرون إلى القدر وحده، ويعرضون عن الشرع، ويقفون عند الحقيقة الكونية، وهي كون الله تعالى خالق كل شيء. وهؤلاء لم يميزوا ولم يفرقوا بين الأضداد، فلم يفرقوا بين العلم والجهل، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين الطاعة والمعصية، ولا بين البر والفجور، ولا بين العدل والظلم، ولا بين الهدى والضلال، ولا بين الرشد والغي، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين أهل الجنة وأهل النار.
ويرون أن حقيقة التوحيد وكماله، عدم التفريق بين الأشياء في ذاتها، فتحقيق التوحيد وشهود كمال الربوبية يكون -عندهم- بعدم التمييز بين الأشياء، ومتى
....................................................................................
فرق الشخص بين الأشياء، سواء طاعة ومعصية، أو عدل وظلم، أو صدق وكذب، أو نافع وضار، أو واجب ومحرم، أو حسن وقبيح، أو غير ذلك، لم يكن موحداً ولا محققاً لشهود كمال توحيد الربوبية الذي يسمونه الفناء.
وقد اتفق الأشاعرة وغلاة الصوفية على أن الأشياء في ذاتها لا فرق بينها، بل هي سواء.
والفرق بين الأشاعرة وغلاة الصوفية في هذا المقام، أن الأشاعرة جعلوا الشرع مفرقاً بين الأشياء التي هي عندهم متساوية في ذاتها، فجعلوا التمييز بين حسن الصدق وقبح الكذب مرده إلى الشرع فقط وإن كانا متساويين في نفس الأمر.
أما غلاة الصوفية فوقفوا عند الحقيقة الكونية، وأعرضوا عن الشرع، فسووا بين الأشياء في ذاتها وفي حكمها، ولم يفرقوا بينها لا في ذاتها ولا من جهة الشرع، ويرون أن كمال المعرفة والتوحيد في عدم التمييز، فلا فرق عندهم بين الصدق والكذب، ولا بين الطاعة والمعصية، لا من حيث ذاتها ولا من ناحية الشرع؛ لأنهم معرضون عن الأمر والنهي.(1/415)
والحق أن هؤلاء الذين يقفون عند الحقيقة الكونية وينظرون إلى القدر فقط ويعرضون عن الشرع، ولا يميزون بين الأشياء في ذاتها، هؤلاء مخالفون بالضرورة للعقل والقياس والحس والذوق والشرع، وقولهم من أبطل الباطل(1).
فكل أحد يفرق بذوقه بين ما يلتذ به مما يؤكل ويشرب وما لا يلتذ به، ويفرق
....................................................................................
بحسه بين ما يؤذيه من الحر والبرد وما ليس كذلك، ويفرق الناس بعقولهم بين كثير مما ينفعهم وما يضرهم، وهذا التمييز بين ما ينفع وما يضر هو مضمون الشرع فهو الحقيقة الشرعية الدينية، كما أن هناك أموراً عرف الفرق بينها من جهة الشرع، فمن لم يفرق بين ما فرق بينه الشرع فهو ملحد بمخالفته للشرع والعقل.
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد افترى، وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يسقط إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسره تارة وما يسوءه أخرى، فالأحوال التي يُعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقاً.
قوله "ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران..." الخ.
يذكر الشيخ هنا أن من نفى التمييز بين الأشياء مطلقاً، فهو مخالف لضرورة الحس.
وتكلم الشيخ هنا عن بعض مصطلحات الصوفية وهي: الفناء والسكر والاصطلام، وهي عبارات متقاربة مؤداها الوصول إلى حالة يفقد فيها الشخص التمييز بين الأشياء.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/106، 310-311.(1/416)
فيذكر الشيخ أن الشخص قد يكون في بعض الأحوال والأوقات -كما في المصطلحات السابقة- لا يميز بين بعض الأشياء؛ لوجود ما يشغله عن الإحساس ببعض الأمور، أما أن يسقط إحساسه بالكلية فلا يميز بين الأشياء مطلقاً، فهذا لا يكون مع وجود الحياة. فالنائم - مثلاً- لا يسقط إحساسه بالكلية، بل يحس بنفسه فيرى في منامه ما يسره تارة وما يسوءه أخرى.
....................................................................................
فمن زعم سقوط الحس والتمييز بالكلية مع وجود الحياة، فقد غلط على الشرع والقدر والحس. فحالة الفناء والسكر والاصطلام، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي حالة نقص لضعف تمييز صاحبها، ولكنها مع هذا الضعف لا تصل إلى حد يسقط فيه التمييز بين الأشياء مطلقاً ما دامت حياته باقية فيه.
ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً، وعظّم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدراً وشرعاً: غلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن وجود هذا، ولا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز والعقل والمعرفة.
قوله "ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً..." الخ.
أي: ومن عظم مقام نفي التمييز مطلقاً، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية أي شرعاً وقدراً.
أما غلطه من جهة الشرع، فحيث مدح عدم التمييز بين الأشياء، وهذا باطل؛ لأن عدم التمييز وعدم العقل والمعرفة غير ممدوح.
وأما غلطه من جهة القدر، فحيث ظن أن عدم التمييز مطلقاً يمكن أن يوجد مع الحياة، وهذا باطل؛ لأنه لا وجود له، فالله تعالى لم يقدره ولم يخلقه.
فمن ادعى وجود شيء غير موجود في الواقع، فهو غالط من جهة الحقيقة الكونية القدرية، ومن مدح شيئاً لم يثن عليه الشرع ولم يأت به، فهو غالط على الحقيقة الشرعية، حيث مدح ما لم يمدحه الشرع، ودعا إلى ما لم يرد به الشرع.(1/417)
وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد أن لا أريد، أو إن العارف لا حظّ له، أو إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل، ونحو ذلك -فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدِّين والعقل.
قوله "وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول..." الخ.
يذكر الشيخ هنا بعض عبارات الصوفية، ويناقشها، ويبين ما تحتمله من معنى صحيح وباطل.
فالعبارة الأولى: أريد ألا أريد، فهذا إنما يمدح منه سقوط الإرادة التي لم يؤمر بها الشخص، إرادة المحرم، وإرادة المفضولات المباحة. أما سقوط إرادته مطلقاً حتى عن إرادة الطاعة وترك المعصية فهذا محرم شرعاً؛ لأنه يجب على الإنسان أن يريد الطاعة وترك المعصية. كما أن سقوط الإرادة مطلقاً بحيث لا يريد أن يفعل ولا يترك مخالف للحقيقة الكونية.
وأما العبارة الثانية: وهي قولهم إن العارف لا حظ له، فهذا يمدح منه عدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، أي: ترك حظوظ الدنيا التي لم يؤمر بطلبها، أما الحظوظ التي أمر بها فإنه لا يمدح بتركها.
....................................................................................
وأما العبارة الثالثة: وهي قولهم: إن العارف يصير كالميت بين يدي الغاسل، فهذا إنما يمدح كونه كالميت في ترك طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.
أما أن يكون كالميت بالنسبة لجميع الأقدار، فهذا مخالف للحس والعقل والشرع، فإذا أحسن بالبرد، أو الجوع، أو الخوف، فعل ما يدفع ذلك، وهذا أمر معلوم بالحس والعقل، كما أن مقتضى الشرع أن نفر من قدر الله إلى قدر الله.
والفناء يراد به ثلاثة أمور:(1/418)
أحدها - وهو الفناء الديني الشرعي، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، هو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى: ((ِ@è% إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ "[التوبة: 24]، فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله.
وأما الفناء الثاني - وهو الذي يذكره بعض الصوفية، وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله -فهذا حال ناقص، قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرض مثل هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والسابقين الأولين.
ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالاً مبيناً، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك.
وأما الثالث - فهو الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود
....................................................................................
المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهذا قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذين هم من أضل العباد.(1/419)
وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهداً للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور، فعومل بموجب ذلك مثل أن يُضرب ويجاع حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع - فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله، وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له: هذا الذي فعله مقضي مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله، وهو يعمّكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له. فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي.
قوله "والفناء يراد به ثلاثة أمور..." الخ.
الفناء في اللغة هو: العدم والذهاب والزوال، وللفناء أقسام ثلاثة(1) هي:
الأول: الفناء الديني الشرعي، وهو الفناء بما يريد الله تعالى عن غيره، فيفنى بعبادة الله تعالى عن عبادة غيره، وبالخوف منه عن خوف غيره، والمراد بالخوف هنا الخوف العبادي الإرادي، وهذا الخوف لا يصل إلى درجة التجرد من الخوف الطبيعي، كالخوف من السبع والعدو ونحو ذلك، فإن هذا الخوف الطبيعي ليس بمذموم مطلقاً إلا حين يصل إلى حد ترك ما أوجب الله تعالى، فيكون مذموماً، كمن يترك الجهاد الواجب في سبيل الله خوف القتل أو العدو.
وهكذا بقية العبادات: فيفنى عن التوكل على غير الله بالتوكل على الله، وعن طاعة غير الله بطاعته وطاعة رسوله، وعن محبة غير الله بمحبته ومحبة رسوله،
....................................................................................
بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11/337-343، طريق الهجرتين ص 260، مدارج السالكين 1/167.(1/420)
كما قال تعالى: ((ِ@è% إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ "[التوبة: 24]، فكل من فني عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به فقد جاء بما أمر الله به ورسوله من الفناء الشرعي.
الثاني: الفناء عن شهود السوى، وهو الفناء بالله وفي الله، وهذا الفناء يذكره بعض الصوفية، وحقيقته أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيغيب عن شعوره بما سوى الله حتى عن نفسه يفنى بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره، وبمعروضه عن معرفته، والضمير في قوله "بمعبوده" يرجع إلى العبد أي: يفنى بربه. والضمير في قوله "عن عبادته" يصلح أن يكون راجعاً للعبد أو للرب، أي: يفنى بربه عن عبادة ربه، أو عن عبادته لربه؛ لأن المصدر يجوز أن يضاف إلى الفاعل نحو: عبادة العبد لربه، وأن يضاف إلى المفعول نحو: عبادة الرب.
وهكذا بقية الجمل: بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، ومثله بمشهوده عن شهوده أي: يفنى بربه عن شهود ربه ،أي: عن شهوده إياه، أو شهوده الله.
وحال صاحب هذا الفناء حال ناقصة لا يمدح بها، فهي من العوارض التي تعرض لبعض السالكين، وليست هي من لوازم الطريق إلى الله، وهذا النوع من الفناء معدود عند الصوفية أعلى مقامات الدين.
....................................................................................(1/421)
والحق أنه ليس من الدين، بل غاية صاحبه أن يكون معذوراً إذا وقع له ذلك من غير قصد إليه ولا تحر له، والرسول - صلى الله عليه وسلم - -وهو أكمل الخلق وأعلمهم بالله- لم يحصل له هذا الفناء. بل كان يشعر بمن حوله، وبمن وراءه في الصلاة، حتى كان يسمع بكاء الصبي وهو يصلي فيخفف صلاته لذلك.
الثالث: الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، فالوجود عنده واحد بالعين، وحقيقة ذلك: اعتقاد ألا موجود إلا الله، وهذا مذهب أهل الإلحاد والاتحاد القائلين بوحدة الوجود، الذين هم أضل العباد.
وهؤلاء الذين يزعمون أن النظر إلى الحقيقة الكونية القدرية يوجب عدم التمييز بين المأمور والمحظور مخالفون للعقل والقياس، كما أنهم مخالفون للشرع.
فإن الواحد منهم لا يمكنه أن يطرد قوله، لأنه إذا كان مشاهداً للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور، ولا بين الظالم والمظلوم، فيلزمه ألا يلوم ولا يعيب على من يضربه ويمنعه حقه؛ لأنه إن لام غيره أو عابه فقد نقض مذهبه في عدم التمييز وفي الفناء عن شهود السوى.
فيقال له: هذا الذي ظلمك فعل ذلك بقدر الله تعالى، فخلق الله وقدره ومشيئته واقع عليك وعليه، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لمن ظلمك، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له.
وبهذا يتبين فساد من ينظر إلى القدر ويعرض عن أوامر الشرع ونواهيه.(1/422)
والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى: ((bخ)ur تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا "[آل عمران: 120]، وقال تعالى في قصة يوسف: ((¼çm¯Rخ) مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ڑْüدZإ،َsكJّ9$#" [يوسف: 90] فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، ولهذا قال تعالى: ((÷ژة9ô¹$$sù إِن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ جچ"x6ِ/M}$#ur" [غافر: 55]، فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لابدّ لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (1)، وقال: (إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)(2).
__________
(1) أخرجه بنحوه البخاري في كتاب الدعوات، باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة برقم 6307 ولفظه والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ولفظه "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة" برقم 2702.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم 2702.(1/423)
وكان يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدّي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)(1).
....................................................................................
وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربّه وتاب إليه، فاجتباه ربه وتاب عليه وهداه، وعن إبليس أبي الجن أنه أصرّ متعلقاً بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب فتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم، قال تعالى: ((z>ةjyèمدj9 اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا $JJٹدm'"[الأحزاب: 73].
ولهذا قرن سبحانه وتعالى بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى: ((َOn=÷و$$sù أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ "[محمد: 19]، وقال تعالى: (((# qكJة)tGَ™$$sù إِلَيْهِ çnrمچدےَّtGَ™$#ur"[فصلت: 6]، وقال تعالى: ((چ!9# كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ 'wK|،oB"[هود: 1-3].
__________
(1) أخرجه بنحوه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت برقم 6398، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم 2719.(1/424)
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره: (يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)(1).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن ذي النون أنه نادى في الظلمات ((br& لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ ڑْüدJخ="©à9$#"[الأنبياء:87] قال تعالى: (($uZِ6yftGَ™$$sù لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي tûüدZدB÷sكJّ9$#"[الأنبياء: 88]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوة
....................................................................................
أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله بها كربه)(2).
....................................................................................
قوله "والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور..." الخ.
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/123) والديلمي في الفردوس (ص 84)، وابن أبي عاصم في السنة برقم 7، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10/207) وقال: فيه عثمان ابن مطر وهو ضعيف.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعوة ذي النون، برقم 3505، والإمام أحمد في مسنده 1/170 برقم 1462، والحاكم في مستدركه 1/505، وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في تلخيصه.(1/425)
المؤمن مأمور بأن يفعل ما أمر به ويترك ما نهي عنه، وهذه حقيقة التقوى، كما أنه مأمور بأن يصبر على ما قدر عليه، وقد جمع الله بين التقوى والصبر، وذكر عاقبتهما في آيات كثيرة ومنها قوله تعالى: ((bخ)ur تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ¨"[آل عمران: 120]، وقوله تعالى في قصة يوسف: ((¼çm¯Rخ) مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ڑْüدZإ،َsكJّ9$#"[يوسف: 90]. كما أمر الله تعالى بالاستغفار مع الصبر، كما قال سبحانه: ((÷ژة9ô¹$$sù إِن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ "[غافر: 55].
والإنسان مهما بلغ من منزلة فلابد له من الاستغفار لأنه دليل التواضع وشعور العبد بالتقصير، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكثرون الاستغفار، والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كان كثير الاستغفار، وأمر بذلك كما قال في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة) وفي الحديث الآخر -الذي رواه البخاري- يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).
....................................................................................
وفي لفظ (إنه لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) وقوله: "ليغان على قلبي" فسر بما يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - من غفلة عن اللائق به(1). وهذا إنما يحصل له بما يناسب مقامه، فمقامه - صلى الله عليه وسلم - رفيع بل هو أرفع المقامات، فإذا نقص أو كاد استغفر ربه وتاب إليه. والاستغفار له ألفاظ وصيغ:
- فتارة يكون بطلب المغفرة بصيغة الدعاء كقول: اللهم اغفر لي.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 15/283.(1/426)
- وتارة يكون بصيغة الاستفعال أي: الفعل المزيد بالسين والتاء اللتين للطلب مثل: أستغفر الله.
- وتارة بذكر اسم الله تعالى كقوله: يا الله إنك غفور رحيم.
- وتارة يكون بالاعتراف بالذنب كقول ذي النون عليه السلام: ((br& لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ ڑْüدJخ="©à9$#"[الأنبياء: 87]. وقد اجتمعت هذه الأنواع في الحديث الذي رواه أبوبكر الصديق رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) إلخ(1).
- وقد ورد الاستغفار في نهاية الأعمال: كنهاية الصلاة، وقيام الليل في
....................................................................................
السحر، ونهاية أعمال الحج كما قال تعالى: (((#rمچدےَّtGَ™$#ur اللَّهَ إِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [البقرة: 199].
وهذا يدل على توقع النقص والتقصير كما أنه دليل التواضع.
وكثيراً ما يقرن الاستغفار بالتوحيد كما في قوله تعالى: ((َOn=÷و$$sù أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ ڑپخ7/Rs%خ!"[محمد: 19](2).
وجماع ذلك أنه لابد له في الأمر من أصلين، ولابد له في القدر من أصلين، ففي الأمر عليه الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً، فلا يزال يجتهد في العلم بما أمر الله به، والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور، وتعديه للحدود.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء في الصلاة، برقم 6326، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم 6869.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 11/696.(1/427)
ولهذا كان من المشروع أن تختتم جميع الأعمال بالاستغفار فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقد قال تعالى: ((ڑْïجچدےَّtGَ،كJّ9$#ur ح'$ysَ™F{$$خ/"[آل عمران: 17] فقاموا الليل ثم ختموا بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قوله تعالى: ((#sŒخ) جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ $R/#qs?"[سورة النصر]، وفي الحديث الصحيح أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأول القرآن(1).
وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، فيكون مفتقراً إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدَّر عليه.
ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى، لما قال: يا آدم أنت أبو البشر
........................................................................................
__________
(1) أخرجه البخاري (1/274) كتاب صلاة الليل، باب الدعاء في الركوع برقم 817، ومسلم (1/350) كتاب الصلاة برقم 484.(1/428)
خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق ((#س|آtمur آَدَمُ رَبَّهُ 3"uqtَsù"[طه: 121] قال: بكذا وكذا سنة، قال: فحجّ آدم موسى(1). وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب، فإن آدم كان قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له -ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك، وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى: ((÷ژة9ô¹$$sù إِن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ ڑپخ7/Rs%خ!"[غافر: 55].
قوله "وجماع ذلك أنه لابد له في الأمر من أصلين..." الخ.
لابد للعبد في الأمر والشرع من أصلين:
1- الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً.
2- الاستغفار والتوبة من التفريط في أداء المأمور أو تعديه الحدود، فالاستغفار مطلوب من العبد قبل التوبة؛ لأنه قد يكون سبباً في التوبة، كما أنه مطلوب بعد التوبة لكونه من أسباب قبولها.
ولابد في القدر من أصلين(2):
1- الاستعانة بالله في فعل المأمور والتوكل على الله والافتقار إليه في طلب
....................................................................................
الخير، وترك الشر.
2- الصبر على المقدور، ويعلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ومن النصوص الدالة على التوبة، والصبر على المصيبة، والنظر إلى القدر في ذلك حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام.
وهذا الحديث مما يتعلق به الجبرية في الاحتجاج بالقدر على الذنب، وقد وقف الناس من هذا الحديث مواقف عدة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله، برقم 6614، ومسلم في كتاب القدر برقم 2652.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/76-77.(1/429)
فالجبرية استدلوا به كما تقدم، والقدرية ردوه بحجة أنه آحاد، ومن الأجوبة قول من قال: إنما حجه لأنه أبوه، وإلا فالحجة لموسى وهذا ضعيف.
وأحسن ما قيل في هذا الحديث قولان:
1- أن موسى عاتب آدم على الذنب، وليس له ذلك لأنه قد تاب منه، ومن تاب من الذنب فهو كمن لا ذنب له، وله الاحتجاج بالقدر إذا لامه أحد على الذنب الذي تاب منه، لكن لا ينظر إلى القدر نظر تهوين المعصية على النفس؛ لأن هذا يضعف الشعور بالذنب والمعصية، وإنما تكون عنده بمثابة المصيبة التي رفعها الله عنه.
2- وهو أحسنها أن عتب موسى على آدم لم يكن على الذنب وإنما على المصيبة التي هي الخروج من الجنة، والمصيبة ليس لآدم عليه السلام فيها دخل، فهو لم يرد الخروج من الجنة. فكان لآدم أن يحتج بالقدر على المصيبة وكانت الحجة
....................................................................................
له على موسى عليه السلام وهذا هو الصواب، فيحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب والمعاصي(1).
فالعبد ينظر إلى القدر في المصائب لتخفيف وقعها على النفس، وليستقيم سلوكه عند المصيبة.
فمن راعى الأمر والقدر -كما ذكر- كان عابداً لله، مطيعاً له، مستعيناً به، متوكلاً عليه، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/304-306، 2/324-326، 11/258-259.(1/430)
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع، كقوله تعالى: ((x‚$ƒخ) نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ عْüدètGَ،nS"[الفاتحة: 5]، وقوله تعالى: ((çnô‰ç6ôم$$sù وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ " [هود: 123]، وقوله تعالى: ((دmّn=tم تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ ـ=ٹدRé&"[الشورى: 10]، وقوله تعالى: ((`tBur يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ #Y'ô‰s%"[الطلاق: 3]، فالعبادة له والاستعانة به، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عند الأضحية: (اللهم منك ولك)(1)، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم.
قوله "فمن راعى الأمر والقدر..." الخ.
أراد الشيخ أن يجمع بين الأمور الأربعة السابقة في الأمر والقدر، فذكر أنه لابد من أصلين: 1- العبادة 2- الاستعانة.
فالعبادة تكون بفعل المأمور وترك المحظور والصبر.
والاستعانة طلب العون من الله تعالى للقيام بشرعه، كما قال تعالى: ((x‚$ƒخ) نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ عْüدètGَ،nS".
....................................................................................
وهذه الآية تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة:
أما توحيد الربوبية فيدل عليه قوله: ((y‚$ƒخ)ur عْüدètGَ،nS"، فإفراده بالاستعانة دليل على أنه هو الذي بيده التدبير والخلق وحده، وأنه المالك لكل شيء وبيده الخير.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا برقم 2795، وابن ماجه في كتاب الأضاحي، باب أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم 3121، وأحمد في مسنده 3/375، والحاكم 1/467، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(1/431)
وأما توحيد العبادة والإلهية فيدل عليه قوله تعالى: ((x‚$ƒخ) ك‰ç7÷ètR"، فهو سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه.
وأما توحيد الأسماء والصفات، فوجه دلالة الآية عليه، أنه ما دام هو المعبود وحده والمستعان وحده دون سواه فلابد أن يكون ذلك منعوتاً بأكمل النعوت ومسمى بالأسماء الحسنى. فيوحد الله تعالى بالعبادة والاستعانة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عند الأضحية: (اللهم منك ولك) فقوله: (منك) يدل على الربوبية، وقوله: (لك): يدل على العبودية والألوهية والإخلاص.
فما لم يكن بالله لا يكون لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم.
ولابد في عبادته من أصلين:
أحدهما: إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله في قوله تعالى: ((ِNن.uqè=ِ7uد9 أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "[الملك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه. قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟. قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدِّين الذي لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدِّين، قال الله تعالى: ((÷Pr& لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ "[الشورى: 21]، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، والدّين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله.
قوله "ولابد في عبادته من أصلين..." الخ.
يبين الشيخ أنه لابد في العبادة من أصلين هما شرطا قبول العمل والعبادة.(1/432)
1- الإخلاص لله تعالى 2- المتابعة والموافقة لشرع الله.
ومن دلائل شرط الإخلاص قوله تعالى: ((!$tBur أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ tûïدe$!$#"[البينة: 5].
....................................................................................
ومن دلائل شرط المتابعة قوله تعالى: ((ِNن.uqè=ِ7uد9 أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "[الملك: 2] قال الفضيل بن عياض: "أخلصه وأصوبه"، قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة".
ومن الأدلة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(1).
تنبيه: كثير من الناس يطلق الإخلاص على الاجتهاد في العمل، وبذل الوسع فيه، وهذا أقرب ما يصدق عليه اسم الجد والصدق في العمل، أما الإخلاص في الشرع فيقصد به إخلاص النية والقصد لله وحده. فالمخلص هو الذي أراد بعمله وجه الله تعالى دون سواه.
نعم الإخلاص يدفع إلى الجد في العمل، لكن ليس كل جاد في عمله يعد مخلصاً.
ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام:
فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه.
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحرِّياً للطاعة والورع، ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية برقم 4493.(1/433)
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة، فقد يمكَّن أحدهم، ويكن له نوع من الحال باطناً وظاهراً، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف، ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة.
وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن عمله لله، ولا أنه بالله.
فالمعتزلة ونحوهم من القدرية الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي، والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، فيصيرون أيضاً معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من هذا
....................................................................................
الوجه، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شراً من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت في البصرة.(1/434)
وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خير القرون، وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله بعد النبيين، قال تعالى: ((ڑcqà)خ6"،،9$#ur الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا çm÷Ztم"[التوبة: 100] فرضي عن السابقين الأولين رضاء مطلقاً، ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(1).
وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: من كان منكم مستنّا فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم(2). وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً(3).
....................................................................................
__________
(1) أخرجه بنحوه البخاري (2/938) كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور، برقم 2652، ومسلم (4/1963) كتاب فضائل الصحابة، برقم 2533.
(2) أخرجه ابن عبدالبر في جامع العلم وفضله (ص 368) والبغوي في شرح السنة (1/214).
(3) أخرجه البخاري (13/7282) كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برقم 7282.(1/435)
وقد قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: (هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ "[الأنعام: 153])(1).
وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نقول في صلاتنا: (($tRد‰÷d$# الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا tûüدj9!$ز9$#"[الفاتحة: 6-7] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون)(2)، وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم. ولهذا كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. وقال تعالى: (($¨Bخ*sù يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا 4's+ô±o""[طه: 123]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفّل الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه أن لا يظل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وقرأ هذه الآية(3).
....................................................................................
__________
(1) أخرجه أحمد (1/435)، والحاكم في مستدركه (2/318) وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن، باب سورة فاتحة الكتاب برقم 2953، وحسنه وأحمد في المسند 4/378-379.
(3) أخرجه بنحوه الطبري في تفسيره لآية (123) من سورة طه، والحاكم في مستدركه 2/381 وصححه ووافقه الذهبي.(1/436)
وكذلك قوله تبارك وتعالى: (($O!9# (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ ڑcqكsخ=ّےكJّ9$#"[البقرة: 1-5]، فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
قوله "ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام..." الخ.
يذكر الشيخ هنا أن الناس في عبادة الله تعالى واستعانته أربعة أقسام(1):
القسم الأول: الذين يعبدون الله تعالى ويستعينون به وحده دون سواه، وهؤلاء هم المؤمنون وهم خير الأقسام.
القسم الثاني: أهل عبادة ولكنهم ليس عندهم استعانة بالله ولا صبر على المقدور، وهذا المنهج ينطبق على المعتزلة، أي: على نفاة القدر؛ لأنهم يثبتون الأمر والنهي، ويغلون في الوعد والوعيد، وينكرون القدر. ويشبههم من يغفل عن
....................................................................................
ربه وعن الاستعانة به، وهذا يناسب من يعجبون بأعمالهم، ويغفلون عن ربهم، وهؤلاء لا يكون عندهم صبر على المصائب، لأن نظرهم واستحضارهم للقدر ضعيف.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 10/32-35، 668-674، 13/323-358.(1/437)
القسم الثالث: من لهم استعانة وصبر، ولكنهم ليسوا أهل عبادة، فهم معرضون عن الأمر والنهي، أو أن إيمانهم بالأمر والنهي ضعيف، فنظرهم واقف على القدر. وهذا ينطبق على الجبرية من الجهمية والصوفية ونحوهم، وقد تقدم أن جهم بن صفوان كان يقول بالإرجاء مع قوله بالجبر.
وعند الموازنة بين القسم الثاني والثالث أي: بين المعتزلة والجبرية نجد أن الجبرية خير من المعتزلة في باب القدر، والمعتزلة خير من الجبرية في باب الأمر والنهي، أما من ناحية الموازنة العامة فنقول إن المعتزلة -على نفيهم القدر- خير من الجبرية؛ لأن إنكار القدر مع إثبات الأمر والنهي خير وأفضل من إثبات القدر مع الإعراض عن الأمر والنهي.
القسم الرابع: وهو شر الأقسام، وهم من لا يعبدون الله ولا يستعينون به، وهذا ينطبق على الملاحدة، وقد يصدق على المفرطين من المعتزلة؛ لأنهم في الأصل ينكرون القدر، فلا استعانة عندهم ولا صبر، ثم إذا فرط أحدهم في الأمر والنهي صار من هذا القسم، وقد يقرب ويشبه هذا المفرطون من فساق المسلمين عموماً، المفرطون في العبادة، والمعرضون عن ربهم، فلا يستعينون به، ولا يذكرونه إلا في أشد الشدائد أحياناً.
....................................................................................(1/438)
ثم ختم الشيخ - رحمه الله- هذه الرسالة القيمة المشتملة على بيان حقيقة الأصلين: التوحيد والصفات، والشرع والقدر وبيان المذهب الحق فيهما، بالدلائل العقلية والنقلية وما تبع ذلك من أصول وقواعد وفوائد، وتقسيمات، ختمها بأن دين الله تعالى هو ما بعث به رسله، وأنه هو الصراط المستقيم، وهو ما مضى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. وذكر آثاراً تدل على فضل الصحابة، وأنهم القدوة لمن جاء بعدهم، وأن اتباعهم إنما يتحقق بالعلم والعمل بمعرفة الحق واتباعه، فإن هذا هو صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. خلاف طريق المغضوب عليهم والضالين.
نسأله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا من المنعم عليهم بمنه وكرمه، وجزى الله شيخ الإسلام على ما بينه خير الجزاء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/439)