فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
من الشريط الأول إلى الوجه الأول من الشريط السادس
الشريط الأول :
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد : فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس : من الكلام في ( التوحيد ) ( والصفات ) وفي ( الشرع ) ( والقدر ) لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين ، وكثرة الاضطراب فيهما ، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة ، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات ، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات ))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فنستأنف درسنا في كتاب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهذا الكتاب يعرف بـ " الرسالة التدمرية " وموضوع الكتاب " تحقيق التوحيد الخبري الطلبي وهو توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية وتحقيق الشرع والقدر " .
موضوع الكتاب ينحصر في هذين الأصلين :
- تحقيق التوحيد الخبري .
- وتحقيق الشرع والقدر وأنهما متلازمان ، ولا بد من الإيمان بالقدر ولا بد من التسليم لشرع الله تعالى والعمل به ، هذا موضوع الكتاب .(1/1)
فشيخ الإسلام في الغالب الكثير لا يسمي كتبه التي يؤلفها من عند نفسه لأن كتبه أو أكثرها إنما هي عبارة عن إجابة على سؤال يرده أو فتوى وتلاميذه وأحبابه هم الذين يسمون هذه الرسائل وهذه الكتب بأسماء ، لذلك نجد أحيانا أسماء مختلفة ولكنها متقاربة لكتاب واحد .
يذكر شيخ الإسلام أنه كان يدرس مسائل في هذه المسائل التي أشرنا إليها التي هي موضوع الكتاب ، كان ألقى دروسا في هذه المسائل ، ثم بعض الطلاب طلبوا منه أن يكتب ويسجل لهم ما سمعوه .
من أعمال شيخ الإسلام التي عرف بها التدريس كثيرا والتأليف كثيرا والفتوى ، ليس من عادته الخطابة على المنابر ، لم تجر له عادة ولم يُعرف بأن يكون خطيبا على المنابر ، ولكنه معروف بالتدريس والفتوى مع النصح ومع التحريض على الجهاد خصوصا أيام التتر ومع المشاركة في الجهاد بالنفس هذه أعماله الظاهرة .(1/2)
يقول شيخ الإسلام في بداية هذه الرسالة (الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) هكذا ثبتت هذه الخطبة وهي تسمى خطبة الحاجة ، بـ " النون " نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ، بنون الجمع ، لأن المقام مقام الدعاء ، الداعي ينبغي أن يطلب لإخوانه المسلمين ما يطلب لنفسه ، ثم إن الدعاء والاستغفار والتعوذ من الأبواب التي تدخلها النيابة ، في إمكان الإنسان أن يستغفر لغيره ويستعيذ بالله لغيره ويدعو لغيره ، هذا ما قيل في سر إثبات نون الجمع في هذه الألفاظ ، بينما إذا وصل إلى الشهادة قال (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) لم يرد " نشهد أن لا إله إلا الله " بالنون ، لأن الشهادة إقرار منك واعتراف منك لا تنوب عن غيرك في ذلك وإنما هذا عملك الخاص ، لا تدخل النيابة في مثل هذا ، لذلك تكاد أن تتفق الروايات كلها بهذا الأسلوب ، وإن ثبتت رواية بـ " نشهد " يبحث عن ثبوتها - إن وردت أعني - إن وردت أو اطلعنا على بعض النسخ فيه " نشهد " يبحث عن ثبوتها ، لأن أكثر أهل العلم يقولون : لا تثبت " نشهد " ولكنها " أشهد " ، والفرق واضح بين ما تقدم وبين الشهادة .
هذه الخطبة كان يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة ، سميت خطبة الحاجة لأنها تقرأ عند الحاجات المختلفة : عند عقد النكاح ، عند بداية التأليف ، عند بداية التدريس وفي خطب الجمع ، في مناسبات متعددة يستحب قراءتها .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم ( من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ) هذه الهداية هداية التوفيق لا تحتمل غيرها ، الهداية هدايتان كما يعلم طلاب العلم : هداية التوفيق التي لا يملكها غير الله وهي الإلهام وهي التوفيق ، لا يتم عمل ما إلا بهذه الهداية بعد الهداية الأولى ، أي لا بد من اجتماع الهدايتين :(1/3)
- الهداية الأولى : هداية الإرشاد والدلالة ، ليست مرادة هنا لأن هداية الإرشاد والدلالة والبيان يملكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، الله أثبت لنبيه تلك الهداية " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " بعد هذه التأكيدات بـ ( إن ) و ( لام التأكيد ) " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " هذه الهداية هداية الدلالة والإرشاد والبيان يملكها رسول الله عليه الصلاة والسلام وأتباعه من الصحابة والعلماء العاملين والدعاة المخلصين كلهم يهدون الناس ، العلماء يهدون الناس أي يدلونهم على الخير ويدعونهم إلى الهدى ويبينون لهم الهدى يبينون لهم التوحيد من الشرك والسنة من البدعة ، هذه الهداية عامة ، الله سبحانه وتعالى هدى العباد جميعا بهذه الهداية ، ثم إن هذه الهداية لا تنفع وحدها إن لم تقترن بها :
- الهداية الثانية التي نحن بصددها وهي التي نفاها رب العالمين عن نبيه عليه الصلاة والسلام وحبيبه في قصة أبي طالب " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " أبو طالب هداه رسول الله صلى الله عليه وسلم هداية الإرشاد والبيان ، بين له الحق ودعاه إلى الحق ولكن الهداية الثانية لا يملكها وهي بيد الله سبحانه لذلك نفى عنه " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " .
على هذا قوله " من يهده الله فلا مضل له " من وفقه الله وألهمه الصواب لا مضل له " ومن يضلله فلا هادي له " من أضله الله لا هادي له بهداية التوفيق ، وهداية الإرشاد قد عرفناها .(1/4)
ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مطلع الرسالة التدمرية ( أما بعد : فقد سألني من تعينت إجابتهم ) هل هناك من تتعين إجابتهم ومن لا تتعين إجابتهم؟ معنى تعين الإجابة أي من يحتاجون إلى هذا العلم ، كل من يحتاج إلى العلم تتعين إجابته إذا سأل ، سواء سأل بلسان المقال أو بلسان الحال ، من سألك بلسان المقال عن علمٍ ، وجب عليك أن تجيبه إذا كنت تعلم تلك المسألة ، أو سألك بلسان الحال ، كأن صلى بجوارك رجل لا يجيد الصلاة ، صلى صلاة كصلاة المسيء صلاته وجب عليك أن تجيبه لأنه سألك بلسان حاله ، تعامله كما عامل النبي عليه الصلاة والسلام المسيء صلاته ، تعلمه وترشده وتبين له صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا أكثر الناس قد سألونا وطلبوا منا طلبا حثيثا بلسان الحال وإن لم يسألوا بلسان المقال خصوصا في هذه التجمعات كالحرمين وغيرهما ، عندما نرى الجهل الواضح لدى كثير من المسلمين في العقيدة والعبادة وغير ذلك لا ينبغي أن ننتظر حتى نُسأل بلسان المقال ، بل يجب المبادرة إلى إجابتهم ، إجابة سؤالهم بلسان الحال ، فهذا البيان فرض عين على كل طالب علم ، وبيان العلم وبيان الهدى والدعوة إلى الدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، أكرر هذه المسألة في هذه الأيام بالمناسبة لأننا نرى أن كثيرا من شبابنا ينشطون في للجهاد في سبيل الله - تقبل الله منهم - ما لا ينشطون في البيان والتعليم والتبليغ بينما إنما شرع الجهاد للضرورة ، معنى الضرورة : لو كانت الناس جميعا استجابت من أول وهلة فدخلوا في دين الله أفواجا ولم يبق كافر معاند واقف في سبيل الدعوة إلى الله لا يشرع الجهاد لا حاجة إلى الجهاد ، إذن الواجب الأصيل الدعوة والبيان والواجب العارض للضرورة الجهاد في سبيل الله ، بحيث إذا استسلم القوم سقط هذا الجهاد فوقف ، إنما شرع لسبب ، ولكن الأصيل هذا البيان ، وهذا البيان كما قلت لكم يتوقف على سؤال بلسان المقال أو على سؤال(1/5)
بلسان الحال والكل حاصل الآن ولا ينبغي التقصير في هذا الواجب الأصيل والتعويض عنه بالواجب الضروري ، ومن وفقه الله فجمع بينهما فهذا خير كثير وإلا ومن يضيع الأصيل ليشتغل بالضروري العارض مقصر ، فليُعلم هذا جيدا ، نبه على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، في المجلد الأول في حدود صفحة ( 70 ) تقريبا ، راجع لتتأكد عن صحة هذه المسألة وهي مسألة مهمة جدا يغفل عنها كثير من طلاب العلم .
( سألني من تعينت إجابتهم ) لأنهم بحاجة إلى هذا العلم .
(أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس ) لاحظوا أنهم قد سمعوا هذه المسائل ، طلبوا منه أن يكتب لهم مضمون كلاما يتضمن ما سمعوه ، ما سمعوا منه في بعض المجالس ليحفظوا ، لأن ما حفظ فر وما كتب قر ، لذلك طالب العلم لا يكتفي بالحفظ ، يحفظ فيسجل .
(من الكلام في التوحيد والصفات ) المراد بالتوحيد هنا توحيد الربوبية " في التوحيد والصفات " .
توحيد الربوبية وإن كان لا يغني وحده ولكنه هو الأول لأنه توحيد الفطرة ، والعباد مفطورون على معرفة الخالق الرازق المعطي المانع ، إلى آخر صفات الربوبية .
(وفي الشرع والقدر ) تلك المسائل في الشرع والقدر ، الإيمان بالشرع والعمل بالشرع ، والإيمان بالقدر والاستسلام للقدر ، وأن لا يعارض الشرع بالقدر ، ولا يعارض القدر بالشرع ، من أهم المسائل في باب التوحيد هذه المسألة ، تحقيق الشرع ومعرفة الشرع والعمل بالشرع وأن لا يعارض الشرع بالقدر ، الجمع بينهما أمر ضروري هما متلازمان ، لا يتم الإيمان بالشرع والعمل بالشرع إلا بالإيمان بالقدر ، أي بالإيمان بأن الله علم كل شيء أزلا فكتب عنده وأراده وشاءه بمشيئته العامة ثم قضى وفعل ونفذ على ضوء ما تقدم في علمه ، هذا الإيمان بهذه المراتب :
- المرتبة الأولى : العلم .
- المرتبة الثانية : الكتابة .
- المرتبة الثالثة : المشيئة العامة .(1/6)
- المرتبة الرابعة : الفعل والتنفيذ والقضاء .
أساس من أسس الإيمان ، لذلك الإيمان بالقدر كما نعلم ركن من أركان الإيمان .
ومعنى القدر ومعنى الإيمان بالقدر معرفة هذه المراتب والوقوف عندها وأن لا يخاصم الرب بالقدر ، لا يخاصم الرب سبحانه وتعالى ويعترض عليه في شرعه بقدره ، لا يقال للرب سبحانه وتعالى لِم فعلت كذا ؟ لم أغنيت ؟ لم أفقرت ؟ لم أفنيت ؟ لم عافيت ؟ إلى آخره ، هذه تعتبر مخاصمة لله واعتراض على الله ، لا يجوز السؤال في باب القدر بـ " لم " مطلقا كما لا يجوز السؤال في باب الأسماء والصفات بـ " كيف " ، إذا أثبت الله لنفسه صفاتٍ أو أثبتها له رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام لا يجوز لعبد ما مؤمن أن يقول كيف ذلك ؟ كيف قدرته ؟ كيف علمه ؟ كيف استواؤه ؟ كيف أصابعه ؟ كيف مجيئه لفصل القضاء ؟ كيف نزوله في آخر كل ليلة ؟ السؤال بـ " كيف " تكييف وهذا التكييف يؤدي إلى أحد أمرين :
-إما التشبيه .
- وإما التعطيل .
إذا سألت بـ " كيف " إما أن تنتهي بأنه على كيفية كذا وكذا وهو التشبيه أو تقول يجب نفي هذه الصفات لأننا لا نعلم معناها وتؤدي إلى التعطيل . في هذا الباب السؤال بـ " لم " اعتراض على الله ومخاصمة لله ورد لأحكامه لذلك ركز شيخ الإسلام في هذا الكتاب على هذه المسألة أكثر من كل المسائل .
قال الشيخ ( لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين ) التوحيد الخبري الطلبي ، وتوحيد في الشرع والقدر .
(وكثرة الاضطراب فيهما ، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ، ومع أن أهل النظر ) المراد بأهل النظر علماء الكلام والفلاسفة ، إذا قيل أهل النظر هم علماء الكلام والفلاسفة .
(والعلم والإرادة والعبادة ) هذا يشمل أهل العلم بالكتاب والسنة " والإرادة " الإرادة أصل في كل عمل ، " والعبادة " قد يكون هذا لأهل السلوك والتصوف يشمل كل هؤلاء ، هؤلاء جميعا بأمس الحاجة إلى تحقيق مسألة الشرع والقدر لأن الاضطراب كثر عندهم جدا .(1/7)
وشيخ الإسلام عندما يتحدث عن مثل هذه المسألة عن مشاهدته لأن هذه الطوائف التي يشير إليها عاشرها وخالطها وناظرها ونازلها وأفحمها بتوفيق الله تعالى ، لذلك هو من أعرف الناس بهذه الطوائف ، لأن الرجل ولد بـ " حرّان " ثم انقل في سفره إلى دمشق وفتح الله عليه في وقت قصير وتبحر في هذه العلوم كلها المنقولات والمعقولات ، ثم فاجأ الناس فجأة أن ظهر بدمشق أن ظهر من بينهم ـ لم يأت غريبا عنهم ـ فإذا هو يظهر من بينهم فيصدع بالحق وينتصر لمذهب السلف ويجهر لمحاربة هذه الطوائف كلها ، من جهمية ومعتزلة وأشعرية كلابية وصوفية وحلولية وجميع الطوائف الموجودة المجتمعة في المنطقة ، قام وحده ، جندي واحد يجابه جميع الجبهات ، سبحان الله ، وكلهم رموه من قوس واحد ، ولكن الله ثبته فأفحمهم جميعا ، لم يجدوا ولم يعلموا ماذا يفعلون إلا رفع القضايا إلى السلطات وطلب سجنه أو إبعاده ، لا سبيل غير هذا ، ولم يطالبوا بحمد الله بقتله ولكن طالبوا إما بإبعاده ونفيه أو بسجنه ليسكن السجن ، فيقبل السجن ، فيدخل السجن فيحول السجن مدرسة ويحبه أهل السجن ويتمنون أن لا يخرج من عندهم ، فيتضايق علماء السوء وهم في الشوارع من ذاك الذي في السجن ، فيطلبون نفيه ، فينفى إلى بلد آخر من دمشق إلى القاهرة ، وفي القاهرة يتربع على الكرسي فيبدأ في التدريس ، فيتضايقون ، فيطلبون إما بسجنه أو إبعاده وهكذا دواليك بين دمشق والقاهرة والإسكندرية ، إما السجن أو النفي ، لما تضايق القوم قال شيخ الإسلام : ماذا يفعل خصومي بي ؟ إن سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة ، ماذا يفعل الخصوم ؟ هل هناك احتمال رابع ؟ لا ، ثلاث احتمالات : سجن وإبعاد وقتل ، استسلم لكل ذلك ورضي بذلك يقينه في الله وقوة إيمانه وقوة مراقبته جعلته هذه المعاني يستسلم لهذه كلها ، لا يهاب من شيء ، لذلك وفقه الله ، إن دخل السجن ألف مؤلفات مع التعليم ، وإن نفي اشتغل في منفاه بالتأليف والفتوى(1/8)
والتعليم ، بهذا أبقى للأمة الإسلامية مكتبة عظيمة ، لو جمعت كتب شيخ الإسلام التي ظهرت والتي لم تظهر بعد ، لشكلت مكتبة حافلة ، الله المستعان ، يعطي الله من يشاء .
قال شيخ الإسلام (لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر ) لهؤلاء الطوائف ، سواء كانوا على الحق أو على الباطل ، الفِرَق التي أشار إليها لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال (ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال ) لأن الإنسان الذي لم يتمكن من معرفة الهدى من الضلال مهما درس تخطر له خواطر ، وتعرض عليه أقوال وتورثه الشبه .
(لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات ) " بالحق تارة وبالباطل تارات " هذا من إنصافه رحمه الله ، لأن علماء الكلام وإن كان الباطل عندهم كثير لكن لا يخلون من الحق في الغالب ولو مرة واحدة على اختلاف بينهم ، إلا من أعرض عن الكتاب والسنة إعراضا كليا ( كالجهمية والاتحادية والروافض ) هؤلاء أعرضوا عن الكتاب والسنة إعراضا كليا لا يلتمسون الحق في الكتاب والسنة أبدا ولا يتعلقون بهما ، وإلا فجميع الطوائف الضالة كالخوارج والجبرية والقدرية والمعتزلة والأشعرية وغيرها كلهم يدندنون حول الكتاب والسنة إما بالتأويل أو بالنفي ، بالجملة يؤمنون ، والجهمية خرجت لا تؤمن والروافض خرجت لا يؤمنون بل يزعمون لهم مصحف غير هذا المصحف ، والاتحادية خرجت لأنها زعمت انهم تجاوزوا هذه المنطقة منطقة الشرع إلى الحقيقة وإلى علم الباطن ، غير هذه الثلاثة جميع الطوائف قد تكون لديهم أحيانا نوع أو يوجد لديهم أحيانا نوع من الحق .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات ، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض نفيا وإثباتا .(1/9)
والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب ، وبين الحب والبغض والحض والمنع . حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان ، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان : خبر وإنشاء ، والخبر دائر بين النفي والإثبات ، والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة )).
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ( فالكلام في باب التوحيد والصفات ) أي في باب توحيد الربوبية والصفات (هو من باب الخبر ) ولذلك يقال لهما معا أي توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات يقال لهما التوحيد الخبري من باب الخبر والخبر ( دائر بين النفي والإثبات ) الخبر في أصله ، يقال ما يحتمل الصدق والكذب لذاته بصرف النظر عن القائل ، عن المُخبِر ، الخبر ، تعريف الخبر عندهم : ما يقبل الصدق والكذب لذاته ، إنما قالوا لذاته ليخرج كلام الله وكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام .
(والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة ) يقال لهذا التوحيد التوحيدُ الطلبي والتوحيد الإرادي له أسماء كثيرة .
(من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة ) الإرادة أصل في جميع الأعمال لأن الإنسان لا يعمل عملا من خير أو شر إلا بإرادة ، لأن الله خلقه وخلق فيه الإرادة وخلق له الاختيار وخلق له القدرة ، لذلك كما سيأتي مسألة الإرادة إرادة العبد من الأصل الذي ضل فيه بعض أهل الكلام الذين نفوا إرادة العبد .
" بين الإرادة والمحبة " المحبة في باب الشرع والقدر أن تحب الله وتحب مرضاته .
(وبين الكراهة والبغض ) تكره الشرك وتكره المعاصي وتكره الخروج على الشرع ، وتبغض أصحاب المعاصي والبدع نفيا .(1/10)
(نفيا وإثباتا) إثبات ما أثبت الله لنفسه وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام ، ونفي ما نفى الله عن نفسه ونفى عنه رسوله عليه الصلاة والسلام ، إثبات شرع الله ، وإثبات القدر ، كل ذلك داخل في هذه الجمل .
(والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب ) هذا شيء فطر عليه الإنسان (وبين الحب والبغض والحض ) وهو الحث على العمل على العمل بالشريعة (والمنع ) والامتناع عما نهى الله عنه .
(حتى إن الفرق بين هذا النوع) الذي هو توحيد الشرع والقدر (وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة) العامة والخاصة الذين لم تتغير فطرهم ، يفرقون بين النفي والإثبات وبين التوحيد الطلبي والخبري وبين توحيد العمل .
(وعند أصناف المتكلمين ) المتكلمون سواء كانوا أصابوا أو أخطئوا لكن يفرقون بين هذا النوع بين النفي والإثبات والكذب والصدق .
(عند أصناف المتكلمين في العلم ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان) في باب الأيمان عندما يتكلمون على اليمين ، اليمين يجب أن تكون على المستقبل ، المستقبل الممكن كالسفر والقراءة والحفظ ، شيء تعمله في المستقبل ، وإذا كان في الماضي ، إن حلف على شيء ماض وهو كاذب يسمى اليمين الغموس ، لذلك الفقهاء يفرقون بين هذا وذاك وذكروا ذلك في كتاب الأيمان . (وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو) أهل النظر كما قلنا المتكلمون والفلاسفة عندما قسموا الكلام إلى خبر وإنشاء .
(والنحو والبيان) هؤلاء كلهم يتفقون على تقسيم الكلام إلى خبر يحتمل الصدق والكذب ويحتمل النفي والإثبات ، وإلى إنشاء هو الطلب .
( فذكروا أن الكلام نوعان : خبر وإنشاء ، والخبر دائر بين النفي والإثبات ) ( وبين الصدق والكذب ) ( والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة ) هكذا ذكروا ، هذا كله توطئة للكلام الذي سيأتي إن شاء الله . نعم(1/11)
قال رحمه الله تعالى (( وإذا كان كذلك فلا بد للعبد أن يثبت ما يجب إثباته له من صفات الكمال ، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ، ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته ويثبت أمره المتضمن ما يحبه ويرضاه من القول والعمل ، ويؤمن بشرعه وقدره إيمانا خاليا من الزلل
وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل ، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دل على ذلك سورة " قل هو الله أحد " ودل على الآخر سورة " قل يا أيها الكافرون " وهما سورتا الإخلاص ، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك ))
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وإذا كان كذلك ) ما أشير إليه في هذه التوطئة (فلا بد للعبد أن يثبت ما يجب إثباته له من صفات الكمال ) لا تكون الصفة صفة كمال إلا إذا جاءت من عند الله أو من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يجب أن يعتقده كل مسلم ، ما وصف الله به نفسه كله كمال ، وما وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام كله كمال ، ولا مصدر ثالث لإثبات صفات الله تعالى أبدا ، المصدر لإثبات صفات الله الكتاب والسنة ، وما جاء في الكتاب والسنة كمال كله .(1/12)
يناقش بعض طلاب العلم لفظ ( الكمال ) الإخبار عن الله تعالى بـ ( بالكمال ) لا لأن الكمال أو الكامل من أسماء الله تعالى ، لا ، بل من باب الإخبار ، باب الإخبار أوسع من باب الصفات والأسماء ، أسماء الله تعالى توقيفية ، وصفاته توقيفية ، لكن هناك ألفاظ يخبر بها عن الله ليست هي من الصفات ولا هي من الأسماء ، تقول ( الله مريد كذا وكذا ) ( الله قديم ليس بحادث ) ( قديم ) ليس من أسماء الله ( مريد ) ليس من أسماء الله ، والإخبار بالكمال نأخذ الكمال من قوله تعالى " ليس كمثله شيء " لأن كل شيء ناقص غير الله وغير أسمائه وصفاته ، المخلوق من صفاته اللازمة النقص والفقر والجهل والظلم والعجز ، هذه نواقص ، صفات نقص تتوافر في المخلوق ، وينزه عنها الخالق ، والخالق موصوف بالكمال ، تنزهه عن هذه النواقص وأنه ليس كخلقه كمال ، هكذا يؤخذ الكمال استنباطا واستنتاجا من النصوص .(1/13)
قال الشيخ رحمه الله (فلا بد للعبد أن يثبت ما يجب إثباته له من صفات الكمال) ما هو الشيء الذي يجب إثباته لله ؟ ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام ، من الإيمان بالله أن تثبت لله ما أثبت لنفسه لأن في ذلك تصديق لخبره ، وأن تثبت له ما أثبت له رسوله الأمين لأن في ذلك تصديق لخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ونفي ما أثبت الله لنفسه ونفي ما أثبته له رسوله كفر بالله ، وكفر برسول الله عليه الصلاة والسلام ، لذلك القاعدة التي أجمع عليها السلف ( من أنكر أو نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر ) احفظ هذه القاعدة لكن افهم : ما من قاعدة إلا ولها مستثنيات ، الأصل : من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر ، بعد أن تصدر الحكم هكذا عموما ترجع إلى النفاة فتدرس أحوالهم ، منهم من ينفي بعد أن عرف وليست له شبهة ، مع العلم وعدم الشبهة عنادا وخرابا في قلبه ، ذلك هو الكفر ، لأن حقيقة الكفر خراب القلب ، من علم بأن الصفة الفلانية ثابتة بالكتاب والسنة ثم عارض وعاند وأبى إلا أن ينفي هذا كافر كفرا بواحا ، ولكن هناك من قامت شبه أو شبهة ولو واحدة تحول بينه وبين الكفر ، كأن سمع صفة ثابتة بالكتاب والسنة ولكن اطلع على كلام أناس ينتسبون إلى العلم فيقولون : لا يليق بالله تعالى بأنه ينزل ، لا يليق بالله تعالى بأن يوصف بأنه في السماء ، درس ، عندما درس هذه العلوم درس على أساس أنها علوم إسلامية وعقيدة أهل السنة والجماعة بناء على هذه الدراسة وهذه الشبهة جعل يخبط في الصفات بالنفي والإثبات والتأويل ، هذا مريض يحتاج علاجا ويحتاج طبيبا ، يجب أن يعالج ولا يرمى خارج ملة الإسلام ، كفره كفر دون كفر حتى تزول هذه الشبهة ويتعلم .(1/14)
هذه مسألة عالجها شيخ الإسلام وتعرض لها في كتابه الرد على البكري أيام مناظرته لعلماء الكلام كان يعالج هذه المسألة أي عدم التعميم وعدم إدخال جميع الناس في هذا التكفير العام ، التكفير قائم ولكن ليس كل إنسان يدخل في هذا ، إذ الناس تتفاوت بالجهل والمعرفة والشبهة وعدم الشبه .
(وينفي عنه ما يجب نفيه عنه) بين ذلك بقوله (مما يضاد هذه الحال) أي مما يضاد الكمال ، المراد بـ (هذه الحال) الكمال ، لأننا اتفقنا أن ما أثبته الله لنفسه كمال وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام كمال ، يجب إثبات ذلك ، وبمقابل ذلك يجب أن ينفي عن الله تعالى ما يضاد هذه الحال من النواقص ، أي أضداد تلك الصفات ، إذا أثبت له السمع والبصر ينفي عنه أضداد ذلك ، والكلام والإرادة والقدرة والحياة ، أضداد هذه الصفات يجب نفيها لأنها نقص .(1/15)
(ولا بد له في أحكامه) وشرعه ( من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته) هذا في باب القدر ، يؤمن بخلق الله تعالى أنه خالق كل شيء لأن ذلك متضمن كمال قدرته (وعموم مشيئته ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه ) أي يجمع بين الإيمان بالقضاء والقدر وبين الإيمان بالشرع ، لا يعارض القضاء والقدر بالشرع ولا يعارض الشرع بالقضاء والقدر يؤمن بهذا وبذاك ، وبالنسبة للقضاء والقدر لا يسأل عن سر القدر ، يؤمن بأنه لا يقع في هذا الكون شيء إلا بإرادة الله تعالى وقدرته وإلا بعلمه وإلا بخلقه ، فهو وحده خالق كل شيء فعال لما يريد ، ولا يلزم من أن الله علم وقدر وشاء وقضى ونفذ أن يكون كل ما فعله خيرا ومحبوبا عند الله ، فالله سبحانه وتعالى يخلق الإيمان والكفر ويخلق الكافر والمؤمن ويخلق الشر والخير ويخلق الطاعة والإيمان ويخلق الطاعة والمعصية كل ذلك بخلق الله تعالى وقضائه وقدره ومشيئته ، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، ولا يلزم كما قلنا من عموم هذه المشيئة أن يكون كل ذلك محبوبا ، لأن هذه المخلوقات قد تجتمع فيها الإرادة الشرعية والإرادة الكونية وقد تنفرد الإرادة الكونية وحدها وقد تنفرد الإرادة الدينية وحدها يأتي لهذا مبحث خاص في الرسالة إن شاء الله .
(( فأما الأول وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتا فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفى عنه ما نفاه عن نفسه .
وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل .(1/16)
وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته ، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " وقال تعالى " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم ) الآية .
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
ففي قوله " ليس كمثله شيء " رد للتشبيه والتمثيل ، وقوله " وهو السميع البصير " رد للإلحاد والتعطيل ))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وعلى آله وصحبه ، وبعد :
الدرس الثاني من دروس الرسالة التدمرية مبحث يتعلق في تحقيق الأصل الأول وهو ( توحيد الأسماء والصفات ) وقد تقدم الكلام على الأصل الثاني الذي هو توحيد ( الشرع والقدر ) المتضمن لتوحيد ( الألوهية ) ، جعل شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة ( الأصل الأول ) توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية معا هما يطلق عليهما ( التوحيد العلمي ) التوحيد العلمي جعله هو الأصل الأول ، لأن توحيد العبادة وتوحيد الألوهية هو توحيد العمل ، العلم قبل القول والعمل ، كأن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من باب العلم ، تعلم أولا وتعمل ثانيا ، هذا هو السر في اعتبار توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية الأصل الأول الذي يرتكز عليه الإيمان ، ثم ينتقل المرء من هذا العلم إلى العمل وهو توحيد العبادة ، وتوحيد الألوهية هو التوحيد العملي .(1/17)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فأما الأول وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله) يلاحظ قوله (وبما وصفته به رسله) ولم يقل ( بما وصفه به رسوله ) إشارة إلى اتحاد دين الأنبياء ، دين الأنبياء واحد في الأصول وإن كان الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا مناسبة لحياتها وظروفها وأوقاتها لكن أصل الدين واحد ، الرسل كلهم دعوا دعوة واحدة لذلك قال (وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتا ) .
ثم قال (فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفى عنه ما نفاه عن نفسه) وهذا يدخل فيه ما أثبتته له رسله وما نفته عنه رسله داخل في هذا أي لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه إذ لا يصفه أعلم منه ، ثم لا يصفه من خلقه أعلم من رسله ، إذن مصدر العقيدة الوحي ، إذا أردنا الاختصار نقول مصدر العقيدة بل مصدر الشريعة والعقيدة معا ومصدر الدين الإسلامي الوحي فقط ، وإن كان بالنسبة للفروع قد توجد بعض الأصول غير الكتاب والسنة كـ ( قياس العلة والإجماع ) أما في هذه الباب الذي نحن بصدده لا يوجد إلا الوحي ، إلا الكتاب والسنة ، عندما نثبت ما أثبت الله لنفسه وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام نلاحظ الأسس الآتية :
- إثبات بلا تشبيه .
- وتنزيه بلا تعطيل .
- وقطع الطمع عن إدراك الحقيقة .
هذه الأسس الثلاثة لا بد من ملاحظتها عند الإثبات ، بحيث لا يصل الإثبات إلى التشبيه ، أي نثبت ولا نبالغ في الإثبات إلى درجة التشبيه كما فعلت المشبهة ، قالوا : نثبت لله ولكن لا نعقل من هذه الصفات إلا كما نعقل في أنفسنا ، شبهوا صفات الله تعالى بصفات خلقه ، هذه مبالغة في الإثبات ، إذن نحن نثبت إثباتا بلا تشبيه .(1/18)
وننزه تنزيها بلا تعطيل ، لا نبالغ في التنزيه إلى أن ندعي كما ادعى غيرنا أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه إذن من التنزيه نفي الصفات ، لا نصل إلى هذه الدرجة في إثباتنا وفي تنزيهنا ، وفي الوقت نفسه نقطع الطمع عن إدراك حقيقة صفاته سبحانه وتعالى لا نطمع أبدا ولا نحاول ، لماذا ؟ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، آمنا بذات الله تعالى ولم نحاول إدراك حقيقة ذاته ، إذن كذلك لا يجوز أن نحاول إدراك حقائق صفاته ، هذا معنى قول السلف " الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه " هذا يقال للنفاة ، ويقال للمؤولة المفرقة بين الصفات كالأشاعرة ، الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر ، إذا نفى الأشعري المجيء والنزول والاستواء مثلا مع إثباته للقدرة والإرادة والسمع والبصر يقال له : الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر ، لماذا تفرقون بين ما جمع الله ؟ هذا يشبه الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر ، لا نقول هو هُو ولكن نقول يشبه ذلك .
هذه الأسس لا بد من ملاحظتها وإنما اقتصرنا على ما جاء عن الله وعن رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن نصوص الصفات ليس ألغازا ولا أحاجي ، واضحة ، معانيها واضحة من وضع الكلمة ، ومراد المتكلم يعرف من لفظه ، لو أراد المتكلم خلاف ظاهره لبين ذلك ، ولم يبين ، لذلك نقول : ظاهر النصوص مرادة لله ، عندما قال الله " وهو السميع العليم " إثبات السمع والبصر مراد لله ، وعندما قال الله " وجاء ربك والملك صفا صفّا " إثبات المجيء مراد لله ، ودعوى أن ظاهر النصوص غير مرادة لله تعالى فرية على الله سبحانه وتعالى وجرأة .(1/19)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى شيخ الإسلام (وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل) (علم أن طريقة السلف ) نقف عند السلف ، من هم السلف ؟ ومتى سموا بالسلف ؟ وما السبب في هذه التسمية ؟ وهل هناك أناس غير السلف ؟ هنا بحث ينبغي أن يفهمه طالب العلم .
السلف من حيث اللغة كل من سلفك وسبقك ، كل من سبقك من آبائك وأجدادك وشيوخك سلفك ، إذن سلفنا كل من سبقنا بالإيمان بالله وبرسوله وبكتابه وبالعمل بذلك ، أولئك هم السلف ، بالنسبة للتابعين سلفهم الصحابة ، وبالنسبة لتابع التابعين سلفهم الصحابة والتابعون ، وبالنسبة لنا : الصحابة والتابعون وتابع التابعين حتى أتباع التابعين ممن لم يغيروا ولم يبدلوا من سلفنا لأنهم سبقونا إلى هذا الميدان إلى هذه العقيدة .
لفظة ( السلف ) لقب اصطلاحي ، ( السلف وأهل السنة والجماعة والأثري ) هذه الألفاظ الثلاثة اصطلح عليها بعد أن تغيرت الأحوال وقل الذين يتبعون الصحابة ، أي في عهد العباسيين بعد أن دخل علم الكلام فغير مفاهيم كثيرة ونضج هذا العلم وغطى على منهج السلف حتى كاد يُجْهَل كما قال المقريزي عند ذلك إذا رأوا إنسانا ملتزما متمسكا ينهج منهج الصحابة قالوا هذا سلفي ، هذا أثري ، أي يتبع السلف ويتبع الأثر ، الأثر السنة ، وقالوا هذا من أهل السنة والجماعة ، وفي وقت متأخر ربما أطلقوا على هؤلاء أنه حنبلي نسبة إلى الإمام أحمد صاحب الامتحان الذي امتحن ونجح نجاحا جعل أهل عصره يعترفون له أنه إمام أهل السنة والجماعة وقامع البدعة ، لذلك كل من ينسب إليه يقال له حنبلي ، ومن توفيق الله تعالى كل الذين تمذهبوا بمذهب الإمام أحمد حتى في الفقهيات كانوا كلهم على منهج السلف إلا الأفراد القليلين الذين تأثروا بالأشعرية فيما بعد .(1/20)
الشاهد لفظ السلف ، عندنا ( سلف ) و ( سلفيون ) و ( خلف ) والناس ثلاثة في هذا الباب ، إما سلف وهم الذين عنتهم الآية الكريمة " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " هؤلاء هم السلف الأول وهم الجماعة ، أما السلفيون داخلون في هذا العطف العظيم عطفهم الله على السابقين بقوله " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان " هؤلاء هم السلفيون ، الذين اتبعوا السلف بإحسان ، أي قبل أن يغيروا أو يبدلوا ونهجوا نفس المنهج ، هؤلاء والذين اتبعوا السلف بإحسان هم السلفيون .
بقي فريق ثالث ( الخلف ) كل من جاء بعد من قبله مغيرا لما كان عليه من قبله ومخالفا لمن كان قبله يقال له ( خَلَفَ ) أو ( خلْف ) لأنه خالف وقد أطلق القرآن على هؤلاء لقب ( الخلْف ) في موضعين " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " في سورة مريم ، وقال " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب " في آل عمران أطلق القرآن على الخَف لفظة الخلف بالسكون في موضعين ، الغالب كما يقول أهل اللغة : إذا كان مخالفا لمن قبله إلى الشر الغالب بالسكون ( الخلْف ) وقد يطلق بالخلَف .(1/21)
إذن الناس في هذا الباب ثلاثة : ( سلف ) ( وسلفي ) ( وخلْف أو خلَف ) ولا يوجد في باب العقيدة المذاهب الأربعة ، لا توجد في هذا الباب المذاهب الأربعة ، هما مذهبان ( سلفي ) ( وخلفي ) لا ثالث لهما ، أما في باب الفروع كما يعلم طلاب العلم المذاهب المشهورة عند المسلمين أربعة وإلا هي أكثر من أربعين ، مذاهب أهل العلم في الفقهيات كما تعلمون من دراسة كتب الفقه والحديث أكثر من أربعين فقيها ، لكن هؤلاء الأربعة بارك الله في تلامذتهم وسجلوا آراءهم واستنتاجاتهم واستنباطاتهم فعرفت مذاهبهم وإلا يوجد من هو أعلم من بعضهم ، قيل : الليث بن سعد أعلم من مالك ، هما يعيشان في وقت واحد ، الوقت الذي كان يعيش فيه مالك في هذا المسجد يعيش الليث بن سعد في مصر إمام أهل مصر .
الشاهد في بابنا هذا المذهب مذهبان ( حق ) و ( باطل ) :
أما مذهب السلف فكله حق لأنه ليس مذهبا وضعيا اجتهاديا وقد أثنى الله على السلف في الآية السابقة من قال الله فيهم "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها " هذا الوعد العظيم والثناء العظيم إنما هو لخير هذه الأمة " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذي يلونهم " ونحن نطمع طمعا شديدا أن ندخل في المعطوفين " والذين اتبعوهم بإحسان " من فاز بهذا العطف فقد فاز ولكن نستعيذ بالله أن نكون ممن غير وبدل ، هذا الذي ينبغي أن يفهم ، لأن علم هذا الباب علم عملي ليس علم حكاية لذلك ينبغي أن تُعرف هذه الطوائف وهذه الطبقات من الناس والعمل على ضوء ذلك العلم .(1/22)
(وأئمتها) أئمة السلف : علماؤهم المشهود لهم بالإمامة من الخلفاء الراشدين والأئمة المشهورين حتى في عهد التابعين وتابع التابعين يعتبرون من أئمة السلف ، هؤلاء يثبتون لله تعالى من الصفات ما أثبت لنفسه (من غير تكييف ولا تمثيل) التكييف والتمثيل أحيانا يفسرون تفسيرا واحدا ، يقولون التشبيه هو التمثيل والتمثيل هو التشبيه لكن عند التحقيق بينهما فرق دقيق أشار إلى هذا الفرق الشيخ فالح المهدي في كتابه هذا في ( ص 260 )
التشبيه ، لا يلزم من التشبيه المساواة من كل وجه .
ولكن يلزم من التمثيل المساواة من كل وجه .
ويفسر التكييف : بأن يحاول الإنسان أن يجعل لله أو يجعل لصفاته كيفا معينا ، وصفة معينة ، على صفة كذا وعلى هيئة كذا ، ويطلق التكييف على السؤال بكيف ، كيف علمه ؟ كيف سمعه ؟ كيف نزوله ؟ يقال لهذا تكييف .
إذن التكييف إما أن تجعل للصفة كيفية وصفة معينة أو أن تسأل عن كيفية وحقيقة الصفات بكيف .
وأما التمثيل : أن يزعم الإنسان أن صفة من صفات الله تعالى مثل صفات خلقه ، أو الله سبحانه وتعالى في ذاتِه ذاته كذوات خلقه ، هذا التمثيل لأن التمثيل يستلزم المساواة من كل وجه .
(ومن غير تحريف ولا تعطيل ) التحريف هو الميل ومنه الانحراف ، يقال للإنسان إذا لم يلتزم الدين ولم يتمسك يقال له منحرف ، أي مال منحرف أي مائل عن الحق ، إذن التحريف هو الميل .(1/23)
يكون التحريف باللفظ ، تحريف الألفاظ ، تحريف اللفظ كقراءة بعض علماء الكلام لما تضايقوا من قوله تعالى " وكلم اللهُ موسى تكليما " أرادوا أن يكون موسى هو المتكلم فحرفوا ، فقالوا " وكلم اللهَ موسى تكليما " ، " وكلم اللهُ موسى تكليما " يكون المتكلم هنا الله ، " وكلم اللهَ " يكون المتكلم موسى ، " وكلم اللهَ موسى تكليما " هكذا حرفوا تحريفا لفظيا ولكن لم ينجحوا فيما أرادوا ، فإذا حرفوا هنا فماذا يقولون في قوله تعالى " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه " هكذا حاوره بعض أهل العلم حتى أسكتوه ، ذلك الذي اقترح أن تُقرأ الآية هكذا في " كلم اللهَ " بالنصب ، وهذا يعتبر التحريف في اللفظ .
أما التحريف في المعنى كقولهم " الرحمن على العرش استوى " بمعنى استولى ، " وجاء ربك " أي جاء الملك أو جاء أمره " ينزل ربنا " أي ينزل أمره أو ينزل الملك ، هذا تحريف في المعنى .(1/24)
(من غير تحريف ولا تعطيل) أما التعطيل فهو أن يجحد الإنسان صفات الله تعالى وينفيها إما كلها أو بعضها ولفظ التعطيل يطلق على من ينفي جميع الصفات كالمعتزلة وعلى من ينفي بعض الصفات كالأشاعرة ، وإن كانت الأشاعرة يدخلون أحيانا في الصفاتية ، إذا قسموا الناس إلى النفاة وإلى الصفاتية تدخل الأشاعرة في الصفاتية أحيانا وفي النفاة أحيانا ، وعند الإنصاف هم إلى الإثباتية أقرب منهم إلى النفاة لماذا ؟ لأنهم حتى في الصفات التي حرفوها لم ينفوا نفيا قاطعا كالمعتزلة ولكنهم أولوا ، إلا أن ذلك التأويل آل إلى النفي فيما بعد ، وذلك واضح في تأويلهم أو في نفيهم صفة العلو وصفة الاستواء وفي نفيهم صفة الكلام وإن كانوا يعدون من المؤولة لكن في هاتين الصفتين هم من النفاة لأن كلامهم صريح في النفي هنا إذ في الكتب المقررة الآن على كثير من شباب المسلمين في كثير من الأقطار متن يسمى متن ( السنوسية ) هذا الكتاب ينص على العبارة الآتية ( ليس الله فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن شماله ) وهذا كما ترون نفي محض لصفة الاستواء وليس بتأويل ، لذلك يعدون من هذا الباب من الجهمية لأن هذه العقيدة في الأصل للجهمية فدخلت على الأشاعرة .
هذا هو معنى التحريف ومعنى التعطيل .
(وكذلك ينفون عنه تعالى ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته) الإلحاد شبيه بالتحريف تماما لأن الإلحاد هو الميل ومنه اللحد لأنه مائل من وسط القبر إلى جهة القبلة قيل له لحد ، كذلك من ألحد في أسماء الله تعالى وصفاته - وللإلحاد أنواع - يقال له الملحد والملحد هو المحرف .(1/25)
فالإلحاد يكون إلحادا بالتشبيه ، من شبه الله بخلقه أو شبه بعض صفاته بصفات خلقه فهو محرف وملحد ، إذن الإلحاد يأتي إلحاد تشبيه ويأتي إلحاد تعطيل ويأتي إلحادا كإلحاد المشركين الذين سموا بعض أصنامهم بأسماء مشتقة من أسماء الله تعالى كاللات والعزى ، هذا نوع من الإلحاد ، وهناك إلحاد في التسمية ، كأن سمت النصارى رب العالمين أبا هذا إلحاد إنه سبحانه لم يلد ولم يولد ، تسميته أبا إلحاد ، كذلك تسمية الفلاسفة اللهَ رب العالمين بأنه العقل الفعال أو بأنه العلة أو علة العلل هذه كلها إلحاد ، تركوا أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة وسموا رب العالمين بأسماء من عند أنفسهم ، أو وصف الله تعالى بما لا يليق به كما وصفت اليهود " إن الله فقير ونحن أغنياء " أو قالوا " يد الله مغلولة " كل هذه من أنواع الإلحاد .
أما أهل السنة والجماعة لا يلحدون لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في آياته بل يسلمون تسليما ، (من غير إلحاد في أسمائه ولا في آياته).
ثم قال ( فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته ) ذمهم وأوعدهم ( كما قال تعالى " ولله الأسماء الحسنى ) التي بلغت الكمال في الحسن ، الأسماء الحسنى لا يشارك الله أحد في التسمية بها وإن حصل الاشتراك إنما يحصل في المطلق اللفظي أو المطلق الكلي ، أما في حقيقة الأسماء وفي حقيقة الصفات لا أحد يشارك الله في ذلك (" ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها") فادعوا الله بها ، لكن هل الأسماء تدعى ؟ الله يدعى بأسمائه وصفاته ، ولكن هل الأسماء تدعى ؟
انتبهوا لهذه المسألة ، هل ممكن للإنسان كما يقول يا الله يقول : يا علم الله يا سمع الله اغفر لي ، يا سمع الله اغفر لي ، يا بصر الله أعطني هل يجوز هذا ؟ . .(1/26)
نبه شيخ الإسلام على أن هذا كفر بالاتفاق ، الطلب من صفات الله تعالى محضة كأنها مجردة عن الله تعالى لا يجوز ، تدعو الله بأسمائه وصفاته ، لكن لا تدعو اسما ولا تدعو صفة ، راجعوا ، هذه المسألة دقيقة ، في كتاب الرد على البكري ، تقريبا في حدود – ما أضبط الآن الصفحة – ولكن في الجزء الأول تجدون أقرب إلى أول الكتاب نبه على ذلك شيخ الإسلام . فلنواصل :
(" ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ") دعوهم ("سيجزون ما كانوا يعملون ") ولم يبين نوع الجزاء ومن بلاغة القرآن إبهام نوع الجزاء خيرا كان أو شرا يدل على تفخيم وتعظيم ذلك الجزاء ("سيجزون ما كانوا يعملون ") أي جزاء ؟ جزاء عظيما مناسبا لجرمهم وهو الإلحاد .
(وقال تعالى " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ") يكفي هذا وعيدا ولو قبل أن يأتي ما بعده (لا يخفون علينا) نحن نعلمهم ، نسمع كلامهم ونعلم منهم كل شيء ( لا يخفون علينا ) فسوف نجازيهم ، يكون المعنى هكذا .
(أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) هذا وعيد آخر ، وعيد بأن من يلحدون في أسماء الله تعالى وآياته وصفاته يلقون في النار ، هل هم ومن يأتي آمنا يوم القيامة وهم المسلِّمون لله السالمون من الإلحاد الذين سلّموا لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولم يلحدوا في آياته وأسمائه وصفاته ، هؤلاء جزاؤهم يأتون يوم القيامة آمنين ، جعلني الله وإياكم منهم .
(اعملوا ما شئتم ) وعيد ثالث (اعملوا ما شئتم ) قد يأتي الكلام في اللغة العربية بصيغة الأمر ولا يراد به الأمر بل يراد به التهديد الشديد ( افعلوا ما شئتم فسوف تلقون جزاء أعمالكم ).(1/27)
(فطريقتهم) طريقة السلف الذين عرفنا من هم ، وطريقة أئمة السلف (تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات) ليس من طريقتهم إثبات الأسماء المجردة - كما فعلت المعتزلة - مع نفي الصفات ، لأن في إثبات الأسماء المجردة كالأعلام التي لا تدل إلا على المسمى لا تدل على المدح ، لا مدح فيها ولا كمال ، ولكن لأن الصفات من معاني الأسماء ، إذا جرت الأسماء من معانيها ذلك معناه نفي للصفات كلها ، سميع لكن بلا سمع ، بصير لكن بلا بصر ، هذا تلاعب لا يوافق حتى أسلوب اللغة العربية .
ثم قال (مع نفي مماثلة المخلوقات ) لأن الخالق والمخلوق لا يشتركان أبدا في الحقائق الموجودة في الخارج ، كما سيأتي تفصيل ذلك في كلام الشيخ ، والمشاركة إنما تقع في اللفظ وفي المعنى المطلق العلم الذي لا وجود له إلا في الذهن لكن في الخارج لا يوجد كل شيء إلا مختصا لا اشتراك فيه ، سمع المخلوق مختص به فالله ينزه أن يشارك المخلوق في خصائص سمعه ، فسمع الخالق مختص به فالله منزه أن يشارك أحدا في خصائص سمعه ، وقس على ذلك سائر الصفات .
(إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل )كما تقدم (إثباتا بلا تشبيه ) أي دون مبالغة في الإثبات حتى يصل إلى التشبيه (وتنزيها بلا تعطيل)دون مبالغة في التنزيه حتى يصل إلى التعطيل بل الوسط ، ودائما الأمة وسط بين اليهودية والنصرانية وأهل السنة وسط بين المفرطين ، بين أهل التشبيه وبين أهل التعطيل وسط بينهم .
(كما قال تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ") ومن أراد أن ينزه الله التنزيه اللائق به يقرأ هذه الآية (" ليس كمثله شيء ") نفي للمماثلة ( "وهو السميع البصير ") إثبات للسمع والبصر .(1/28)
لذلك قال الشيخ (ففي قوله " ليس كمثله شيء " رد للتشبيه والتمثيل ، وقوله " وهو السميع البصير " رد للإلحاد والتعطيل) والنتيجة ( إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل ) هذه هي الطريقة التي سار عليها سلف هذه الأمة الذين نالوا ثناء الله وثناء رسوله عليه الصلاة والسلام والوعد العظيم من رب العالمين بالجنة وهم " السابقون الأولون " ، نعم اقرأ .
(( والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه ، ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما " هل تعلم له سميا " مثيلا أو شبيها .
وقال تعالى " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد "
وقال تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "
وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله "
وقال تعالى " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم "
وقال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك "(1/29)
وقال تعالى " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ،أم خلقنا الملائكة إناثا وهو شاهدون ،ألا إنهم من إفكهم ليقولون ،ولد الله وإنهم لكاذبون ،أصطفى البنات على البنين ،مالكم كيف تحكمون ،أفلا تذكرون ،أم لكم سلطان مبين ،فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ،وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ،سبحان الله عما يصفون ،إلا عباد الله المخلصين " إلى قوله " سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،وسلام على المرسلين ،والحمد لله رب العالمين "
فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المتسحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات ))
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
الشريط الثاني :
- البحث في المطلق الكلي يأتي مفصلا لكن بالاختصار ما يسمى بالمطلق الكلي لا وجود له في الخارج مثال ذلك ( علم ) قبل أن تقول علم زيد أو علم عمرو أو علم الله أو علم المخلوق ، هذا الـ ( العلم ) المطلق غير المقيد وغير المضاف لا وجود له في الخارج ، إذا قلت ( علم زيد ) ظهر في الخارج ، عُرِف بهذه الإضافة ، هذه الإضافة تُخَصِّص ، وإذا قلت ( علم الله ) عرِف وخُصِّص ، ( علم زيد ) خاص بزيد ( وعلم الله ) خاص بالله لا مشاركة بينهما لكن المشاركة تقع في المطلق الكلي ، هذا ( العلم ) غير المقيد وغير المضاف مشترك بين جميع العلوم لأنه في الذهن لا وجود له في الخارج ، المشاركة في المطلق الكلي لا تضر وهذا أمر لا بد منه لتصور الحقائق ، لكن بعد إضافة صفة الله إلى الله وصفة المخلوق إلى المخلوق لا مشاركة مطلقا ، يأتي مزيد الكلام على هذه المسألة في كلام الشيخ وكلام الشارح نفسه والله أعلم .(1/30)
- في درس أمس يسأل طالب علم عن النسبة بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية ، الإرادة الشرعية تستلزم المحبة والرضا والأمر ، والإرادة الكونية بمعنى المشيئة العامة ، المشيئة والإرادة الكونية بمعنى واحد لا تستلزم الرضا والمحبة ، أي : الله قد يشاء ويريد كونا ما لا يحبه ولا يرضاه ، إذ لا يوجد في خلقه غير ما يريده ويشاؤه ويعلمه ، تجتمع الإرادة الكونية والإرادة الشرعية من باب المثال في إيمان أبي بكر مثلا ، أراد الله وعلم أزلا وكتب وشاء بأن أبا بكر يكون في مقدمة الذين يؤمنون برسول الله عليه الصلاة والسلام ، وأمر الله بالإيمان وأحب إيمانه فآمن ، اجتمعت في إيمانه الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ، فانفردت الإرادة الكونية في كفر أبي جهل ، أي : علم الله وكتب وسبق في علمه بأنه سوف يعاند فيكفر ولا يؤمن ، ولم تجتمع هنا الإرادة الشرعية ، بمعنى : لأن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ، ليس ( إيمانه ) محبوبا ولكنه مراد ومشاء لله تعالى بالإرادة الكونية ، فتنفرد الإرادة الدينية من باب المثال في إيمان أبي جهل ، إيمان أبي جهل لو وجد يكون محبوبا عند الله ولكن لم يرده الله كونا وأزلا لذلك لم يقع ، هكذا مثلوا من باب المثال وتكون القسمة ثلاثية لا رابع لها والله أعلم .
- الله سبحانه وتعالى يدعى بأسمائه وصفاته لا تدعى الأسماء وحدها ، ( عليم ) اسم من أسماء الله تعالى ، ( العلم ) صفة من صفات الله ، فرِّقوا بين الصفة وبين الاسم أولا ، الصفة معنى من معاني الأسماء ، مثلا : لا يجوز أن تقول يا سمع الله ، يا علم الله ، يا كلام الله اغفر لي أو أعطني ، لا يجوز ، إنما تقول : اللهم إني أسألك بسمعك وبصرك ورحمتك وعفوك وهكذا ، أحلتكم بصفتكم طلاب على مرجع ولم أستحسن التوسع لوجود غيركم ممن قد يشوش عليه مثل هذا البحث لذلك اكتفوا بالمرجع والمكتبة قريبة والكتاب موجود بحمد الله .(1/31)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (( والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه ، ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما " هل تعلم له سميا " مثيلا أو شبيها .
وقال تعالى " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد "
وقال تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "
وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله "
وقال تعالى " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم "
وقال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك "
وقال تعالى " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ،أم خلقنا الملائكة إناثا وهو شاهدون ،ألا إنهم من إفكهم ليقولون ،ولد الله وإنهم لكاذبون ،أصطفى البنات على البنين ،مالكم كيف تحكمون ،أفلا تذكرون ،أم لكم سلطان مبين ،فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ،وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ،سبحان الله عما يصفون ،إلا عباد الله المخلصين " إلى قوله " سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،وسلام على المرسلين ،والحمد لله رب العالمين "
فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المتسحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات ))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(1/32)
الدرس الثالث من دروس الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، قبل أن نشرع في الدرس نقدم مقدمة ، هذه المقدمة أملتها الظروف وهي أن بعض الناس الذين لا يعرفون قيمة العقيدة وقيمة هذه الكتب كتب الأئمة التي تدرس في باب العقيدة قد يشوشوا على صغار الطلبة : لماذا تُدْرَس هذه الكتب كتب ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم ومن في طبقتهم ، هذه الكتب قديمة لماذا لا تدرس الكتب الحديثة ؟
الشاب الساذج قد ينطلي عليه مثل هذا الكلام ، لذلك ينبغي التنبيه على أن ما يُقرأ ينقسم إلى قسمين :
- كتب أساسية في العقيدة .
- وكتب الثقافة .
أما كتب الثقافة فلطالب العلم الناضج له أن يقرأ ما يشاء من كتب العلماء المعروفين بالاستقامة ومن كتب الطوائف الأخرى والفرق الأخرى وكتب أصحاب الانتماءات كل ما يُكتب ينبغي أن يُقرأ إذا كان هناك وقت يساعدك ، هذه كتب الثقافة ، كتب الثقافة تدرس لهدفين اثنين :
- الهدف الأول : يؤخذ ما فيها من الخير ، وبأسلوب مناسب أسلوب عصري لأنه كتب بأسلوب عصرك ، تأخذ ما فيه من الخير بدون تكلف والأسلوب أسلوبك والخير معروف لديك .
- الأمر الثاني : ليرد ما فيها من الشبه والانحرافات ، ولتعرف من قراءة هذه الكتب اتجاه أصحاب الكتب ، هل هو اتجاه سليم يتمشى مع روح الإسلام أو هو اتجاه منحرف ، تعرف لكل إنسان موقعه وموقفه .
هذا بالاختصار ، لهذا تدرس كتب الثقافة العامة .(1/33)
أما كتب التوحيد وكتب العقيدة وكتب الحديث وكتب الفقه هذه أحكام ، أساس ، أساس الإسلام ينبغي أن تُدرس وتؤخذ العقيدة من الذين عرفوا بالاستقامة ويُحافَظ على كتبهم وتحفظ كتبهم ، الذين ينتقدون قراءة هذه الكتب عليهم أن ينتقدوا عندما نقرأ كتاب الصلاة والصيام والزكاة والحج في نيل الأوطار في صحيح البخاري في صحيح مسلم فليقولوا هذه كتب قديمة فلتترك ، كما أن الأحكام لا يقال فيها إنها قديمة فتترك ، وكتب الأحكام أيضا فكتب العقيدة من باب أولى ، أساس الإسلام ، ينبغي أن تدرس العقيدة في كل وقت وحين ويحافظ عليها وخصوصا العقيدة على المنهج السلفي السليم ، لأننا بحمد الله إنما ندرس العقيدة على المنهج ، المنهج السليم منهج السلف الصالح تحقيق توحيد العبادة وتحقيق توحيد الأسماء والصفات وعرض توحيد الربوبية عرضا للاستدلال به على توحيد العبادة ، والذي ينبغي أن ينتقد ذلك المنهج الذي يدرسه كثير من طلبة العلم من شبابنا المسلمين في كثر من الأقطار الذين يرددون توحيد الربوبية ويقضون أعمارهم في توحيد الربوبية الذي لم يجهله أبو جهل نفسه ، ما الفائدة في تكرار توحيد ( الربوبية ) في كل وقت وحين وأنت تجهل تحقيق توحيد العبادة وتحقيق توحيد الأسماء والصفات ؟ هما محل الخصومة الآن ومحل الحاجة الآن ، تترك محل الحاجة وتجتهد فيما لا خلاف فيه قديما وحديثا ، اللهم إلا ما حصل من بعض الملحدين الذين أنكروا وجود الله تعالى عنادا لذلك لا تؤثر فيكم ثرثرة بعض الكتاب المعاصرين الذين ينتقدون منهج السلف في باب الأسماء والصفات وفي توحيد العبادة ، يُدرس هذا المنهج وهذه العقيدة ويُهتم بها أكثر من الاهتمام بالصلاة والزكاة والحج لأن هذه أساسها العقيدة ، إذا كانت العقيدة فاسدة ما يعتقده العبد نحو ربه ودينه ونبيه ، لا صلاة له ولا صيام ولا زكاة إلى آخره .
لذلك ينبغي التنبيه على هذا وعدم الإصغاء إلى تلبيس الملبسين وبالله التوفيق .
وبعد :(1/34)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته التدمرية (والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصل ) لم يقل ( بعث رسوله ) بل قال (بعث رسله) إشارة إلى أن دين الرسل واحد أصول دين الرسل واحدة وإنما جعل الله في الشريعة منهجا يناسب كل زمان وكل مكان ، جعل لكل أمة شرعة ومنهاجا في باب العبادة في المعاملات في الأحكام ، أما أصول الدين في المطالب الإلهية وفي النبوات وفي شؤون المعاد لا تختلف أبدا إلى هذا يشير الشيخ بقوله (بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل) – يكتب هنا - أي غالبا ، لأن الإثبات قد يأتي مجملا والنفي قد يأتي مفصلا وهذا أوضحه الشيخ في الواسطية كما تعلمون لذلك هذا إنما هو غالبا هكذا ، وإلا كما ستأتي الأمثلة في هذه الآيات التي أوردها الشيخ تجدون أحيانا الإثبات مجملا والنفي مفصلا يأتي أحيانا هكذا .
(فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل) لأن الإثبات هو الأصل ، إثبات الصفات هو الأصل والتنزيه إنما هو مبالغة في ذلك الإثبات ، لذلك يكفي فيه الإجمال .
(ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل ) تكلمنا فيما تقدم في التفريق بين التشبيه والتمثيل ، التشبيه لا يلزم منه أن يكون من كل وجه ، أي : بين المشبَّه والمشبَّه به ، أما التمثيل يلزم منه ذلك كما تقدم .
(كما قال تعالى " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " ) استفهام إنكاري (هل تعلم له سميا) هذا إجمال ، إجمال في النفي ، (هل تعلم له سميا) في ذاته وصفاته وأفعاله ، هذا معنى الإجمال .
(قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه ، ويقال مساميا يساميه - أي يساويه - وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما " هل تعلم له سميا " مثيلا أو شبيها) المعنى واحد اختلاف في العبارات فقط .(1/35)
(وقال تعالى " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ") ماذا يسمى هذا ؟ هذا نفي مفصّل ، انتبه ، لذلك قلنا [غالبا] جاء النفي هنا مفصلا (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) أي على خلاف الغالب ، جاء النفي هنا مفصلا على خلاف الغالب .
(وقال تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ") (لا تجعلوا لله أندادا) نظراء لا في الذات ولا في الأسماء ولا في الصفات هذا مجمل ، هذا نفي مجمل .
(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) هذا وإن كان ليس نفيا صريحا لكنه ذكر في معرض الذم وهو يتضمن النفي ، (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) لم يذكر مدحا لهم ولكن ذما لهم .
(يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) محل الشاهد من الآية (من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) لأن ذِكر ذلك في معرض الذم يتضمن النفي .
(وقال تعالى " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ،بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ") قال (أنى يكون له ولد) نفي ، نفي للولد (ولم تكن له صاحبة) نفي للصاحبة إذن هذا نفي مفصل (وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) (وهو بكل شيء عليم) وهذا إثبات يحتمل أن يكون مجملا باعتبار المعلومات أما باعتبار إثبات العلم إثبات مفصل إثبات للعلم .
(وقال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ") ماذا يسمى هذا ؟ .. نفي مفصّل ، كل هذا على خلاف الغالب لأن الشيخ لا يريد من إيراده هذه الآيات الحصر وإنما هي أمثلة .(1/36)
(وقال تعالى " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) كذلك نفي مفصل (أم خلقنا الملائكة إناثا وهو شاهدون ،ألا إنهم من إفكهم ليقولون ،ولد الله وإنهم لكاذبون) كل هذا نفي مفصل وإن لم يكن صريحا في النفي (أصطفى البنات على البنين) كذلك (مالكم كيف تحكمون) كل هذا نفي مفصل (أفلا تذكرون ،أم لكم سلطان مبين ،فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ،وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ،سبحان الله عما يصفون) (سبحان الله عما يصفون) نفي مجمل لأن هذا التنزيه يتضمن النفي ، ثم قال (عما يصفون) يشمل وصفهم بإثبات الولد وإثبات الصاحبة أو غير ذلك مما وصف به الكفار والمشركون .
(وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المتسحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات) ..
(سبحان ربك) يتضمن التنزيه العام يمكن أن يقال فيه نفي مجمل لأن التنزيه عن كل ما لا يليق بالله تعالى داخل في النفي المجمل ..
راجعوا في هذه المسألة شرح الواسطية ، هناك إشارة إلى أن النفي يأتي مجملا ومفصلا وكذلك الإثبات يأتي مفصلا ومجملا ، في أصرح من هذا هناك .
قال رحمه الله تعالى ((وأما الإثبات المفصل فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" الآية بكمالها ،وقوله "قل هو الله أحد ،الله الصمد" السورة وقوله "وهو العليم الحكيم""وهو العليم القدير""وهو السميع البصير""وهو العزيز الحكيم""وهو الغفور الرحيم ""وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد""هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ،هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير"(1/37)
" وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وقوله " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "الآية وقوله "رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه" وقوله "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه" وقوله " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون "وقوله " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " وقوله "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
وقوله "وكلم الله موسى تكليما " وقوله " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا " وقوله "ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون " وقوله "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ،هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ،هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "
وإلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته ، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وأما الإثبات المفصل) فهو الغالب كما تقدم ، وإنما كان غالبا لأنه هو المقصود أيضا .
(فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته) إشارة إلى أن الأسماء والصفات أو باب الأسماء والصفات باب توقيفي ليس لأحد أن يجتهد فيزيد من عند نفسه في أسماء الله تعالى وصفاته .(1/38)
(كقوله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم") أثبت لنفسه الحياة واسمه ( الحي ) و (القيوم ) وهذان الاسمان كل الصفات الذاتية راجعة إلى اسمه تعالى ( الحي ) وكل الصفات الفعلية راجعة إلى اسمه تعالى ( القيوم ) ، ( الحي ) أي بالحياة الكاملة ، الحياة الكاملة تتضمن ( العلم) ( والسمع) ( والبصر ) ( والكلام ) وغير ذلك من الصفات هذا معنى رجوع الصفات الذاتية إلى اسمه تعالى ( الحي ) وإنما يحصل النقص في ( العلم ) ( والسمع ) ( والبصر ) لنقص الحياة ، لما كانت حياتنا ناقصة لزم من ذلك أن يكون علمنا ناقصا محدودا ، ويعتري سمعنا وبصرنا وجميع صفاتنا نقص وعيب لأن الحياة نفسها ناقصة ، ولما كانت حياة الله الحياة الكاملة من كل وجه استلزمت ثبوت جميع الصفات الذاتية الكاملة .
(القيوم) القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى غيره في وجوده ، المقيم لغيره لا يقوم شيء إلا بإقامته ، والمقيم على غيره أيضا بتدبير أمور عباده وشؤونهم ، إذن جميع الصفات الفعلية راجعة إلى هذا الاسم العظيم ، وقد قال بعضهم : ( القيوم ) هو الاسم الأعظم ، أو ( الحي القيوم ) معا .
الشاهد في درسنا إثبات ( الحي ) وإثبات الحياة وإثبات أنه ( القيوم ) وإثبات القِيام بنفسه والقيام على غيره بالتفصيل ، ثم كمّل الآية آية الكرسي بكمالها .
(قل هو الله أحد ،الله الصمد") إثبات مفصل (قل هو الله أحد ،الله الصمد") وقال (السورة) إذا أكملنا السورة سوف ننتقل إلى النفي المفصل ولكن هذا هو محل الشاهد من السورة .
("وهو العليم الحكيم") إثبات مفصل واضح .(1/39)
("وهو العليم القدير""وهو السميع البصير") هذه الأسماء كما تعلمون تدل على المعاني في التفصيل : على العلم وعلى الحكمة وعلى القدرة وعلى السمع وعلى البصر لأن من منهج ومن طريقة أهل السنة والجماعة أن الأسماء تدل على المعاني وتلك المعاني هي الصفات ، لا نقول كما قالت المعتزلة : عليم بلا علم سميع بلا سمع بصير بلا بصر ، وما ذكر في كتاب ( الحيدة ) في هذا المعنى اختلف أهل العلم في توجيه ذلك ، من يثبتون نسبة الكتاب إلى عبد العزيز يؤولون ذلك أو يلتمسون له العذر ، يقولون لعله من باب المناظرة لأن المناظر أحيانا ينبغي له أن لا يحتد وينبغي له أن يوافق خصمه أحيانا بحيث لا يؤدي ذلك إلى كتمان الحق ، هذا ما يحاول به من يثبت نسبة الكتاب من التماس الأعذار إلى عبد العزيز .
وأما الذين لا يثبتون نسبة الكتاب فيرون بأن الكتاب تمثيلية رويت على أسلوب أو على لسان عبد العزيز لا يتكلفون هذا التكلف فيرون إنها هفوة وقعت في أثناء المناظرة ولكل جواد كبوة .
وعلى كل الكتاب كتاب عظيم يشتمل على خير كثير والحق والصواب الذي فيه هو الأكثر وقد يغطي ما حصل من مثل هذه الهفوة ومن الذي لا يخطئ ، وبعد :
("وهو الغفور الرحيم ""وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد""هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) والآيات ظاهرة كلها في الإثبات المفصل (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) إثبات مفصل لصفة الاستواء ، وإذا كنا تعدينا أو مررنا على ما تقدم بدون تعليق فلا بد من التعليق على هذه الصفة صفة الاستواء لأنها محل المعركة بين السلف والخلف .(1/40)
السلف يثبتون استواء الله تعالى على عرشه استواء يليق به وأن صفة الاستواء صفة فعليه وهي غير صفة العلو ، وصفة العلو صفة ذاتية لا تفارق الله سبحانه وتعالى ، بمعنى : لم يزل الله سبحانه في علوه ولن يزال وحتى في حال نزوله إلى سماء الدنيا وفي حال مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء فهو يوصف بالعلو لأن نزول الرب سبحانه وتعالى ليس كنزول المخلوق ولا مجيئه كمجيء المخلوق حتى يلزم من ذلك فراغ المحل الأول والانتقال ، بل نزول يليق به ومجيء يليق به ، هما صفتان فعليتان أي النزول والمجيء لا يتنافيان مع الصفة الذاتية الثابتة لله تعالى وهي صفة العلو ، أما الاستواء كما أخبر الله في هذه الآية (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى) بـ ( ثم ) التي تفيد الترتيب والتراخي أي حصل الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض ، وما يقوله بعض المفسرين المتأخرين من أن ( ثم ) ليست للترتيب هنا ، لا ترتيب ولا تقديم ولا تأخير وأن معنى استوى إنما هو الهيمنة والسلطان فتفسير خَلَفي أشعري إلا أن الكاتب لبراعته في أسلوبه لا يظهر أشعريته ، ولا يدرك أشعريته إلا من يعرف تلك العقيدة ، وتتبعت تفسير في ظلال القرآن فوجدت أنه يسلك في جميع الآيات السبع هذا المسلك أن المراد من الاستواء الهيمنة يقول لا نشك في ذلك ، وثم يدعي أنه لا يعلم معنى العرش ، العكس هو الصواب ، العرش معروف في اللغة : ( سرير الملك ) إلا أن عرش الرحمن لا ندرك كنه أو حقيقة كبره وسعته ولكنه مخلوق معلوم ، الذي لا يُعلم : كيفية استواء الرب سبحانه وتعالى بعد أن نعرف معنى استوى " الرحمن على العرش استوى " علا ، أما كيفية علوه واستوائه على عرشه هو الذي لا يُعلم فلينتبه لمثل هذا لأن هذا التفسير المشار إليه منتشر في أيدي الشباب ولكونه يستعمل أسلوبا عصريا إنشائيا يحبه الشباب قد ينخدعون بما فيه من بعض الهفوات في باب الأسماء والصفات .(1/41)
ثم قال (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) تفصيل مفصل سبحانه " يعلم ما يلج في الأرض " إثبات للعلم بما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها .
ثم قال (وهو معكم أينما كنتم) هذه الآية العظيمة في أولها بينت استواء الله تعالى على عرشه وفي آخرها بينت صفة المعية (وهو معكم أينما كنتم) كيف يكون معنا وهو مستو على عرشه ؟ والعرش سقف الدنيا ، فالله سبحانه وتعالى فوق عرشه كما يليق به ، ليس مختلطا بخلقه ، وليس فوق العرش مخلوق ، كيف يكون معنا ؟(1/42)
فلْيُنْتَبَه ، المعية بإجماع السلف إنما هي معية ( العلم ) ومعية ( السمع ) و ( البصر ) و (التدبير ) وجميع معاني الربوبية وليست معية الذات ، لم يقل أحد من سلف هذه الأمة الذين أثنى الله عليهم وأثنى عليهم رسوله عليه الصلاة والسلام ، أثنى الله عليهم وأثبت لهم الرضا والجنة من الآن وهم على وجه الأرض قبل أن يموتوا قال الله فيهم " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات " وهذا الثناء وهذا الوعد الكريم من الله دل على أن القوم على الحق المحض في عقيدتهم ليس في عقيدتهم دخل ولا خطأ عقيدتهم حق محض فيما يعتقدون نحو ربهم وكتاب ربهم ورسول ربهم ، وفي شؤون المعاد ، أي : في المطالب الإلهية والنبوات والمعاد ، يلزم لزوما أن يُفهم هذا المعنى من هذا الثناء ومن هذا الوعد ، ثم الذين اتبعوهم بإحسان عليهم أن يطمعوا طمعا شديدا في ذلك لأن الله أثبت للذين اتبعوهم بإحسان قبل أن يبدلوا أو يغيروا أثبت لهم ما أثبت للسابقين الأولين ، آية عظيمة فيها رجاء عظيم للسلفيين ، انتبه ، هنا سلف وسلفيون " السابقون الأولون " هم السلف الذين سلفونا وسبقونا " والذين اتبعوهم بإحسان " هم السلفيون ، أي : المتبعون للسلف إذن اتباع السلف هو الخير كله ومخالفتهم الشر كله . لأن مخالفة الركب الأول الذين هم محل ثناء الله وثناء رسوله معنى ذلك مخالفة للدين وإن كانت المخالفة تختلف ، قد تصل إلى الكفر وقد لا تصل ، الشاهد هؤلاء كلهم جميعا لم يُؤْثر ولم ينقل من أحد منهم أنه قال بأن الله معنا بذاته في الأرض هنا بل أنكر الذين أدركوا زمن الفتنة بعد أن دخل علم الكلام في العقيدة وشوش على الناس وسمع المسلمين من جديد ما لم يسمعوا من قبل بأن الله في كل كان بذاته وهو في كل شيء ودرسوا درس شباب المسلمين عقيدة لا يفهمون معناها بأن الله ليس فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره كل(1/43)
هذا حدث قريبا وقريبا جدا في عهد العباسيين ، المسلمون الأولون من عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة وأيام الأمويين وأوائل عهد العباسيين لا يعرفون من هذا التخبط وهذا النفي والتشبيه والتمثيل لا يعرفون شيئا من ذلك ولم يسمعوا بل يؤمنون بأن الله بذاته فوق جميع مخلوقاته وهو مع ذلك مع عباده لا يخلو مكان من ( علمه ) صرح الأئمة بما فيهم بعض الأئمة الأربعة المشهود لهم بالإمامة بأن الله مستو على عرشه فوق جميع مخلوقاته وعلمه في كل مكان ، علمه في كل مكان ولا يخلو مكان من علمه بمعنى : محيط بعلمه بكل شيء ، علوه فوق عرشه لا يمنعه من أن يعلم دقائق الأمور منا ، وهو سبحانه يعلم منا الآن ما لا يعلم الجليس من جليسه ، الجليس من جليسه لا يعلم إلا ما يبدو له لا يعلم ما تحت ثوبه فضلا من أن يعلم ما في صدره ، إذن مَن يعلم منك هذا العلم الدقيق الذي لا يعلم منك جليسك أليس هو معك ؟ هذا معنى المعية ، إذن المعية معية حقيقية وليست مجازية ، كما أن استواء الله على عرشه حقيقي وعلوه حقيقي والمعية حقيقية أيضا بالمعنى الذي شرحنا وأشرنا إليه أي : معية العلم .
قال رحمه الله (وهو معكم أينما كنتم) في أي مكان كنتم فهو معكم سبحانه ، وهو الوحيد الواحد الأحد لكن مع جميع مخلوقاته مع كثرتهم أينما كانوا ما أعظم شأنه .
(والله بما تعملون بصير) وآخر الآية ، تذييل الآية بهذا يشير إلى معنى المعية (والله بما تعملون بصير) أن المعية معية ( العلم ) معية ( السمع ) معية ( البصر ) معية ( التدبير ) .
(ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) إثبات الرضا (فأحبط أعمالهم) . (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله) السخط والغضب بمعنى واحد ، إثبات صفة السخط والغضب من الصفات الفعلية (وكرهوا رضوانه) إثبات الرضا (فأحبط أعمالهم ) ..(1/44)
قوله (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) إثبات المحبة لله ، إثبات المحبة من الطرفين ، هذا ما شددت الأشعرية في الإنكار قالوا : لا مناسبة بين الخالق والمخلوق حتى تُثبت المحبة بين الخالق والمخلوق ، أي : لا يوصف بأنه يحب بل معنى يحب يُنْعِم ويكرم فيعطي ولا يوصف بأن العباد يحبونه بل تفسر محبة العباد لله بالطاعة ، محبة العباد لله رب العالمين بالطاعة فنحن نثبت الصفة ونثبت لازمها ، فهم ينفون الصفة ويثبتون اللازم هذا تناقض حتى من الناحية العقلية ، إذا نفيت الصفة يلزم نفي اللازم فنحن نثبت الصفة أي : بأن الله يحب عباده ونثبت لازم الصفة : الإنعام والإكرام والعطاء العظيم . هذا لازم المحبة ، كذلك نثبت بأن العباد يحبونه ومن محبتهم ربهم وخالقهم طاعتهم إياه وعبادتهم إياه هذا من لازم ذلك ، هذا ما درج عليه السلف ، انتبه دائما ابحث في كل صفة وفي كل مقام وجدت فيه الاختلاف بين السلف وبين الخلف عليك أن تؤثر دائما طريقة السلف ، والخلف أنفسهم يشهدون بذلك ويحثون على ذلك من تناقضاتهم حيث يقول قائلهم :
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
والعجب العجاب أن هذا الكتاب ( جوهرة التوحيد ) من الكتب المقررة التي يحفظها طلاب الأزهر وفروع الأزهر حفظا في تلك المنظومة هذا البيت وأبيات أخرى بهذا المعنى ومع ذلك كأن الله أعمى بصيرتهم لم يلتفتوا لمنهج السلف ، متمسكون بمنهج الخلف ، هذه الأبيات لا معنى لها في قراءتها بالنسبة لهم .(1/45)
(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "الآية "رضي الله عنهم) مثل قوله تعالى (بقوم يحبهم ويحبونه) نثبت بأن الله يرضى عن عباده المؤمنين ( رضى ) صفة فعل ، وأن العباد يرضون عن ربهم عطاءه وكرمه (ذلك لمن خشي ربه) " خشي ربه " الله سبحانه وتعالى العباد يحبونه ويرضون عنه وفي الوقت نفسه يخشونه ، ليس هناك أحد تحبه وتخشاه ، فإذا فررت فررْت إليه ، كل أحد إذا خفت منه تفر منه إلى غيره ، أما الرب سبحانه إذا خفت منه ، من صحة العبودية أن تفر منه إليه " ففروا إلى الله " تخشاه وتفر منه إلى من ؟ إليه سبحانه ، هذه من خصائص رب العالمين .(1/46)
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) هذا محل الشاهد الله يغضب على من يفعل ما يكرهه رب العالمين كقتل النفس ، ويلعنه : يبعده من رحمته ولا يلزم من ذلك الكفر ، قد يغضب عليه ويلعنه فإذا تاب تابَ الله عليه ، من قتل نفسا أو فعل فاحشة أو فعل ما فعل من الموبقات واستحق الغضب والسخط واللعن لا يلزم من هذا بأنه لو مات على هذا مات وهو كافر بل يموت وفيه من معاني الكفر والإيمان معا ، وقد ادخر النبي عليه الصلاة والسلام شفاعته لأهل الكبائر من أمته ، لذلك الذين يموتون بعد أن ارتكبوا الكبائر قبل أن يتوبوا يفوض أمرهم إلى الله لا يقطع بكفرهم أما ما يقوله بعض المتطرفين من لم يصل إيمانه إلى إيمان ماعز بن مالك ... بعد أن يرتكب الكبيرة فهو كافر مرتد هذا جهل منهم وسلوك منهم مسلك الخوارج من حيث لا يشعرون ، الناس حتى الصحابة يتفاوتون في الإيمان وليس بلازم أن يكون إيمان كل فرد كإيمان الآخرين لم يدع أحد من الصحابة أن إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر مثلا ، في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كما ارتكب هذا الشخصان والقصة معروفة ما ارتكبا من الفواحش أو من فاحشة الزنا ولم يستطيعا الصبر بعد ذلك بل بادرا بالاعتراف وطالبا بإقامة الحد عليهما لكن كل الذين فعلوا مثل ذلك أو قريبا من ذلك في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فعلوا مثل فعلهما ؟
لا .(1/47)
حصل من شخص شرب الخمر فلم يقدم نفسه فأخِذ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأقيم عليه الحد ثم شرب مرة ثانية ومرة ثالثة فيقام عليه الحد في كل مرة بدون أن يقدم هو نفسه ومع ذلك في المرة الثالثة أو الرابعة – الشك مني – قال بعض الصحابة : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به وهو سكران إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، قال عليه الصلاة والسلام : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ، إيمان هذا الرجل وإن كان أثبت له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يحب الله ورسوله قطعا دون إيمان الغامدية وماعز حيث لم يصبرا على تلك القاذورة وتلك الفاحشة وقدما أنفسهما بإلحاح وإصرار ، وحصل في عهد الصحابة خصوصا في عهد عمر أيضا من شرب الخمر في رمضان فأقيم عليه الحد ، أقام عليه الحد عمر نفسه .. قال تأتي سكران وصبيانا صوّم ثم نفاه من المدينة .
أريد أن أقول إن ارتكاب هذه الفواحش في كل وقت لا يلزم منه الكفر البواح إنما مرتكب هذه الكبائر كفره كفر دون كفر أي كفر عملي ، ولا ينبغي التطرف بدعوى التحمس والغيرة إلى درجة إخراج عصاة الموحدين من الإيمان والحكم عليهم بالكفر وليسوا بكافرين ، ينبغي أن يَدرس الإنسان الفقه دراسة فاحصة فقه السنة حتى لا يتخبط مثل هذا التخبط وخصوصا في هذا الوقت والناس أعرضت عن دراسة كتب السنة وكتب الفقه واكتفت بدراسة الكتب الثقافية وكتب الكتّاب المعاصرين وهم ليسوا بفقهاء فصاروا أو أعلنوا عن أنفسهم بأنهم هم العلماء وهم أكثر خطأ وأخطاؤهم أكثر حتى من أخطاء صغار طلبة العلم ، الله المستعان .
وقوله (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) " ينادَون " على أن الله هو الذي يناديهم ويحتمل – هذا ليس بصريح – أن يكون النداء من الله أو بأمر الله ولكن يأتي ما هو أصرح من هذا .
(إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون "وقوله"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) إثبات ( مجيء ) الله تعالى يوم القيامة .(1/48)
(ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) الذي عليه بعض المفسرين قوله تعالى " ثم استوى إلى السماء " بخلاف قوله تعالى " ثم استوى على العرش " أي : إذا تعدى بـ ( إلى ) يكون بمعنى القصد أي قصد ..
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ...
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
كنا نسرد الآيات التي فيها الإثبات المفصل ووقفنا عند قوله تعالى (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون) الشاهد من الآية (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) أما الفعل " ينادَون " ليس بصريح في إثبات صفة الكلام وستأتي أدلة كثيرة في إثبات صفة الكلام لأن لفظة " ينادَون " الفعل مبني للمجهول يحتمل أن الذي يناديهم هو الله ويحتمل أن الله يوكل أو يكلف ملكا يناديهم ولذلك ليس بصريح ، إذن محل الشاهد من الآية (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) إثبات المقت وهو بمعنى الغضب وهو من الصفات الفعلية فصفات الأفعال تتجدد ولا توصف بالقِدم ، الصفات التي توصف بأنها قديمة قِدم الذات هي الصفات الذاتية كالقدرة والعلم والإرادة وغير ذلك أما الصفات الفعلية فهي تتعلق بمشيئة الله تعالى فتتجدد .
وقوله تعالى (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) ومحل الشاهد من الآية ظاهر " إلا أن يأتيهم الله " إثبات الإتيان وهو المجيء يوم القيامة لفصل القضاء ، الإتيان والمجيء بمعنى واحد وهي أيضا من الصفات الفعلية التي تتجدد حسب مشيئة الرب سبحانه وتعالى ، أخّر المجيء إلى يوم القيامة لحكمة يعلمها وليس بعاجز عن الاتصاف بهذه الصفة قبل ذلك الوقت .(1/49)
وقوله تعالى (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا) الآية ، الشاهد " ثم استوى إلى السماء " من أهل التفسير من فسر استوى المتعدي بـ ( إلى ) تفسير استوى المتعدي بـ ( على ) أي بمعنى العلو ، ومنهم من فسر بالقصد هذا هو المتبادر والله أعلم ، وعلى كل إثبات صفة الاستواء ، فصفة الاستواء صفة فعلية أيضا ينبغي أن نفرق دائما بين الصفتين الذاتية والفعلية ، كل صفة تتعلق بمشيئة الله تعالى وتتجدد حسب مشيئة الرب سبحانه فهي من الصفات الفعلية لأن الله فعال لما يريد ، وأما الصفات الذاتية فهي الصفة القديمة اللازمة لذات الله تعالى ولا تنفك عنه .
(وقوله "وكلم الله موسى تكليما) الشاهد واضح إثبات صفة الكلام ، فصفة الكلام لها اعتباران :
- باعتبار أصل الكلام ونوع الكلام فهي صفة ذاتية أي : بأن الله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال أن يتصف بالكلام لأن الكلام من صفات الكمال ولا يجوز أن يَعدم صفة الكمال إذن فالله سبحانه وتعالى موصوف بصفة الكلام دائما وأبدا ولا يجوز أن يُعتقد أن الكلام كان ممتنعا عليه يوما ما ثم تكلم ، ولم يكن عاجزا عن الكلام ثم تكلم ، بل صفة الكلام باعتبار أصل الصفة ونوع الصفة صفة ذاتية .
- وباعتبار أفراد الكلام صفة فعلية لأن أفراد الكلام يحصل في وقت دون وقت : خاطب الله نوحا فذلك كلامه ، وكلم موسى في وقت غير ذلك الوقت وكلم رسوله وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج فأسمعه كلامه فذلك فرد من أفراد كلامه والقرآن من كلام الله والتوراة والإنجيل والزبور .(1/50)
فالله سبحانه وتعالى يتكلم عندما يقول في آخر كل ليلة إذا بقي الثلث الأخير : هل من مستغفر فأغفر له . ويكلم أهل الجنة يوم القيامة ، هذا معنى أن أفراد الكلام حادث وليس بقديم بل صفة فعليه ، إلا أن الحدوث لا يلزم منه الخلق ، أي : كل مخلوق حادث وليس كل حادث مخلوقا ، لأن الله سبحانه وتعالى يُحْدِث ما يُحْدِث إما بالخلق والاختراع والإيجاد وقد يحدث ما يحدث بالتكلم والخطاب والإنزال هذا هو إحداث القرآن ، لا يقال إن القرآن قديم كما زعم بعضهم ذلك ربما نسب ذلك إلى الإمام احمد ولم يقل ذلك أبدا ، بل القرآن حدث حدوث إنزال وخطاب وتكلم به ولا يلزم من القول بأنه حادث أنه مخلوق فليُفَرّق بين الأمرين .
وقوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما) تأكيد الفعل بالمصدر ينفي احتمال المجاز ، لو قال ( وكلم الله موسى ) واكتفى لا يكون الكلام حقيقة بل فيه احتمال ، لكن قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما) أي كلاما حقيقيا لا يحتمل إلا الكلام الحقيقي لا يحتمل المجاز ، بالاختصار : تأكيد الفعل بالمصدر ينفي المعنى المجازي ، فمثلا : لو قال الإنسان ( ضربت زيدا ضربا ) لا يحتمل إلا الضرب الحقيقي ، لكن لو قال ( ضربت زيدا ) فسكت يحتمل أنه آلمه بالسب والإساءة إليه ألما كألم الضرب ، ( قتلت زيدا ) يحتمل القتل الحقيقي ويحتمل الضرب ، ( قتلت زيدا قتلا ) لا يحتمل إلا إزهاق الروح وهكذا قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما ) تأكيد بأن الله كلمه حقيقة .(1/51)
فصفة الكلام أدلتها كثيرة جدا في القرآن ومع ذلك فهي محل المعركة بين السلف والخلف ، صفة الكلام وصفة العلو وصفة الاستواء من الصفات التي خالفت الأشاعرة فيها السلف خلافا ظاهرا ، حتى إن كلامهم يؤدي إلى نفي الصفات لا إلى مجرد التأويل ، والعجب تشددهم في نفي الكلام الحقيقي مع كثرة الأدلة المتنوعة أحيانا بالقول وأحيانا بالنداء وأحيانا بالتكلم وأحيانا بالإيحاء ، ما أكثر الأدلة في القرآن التي تثبت بأن الله يتكلم فينادي فيقول .
قال تعالى (وناديناه من جانب الطور الأيمن) " ناديناه " نادى موسى ، نداء والنداء لا يكون إلا بصوت عال ، يستفاد من الآية بأن كلام الله له صوت يُسمع وأن المخاطَب يسمع صوت الرب سبحانه ، فرسول الله عليه الصلاة والسلام عندما خاطبه الله ليلة الإسراء والمعراج سمع كلام الله بصوت الله ، وموسى سمع كلام الله بصوت الله وإنما نصصنا على ذكر الصوت لأن الأشاعرة وهم جيرانكم يقولون كلام الله ليس بحرف ولا صوت ، أعني بالجوار بأن زملاؤكم من شباب المسلمين الذين يدرسون في جامعة الأزهر وفروع الأزهر من جميع الجامعات التي تدرس الإسلام يدرسون فيقولون في دروسهم أو تقول الكتب المقررة : الله يتكلم بكلام ليس له حرف ولا صوت أي إن كلام الله معنى واحد قائم بالذات ليس له حرف ولا صوت وإذا كانوا هم يكررون هذا الكلام من هناك فنحن نكرر من هنا بأن الله يتكلم بكلام يُسمع له حرف وصوت ، القرآن حروف فهو من كلام الله والذين سمعوا هذا القرآن من الله : جبرائيل سمع صوت الله ومحمد صلى الله عليه وسلم سمع صوت الله وكل من خاطبهم الرب من الأنبياء سمعوا كلام الله تعالى بصوت الله ، فلنكن صرحاء في تقرير عقيدتنا ، إذا كان القوم صرحاء في تحريف العقيدة فلنكن نحن صرحاء في إثبات العقدة وتقريرها .(1/52)
(ويوم يناديهم فيقول) في الآية الأولى " ناديناه " بالفعل الماضي ، وفي الآية الثانية (ويوم يناديهم ) بالمضارع ثم قال (فيقول) إذن كلام ونداء وقول كل ذلك تأكيد لإثبات صفة الكلام ، وليس في إثبات صفة الكلام الحقيقي بحرف ولا صوت تشبيه للرب سبحانه وتعالى بالمخلوق لأن شبهتهم قالوا : لو أثبتنا له صوتا وحرفا شبهناه بالمخلوق لأن ذلك يستلزم إثبات مخارج الحروف وذلك غير وارد وغير ثابت ، يؤدي إلى هذا المحال والذي يؤدي إلى المحال محال ، إذن الكلام اللفظي محال ، هكذا قرروا ، فنحن نقول : في واقعنا وفي واقع الدنيا أشياء تكلمت وستتكلم وهي من الجمادات ليس لها مخارج الحروف ، الحصى سبحت والطعام سبح والحجر سلم على النبي عليه الصلاة والسلام هذه جمادات تكلمت حقيقة وليس لها مخارج الحروف إذن لا يلزم من الكلام الحقيقي الذي بحرف وصوت لا يلزم من ذلك إثبات مخارج الحروف ، إذا أمكن في المخلوق أن يتكلم مخلوق ما بدون إثبات مخارج الحروف له فكيف يُستصعَب ويُستبعَد ذلك على رب العالمين الذي هو فعال لما يريد سبحانه .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته التدمرية (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) له الأمر سبحانه ( إذا أراد شيئا) إثبات صفة الإرادة وهذه الإرادة كما يؤخذ من السياق هي الإرادة الكونية الأزلية (إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) ( يقول ) يتكلم إثبات لصفة القول .
وقوله تعالى (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) إثبات اسم الله ( الله ) الله لا يطلق هذا اللفظ لفظ الجلالة إلا على خالق السماوات والأرض بخلاف ( إله ) فـ ( إله ) يطلق على المعبود بحق والمعبود بباطل لذلك معنى قوله ( لا إله إلا الله ) لا معبود بحق إلا الله ، إذن لفظة ( إله ) يطلق على كل معبود بحق أو بالباطل ، ولكن لفظة ( الله ) لم تطلق إلا على الله المعبود بالحق خالق السماوات والأرض .(1/53)
(هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) إثبات اسم الله ( عالم ) ليدل على العلم لأن أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف كما سيأتي ذلك .
(هو الرحمن الرحيم) إثبات هذين الاسمين (هو الله الذي لا إله إلا هو) لأننا الآن في صدد تعداد صفات الله تعالى وأسماءه على وجه التفصيل وهذا هو التفصيل المفصل .
(هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ) واضح ولا يحتاج إلى محل الشاهد كله شاهد .
(هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) وهذه الآية كلها أسماء أسماءُ الرب سبحانه وتعالى .
ثم قال الشيخ (إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته) إشارة إلى أن ما سرده من الآيات الكثيرة في النفي المجمل وفي الإثبات المفصل وبالعكس إنما هي من باب الأمثلة لا من باب الحصر والإحصاء لذلك قال (إلى أمثال هذه الآيات) إلى آخره
(إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته)
ثم قال (فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل) عباده الذين وفقهم للسير على هذا الخط (إلى سواء السبيل) إلى وسط الطريق لم يخرجوا يمنة ولا يسرة ولكنهم مشوا على وسط الخط لم يخرجوا من الخط .
ثم قال رحمه الله تعالى (فهذه طريقة الرسل) الرسل جميعا ليست طريقة الرسول فقط بل طريقة الرسل (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) لأن الرسل كما تقدم غير مرة دينهم واحد .
وأما من خالف هذا السواء السبيل فخرج إلى بنيات الطريق خالف طريقة الرسل ومن خالف طريقة الرسل هلك ، ما لم يرجع إلى الطريق وإلى الجادة .(1/54)
قال شيخ الإسلام رحمه الله ((وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان ، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات ، فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات ، وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه قديم أزلي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم ، فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم ))(1/55)
ثم قال (وأما من زاغ) هذا يفسر المفهوم مفهوم الكلام السابق (وأما من زاغ وحاد) أي من مال (عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك) أي ليسوا على سواء السبيل لأنهم زاغوا وحادوا عن سبيل الرسل والحيدة والخروج عن السبيل قد يصل بالإنسان إلى حد الكفر وقد يقف دون ذلك أي : ليس كل من حاد وزاغ وضل يكون كافرا لأن الضلال والإلحاد قد يصل إلى درجة الكفر وقد لا يصل ، من نفى مثلا جميع صفات الرب سبحانه وجميع الأسماء لم يثبت لله تعالى إلا الوجود المطلق الذهني هذا إلحاده كفر كالجهمية .
ومن كان إلحاده وضلاله بنفي الصفات مع إثبات الأسماء يتحفظ في تكفيرهم إذ يلزمهم من إثبات الأسماء إثبات الصفات من حيث لا يشعرون وهم المعتزلة .
ومن أوّل بعض الصفات تأويلا يصل أحيانا إلى النفي مع إثباته لبقية الصفات إلحاده دون إلحاد المعتزلة وهكذا .
إلا أن القاعدة التي لا ينبغي أن ننساها مع ملاحظة أنها لا تُطَبق على كل من اندرج تحتها وهي القاعدة التي أجمع عليها السلف " أن من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر " هذه قاعدة ينبغي أن تحفظ ، لكن لا يلزم من إطلاق القاعدة أن من وقف هذا الموقف كلهم كفار لأنه قد ينفي صفة ثابتة بالكتاب والسنة تمنعه الشبهة من الكفر أو يمنعه الجهل الذي يعذر به من الكفر ، ليس كل جاهل معذورا إن كان جهله جهلا يعذر به ، وتفصيل ذلك قد تقدم غير مرة وبالله التوفيق .
وبعد : قال الشيخ إشارة إلى هذا التفصيل الذي أشرنا إليه (وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين) هؤلاء أمرهم واضح (والذين أوتوا الكتاب) – جميع النسخ هكذا ؟ والذين أوتوا الكتاب بعد الكفار والمشركين ؟ هكذا ؟ العطف هذا ليس بواضح – (ومن دخل في هؤلاء من الصابئة) الصابئة ينقسمون إلى قسمين :(1/56)
- صابئة حنفاء موحدون هم الذين أثنى الله عليهم بقوله "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر " الآية .
- ومنهم مشركون .
ليس كل صابئ ضالا ، الصابئ : من انتقل من دين إلى دين أو من ملة إلى ملة قد يكون مشركا وقد يكون موحدا .
(والمتفلسفة) المتفلسفة كما سيأتي تفصيل الكلام فيهم ينقسمون إلى قسمين أيضا :
ـ متفلسفة يسميهم بعض المسلمين ـ من الذين عليهم عاطفة على الفلسفة والفلاسفة ـ يسموهم فلاسفة الإسلام ، فلاسفة الإسلام كابن سينا والفارابي والكندي .
- والفلاسفة اليونانيون كأرسطو وأفلاطون .
ما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما بالجنسية هؤلاء يحملون جنسية غير جنسية أولئك ، هؤلاء فلاسفة من اليونانيين ، اختلاف في الجنس ولكن العقيدة هي هِي ، عقيدة ابن سينا الذي يسمَّى بالأستاذ والفارابي والكندي هي عقيدة أرسطو وأمثاله لا يختلفون في العقيدة لذلك لا ينطلي عليكم ما يقوله بعض الكتاب من تبجيل ابن سينا والثناء عليه والاعتزاز به أنه من فلاسفة المسلمين ، وهل الفلسفة من العلوم الإسلامية حتى نعتز بالفلسفة ؟
الفلسفة نفسها علم أجنبي كالمنطق ، أما كوننا نعتز لكونه يجيد الفلسفة ، قبل أن نعتز به فلنعد النظر في الفلسفة من أين جاءت؟ جاءت من حيث جاء المنطق ، بضاعة أجنبية ولكن راجت بدأ من عهد المأمون إلى يومنا هذا لأنها تدرس الآن ، الفلسفة تدرس الآن في كلية تسمى ( كلية الدعوة وأصول الدين ) - ليست هذه التي عندكم ، لا ، هناك - كلية الدعوة وأصول الدين ، هذا اسم الكلية لكن هذه الكلية ماذا تدرس ؟
المواد الأساسية فيها : الفلسفة والمنطق وعلم الكلام ، وهذا الاسم وذاك المسمى لذلك يعتزون بالفلسفة ، من يجيد الفلسفة عندهم أعظم من الذين لا يجيدون الفلسفة .(1/57)
ومن توفيق الله تعالى أن ابن تيمية عندما على ظهر على أولئك الفِرق والطوائف المجتمعة في دمشق خرج وهو يجيد هذه الفنون وهذه الاصطلاحات هذا الذي ضايقهم وبذلك أفحمهم .
أريد أن أقول : من تمكن من دراسة العقيدة الإسلامية وفهم الكتاب والسنة ومنهج السلف لو أراد بعد ذلك أن يدرس المنطق والفلسفة قد يُسْتَحْسَن ذلك وخصوصا في وقتنا هذا ، وقتنا هذا يشبه الوقت الذي ظهر فيه ابن تيمية لأن هذا الانفتاح العظيم الذي نعيشه وجاءت جميع العقائد والفِرق والمِلل والانتماءات اجتمعت كلها هنا من باب عرفت :
عرفت الشر لا للشر لكن لأتقيه من لم يعرف الشر وقع فيه
من هذا الباب الطالب الذكي الفطن الذي تمكن من دراسة العقيدة على منهج السلف ونضج في علمه وعقله لو درس هذه الاصطلاحات الحديثة من هذا الباب يُستحسن ذلك وهذا رأي فردي والله أعلم .
ثم قال الشيخ (والمتفلسفة والجهمية ) كلمة الجهمية أولا كانت تطلق على أتباع جهم بن صفوان ولكن توسع أتباع السلف فيما بعد فأطلقوا هذه اللفظة على نفاة الصفات جميعا وعلى المؤولة الذين يصل تأويلهم إلى نفي الصفات أي : لك أن تطلق الجهمية على المعتزلة وعلى الأشاعرة والماتريدية كل بحسب وقوعه في التأثر بعقيدة الجهمية ، ومعنى الجهمية واضح جدا عند الأشاعرة ..
الشريط الثالث :
ومعنى الجهمية واضح جدا عند الأشاعرة في صفة الكلام وصفة العلو ، وإن كان في الأصل لقب لأتباع جهم بن صفوان إلا أنه بعد ذلك يتوسع في إطلاق هذه اللفظة على جميع النفاة.
(والقرامطة الباطنية) الباطنية طوائف :
- باطنية القرامطة .
- باطنية الفلاسفة .
- باطنية الصوفية .
- وباطنية الشيعة .
الباطنية فِرَق و (والقرامطة) فرقة من فرق الباطنية ، وهؤلاء ، إن كثيرا من الناس الآن – بعض الشباب – يحسبون أنهم لا وجود لهم ، الباطنية بجميع فرقها موجودة الآن :(1/58)
باطنية الصوفية مثل وحدة الوجود كابن عربي ، ابن عربي الطائي وابن الفارض هؤلاء من باطنية الصوفية أي : غلاة الصوفية يصلون إلى درجة الباطنية.
وباطنية الشيعة : كابن سينا ، ابن سينا من العبيديين ، العبيديون الذين أطلقوا على أنفسهم أخيرا الفاطميون ، وهم منبع البدع ، وهم الذين ابتدعوا المواليد ، الاحتفال بالمواليد من بدع الفاطميين وهم عبيديون ، وهذا اللقب ( الفاطميون ) لقب مزيف اشتروه ، ولما لقبوا أنفسهم بالفاطميين أرادوا أن يثبتوا هذا اللقب بالتملق والتزلف لآل البيت فاخترعوا وابتدعوا الاحتفال بالمواليد في كل سنة ست مرات :
- احتفال بالنبي عليه الصلاة والسلام .
- واحتفال بمولد فاطمة .
- واحتفال بمولد علي .
- واحتفال بمولد الحسن .
- ثم الحسين .
- أخيرا الاحتفال بالوالي الموجود حاليا في ذلك الوقت .
كل ذلك تملق وتزلف منهم بالباطل لآل البيت ليثبتوا بأنهم فاطميون ، وفاطمة رضي الله عنها بريئة منهم وهم عبيديون ، وابن سينا منهم أي من باطنية الشيعة .
(ونحوهم فإنهم على ضد ذلك) على ضد طريقة الرسل جميعا .
(فإنهم يصفونه سبحانه وتعالى بالصفات السلبية على وجه التفصيل) يفصلون في السلوب .
(ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا) لا يثبتون لله تعالى إلا وجودا مطلقا .
(لا حقيقة له عند التحصيل) المراد عند التحصيل أي في خارج الذهن . عندما يقول قائلهم ليس بموجود ولا معدوم ، لا جاهل ولا عالم ، لا حي ولا ميت ، يجمعون النقيضين كما سيأتي ، مَن يصفون الله تعالى بهذا الأسلوب لم يعرفوا ربهم ولم يكونوا على طريقة الرسل .(1/59)
(ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحقيقه في الأعيان) إذا كان مثلا الإنسان المطلق والحيوان المطلق ، الوجود المطلق ، كل هذه لا حقيقة لها إلا في الذهن ، والذهن يتصور ، لأن الذهن قد يتصور المتسحيلات ، الذهن حر ، ممكن أن يتصور الصاحبة والولد والشريك ولكن هل لذلك وجود في الخارج أي في خارج الذهن؟ لا . كذلك الإنسان المطلق الذي لم يقيد أنه زيد أو عمرو أو خالد لا وجود له ، الوجود المطلق الذي لم يقيد بوجود الله أو بوجود المخلوق لا حقيقة له إلا في الأذهان .
(فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل) غاية التعطيل لأنهم عطلوا وجوده الحقيقي ، ليس تعطيل الصفات والأسماء فقط بل عطلوا وجود الله الحقيقي الخارجي لم يثبتوا إلا الوجود الذهني . ( وغاية التمثيل ) لأنهم مثلوه بالمعدوم ، الذي يوصف بما سمعتم هو المعدوم ، لو قيل لك : صف معدوما ؟ تقول الذي ليس في داخل العالم ولا خارج العالم ولا متصل ولا منفصل ، هذا المعدوم .(1/60)
(فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات) نفي الذات الحقيقي إلا ما كان من الوجود المطلق الذهني . ( إذا مثلوه بالممتنعات ) الممتنع الذي ليس بموجود ولا معدوم أو ( بالمعدومات ) إذا وصفوه بعدم الموجود ، ( وبالجمادات ) إذا جردوه من جميع الصفات ( ويعطلون الأسماء ) لأنهم لا يثبتون لها معاني ، ويعطلون ( الصفات ) أيضا ، قد يجمعون بين تعطيل الأسماء والصفات كما هو عند الجهمية كما تقدم .انتبه ، مذهب الباطنية . يقول الشيخ رحمه الله ( فغالبيتهم) – .. نسخة فغالبيتهم وفي نسخة فغلاتهم وفي نسخ فغالبهم ، نُسَخ كما في النسخة المحققة فالمعنى واحد - ( فغالبيتهم ) أي أغلبهم أو (غلاتهم يسلبون عنه النقيضين) ثم مثل الشيخ لسلب النقيضين بقوله (لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل) هنا في اصطلاحهم اصطلاح علماء الكلام ( نقيضان ) و ( ضدان ) بينهما فرق :
- النقيضان : لا يجتمعان ولا يرتفعان ، لا بد أن يبقى أحدهما ويرتفع الآخر كالليل والنهار نقيضان ، والموت والحياة نقيضان ، إما ليل وإما نهار وإما موت وإما حياة وإما علم وإما جهل ، هذا النقيضان .
- أما الضدان : لا يجتمعان وقد يرتفعان ، كالألوان ، الألوان كثيرة ، لا يجتمع اللونان في مكان واحد وفي موصوف واحد ولكن قد يرتفعان – الاثنان معا – السواد والبياض لا يجتمعان في موصوف واحد لكن قد يرتفعان لا سواد ولا بياض ولكن حُمرة أو خُضرة أو أي لون آخر ، هذا يسمى ضدان ، الضدان لا يجتمعان وقد يرتفعان .(1/61)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فيقولون:لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل) لأنهم بزعمهم إذا وصفوه بالإثبات قالوا إنه مثلا ( عالم ) شبهوه بالموجودات ، إثبات العلم يؤدي إلى التشبيه بالموجودات ، وإذا وصفوه بالنفي ، بعدم العلم ، شبهوه بالمعدومات ، إذن ما هي الطريقة المثلى عندهم ، فسلبوا النقيضين ، لا علم ولا جهل ، وهذا شيء غير موجود (وهذا ممتنع في بداهة العقول) أي في أوائل العقول أي ما يدركه العقل بدون نظر أو تفكير ، من سمع من يصف موصوفا بأن هذا ليس بموجود ولا بمعدوم ، وليس بعالم ولا جاهل لا يحتاج ليفكر هل هذا المعنى صحيح أو باطل ، بدون تفكير تدرك أنه باطل ، هذا معنى (ممتنع في بداهة العقول وحرفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فوقعوا في شر مما فروا منه) هكذا من حاد عن طريقة الرسل لا بد أن يقع في التناقض هذه قاعدة ، كل من حاد عن الحق لا بد أن يتناقض ، وليس هناك تناقض أعظم من هذا التناقض (فإنهم شبهوه بالممتنعات) فروا من أن يشبهوه بالموجودات وفروا من أن يشبهوه بالمعدومات فوقعوا في التشبيه بالممتنعات ، التشبيه بالممتنعات أفظع وأقبح من التشبيه بالموجودات أو بالمعدومات لعلكم تفرقون بين المعدومات وبين الممتنعات ، ومن قال إنه ليس بحي شبهه بالمعدوم ومن قال ليس بحي ولا ميت شبهه بالممتنع ، التشبيه بالممتنع أقبح من التشبيه بالمعدوم ، هذا ما وقع فيه كثير من علماء الكلام ، من وقت لآخر ننبه : هؤلاء الذين نناقشهم أو يناقشهم شيخ الإسلام ونحن نعرض مناقشته : أناس لهم وجود في وقتنا هذا لا تحسب أننا نتحدث عن أساطير الأولين أو عن الذين دفنوا ولا وجود لهم على وجه الأرض ، لا .(1/62)
الباطنية مثلا – لنقرب لكم – تسمعون قوما يقال لهم الإسماعيلية ، وهؤلاء من الباطنية ، الإسماعيلية موجودة في بعض بلاد الشام وفي بعض دول أفريقيا ويأتون في الحج ويأتون للزيارة ، قوم يلبسون طاقية من شكل واحد - لتعرفوهم إذا جاءوا في الزيارة - فإذا دخلوا المسجد فرشوا لهم قماشا أبيض ، الطواقي متشابهة والفراش الأبيض متشابه ... غير الإسماعيلي لا يدخل ، وهم لا يدخلون مساجد المسلمين هناك ، لكن إذا جاءوا هنا باسم الإسلام لأنهم يحملون إسلاما رسميا أنتم تفرقون بين الإسلام الرسمي وبين الإسلام الحقيقي ، الإسلام الذي في الجواز إسلام رسمي ، يحملون هذا الإسلام وبذلك الإسلام الرسمي تمكنوا من دخول الحرمين والصلاة فيهما أما هناك عند الأقوام الذين يعرفونهم على حقيقتهم لا يدخلون مساجدهم والمسلمون لا يدخلون معابدهم ، هكذا شاهدناهم في بلادهم ، إذن الإسماعيلية الباطنية والنصيرية ، لعلكم تعرفون النصيرية - على مقربة منكم مرمى الحجر ليسوا ببعيدين عنكم – هؤلاء كلهم من الباطنية ، إذن كل هؤلاء الذين نستعرض عقائدهم ونبين ضلالتهم ليسوا بمدفونين ، أحياء كغيرهم وموجودون لهم معابد ولهم مساجد ولهم عبادات خاصة ، ولكن القوم كما قلت إذا خرجوا وجاءوا إلى حيث لا يعرفون تقدموا بالإسلام الرسمي وخالطوا المسلمين ، الله المستعان .(1/63)
وبعد ، قال الشيخ رحمه الله تعالى (فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين) كما أنه لا يجمع بين النقيضين – بين الموت والحياة – كذلك لا يسلبان معا لا بد من بقاء أحدهما بدل الآخر (كلاهما من الممتنعات) إن شاء الله إنه واضح (وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه) ( علم بالاضطرار ) بالفطرة أن هذا الوجود الذي نحن فيه ، وهذا الكون المكون من الموجودات لا بد له من موجِد وإلا هل يوجِد نفسه بنفسه ؟ لا ، وهل يوجَد من غير موجِد ؟ لا ، إذن لا بد له من موجِد أوجده ، وذلك الذي أوجده يجب عقلا وشرعا أن يكون مخالفا لما أوجده ، ما أوجده جائز ، الجائز ما يجوز عليه العدم والوجود ، يستويان عنده ، أنت تسمى جائز لأنك وُجِدْت بعد أن لم تكن ، كل ما حدث ووُجِد بعد أن لم يكن يقال له حادث ويقال له جائز ويقال له ممكن ، الذي أوجد هذه الموجودات يجب أن يكون مخالفا لهذا الموجودات هذه الموجودات وجدت بعد أن لم تكن ، إذن يجب أن يكون وجود الموجِد وجودا واجبا (قديما أزليا) والقديم الأزلي يذكران – هذان الاسمان – من باب الإخبار عن الله لا من باب أنهما من أسماء الله تعالى بل يؤديان إلى حد ما معنى اسم الله ( الأول الذي ليس قبله شيء ) وإن كان معناهما فيهما نقص من هذا المعنى ولكن الشيخ عندما يخاطب القوم الذين أفحمهم وألف في إبطال مذهبهم قد يخاطبهم بالأساليب وبالاصطلاحات التي يعرفونها ، طالما تلك الاصطلاحات معناها صحيح ، ( القديم ) مثلا أتبع القديمَ بأزلي حيث قال (لا بد له من موجد) هو الله (واجب بذاته) أي ليس بمحتاج إلى غيره في وجوده وفي بقائه ، لذلك قال (غني عما سواه) في جميع أموره (قديم أزلي) الاسم ( القديم ) اسم اصطلاحي يخبر به عن الله وليس من أسماء الله ، و ( أزلي ) أدق لأن الأزل ما لا بداية له ولعل لفظة الأزلي تؤدي معنى ( الأول الذي ليس قبله شيء ) ، لذلك أتبع القديم(1/64)
بأزلي.
(غني عما سواه قديم أزلي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم) لا يوصف بأنه حدث بعد أن لم يكن ولا يوصف بأنه يلحقه العدم بل هو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسير تلك الأسماء " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء " محيط بعلمه بكل شيء سبحانه (فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم) أما أولئك الباطنية وصفوه بما يمتنع وجوده حيث سلبوا النقيضين فضلا عن الوجوب في مذهبهم ليس بواجب الوجود ولا هو بقديم بل شبهوه بالممتنع .
هذا مذهب من مذاهب بعض الباطنية ، والمحقق يقول مذهب ابن سينا وأتباعه ، ابن سينا وأتباعه كما تقدم من الباطنية لكن من باطنية الشيعة العبيدية ، لذلك قال :(وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات)(وصفوه بالسلوب) وافقوا الباطنية التي تقدم ذكرهم وهم الغلاة وافقوهم بأن يصفوا الله سبحانه وتعالى بالسلوب وزادوا عليهم بـ (الإضافات دون الإثبات) الصفات صفات سلبية وصفات إضافية :
- الصفة السلبية : كل صفة وقعت في سياق النفي أو النهي أو الاستفهام الإنكاري وهذا كثير في القرآن كما تقدم " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " هذه من السلوب وهي التي سمينا فيما تقدم بالنفي المفصل ، النفي المفصل هو السلوب ، ولكن القرآن يجمع بين السلب وبين الإيجاب ، وبين النفي المفصل والإثبات المجمل وبالعكس ، يجمع ، ولكن هؤلاء يصفون الله تعالى إما بالسلوب كما تقدم : ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز ، هذه كلها سلوب ، وإذا أردتم أن تقفوا على أمثلة كثير للسلوب راجعوا ( مقالات الإسلاميين ) لأبي الحسن الأشعري ، سلوب كثيرة يقشعر جسم الموحد عند سردها .(1/65)
- أما الإضافات الصفات الإضافية هي الصفة التي يتوقف تعقل معناها أو تصور معناها على تعقل معنى صفة أخرى أو على تعقل ما يقابلها ، كل صفة يتوقف تصورها أو تعقلها على تصور وتعقل ما يقابلها تسمى صفة إضافية ، قبل أن نذهب في الصفات مثلا : الأبوة والبنوة ، تصورك لمعنى الأبوة يتوقف على تصورك لمعنى البنوة ، كذلك تصورك لمعنى البنوة يتوقف على تصورك لمعنى الأبوة أي صفات متقابلة كذلك الفوقية والتحتية ، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عن الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف ، فجعلوا العلم عين العالم ، مكابرة للقضايا البديهات ، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا للعلوم الضروريات .
وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات ، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات ، ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات.
والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات ))
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :(1/66)
الدرس الخامس من دروس الرسالة التدمرية مبحث ابن سينا أو مبحث عقيدة ابن سينا وأتباعه من الفلاسفة الذين لهم موقف معين في باب الأسماء والصفات وهم من الباطنية من باطنية الشيعة ، يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وقاربهم) أي قارب الباطنية الذين سلبوا عنه النقيضين كما تقدم قاربهم (طائفة من الفلاسفة وأتباعهم) مذهب الباطنية الذي تقدم الحديث فيه ومذهب هذه الطائفة من الفلاسفة متقارب ، هؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات ، الذين تقدم ذكرهم سلبوا عنه النقيضين قالوا : لا موجود ولا معدوم ، لا حي ولا ميت ، هذا هو سلب النقيضين ، وسلب النقيضين مستحيل كما أن جمع النقيضين مستحيل ، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان معا ، لا بد من بقاء أحدهما ، الشيء إما يكون موجودا وإما يكون معدوما ، إما يكون حيا أو يكون ميتا أو يكون عالما أو جاهلا ، أما رفع النقيضين معا أو جمع النقيضين معا هذا مستحيل عقلا قبل الشرع ، هذا مذهب من مذاهب الباطنية ، سبق أن نبهنا بأن هذه الباطنية التي تعتقد هذه العقيدة الغريبة التي ربما ما سمع بعض المسلمين قبل الآن ، هذه الباطنية موجودة وهم المعرفون بالإسماعيلية ، الإسماعيلية أصلهم من الهند ومنتشرون الآن في بعض دول أفريقيا وفي بعض بلاد الشام ، والنصيرية منهم ، أقول هذا القول لئلا يستغرب من لا يعرف عنهم شيئا كأن أصحاب هذه العقيدة غير موجودين في الدنيا وهم موجودون ، ويحضرون إلى هذا البلد في موسم الحج باسم الحج وباسم الزيارة لأنهم كما قلنا وإن كانوا ليسوا من الإسلام في شيء لكنهم يحملون الإسلام الرسمي ، الإسلام الرسمي الذي يحمله جواز السفر ، ومن يحمل هذا الإسلام يدخل في كل مكان ولكن في الواقع ليسوا من الإسلام في شيء .
وابن سينا وأمثاله من الفلاسفة المعروفين بالإلهيين ، وهم ينقسمون كما تقدم إلى قسمين :
- فلاسفة إسلامية .
- والفلاسفة اليونانيون .(1/67)
والفلاسفة الإسلاميون تلاميذ للفلاسفة اليونانيين ، الإسلاميون كابن سينا والفارابي والكندي هؤلاء يحسب كثير من الذين يدرسون علم الكلام أنهم من المسلمين وليسوا من المسلمين ، لا فرق بينهم وبين أساتذتهم من اليونانيين بل الفرق بينهم في الجنسية أولئك يونانيون وهؤلاء من غيرهم ينتسبون إلى الإسلام ، هؤلاء وصفوا الله سبحانه وتعالى بالسلوب ، بالسلوب فقط دون أن يثبتوا له صفة من الصفات ولكن لا يجمعون بين النقيضين كالذين تقدم ذكرهم ، يقولون ليس بحي وليس بجسم وليس بعَرَض وليس بذي حرارة أو بذي برودة سلوب كثيرة جدا جمع أكثرها أبو الحسن الأشعري في كتابه ( مقالات الإسلاميين ) ووصفوا أيضا بالإضافات .(1/68)
- أما السلوب جمع سلب والصفة السلبية هي الصفة الواقعة في سياق النفي أو في سياق النهي أو في سياق الاستفهام الإنكاري ، وليس كل سلب مذموما لأن ورد في الكتاب والسنة بعض الصفات السلبية التي تصرف عن الله تعالى ما لا يليق به مثل قوله تعالى " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " لكن وجه الذم لهؤلاء أنهم لا يثبتون لله تعالى صفة ثابتة أبدا وإنما يصفونه بالسلوب ، وفي زعمهم هذا السلوب وصفه بالسلوب تنزيه ، هكذا من حاد عن طريقة الرسل يضيع ، التنزيه أمر مطلوب وليس هناك أبلغ في التنزيه من قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " التنزيه أن تثبت لله سبحانه ما أثبت لنفسه من صفات الكمال ومن الأسماء الحسنى وما أثبت له رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام ثم تنفي المشابهة بين ما أثبت وبين صفات المخلوقين ، لأن السمع يشترك فيه الخلق والخالق وكذلك البصر وكذلك العلم والقدرة وغير ذلك من الصفات ، تثبت هذه الصفات ثم تنفي المشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق وهذا ما يُفهم من قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " أي ليس كمثله شيء في ذاته ، تثبت لله ذاتا والعباد ذوات ولكن تنفي المشابهة بين ذات الرب سبحانه وبين ذوات خلقه ، تثبت له السمع والبصر وتنفي المشابهة بين سمعه تعالى وبصره وبين سمع وبصر المخلوقين ، هذا هو التنزيه ، وأما السلوب عندهم كما سمعتم وصف الله سبحانه وتعالى بالنفي فقط دون أن يثبتوا له صفة واحدة .(1/69)
- أو بالإضافات ، الصفة الإضافية هي الصفة التي يتوقف تعقلها أو تعقل معناها أو تصور معناها على تعقل وتصور ما يقابلها ، وليس هذا خاصا في الصفات بل في كل شيء من الأمور المتقابلة ، كالأبوة مثلا يتوقف تصور الأبوة على تصور البنوة ، كذلك يتوقف تصور البنوة على تصور الأبوة ، كذلك الفوقية والتحتية ، لا تتصور معنى السفل أو التحتية إلا إذا تصورت الفوقية ، هذه هي الصفات الإضافية ، كما يقول بعضهم من الذين تأثر بعقيدة الجهمية : العرش والفَرْش عنده على حد سواء يقصدون بالفَرْش ما تحت الأرض أي : ما فوق العرش وما تحت الأراضي على حد سواء عند الله تعالى هذا هو السلب والإضافة في وقت واحد ، هذا للأسف قد يقوله بعض جهلة الأشاعرة الذين أثرت فيهم العقيدة الجهمية فصاروا يبالغون في نفي العلو حتى يقولون الأماكن عنده واحدة على حد سواء لا يقال إنه فوق ، هذه مصادمة للنصوص " أأمنتم من في السماء " " إليه يصعد الكلم الطيب " " الرحمن على العرش استوى " " إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش " هذه النصوص الصريحة تخالفها العقيدة الأشعرية المنتشرة بين شبابنا اليوم إذا خرجنا من حدود هذا البلد هي العقيدة المعروفة باسم عقيدة أهل السنة والجماعة وتدرس في المعاهد المعروفة بالمعاهد الدينية بما في ذلك الأزهر الشريف الله المستعان .(1/70)
هذه كلها سلوب وإضافات (دون صفات الإثبات) وليس معنى هذا بأن الأشاعرة لا يثبتون ، لا ، الأشاعرة يثبتون صفات كثيرة ليست الصفات السبعة فقط كما يظن بعض الناس ، الصفات السبع هي المشهورة ولكن يثبتون صفة يسمونها صفة نفسية ( الوجود ) والصفات السلبية السبع ( القِدم ) و ( البقاء ) و ( الوحدانية ) و ( مخالفته للحوادث ) و ( قيامه بنفسه ) هذه الصفات وإن لم ترد بهذه الألفاظ بعضها في الكتاب والسنة لكن من حيث المعنى توافق ما جاء في الكتاب والسنة فيه معنى التنزيه ، هذا هو السر في أن شيخ الإسلام الذي نازل وناظر هذه الفرق كلها شهد للأشاعرة بأنها من أقرب الطوائف - الكلام - إلى منهج السلف الصالح لهذا لإثبات أو لهذا القدر من الإثبات .
قال الشيخ رحمه الله (وجعلوه هو الوجود المطلق) انتبهوا لهذه النقطة جعلوا الله - الفلاسفة ابن سينا وأتباعه - جعلوا الله الوجود المطلق ، الوجود وجودان :
- الوجود المطلق وهو الوجود الذهني .
- الوجود المقيد المختص وهو الوجود الخارجي .
ومن سلب عن الله سبحانه تعالى جميع الصفات لم يثبت له تعالى صفة واحدة من الصفات الثبوتية جعل وجود الله تعالى الوجود المطلق أي له وجود خارجي بمعنى شيء معنوي يتصوره الذهن فقط ولكن ليس له وجود في خارج الأذهان ، الذهن له أن يتصور حتى المستحيلات ، يمكن للذهن أن يتصور الشريك والصاحبة والولد لله تعالى وهذه من الممتنعات لكن التصور الذهني يرد ، وهل لهذه الأشياء وجود خارجي ؟ لا ، من سلب صفات الله تعالى لا يثبت له سمعا ولا بصرا ولا قدرة ولا حياة ولا علما يجعل وجود الله تعالى وجودا ذهنا خياليا هذا معناه .
قال (بشرط الإطلاق) أي بشرط أن لا يثبت له شيء من الصفات ، هذا معنى قوله (بشرط الإطلاق) أي بحيث لا يثبت له شيء من الصفات إذ في زعمهم إثبات صفة ثبوتية له يؤدي إلى التشبيه هكذا زعموا .(1/71)
قال الشيخ رحمه الله (وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن) الموصوف الذي أو الموجود الذي لا يثبت له شيء من الصفات لا يكون إلا في الذهن كما مثلنا (لا فيما خرج عنه) أي عن الذهن (من الموجودات) لو قيل مثلا لو قال الإنسان أن يثبت الإنسان المطلق وهل الإنسان المطلق له وجود ؟ هذا الإنسان ليس بزيد ولا عمرو ولا خالد إنسان مطلق ، أين يوجد ؟ يوجد في الذهن ولا يوجد في الخارج حتى تقيده ، الإنسان الذي اسمه زيد أو اسمه عمرو ، صار موجودا في الخارج ، لكن قبل أن تقيد فهو في الذهن ، هكذا الموجودات جميع الموجودات إن لم تقيدها بصفة أو باسم فوجودها وجود ذهني .
(وجعلوا الصفة هي الموصوف) فوجدوا ذكر الصفات في الكتاب والسنة كيف يتخلصون من هذه الصفات الموجودة المذكورة في الكتاب والسنة ؟ قالوا الصفة والموصوف شيء واحد (فجعلوا العلم عين العالم) العلم ليس عين العالم والسمع ليس غير السميع شيء واحد ليتحقق بذلك أن وجوده وجود ذهني لا خارجي ، الصفة قد تكون عين الموصوف وقد تكون غير الموصوف ، هذا بحث ينبغي أن يفطن له طلاب العلم ، لا يطلق فيقال الصفة غير الموصوف ولا يطلق فيقال الصفة عين الموصوف ، بل يختلف ذلك باعتبار :
- باعتبار أن للصفة معنى غير الموصوف وللصفة كيان غير كيان الموصوف ، بهذا الاعتبار الصفة غير الموصوف .
- وباعتبار عدم الانفكاك أن الصفة لا تنفك عن الموصوف بهذا الاعتبار هما شيء واحد - افهموا جيدا - وقد بحث شيخ الإسلام هذه المسألة في غير هذه الموضع بتوسع لست أدري هل في الحموية أو في منهاج السنة والله أعلم .
قال الشيخ رحمه الله تعالى فعلوا ذلك (فعلوا ذلك مكابرة للقضايا البديهات) القضايا التي تدرك كما يقال بطرف العقل أي بدون تفكير وتأمل ، أي إنسان سمع ( عالم ) يفهم أن له صفة اسمها العلم ، إذن العلم غير العالم هذه من الأمور البديهيات إلا بالاعتبار الذي قلنا الآن .(1/72)
(وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ) أيضا (فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة) كلها واحدة جعلوا العلم والقدرة والمشيئة والحياة وغير ذلك من الصفات شيئا واحدا من الأمور التي تنكرها العقول السليمة .
(جحدا للعلوم الضروريات) صحيح هذا جحد وإنكار للعلوم الضروريات وإلا كل عاقل يدرك أن العلم غير السمع وغير البصر وغير القدرة .
جعل الشيخ في ترتيبه لذكر الطوائف ينتقل من ذكر أسوأ الطوائف إلى السيئ ، لذلك وصلنا إلى المعتزلة ، من المعتزلة ننتقل إلى الأشاعرة حتى نقرب من الجادة .
قال الشيخ رحمه الله (وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة) قاربوا هؤلاء الذين نفوا الأسماء والصفات أو جعلوا الصفات كلها بمعنى واحد أو جعلوا الصفة والموصوف شيئا واحدا قارب هؤلاء قوم من أهل الكلام من المعتزلة ، المعتزلة ظهروا أيام الحسن البصري عندما كان إماما مفتيا ومدرسا كان يجلس في مجلسه واصل بن عطاء أحد تلاميذه ، سئل الحسن البصري عن عبد ارتكب كبيرة هل هو مؤمن أو كافر ؟ قبل أن يجيب الحسن البصري على هذا السؤال بادر واصل بن عطاء قال مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ، أطلق هذه العبارة ثم قام من مجلسه إلى سارية من سواري المسجد وفتح له مجلسا آخر يفتي فيه بهذه العقيدة اعتزل مجلس الحسن البصري واعتزل عقيدة المسلمين ومنهج المسلمين في مرتكب الكبيرة ، ليس تسمية الاعتزال مجرد اعتزاله للمجلس بل لزم من اعتزاله لمجلس الحسن اعتزاله طريقة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة ، في مرتكب الكبيرة الناس افترقت إلى ثلاث فرق :(1/73)
- عند أهل السنة والجماعة الذي عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أي لا يخرج من الإيمان مهما كبرت تلك الكبيرة ولو كان قاتل نفس ولو كان زانيا محصنا لا يخرج من الإيمان ، يبقى عنده إيمان ضعيف ولكنه فاسق أي يفقد الإيمان الكامل ، يفقد الإيمان المطلق وهو الأيمان الكامل ويبقى عنده مطلق الإيمان أي الإيمان الضعيف لذلك قد يُنْفَى عنه الإيمان ، ويجب أن يفهم هذا الإيمان المنفي ما هو عن بعض مرتكبي الكبيرة ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) الحديث ، إطلاق أو نفي الإيمان من هؤلاء نفي لكمال الإيمان لا أصل الإيمان ، أما أصل الإيمان فمرتكبو الكبيرة كلهم مؤمنون ومسلمون وتجري عليهم أحكام الإسلام ، لو ماتوا دفنوا في مقابر المسلمين وصلي عليهم وجرى الإرث في أموالهم ، ولذلك أوجب الله في حقهم الحدود ولم يعاملوا قط معاملة المرتدين ولكن لهم حدود معروفة وعقوبات معينة معروفة في الكتاب والسنة يعلمها جميع المسلمين .
- لذلك المعتزلة لما أخرجوا مرتكب الكبيرة من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر وزعموا أنه في هذه الدنيا يبقى في قنطرة وهمية بنوها هم ليس بمسلم ولا كافر ، خرج من الإسلام فلم يدخل في الكفر ، أين يبقى ؟ في منزلة وهمية بين الكفر والإيمان حتى يموت ، فإذا مات أين يذهب ؟ إلى النار خالدا مخلدا مع الكفار .(1/74)
- وعند الخوارج بمجرد ارتكاب تلك الكبيرة يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر للأسف هذه هي العقيدة التي تنتشر الآن بين بعض الشباب المتطرفين الذين يتحمسون التحمس الزائد دون تقيد بتعاليم الإسلام إذ يحكمون على كل من ارتكب كبيرة ثم لم يسلم نفسه للسلطة للعقوبة أنه كافر مرتد خالد مخلد ، هكذا تتحدث في هذه الآونة الأخيرة بعض الأشرطة ، فأصبحنا الآن نسمع الكلام من الأشرطة لا من بني آدم ولكن بدأت بعض الأشرطة تتحدث بمثل هذا ، تكفير مرتكب الكبيرة ، هذا أمر خطير وخطير جدا لأن من كفّر مسلما يكفر هو ، ومرتكب الكبيرة بإجماع المسلمين – إذا استثنينا الخوارج والمعتزلة – من المسلمين وقد عرفتم موقف المعتزلة وموقف الخوارج ، لذلك نصيحتنا لشبابنا الذين يتتبعون هذه الأيام الأشرطة أشرطة المتحمسين أشرطة الذين يزعمون أنهم أصحاب الغيرة وأنهم غيرهم من العلماء لا غيرة لهم هكذا يزعمون ثم يكفرون من يشاءون يكفرون الحكام ويكفرون مرتكب الكبيرة ويفسدون من حيث لا يشعرون ، فلينتبه صغار الشباب لهذه الأشرطة فإذا سمعوها فليعرضوها على العلماء المعروفين المشهود لهم بالعلم فليستفتوا وليسألوا ولا يسلموا لكل ما يسمعون في هذه الأشرطة الحديثة .(1/75)
وبعد : قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى - عرفنا متى ظهرت المعتزلة ولِمَ سموا معتزلة - (ومن تبعهم) من اتبع كبار المعتزلة كواصل بن عطاء وأمثاله (فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات) من مذهب المعتزلة في هذا الباب إثبات أسماء مجردة لا تدل على الصفات كأنها أعلام تدل على المسمى فقط كزيد وعمرو يدل على المسمى لا يدل على المعنى ، ولكن أسماء الله - فلنفهم - أسماء الله تعالى أوصاف وأعلام هذه قاعدة عند أتباع السلف ، أسماء الله تعالى أعلام من حيث دلالتها على الذات وأوصاف من حيث دلالتها على الصفات ، لذلك وجه خطأ المعتزلة جعلوا أسماء الله تعالى أعلاما مجردة لا تدل على المعاني وتلك المعاني هي الصفات ، أي : اسم الله (العليم) يدل على العلم ، واسم الله (السميع) يدل على السمع ، واسم الله (البصير) يدل على البصر وهكذا إلى آخر الصفات ، وهم نفوا هذا المعنى .(1/76)
ثم اختلفت عباراتهم اختلافا شكليا والعقيدة هي هِي (فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفة ) وجه ترادفها لأنها أعلام لمسمى واحد ولكنها لا تدل على الأوصاف (ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بصير بلا سمع ولا بصر) هذا هو المشهور عند المعتزلة هذا التعبير وإلا المعنى كما قلنا هذا الأسلوب والذي قبله مؤداهما واحد . فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات وهذا خطأ محض وفي زعمهم يريدون التنزيه وليس هذا سبيل التنزيه ، لكن هل هؤلاء يُكَفّرون ؟ كما كفّروا الفلاسفة والجهمية لأنهم لم يثبتوا شيئا لم يثبتوا لله تعالى إلا الوجود الذهني ، وهل المعتزلة لكونهم أثبتوا الأسماء وإن نفوا الصفات هل يكفّرون ؟ يُتوقف في أمرهم ويُتحفظ ، وجه التحفظ لأن الإلزام سهل في أمرهم أي من أثبت أن الله عليم يلزمه من حيث لا يشعر إثبات العلم ومن أثبت بأنه سميع يلزمه إثبات السمع من حيث لا يشعر ، بهذا الاعتبار يتحفظ ومع ذلك ننبه على القاعدة التي نبهنا عليها غير مرة : من تجرأ ونفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر لكن إذا أثبت الاسم مع نفيه للصفة هنا يأتي التحفظ لهذا الإلزام الذي قلت لكم وإلا القاعدة تنطبق عليهم أن أي إنسان نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة وليست له شبهة وليس معذورا بجهله فهو كافر هذه القيود لا بد منها ، رحم الله شيخ الإسلام هو الذي علمنا هذه القيود لكثرة مناظرته ولكثرة فقهه أو دقة فقهه في الكتاب والسنة استنبط هذه القيود أن إطلاق الكفر على من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة ليس على الإطلاق بل إن كان هذا الذي أطلق ونفى معذورا بجهله – وليس كل جاهل يعذر بل إذا كان جهله جهلا يعذر به - أو له شبهة وجود الشبهة ووجود الجهل الذي يعذر به يمنعه من الكفر ، إذا كان يعيش في بادية بعيدة عن أهل العلم ووقع في شيء من نفي الصفات أو تربى في بيئة من بيئات علم الكلام بين الأشاعرة والمعتزلة وهو(1/77)
طالب صغير ليس له استعداد ليستنبط من الكتاب والسنة ولكنه مقلد لشيخه كان يقرر شيخه فيقول له ليس الله فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره تربى على هذا ، ولم يعلم قط أنه توجد عقيدة غير هذه العقيدة في الدنيا ويحسب أن هذا هو ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام ، جاهل وله شبهة ، شيخه شبهة مجسدة إذن هذا الطالب يُتريث معه حتى يخرج من تلك البيئة الأشعرية وبيئة الاعتزال ويدخل في بيئة إسلامية سلفية ويتبيّن ، إذا تبيّن وبعد التبين قال لا لن أترك أبدا تلك العقيدة التي تلقيتها من شيخي من صغري أموت عليها وإن كان ما تقولونه هو الحق هو الموافق للكتاب والسنة كما يظهر لكني لن أخالف هذا كافر لأنه تبين له " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " هذا تبين له إذا عاند بعد تبين الحق فهو كافر وقبل ذلك لا ، يقول شيخ الإسلام : دائما أتذكر وأكرر هذه الآية عندما أناظر علماء الكلام ، لذلك كان يقول لهم لو كنت أنا مكانكم لكفرت ولحكمت على نفسي بالكفر ولكنكم جهال ، يقول لعلماء الكلام فطاحلة علماء الكلام يقول لهم أنتم جهال ويعذرهم بجهلهم لذلك فلننتبه لأن كثيرا من شبابنا اليوم شباب المسلمين في كثير من الأقطار لا يزالون يدرسون نفي الصفات أو تأويل صفات الرب سبحانه وتعالى تأويلا يؤدي إلى النفي وهم يظنون ويحسبون أن تلك العقيدة هي التي جاء بها محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام إذن فلنتريث معهم ولنرسل لهم الأشرطة ولنحاول أن نخفف ما لديهم من الشبه ومن الجهل وهم هناك واليوم متيسر لأن من كل بلد توجد هنا طوائف تأثروا وتعلموا وفهموا ينبغي أن يدعوا إخوانهم وهم هناك بالأشرطة الصالحة لا بالأشرطة التي وصفناها قبل قليل.(1/78)
وبعد : قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (والكلام على فساد مقالة هؤلاء) الذين تقدم ذكرهم (وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات) هكذا غالبا تحويل شيخ الإسلام رحمه الله لأنه يكتب هذه الرسائل على عجل ارتجالا بدون رجوع إلى الكتب من محفوظاته والرسائل عبارة عن جواب على رسالة تأتيه لذلك في التحويل كثيرا ما يحول بدن تعيين للمكان الذي بحث فيه هذا البحث ، قوله رحمه الله (وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول) لشيخ الإسلام كتاب في هذا المعنى موافقة المنقول للمعقول أو العكس وهو الكتاب الذي جعل له اسم آخر فيما بعد يصرح فيه شيخ الإسلام : النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح ، إذا كان النقل صحيحا وثابتا لا يكاد يخالف العقل الصريح السليم وإنما تأتي المخالفة بين المعقول وبين المنقول إما أن النص الذي استدللت به غير صحيح أو أن العقل الذي تناقشه غير صريح وغير سليم مشوش ملوث بآراء علماء الكلام ، أما إذا بقي الإنسان على فطرته وعقله الصحيح الصريح السليم لا يكاد هذا العقل الصريح السليم أن يخالف النقل الصحيح أبدا . نعم .(1/79)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات ، وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من موجد كما قال تعالى " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون " فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم ، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره ))(1/80)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وهؤلاء جميعهم) من الباطنية والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم (يفرون من شيء فيقعون في نظيره بل في شر منه) لأنهم أعرضوا عن بيان الله تعالى وبيان رسوله عليه الصلاة والسلام والتمسوا الهدى في غير كتاب الله وهذه قاعدة - وإن كان الحديث الذي جاءت فيه هذه القاعدة من الناحية الاصطلاحية ليس بصحيح ولكن معناه صحيح جدا - أن كل من التمس الهدى في غير كتاب الله تعالى أضله الله ، هذه قاعدة مجربة ، كل من التمس الهدى في غير كتاب الله ترك بيان الله وبيان رسوله عليه الصلاة والسلام واعتمد على عقله في باب الأسماء والصفات أو في باب العبادة أو في باب التشريع أضله الله ولا بد ، لذلك هؤلاء جميعا فروا من شيء في زعمهم لئلا يشبهوا الله بالمخلوقات هذا الشيء الذي فروا منه ، بالمخلوقات أي بالموجودات ، ولكن وقعوا في نظيره : شبهوه بمخلوق آخر بل في شر منه بأن شبهوه بالمعدومات أو بالممتنعات تقدم هذا بالتفصيل ، لأن من نفى عن الله سبحانه تعالى الصفات شبهه بالجمادات التي لا توصف بالصفات وإذا فر من تشبيهه بالموجودات وقع في تشبيهه بالمعدومات وهو شر وإذا نفى النقيضين وقع في تشبيهه بالممتنعات أشر من الذي قبله .
(مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات ) هذا شيء لا بد منه .(1/81)
(ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات) وهي المحدَثات المخلوقات (وفرقوا بين المختلفات) بأن يفرقوا بين صفات الخالق وصفات المخلوق كما أن ذات الخالق تخالف ذوات المخلوقين كذلك صفاته تخالف صفات المخلوقين ( كما تقتضيه المعقولات ولكانوا) لو فعلوا ذلك أي لو فرقوا بين المختلفات (لكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق) فيلتمسون الهدى فيما أنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام (ويرون أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ، ولكنهم من أهل المجهولات ) ليسوا من أهل المعقولات والمعلومات (المشبهة بالمعقولات) ولما تركوا المعلومات المأخوذة من الكتاب والسنة وقعوا في التشبيه بالمعقولات أي بعقولهم العقول تختلف ، عقول الأشاعرة أقرب من عقول المعتزلة ، وعقول المعتزلة أقرب من عقول الجهمية وهكذا (يسفسطون في العقليات) السفسطة الخداع والتمويه والثرثرة التي لا ثمرة لها ، إذا جاءوا في العقليات سفسطوا ، أكثروا الكلام وموهوا على الناس وخدعوا الناس بكثرة الكلام ، لذلك سمي علم الكلام علم الكلام لكثرة الكلام مع قلة النتيجة .
(ويقرمطون في السمعيات) القرمطة في الأصل تقارب الخطى أو تقارب الخط القرامطة نسبة إلى حمدان القرمطي ، والقرامطة مجوس أظهروا الإسلام كيدا ومكرا للمسلمين ، في المائة الثانية ، هؤلاء تأويلاتهم يؤولون الشريعة كما يؤول علماء الكلام الصفات ، الزكاة مؤولة عندهم ، الصلاة مؤولة والصيام ، جميع العبادات مؤولة عند القرامطة الباطنية ، الشيخ يقول (ويقرمطون في السمعيات) أي علماء الكلام يشبه تأويلهم للسمعيات كتأويل القرامطة للشريعة كلها هذا تشبيه ..(1/82)
(إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع) إذا كنتم فررتم من إثبات الصفات والأسماء لأنها تتفق في اللفظ مع صفات الله تعالى وأسمائه ، تعالوا إلى الوجود ( علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود) وهذا الموجود (قديم) وهو الله المراد بـ ( القديم ) القديم ليس من أسماء الله تعالى ، أي هو الأول الذي ليس قبله شيء ( غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات ) والمحدثات هذه موجودة يطلق عليه أنه موجود الحيوان موجود والمعدن موجود والنبات موجود والله موجود وهل وجود الله كوجود الحيوان ووجود المعدن ووجود النباتات ؟ لا ، هذا بضرورة العقل يجب أن يوافقوا ، إذا وافقوا على وصف الله بأنه موجود مع العلم أن هناك أشياء يقال إنها موجودات وهل وجود الله كوجود هذه المحدثات ؟ لا ، إذن يقال لهم اسم الله ( السميع ) و ( البصير ) و ( القدير ) ليس كأسماء المخلوقين الذين يوصفون أو يسمون بهذه الأسماء ، هذا وجه الإلزام .
قال الشيخ رحمه الله تعالى – نعيد مرة أخرى فليُفْهَم – (وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات ) هذه الموجودات والمحدثات تدل على وجود موجِد قديم غني مخالف لهذه المحدَثات ، بمعنى : استدلال بالمُحدَثات على المُحْدِث هذه المحدَثات تدل على المُحْدِث ، هذه الموجودات المحدَثة تدل على موجود قديم كما تدل البعرة على البعير .(1/83)
(والحادث ممكن ) الممكن ما يستوي في حقه الوجود والعدم ، كل ما عدا الله يقال له ممكن ويقال له جائز، الممكن والجائز يقابل الواجب ، الله سبحانه وتعالى يقال في حقه الواجب ، وما عدا الله يقال في حقه ممكن وجائز إذ يستوي وجوده وعدمه ولا يوجَد إلا بموجِد وذلك الموجِد مخالف لهذا المُحْدَث ، بعبارة أخرى : المُحْدِث الذي أحدث هذا الكون مخالف لما أحدثه ، لو لم يخالفه ، يكون مثله ، لا يمون أهلا للإحداث .
(والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع ) إذن القسمة العقلية ثلاثة :
- واجب .
- وممكن .
- وممتنع .
لا رابع لها ، الواجب هو الله ، الممكن الجائز ما عدا الله ، الممتنع المستحيلات كالشريك والصاحبة والولد والوزير هذه ممتنعات ، الأمور تنقسم إلى هذه القسمة الثلاثية فلْتُفْهَم .
(وقد علم بالاضطرار أن المحدَث ) أي الممكن الذي وجد بعد أن لم يكن .
(لا بد له من محدِث ) لا بد له من موجِد أوجده .
(والممكن لا بد له من واجب ) الواجب هو الله .
(كما قال تعالى " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ") هذا يسمى دليل التمانع هذه الآية يسمونها دليل التمانع ، ويشرح الشيخ فيقول :
(فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ) كون المخلوق يخلق من غير خالق ممتنع عقلا ( ولا هم الخالقون ) كذلك ممتنع أن يخلق المخلوق نفسه إذن (تعين أن لهم خالقا خلقهم) أضف على ذلك أن الخالق الذي خلقهم مخالف لهم في كل شيء لأنه لو كان مثلهم ما كان خالقا لهم " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
(وإذا كان من المعلوم بالضرورة) العلم الضروري العلم الذي لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك لو أردت أن تدفعه ، لو أردت أن تدفع عن نفسك وجود هذا الجهاز ليس بموجود ، هل تقدر ؟ لا ، معرفتك بوجود هذا الجهاز أمامك ، ومعرفة وجود هذه السارية أمامك ، علم ضروري أي لو حاولت أن تدفع هذا العلم لما استطعت هذا معنى العلم الضروري .(1/84)
(وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه ) وهو الله ( ما هو محدث ممكن ) وهو ما عدا الله كما تقدم .
(يقبل الوجود والعدم ) هذا تفسير للممكن ، لو قيل لك فسر الممكن ، الممكن ما يقبل الوجود والعدم ، أصله في العدم ، ولكن من الذي رجح وجوده على عدمه ؟ هو الله ، إذ قبل أن يوجد يستوي فيه الوجود والعدم ، وترجح الوجود على العدم لوجود موجِد أوجده وهو الله سبحانه .
(فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود) الممكن موجود والذي أوجد هذا الممكن موجود هذا موجود وهذا موجود (ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا) إذا كان الله موجودا والمخلوق موجود هل يلزم من الاتفاق في مسمى الوجود أن يكون وجود الله كوجود المخلوق ؟ أو وجود المخلوق كوجود الخالق ؟ لا ، لا يلزم عقلا قبل أن نقول شرعا .
ثم قال (بل وجود هذا) وجود الله مثلا ( يخصه ووجود هذا) المخلوق (يخصه) أي له مواصفات ، وجود الخالق وجود ليس له أوليه لأنه هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء ، هذا هو الله ، ولكن وجود المخلوق وجود مسبوق بعدم ، وجود ناقص إذ يطرأ عليه العدم مرة أخرى وتطرأ عليه آفات : أمراض ، جهل ، آفات كثيرة .
(واتفاقهما في اسم عام) الذي هو الوجود (لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة ) قبل أن تقول وجود الله ووجود المخلوق هذا يسمى الوجود العام الاتفاق إنما حصل بين الخالق وبين المخلوق في الوجود العام ، الوجود العام قبل أن يخصص وجود الله بالإضافة والتقييد وقبل أن يخصص وجود المخلوق بالإضافة والتخصيص ، إذا قلت وجود الله ووجود زيد افترقا لا يحصل التشابه والتماثل بينهما أبدا .
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه …
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(1/85)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الدرس السادس من دروس الرسالة التدمرية (وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم) يمكن أن يُعَبَّر بغير هذه العبارة فيقال : وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود قديما واجبا بنفسه ومحدَثا ممكنا يقبل الوجود والعدم – يعني لو أردنا أن نتفادى ( ما ) لأن لفظة ( ما ) في الغالب لغير العاقل وهنا تأتي لتطلق على الله وعلى المخلوق معا لو أردنا أن نتخلص منها نقول هكذا - وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود موجودا قديما واجبا بنفسه – وهو الله – وموجودا محدَثا ممكنا يقبل الوجود والعدم . قول الشيخ رحمه الله (يقبل الوجود والعدم) تعريف للممكن لو قيل لك ما هو الممكن ؟ الجواب : الممكن ما يقبل الوجود والعدم ، هذا الكون كله ممكن لأنه كان معدوما ثم وجد ، فوجوده دليل على عدمه السابق ، أي رُجِّح وجودُه على عدمه السابق والترجيح لا يكون بلا مرجِّح إذن لا بد من مرجِّح وذلك المرجِّح هو الله أي الموجِد ، الجائز والممكن بمعنى واحد ، لك أن تقول : هذا الكون كله جائز وهذا الكون كله ممكن أي ما عدا الله ، الكون يقال لهذا المخلوق ما عدا الله لأنه مكوَّن الله كوّنه وأوجده واخترعه ، يقال له ممكن ويقال له جائز ، مقابل واجب ، الواجب هو الله وحده ، الواجب هو الأول الذي ليس قبله شيء ، وما عدا الله كله جائز وممكن لأنه كان معدوما ثم وجد ثم يقبل الإعدام إذ لا يبقى غير وجه الله إلا ما يبقيه الله سبحانه وتعالى مِن عنده وليس البقاء وصفا ذاتيا له كالجنة ونعيمها وإلا كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه ، المهم هذا تعريف للممكن .(1/86)
ثم قال الشيخ ( فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ) واجب الوجود موجود وجائز الوجود موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود كون واجب الوجود موجودا وجائز الوجود موجود اتفاقهما في مسمى الوجود لا يلزم من ذلك أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا ، أن يكون وجود الله كوجود المخلوق أو يكون وجود المخلوق كوجود الله بل بينهما تباين لا يلزم من هذا عقلا (بل وجود هذا يخصه) وجود واجب الوجود وهو الله يخصه (ووجود هذا يخصه) وجود الممكن جائز الوجود يخصه .(1/87)
( واتفاقهما في اسم عام) أي قبل الإضافة ( لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص ) إطلاق الوجود أو موجود عندما تقول ( موجود ) قبل أن تقول الله موجود وقبل أن تقول زيد موجود قلت (موجود) هكذا أو ( وجود ) هذا الوجود اسمه وجود عام ، والموجود قبل أن تضيفه إلى أحد اسمه موجود عام ، الاشتراك في هذا المعنى العام أمر ضروري ، ولا يلزم من الاشتراك في هذا المعنى العام وفي الاسم العام لا يلزم من ذلك اتفاقهما بعد التخصيص والتقييد والإضافة ، انتبه مرة أخرى : (ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود) الله له وجود والممكن له وجود ( أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا) وجود الله مثلا (يخصه) وجود ليس له أولية لأنه الأول الذي ليس قبله شيء ، قديم بلا بداية (ووجود هذا يخصه) وجود محدَث الله أحدثه بعد أن لم يكن موجودا فجعله موجودا (واتفاقهما في اسم عام) الذي هو الوجود (لا يقتضي تماثلهما) أن يكون كل واحد مثل الآخر ( ي مسمى ذلك الاسم) متى ؟ (عند الإضافة والتقييد والتخصيص) المعنى واحد إنما كرر من باب التأكيد لو قال عند الإضافة فسكت كفى ، لو قال عند التقييد كفى ، لو قال عند التخصيص كفى لأن الإضافة هنا تفيد التقييد والتخصيص ، وجود الله خُصِّص بالله ، وجود زيد خُصِّص بزيد ، بعد هذا التخصيص لا يتماثلان أبدا ولا يشتركان في أي شيء (ولا في غيره) هذه العبارة أشكلت على كثير من الشراح (ولا في غيره) أي في غير التخصيص أي حتى عند الإطلاق لا يحصل التماثل وإنما يحصل الاتفاق في المعنى العام ، لا يلزم من الاتفاق في المعنى العام التماثل حتى عند الإطلاق ، أي قبل الإضافة التي قيدت وخصصت حصل الاتفاق في الاسم العام لكن لا يلزم حتى عند ذلك أي قبل التقييد لا يلزم تماثلهما هذا تعبير دقيق جدا ينبغي أن يفطن له ، ربما لو قلنا ( لا يلزم تماثلهما عند التقييد والتخصيص ) يكون المفهوم : يلزم تماثلهما عند(1/88)
الإطلاق وليس الأمر كذلك حتى عند الإطلاق الذي يحصل هو الاتفاق في المعنى العام فقط أما التماثل بين حقيقة وجود الله وحقيقة وجود المخلوق لا يحصل أبدا …
الشريط الرابع :
((فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما.
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص .
فقد سمى الله نفسه حيا فقال " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وسمى بعض عباده حيا فقال " يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي " وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأنه قوله الحي اسم لله مختص به وقوله " يخرج الحي من الميت " اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين ، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق ، ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى .(1/89)
وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال " وبشرناه بغلام عليم " يعني إسحاق وسمى الآخر حليما فقال " وبشرناه بغلام حليم " يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم .
وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعدكم به إن الله كان سميها بصيرا " وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا " وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير .. ))
(فلا يقول عاقل) انتبه لهذا المثل (إذا قيل إن العرش شيء موجود) وصفه بأمرين : ( شيء ) و ( موجود ) العرش شيء موجود ، وهذا (البعوض شيء موجود) لا يقول عاقل (إن هذا مثلُ هذا) إن البعوض مثل العرش (لاتفاقهما في مسمى الشيء) وفي مسمى (الوجود) هل وجود البعوض مثل وجود العرش ؟ لا ، وهما مخلوقان اتفقا في الاسم العام ، الاسم العام ( شيء ) واتفقا في الاسم العام مرة أخرى ( الوجود ) لكن دون أن يفكر العاقل ببداهة العقول يدرك أن وجود البعوض الضعيف الذي تقتله بإصبعيك هكذا ليس وجود ذلك المخلوق العظيم ، أعظم المخلوقات العرش ، وجودهما وحقيقة وجودهما وخصائص وجودهما مختلفة ، علما أن هذا مخلوق وهذا مخلوق (لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه) الاشتراك إنما يكون في مسمى ( الشيء ) وفي مسمى ( الوجود ) لا يشتركان في غيرهما أبدا ، البعوض والعرش – هذا مثل – إنما يشتركان في ( الوجود ) و ( الشيء ) ليس هنا ما يجمعهما غيرهما غير ( الوجود ) وغير ( الشيء ) .(1/90)
(بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق) إذا قيل ( وجود ) - قبل أن يضاف الوجود إلى العرش أو إلى البعوض - طبعا حصل الاتفاق ولا يلزم كما قلنا من هذا الاتفاق التماثل ، ولكن يقول الشيخ (بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا) هذا المعنى المشترك الكلي لا وجود له في الخارج إلا في الذهن حتى بين المخلوقات حتى فيما بين العرش وبين البعوض ، المطلق الكلي وهو المعنى الخيالي الذهني الذي لا تستطيع أن ترسمه الخارج لا وجود له إلا في الذهن .(1/91)
(وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود) البعوض موجود والعرش موجود (فوجود كل منهما يخصه) لأنه حصل تقييد ( هذا) المشار إليه العرش ( هذا) أي هذا العرش (موجود) و ( هذا) البعوض (موجود) (فوجود كل منهما يخصه) العاقل يفهم أن وجود العرش غير وجود البعوض وكذلك العكس و (لا يشركه فيه غيره) لا العرش يشرك البعوض في وجوده الضعيف ولا البعوض الضعيف يشرك العرش في وجوده العظيم ، أعظم المخلوقات وأكبر المخلوقات (مع أن الاسم حقيقة في كل منهما) انتبه لهذا ، لا يقولن قائل يتفلسف ويقول لك لا ، وجود العرش هو الوجود الحقيقي أما وجود البعوض ، لا ، وجود مجازي ، لا ، كل منهما حقيقة ، وجود العرش وجود حقيقي ووجود البعوض وجود حقيقي لكن ليست الحقيقة كالحقيقة وإذا أمكن ذلك بين المخلوقات كيف يستغرب إمكان ذلك بين الخالق والمخلوق وأن مجرد تسمية مخلوق ما بأنه ( عليم ) وبأنه ( حليم ) وبأنه ( سميع ) وبأنه ( بصير ) لا يستلزم أبدا أن يكون سمعه وبصره وعلمه وحلمه كصفة السمع والبصر والحلم عند الله ، العاقل يدرك هذا ، لو درس الإنسان من أول وهله قبل أن يدرس الفلسفة والمنطق وعلم الكلام درس العقيدة هكذا بذهن خال وبعقل سليم صريح لا يقع عنده أي توقف أبدا بل يعلم أن هذا الاشتراك في المطلق الكلي لا تأثير له في حقيقة وجود الله وفي حقيقة سمعه وبصره وفي حقيقة نزوله ومجيئه بل كل ذلك يخالف حقائق صفات المخلوقين ، هذا معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله (( العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح )) وكتابه ( درء تعارض العقل والنقل ) موضوعه هو هذا ، ولذلك ينبغي لطلاب العلم خصوصا في هذا الوقت أن يدرسوا هذا الكتاب دراسة ، لو تمكن الطلاب الناضجون أن يدرسوا هذا الكتاب على بعض المشايخ اللي لديهم فراغ ولديهم مقدرة على تحليل هذا الكتاب أزال من لديهم شبها كثيرة ولا يتمكن الأشاعرة من التشويش عليهم ، لأن الكتاب رد على الأشاعرة .(1/92)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه) "علم" الله "قدرة" الله "نزول" الله "مجيئه" (لا يشركه فيها غيره) أبدا (وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم) ما الذي خصص ؟ الإضافة (مضافة إليهم) هذا بيان للاختصاص .
(ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء) واضح (وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه) كما مثلنا (لا يشركه فيها غيره وسمى بعض مخلوقاته بأسماء) عليم حليم سميع بصير (مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ) – كلكم هكذا العبارة ؟ ( تُوَافِق ) ؟ ..– (توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ولم يلزم من اتفاق الاسمين ) عليم وحليم مثلا (تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص ) .( لم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما) تماثل مسمى ( عليم ) و ( حليم ) (واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص) يحصل الاتفاق دون التماثل ، انتبه الاتفاق حاصل في الاسم العام لكن لا يلزم من ذلك اتحاده عند الإطلاق (ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص ) وإن كان عند الإطلاق وقطع الاختصاص والإضافة يحصل الاتفاق في الاسم لكن لا يحصل الاتحاد والتماثل ، التماثل والاتحاد شيء زائد على الاتفاق في المعنى العام وفي الاسم العام ، ولذلك قال (فضلا أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص) أما عند الإضافة والتخصيص فالأمر بين ، بل حتى عند الإطلاق إنما يحصل الاتفاق دون التماثل ودون الاتحاد (فضلا أن يتحد مسماهما) مسمى ( العليم ) مثلا (عند الإضافة) ( علم ) الله وعلم زيد (والتخصيص) وهذا من باب أولى إذا كان لا يحصل الاتحاد والتماثل عند الإطلاق فعدم وجودهما عند التخصيص والإضافة من باب(1/93)
أولى وهذا إعادة للكلام السابق ، يعتبر مكررا مع الكلام السابق ، توضيحا لهذا قال الشيخ بالأمثلة :
( فقد سمى الله نفسه حيا فقال " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وسمى بعض عباده حيا فقال " يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي " وليس هذا الحي مثل هذا الحي ) ليس الله مثل الحي الذي أخرجه من الميت (لأن قوله الحي (القيوم ) اسم لله مختص به) إذا قال " الله لا إله إلا هو الحي " اسم لله لأنه جاء مضافا إلى الله ، الله سمى نفسه به ، اسم مختص به ، (وقوله " يخرج الحي من الميت " اسم للحي المخلوق مختص به) لأنه وصفه بصفة الحدوث مع العلم أنه سماه حيا لكن أشار إلى أنه محدَث حيث قال " يخرج الحي من الميت " أوجده بعد أن لم يكن ومع ذلك أطلق عليه اسم ( الحي ) إذن هذا مختص به ، فالله منزه أن يشرك هذا الحي في حياته أي : في خصائص حياته ، خصائص حياته : حياة مسبوقة بعدم ، حياة غير كاملة ، حي فقير ، حي عاجز الله لا يشرك هذا الحي في خصائص حياته مع أن هذا الحي الذي أخرجه الله من الميت مستحيل أن يشرك الله في حياته الكاملة من كل وجه ، حياة لم تسبق بموت أو بعدم ، حياة كاملة لا يتطرق إليها أي نقص ، هذا معنى الاختصاص ، حياة الله مختصة به وحياة المخلوق مختصة به كما هو واضح .(1/94)
ثم قال (وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص) يتفقان فيمَ ؟ في الاسم المطلق (ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج) ذلك المطلق كما قلنا معنى خيالي ذهني لا وجود له في الخارج ، كل ما وجد في الخارج فهو مختص هذه قاعدة ( كل ما وجد في الخارج فهو مقيد مختص ) أما الاسم المطلق أو المعنى المطلق هذا خيالي ذهني ، يقولون الذهن حر يتصور ما يشاء ، الذهن له أن يتصور الشريك لله سبحانه وهو غير موجود مستحيل ، ويتصور الصاحبة والولد وليس عليه شيء لأن هذا خيال ، ولكن متى يؤاخذ الإنسان بهذه العقيدة ؟ إذا خرجت إلى حيز الوجود خارج الذهن ولا وجود لذلك ( ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين ) هذا القدر المشترك الذي يدركه العقل إنما هو في ذلك المطلق الكلي قبل أن يخرج إلى حيز الوجود ، متى يخرج إلى الخارج ؟ عند الاختصاص لذلك قال (وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق ) ذلك بأن تعرف خصائص وجود الرب وخصائص حياة الرب وخصائص علم الرب وخصائص حياة المخلوق وخصائص علم المخلوق ، هذا شيء معلوم يعني مواصفات حياتنا ما هي ، ومواصفات علمنا ما هي ، إذا عرفت ذلك استرحت ، إذ مستحيل أن يشترك الرب سبحان وتعالى في هذه المواصفات ، أنت ( عليم ) الله أعطاك علما " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وعلى كلّ اسمه علم عندك علم ، الله عنده علم ، وعندك حياة والله عنده حياة ، لكن انظر في مواصفات حياتك وفي مواصفات علمك حتى تعلم بأنه لا يحصل الاشتراك أبدا بعد إضافة صفة المخلوق أيا كانت تلك الصفة إلى المخلوق وبعد إضافة صفة الخالق إلى الخالق وما قبل ذلك من الاشتراك في المعنى العام لا نقول لا يضر بل نقول إنه أمر ضروري إذ لا يمكن أن تتصور لا وجود الخالق ولا وجود المخلوق إلا في هذا المطلق الكلي الذي يشترك فيه الجميع .(1/95)
ثم قال الشيخ رحمه الله - ما أدري أنتم معي فاهمين هذا المعنى هذا الكلام مفهوم ؟ إن شاء الله – قال الشيخ رحمه الله تعالى (ولا بد من هذا) هذا هو معناه ( ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته) لابد من الاشتراك في المعنى العام المطلق ولابد من نفي المشاركة بعد التخصيص بالإضافة ، قاعدة واضحة الاشتراك في المعنى الكلي المطلق أمر لابد منه في جميع صفات الله وأسمائه بل حتى بين المخلوقين كما تقدم المثال فيما بين العرش وبين البعوض ، ولابد من نفي المشاركة بين الخالق وبين المخلوق أي بين أسماء الخالق وأسماء المخلوق وصفات الخالق وصفات المخلوق بعد الإضافة والتخصيص لو فهم القوم هذا الفهم لما تخبط النفاة في التعطيل ولما تخبط المشبهة في التشبيه ولكن لم يوفقوا إلى هذا العلم ، الذي حال بينهم وبين هذه القاعدة لم يأخذوا العقيدة رأسا من الكتاب والسنة ولكن أخذوا من علم الكلام المدخول في الفلسفة والمنطق فشوش على الناس ، ودائما إذا خرج الإنسان عن الخط يتشوش ولذلك لازموا الخط في كل شيء (ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة ) أي بالموافقة (والاتفاق وما دل عليه بالإضافة والاختصاص ) المواطأة والاتفاق عند الإطلاق (وما دل عليه بالإضافة والاختصاص ) عند الإضافة والتقييد (المانعة من مشاركة المخلوق للخالق) الذي يمنع المشاركة بين الخالق والمخلوق الإضافة المخصصة في صفات الله تعالى لله وأسماءه له سبحانه ، والإضافة المخصصة لصفات المخلوق للمخلوق وأسماء المخلوق للمخلوق بعد ذلك تحس بالراحة إذ لا مشاركة بين الخالق والمخلوق في أي شيء .(1/96)
قال رحمه الله (وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) هذا اللي سميناه مواصفات ، خصائص صفات الرب سبحانه وخصائص أسماء الرب خصصت له بالإضافة ( علم ) الله ( حياة ) الله ( نزول ) الله ( مجيء ) الله ، وليس ذلك خاصا بالصفات الذاتية بل حتى في الصفات الفعلية ، الصفات الفعلية التي تتجدد كثيرا لأنه فعال لما يريد هي التي أشكلت على الأشاعرة لذلك سلموا عدم المشاركة في الصفات الذاتية العقلية ولكن القوم ارتبكوا في الصفات الخبرية التي لولا الخبر لا مجال إلى إثباتها كصفة الوجه واليدين وفي الصفات الفعلية ، مشكلة القوم تنحصر في الصفات الفعلية وفي الصفات الذاتية الخبرية وأنتم تفرقون طبعا أن الصفات الذاتية تنقسم إلى قسمين :
- صفات خبرية محضة : بمعنى هذه الصفات الخبرية المحضة وتسمى الصفات السمعية وتسمى الصفات النقلية لولا خبر الله أو خبر رسوله عليه الصلاة والسلام ولولا النقل عن الله أو عن رسوله ولولا السماع عن الله أو عن رسوله لا تُثبت ، لا يجرؤ عقل المسلم على أن يثبت لله وجها ويدين وقدما وساقا وأصابع لولا ورود ذلك ، بل لا يدور في خلد الإنسان إثبات هذه الصفات لولا ورود الخبر لذلك تسمى الصفات الخبرية المحضة وهذه هي التي أشكلت على الأشاعرة ومن يدور معهم في فلكهم ، أما المسلِّمون لله ورسوله لا إشكال عندهم ، من سلّم لله ولرسوله سلِم ، قال له سمع ، نعم له سمع ، وله وجه كريم له وجه ، وله يدان مبسوطتان ، له يدان ، لا يفكر لا في الجارحة ولا في النعمة ولا في القدرة ولا في القوة طالما جاءت هذه الصفة مضافة إلى الله فهي على ظاهرها .(1/97)
وبعد ، قال الشيخ رحمه الله تعالى ( وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال " وبشروه بغلام عليم " يعني إسحاق وسمى الآخر حليما فقال " وبشرناه بغلام حليم " يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم) هذا الذي نحن نشرحه ونتعب في الشرح لو سمع أعرابي بدوي لم يجلس قط في مجلس ما ، قيل له : الله عليم سمى بعض عباده عليما هل هما شيء واحد ؟ يقول لا أبدا ليس هذا كهذا ، يدرك بفطرته ولكن الذي جعل الناس يحتاجون إلى الدرس وإلى الشرح الشبه القائمة التي جاءت من دراسة علم الكلام أو من مجالسة من درس علم الكلام ، قد يصاب الإنسان بالعدوى ، العدوى هنا واردة ، قد يصاب المرء بالعدوى في هذا الباب لذلك مجالسة المرضى بمرض القلوب مرض الشبهة هذا له تأثير كبير ، ليس كالعدوى بالأمراض الجسمية ونحن لا نؤمن بهذا بل نؤمن " لا عدوى ولا طيرة " ولكن بالنسبة لمرض الشبهة له عدوى ، خطير ، مجالستهم تؤثر لذلك بهذه المناسبة ننصح شبابنا الصغار أن لا يجلسوا إلى أولئك بدعوى أنهم يدرسون عليهم النحو والصرف وفروع اللغة العربية ولا تدري من أين تدخل عليك العدوى ، الارتياح إليه إلى ذلك الشيخ والانسجام معه سبيل إلى العدوى وعلى الأقل يحصل عندك الرضا بما هو عليه ، الرضا بما هو عليه يجر إلى أن توافقه مع طول الإقامة فنسأل الله لنا ولكم السلامة ولستم بحاجة إلى ذلك ...
نكتفي بهذا المقدار لنجيب على بعض الأسئلة التي لها علاقة بدرسنا :(1/98)
- طالب علم يناقش في قاعدة ذكرها فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ومد في عمره في طاعة الله تعالى – لا تحزنوا من كلمة رحمه الله تقال في الأحياء والموتى على حد سواء فنقول رحمه الله ومد في عمره في طاعة الله – الشيخ ذكر قاعدة تحفظونها كلكم ( أسماء الله تعالى توقيفية لا إشكال في ذلك ، كذلك صفات الله تعالى توقيفية ) ومع ذلك ذكر في القواعد المثلى أن ( باب الصفات أوسع من باب الأسماء ) وهذا باعتبار ليس مطلقا ، باعتبار الصفات الفعلية والشيخ مثل لذلك بأمثلة ، فمثلا أسماء الله تعالى لا نستطيع حتى أن نصوغها من الأفعال نقف عند ما ورد من الأسماء ، أسماء الله تعالى تدل دلالتين :
- تدل على الذات باعتبار دلالتها على الذات فهي أعلام ولذلك يقال ( أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف ) باعتبار دلالتها على الذات فهي أعلام .
- وباعتبار دلالتها على المعاني أي على صفات الله تعالى فهي أوصاف .(1/99)
ومع ذلك لا تصاغ من الأفعال التي ورد ذكرها في الكتاب والسنة بل هي توقيفية إلا إذا كان من باب الإخبار كفاعل ، مريد ، متكلم ، قديم ، من باب الإخبار لا على أساس أنها من أسماء الله الحسنى ، وصفات الله تعالى كما هي تؤخذ من الأسماء أي أن الأسماء تدل على الصفات كذلك هناك صفات فعلية تؤخذ من الأفعال ، وهذه الصفات التي تؤخذ من الأفعال لا تصاغ منها الأسماء " الرحمن على العرش استوى " الفعل استوى يدل على صفة فعلية اسمها صفة ( الاستواء ) ، " ينزل ربنا " يدل على صفة ( النزول ) الفعل ( ينزل ) يدل على فعل ( النزول ) وهل تستطيع أن تأخذ من هذا أسماء تسمى الله سبحانه وتعالى بأنه ( مستوٍ ) وبأنه ( نازل ) ، لا ، إلا إذا كان من باب الإخبار ، ولا يعد ذلك من أسماء الله الحسنى لماذا ؟ لما فيه الاشتراك ، أسماء الله الحسنى البالغة في الحسن والكمال ، كلمة ( نازل ) وكلمة ( مستوي ) يشترك فيه الخالق والمخلوق وتستعمل فيما يليق بالله وفيما لا يليق بالله كذلك مريد قد يريد الخير وقد يريد الشر ، إذن هذه الأفعال تصاغ منها الصفات الفعلية ولا تصاغ منها الأسماء هذا معنى قول الشيخ ( باب الصفات أوسع من باب الأسماء ) لأنك تصوغ الصفات الفعلية من بعض الأفعال الواردة في الكتاب والسنة وإن لم يرد ، أما الأسماء لا تستطيع أن تسوغ ما ترد كـ ( المعطي المانع ) للورود ما لم يرد لا تصوغ الأسماء من الأفعال ، هذا معنى قوله إن كان الكتاب لديكم الآن تقرأون هذه القعدة ما فيش مانع .. على كلٍّ راجع هذا معنى كلام الشيخ ...هذا ليس اسم هذا من باب الإخبار ، باب الإخبار أوسع من باب الأسماء ، يخبر عن الله تعالى بأسماء تدل على المعاني الطيبة ولكن لا يلزم من ذلك كما قلنا قبل قليل أن تكون من الأسماء الحسنى ...(1/100)
سائل يسأل يقول : اشرح لنا قول الإمام مالك رحمه الله وهو ( الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب ) وهل يفهم من قول ( الكيف مجهول ) تفويض الكيفية ؟ - لا شك –
الجواب : قول الإمام مالك ( والكيف مجهول ) يفهم منه أنه لا يجوز السؤال بكيف بل الكيفية تفوض إلى الله ، بالمناسبة ، التفويض تفويضان :
- التفويض الذي يريده الشيخ هنا تفويض الحقيقة والكيفية والكنه وهذا واجب ، أي : رد على سؤال السائل لأن السائل قال كيف استوى ؟ السائل سأل عن الكيفية ولم يسأل عن المعنى ، لو سأل عن معنى " الرحمن على العرش استوى " لما اندهش الإمام بل أجاب بداهة ولا يحتاج إلى الجواب عند من يفهم معنى استوى إذا تعدى بـ ( على ) ولكن السائل سأل عن الكيفية لذلك اندهش الإمام ثم رد بهذا الجواب ( الكيف مجهول ) كيفية ذات الرب سبحانه وتعالى وكيفية صفاته كل ذلك مجهول لنا لا نعلم ، لأننا نعلم ولا نحيط به علما الذي يسأل عن كيفية الذات وعن كيفية الصفات يحاول الإحاطة بالله ، هذا وجه اندهاش الإمام مالك ولا يجوز للعبد المسكين أن يحاول أن يحيط بالله علما " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " .(1/101)
- أما التفويض الثاني : تفويض المعاني وهذا لا يجوز أي ادعاء أن معاني الصفات غير معلومة وغير مرادة لله ، إذا كانت معاني الصفات " الرحمن على العرش استوى " " وجاء ربك والملك صفا صفّا " يعني يتجاهل الإنسان أنه لا يعلم معنى ( جاء ) ومعنى ( أتى ) ومعنى ( يأتي ) ومعنى ( استوى ) ومعنى ( السميع ) ومعنى ( البصير ) لا يفرق بين ( السميع ) و ( البصير ) هذا تجاهل تكلف ، التفويض أي دعوى تفويض المعاني تكلف في تجاهل ما هو معلوم بديهي لكل من يفهم اللغة العربية لأن المعاني مفهومة من الألفاظ وتجاهل ذلك ليس بتفويض ولكنه تجاهل لما هو معلوم وكذلك التوقف منهم من يدعي نحن نتوقف ، لا نقول نعلم المعنى أو لا نعلم كجمع النقيضين كما تقدم ، نتوقف بدعوى الورع هذا ورع مزيف ، الواجب أن تفهم المعاني وتتدبر القرآن أنزل لنتدبر والتدبر لا يتم إلا بمعرفة المعاني ، معاني القرآن بما في ذلك نصوص الصفات معلوم لدى طلاب العلم ...
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعدكم به إن الله كان سميها بصيرا " وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا " وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير .
وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم .
وسمى نفسه بالملك فقال " الملك القدوس " وسمى بعض عباده بالملك فقال " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا "" وقال الملك ائتوني به " وليس الملك كالملك .(1/102)
وسمى نفسه بالمؤمن فقال " المؤمن المهيمن " وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " وليس المؤمن كالمؤمن .
وسمى نفسه بالعزيز فقال " العزيز الجبار المتكبر " وسمى بعض عباده بالعزيز فقال " وقالت امرأة العزيز " وليس العزيز كالعزيز .
وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر ونظائر هذا متعددة ))
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد قدم شيخ الإسلام قاعدة عظيمة وهي : أن اتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات ، هذه القاعدة هي التي مثل لها بهذه الأمثلة الكثيرة من الآيات لذلك ينبغي الرجوع إلى هذه القاعدة وفهمها وهضمها .
(اتفاق الأسماء ) سميع وسميع عليم وعليم (لا يوجب تماثل المسميات ) ليس كل من سمي عليما أو سميعا أو بصيرا كالآخر الذي سمي بهذا الاسم أسماء الله وصفاته مختصة به وإن اتفقت مع ما لغيره عند الإطلاق هذا توضيح للقاعدة التي ذكرناها ، لذلك تأتي هذه الأمثلة تطبيقا للقاعدة .(1/103)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في آخر شرحه للقاعدة التي ذكرناها (ولا بد من هذا) أي في الاتفاق في المعنى العام في المطلق الكلي ( في جميع أسماء الله وصفاته ) لا بد من ذلك ( يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق ) المواطأة والاتفاق بمعنى واحد (وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) تعلم أولا محل الاتفاق ثم تعرف محل الاختلاف ، الاتفاق إنما يحصل بين أسماء الله تعالى وأسماء بعض مخلوقاته في المعنى العام المطلق أي قبل أن تضاف أسماء الله إلى الله وأسماء المخلوق إلى المخلوق وقبل أن تضاف صفات الله إلى الله وصفات المخلوق إلى المخلوق ، كأن تقول : سمعا وبصرا وعلما أو سميع بصير عليم . هذا يسمى المطلق الكلي أو المعنى العام ، أي : ليس لأحد ، العلم الذي لم يضف : علم ، سمع ، بصر ، ليس لأحد ، ليس خاصا بالله ولا بخلقه بل هو غير موجود في الخارج في خارج الذهن وإنما هو يتصوره الذهن تصورا العلم هكذا علم قائم بنفسه غير موجود ، ولكن بعد إضافة علم الله إلى الله وسمع الله إلى الله وبصر الله إلى الله إلى آخر الأسماء والصفات لا يشاركه أحد من خلقه في هذه الأسماء المضافة والصفات المضافة ، ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشاركه أحد من خلقه لا ملك مقرب أو نبي مرسل أن يشارك الله في سمعه المختص به وعلمه المختص به وبصره المختص به إلى آخر الأسماء والصفات ، كذلك إذا قلنا علم زيد وسمع خالد إلى آخره ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشارك هذا المخلوق في خصائص سمعه وبصره لأن لسمع الرب سبحانه وتعالى وبصره خصائص ومواصفات خاصة كذلك لصفات المخلوق خصائص ومواصفات خاصة ، نأخذ السمع مثلا : سمع الله تعالى سمع محيط بجميع المسموعات وعلم الله تعالى علم محيط بجميع المعلومات لا يفوته شيء ، هذا معنى قول السلف ( علمه في كل مكان وفي كل شيء ) ثم إن علم الرب سبحانه لم يسبق بجهل(1/104)
ولا يطرأ عليه نسيان أو غفلة أو ذهول هذه مواصفات علم الرب سبحانه وتعالى وقس على ذلك سائر الصفات ، يستحيل أن يشارك الله أحد في مواصفات وخصائص هذا العلم ، هل يوجد مخلوق يحيط بعلمه بكل شيء ؟ محيط بكل شيء بعلمه ؟ لا يوجد ، لا ملك ولا نبي ولا يوجد مخلوق علمه قديم قدم ذاته لم يسبق بجهل ، لا يوجد ، ولا يوجد مخلوق لا ينسى ولا يغفل ، إذن هذه خصائص صفات الرب سبحانه وتعالى وأسمائه ، أما خصائص صفات المخلوق فمعلومة " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " علم قليل وضئيل ومسبوق بجهل كان الإنسان جاهلا فرزقه الله العلم فتعلم هذا العلم القليل وعلمه القليل ليس بمحيط بجميع المعلومات ويطرأ عليه النسيان والغفلة والذهول وقد يذهب العلم كله ذهابا وقس على ذلك سائر صفات المخلوق ، إذن بعد إضافة صفات الله إلى الله وصفات المخلوق إلى المخلوق لا مشاركة بين الله وبين خلقه ، متى تقع المشاركة ؟ – المشاركة غير المماثلة ، المماثلة غير موجودة قطعا مطلقا – ولكن المشاركة والاتفاق في اللفظ والمعنى العام يحصل هذا قبل الإضافة كما مثلنا كأن تقول ( علم ) فتطلق ، ( سمع ) فتطلق دون أن تضيف ، هذه القاعدة يجب أن يفهما طلاب العلم ويهضموها ومن فهم هذا المقدار سهل عليه فهم هذا الباب باب الأسماء والصفات الذي ارتبك فيه كثير من أهل العلم من الخلف ، نقرأ هذه القطعة مرة أخرى قبل أن ننتقل إلى الأمثلة الكثيرة ( ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته ) – كما يقال القليل المفهوم خير من الكثير غير المفهوم ، فليكن حرصكم على الفهم والهضم لتهضموا المسائل لا على أن تمروا على جميع المسائل مر الكرام بدون فهم - (ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ) أي من هذا الاتفاق وهذا الاشتراك (يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق ) المعنى واحد ( وما دل عليه بالإضافة والاختصاص) بالمواطأة والاتفاق دل على المشاركة اللفظية في المعنى العام(1/105)
، وبالإضافة والاختصاص (المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) دل على الاختصاص وأن لا مشاركة بين الخالق وبين المخلوق .
(وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال " وبشروه بغلام عليم ") عليم صيغة تدل على المبالغة : كثير العلم ، كثير العلم ، والكثرة نسبية أيضا ليس العليم كالعليم لأن وإن كانت هذه الصيغة تدل على كثرة العلم ولكن كثرة نسبية بالنسبة لغيره من المخلوقين الذين علمهم دون علمه ، دون علم هذا المخلوق ( يعني إسحاق وسمى الآخر حليما فقال " وبشرناه بغلام حليم ") الله حليم ووصف عبده هذا بأنه حليم ( يعني إسماعيل ) قال الشيخ ( وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم ) وليس إسحاق الذي وصف بأنه عليم ليس هو كرب العالمين في علمه وليس إسماعيل الذي وصف بالحلم أنه كرب العالمين سبحانه وتعالى في حلمه ولكن كما قلنا بعد الإضافة لا مشاركة ، له علم له مواصفاته ولله سبحانه وتعالى علم له مواصفاته كما تقدم المثال .
(وسمى نفسه سميعا بصيرا ... إن الله كان سميها بصيرا ") كان ولا يزال " كان " وإن كان الفعل يدل على الماضي ولكن اتفق علماء التفسير بل علماء اللغة أن " كان " في مثل هذا المقام من القرآن ليست دالة على الماضي فقط بل تدل على الدوام أيضا أخذا من السياق وأخذا من المقام لأن المقام مقام وصف الله تعالى بالسمع والبصر والعلم والحكمة مثلا هذه صفات قديمة قدم الذات لذلك يقول المفسرون عندما يفسرون عندما يفسرون هذه الآية " إن الله كان سميعا بصيرا " ولا يزال كذلك ، لا يزال سميعا بصيرا أي ليس فيما مضى فقط.
وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ") ( جعل ) هنا بمعنى ( صيّر ) صيرناه سميعا بصيرا بعد أن لم يكن كذلك (وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير ) الأمر واضح .(1/106)
(وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " ) بالمؤمنين فقط " بالمؤمنين رؤوف رحيم " هكذا وصف الله سبحانه وتعالى نبيه ، من أين نأخذ هذا التفقيط ( فقط ) ؟ " بالمؤمنين رؤوف رحيم " تقديم الجار والمجرور " بالمؤمنين " فقط " رؤوف رحيم " ، وعلى غير المؤمنين يغلظ وهكذا أصحابه ، عندهم غلظة وشدة على الكفار ولكن رحماء فيما بينهم ومع المؤمنين وهكذا صفات المؤمنين دائما الذين يتأسون برسول الله عليه الصلاة والسلام عندهم رحمة وشفقة وذلة ولين مع المؤمنين ، وشدة وغلظة على الكافرين ، اللهم إلا في بعض المقامات مقام الدعوة ، مقام التبليغ ، قد يلين الإنسان جانبه ويخاطبه بالتي هي أحسن ، يخاطب الكافر والمنافق بالتي هي أقوم ويقول له قولا لينا رجاء أن يتذكر فيقبل الدعوة ، إذن المقامات تختلف .
(وسمى نفسه بالملك فقال " الملك القدوس " وسمى بعض عباده بالملك " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا") ملك ("وقال الملك ائتوني به ") هكذا إلى آخر الأمثلة والأمثلة واضحة جدا ولا حاجة إلى سردها والتعليق عليها كلها المعنى واحد فليفهم هكذا ، نعم وكذلك .(1/107)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " " أنزله بعلمه " وقال " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " وقال " أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وقال " وفوق كل ذي علم عليم " وقال " فرحوا بما عندهم من العلم " وقال " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة " وقال " ويزدكم قوة إلى قوتكم " وقال " والسماء بنيناها بأيد " أي بقوة وقال " واذكر عبدنا داود ذا الأيد " أي ذا القوة ، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ))(1/108)
هذه الأمثلة كالتي قبلها ، الفرق أن تلك في الأسماء وهذه في الصفات والنتيجة واحدة ( وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك ) من الأسماء ( فقال سبحانه" ولا يحيطون بشيء من علمه) علم (" ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " ) محل الشاهد " من علمه " وقال (" أنزله بعلمه ") كذلك (" إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ") الرزاق ذو القوة المتين ( " أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ") إثبات العلم وإثبات القوة (وسمى صفة المخلوق علما وقوة) الإنسان عنده علم وعنده قوة ("وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ") " من العلم " أوتينا العلم ، لدينا علم وإن كان قليلا ( " وفوق كل ذي علم عليم "" فرحوا بما عندهم من العلم "" الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ") " العليم القدير " هذا محل الشاهد (" ويزدكم قوة إلى قوتكم ") الشاهد واضح (" والسماء بنيناها بأيد " أي بقوة ) ربما يظن بعض الناس أن ( أيدٍ ) جمع يد وأيد هنا مصدر آد الرجل يئيد أي قوي . أيدا أي قوة ، مصدر مفرد وليس جمع يد ، نظير ذلك في الآية التي بعدها (" واذكر عبدنا داود ذا الأيد " أي ذا القوة) لا يقولن قائل ليشوش عليكم فيقول أنتم أحيانا تأولون وتضطرون إلى التأويل ، ينبغي أن تنتبه ، التأويل المذموم هو التحريف أما تفسير لفظة عربية بقاعدة عربية ، بصيغة تفرق بين المصدر واسم الفاعل واسم المفعول وتعرف بالرجوع إلى اللغة معاني المفردات أن ( أيد ) كما هذه اللفظة كما ستأتي جمع يد تأتي مصدرا لآد مفردا ، تفسير لغوي وليس بتحريف ، ثم إن التأويل ليس كل تأويل مذموما ، التأويل الذي بمعنى التفسير والبيان ليس بمذموم بل هذا شيء لا بد منه وعندما نفسر المفردات ونفسر الآيات هذا يسمى تأويلا في لغة المفسرين لذلك كثيرا ما يقول ابن جرير : وتأويل قوله تعالى كذا وكذا فيفسر الآية ، التأويل(1/109)
في لغة المفسرين بمعنى التفسير والبيان والإيضاح ، والتأويل في لغة الخلف بمعنى التحريف هذا هو المذموم .
ثم قال الشيخ (وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة) واضح .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال " لمن شاء منكم أن ستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقال " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ، وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ، ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " وقال " قل إن كمنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ، ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال " رضي الله عنهم ورضوا عنه " ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ولا إرادته مثل إرادته ولا محبته مثل محبته ولا رضاه مثل رضاه )) .(1/110)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وكذلك وصف نفسه بالمشيئة) الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالمشيئة (ووصف عبده بالمشيئة) العبد له مشيئة وله اختيار وله علم وله قدرة يفعل العبد ما يفعل باختياره ومشيئته وإرادته وليس بمجبور ، العبد له اختيار وله مشيئة وله إرادة وليس بمجبور على ما يفعل من خير أو شر ، قال الشيخ رحمه الله تعالى (وكذلك وصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال " لمن شاء منكم أن يستقيم) العبد هو الذي يشاء أن يستقيم ، يشاء ويختار الاستقامة ولكن يستعين بالله على ذلك لأن مشيئته تابعة لمشيئة الله تعالى لذلك قال ("وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ") مشيئته وإن كانت مشيئة صفة ثابتة له ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى هذا موقف ينبغي أن يفهم جيدا ، ثم قال ("إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) إذن تتخذ إلى ربك سبيلا بمشيئتك ولا تجبر على ذلك كما لا تجبر على ترك اتخاذ ذلك السبيل ، الله أعطاك الإرادة والاختيار والمشيئة ولكن هذه تسمى استطاعة بالآلة استطاعة الآلة هذه لا بد أن تتبعها استطاعة التوفيق ، والعبد مع ما لديه من الاختيار والمشيئة والإرادة والقدرة لا يستغني عن ربه ، يسأله التوفيق ويراقبه في طلب الاستقامة ، في طلب الهداية لأنه لا يستقل بذلك لا بد أن يلجأ إلى الله بأن يعينه على نفسه وعلى هواه وعلى شيطانه ليستقيم ، ليهتدي إلى الله سبحانه وتعالى .(1/111)
(وكذلك وصف نفسه بالإرادة) الإرادة والمشيئة قد يتفقان وقد يختلفان لأن لفظة الإرادة تعتبر لفظ مجمل ، تأتي بمعنى المشيئة ، المشيئة العامة التي لا تستلزم الأمر ولا تستلزم المحبة والرضا ويقال لها الإرادة الكونية ، الإرادة الكونية القدرية بمعنى المشيئة " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام " ( من يرد ) أي من يشاء " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء " هذه إرادة كونية بمعنى المشيئة ، ولا تستلزم المحبة والرضا والأمر ، " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " ( يريد أن يغويكم ) الإرادة هنا بمعنى المشيئة لا تفسر بالمحبة في هذين المثالين إرادة كونية قدرية أزلية ، الله سبحانه وتعالى يريد أي يشاء وجود كل شيء ، يريد الكفر ويريد الإيمان ويريد الطاعة ويريد المعصية أي يشاء ذلك وهذه المشيئة العامة مرتبة من مراتب القدر أي إن الله قد علم ( فيما لم يزل ) وكتب عنده كل ما يقع في هذا الكون من كفر وإيمان وطاعة ومعصية وأرزاق وشقاوة وسعادة ، معلوم عند الله ومكتوب وشاء ذلك لحكمة يعلمها ، وهذه الإرادة لا تستلزم الأمر ، يقول الله سبحانه وتعالى " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " لكن ما شاء الله أن يؤتي ويعطي كل نفس هداها ولكن أمر كل نفس بهداها – لتفرقوا بين الأمر وبين المشيئة – أمر كل نفس بهداها ما من نفس إلا وقد أمرت بهداها ولكن لم يؤت كل نفس هداها ، أي : أرسل الرسل وأنزل الكتب ودعا الناس جميعا إلى الهدى ، وهل كل من دعاه إلى الهدى اهتدى ؟ لا ، فأمر الناس جميعا بإقام الصلاة ، وهل كل الناس صلوا ؟ منهم من صلى ومنهم من ترك " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " هذا يسمى سرا من أسرار القدر ، نحن مسؤولون عن أفعالنا إن تركنا المأمور به مسؤولون لم تركنا ، من ارتكب منهيا عنه مسؤول لم ارتكب ، لكن هل هو مسؤول عن فعل الرب ؟ لا ، لماذا لم يعط كل نفس هداها ؟ لا تسأل ، لا(1/112)
تملك هذا السؤال " لا يسأل عما يفعل " له حكمة في أن يكون هناك كفر وإيمان وجعل ذلك سببا للجهاد في سبيل الله لينال أولياء الله تعالى مرتبة الشهداء ، لو لم يكن هناك كفر فيم الجهاد ؟ إذن لا بد من إيجاد كفر وإيمان ، وخلق إبليس أشر خلق الله ، لو لم يخلق الله إبليس بم تجاهد ؟ تجاهد إبليس حتى تتغلب عليه وتطيع ربك ، وخلق فيك النفس الأمارة بالسوء لتجاهدها وأنت تكسب الأجر في الجهاد مع الكفار وفي الجهاد مع نفسك الأمارة بالسوء وفي الجهاد مع الشيطان ، أنت الرابح لكن بشرط أن تكون مع الله وتطلب منه التوفيق " وما توفيقي إلا بالله " " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " ما شاء الله ذلك ، لم يشأ لماذا ؟ لحكمة يعلمها ولا نعلمها ، لذلك في باب القضاء والقدر يجب أن نقف في الطرف لا نخوض في الأسرار ، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( القدر سر الله فلا نكشفه ) أي لا نحاول الكشف ومن حاول كشف أسرار القدر هلك ، لأنه لن يستطيع أن يعلم سر القدر ، لماذا خلق ؟ لماذا أغنى ؟ ولماذا أفقر ؟ كان الإمام الشافعي كما يروي بعض أصحابه في مناجاته في جوف الليل يكرر هذه الأبيات :
ما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن تشأ لم يكنْ
خلقتَ العبادَ على ما علمتَ ففي العلمِ يجري الفتى والمسنْ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ وهذا أعنْتَ وذا لم تُعِنْ
وهذا شقيٌّ وهذا سعيدٌ وهذا قبيحٌ وهذا حسنْ(1/113)
أفعال الرب كثيرة ومتفاوتة ليس لك أن تسأل لم فعل ، إذن ما هو المقدار الواجب للقضاء والقدر ؟ ركن من أركان الإيمان ، على العامة والخاصة ، عليك أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " هذا المقدار يجب أن يعلم كل مسلم ومسلمة ولا يجوز الخوض أكثر من هذا إلا لطالب علم يطلع على أفراد هذا الباب ويدرس ليرد الشبه لا ليدرك الأسرار ولا ليناقش الله في أسرار قضائه وقدره هذا المقدار يكفي في باب الإيمان بالقضاء والقدر .
وأما الإرادة الدينية الشرعية فهي بمعنى المحبة والرضا وهي ملازمة للأمر ، الله سبحانه وتعالى أمر ، مثلا أمر أبا بكر بالإيمان فإيمان أبي بكر مراد لله تعالى ومحبوب عنده ومأمور به ، ثم شاء الله له أزلا وكونا أنه يؤمن فيبادر بالإيمان ، اجتمعت في حقه الإرادة الكونية الأزلية والإرادة الدينية الشرعية ، هذا مثال ، أبو بكر يمثل جميع المؤمنين ، وشاء الله كونا وقدرا بأن أبا جهل لا يؤمن ولكن أمره بالإيمان أرسل إليه رسولا فأمره بالإيمان فالذي تحقق فيه الإرادة الكونية ، لذلك لم يؤمن ، فكفر أبي جهل مراد لله تعالى كونا وقدرا لا شرعا ودينا ، بقيت قسمة ثالثة ، إيمان أبي جهل مراد لله تعالى شرعا ومأمور به لو وقع لكنه لم يقع ، إذن تنفرد الإرادة الشرعية أحيانا والكونية أحيانا وقد يجتمعان ، تجتمع الإرادة الشرعية والإرادة الكونية في إيمان المؤمن وطاعة المطيع وتنفرد الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي وتنفرد الشرعية الدينية في إيمان الكافر وطاعة العاصي ، سجل عندك هكذا ، القسمة ثلاثية .(1/114)
(ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالمحبة) أنه يحب (ووصف عبده بالمحبة) بأن العبد يحب (فقال " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ") محبة الله تعالى روح الإيمان ومع ذلك كثير من الخلف أنكروا هذه المحبة التي هي روح الإيمان قالوا أبدلا لا يوصف الله تعالى بأنه يحب بل لا يوصف بأنه يُحَب ، قالوا لا مناسبة بين الخالق والمخلوق حتى يقال بأنه يحب عبده ، وعبده يحبه ، خَوْض فيما لا يعلمون وقول على الله بغير علم ورد لكلام الله من حيث لا يشعرون ، فنحن نقول لعل القوم يعذرون بالجهل وإلا من اطلع على مثل هذه الآية وهو عربي يفهم معنى هذه الآية " بقوم يحبهم ويحبونه " ثم قال لا مناسبة بين الخالق والمخلوق حتى يوصف بأنه يحب أو يُحَب هذا رد على الله ، الأمر خطير ، لذلك القاعدة تنطبق عليه ( من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر ) لذلك فلينتبه لنفسه أتباع الأشاعرة المعاصرة الذين لا يرجعون إلى الكتاب والسنة عند دراسة العقيدة ، يأخذون من بطون كتب الأشاعرة ولا يدرون عن مثل هذه الآيات لا يعلمون عنها شيئا لأن العقيدة عندهم لا تؤخذ من الأدلة النقلية ولكنها تؤخذ من الأدلة العقلية ، فصلوا الناس وأبعدوهم عن الكتاب والسنة في باب العقيدة أكثر من كل باب ، قالوا هذا باب خطير ينبغي أن يكون الاعتماد على الدليل العقلي القطعي ، الدليل القطعي عندهم الدليل العقلي لذلك ضلوا ، ولما انصرفوا وتركوا كتاب الله والتمسوا الهدى عند العقل اختلفت العقول ، عقل الجهمي وعقل المعتزلي وعقل الأشعري ، عقل الجهمي ينفي الأسماء والصفات جميعا بدعوى أن في ذلك التنزيه الكامل ، وعقل المعتزلي ينفي جميع الصفات مع إثبات الأسماء المجردة كالأعلام الجامدة التي لا تدل على المعاني وعقل الأشعري يتصرف في النصوص في الصفات ما وافق العقل وهي الصفات السبع زد على ذلك الصفات السلبية وصفة النفس يثبتونها ، وأما الصفات الخبرية المحضة سواء كانت ذاتية أو فعلية(1/115)
فيوجبون تأويلها وهذا الداء وهذا البلاء من أين أتاهم ؟ من إعراضهم عن كتاب الله وعن ما كان عليه سلف هذه الأمة الذين ليس لهم كتاب توحيد إلا القرآن ، السلف الأول ليست لديهم هذه الكتب ، كتب التوحيد كتب العقيدة ما يعرفونها ، هذه الكتب التي بأيدينا ألفت دفاعا عن العقيدة لا تعليما للعقيدة مصدر العقيدة الكتاب والسنة ولكن الكتب هذه ألفت بعد أن نشأ علم الكلام ودخل في الإسلام ألفت هذه الكتب دفاعا عن العقيدة لا لكونها مصادر للعقيد ة ، مصدر العقيدة الكتاب والسنة فقط ، لذلك سلفنا الأول كانوا في راحة تامة ، إذ ليس لديهم هؤلاء الخصوم لا الجهمية ولا المعتزلة ولا الأشاعرة ، الجو صاف خال من هذه التعقيدات لذلك لم يحتاجوا إلى تأليف كتب في التوحيد والعقيدة ، أما السلف الأخير السلف الذين حضروا زمن الفتن والأهواء بدءا من العصر العباسي إلى يومنا هذا إنما ألفوا هذه الكتب دفاعا عن العقيدة جزاهم الله عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء .
إذن فالله سبحانه وتعالى يحب عباده وعباده يحبونه لكن ليست محبته كمحبتهم ، المحبة عندنا انفعال نفسي ، وعند الله لا تفسر بهذا التفسير ، محبة تليق به لأننا لم نتكلم في ذاته عندما آمنا به ، آمنا به إيمان تسليم يجب أن نؤمن بصفاته إيمان تسليم دون تكييف أو تمثيل أو تحريف أو تعطيل .(1/116)
وقال الشيخ رحمه الله (ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال " رضي الله عنهم ورضوا عنه ") الرضا والمحبة والرحمة عند الأشاعرة تأوَّل بالإرادة كلها ترد إلى صفة واحدة ، المحبة عندهم إرادة الإحسان ، كذلك الرحمة إرادة الإحسان ، والغضب إرادة الانتقام والرضا إرادة الإحسان ، حولوا أكثر الصفات إلى صفة واحدة وهي صفة الإرادة ، لو قيل لهم ما السبب ؟ قالوا هذه الصفات كلها انفعالات لا تليق بالله تعالى ، يا سبحان الله ، يصف الله نفسه بما لا يليق به " أأنتم أعلم أم الله " من قال لكم أنها لا تليق بالله ، هل الله أخبر بأنها لا تليق به فيجب عليكم تأويلها ؟ .. ثم لو ناقشناهم عقليا قلنا الإرادة ما هي الإرادة ؟ الإرادة ميل القلب ، وهل تقولون في إرادة الله تعالى ميل القلب ؟ يقولون لا إرادة تليق بالله يبادر بالجواب إرادة تليق بالله ، إذن قل محبة تليق بالله ، رحمة تليق بالله غضب يليق بالله إلى آخره ، الباب واحد ينبغي طرد الباب مرة واحدة لا ينبغي التفريق بين ما جمع الله ، جمع الله لنفسه بين هذه الصفات ولا يجوز للعباد أن يتصرفوا بالتقديم والتأخير والتأويل كما فعلت الأشاعرة ، انتبهوا ، نحن في كل مناسبة لا بد أن نذكر الأشاعرة ولا بد لماذا ؟ لأنهم بيننا هم بيننا ، لا أقصد في هذا المجلس ، بيننا في دنيانا حوالينا جيراننا ، وكثير من الجامعات الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية تدرس العقدة على المهج الأشعري لا على هذا المنهج ويسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة أو على الأقل من أهل السنة والجماعة ، ونحن نقول ليسوا من أهل السنة والجماعة ولكنهم من أقرب طوائف علماء الكلام أو طوائف علم الكلام إلى أهل السنة والجماعة هذا الكلام نقوله ونكرره ليفهم الشباب ولئلا ينخدعوا ببعض المدرسين الذين يحملون هذه العقيدة وقد يدسون أحيانا في بعض المناسبات .(1/117)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت فقال " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " وليس المقت مثل المقت ، وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بذلك فقال " ويمكرون ويمكر الله " وقال " إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا " وليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد ، ووصف نفسه بالعمل فقال " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون " ووصف عبده بالعمل فقال " جزاء بما كنتم تعملون " وليس العمل كالعمل ))
قال الشيخ رحمه الله تعالى ( وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار) المقت ، الغضب ، و الكراهة معان متقاربة (ووصفهم بالمقت فقال " إن الذين كفروا ينادون) فيقال لهم ( لمقت الله ) إياكم (أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ") حين تدعون إلى الإيمان فتكفرون الله يمقتكم وهم يوم القيامة عندما رأوا الجزاء مقتوا أنفسهم ، مقت الله إياهم أكبر من مقتهم أنفسهم ، الشاهد أثبت وصف نفسه بالمقت وأنه يمقت الكفار ووصفهم بأنهم يمقتون (وليس المقت كالمقت ) كما أنه ليس الغضب كالغضب ولا الرضا كالرضا .(1/118)
(وكذلك وصف نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بذلك فقال " ويمكرون ويمكر الله ""إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا") المكر والكيد والاستهزاء والخداع هذه أفعال تُثبت كما جاءت ولا تؤخذ مها أسماء بل تُمر كما جاءت وهي في الغالب تأتي في باب المقابلة والجزاء " ويمكرون ويمكر الله " جزاء لمكرهم ، المكر : إيصال الشر إلى الغير بطريقة خفية ، الله سبحانه وتعالى عندما يمكر الكفار لأوليائه ولدينه ويحاولوا إيصال الشر إلى أوليائه وإلى دينه وإيقاف دعوته بطرق ملتوية وخفية ، الله يمكر بهم يوصل إليهم الشر سواء كان في الدنيا أو في الآخرة بطريقة خفية قد ينعم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة وذلك نوع من المكر ونوع من الكيد يستدرجهم بالنعم وهم يمكرون ويؤذون أولياءه ويحاولون إيقاف دعوته ومع ذلك ينعم عليهم فيعطيهم استدراجا هذا نوع من المكر ، وقد يحصل المكر في الدنيا ، بأن يسلط عليهم أولياءه من حيث لا يشعرون وينصرهم عليهم ويجعل فيهم الرعب وينصر ..
الشريط الخامس :(1/119)
(وعقاب الكفار يدل على بغضهم) الله سبحانه وتعالى يعاقب الكفار مرتين ، أحيانا في هذه الدنيا يسلط الله أولياءه على الكفار فيقتّلونهم فيعذبهم بأيدي أوليائه ، هذا نوع من العذاب لأنه يكرههم أو يؤجل العقوبة لهم في الدار الآخرة فيدخلون السجن المؤبد الذي لا يخرجون منه أبد الآبدين ، لماذا ؟ لأن الله يكرههم ، دل ذلك على إثبات صفة الكراهة بالدليل العقلي ، إن الله يكرههم فيبغضهم ، (كما قد ثبت بالشاهد والخبر) عن إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، ثبت ذلك بالشهد لأنه أمر مشاهد ، شوهد في هذه الدنيا إكرام الله لأوليائه ، شوهد في هذه الدنيا عقاب الله لأعدائه كذلك ثبت بالخبر المقطوع به أن الله يكرم أوليائه في دار الكرامة ويعاقب أعداءه من الكفار هذا معنى قوله (كما قد ثبت بالشاهد) أي في هذه الدنيا ( والخبر ) أي في الآخرة (من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته) ( الغايات المحمودة في مفعولاته ) بأن يوفق الله أولياءه إلى طاعته إلى الاستقامة حتى يموتوا على حسن الخاتمة ( – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – ) العاقبة الحميدة تبدأ بالاستقامة والموت على الإسلام ثم ما أعد الله في دار الكرامة لأوليائه ، تلك هي العواقب الحميدة وهي ما يوجد الشيء لأجله .
كل ذلك (تدل على حكمته البالغة) الله سبحانه وتعالى ( عليم ) ( حكيم ) كونه يدبر لأوليائه هذا التدبير أحيانا بالإكرام لهم في هذه الدار وأن تكون لهم العواقب المحمودة في مأموراته وفي عبادته ويختم لهم بحسن الخاتمة ، ثم ينتهي ذلك إلى دار الكرامة بدخول الجنة والنظر إلى وجه الله سبحانه دل ذلك على حكمته البالغة ، يفعل كل ذلك لحكمة وهو الفعال لما يريد .
انتبهوا لهذه النقطة .(1/120)
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه) بالشاهد يعني ما حصل وما سيحصل في هذه الدنيا ( والخبر ) ما سيحصل في الآخرة .
ثم قال – هذا كلام مبتدأ - ( والغايات المحمودة من مفعولاته ومأموراته) المشاهدة في هذه الدنيا الثابتة في الخبر في الآخرة ( – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – ) العواقب الحميدة من أعظمها الاستقامة والموت على حسن الخاتمة ثم التمتع في دار الكرامة بنعم لا تعد ولا تحصى من أعظمها بل أعظمها على الإطلاق التمتع بالنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في دار الكرامة ، كل ذلك ( يدل على حكمته) إثبات للحكمة (البالغة ) بالدليل العقلي ، لأن الأشاعرة ينفون الحكمة ويقولون : أفعال الله تعالى لا تعلل فقوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " يقولون هذه اللام ليست لام العلة ولكنها لام الصيرورة وهو خلقهم بغير علة وبغير حكمة لكن آل الأمر فيما بعد إلى عبادة الله تعالى ، هكذا القول على الله بغير علم ، الذي يدل عليه الأسلوب العربي أن الله خلق الجن والإنس لهذه الغاية لعبادته وإفراده بالعبادة وليخضعوا له وليكونوا عبيدا خالصين له سبحانه ، وهذا الذي تنتهي إليه العواقب الحميدة تدل على حكمة الله البالغة (كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى ) وأنتم أثبتم المشيئة بالتخصيص وهذا يدل بطريق الأولى ، لماذا ؟
( لقوة العلة الغائية) انتبهوا لهذه العبارة ، لأن العلة الغائية أقوى ، ما هي العلة الغائية ؟
[ ما يوجد الشيء لأجله ] .
لماذا أوجد الله الجن والإنس ؟
للعبادة ، هذه هي العلة الغائية وهي أقوى .
لماذا خلق الله الجنة والنار ؟
خلق الله الجنة كرامة لأوليائه وخلق النار سجنا وعذابا لأعدائه .(1/121)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل لأن الفعل الحادث دل على القدرة ، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم ، وهذه الصفات مستلزمة للحياة ، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك. قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان :
أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه ، وليس لك أن تنفيه بغير دليل ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم .
الثاني أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات ، فيقال : نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة ، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكافرين يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشهادة والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، والغايات المحمودة من مفعولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى : لقوة العلة الغائية ، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة .(1/122)
وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول إنه تعالى حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة قيل له : لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات فإنك لو قلت : إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أو تجسيما لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم ، فكل ما يحتج به من نفي الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات .))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فنواصل درسنا بتوفيق الله تعالى في الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية وموضوع الدرس الموضوع العام هو ( الإيمان ) الإيمان بالله لأن الإيمان بالله تعالى لا يثبت إلا بالإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله والإيمان بكل ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك نعتبر موضوع درسنا دائما في العقيدة الموضوع العام هو ( الإيمان ) الإيمان كما نعلم جميعا بحمد الله يتكون من :
- إيمان القلب .
- وإيمان الجوارح .
- وإيمان اللسان .(1/123)
والعقيدة تمثل جانبا عظيما وأساسيا من الإيمان وهو إيمان القلب لذلك لو سئلت عن الفرق بين الإيمان وبين العقيدة : إن العقيدة جزء هام من الإيمان لأن الإيمان هو [ النطق باللسان والعمل بالجوارح ، وأساس الإيمان وأساس ذلك كله الاعتقاد بالقلب اعتقادا جازما لا يخالطه شك بصحة ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان بالله وأسمائه وصفاته ] هذا الجانب من الإيمان يسمى العقيدة لأنك عقدت قلبك على هذه المعاني وجزمت جزما لا يخالطه شك .
ثم أما الموضوع الخاص : مناقشة بعض أهل الكلام ، لأن أهل الكلام لم يؤمنوا الإيمان الصحيح الكامل في باب الأسماء والصفات :
- منهم من آمن ببعض الصفات وأول البعض الآخر تأويلا يؤدي إلى النفي عند الإلزام وعند التحقيق معهم وهم الأشاعرة .
- وطائفة أخرى أسوأ منهم حالا أثبتت أسماء جامدة لا تدل على المعاني ونفت الصفات .
- ثم الفريق الثالث الجهمية أسوأ حالا من الجميع الذين نفوا الأسماء والصفات جميعا ولم يثبتوا لله تعالى إلا الوجود المطلق الذهني .
فدرسنا هذه الليلة في مناقشة الأشاعرة .
(فإن قال) أي المفرق بين الصفات الذي يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر إن قال (تلك الصفات أثبتها بالعقل) الصفات السبع المعروفة عند الأشاعرة أثبتها بالعقل ولذلك تسمى الصفات العقلية وصفات المعاني في اصطلاحهم .
كيفية الاستدلال بالدليل العقلي : (لأن الفعل الحادث دل على القدرة ) لذلك أثبتّ صفة القدرة ، الفعل الحادث الذي يحدث في كل وقت وفي كل لحظة وفي كل ثانية وتجدد هذا الكون ووجوده بعد عدم دل على القدرة ، إذن يجب إثبات القدرة لله تعالى ، وأنت تلاحظ أن الأشعري يثبت ما يثبت بالدليل العقلي ولا يلتفت إلى الدليل النقلي ولو كان موجودا ، وهو موجود بالفعل لكنه لا يسأل عنه ، لماذا ؟(1/124)
لأن الدليل العقلي هو العمدة عندهم وهو الدليل القطعي ، ويسمون الدليل النقلي السمعي الخبري كما علمنا يسمونه ظنيا لأنه لفظي والدليل اللفظي عندهم ظني ولا يدل على اليقين ، الدليل الذي يدل على اليقين عندهم هو الدليل العقلي لذلك يثبتون ما يثبتون بالدليل العقلي ولا يلتفتون إلى الدليل النقلي ، وإن ذكروا أحيانا كذكرهم قوله تعالى عند السمع والبصر " وهو السميع البصير " يقولون ( يذكر الدليل النقلي استئناسا واعتضادا لا اعتمادا والاعتماد على الدليل العقلي ) " لأن الفعل الحادث دل على القدرة " لذلك نثبت القدرة ( والتخصيص دل على الإرادة ) التخصيص له معان كثيرة :
- تخصيص العباد وتفضيلهم بعضهم على بعض : أنبياء ، والأنبياء أنفسهم مفضل بعضهم على بعض .
- وتخصيص بعض العباد بالسعادة والبعض الآخر بالشقاوة ، وتخصيص بعض الناس بسعة الرزق والآخرون بضيق الرزق .
وغير ذلك من معاني التخصيص .
هذا التخصيص يدل على أنه يفعل ما يفعل بإرادته ، كلام مسلَّم .
(والإحكام) الإحكام : وهو الإتقان إتقان ما أوجده وخلقه (دل على العلم) بهذا أثبتنا صفة العلم ، مسلَّم .
(وهذه الصفات مستلزمة للحياة) كيفية الاستدلال بالدليل العقلي على صفة الحياة بعد أن تثبت هذه الصفات تقول : إن القدرة والإرادة والعلم هذه الصفات تستلزم الحياة ، من يتصف بالقدرة والإرادة والعلم يجب أن يكون حيا .
(والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك ) كيفية الاستدلال بالدليل العقلي على إثبات السمع والبصر والكلام كأن تقول الحي لا يخلو من أحد حالين :
- إما أن يكون سميعا بصيرا متكلما .
- أو متصفا بضد ذلك .
والاتصاف بضد السمع والبصر والكلام نقص ، فالله سبحانه وتعالى لا يوصف بالنقص وإنما يوصف بالكمال ، السمع والبصر والكلام من صفات الكمال ، إذن يلزم عقلا إثبات صفة السمع والبصر والكلام للحي .
هكذا أثبتوا الصفات العقلية وهي صفات المعاني عند القوم .(1/125)
كم هذه الصفات الآن ؟
القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ، وفي الكلام كلام ، إثباتهم للكلام إثبات شكلي ليس هو إثبات ، لأن الكلام الذي أثبتوه غير كلام الله غير كلام الله المثبت بالكتاب والسنة ، وهو الكلام النفسي لكن القوم لكن المُثبِتَة يتساهلون تساهلا مع الأشاعرة لإثباتهم هذه الصفات فيقولون إنهم مثبتة لهذه الصفات بما في ذلك صفة الكلام ، وعند التحقيق لم يثبتوا صفة الكلام الثابتة بالكتاب والسنة ولكنهم أثبتوا صفة الكلام على اصطلاحهم وهو الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت وهو معنى واحد لا يتعدد ، لا يتجزأ لا يكون له أول وآخر ولا تكون له حروف وأصوات ، وهذا ليس بكلام ، وهذا يسمى حديث النفس وحديث النفس ليس بكلام باتفاق العقلاء وأهل اللغة .
( قال له سائر أهل الإثبات) كلمة ( سائر ) ما معناها هنا (قال له سائر أهل الإثبات ) ؟ هل معناه جميع أهل الإثبات أو بقية أهل الإثبات ؟ .
يحتمل ، إن قلنا بقية أهل الإثبات لأن الأشاعرة داخلون في المثبتة ، مثبتة بنوع معين ولذلك يقال (قال له سائر أهل الإثبات) بقية أهل الإثبات الذين لم يكونوا من الأشاعرة .
أو (قال له سائر أهل الإثبات) جميع أهل الإثبات باعتبار أنهم ليسوا بمثبتة لأن إثباتهم إثبات ناقص .(1/126)
ولكن في الغالب الكثير أتباع السلف يطلقون على الأشاعرة بأنهم مثبتة ، وإذا جاءوا يبحثون في الجهمية أطلقوا عليهم أنهم جهمية ، أي أنهم مثبتة باعتبار وجهمية باعتبار ، باعتبار إثباتهم الصفات السبع بل أكثر من السبع وإن كان اشتهرت هذه السبع وإلا هم يثبتون أكثر ، يثبتون : البقاء والقدم ومخالفته للحوادث وقيامه بنفسه والوحدانية ، هذه يسمونها الصفات السلبية ، خمسة ، يثبتونها ، ويثبتون صفة يسمونها الصفة النفسية وهي صفة الوجود ، لذلك إذا عددوا هذه الصفات بأضدادها مع الجائز تصبح العقيدة عندهم خمسين عقيدة وهي التي يجب على كل مسلم أن يعرفها بأدلتها وليس هذا مقام تفصيلها .
(قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان ) أحد الجوابين (أن يقال ) أن يقول المثبتة للأشاعرة ( عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين ) هذه القاعدة يجب أن تحفظوها حفظا وهي تنفعكم في كل مقام عند المناظرة مع الخصوم (عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين ) توضيح ذلك (هب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك) أي لا يثبت ما نفيته من الصفات الخبرية ( ذلك ) اسم الإشارة راجع إلى ما ينفيه الأشعري ( لا يثبت ذلك الذي نفيته من الصفات الخبرية كالرحمة والمحبة والغضب والرضا ) ولكنه ( لا ينفيه) الدليل العقلي الذي أثبت به الصفات التي أثبتها لا ينفي الصفات التي نفيتها وإن كان – لو فرضنا أنه لا يثبتها – (وليس لك أن تنفيه) بغير دليل ، بأي دليل تنفي ؟ ما أثبته أثبتّه بالدليل العقلي وليس لديك دليل عقلي ينفي ما نفيت وكل ما في الأمر لك أن تدعي بأن الدليل العقلي لا يثبتها لكن هل ينفيها ؟
لا .
إذن بأي دليل نفيت ؟
لا (دليل) .(1/127)
(لأن النافي عليه الدليل ) أنت النافي الآن ناف للرحمة والمحبة مثلا بأي دليل نفيت ؟ وكل الذي قلت : إن الدليل العقلي لا يدل على هذه الصفة ، فرضنا بأن الدليل العقلي لا يدل - ولكنه سوف يدل - على رأيك أنه لا يدل ، هل ينفي ؟
لا .
إذن نفيك لهذه الصفات نفي بغير دليل (لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت) نحن نثبت بدليل وأنت تنفي بلا دليل ، أيهما أقوى ؟
جانبنا أقوى ، لأننا نثبت ما نثبت بدليل وننفي ما ننفي بدليل وأنت تثبت ما تثبت بدليل وتنفي ما تنفي بلا دليل ، تناقض .
(والسمع قد دل عليه) السمع : الدليل النقلي والدليل الخبري الذي تقدم الحديث عنه عدة مرات دل على هذه الصفات التي نفيتها ، على الرحمة والمحبة والرضا وغير ذلك .
( ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي) الدليل السمعي الذي دل على إثبات هذه الصفات لم يعارضه معارض عقلي ولا سمعي ، أما السمعي فواضح ، وأما العقلي لأن المتفق عليه عند جميع العقلاء أن الدليل العقلي الصريح السليم لا يعارض الدليل النقلي الصحيح ، الدليل النقلي الذي أثبتنا به صفة الرحمة وصفة المحبة " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " دليل نقلي صحيح ، وهل يوجد دليل عقلي صريح سليم يعارض ؟
لا .
إذن أثبتنا ما أثبتنا بدليل سالم عن المعارض ، لا معارض سمعي ولا معارض عقلي .(1/128)
( فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم) هذه هي النتيجة ، نتيجة المناقشة والمناظرة مع الأشاعرة هي هذه . يقول المثبت (فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم) الدليل السالم هنا الدليل السمعي ، السالم ( عن المعارض المقاوم) المعارض المقاوم الذي لا وجود له ، لم يوجد هنا : سمعي وعقلي ، لا يوجد معارض مقاوم عقلي ولا معارض مقاوم سمعي ، وما كان كذلك فيجب إثباته ، إذن يجب إثبات الصفات الخبرية الثابتة بالدليل السمعي ، وإن شئت بالدليل النقلي أو الدليل الخبري ، لا تنس دائما هذه الألقاب لملقب واحد . هكذا ينتهي الجواب الأول فأرجو أن يكون مفهوما لأنه مهم جدا .
الدليل الثاني أو الجواب (الثاني أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات ) يقال له : يمكن عقلا إثبات هذه الصفات الخبرية بنظير ما أثبت به تلك الصفات العقلية (من العقليات) أي بالأدلة العقلية ، يمكن إثبات الصفات الخبرية بالأدلة العقلية أيضا زيادة على ثبوتها بالأدلة النقلية فيقال : - نريد الآن نسوق دليلا عقليا لإثبات صفة الرحمة ، انتبه - (فيقال : نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة) الله سبحانه وتعالى كما نلاحظ ينفع عباده بالإحسان إليهم بالأمور المادية والأمور المعنوية :
- التوفيق إلى الإيمان من الإحسان .
- والعطاء الجزيل من الإحسان .
- وغفران الذنوب من الإحسان .
فنفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة ( كدلالة التخصيص على المشيئة) إذا كنتم أثبتم المشيئة - وهي الإرادة – بالتخصيص فيجب أن تثبتوا صفة الرحمة بنفع الله عباده بالإحسان إليهم لأن ذلك دليل على أنه أرحم الراحمين " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " هذا الإحسان دليل على الرحمة ، إذن أثبتنا صفة الرحمة بالدليل العقلي كما أثبتنا قبل بالدليل النقلي .(1/129)
(وإكرام الطائعين) إكرامهم في هذه الدار بالنصر والتأييد والتوفيق والاستقامة ، إكرامهم في دار الكرامة بدخول الجنة والتنعم هناك بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، بل التنعم بالنظر إلى وجه الله الكريم (يدل على محبتهم) بأن الله يحبهم ، لو كان لا يحبهم ما أكرمهم هذا الإكرام ، أثبتنا صفة المحبة بالدليل العقلي وهو الإكرام ، إكرام الطائعين .
(وعقاب الكافرين يدل على بغضهم) عقاب الله تعالى لأعدائه الكفار في الدنيا أحيانا على أيدي أوليائه من المؤمنين بالهزيمة وإدخال الرعب عليهم ، وفي الآخرة في النار ذلك دليل على بغضهم ، بهذا نثبت صفة البغض بأن الله كما يحب أولياءه يبغض أعداءه .
(كما قد ثبت بالشاهد والخبر) " ثبت بالشاهد " أي بالأمور المشاهدة في هذه الدنيا ، ثبت الإكرام وثبت العقاب بالشاهد في الدنيا ، شاهدنا كثيرا وسمعنا وقرأنا كثيرا كيف أكرم الله أولياءه ، كثير من الأنبياء وأتباعهم ، قرأنا وسمعنا وشاهدنا كيف عاقب أعداءه في الدنيا على أيدي أولياءه هذا المشاهد ، " والخبر " خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام عن إكرام الطائعين في الدار الآخرة وعقاب الكفار وأعداء الله في الدار الآخرة أيضا .
(كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته) - بين شرطتين جملة اعتراضية لم يأت الخبر بعد - (– وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة) هذا هو الخبر ، فهمت المبتدأ والخبر ؟ .
(والغايات المحمودة) هذا المبتدأ ، ( الغايات ) مبتدأ و ( المحمودة ) طبعا صفة .(1/130)
(والغايات المحمودة في مفعولاته) أي مخلوقاته (ومأموراته) وفسر الشيخ هذه الغايات المحمودة بالجملة الاعتراضية حيث قال (– وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – ) هذه العواقب الحميدة قد تكون في الدنيا وغالبا في الآخرة ، العواقب الحميدة كأن يجعل الله للمتقين العاقبة الحميدة بالنصر والتأييد على أعدائه وما يحصل لهم من العاقبة الحميدة التي لا نهاية لها في الآخرة يدل كل ذلك على حكمته البالغة .
الأشاعرة في صفة الحكمة يتناقضون ، قد تقرأ لبعضهم ما يدل على أنهم يثبتون صفة الحكمة ولكن الغالب على كلامهم نفي صفة الحكمة ، يسمونها علة فيقولون : أفعال الله تعالى لا تعلل إنما تحصل أفعال الرب سبحانه وتعالى عندهم بمجرد تعلق الإرادة بها ، يعني المفعول يحصل ويقع ، والمخلوق يخلق بمجرد تعلق الإرادة به ثم إيجاده بالقدرة ، لا تعلل أفعال الله لا يقال أوجد لكذا ، خلق لكذا ، أكرم لكذا ، عاقب لكذا ، هذا غير وارد عندهم وهذا نفي للحكمة ، ونفي الحكمة يستلزم نفي اسم الله تعالى الحكيم وهم يثبتون اسم الله تعالى الحكيم ويؤمنون بذلك وينفون الحكمة ، تنطبق عليهم القاعدة أن ( كل من خالف الكتاب والسنة ولم يلتمس الهدى قي الكتاب والسنة لا بد أن يتناقض ) هذه قاعدة ، لا بد أن يتناقض ، ولو تتبعت كلام السلف في كل وقت وكلام السلفيين أيضا ـ أي علماء السلف وعلماء السلفيين ـ لا تجد في كلامهم تناقض أبدا كأنهم تخرجوا من مدرسة واحدة وعلى أستاذ واحد وهذا هو الواقع لأن أستاذهم الحقيقي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان إطلاق لفظة ( أستاذ ) على النبي عليه الصلاة والسلام غير وارد إلا من باب الإخبار ، باب الإخبار أوسع – الحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله – .(1/131)
كل ذلك أي هذه العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة سبحانه ( كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى) في باب الإلزام التزم الشيخ أن يلزمهم بإثبات الإرادة بالتخصيص ، وإثبات الحكمة بالعواقب الحميدة أولى من إثبات الإرادة بالتخصيص وأوضح وأكثر ذكرا في الكتاب والسنة وأبلغ عند العقلاء (لقوة العلة الغائية) لذلك قال " أولى " ما هي العلة الغائية ؟
[ ما يوجد الشيء لأجله ] العلة الغائية ما يوجد الشيء ويفعل الشيء من أجله .
لماذا خلق الله الجن والإنس ؟
للعبادة ، " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الغاية من خلق الجن والإنس العبادة ، أن يعبدوه ويوحدوه فيكونوا له عبيدا لا يلتفتون إلى سواه ويخضعون له ويعظمونه ويعظمون شرعه ، لهذا خلقهم ، هذه العلة الغائية أقوى ، وهذه العلة الغائية تدل على الحكمة .(1/132)
(ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة) الله سبحانه وتعالى أخبر كثيرا في كتابه الدلالة على ما يدل على النعم والحكم " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " هذه النعم دلالتها على المنعم وعلى الحكمة أبلغ من دلالة التخصيص على الإرادة " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " واضح ، لكن دلالة ما خلق الله في هذا الكون وسخر لعباده ، خلق لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه هذا أدل وأبلغ في دلالته على الحكمة وعلى هذه النعم التي خلقها لعباده ، أبلغ من دلالة التخصيص على الإرادة ، وإذا أثبتم الإرادة بالتخصيص يلزمكم إثبات الحكمة وأنه المنعم المتفضل بهذه المخلوقات وبتسخير الله السماوات والأرض والبحر لعباده ، هذا معنى قوله (ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة ) أرجو أن يكون واضحا .(1/133)
إلى هنا تنتهي المناقشة مع الأشاعرة ينتقل الحوار الآن إلى الحوار مع المعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات ، ولذلك يقول الشيخ رحمه الله (وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول إنه تعالى حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة) تناقض بين ، أصحاب الفطرة لا يقبلون مثل هذه العقيدة ، لو سمع أعرابي من يقول بأن الله سبحانه وتعالى حي لكن لا يوصف بصفة الحياة ، عليم لا يوصف بصفة العلم ، قدير لا يوصف بصفة القدرة لا يكاد يفهم هذا الكلام ، يستنكر يقول ما هذا ؟ هذه رطانة ما هذا الكلام المتناقض ، العليم ، يلزم من ذكر العليم إثبات صفة العلم ، ومن ذكر القدير إثبات صفة القدرة ، وهكذا ، هذا هو المعقول عند أصحاب الفطرة السليمة ، ولكن القوم أصيبوا في فطرتهم وفي عقولهم من دراسة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وتخبطوا هذا التخبط وقالوا كلاما متناقضا ، قالوا : إنه حي عليم قدير ولكن لا يوصف لا بالحياة ولا بالعلم ولا بالقدرة ، كيف ترد عليهم ؟ كيف تناقشهم ؟ كونك تستدل عليهم بالكتاب والسنة لا يقبلون ولا يؤمنون بأدلة الكتاب والسنة ، لأن أدلة الكتاب والسنة عندهم أدلة ظنية غير قطعية يهولون المسألة فيقولون : ( هذا الباب باب عظيم وخطير ) مقدمة عظيمة ( فإذا كان الباب بهذا المثابة لا ينبغي الاستدلال في هذا الباب إلا بالدليل القطعي ) وإذا سلمت هذه المقدمة إلى هنا ، يقول لك ، إذن لا ينبغي الاستدلال بالدليل اللفظي فيجب أن يكون الاستدلال بالدليل العقلي ، إذا كان السلفي لم يفطن للمقدمة وسلم للمقدمة ألزمه الخلفي بهذه العقيدة المتناقضة ولذلك ينبغي التأني عند المناظرة ولاحظتم ما وقع فيه عبد العزيز المكي إن كان الكلام له حيث أثبت السميع البصير ولم يثبت السمع والبصر ، إن كان هذا الكلام كما يقال تمثيلية رويت على لسانه لا بأس ، وإلا تعتبر هذه هفوة وغلطة من ذلك السلفي المناظر القوي(1/134)
في مناظرته لكنه أخطأ هنا لذلك ينبغي التريث في أثناء المناظرة مع الخصوم خصوصا في هذا الباب ، والاطلاع على العقليات مع النقليات مفيد لطلاب العلم في هذا الباب وخصوصا طلاب الجامعات الذين يُنْتَظَر منهم أن يكونوا هم المدافعون عن العقيدة ، وجود من يجيد العقليات والنقليات أو يستطيع على الأقل أن يشارك في العقليات مع فهمه للنقليات ليرد الشبه عن العقيدة الإسلامية ويصونها فرض كفاية ، ينبغي أن يوجد في المسلمين من يقوم بهذه المهمة خصوصا في هذا الوقت وقد لاحظتم كيف نصر الله الإمام ابن تيمية وتلميذه على خصومهم مع كثرة الخصوم لكونهم تبحروا في العقليات والنقليات ، بسبب ذلك حفظ الله علينا ديننا وعقيدتنا وبقيت إلى يومنا هذا ، لذلك نحث كبار طلاب العلم اليوم الجامعيين أو طلاب الدراسات العليا أن يطلعوا على مقدمات المنطق كالسلم مثلا ويدرسوا على من يثقون في عقيدته ليكونوا على علم وعلى استعداد لمناظرة خصوم العقيدة ..
( قيل له : لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات فإنك لو قلت : إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أو تجسيما ) قد يدعي أن إثبات الحياة وإثبات صفة العلم والقدرة يقتضي تشبيه الخالق بالمخلوق ويقتضي أن يكون الله سبحانه وتعالى جسما ، الجسم له معان :
- هل الجسم هو ما يشار إليه بالإشارة الحسية ؟
قيل هذا .
- وهل الجسم ما يتركب من الأجزاء ؟
قيل هذا .(1/135)
(لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم) هكذا يقول : إنما نفيت هذه الصفات لأننا لا نجد في الشاهد في المشاهَد فيما نشاهد لا نجد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم كالإنسان المشار إليه المركب من الأجزاء والأعضاء والأبعاض ، قيل له : ولا تجد في الشاهد أيضا ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم ( فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم) كل شيء من الأسماء والصفات والأفعال يلزمك أن تنفيها لأنه فيما يشاهد لنا لا تجد هذه الصفات وهذه الأسماء إلا لجسم ، إما أن تنفي الجميع فتلحق بالجهمية وتريح أهل السنة من المناظرة ، أو يهديك الله فتثبت الصفات كما أثبت الأسماء وتسلم في دينك ، لابد من أحد أمرين . لاحظوا أن التناقض عند المعتزلة كالتناقض عند الأشاعرة وإن كانت الكيفية تختلف ، الأشاعرة تناقضوا في التفريق بين الصفات ، والمعتزلة تناقضوا في التفريق بين الصفات وبين الأسماء وكِلا التناقضين بين عقلا ويمكن الإلزام ، وعند الإلزام النتيجة أحد أمرين :
- الأمر الأول : أن يقتنع وينصف ويحمله الإنصاف على إثبات الصفات كما أثبت الأسماء ويسلم في دينه وعقيدته .
- أو يركب رأسه ويتعنتر وينفي الأسماء كما نفى الصفات ويلحق بالجهمية ويستريح منه أهل السنة عند المناظرة ويكون في جبهة الجهمية لا يكون في جبهة مستقلة .
قال الشيخ رحمه الله (فكل ما يحتج به من نفى الصفات ) وهم المعتزلة (يحتج به نافي الأسماء الحسنى فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات) نعيد هذا الكلام (فكل ما يحتج به من نفى الصفات) من الذي نفى الصفات ؟
المعتزلة ، مع إثباتهم للأسماء .(1/136)
(يحتج به نافي الأسماء) والصفات وهم الجهمية ، أي : الجهمية تقول : لا نعقل كلا من الأسماء والصفات إلا لجسم كما قالت المعتزلة بالنسبة للصفات (فما كان جوابا لذلك) ما كان جوابا لمعتزلي (كان جوابا لمثبتي الصفات) من هم مثبتو الصفات ؟
الأشاعرة ، أو بعض الصفات ليس كل الصفات ، وإلا عند إطلاق مثبتي الصفات هم مثبتة أهل السنة والجماعة .
إذن فلننقل إلى مناقشة الجهمية .. اقرأ..
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ( وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول : هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ (في ن أو ) هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير . قيل له : وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات . فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات . قيل له : فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما أو لا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل ))
سبق أن ذكرنا أن أقسام بني آدم في هذا الباب كم ؟
أربعة :
الأول : المثبتة .
الثاني – على الترتيب كما ناقشنا الآن – الأشاعرة .
الثالث : المعتزلة .
الرابع : الجهمية .
نحن الآن مع الفريق الرابع – ما أدري كلمة فريق ربما تذهبون مذهب آخر – نعني بالفريق الفرقة (وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات) فرقة من الفرق – لا نقول فريقا – فرقة من الفرق ، من فرق أهل الكلام من بني آدم – الله عليم حليم سبحانه – ينفون الأسماء والصفات لا يثبتون لله شيئا من الكمالات .(1/137)
( وقال لا أقول : هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير) أي ينفي الأسماء التي أثبتتها المعتزلة ، ينفي كونه موجودا ، ما الذي بقي ؟
كان معدوما .
لا يثبت أنه حي أو عليم أو قدير ( بل هذه الأسماء لمخلوقاته) المخلوق هو الذي يقال فيه إنه حي موجود حي عليم قدير و (هي مجاز) في حق الله تعالى وليست بحقيقة لماذا ؟
(لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير) الغريب في الأمر مع هذه الوقاحة يدعي أن نفي ذلك تنزيه ، يعني هؤلاء الغلاة من الجهمية يزعمون إنما نفوا الأسماء والصفات معا لأن ذلك هو التنزيه ، إثبات الصفات وإثبات الأسماء يؤدي إلى التشبيه بمخلوقاته ، هكذا زعموا .
(قيل له : وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات) هما تشبيهان في زعمك :
-أحدهما تشبيه بالموجودات بالمخلوقات الموجودة إذا قلت إنه حي عليم قدير في زعمك شبهته بمخلوقاته الموجودة .
- لكن إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير شبهته بالمعدومات .
أي التشبيهين أسوأ وأقبح ؟
التشبيه بالمعدومات .
هكذا كل من أعرض عن الكتاب والسنة والتمس الهدى في غيرهما يضل هذا الضلال ويتناقض هذا التناقض .
(فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات ) معا ، لا نفيَ ولا إثبات ، لا موجود ولا غير موجود (قيل له : فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات ) أي في زعمه إما أنه يقع في التشبيه بالمخلوقات الموجودة وإن فر من ذلك يقع في التشبيه بالمعدومات وإن فر من ذلك يقع في التشبيه بالممتنعات .
(فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما) في وقت واحد ، موجود معدوم ، غير معقول ، إما موجود وإما معدوم ، فهو يقول : يجمع له النقيضين ، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان لا بد من وجود أحدهما .(1/138)
(أو لا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم) معا (والحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل) هذا ما وقعت فيه الجهمية ولكن بحمد الله تعالى هذه الفرقة لا وجود لها الآن ولكن كما قلنا بعض عقائدهم دخلت على المعتزلة وعلى الأشاعرة ، وهل المعتزلة لهم وجود ؟
نعم ، جميع فرق الشيعة – من أقربهم إلى السنة الزيدية وأبعدهم عن الإسلام الجعفرية الإمامية الإثنا عشرية – كلهم على عقيدة الاعتزال جميع فرق الشيعة أقربهم وأبعدهم كلهم على عقيدة المعتزلة ، والأشاعرة هم الذين زعموا أنهم من أهل السنة لأنهم في الغالب من أتباع الأئمة الأربع بالنسبة للفقهيات ، إذن هؤلاء كلهم موجودون ، ليعلم الحضور وغير الحضور أن هؤلاء الذين نتحدث عنهم وعن عقيدتهم ونحاورهم ونناظرهم موجودون في دنيانا ، وأما الجهمية فهم غير موجودة بصفتها فرقة قائمة بنفسها ولكن دخلت بعض عقائدهم على الأشاعرة الذين هم أقرب الناس إلينا ، كما تلاحظون ذلك في صفة العلو وفي صفة الكلام ، قد كررنا الكلام في هاتين المسألتين فلينتبه طلاب العلم . قول الأشاعرة بأن الله ليس فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره عقيدة جهمية دخلت على الأشاعرة أصلها مأخوذة من قولهم : ليس الله داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا بالعالم ولا منفصلا ، هذه عقيدة الجهمية دخلت على الأشاعرة ، إذن تحذيرنا من عقيدة الجهمية لكونها دخلت على أقوام يعيشون بيننا وينتسبون إلى أهل السنة والجماعة وهم الأشاعرة ، أما الأشاعرة ، التحذير من الأشاعرة والمعتزلة أمر وارد لوجودهم الجماعي بكثرة ..
نكتفي بهذا المقدار وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ...(1/139)
بالنسبة لفرق الشيعة ، أنا من دراستي أعرف فرق الشيعة ولكن لا تسألوني عن أماكنها في الدنيا أين يوجدون ، إلا الفرقة الكبيرة الموجودة في إيران أما الفرق الأخرى الموجودة هنا في داخل المملكة وغيرها لست أدري هل هم من الإمامية ؟ الإمامية والجعفرية و الإثنا عشرية واحدة ، هل هم من هؤلاء أو من الفرق الأخرى ؟ أنتم أعرف ، أعرف مني وكل شيعي من الإمامية أو يقول إنه جعفري أو من الإثنا عشرية من غلاة الشيعة ، فوجودهم بين المسلمين كوجود المنافقين بين المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليسوا بمسلمين ، دوِّروا أماكنهم ...
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول : هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم . قيل له : وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(1/140)
لا نزال في مناقشة بعض الفرق وهذه آخر فرقة وآخر طائفة من طوائف علماء الكلام الذين ناقشهم شيخ الإسلام ، نعيد التقسيم كما تقدم ليحفظ ، إن أقسام بني آدم في هذا الباب في باب الأسماء والصفات أربعة ، وهذا التفرق إلى هذه الفرق إنما ظهر في عهد العباسيين وأما في عهد الخلافة الراشدة وفي عهد الأمويين ، المسلمون كانوا على طريقة واحدة وعلى منهج موحد ليس بينهم اختلاف في هذا الباب في باب الإيمان بالله لا في باب العبادة ولا في باب الأسماء والصفات ، وأما باب الربوبية كما تعلمون توحيد الربوبية توحيد لم يختلف فيه اثنان من بني آدم ، أي : الكفار يؤمنون بربوبية الله تعالى كما يؤمن المؤمنون وأبو جهل رأس الكفر يؤمن بأن الله هو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وهو خالق السماوات والأرض ، هذا معنى توحيد الربوبية ، جميع الناس كافرهم ومسلمهم عربهم وعجمهم يؤمنون بأن الله وحده هو الخالق الرازق المعطي المانع مدبر الأمور هذا المعنى لم يكن محل خلاف قط ويسمى توحيد الربوبية ، أي : إفراد الله تعالى بأفعاله وأنه لا يشاركه أحد في ذلك ، وأما اختلاف الناس في توحيد العبادة إنما بدأ من عهد نوح عليه السلام أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد ظهور الشرك ، واستمر إلى يومنا هذا وإن كان جميع الرسل دعوا الناس إلى توحيد الله تعالى لكن منهم من استجيب له ومنهم من لم يستجب له ، منهم من تبعه عدد من الناس ومنهم من تبعه فرد ومنهم من يبعث وحده يوم القيامة، فأكثر الأنبياء أتباعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين يليه موسى ، ذلك لأن السواد الأعظم من هذه الأمة على التوحيد ، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة وفي عهد الأمويين نص الإمام البيهقي أن خلفاء بني أمية كلهم كانوا على منهج السلف الصالح ، هذا كلام له وزنه ، انتبهوا ، أي : وإن كان قد يؤخذ على أولئك الخلفاء بعض المآخذ في نواحي كثيرة : الناحية المالية(1/141)
ناحية الترف وأمور كثيرة ، لكن في باب العقيدة كانوا على منهج السلف الصالح ، واستمر الوضع هكذا على هذا المنهج العظيم إلى عهد المأمون العباسي الخليفة السابع من خلفاء بني العباس راجع التاريخ لتكون على يقين ولتعلم تاريخ عقيدتك ولتكون على يقين عندما نقول : هذا المنهج الذي ندرسه وندعوا إليه هو منهج السلف الصالح الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابع التابعين إلى أن ظهر ما ظهر ، ولما ظهرت الفرق ، فرق وطوائف علماء الكلام أول ظهورها في عهد التابعين عندما ظهر جعد فقتل ، شيخ الجهم بن صفوان ، ثم تولى جهم الدعوة إلى الجهمية فقتل هو أيضا وتولى بعده بشر المريسي الدعوة إلى هذه العقيدة المنحرفة ، الجهمية التي نناقشها في هذه الليلة من أبعد طوائف علماء الكلام عن الجادة ، فلنبدأ بالطائفة الأولى :
الفرقة الناجية وهم السلف والسلفيون معا ، السلف الأول الصحابة والتابعون ثم السلفيون أي المتبعون للسلف ، إن نظرت من الناحية التاريخية السلف هم الصحابة والتابعون ، لذلك يقال لمن ذهب مذهبهم ونهج منهجهم في هذا اليوم وبعد هذا اليوم لا يقال له سلف يقال له سلفي أي منسوب إلى السلف الأول في عقيدته ، هذه طائفة التي هي ينطبق عليها صفة الفرقة الناجية أو الطائفة الناجية المنصورة على الحق .
تلي هذه الطائفة طائفة أخرى من طوائف علماء الكلام وهم الأشعرية ، أما الماتريدية إذا ذكرت الأشعرية وفهمت الأشعرية فهمت الماتريدية ، لأن الخلاف بينهما يسير جدا ، ممكن لا يختلفون في أكثر من عشر مسائل منهجهم واحد في التفريق بين الصفات ، هذه الطائفة الثانية ، إن عددت الماتريدية وحدها تكون الطائفة الثالثة .(1/142)
ثم المعتزلة الرابعة أو الثالثة ، المعتزلة كما تقدم قوم بالغوا في هذا الباب بعد الجهمية حيث نفوا جميع صفات الله تعالى ولم يثبتوا لله صفة ثبوتية ومع دعوى إثبات الأسماء يثبتون أسماء لا تدل على المعاني فيقولون إن الله سبحانه وتعالى عليم بلا علم قدير بلا قدرة مريد بلا إرادة وهكذا .
الطائفة الأخيرة الجهمية التي سبق أن تحدثنا عنها ، الحوار معهم في هذه الليلة .
يقول شيخ الإسلام في رسالته التدمرية في مناقشة هذه الفرق ، قبل أن نخوض في الحوار لسائل أن يسأل : ماذا نستفيد من حوار هذه الفرق ؟ ومن دراسة هذه الطوائف طوائف علماء الكلام ، ماذا نستفيد ؟(1/143)
نستفيد فائدة عظيمة وهي : أن هذه الفرق هي التي حاولت أن تغير مجرى العقيدة أي حاولت الإفساد على الناس لذلك كان يقول شيخ الإسلام وهو يعتب على المأمون العباسي الخليفة الذي مكن المعتزلة من الدعوة إلى عقيدتهم ومحاربة عقيدة أهل السنة والجماعة يقول شيخ الإسلام ( ما أظن الله غافلا عما فعل المأمون بعقيدة المسلمين ) هذه الفرق والطوائف ضرر على عقيدة المسلمين ، يغيرون أو يحاولون تغيير منهج السلف ، فالآن مثلا في بعض الجامعات بعض الأساتذة الذين تأثروا بهذا المنهج الأشعري وأتي بهم ليكونوا مدرسين في بعض المواد كالتفسير مثلا قد يستغل وجوده بين الشباب السذج الذين يعرفون الحق ولا يعرفون الباطل الذين نشأوا على الفطرة ، الذين عناهم عمر رضي الله عنه ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ) شبابنا نشأوا في الإسلام وعلى خير وعلى العقيدة لا يعرفون الجاهلية ، لا يعرفون جاهلية الصوفية ولا جاهلية علم الكلام لذلك إذا دخل أستاذ أشعري بكل سهولة يشوش عليهم ، وإذا دخل أستاذ صوفي دخل عليهم من باب العبادة وطأطأ رأسه خشوعا مصطنعا وأثر فيهم ، إذن دراستنا لهذه العقيدة حفاظا على العقيدة ودفاعا عن العقيدة وحفاظا على شبابنا لئلا ينحرفوا عن هذه العقيدة السلفية السليمة لا إلى الأشعرية ولا إلى الصوفية ، هاتان الفرقتان هما الموجودتان الآن وجودا جماعيا بين المسلمين ، الصوفية منتشرة والأشعرية منتشرة ، دراستنا لهذه الفرق ومعرفة مذاهبها نافع جدا لإثبات عقيدتنا من باب :
عرفت الشر لا للشر لكن لأتقيه من لم يعرف الشر وقع فيه(1/144)
وهذا حاصل ، كثير ممن لا يعرفون الشر يقعون في الشر لتعلموا مغزى وعظمة هذا الكلام راجعوا الفوائد لابن القيم عندما حلل هذا الأثر عن عمر ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ) أدع شبابنا ليرجعوا إلى هذه الرسالة هذا الكتاب فيطلعوا على كلام ابن القيم عندما يحلل هذا الأثر ، إذن ندرس هذه الطوائف لنعرف عقائدها ولنتقي شرها ولنحافظ على عقيدتنا لشبابنا لئلا تصاب .
وبعد :
(وإن كان المخاطب من الغلاة) الذين بالغوا في نفي الأسماء والصفات لله تعالى لا يثبتون إلا وجودا ذهنيا ، ليس لله عندهم إلا وجود ذهني لا وجود خارجي ، لذلك الجهمية لا يختلف أهل السنة في تكفيرهم ، يتحفظون في تكفير المعتزلة مع نفيهم لجميع الصفات إذ في الإمكان إلزامهم ، لأن من أثبت اسما ونفى صفة في إمكانك أن تلزم ، فتقول له يلزمك من إثبات أن الله عليم أن تثبت له العلم ، لكن الذي لا يثبت شيئا لا اسما ولا صفة بم تلزم ؟ بل الذي يرى أنه لا يُرْجَع إلى الكتاب والسنة لكن تؤخذ العقيدة من الأدلة القطعية في زعمهم وهي الأدلة العقلية .
الجهمية ، كفر علماء التابعين جعدا وجهما فقتلا كفرا وردة لذلك الجهمية لا تعد من الطوائف من طوائف المسلمين بل هم خرجوا ، من عدا الجهمية ومن عدا غلاة الروافض – الجعفرية الإمامية الإثنا عشرية – من عدا هاتين الطائفتين من الطوائف الكثيرة التي ألف فيها أهل العلم كتبا كلهم يتحفظ في تكفيرهم أما هاتان الطائفتان فكفرهما كفر بواح .(1/145)
(وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول : هو موجود ولا حي) قال : لا أقول بأن الله موجود ولا أقول إنه حي ولا أقول إنه (عليم أو قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته) المخلوق هو الذي يوصف بأنه حي موجود سميع عليم (أو هي) أي هذه الأسماء ( مجاز) ليست حقيقية ، إن أطلقت على الله فمن باب المجاز لا من باب الحقيقة (لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه) ومن عوفي فليحمد الله ، يرى أن هذا تنزيه لأن إثبات أن الله موجود حي عليم قدير في نظره يؤدي إلى التشبيه ، وما هو التنزيه إذن ؟
أن تنفي هذه الأسماء .
(لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير) وهو المخلوق في زعمه ، المخلوق هو الموصوف بأنه الموجود الحي العليم القدير ولو أثبتت هذه الأسماء لله أدى ذلك إلى تشبيه الله تعالى بالمخلوق الموصوف بأنه حي عليم قدير ، ماذا يقال لمثل هذا ، لو سردت صفات الله تعالى وأسماءه من الكتاب والسنة لما قَبِل ، لأنه لا يؤمن بأن أدلة الكتاب والسنة قاطعة ملزمة ليست بشيء ظنية عنده ، بِمَ تناقش ؟
تناقش بالعقل .
(قيل له : وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير) إذا نفيت هذه الأسماء (كان ذلك تشبيها بالمعدومات) أي التشبيهين أقبح ؟ التشبيه بالموجودات أو التشبيه بالمعدومات ؟(1/146)
قطعا التشبيه بالمعدومات أقبح وأبلغ نقصا ، فر في زعمه من التشبيه بالموجودات فوقع في التشبيه بالمعدومات (وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات) هذه أدلة عقلية وشيخ الإسلام وأمثاله ومن جاء بعده يضطرون اضطرارا إلى مناقشة القوم بهذه الأدلة العقلية لأنهم لا يؤمنون بالأدلة النقلية أما الأولون فكان استدلالهم بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة لأنهم أمام خصوم يؤمنون بالكتاب والسنة وهؤلاء لا يؤمنون ، هذا عذرهم أي عذر علمائنا الذين ألفوا هذه الكتب الدفاعية لأنهم أمام خصوم لا يؤمنون بأدلة الكتاب والسنة ، إذن لا بد من مناقشتهم بالأدلة العقلية ، إلى هنا الأمر واضح ، إذا فررتم من إثبات هذه الأسماء لئلا تقعوا في التشبيه بالموجودات فقد وقعتم في التشبيه بالمعدومات ، وهل يسكت ؟
لا .
ماذا يقول ؟
(فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات) معا ، أنفي النفي وأنفي الإثبات أي يرفع النقيضين معا أو يجمع النقيضين معا (قيل له : يلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات) النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان ، النقيضان هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، العلم والجهل لا يرتفعان معا ولا يجتمعان ، الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان لا بد من وجود أحدهما ، إما العلم وإما الجهل ، إما الوجود وإما العدم ، ومن يقول أنا أنفي الإثبات والنفي معا شبه الله سبحانه وتعالى بالممتنعات ، هذا عقلا ممتنع ، رفع النقيضين ممتنع أي رفع العلم والجهل معا ممتنع ، وجمع العلم والجهل معا ممتنع ، رفع الوجود والعدم ممتنع ، وجمعهما ممتنع ، إذا فر من التشبيه بالموجودات ثم فر من التشبيه بالمعدومات ، بم يشبه ؟
يشبه بالممتنعات ، يقع في التشبيه بالممتنعات .(1/147)
(فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات قيل له : يلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما) بل إما موجود وإما معدوم ( أو لا موجودا ولا معدوما) رفعهما ممتنع ، جمعهما ممتنع (ويمتنع أن يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم) مستحيل عقلا أن يوصف الشيء باجتماع الوجود والعدم (والحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل) هكذا كل من حاد عن الكتاب والسنة والتمس الهدى والتنزيه والحق والصواب في غيرهما يضل جزاء لإعراضه ، لما بالغوا عن الإعراض عن الكتاب والسنة وإساءة الظن بهما وصلت بهم الحال إلى هذه الدرجة ، فروا في زعمهم من التشبيه بالموجودات لو أثبتوا له الأسماء ، ثم فروا من التشبيه بالمعدومات إلى أن وصلوا إلى التشبيه بالممتنعات ، لم يبق شيء بعد هذا .
وقد يحاول محاولة : (وإن قلت ) ربما يعترض هذا يسمى اعتراض (إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما) اعترض لأن من أعرض عن الكتاب والسنة يؤتى الجدل ، يصاب بالجدل لا ينقطع (فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين ) أنتم عرفتم النقيضين ؟ ما الفرق بين النقيضين وبين الضدين ؟ عندك ضدان وعندك نقيضان :
الضدان لا يجتمعان وقد يرتفعان .
أما النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان . أي لا بد من وجود أحدهما .
مثال الأضداد الألوان ، كم أمامك من الألوان ؟
هذه الألوان لا يجتمع في بقعة واحد في موضع واحد اللون الأبيض واللون الأسود ، لكن قد يرتفع الاثنان ويحل محلهما لون أصفر ، جميع الألوان – خذ قاعدة – من باب الأضداد لا من باب النقيضين . هذا استطراد .
(إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب) وهذه مغالطة لا فرق بين تقابل العدم والمَلَكة وبين تقابل السلب والإيجاب ، مغالطة لفظية .(1/148)
(فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت إذ ليس بقابل لهما) إذن يمكن رفع النقيضين عما لا يقبل كهذا الجدار وهذا العمود .
(يقال له : أولا هذا يصح في الوجود والعدم) ولو صح جدلا في العلم والجهل والسمع والصمم وغير ذلك لكن لا يمكن لا يصح هذا في الوجود والعدم ، لأن هذا العمود إما موجود أمامنا أو غير موجود لكن صحيح لا يوصف بجهل ولا بعلم إذن بينهما فرق .
(قيل لك : أولا هذا يصح) ما قلته من أنه إنما (يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما) وإذا أردت أن تمثل لذلك بالوجود والعدم لا يصح (فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب) أي النفي والإثبات ، السلب والإيجاب النفي والإثبات ( باتفاق العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر ، وأما ما ذكرته من الموت والحياة) أي أن الجمادات لا توصف بالحياة والموت (والعلم والجهل فهذا) مجرد (اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون) أتباع أرسطو يقال لهم مشاءون لأن أستاذهم من عادته كان يلقي الدرس وهو ماش والطلاب يمشون معه ، على الماشي يدرس على الماشي كما يقولون ، ما يجلس ، يقال لهم المشاءون (والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية) الذين قالوا الجمادات لا توصف لا بالعلم ولا بالجهل ولا بالحياة ولا بالموت فلاسفة من فلاسفة اليونان اصطلحوا على ذلك ، وإلا ففي العقل والشرع ..
الشريط السادس :(1/149)
وإلا ففي العقل والشرع ما يثبت بأن الجمادات قد تتكلم وتوصف بالحياة وتوصف بالموت ( والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية وقد قال الله تعالى " والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء " ) وصف الأصنام والأوثان الجمادات بأنها " أموات غير أحياء " ( وما يشعرون أيان يبعثون ) ، وفي واقعنا في كثير من معجزات الأنبياء أن العصا والحصى والطعام والحجر كل ذلك قد حصل منهم كلام وحصل منهم ما يدل على الحياة والموت ، إذن اللغة العربية لا تمنع ، والشرع لا يمنع ، والعقل يثبت ، ودعوى أن الجمادات يمكن أن يجتمع فيها النقيضان لأنها لا وصف بالعلم ولا بالجهل ولا بالحياة ولا بالموت اصطلاح فلسفي فقط .
نكتفي بهذا المقدار وقد بدأنا نخوض في أسلوب فلسفي ، ليكون الدرس بعد الليلة خاصا بالطلبة الجامعيين .
لنجيب على بعض الاستفسارات في بقية هذه الدقائق ، والجدول الجديد سوف يعلن عنه إن شاء الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(1/150)
( ) قال الشارح رحمه الله ( وأما القدرة فهي الصفة التي تتعلق بالممكنات إيجادا وإعداما فكل ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته كما في الحديث ( ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ) وأما قوله تعالى " وليعفوا وليصفحوا " الآية فقد نزلت في شأن أبي بكر رضي الله عنه حين حلف لا ينفق على مصطح بن أثاثه وكان ممن خاضوا في الإفك وكانت أم مصطح بنت خالة أبي بكر ، فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر ( والله إني لأحب أن يغفر الله لي ) فوصل مصطحا ، وأما قوله تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " فقد نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين وكان في بعض الغزوات قد أقسم ليخرجن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من المدينة فنزل قوله تعالى " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " يقصد بالأعز قبحه الله نفسه وأصحابه ويقصد بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين فرد الله عز وجل عليه بقوله " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " والعزة صفة أثبتها الله عز وجل لنفسه قال تعالى " وهو العزيز الحكيم " وقال " وكان الله قويا عزيزا " وأقسم بها سبحانه كما في حديث الشفاعة " وعزتي وكبرائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله " وأخبر عن إبليس أنه قال " فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة بينا أيوب عليه السلام يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن ما ترى ؟ قال بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك ) وقد جاء في حديث الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان به وجع " أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " ، والعزة تأتي بمعنى الغلبة والقهر من عز يعُز بضم العين في المضارع يقال ( عزه ) إذا غلبه ، وتأتي بمعنى القوة والصلابة من عز يعَز بفتحها(1/151)
ومنها ( أرض عزاز ) للصلبة الشديدة ، وتأتي بمعنى علو القدر والامتناع من الأعداء من عز يعِز بكسرها ، وهذه المعاني كلها ثابتة لله عز وجل )
الحمد لله رب العالمين .
وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فموضوع درسنا العام ( الإيمان ) الإيمان القلبي لأن الإيمان يتكون من إيمان القلب وإيمان الجوارح وإيمان اللسان ، بمعنى النطق بالشهادتين والاعتقاد الجازم بقلبك ، الإيمان والتصديق بوجود الله تعالى وقدرته وسائر صفاته وأسمائه ، وتصديق خبر الله تعالى فيما أخبر عن نفسه من الأسماء والصفات وتصديق خبر الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك ، والعمل بالجوارح ، هكذا عند أهل السنة والجماعة ، الإيمان ليس مجرد التصديق ، التصديق بالقلب والعمل بالجوارح والنطق باللسان ، والعقيدة جزء أو عنصر من أهم عناصر الإيمان ، لأن إيمان القلب هو الأساس ، إلا أن إيمان القلب يحتاج إلى مصدق ، أعمال الجوارح والنطق باللسان هذه مصدقات لإيمان القلب ، هذا هو الموضوع العام للدرس ، دائما درس العقيدة موضوعه الإيمان .
والموضوع الخاص إثبات ما أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه من الصفات والأسماء وما أثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم ، من ذلكم إثبات القدرة .
القدرة ، قال الله تعالى " إن تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " هذا محل الشاهد ، تقدم الكلام على اسم الله تعالى ( عفو ) والكلام الآن على القدرة على إثبات صفة القدرة ، لأن اسم الله ( قدير ) يدل على القدرة ، ما هي القدرة وبم تتعلق ؟(1/152)
القدرة ( هي الصفة التي تتعلق بالممكنات إيجادا وإعداما ) صفات الله تعالى لها متعلقات ، القدرة تتعلق بالممكنات ، الممكنات والجائزات بمعنى واحد ، كل ما وجد بعد أن لم يكن اسمه ممكن واسمه جائز ، أي كل ما عدا الله يقال له ممكن ويقال له جائز ، هذا الكون كله من الممكنات فقدرة الله تعالى تتعلق بالممكنات .
وهناك مستحيلات وواجبات ، فقدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات ولا بالواجبات ، ولكنها تتعلق بالممكنات أو بالجائزات وكما قلنا : الجائزات والممكنات بمعنى واحد ، أما المستحيلات فلا تتعلق بها قدرة الله ، من المستحيلات : الشريك والصاحبة والولد والوزير والمعين ، قدرة الله تعالى لا تتعلق بهذه ( الممكنات ) لأن إيجادها نقص لا يليق بالله تعالى ، إذا قلنا قدرة الله لا تتعلق بها ، لا ينبغي بأن يفهم أن الله عاجز عن إيجاد هذه الأشياء ، ليس بعاجز ولكن قدرته لا تتعلق بها حكمة منه وكمالا لأنها نقص ، الشريك نقص في حق الله تعالى ، والصاحبة والولد والوزير هذه كلها من المستحيلات التي تعتبر نقصا في حق الله تعالى ، فقدرة الله تعالى لا تتعلق بها .
قد يقول متفلسف ، يسألك سؤال محرجا وقد سئلت غير مرة هذا السؤال : هل الله قادر على أن يوجد له شريكا ؟
فينبغي التريث في مثل هذا الجواب ، لا يجاب لا بنعم ولا بلا ، ولكن يقال إن قدرة الله تعالى لا تتعلق بهذه المستحيلات لأنها لا تليق بالله تعالى لا لأن الله عاجز عن إيجاد هذه الأشياء ، هذا هو الجواب .
نعود إلى شرح الدرس فنقول : تتعلق قدرة الله تعالى بالممكنات إيجادا وإعداما ، لأن الممكن ما يجوز إيجاده وإعدامه ، أما الواجبات فلا تتعلق بها قدرة الله تعالى ، ما هي الواجبات ؟(1/153)
صفات الله تعالى وأسماؤه ، ذات الله وصفاته وأسماؤه من الواجبات ، لأن هذه الأشياء قديمة ليست خاضعة للإيجاد والإعدام ، إنما لا تتعلق قدرة الله تعالى بالواجبات لأن الواجبات لا تخضع للإيجاد والإعدام ، لأن صفات الله تعالى وأسماءه قديمة قدم الذات ، إذن الخلاصة : إنما تتعلق قدرة الله تعالى بالممكنات إيجادا وإعداما ، إذا أردنا أن نوجز مرة أخرى : قدرة الله تعالى لا تتعلق بأسمائه وصفاته لأنها من الواجبات ، ولا تتعلق بالمستحيلات لأن إيجادها نقص ، إذن تتعلق بالممكنات فقط .
ثم قال الشارح ( فكل ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته ) ( كان ) هنا تامة ، يفسر هذا الفعل الفعلُ الذي بعده .
(فكل ما كان) أي وجد وحصل ( ووقع) لذلك فقوله (ووقع) تفسير لـ (كان) أي من المترادفات ، ( كان ) ليست ناقصة أي لا تطلب إلا معمولا واحدا ، ( كان ) التي لا تطلب إلا معمولا واحدا يقال لها تامة ، ليست ناقصة كالتي تطلب معمولين اسما وخبرا لذلك المعنى : الوجود والحصول والوقوع .
(فكل ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته) لا يقع في هذا الكون شيء إلا بمشيئة الله ، أي علم الله أزلا وكتب عنده بأن الشيء الفلاني سوف يقع في المكان الفلاني في الزمن الفلاني في الثانية الفلانية ، لا يقع شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله ، شيء لم يعلمه الله ولم يكتبه عنده ولم يشأه بالمشيئة العامة لا يقع " ما شاء الله كان " أي وقع ووجد " وما لم يشأ لم يكن " ( كان ) هنا أيضا تامة .(1/154)
(واقع بمشيئته وقدرته) حتى الكفر والمعاصي والمصائب والبلاء والقحط ، الخير والشر ، الطاعة والمعصية كل ذلك إنما يقع بمشيئة الله تعالى ، لا يقال إن الله لا يخلق شرا ، لكن لا يخلق شرا محضا ، الشر الذي يخلقه الله لا بد أن يكون فيه جانب من الخير ، خفي أو ظهر " الخير بيديك والشر ليس إليك " المراد بالشر هنا الشر المنفي الشر المحض ، إيجاد الله للكفر ليس شرا محضا ، خلقه لإبليس ليس شرا محضا ، تقدير الله المعاصي على بعض عباده إذا شاء وكيف شاء ليس شرا محضا ، في كل ذلك جانب من الخير ، أوجد الله الكفر والكفار فجعل في ذلك خيرا للمؤمنين ، يجاهدون فتحصل لهم مرتبة الشهادة ، لولا خلق الله الكفر والكافر من أين لنا الجهاد ؟ ولولا خلق الله إبليس والنفس الأمارة بالسوء من أين لنا الجهاد ؟ لولا وقوع المعاصي من أين لنا مرتبة التوابين ؟ من أعظم المراتب " إن الله يحب التوابين " الذين يكثرون من التوبة كلما وقعوا وعصوا تابوا وبادروا ، تواب ، كثرة التوبة ، الله سبحانه وتعالى لم يخلق شرا محضا ولكن لا يقع شر الذي في حشوه خير من كفر ومعاصي ونفوس شريرة كإبليس كل ذلك لا يقع إلا بمشيئة الله تعالى مع ملاحظة أنه ليس شرا محضا ، يستحسن للشباب أن يقرأوا هذا البحث اللطيف العظيم في كتب ابن القيم مثل مدارج السالكين ومفتاح دار السعادة ، هذا باب عظيم يثبت الإيمان ، عليكم الرجوع إلى كتب ابن القيم لأنه من الحكماء ، من حكماء المسلمين ، قلَّ من يعرف ذلك .
(كما في الحديث ( ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ) ) " ما شاء الله كان " أي وقع وحصل ، تامة كما قلنا " وما لم يشأ لم يكن " الحديث قطعة من حديث طويل ثابت كنا ترددنا في أمره ولكن بعد المراجعة ثابت عند أبي داود .(1/155)
( وأما قوله تعالى " وليعفوا وليصفحوا " الآية فقد نزلت في شأن أبي بكر رضي الله عنه حين حلف لا ينفق على مصطح ) هذا الرجل من الذين خاضوا في قصة الإفك وبينهما قرابة ، حلف أبو بكر أنه يقطع ، كان يحسن إليه ، كان الرجل محتاجا وأبو بكر يحسن إليه ويصله لما بينهما من القرابة والرحم ،أقسم بالله أنه يقطع لكونه خاض في الإفك ، الله سبحانه وتعالى حثه على العفو والصفح " وليعفوا وليصفحوا " .
( فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر ( والله إني لأحب أن يغفر الله لي ) فوصل مصطحا ) محل الشاهد كون الله سبحانه وتعالى يوصف بالغفران " ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " من أسمائه تعالى الغفور الرحيم ، ويصف بعض عباده بالرحيم كما تقدم ولكن ليست الرحمة ولا الرأفة كالرأفة .(1/156)
و(قوله تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " فقد نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين وكان في بعض الغزوات قد أقسم ليخرجن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من المدينة فنزل قوله تعالى " يقولون " ) أي ابن سلول وجماعته ( " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها " ) أي من المدينة ( " الأذل " يقصد بالأعز قبحه الله نفسه وأصحابه ويقصد بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين فرد الله عز وجل عليه بقوله " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ") أثبت الله سبحانه وتعالى في هذه الآية العزة له سبحانه ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن ليست عزة الله كعزة رسوله ولا كعزة المؤمنين ، عزة تليق به وهكذا في جميع الصفات التي يشترك فيها الخالق مع المخلوق مشاركة لفظية في المعنى العام ولكن إذا أضيفت عزة الله إلى الله وعزة المخلوق إلى المخلوق لا مشاركة ، وهذا بحث قد تقدم غير مرة ، إنما المشاركة تقع في المطلق العام المطلق الكلي ، العزة غير المضافة ، عزة ، نكرة هكذا بدون إضافة لكن إذا أضيفت عزة الله إلى الله وعزة المخلوق إلى المخلوق لا مشاركة أصلا لأن هذه الإضافة مخصصة ، خصصت عزة الله بالله وعزة المخلوق بالمخلوق ، بعد أن تضاف عزة الله إلى الله مستحيل أن يشارك مخلوق الله رب العالمين في عزته ، في خصائص عزته ، كما ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشارك المخلوق في عزة المخلوق المضافة إليه أي في خصائص عزة المخلوق ، لأن عزة المخلوق ناقصة وحادثة ، فليفهم هذا بناء على ما تقدم .
(والعزة صفة أثبتها الله عز وجل لنفسه قال تعالى " وهو العزيز الحكيم " ) لأن اسم الله العزيز يدل على العزة والحكيم يدل على الحكمة .(1/157)
( وقال " وكان الله قويا عزيزا " وأقسم بها سبحانه كما في حديث الشفاعة " وعزتي وكبرائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله " ) أي يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث المطلقة لا بد من قيدها ، من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه كما جاء في حديث آخر ، أي بإخلاص ، أي بعد أن عرف معنى لا إله إلا الله وقام بحقوقها ولم يأت بنواقضها أو تاب التوبة النصوح فقالها ثم مات أو أسلم فقالها صادقا ثم مات ولم يعمل شيئا ، يخرج من النار أناس لم يعملوا شيئا لم يعملوا خيرا قط إلا قول لا إله إلا الله ، هذا يتصور في المؤمن الجديد الذي يعتنق الإسلام والإسلام يجب ما قبله وقال صادقا من قلبه ومات على ذلك ، وعلى كل الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة لا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدْنى أَدنى مثقال ذرة من إيمان ، لا بد أن يكون مآله إلى الجنة ، هذا هو الثابت من عقيدة أهل السنة والجماعة .
وبعد :
( وأخبر عن إبليس أنه قال " فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " ) إبليس يعرف رب العالمين ويعرف عزته ومع ذلك كافر ، لتعلموا أن الإيمان أمر زائد على المعرفة ، إبليس يعرف الله وقوته وعزته ومع ذلك فهو إبليس ، ليس له وصف أقبح حتى نصفه بوصف آخر ، وجميع الكفار يعرفون ، ولكن لم يؤمنوا ، أقرب مثال لهذا أبو طالب ، يعلم صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم ويعز رسوله الله صلى الله عليه وسلم ويكرمه ويحترمه ويدافع عنه ويعلم صحة ما جاء به لكن هذا العلم كله لم يصل إلى درجة الإيمان ، إذن الإيمان أمر زائد على المعرفة ، فقصة أبي طالب محزنة لأنه يخبر عن نفسه ، لأنه عرف صحة ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ويعتذر عن الإيمان بأشياء ليست بعذر عند الله حيث يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا(1/158)
اعتذر بعذرين ( لولا الملامة ) رجل له شعبيته ومكانته بين قومه يلومونه ، لماذا يغير دين عبد المطلب ، ويسبونه ، خاف أو خشي من لسان قريش من لومهم وعتابهم وسبهم ، رفض الإيمان وحاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن في آخر حياته فلقن كلمة التوحيد فرفض حتى قيل للنبي عليه الصلاة والسلام " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " أما تعلق من يتعلق ببعض ما أثر من أبي طالب من الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه وجعل ذلك علامة لإيمانه ، أنه آمن لا ينبغي أن يسير الإنسان وراء العاطفة لئلا يقع في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل ( هل نفعت عمك أبا طالب بشيء ؟ ) كونه يدافع عنك ويستميت في الدفاع عنك وكان يحميك ويحمي دعوتك هل نفعته بشيء ؟
أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه نفعه حيث رآه في قعر النار فأخرجه إلى ضحضاح من النار يلبس نعلين يغلي دماغه منهما فهو من أخف أهل النار عذابا ولكنه يرى نفسه أنه من أشد أهل النار عذابا وهذا صريح بأنه مات كافرا وقد قال كلمته الأخيرة عند موته ( على دين عبد المطلب ) لذلك نؤكد للمترددين بأنه مات كافرا ولا ينبغي التردد في ذلك لأن التردد في ذلك يؤدي إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ردة كذلك يقال بالاختصار في والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبعد :(1/159)
(وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة بينا أيوب عليه السلام يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه ) ( ناداه ) فالله سبحانه وتعالى ينادي ، لا يقال نداء إلا لكلام له صوت عال يسمع وهذا من أدلة أهل السنة بأن الله يتكلم فينادي فيقول بصوت يسمع ، من يناديه يسمع كلام الله بصوت الله ولا ينبغي التردد في ذلك ، أيما أشعري أو أصيب بشيء من عقيدتهم عنده تردد في هذا فليتراجع ، والنصوص كثيرة جدا في إثبات كلام الله اللفظي الذي بحرف وصوت .
(فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن ما ترى ؟ ) ما هذا الذي تفعل ؟ ( قال بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك ) ) ليس حرصا على جمع المال ولكن الذي جعلني أفعل ما فعلت حرصا على أن تنالني بركتك . أين الشاهد من الحديث ؟
" بلى وعزتك " .(1/160)
( وقد جاء في حديث الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان به وجع " أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " ) هذه من أعظم الرقية ، الذي يريد أن يتعلم الرقى بدل من أن يكتب كتابات عليه أن يحفظ مثل هذه الأدعية ، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام ألفاظ قصير فيها التعوذ " أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " أيا كان المرض ، القضية قضية العزيمة ، صدق العزيمة وقوة الإيمان والثقة بالله ، من رزقه الله قوة الإيمان والثقة في ربه سبحانه وعزيمة صادقة يتعالج بمثل هذا من جميع الأمراض ، ولكن المحفوظ حسب علمنا بالقراءة ، تقرأ ، تضع يدك على محل الألم والوجع وتقرأ هذا الدعاء ، في هذه الرواية لم يأت حتى النفث ، وهو أنك تنفث وإنما مجرد القراءة فقط ، وقد يتوسع بعض المشايخ فيقرأون مثل هذا الدعاء وبعض الآيات القرآنية على ماء فيسقون مريضا أو يرشون عليه ، وهذا نوع من التوسع في الرقية لأننا لا نعلم من هديه عليه الصلاة والسلام نصا صحيحا صريحا في القراءة على الماء حسب علمنا إنما نحفظ ذلك من مشايخنا ، والله أعلم .
( والعزة تأتي بمعنى الغلبة والقهر من عز يعُز بضم العين في المضارع يقال ( عزه ) إذا غلبه ، ويأتي بمعنى القوة والصلابة من عز يعَز بفتح) العين في المضارع ( ومنها ( أرض عزاز ) للصلبة الشديدة ، وتأتي بمعنى علو القدر والامتناع من الأعداء ) والهيبة ( من عز يعِز بكسر ) العين ( وهذه المعاني كلها ثابتة لله ) سبحانه وتعالى ، له الغلبة وله القوة وله القهر " وهو القاهر فوق عباده " . نعم .
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وقوله " تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام " وقوله " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " وقوله " ولم يكن له كفوا أحد " .(1/161)
قال الشارح : وأما قوله تعالى " تبارك اسم ربك " فإنه من البركة بمعنى دوام الخير وكثرته ، وقوله " ذي الجلال " أي صاحب الجلال والعظمة سبحانه الذي لا شيء أجل ولا أعظم منه ، " والإكرام " الذي يكرم عما لا يليق به ، وقيل الذي يكرم عباده الصالحين بأنواع الكرامة في الدنيا والآخرة والله أعلم ، قوله " فاعبده " إلى آخر الآية تضمنت هذه الآيات الكريمة جملة من صفات السلوب وهي نفي المسمى والكفء والند والولد والشريك والولي من ذل وحاجة كما تضمنت بعض صفات الإثبات من الملك والحمد والقدرة والكبرياء والتبارك )
.. النسخ التي عندكم كلها ( المسمى ) ؟
من نفي السمي ، ( السمي ) أنسب .
(وأما قوله تعالى " تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام " " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " " ولم يكن له كفوا أحد "(1/162)
" تبارك اسم ربك " فإنه من البركة ) اسم الله تعالى يوصف بالبركة ، الله سبحانه وتعالى هو الذي يعطي البركة ، البركة أصلها الزيادة والنماء ودوام الخير وكثرة الخير ، البركة لا تكون إلا من الله ، الله هو الذي يبارك ، يبارك في عمرك يبارك في عملك ، يبارك في علمك وفي رزقك بدوام ذلك وبالكثرة والنماء ، لذلك طلب البركة من غير الله تعالى فيه معنى الإشراك ، طلب البركة من الجمادات ، من المخلوقات ، نرجو بركتك ، نريد بركتك ، هذا خطأ محض ، الذي يبارك فيعطي فيديم ذلك العطاء وينمي ذلك العطاء ويكثر ذلك العطاء هو الله ، إذن يجب أن تطلب البركة من الله وحده لا تطلب البركة حتى من الرسول صلى الله عليه وسلم ، رسول الله مبارك الله جعل فيه بركة ، وكتاب الله مبارك ، ودين الله مبارك والشريعة مباركة ، لكن الذي تطلب منه البركة هو الله جعل الله في رسوله بركة ، البركة التي جعلها الله في رسوله عليه الصلاة والسلام هي التي بها انتشر الإسلام والإيمان ، وقد بارك في بعض آثاره ، جعل الله بركة في بعض آثار النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان الصحابة يتبركون ببعض آثاره لأن الله خصه وجعل فيه بركة ، أي في بعض آثاره كبصاقه وعرقه وشعره ، تلك بركة وخير جعله الله تبارك وتعالى في تلك الأشياء ، وإنما تنال تلك البركة باتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام والإيمان به ، والذين أدركوه في حياته قد تبركوا ببعض تلك الأشياء ولكنها انتهت ، ولو كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا الآن لتبركنا به ولاستشفينا به كما فعل الصحابة ، عندما حلق شعره في حجة الوداع وزع شعره على الناس ونال بعض أهل المدينة ذلك الشعر ، كانت امرأة فضلى جعلت ذلك الشعر في قارورة ، في إناء ، وصبت عليه ماء فإذا مرض أحد في المدينة يأتون إليها وتصب له ماء ويرشون ذلك الماء على المريض ، يتبركون بذلك الشعر وبذلك الماء ، لأنه آثار نبي مبارك ، هذه خصوصية لا توجد في أحد من(1/163)
بعده ، هكذا نص أهل العلم على هذه المسألة الخطيرة التي بسببها وقع كثير من الناس في الإشراك من حيث لا يعلمون ، التبرك بمشائخ الصوفية وجببهم وعممهم وشعورهم إلحاق بهم برسول الله عليه الصلاة والسلام ، فمن يدعي أنه مثل رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ من هو ؟ صغار الصحابة ما كانوا يتبركون بكبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، والتابعون ما كانوا يتبركون بالصحابة لا بشعورهم ولا بملابسهم ولا بعرقهم ، يقول ابن رجب ( عدم فعل أولئك السادة ، عدم تبرك بعضهم ببعض بعد النبي عليه الصلاة والسلام دليل قاطع على أن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام ) التبرك خاص به عليه الصلاة والسلام لا يجوز لمن بعده إذ لا نتصور أن أحدا يصل إلى منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(1/164)
.. طلب البركة من غير الله ما نقول من غير رسول الله لا تطلب البركة حتى من الرسول ، تطلب من الله ، الله الذي جعل فيه البركة تطلب منه البركة ، البركة التي وقعت لرسول الله عليه الصلاة والسلام من الله ، فالآن إذا أردنا أن نتبرك ، التبرك الآن يكون بالتمسك بهذا الدين المبارك وبالعمل بالكتاب المبارك وبالعمل بالشريعة المباركة ، أشير لكم إشارة إلى بركة حاصلة وموجودة أنتم تعيشون فيها وقد لا تدركونها ، ما تعيشون من الأمن والأمان في هذا البلد بركة من بركات التمسك بالشريعة وتحكيم الشريعة ، وما تعيشه كثير من الشعوب من القلق والفتن وعدم الدين وعدم الأمن والأمان من عدم البركة لأن الكتاب المبارك لم يعمل به ولأن الشريعة المباركة لم تطبق ، فإذا قصرنا في تطبيق هذه الشريعة المباركة وفي العمل بهذا الكتاب المبارك تنقص هذه البركة ، فإذا زال العمل بالكتاب والسنة وبالشريعة المباركة زالت البركة ، يعيش هذا المجتمع الآن من حيث لا يشعر كثير منهم بركة تطبيق الشريعة ، بركة العمل بالكتاب والسنة بركة العمل بالعقيدة الإسلامية وتطبيق الشريعة إلى حد ما ، هذه هي البركة التي نعيشها ، ومن البركات : مضاعفة الصلاة في المسجدين بركة ، لأن البركة معناها الزيادة ، وكل ما يحصل لك من الخير عندما تصلي في المسجدين العظيمين بركة من البركات ، لنتصور معنى البركة ولا يتعلق الإنسان بعمود أو باب بدعوى أنه يتبرك ، وربما يظن من يأتي من الخارج أن كل ما يرى في هذا المسجد من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك يزعمون أنهم يتبركون بمسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام فليعلموا أنه لا يوجد في هذا المسجد شيء من آثار النبي عليه الصلاة والسلام ، وكل ما يشاهد كما يعلم الجميع من الأعمدة والبلاط ومن هذا النحاس وهذه الزخرفة كلها أمور حادثة ليس هناك شيء يستحسن أو ينبغي للعاقل أن يتبرك به ، وكما قلنا فلنتبرك بالعمل بالكتاب والسنة وتطبيق الشريعة ،(1/165)
هناك البركة . نعم .
كطلب الغفران وطلب الرزق ، وطلب أي طلب ، طلب البركة من غير الله تعالى شرك .
.. سائل يسأل :
هل يمكن أن نستعمل القياس كما فعل الصحابة بشعره عليه الصلاة والسلام كأن نكتب شيئا من القرآن ونجعله في ماء ، ورقة مكتوبة فيها القرآن نجعله في ماء ونتبرك بذلك الماء .
الجواب : غير وارد ، الكتاب إنما أنزل ليتلى ويتدبر ويعمل به ، وأما كيفية التداوي بالقرآن كما ورد بالقراءة ، لا بأن يمحى بالماء ويشرب الماء أو يتبرك بذلك الماء ، لو كان هذا واردا وسائغا لعمل الصحابة أو علم الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه ، ولما لم يعمل خير القرون هذا العمل علمنا بأنه عمل غير مشروع ، والله أعلم ...
القرآن شفاء ، الأصل شفاء للأمراض الباطنية وشفاء لأمراض البدن أيضا ، وكيفية الاستشفاء قراءة آية من القرآن على محل المرض ، على موضع المرض كما عالج الصحابة اللديغ ، اللديغ عالجوه بالقرآن ، ماذا فعلوا ؟ هل كتبوا ومحوا وسقوه الماء ؟
لا .
قرأوا فاتحة الكتاب أو آية الكرسي على اللديغ فقام يمشي ، إذن ، كيفية التداوي بالقرآن بالقراءة ، هذا هو الثابت ، والحديث الذي معنا يدل على ذلك . نعم .
مسألة الماء لا أعلم ، أنا قلت لكم قبل قليل يتوسع بعض مشايخنا فيقرأون القرآن أو يقرأون بعض الأدعية المأثورة على كوب من الماء فيسقون المريض ، هذا نحفظه من مشايخنا ولا نعلم سنة ثابتة بذلك ، لا أعلم ، أنفي علمي وقد يعلم غيري ، ولله أعلم ...
سائل عفا الله عني وعنه وعن الحاضرين متأثر لمناقشتنا الكثيرة للأشعرية ، فيقول : تناقش مع الأشعري في أثناء النقاش ، يقول : اذكر لي عالما واحدا لم يكن أشعريا من أيام أبي الحسن الأشعري وحتى أيام ابن تيمية رحمه الله وقال لي : إنك لن تجد ، وأمة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلال .(1/166)
شبهة خطيرة جدا على هذا السائل ، ثم يقول : الرجاء الإجابة والرد عليه ثم إرشادي على مجموعة من الكتب التي تحدثت عن الأشاعرة والرد على شبهاتهم ، جزاك الله خيرا .
السائل جزاك الله خيرا ، الإجابة غدا إن شاء الله لأن السؤال يحتاج إلى إجابة مشروحة طويلة ولم يبق إلا دقائق ، غدا إن شاء الله نترك وقتا كافيا للإجابة على هذا السؤال وهي شبهة قد يتعلق بها من لا يعرف تاريخ الدعوة أو تاريخ العقيدة الإسلامية .(1/167)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلسين )
( من الوجه الثاني من الشريط السادس إلى الوجه الثاني من الشريط السابع )
الشريط السادس ( الوجه الثاني ):
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين .
قال شيخ الإسلام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام أوحد عصره وفريد دهره ناصر السنة وقامع البدعة تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين ابن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه (( الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد : فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس : من الكلام في ( التوحيد ) ( والصفات ) وفي ( الشرع ) ( والقدر ) لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين ، وكثرة الاضطراب فيهما ، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة ، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات ، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات ))
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم والرسول الأمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين الطاهرين .
أما بعد :(2/1)
فنواصل درسنا بتوفيق الله تعالى في مبحث الإيمان وهذا الكتاب الذي نبدأ فيه اليوم : الرسالة التدمرية ، موضوعها التوفيق بين الشرع والقدر ، وأنه لا معارضة بين الشرع والقدر ، هذا خلاصة ما يبحث في هذا الكتاب .
وأما هذه الترجمة التي سمعتموها هي ليست من المؤلف قطعا وإنما إما من بعض تلاميذه وأحبابه أو من المحقق ، والترجمة كما سمعتم فيها الثناء على هذا الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو ليس بحاجة إلى الترجمة ، وقوله في آخر الترجمة ( رضي الله عنه وأرضاه ) قد يتوقف فيه بعض الناس لأن هذه العبارة في اصطلاح أهل العلم غالبا إنما هي للصحابة ، الترضي للصحابة في الغالب الكثير عند أهل العلم ، ومن دون الصحابة يقال فيه رحمه الله ، وفي الصحابة يقال رضي الله عنه ، وفي الأنبياء كما هو معلوم عليه الصلاة والسلام ، هذا اصطلاح ولكن هذا الاصطلاح لا يمنع طلب الرضا لمن دون الصحابة وطلب الرحمة للصحابة ، إذن هو مجرد اصطلاح لا يمنع استعمال ذلك في غير ما اصطلح عليه .
ثم بدأ الشيخ رحمه الله تعالى كتابه بخطبة الحاجة وهي معروفة لدى الجميع لا تحتاج إلى الشرح ، وبعد الخطبة قال الشيخ رحمه الله تعالى شيخ الإسلام ابن تيمية (أما بعد : فقد سألني من تعينت إجابتهم) كل من سألك وهو محتاج إلى ما سأل تتعين الإجابة على أهل العلم ، ليس من تعينت إجابتهم قوم مخصوصون ، ولكنه يعني قوما بحاجة إلى معرفة موضوع هذا الكتاب ، والموضوع كما سمعتم التوفيق بين القدر والشرع وأن قدر الله تعالى لا ينافي الشرع ، والشرع لا يعارض القدر ، ولا ينبغي للمسلم أن يعارض القدر بشرع الله تعالى لأن القدر سر من أسرار الله لا يُدرك ولا يُحاوَل كشفه ( القدر سر الله فلا نحاول كشف ) هكذا يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الصحابة ، المراد بالقدر :
علم الله السابق وكتابه السابق والقضاء والمشيئة العامة وتنفيذ ذلك على ما علم وقدر وكتب وقضى .(2/2)
هذه مراتب القدر ، وبالجملة يجب الإيمان بالقضاء والقدر كما هو معلوم لدى الجميع ، الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان ، ولكن ليس معنى الإيمان بالقضاء والقدر الخوض في أسرار القدر بل أن يعلم العبد أن ما أصابه في علم الله وفي كتابه السابق لا يخطئه ، وما أخطأه هناك أي ما لم يكتب عليه ، ولم يعلم الله بأنه يصاب بذلك لا يصيبه ، ما أصابه لا يخطئه وما أخطأه لا يصيبه ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، هذا المقدار من الإيمان يكفي في باب القضاء والقدر ، أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان أي وقع وحصل وتحقق ولا محالة ، (كان) تامة ، وما لم يشأ لم يكن ، ما لم يشأ الله ولم يعلم وقوعه ولم يكتب ولم يقدر لا يقع ولا يقع في ملكه إلا ما يشاء من خير أو شر ، هذا المقدار يكفي في باب الإيمان بالقضاء والقدر ، أما الخوض في ذلك ، لم فعل هذا ؟ لم أغنى فلانا ؟ وأفقر فلانا ورزق فلانا وحرم فلانا ؟ وغير ذلك هذه الأسئلة لا توجه ، هذا السؤال والبحث عن حقيقة كنه القدر هذا الذي لا يجوز وهو سر القدر .
والشرع واضح والعبد مطالب بالشرع ، أي بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، لأن الله خلقه وخلق له القدرة وخلق له الإرادة وخلق له الاختيار يفعل ما يفعل بقدرته وإرادته واختياره ، كل ذلك مخلوق لله ، هو مخلوق لله وقدرته مخلوقة وإرادته مخلوقة واختياره مخلوق ، لذلك ما يفعل العباد يضاف إليهم إضافة المسبَّب إلى السبب لأن العبد هو السبب وهو الفاعل ، وتضاف هذه إلى الله تعالى إضافة المخلوق إلى الخالق لأن الله خلقه وخلق له القدرة ومكنه من العمل ، هكذا تضاف الأعمال إضافتين ، وكل من الإضافتين إضافة حقيقية هذا معنى التوفيق بين القدر وبين الشرع .(2/3)
(فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس ) من عادة الشيخ الاشتغال بالتدريس دائما ، أعماله تدريس وفتوى وجهاد ، وليس من عادته رحمه الله الخطب على المنابر ، لم تجر له عادة بهذا، ولكنه دائما مع المجتمع ، يدرس ويفتي وإذا دعا داعي الجهاد خرج وجاهد بنفسه كما حصل ذلك في أيام التتر .
(ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر ) التوحيد توحيد العبادة وتوحيد الربوبية حيث ذكر الصفات ، لأن أقسام التوحيد كما هو معلوم ثلاثة : توحيد العبادة وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات ، طالما ذكر الصفات إذن المراد بالتوحيد توحيد الربوبية وتوحيد العبادة ، وتوحيد العبادة هو الأصل لأنه هو محل النزاع ، وتوحيد الربوبية لم يكن محل نزاع قط بين الرسل وأممهم وبين الدعاة المصلحين وأقوامهم بل توحيد الربوبية محل إجماع يؤمن به حتى الكفار ، معنى توحيد الربوبية : إفراد الله تعالى في ربوبيته والإيمان بأنه وحده هو الخالق الرازق المعطي المانع النافع الضار ، هذا المعنى يسمى توحيد الربوبية ، إفراد الله تعالى في ربوبيته أي بأفعاله وهو شيء يؤمن به كل مخلوق من كافر ومؤمن ، لم يكن محل نزاع قط .(2/4)
ولكن التوحيد المهم الذي هو محل نزاع دائما وأبدا في ما مضى وفي الوقت الحاضر هو توحيد العبادة ، إفراد الله تعالى بأفعال العباد ، إفراد الله تعالى بالدعاء والاستغاثة والنذر وتقديم القربات كما أفردتَ بالصلاة والصيام والزكاة ، ليست العبادة كما يتبادر إلى أهان العوام هذه الشعائر المعلومة من صلاة وصيام وزكاة وحج بل العبادة أصلها غاية الذل مع غاية الحب ، أن تتذلل لربك وتخضع له ، وتحبه أكثر من كل شيء من قلبك محبة تترجم عندما يتعارض هواك وأوامر الله ، حتى تستطيع أن تقدم أوامر الله على هواك ، وأوامر غيره ، محبة لا تلتفت معها إلى سواه بقلبك هذه حقيقة العبادة ، تنبعث جميع أنواع العبادات من هذا المعنى : الدعاء والاستغاثة والذكر والرغبة والرهبة ، كل ذلك كل هذه الأنواع التي عددها أهل العلم تنبعث من المحبة الصادقة والخضوع والتذلل الصادق لله سبحانه وتعالى .
(الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين ) تحقيق الكلام في الشرع وتحقيق الكلام في القدر .
(وكثرة الاضطراب فيهما) خصوصا في باب القدر كثر الاضطراب ، قدرية تنفي القدر ، وجبرية يغلون في القدر ، وأهل السنة والجماعة وسط بينهما ، القدرية من أقدم الطوائف التي ظهرت، ظهرت في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثلاث طوائف أو ثلاث فرق :
- الخوارج .
- والشيعة .
- والقدرية .(2/5)
وتتابعت بعد ذلك الفرق ليصدق قوله صلى الله عليه وسلم ( إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) تصديقا لهذا الخبر من عهد علي رضي الله عنه إلى وقتنا هذا كثرت الفرق وأصول هذه الفرق لا تزيد على ثلاث وسبعين فرقة ليصدق كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ولكن كل فرقة تتفرق وتتفرع منها فروع إلى عشرة إلى عشرين إلى أكثر إلى أقل حتى تستغرب عندما تقرأ في كتب الفرق والملل والنحل كثره هذه الفرق مع انتسابها كلها إلى الملة الإسلامية ، لا تستغرب ذلك لأنها فروع ولكن الأصول لا تزيد على هذا العدد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، والاضطراب كثير ومستمر .
( فإنهما ) أي هذين الأصلين (مع حاجة كل أحد إليهما ، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة ، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ) الذين يشتغلون بالنظر والتفكر والاعتبار ، والذين يشتغلون بالعلم ، والذين يشتغلون بالعبادة والإرادة ، هؤلاء فرقة ، أو أهل الإرادة والعبادة هم شيء واحد ، ممكن أن يجعل أهل النظر والعلم أيضا ... وربما إذا أطلق أهل النظر يطلق على أهل المعقولات والعلم على أهل المنقولات ، أو يجمع بينهما ، وأهل الإرادة والعبادة المشتغلون بعبادة الله تعالى والذين يقسمون أوقاتهم بين المحاسبة محاسبة النفس وبين العبادة هؤلاء كلهم (لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال) إما خواطر شيطانية أو أقوال ...
الشريط السابع :(2/6)
إما خواطر شيطانية أو أقوال أهل العلم وأهل الكلام واختلاف الناس (ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال) الذين يبينون الهدى من الضلال هم العلماء لأنهم ورثة الأنبياء ، المراد بالعلماء : العلماء بالعلم الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنواع العلم كثير ولكن في هذا المقام المراد بالعلم : العلم الشرعي ، العلم الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الذي يعالج هذه المشاكل ويحل المشكلات ويطمئن العباد في السير على الخط المستقيم .
(ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات ) وإنما قال " وبالباطل تارات " لأن أصحاب الباطل كثروا من يوم أن ظهرت الجهمية والمعتزلة وأُيِّدَ مذهب المعتزلة في عهد العباسيين ثم كثرت الفرق كالأشعرية والماتريدية ووحدة الوجود والحلولية ، هؤلاء كلهم لهم أقوال ولذلك قال (لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق) أهل الحق وأهل العلم خاضوا بالحق لبيان الحق ولرد الشبه ولا بد لهم من الخوض وكثرت الكلام في هذا الباب وخصوصا بعدما ظهرت الفتن والأهواء ، وأوقع الناس في الشك في باب القضاء والقدر لابد من الخوض في ذلك والكتابات ، كتبت كتابات من أهل الحق هي عبارة عن الدفاع عن الشرع والقدر ، وبمقابل ذلك كثرت أقوال أهل الباطل ، أقوال المعتزلة أقوال القدرية وأقوال الملاحدة ووحدة الوجود والحلوليين وغيرهم ، هذا هو السر في قوله رحمه الله (وبالباطل تارات )(2/7)
(وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات) وبالفعل كثرت الشبه فأوقعت كثيرا من الناس في أنواع الضلالات ولا تزال هذه الشبه مستمرة وتورَد على القلوب ، فبدأت تظهر في كتب تكتب وتدرس على شباب المسلمين في الجامعات الإسلامية الكثيرة المنتشرة في العالم ، كتب تحمل هذه الشبه ، كتب تحمل عقيدة الجبرية ، كتب تحمل عقيدة المعتزلة ، كتب تدعو إلى الوحدة ومحاربة الاثنينية بدعوى أن الكون كله شيء واحد لا فرق بين العبد وبين الرب وبين الخالق والمخلوق ، الكل من عين واحدة ، كثر هذا في باب التصوف وباب السلوك ، وكثر القول وشبه القدرية والجبرية إلى أن دخلت منطقتنا هذه التي كانت محفوظة ولا تعرف هذه الشبه ، ولكنها اليوم دخلت في بعض جامعاتنا وكلياتنا إذ بدأ يقرر بعضهم عقدية الجبرية من حيث لا يشعر الشباب ، حيث يقال لهم إن الفاعل الحقيقي هو الله والعبد لا يفعل ، ليس له فعل ، فنسبة الفعل إلى العبد نسبة مجازية كما ينسب إلى بعض الجمادات بعضُ الأعمال كأن تقول (سال الوادي ونزل المطر) لا فرق بين هذه النسبة وبين قولك ( صلى المصلي وصام الصائم ) هكذا يقرر الآن في بعض الكليات وبعض الجامعات ، هذه من الشبه ، وفي الواقع إن العبد يفعل فعلا حقيقيا ، مختار في فعله ويعمل كل ما يعمل بإرادته وقدرته من خير أو شر ، لذلك إذا فعل الشر أوخذ عليه وإذا فعل الخير يثاب على ذلك ، العبد فاعل حقيقة والله سبحانه وتعالى خالقه وخالق أفعاله ، هذه شبهة ، وهي شبهة غامضة دخلت على بعض شبابنا فلينتبهوا ، هذه الشبه من الأشياء التي أثارت شيخ الإسلام ليكتب مثل هذا الكتاب لأنها بدأت تنتشر في وقته وهو ظهر في دمشق في القرن السابع والثامن بعد أن اجتمعت أصحاب الأهواء وعلم الكلام والمتصوفة والملاحدة اجتمعوا جميعا فظهر فجاهدهم جميعا وألف في الرد عليهم ، له ردود على المناطقة وله ردود على الفلاسفة وله ردود على الصوفية وله ردود على(2/8)
علماء الكلام على المعتزلة على الأشاعرة والجهمية وغيرهم لأن هذه الفرق كلها كانت مجتمعة في عهد العباسيين وتوسع وجودها وظهورها في الوقت الذي ظهر فيه ، وهذا الكتاب من الكتب التي ألفت في ذلك الوقت لرد هذه الشبه . نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات ، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض نفيا وإثباتا .
والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب ، وبين الحب والبغض والحض والمنع . حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان ، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان : خبر وإنشاء ، والخبر دائر بين النفي والإثبات ، والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة )).(2/9)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ( فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات ) وخصوصا في توحيد العبادة الكلام يشتمل على النفي والإثبات ، وكلمة التوحيد نفسها كما ترون مشتملة على النفي والإثبات ( لا إله ) نفي و( إلا الله ) إثبات ، وإن شئت قلت إن الكلمة تشتمل على الكفر والإيمان ، والتوحيد توحيد العبادة لابد فيه من الكفر والإيمان " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " هذه الآية خير تفسير لكلمة التوحيد ، لا تجد تفسيرا أوضح من هذه الآية لـ ( لا إله إلا الله ) حتى من حيث الأسلوب تجد تقديم الكفر على الإيمان لا بد أولا من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، ولو آمن المرء بالله ووحّده بالعبادة لكنه لم يكفر بالطاغوت في أي نوع من أنواع العبادات إما في شعائر العبادة كالدعاء والاستغاثة والنذر أو في توحيد الحاكمية ، ولو آمن العبد ووحد الله في توحيد العبادة في شعائر العبادة ولكن لم يوحد الله سبحانه وتعالى في حاكميته ما قُبل منه توحيد العبادة بل لا بد أن تكفر بالطاغوت الكفر الشامل في جميع الأبواب ، وتؤمن بالله الإيمان الكامل الذي لا يتجزأ ، ومن يعبد الله وحده لا يستغيث إلا بالله لا يدعو غير الله نذره لله والتقرب إلى الله بأنواع العبادات المعروفة لكن يتحاكم إلى الطاغوت ما نفعه هذا الإيمان ، لا بد من الكفر بالطاغوت في جميع الأبواب أي : من يتحاكم إلى غير ما أنزل الله ما نفعه توحيد العبادة بل لا بد من الكفر بالطاغوت في جميع الأبواب ، هذا معنى ( باب التوحيد دائر بين النفي والإثبات ) بل بين الكفر والإيمان لا بد من الجمع بين الكفر والإيمان كما هو ظاهر من هذه الآية وظاهر من قولك ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ) .(2/10)
وهذا النفي والإثبات ليس خاصا بالجزء الأول من كلمة التوحيد بل يشمل الجزء الثاني أيضا ( محمد رسول الله ) ذلك بأن تجرد الطاعة والمتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام بحيث لا تعبد الله إلا بما جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، لا تجعل معه مطاعا آخر طاعة كطاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فرسول الله له الطاعة المطلقة غير مقيدة كما أن طاعة الله تعالى غير مقيدة كذلك طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام غير مقيدة ، وطاعة غيره مقيدة ، هذه نقطة مهمة يجب أن يفهم طلاب العلم ، طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام طاعة مطلقة لذلك يجب أن يطاع وحده الطاعة المطلقة ، لا يطاع معه أحد من خلق الله الطاعة المطلقة ، يؤخذ ذلك من قوله تعالى " أطيعوا وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قال الله تعالى " وأطيعوا الرسول " أعاد الفعل مع طاعة الرسول " أطيعوا الله " ولم يقل " أطيعوا الله ورسوله " في هذه الآية بالذات بل قال " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " إعادة الفعل يدل على أن طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام طاعة مطلقة بمعنى : إذا جاءك أمر من رسول الله عليه الصلاة والسلام أو نهي لا ينبغي أن توقف الامتثال على وجود ذلك في الكتاب ، لا تبحث في كتاب الله تعالى إذا جاءك أمر من رسول الله أو نهي من رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن الله شهد له أنه " لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " إذن إذا أمرك بشيء أو نهاك عن شيء أو حرم عليك شيئا أو أوجب عليك شيئا وجبت الطاعة الطاعةَ المطلقة .(2/11)
لمّا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الأهلية أطاع الصحابة ، أطاعوه طاعة مطلقة وإن لم يكن ذلك موجودا في كتاب الله ، تحريم الحمر الأهلية مما جاءت به السنة وحدها ، كذلك لما نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام من الجمع بين المرأة وخالتها وبين المرأة وعمتها أطاعوه ، ولا يزال المسلمون يطيعون ويطبقون ذلك ، الله إنما حرم الجمع بين المرأة وأختها " وأن تجمعوا بين الأختين " هذا الذي حرم الله لكن الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها مما جاء في السنة ، له الطاعة المطلقة هنا كما أطعنا الله في تحريم الجمع بين الأختين نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الجمع بين المرأة وخالتها وعمتها ، هذا مثال والأمثلة كثيرة .
كذلك في باب الأسماء والصفات وردت صفات ثابتة بالسنة ولم يأت ذكرها في الكتاب أساسا مطلقا ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن " أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه الفرح ، بأنه يفرح ، وبأنه يعجب ، وبأنه يضحك ، كل ذلك ورد في السنة دون الكتاب فيجب الإثبات .
فإذا جاءت الصفات في السنة موافقة لما في الكتاب يقال هذه سنة موافقة ومؤيدة .
فإذا جاءت الأحكام أو جاءت الصفات في السنة وحدها يقال هذه سنة مؤسسة ومؤصلة .
وإن جاءت السنة لتبين ما أجْمِل في الكتاب كأحكام الصلاة والصيام والحج وغير ذلك يقال إن هذه سنة مفسرة ومبينة .
هذه أقسام السنة في هذا الباب . لذلك يجب أن يطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده الطاعة المطلقة دون غيره من بني آدم .(2/12)
(والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض ) من الإيمان أن ترضى بقدر الله مره وحلوه وأن لا تكره ذلك ، يقابل الرضا والمحبة والاستسلام الكراهة والبغض وذلك كفر ، كذلك في باب الشرع الله سبحانه تعالى عليم حكيم ما شرع التشريعات إلا لحكمه يجب أن ترضى وتقبل شرع الله تعالى كما تحب وترضى وتقبل قدر الله على حد سواء ، ولا تعارض قدر الله بشرع الله ولا تخاصم الله في قدره بشرعه بل ترضى هذا وذلك .
(نفيا وإثباتا) كما مثلنا ، إثباتا في وجوب المحبة والرضا ونفيا في تحريم الكراهة والبغض .
يقول الشيخ (والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب ) أي أمر فطري وبديهي ولا يحتاج إلى الشرح .
(وبين الحب والبغض والحض والمنع . حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان) .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه .
***
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه ، ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما " هل تعلم له سميا " مثيلا أو شبيها .
وقال تعالى " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد "
وقال تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "
وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله "(2/13)
وقال تعالى " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم "
وقال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك "
وقال تعالى " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ،أم خلقنا الملائكة إناثا وهو شاهدون ،ألا إنهم من إفكهم ليقولون ،ولد الله وإنهم لكاذبون ،أصطفى البنات على البنين ،مالكم كيف تحكمون ،أفلا تذكرون ،أم لكم سلطان مبين ،فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ،وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ،سبحان الله عما يصفون ،إلا عباد الله المخلصين " إلى قوله " سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،وسلام على المرسلين ،والحمد لله رب العالمين "
فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه إذ هو سبحانه المتسحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات ))
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية: (والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل) بعث رسله جميعا ليس خاتم النبيين فقط (بإثبات مفصل ونفي مجمل) أي غالبا ، لا بد من هذا القيد وإلا قد يأتي النفي مفصلا أحيانا . (بإثبات مفصل ونفي مجمل) غالبا ، وإنما فُصِّل الإثبات لأنه ثناء على الله ولأنه الأصل ، الأصل الإثبات ، إثبات كمالات الله تعالى .
(فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل) فعُددت الصفات صفة صفةً في كتاب الله وتعداد الأسماء تعداد للصفات ، إذ قد تقدم أن أسماء الله تعالى هذه الكثيرة التي سردها الشيخ وغيرها ليست أعلاما مجردة ، ولكنها تدل دلالتين :(2/14)
- تدل على الذات ، وباعتبار دلالتها على الذات فهي أعلام .
- وتدل على الصفات ، وباعتبار دلالتها على الصفات فهي أوصاف .
أي : أسماء الله الحسنى أعلام وأوصاف .
لذلك قال (فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل) سواء كان ذلك في باب الأسماء والصفات وفي باب العبادة ، هذا شامل ، النفي المجمل يشمل نفي التمثيل والتشبيه في باب الأسماء والصفات وفي باب العبادة .
(كما قال تعالى " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ") هذا محل الشاهد " هل تعلم له سميا " هذا نفي مجمل .
(قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا يستحق مثل اسمه) ويستحق مثل عبادته ، الاستفهام إنكاري ، أي لا تعلم له سميا ، نظيرا يستحق مثل اسمه ومثل عبادته ، هذا وجه الإجمال .
(ويقال مساميا يساميه) أي يشابهه .
(وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما " هل تعلم له سميا " مثيلا أو شبيها) شامل للبابين كما تقدم .
(وقال تعالى) في سورة الإخلاص (" لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ") هل هذا إجمال ؟ إجمال في النفي أو تفصيل ؟
هذا تفصيل ليس بإجمال ، ما جاء في هذه السورة من النفي تفصيل وليس بإجمال .
(وقال تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ") هذا إجمال " لا تجعلوا لله أندادا " نظراء وشركاء في باب الأسماء والصفات وفي باب العبادة .
(" ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) " يحبونهم " يحبون أندادهم كحبهم لله ، يثبت لهؤلاء محبتين :
- يحبون الأنداد .
- ويحبون الله .(2/15)
محبتهم مقسومة بين الله وبين الأنداد والشركاء ، لذلك قال (" والذين آمنوا أشد حبا لله ") لأن محبتهم خالصة لله وليست مقسومة ، لا يحبون مع الله غير الله وإن كان يحبون في الله ، هناك فرق بين الحب في الله والحب مع الله ، الحب مع الله شرك وشرك أكبر ، من أحب غير الله مع الله كما يحب الله فيطلب منه ما لا يُطلب إلا من الله ويستغيث به كما يستغيث بالله ويخضع له ويتذلل كما يتذلل لله ، هذا شرك في باب المحبة ، شرك أكبر .
أما الحب في الله فمن أعظم العبادات والقربات كأن تحب المرء لا تحبه إلا لله ، ظننت في شخص الصلاح والاستقامة فأحببته لله ، لم تحبه إلا لكونه يحب الله ولي من أولياء الله ، هذه محبة مطلوبة وقربة ، من أحب شخصا في الله وتبادل المحبة واجتمعا على ذلك وتفرقا على ذلك من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما هو معلوم ، إذن لابد من التفريق بين المحبتين .
ومعنى آخر للآية ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) كحب الموحدين الله ، محبتهم لأندادهم تشبه محبة الموحدين لرب العالمين (والذين آمنوا أشد حبا لله) لأن حبهم واقع موقعه ، أحبوا من يستحق المحبة : الخالق الرازق المتفضل ، فمحبتهم صادقة لذلك أشد .(2/16)
(" وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات) اخترعوا له بنين وبنات ( بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ) نفي مجمل (بديع السماوات والأرض) باعتبار هذا قد يقال إنه دخل فيه تفصيل ، إثبات مفصل ( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ") (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) الحاجة إلى الولد وإلى الصاحبة وإلى الشريك وإلى الوزير والمعين للحاجة والضعف ، فالله سبحانه وتعالى هو الغني ، الغِنى وصف ذاتي لله ، الغني الغِنى المطلق غنى ذاتيا ليس بحاجة إلى صاحبة أو ولد أو وزير أو معين ، كيف يكون له ولد ؟ وكيف تكون له صاحبة ؟ وكيف يكون له شريك أو معين أو وزير وهو الغني ؟ وإنما يحتاج المحتاجون إلى هؤلاء لضعفهم ليكمل لهم أو يقربهم من الكمال هؤلاء ، أما الغني الغِنى المطلق الذي الغِنى وصف ذاتي له ليس بحاجة إلى هؤلاء سبحانه .
(" تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ") نفي مجمل .(2/17)
(" فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ،أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ،ألا إنهم من إفكهم ليقولون ،ولد الله وإنهم لكاذبون) كل هذا نفي مجمل (أصطفى البنات على البنين ،مالكم كيف تحكمون) تقولون على الله بغير علم (أفلا تذكرون ،أم لكم سلطان مبين ،فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ،وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ،سبحان الله عما يصفون ،إلا عباد الله المخلصين " إلى قوله " سبحان ربك رب العزة عما يصفون ،وسلام على المرسلين ،والحمد لله رب العالمين " فسبح نفسه) أي قدس ونزه ( عما يصفه المفترون المشركون ) من الولد والصاحبة والشريك والند (وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك) ما قاله الأنبياء جميعا منزه من الإفك والشرك (وحمد نفسه إذ هو سبحانه المتسحق للحمد) وحده ، ولا يوجد من يحمد لذاته إلا الله وكل من يُحمد ويُشكر لا لذاته ولكن الذي يحمد لذاته المستحق للحمد والثناء والتمجيد لذاته هو الله وحده (بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات) ليس لله شريك في كل ذلك وإنما يُحَب ويُمْدَح ويثنى عليه ويشكر غيره تبعا لله لكونه يحب الله لكونه يطيع الله لكونه من أولياء الله ، حتى الرسل إنما يُحَبون ويُطاعون لأنهم أولياء الله ، ليس ذلك لذواتهم ، نعم .(2/18)
قال رحمه الله تعالى ((وأما الإثبات المفصل فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" الآية بكمالها ،وقوله "قل هو الله أحد ،الله الصمد" السورة وقوله "وهو العليم الحكيم""وهو العليم القدير""وهو السميع البصير""وهو العزيز الحكيم""وهو الغفور الرحيم ""وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد""هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ،هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير"
" وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وقوله " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين "الآية وقوله "رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه" وقوله "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه" وقوله " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون "وقوله " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " وقوله "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
وقوله "وكلم الله موسى تكليما " وقوله " وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا " وقوله "ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون " وقوله "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ،هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ،هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم "(2/19)
وإلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته ، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ))
قال الشيخ رحمه الله تعالى :
(وأما الإثبات المفصل فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته) أي ذكر وساق الشيخ هنا طائفة كبيرة من ذلك لا من باب الحصر ولكن من باب المثال ، لأن كمالات الله تعالى لا نهاية لها ، فأسماء الله تعالى لا تنحصر في عدد معين بل من أسماء الله تعالى ما لا يعلمه إلا الله ، ولكن ذُكرت طائفة كبيرة في كتاب الله تعالى من الأسماء الحسنى وهذه الأسماء كما تقدم تدل على الصفات ، هذه الأسماء فيما بينها متباينة أي : السميع غير البصير والعليم غير الحليم ، أي من حيث المعنى ، لكل اسم معنى ، بهذا الاعتبار فيما بينها النسبة مباينة وليست متحدة ، ليس معنى السميع هو معنى البصير ، وليس معنى العليم هو معنى الحليم مثلا .(2/20)
ولكن باعتبار الذات فهي مترادفة لأنها كلها لمسمى واحد ، أسماء لمسمى واحد ، تعتبر أسماء مترادفة باعتبار الذات ، وكلها ثناء ومدح لله سبحانه وتعالى تدل على الكمال لأنها من الأسماء الحسنى ، هكذا يفهم أهل العلم وأهل الإيمان ويعلمون أن هذه هي الطريقة الوحيدة المثلى في معرفة الله تعالى وفي باب العقيدة ، ولا يجوز اعتقاد أن هذه النصوص أن فيها نوع من الجفاف وأنها لا تؤدي الغرض في باب العقيدة ، هؤلاء محرومون حُرموا ذوق القرآن ، ولا يتذوق كلام الله ويتلذذ بتلاوة كتاب الله وبسرد مثل هذه الأسماء إلا من سلم له قلبه من الأمراض : من الزيغ والإلحاد ولانحراف ، والمنحرفون يرون أن العقيدة السليمة هي التي تدرس على طريقة أهل الكلام بقواعد ومقدمات ونتائج دون ذكر للآيات والأحاديث تلك الطريقة هي الطريقة المثلى عندهم لأنهم تعودوا عليها وتعودوها ولا يتذوقون بهذه الطريقة طريقة الرسل ، فهم يُعتَبرون مخالفين لطريقة الرسل وليسوا على طريقة الرسل .(2/21)
نشير هذه الإشارة لأن الكتب انتشرت ، ربما يقرأ بعض الشباب العقيدة الأشعرية التي بدأت الآن تغزو هذا المجتمع الذي كان بريئا وبعيدا من هذه العقيدة ، وكثرت الآن في المكتبات بعض كتب الأشاعرة : حاشية البيجوري على السنوسية تُبَاع ، وحاشية البيجوري على جوهرة التوحيد كذلك ، وحاشية الدسوقي على عقيدة العوام أو على أم البراهين كذلك ، وأم البراهين نفسها ، وهذه الكتب كنا نتحدث عنها غيابيا فإذا هي اليوم حاضرة في مكتباتنا وفي أيدي شبابنا الذين لم يتثبتوا بعد من دراسة العقيدة على منهج السلف ، وربما تقع هذه الكتب بأيديهم باسم كتب العقيدة فينخدعون ، لذلك ننبه هذا التنبيه فلينتبهوا فالكتب انتشرت ، وتلك الكتب مخالفة لطريقة الرسل هذه أي : أخْذ العقيدة من الكتاب والسنة هذه طريقة الرسل التي سار عليها سلفنا ولكن الطريقة التي سار عليها علماء الكلام التي من أجل الدفاع وبيان ما فيها من الانحراف والضلال ألفت هذه الكتب جاءت اليوم تنتشر ، فيصبح الآن وضعنا ذلك الوضع الذي ظهر فيه الإمام ابن تيمية وصدع بالحق وانتصر لمنهج السلف ودافع ، كتبه وكتب تلاميذه وكتب من قبله ككتب الإمام ابن حنبل كلها كتب دفاعية وإلا عقيدتنا كما ترون تؤخذ من الكتاب والسنة مباشرة وليس عند سلفنا كتب مؤلفة تسمى كتب العقيدة أو كتب التوحيد ، وإنما بدأ التأليف من عصر العباسيين بعد أن دخل علم الكلام في الإلهيات وأفسد على الناس العقيدة وشوش على الناس بدأ الأئمة يؤلفون كتبا دفاعية ككتاب الإمام أحمد في الرد على الجهمية وما ألفه هذا الإمام ابن تيمية تلك الكتب العظيمة الواسعة التي ناقش فيها جميع الطوائف ، كتب دفاعية وليست هي الأصل في العقيدة ، الأصل في العقيدة الكتاب والسنة كما ترون فليفهم هذا جيدا وبالله التوفيق . نعم .
اقرأ ما يحتاج إلى تعليق .(2/22)
قال شيخ الإسلام رحمه الله ((وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان ، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات ، فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات ))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد أن بين طريقة الرسل في هذا الباب (وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم) عن سبيل الرسل ، سبيل الرسل ومنهج الرسل ما سمعنا ، ليس من منهج الرسل ومن طريقة الرسل تلك الكتب التي تحمل هذه الألقاب الآن وتنتشر ، ويسمي المؤلفون (منهج الأنبياء) فهي بعيدة من منهج الأنبياء منهج الأنبياء هو هذا الذي سمعتموه : أخذ العقيدة من نصوص الكتاب والسنة ولا يعجز أحد من أصحاب الأقلام أن يؤلف كتابا ويسمي كتابه (منهج الأنبياء أو منهج الرسل أو طريقة الرسل) ليس الشأن كل الشأن بالاسم وإنما الشأن بالمسمى ، هل المسمى ينطبق عليه هذا الوصف أم لا ؟ بعض الكتب التي تحمل هذه الألقاب ثم تصف نصوص الكتاب والسنة بالجفاف بعيدة من منهج الرسل ومنهج الأنبياء فليعلم ذلك . بل هذه طريقة من زاغ التي سوف نسمع .(2/23)
(وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية) في الأصل المخالفون لطريقة الرسل هم الكفار بجميع أنواعهم ثم دخل معهم من الصابئة طائفة ، الصابئة ينقسمون إلى قسمين :
- موحدون .
- ومشركون .
المراد بالصابئة هنا الصابئة المشركون .
(والمتفلسفة والجهمية) الفلاسفة كلهم ليسوا على طريقة الرسل وهم كالكفار مثل الصابئة . وكذلك الجهمية .
الفلاسفة الناس اليوم يقسمون الفلاسفة إلى قسمين :
- فلاسفة يونانيون .
- والفلاسفة الإسلاميون .
وهذا التقسيم خطأ إلا إذا كان الغرض بيان الجنسيات ، الجنسيات لا تقدم ولا تؤخر ولكن لا فرق بين الفلاسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي والكندي الذي يعتز به بعضُ الكتّاب في هذا الوقت وبين الأولين من الفلاسفة اليونانيين ، لأن هؤلاء الإسلاميين إنما يذهبون مذهب الفلاسفة اليونانيين ، وهم يفضلون حكماءهم - يسمون علماءهم حكماء – يفضلون حكماءهم على الأنبياء ، لا يؤمنون بالأنبياء وما جاءت به الأنبياء ، إذن التفريق بين الفلاسفة وتقسيمهم إلى إسلاميين ويونانيين تقسيم شكلي ، إذا كان الغرض بيان جنسياتهم فمسلّم ، وإن كان الغرض بأنهم يختلفون في العقيدة ، لا ، عقيدتهم واحدة .(2/24)
الجهمية ، المراد بالجهمية أتباع الجهم بن صفوان وإن كان فيما بعد أتباع السلف توسعوا في إطلاق الجهمية على جميع النفاة حتى المأولة بما فيهم الأشاعرة إذا قيل فلان جهمي أي من النفاة أو من المأولة وإلا في الأصل الجهمية أتباع جهم بن صفوان ، جهم هذا أول ضلاله في باب الإيمان حيث عرف الإيمان بأنه المعرفة ، الإيمان عنده مجرد المعرفة ، من عرف الله فهو مؤمن سواء صدَّق أو لم يصدِّق ، تكلم بكلمة التوحيد أم لم يتكلم ، عمل أو لم يعمل ، طالما عرف فهو مؤمن ، فعنده فرعون مؤمن وأبو جهل مؤمن ، جميع الكفار لأنهم كلهم يعرفون الله وإنما كفروا به بعد المعرفة ، لذلك يقال إن جهما حكم على نفسه بالكفر من حيث لا يشعر حيث قال الكفر هو الجهل ، ولا يوجد أجهل منه بالله ، إذن حكم على نفسه بأنه كافر لذلك جهم وأتباعه على عقيدته الذين عرفوا الإيمان بهذا التعريف ثم وقعوا في الجبر فهم جهمية وجبرية ومرجئة ، هذه الجيمات كلها مجتمعة في جهم وأتباعه هؤلاء كفار ولا يُعَدّون من طوائف المسلمين التي افترقت إلى ثلاث وسبعين فرقة ، الجهمية غير داخلة في هذا العدد ، كذلك غلاة الروافض غير داخلين في هذا العدد ، خارجون ، غلاة الروافض الذين كذبوا خبر رسول الله عليه الصلاة والسلام وحكموا بالنار على من بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر وعمر حكموا عليهم أنهم صنمي أهل النار ورسول الله عليه الصلاة والسلام بشرهما بالجنة في أول من بشرهم ، الذين يعتقدون بأن هذا الكتاب الذي في أيدينا كتاب الله ناقص ، والذين يزعمون أو لا يؤمنون ببراءة الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها ، هؤلاء غلاة الروافض كفار غير داخلين في الطوائف المذكورة هم والجهمية ، ومن عداهم من الطوائف أي من الشيعة العادية كالزيدية مثلا وطوائف علماء الكلام كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية هؤلاء داخلون في الطوائف المنتسبة والفرق المنتسبة إلى الإسلام على تفاوت بينهم في(2/25)
بدعهم ، فبدعهم قد تصل أحيانا ببعض أفرادهم إلى الكفر لكن بالجملة هذه الطوائف تعد من الفرق الإسلامية الداخلة في هذا العدد المذكور في الحديث ، أما الجهمية وغلاة الروافض بإجماع السلف غير داخلين في هذه الفرق .
(والقرامطة والباطنية) القرامطة الباطنية أو القرامطة والباطنية ، يجوز لأن الباطنية فِرَقٌ القرامطةُ منهم ، ومنهم الإسماعيلية ، ومنهم النصيرية ، هؤلاء كلهم من الباطنية .
الباطنية : كل من يجعل لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا ، يأولون حتى ظاهر الشريعة ، الشريعة نفسها مأوَّلة عند الباطنية من القرامطة والإسماعيلية والنصيرية ولا يُلتفت إلى الغطاء السياسي الذي يغطي هذه الطوائف ويجعلها تسير مع المسلمين ، هذا باب آخر ، في حقيقتهم ليسوا بمسلمين وهم أبعد من الإسلام من الجهمية لأن هؤلاء يؤلون حتى الشريعة ، الصلاة مأوَّلة ، الصيام مأوَّل ، والزكاة ، جميع هذه الأعمال مأولة عندهم ليست على ظاهرها ، ومن أراد معرفة التفاصيل يرجع إلى كتب الفرق .
(ونحوهم فإنهم على ضد ذلك) هؤلاء على ضد طريقة الأنبياء .
(يصفونه) سبحانه وتعالى ( بالصفات السلبية ) الصفات السلبية : كل صفة تقع في سياق النفي أو سياق النهي أو سياق الاستفهام الإنكاري ، طريقتهم التفصيل في السلب .
(ولا يثبتون) لله تعالى (إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل) وجود الله عندهم وجود ذهني وجود خيالي ذهني ، أما في الخارج في خارج الذهن لا وجود لله سبحانه وتعالى عندهم ، يظهر ذلك من الأمثلة الآتية .
(وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان) أي في خارج الأذهان .(2/26)
( فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل ) إنما ألزم غاية التعطيل وغاية التمثيل لأنهم (يمثلونه) أي يشبهونه (بالممتنعات) تشبيه الله تعالى بالممتنعات أشنع من تشبيهه بالموجودات وبالممكنات ، وهم يشبهونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ، يختلفون في ذلك ، من قال مثلا : ليس الله داخل العالم ولا خارج العالم ولا متصلا بالعالم ولا منفصلا عن العالم ، وهل يمكن أن يوصف العدم بأبلغ من هذا ؟ لو طلب من الإنسان أن يصف العدم ، ما هو العدم ؟ تقول العدم ما ليس داخلا في هذا العالم ولا خارجا منه ولا متصلا ولا منفصلا ، هذا عدم محض ، إذا وصفوا الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف شبهوه بالمعدومات بل بالممتنعات كما سيأتي التفصيل ، وقد تأثرت الأشعرية بهذه القاعدة الجهمية أو بهذه القاعدة الباطنية فوصفوا الله تعالى في نفي العلو والاستواء بما يشبه هذا ، وهذا الذي سوف أقوله موجود ، هذه العقيدة موجودة في الكتب التي وصفتها ، في السنوسية التي شرحها البيجوري في حاشيته المعروفة بحاشية البيجوري حيث يقول صاحب المتن في السنوسية : ليس الله فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ، كلام ، إذا لم يكن الله سبحانه وتعالى فوق العرش نترك جميع السلبيات ، أين يكون ؟ وهل هؤلاء آمنوا بالله ؟
لا .(2/27)
الإيمان بالله لا يتم حتى تؤمن بعلوه ، الإيمان بعلو الله تعالى من أوائل الإيمان بالله ، لذلك اختبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يعرف إيمانها هل هي مؤمنة أم لا ، اختبرها في صفة العلو قبل أن يختبرها في أي صفة من صفات الرب تعالى ، لأن علو الله تعالى – العلو خلاف الاستواء كما سيأتي – علو الله تعالى صفة ذاتية ، من لم يؤمن بأنه عليٌّ على جميع المخلوقات بذاته ليس مختلطا بخلقه وليس في ذات الله شي من مخلوقات الله وليس الله داخلا في أي شيء من مخلوقات الله بل هو بائن من جميع خلقه فوق جميع المخلوقات ، من لم يؤمن هذا الإيمان لم يعرف ربه ، لذلك لما سئل أحد أئمة السلف بم نعرف ربنا ؟
- لعله ابن المبارك – قال : نعرفه بأنه فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه ، هكذا تعرف الله ، من لم يعرف الله في علوه لم يعرف الله ، ماذا يقول من لم يؤمن بالعلو ؟ إما أنه يقول كما قال صاحب السنوسية ليس كذا ليس كذا وهذا نفي محض ، أو يقول إنه معنا بذاته مختلطا بنا ، وهذا وصفه بالسفول الوصف بالسفول نقص ، وصف بالنقص ، ومن انتقص الله كافر ، لذلك النافي للعلو كالمشبه عند سلف هذه الأمة كما أجمعوا على تكفير المشبه يجمعون أيضا على تكفير النافي لصفات الله تعالى ، من أبلغ الصفات التي نفاها المتأخرون من علماء الخلف صفة العلو ، وأكثر اضطرابهم في صفة العلو ، ثم في صفة الكلام ، هاتان ميزتان للأشاعرة المعاصرة ، فليسمعوا ، أكثر اضطراب الأشاعرة اليوم الموجودين الآن وكتبهم موجودة :
- في صفة العلو .
- وفي صفة الاستواء .
- وفي صفة الكلام .(2/28)
أما العلو فقد نفوا نفيا مطلقا وكذلك الاستواء ، العلو صفة ذاتية كما قلنا أما الاستواء فصفة فعلية ، الصفات الفعلية هي : الصفات التي تتجدد حسب مشيئة الرب سبحانه وتعالى ، الاستواء تجدد لأن الله أخبر عن نفسه أنه استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام بعد ذلك استوى على عرشه ، والعرش مخلوق من قبل ولكن لم يخبر الله بأنه خصه بالاستواء الخاص إلا بعد أن خلق السماوات والأرض وما بينهما ، الاستواء علو خاص بالعرش ، أما صفة العلو فعلو عام مطلق ، أي عال على جميع المخلوقات ، كيف هو في علوه وكيف هو في استوائه ؟ هذا علم استأثر الله به ولا يجوز السؤال عن كيفية الاستواء وكيفية العلو وكيفية الفرح وكيفية المجيء وكيفية النزول وكيفية سمعه وبصره على حد سواء ، الصفات تساق سوقا واحدا لا فرق بين الصفات الفعلية والصفات الذاتية ، إذا كان العلو صفة ذاتية والاستواء صفة فعلية والغضب والمحبة والرضا ... وأما الصفات الأخرى فخبرية تؤوَّل هذا ملخص عقيدة الأشاعرة ، الصفات التي تسمى بالصفات العقلية وهي صفات المعاني في زعمهم تثبت كما يليق بالله تعالى ، فيوافقون أهل السنة في إثباتها موافقة شكلية أي لا يثبتونها بالأدلة السمعية ولكن يثبتونها بالأدلة العقلية ، وأهل السنة والجماعة يثبتونها بالأدلة السمعية ويقولون إن العقل السليم لا يخالف النص الصحيح الصريح ، طريقة مريحة لا تكلف فيها ، وأما الأشاعرة فتكلفوا جدا أكثر مما تكلف من قبلهم من الذين بالغوا في النفي كالمعتزلة الذين نفوا الصفات وأراحوا خصومهم لأنهم لم يتلونوا وأما الأشاعرة فأتعبوا خصومهم وهم أهل السنة بالتلون بإثبات بعض الصفات وتأويل بعضها والقول في القرآن بأنه كلام الله حتى يخدعوا الناس وإذا استفسرت فإذا الكلام عندهم – أي كلام الله – الكلام النفسي ليس بهذا الكلام اللفظي ، لذلك نقول اضطرابهم في باب العلو وفي باب صفة الاستواء وفي صفة(2/29)
الكلام أشد من اضطرابهم وتحريفهم في الصفات الأخرى فليعلم ذلك .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(2/30)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( ثلاث مجالس )
( من الوجه الثاني للشريط السابع إلى الوجه الأول للشريط التاسع )
قال شيخ الإسلام رحمه الله (( فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه قديم أزلي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم ، فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم ))
الحمد لله رب العالمين .
وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد :
نواصل درسنا في مبحث الصفات في الرسالة التدمرية ، أهل السنة والجماعة وصفوا الله سبحانه تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا ولم ينقصوا ، وخالفهم في ذلك أهل البدع الذين خالفوا طريقة الرسل ، فتقدم ذكر بعض مذاهبهم .
قال المؤلف رحمه الله تعالى هنا ( فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين) غلاة أهل الكلام وهم الباطنية يسلبون عنه النقيضين ، النقيضان : لا يجتمعان ولا يرتفعان .
(فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل) الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه زعمهم بأنهم لو (وصفوه بالإثبات) لو قالوا هو عالم حي سميع بصير لو وصفوه بالإثبات في زعمهم ( شبهوه بالموجودات ) الموجودات التي توصف بالعلم والحياة والسمع والبصر .(3/1)
ولو (وصفوه بالنفي) قالوا ليس بعالم ولا حي ولا سميع ولا بصير ( شبهوه بالمعدومات ) فوجدوا في زعمهم الطريقة المثلى أن يسلبوا النقيضين كأن يرفعوا العلم والجهل معا ( وهذا ممتنع في بدائه العقول ) سلب النقيضين أو رفع النقيضين مستحيل ، النقيضان كما أنهما لا يجتمعان كذلك لا يرتفعان ، حتى في المخلوق ، المخلوق إما يكون حيا أو ميتا ، وإما عالم أو جاهل ، اجتماع النقيضين مستحيل وسلب النقيضين مستحيل .
(وحرفوا ما أنزل الله) تعالى (من الكتاب وما جاء به الرسول) صلى الله عليه وسلم ، حرفوا الكتاب والسنة اللذين فيهما إثبات صفات الله ونفي النقائص حيث يقول الرب سبحانه وتعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
ولما خالفوا طريقة الرسل وحرفوا الكتاب والسنة (وقعوا في شر مما فروا منه) فروا من أن يشبهوه بالموجودات أو يشبهوه بالمعدومات فوقعوا في تشبيهه سبحانه وتعالى بالممتنعات ، ووقعوا في شر مما فروا منه وهو التشبيه بالموجودات في زعمهم لو وصفوه بالموجودات ، أو تشبيهه بالمعدومات لو وصفوه بالنفي ، ولكن وقعوا فيما هو شر منه (فإنهم شبهوه بالممتنعات) عقلا التي لا وجود لها .
(إذ سلب النقيضين ) كالقول ليس بجاهل ولا عالم ولا حي ولا ميت ، هذا سلب النقيضين .
( كجمع النقيضين ) كالقول بأنه عالم جاهل ، حي ميت .
(كلاهما من الممتنعات ) الجمع بين النقيضين من الممتنعات ورفع النقيضين من الممتنعات ، الطريقة السليمة أن يوصف الرب سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه إذ لا يصف الله أعلم من الله ، أو يوصف بما وصف به رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام إذ لا يصف الله من خلقه أعلم من رسوله عليه الصلاة والسلام وأمينه على وحيه .
(وقد علم بالاضطرار) الاضطرار : العلم الضروري ، العلم الضروري هو العلم الذي لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك ، يفرض نفسه عليك .(3/2)
(أن الوجود لا بد له من موجد ) أو أن الموجود لا بد له من موجِد ، وأن المحدَث لا بد له من محدِث ، وأن المخلوق لا بد له من خالق ، هذا علم ضروري لو أراد الإنسان أن يتصور ضده ما استطاع .
وهذا الموجِد الذي يوجِد الموجود وهو الممكن ، يقال له ممكن ويقال له حادث ويقال له مخلوق ، الذي يوجد هذا الموجود المخلوق المحدَث الممكن الذي يجوز عليه الوجود والعدم يجب أن يكون واجبا (واجب) الوجود (بذاته) أي أن وجوده واجب لا بداية له ، لأنه لو كان لوجوده بداية صار مثل خلقه ، وهو القديم الذي لا بداية لقدمه ، الوصف بالقديم من باب الإخبار ليس أن القديم من أسمائه سبحانه ، باب الإخبار أوسع ، يُخبر عن الله سبحانه تعالى بما يؤدي المعنى الصحيح كالقول بأن الله صانع المصنوعات أي خالق المخلوقات ، ويقال إنه مريد وإنه قديم هذا من باب الإخبار .
إن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود ، معنى واجب الوجود بأن وجوده وجود ذاتي لم يوجد بعد أن لم يكن ولو كان كذلك صار مماثلا لخلقه ، ولكنه " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
(غني عما سواه قديم أزلي) بهذه الصفات يفارق الرب سبحانه وتعالى مخلوقاته لأن المخلوق ليس واجب الوجود ، ليس وجوده ذاتيا ، المخلوق فقير والخالق غني ، الغنى وصف ذاتي لله سبحانه وتعالى كما أن الوجود والقدرة والسمع والبصر هذه صفات ذاتية ، الغِنى كذلك .
(قديم أزلي ) ( أزلي ) تفسير لـ ( القديم ) قديم أزلي أي : لا بداية لوجوده .
(لا يجوز عليه الحدوث) لأنه الباقي بالبقاء الذي لا نهاية لبقائه .
(لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم) المعنى واحد .
(فوصفوه) الباطنية الذين هم الغلاة .
(فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم) لم يثبتوا له وجودا فضلا من أن يثبتوا له الوجوب والقدم ، بل وصفوه بما هو ممتنع عقلا وجوده وهو جمع النقيضين ، فجمع النقيضين كما تقدم مستحيل كما أن رفع النقيضين مستحيل .(3/3)
أما الضدان فلا يجتمعان وقد يرتفعان ، فرق بين النقيضين وبين الضدين ، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، لا بد أن يوجد أحدهما ويرتفع الآخر ، أما الضدان لا يجتمعان وقد يرتفعان كالألوان ، الألوان من قبيل الأضداد لا من قبيل النقيضين . نعم
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عن الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف ، فجعلوا العلم عين العالم ، مكابرة للقضايا البديهات ، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا للعلوم الضروريات ))
قال المؤلف رحمه الله تعالى (وقاربهم طائفة من الفلاسفة) هؤلاء كلهم مخالفون لطريقة الرسل ، إذا كانت الباطنية - باطنية الصوفية وباطنية الفلاسفة - وصفوا بسلب النقيضين قاربهم بعضُ الفلاسفة وهم أيضا من الباطنية باطنية الشيعة كابن سينا والفارابي والكندي ، هؤلاء هم الذين بعض الكتّاب يجعلونهم من المسلمين ، ابن سينا والفارابي والكندي يصفونهم بفلاسفة الإسلام ، ليس في الإسلام فلاسفة ، الفلاسفة اليونانيون والفلاسفة الذين يسمونهم فلاسفة الإسلام مذهبهم واحد ، الاختلاف في الجنس ، لا تأثير للاختلاف في الجنس المذهب واحد والملة واحدة ، هؤلاء قاربوا الباطنية الذين تقدم ذكرهم وهم الفلاسفة وأتباع الفلاسفة ، بعض علماء الكلام كالجهمية والمعتزلة قد يذهبون أحيانا مذهب الفلاسفة .
(فوصفوه بالسلوب والإضافات ) معا ، السلوب : الصفات التي تقع بعد النفي أو النهي أو الاستفهام ، الاستفهام الإنكاري خصوصا .(3/4)
والإضافات الصفات الإضافية هي التي يتوقف تصورها على تصور غيرها ، الصفة التي يتوقف تصورها على تصور غيرها ، في غير باب الصفات كالأبوة والبنوة ، تصور الأبوة يتوقف على تصور البنوة ، كذلك تصور البنوة يتوقف على تصور الأبوة ، مثل هذا يسمونه الصفات الإضافية ، إذا لم يدخل النفي عليها تعتبر إضافية ، فإذا دخل النفي عليها سلبية وإضافية ، كقولهم ( ليس فوق العالم أو ليس فوق العرش ولا تحت العرش ) وأنتم تلاحظون هذه الصفة دخلت على الأشاعرة وهي في الأصل للفلاسفة غير المسلمين ، لكنها دخلت خصوصا في باب العلو والاستواء دخلت هذه الصفة على الأشاعرة الذين هم من أقرب طوائف الكلام إلى منهج السلف ، لكن للأسف هنا ذهبوا مذهب الفلاسفة الذين هم أبعد الناس عن طريقة ومنهج الأنبياء ، حيث قالوا ( ليس الله فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره ) معنى ذلك العدم ، ليس بموجود ، ليس هناك رب يُدعى من فوق ويُقصد من فوق ويُخاف من فوق ، هذا نفي محض .(3/5)
هذه الطريقة ليست طريقة الأشاعرة في الأصل ولكنها طريقة الفلاسفة أي (وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات ) لم تذهب الأشاعرة في جميع الصفات مذهب الفلاسفة ، ولكن في صفة نفي العلو مبالغة منهم في نفي علو الله تعالى ، ومن شدة المبالغة حرَّموا حتى الإشارة ، الإشارة الحسية إلى الله هكذا ، علما بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بهذا الدين وبهذه العقيدة أشار إلى الله يوم عرفة في حجة الوداع لما خطب خطبته المشهورة ، في آخر الخطبة قال للصحابة " أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون " أي مسئولون عني أمام الله ، قالوا " نشهد بأنك بلّغت ونصحت " قال النبي صلى الله عليه وسلم هكذا " اللهم اشهد اللهم اشهد " يرفع الإصبع إلى الله فيخاطبه " اللهم " ويُشهده عليهم أنهم شهدوا له بأنه نصح وبلّغ الرسالة ونصح لأمته ، ولا يجوز بعد هذه الإشارة الصريحة أن يَعتقد مسلم بأنه لا تجوز الإشارة الحسية إلى الله ، وربما بالغ بعضهم حكموا بوجوب قطع الإصبع التي تشير إلى الله ، وقعوا في حكم خطير لأنهم أصدروا الحكم على إصبع رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل غيره ، لأنه هو الذي أشار ، لذلك ينبغي التنبه لهذا ، وهذه من المسائل البديهيات التي يعتقدها كل مسلم ، كل مسلم يعتقد بأن الله يُدعى من فوق ، وإلا فما معنى إشارة ورفع اليدين من الداعي سواء كان عربيا أو عجميا ..
الشريط الثامن :(3/6)
لأنه هو الذي أشار ، لذلك ينبغي التنبه لهذا ، وهذه من المسائل البديهيات التي يعتقدها كل مسلم ، كل مسلم يعتقد بأن الله يُدعى من فوق ، وإلا فما معنى إشارة ورفع اليدين من الداعي سواء كان عربيا أو عجميا متعلما أو عاميا كل من يريد أن يتضرع إلى الله يرفع يديه إلى الله ، لماذا ؟ بل يلتفت ضميره إلى الله إلى فوق قبل أن يرفع يديه ، مسألة فطرية ، يدرك المرء بالفطرة ما لم تتغير هذه الفطرة ، وفي هذا المسجد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية أراد مولاها وهو أحد الصحابة أن يعتقها في مناسبة من المناسبات استشار هذا الصحابي رسول الله عليه الصلاة والسلام في عتقها في مناسبة مذكورة ومعروفة ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف إيمانها قبل العتق فطلبها وسألها سؤالين اثنين قال لها أين الله ؟ وكلمة ( أين الله ) عند الأشاعرة الآن تركها من كمال الإيمان ، عند الأشاعرة لا يتم إيمان المرء حتى يرك أربع كلمات :
- أين .
- وكيف .
- ومتى .
- وكم .
خلطوا خلطا ، النبي عليه الصلاة والسلام كما تقرر أنه أول من أشار الإشارة الحسية كذلك هو أول من سأل بهذا السؤال ( أين الله ) سأل من ؟
سأل جارية عامية غير متعلمة ، ولكنها باقية على فطرتها ، لم تجلس أمام مدرِّس شوَّه عليها فطرتها أو سعى في تغييرها ، بقيت على فطرتها ، لذلك لما قال لها النبي عليه الصلاة والسلام ( أين الله ؟) قالت ( في السماء ) .
وسألها السؤال الثاني ( من أنا ؟ ) قالت ( أنت رسول الله ) عليه الصلاة والسلام فشهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان فقال ( اعتقها فإنها مؤمنة ) .
وهل يجوز بعد هذا أن يقال : لا يجوز السؤال عن الله بـ ( أين ) ويجعلون ( أين ) كـ ( كيف ، ومتى ، وكم ) ؟
لا .(3/7)
صحيح ، لا يجوز السؤال عن الله بـ ( كيف ) كيف هو ؟ وكيف سمعه ؟ وكيف بصره ؟ وكيف نزوله ؟ لا يجوز ، لو سئلت هذا السؤال الجواب معروف جواب الإمام مالك عندما سئل " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟ جوابه هناك هو الجواب لكل من يسأل بـ ( كيف ) عن الله وعن صفاته ، كما أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب ، كذلك إذا قيل لك كيف نزوله ؟ وكيف سمعه ؟ وكيف بصره ؟ وكيف مجيئه يوم القيامة ؟ الجواب هو الجواب .
ولا يجوز السؤال عن الله بـ ( متى ) أي : متى وجد ؟ بل هو الأول الذي لأوليته بداية ، وهو الآخر الذي ليس لآخريته نهاية .
( أين وكيف ومتى وكم ) لو سئلت ( كم ) والأسئلة خصوصا هذه الأيام كثيرة والناس صارت تسأل عن كل شيء ، لو قال لك إنسان ( كم ) ولو كان من باب التشكيك الجواب : " قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد " هذه الإجابة على كل سؤال يرد عليك .
قال المؤلف رحمه الله تعالى وهو يصف مذهب ابن سينا وأتباعه من باطنية الشيعة وغيرهم (وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات) الله سبحانه وتعالى جمع في هذه الآية بين السلب والإثبات " ليس كمثله شيء " سلب ونفي " وهو السميع البصير" إثبات ، لا بد من الجمع بينهما .(3/8)
(وجعلوه هو الوجود المطلق) جعلوا الرب سبحانه وتعالى هو الوجود المطلق (بشرط الإطلاق) أي بشرط لا يثبت له شيء من الصفات ، هذا معنى شرط الإطلاق ، بحيث لا يثبت له شيء من الصفات بل يوصف بالسلوب ، تلك السلوب لو استعملت في المخلوق لاستنكر من يسمع ، كقولهم ( ليس بذي طول ولا بذي قِصَر ولا دم ولا روح ) إلى آخره ، إذا أردت أن تطلع على هذه السلوب عليك بمقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ، سلوب يقشعر جلد المسلم عند سردها ، كيف يوصف الرب سبحانه وتعالى بتلك السلوب التي ليس معها إثبات ، لو استعملت في حق مخلوق لو قال إنسان لعظيم من العظماء وسلطان من السلاطين ( أنت سلطان عظيم لست ببقال ولا نجار ولا سباك ) إلى آخره ما كان مدحا ولكنه سخرية ، لذلك لا ينبغي الإسراف في السلوب دون إثبات الصفات .
(وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن) الذي يوصف بهذه السلوب لا يكون إلا في الذهن (لا فيما خرج عنه من الموجودات) الموجود لا يوصف بهذه السلوب لا يقال في الموجود ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا متصلا بالعالم ولا منفصلا ، الذي يوصف بهذه السلوب غير موجود ، ولكن وصفوا واجب الوجود بهذه السلوب .
مرة ثانية (جعلوا الصفة هي الموصوف) جعلوا الصفة عين الموصوف أي لا فرق بين الصفة وبين الموصوف ، فسر ذلك بقوله (فجعلوا العلم عين العالم) العلم صفة للعالم ليست عين العالم ولكنهم جعلوا العلم عين العالم .
(مكابرة للقضايا البديهيات) هذه من الأمور البديهيات التي تدرك بدون تفسير ، الأمر البديهي الذي يدرك الإنسان كما يقولون بطرف العقل أي بدون تفسير ولا تأمل ، بدون أن تفكر تدرك أن العالم غير العلم .
مرة ثالثة (جعلوا هذه الصفة هي الأخرى)
– اجعل رقم واحد عند قوله (وجعلوا الصفة هي الموصوف) .
– وعند قوله (وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى) رقم ثلاثة .(3/9)
– أين الأول ؟ (وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن) يعني الوصف بالسلوب ، الخطأ الثاني جعلوا الصفة هي الموصوف ، الثالث جعلوا هذه الصفة هي الأخرى .
(فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة) العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر شيء واحد (جحدا للعلوم الضروريات) العلم الضروري والعلم البديهي بمعنى واحد ، فضروري يدرك الإنسان بالضرورة وبدون تفكير وبدون حاجة إلى الدليل بأن العلم غير القدرة وأن السمع غير البصر ، نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات ، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات ، ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات.
والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات ))(3/10)
قال المؤلف رحمه الله تعالى (وقاربهم) قارب الفلاسفة (طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم) المعتزلة أتباع واصل بن عطاء ، ظهر واصل هذا كان تلميذا للحسن البصري في المئة الثانية يجلس في مجلسه ، فسئل الحسن سؤالا فبادر واصل فأجاب عن حكم صاحب الكبيرة ، سئل الحسن البصري رحمه الله عن حكم صاحب الكبيرة فبادر واصل فأجاب بأنه ليس بكافر ولا مسلم ، أي في منزلة بين المنزلتين ، واستنكر الحسن ، ولما أجاب بهذا الجواب قام من المجلس وانعزل في مكان آخر في داخل المسجد واجتمع عليه من أعجبه هذا الجواب فأصبح معتزليا اعتزل مجلس أهل السنة واعتزل عقيدتهم ومنهجهم ، الأصل اعتزال المجلس ثم أطلق عليهم معتزلة لأنهم اعتزلوا أهل السنة والجماعة في هذه العقيدة فقعدوا لهم قواعد وأصلوا لهم أصولا ، لهم أصول خمسة ، قد يختلفون في داخل المذهب في بعض المسائل ، لأبي الهاشم مذهب وللنظّام مذهب ، وهناك مذاهب شتى ولكن الذي يجمع المعتزلة ويجب أن يعتقد تلك العقيدة حتى يصير معتزليا الأصول الخمسة :
- الأصل الأول : التوحيد ، بعد أن فسروا التوحيد تفسيرا آخر غير تفسير المسلمين ، التوحيد عندهم نفي الصفات .
- ثم العدل ، العدل عندهم وجوب العقاب ، يجب على الله سبحانه وتعالى أن يفعل الأصلح فالأصلح للعباد ، هذا العدل ، يعني يوجبون على الله إيجابا .
- الأصل الثالث : تنفيذ الوعيد ، كما أنه ينفذ الوعد " لا يخلف الميعاد " كذلك يجب عليه تنفيذ الوعيد بأن يدخل العصاة النار ومن دخل النار لا يخرج من النار .
- الأصل الرابع : المنزلة بين المنزلتين ، أي من ارتكب الكبيرة يخرج من الإسلام ولا يدخل في الكفر ، فيبقى في الدنيا في منزلة بين المنزلتين وهي منزلة وهمية لا وجود لها إلا في أذهان المعتزلة ، فإذا مات دخل النار خالدا مخلدا ، أي يوافقون الخوارج في أحكام الآخرة ويخالفونهم في أحكام الدنيا .(3/11)
- الأصل الخامس : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عندما يسمع الإنسان لأول وهلة أن المعتزلة يوجبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستغرب كيف يكون هذا أصلا من أصولهم ، هذا واجب المسلمين ، لكن اعرف تفسير ذلك ، تفسير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندهم الخروج على السلطة وقتالهم ، يوافقون في هذا الخوارج .
هذه أصولهم وهذه هي المعتزلة .
(ومن تبعهم) قد يتبعهم في هذا - ليس في هذه الأصول ولكن في بعض المعتقدات - قد تتبعهم الأشاعرة والماتريدية .
من عقيدتهم أن (يثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات) من أصل عقيدة المعتزلة إثبات أسماء جامدة كالأعلام الجامدة التي لا تدل على المعاني ، فمعاني الأسماء هي الصفات ، أي نفي الصفات وإثبات أسماء جامدة مجردة لا تدل على المعاني .
(فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات) المعنى واحد ، هذه أعلام مترادفة تدل على مسمى واحد ولكن لا معنى لها ، كما أن للأسد مثلا أسماء مترادفة : الأسد والليث والغضنفر ، هذه أسماء للأسد تدل على عين واحدة ، على المسمى الواحد ، لكن ليس لها معاني تدل عليها هذه الأعلام ، جعلوا أسماء الله تعالى بمثابة هذه الأسماء المترادفة ، الأعلام المترادفة .
(ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بلا سمع) إلى آخره ، اختلاف في اللفظ فقط وإلا المعنى واحد .(3/12)
(فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات) لهذا خالفوا الأشاعرة بالنسبة للصفات العقلية لأن الأشاعرة يثبتون الصفات العقلية التي أطلقوا عليها صفات المعاني والصفات المعنوية والصفة النفسية والصفات السلبية ، هذه صفات تثبتها الأشاعرة بالعقل لا بالنقل والنقل يذكر من باب الاعتضاد به والاستئناس به لا من باب الاعتماد عليه ، الاعتماد عندهم على الدليل العقلي ، بهذا خالفت الأشاعرة من أول الخط خالفوا أهل السنة أي حتى فيما أثبتوا ، أهل السنة يثبتون ما يثبتون بالأدلة النقلية ، الدليل النقلي أو السمعي أو الخبري هو الأصل عند أهل السنة والجماعة والعقل تبع للنقل ، العقل إن كان صريحا وسليما سوف لا يخالف النقل الصحيح ، إذن الاعتماد عند أهل السنة والجماعة على الدليل النقلي وعند الأشاعرة والماتريدية الذين هم كما قال من هو أعرف بهم هم أقرب إلى منهج أهل السنة والجماعة لكن العمدة عندهم الدليل العقلي حتى فيما أثبتوا ، وهم يثبتون هذه الصفات كما قلنا ولكن بالنسبة للصفات الخبرية المحضة كإثبات اليدين وإثبات الوجه والأصابع والقدم بالنسبة للصفات الذاتية الخبرية وإثبات النزول والاستواء والمجيء بالنسبة للصفات الخبرية الفعلية خالفوا أهل السنة مخالفة صريحة ، وهل نفوا كما نفت المعتزلة ؟
زعموا بأنهم لا ينفون ولكن يؤولون إلا أن ذلك التأويل يرجع في الحقيقة إلى النفي ، لأن من قال : الذي ينزل في آخر كل ليلة ليس الله ولكن ينزل أمره أو ينزل ملك أو تنزل رحمته سبحانه ، لم يثبت النزول ، والذي يقول : الذي يجيء يوم القيامة لفصل القضاء ليس الله ولكن يأتي أمره أو يأتي ملك ، لم يثبت المجيء ، إذن ما استفدنا شيئا من تأويلهم بل تأويلهم يؤول إلى النفي فيتفقون مع المعتزلة في الصفات الخبرية .(3/13)
قال شيخ الإسلام رحمه الله (والكلام على فساد مقالة هؤلاء) جميعا ( وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات) في عدة كتب ، بل لشيخ الإسلام كما تعلمون كتاب خاص في موافقة العقل والنقل ، وبحث كذلك في منهاج السنة وغيرهما من كتبه .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات ، وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من موجد كما قال تعالى " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون " فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم ، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره، فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى(3/14)
الاسم المطلق وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما. ))
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو يناقش ضلال أصحاب المذاهب المنحرفة في باب العقيدة (وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره) الذين يصفون الله سبحانه وتعالى بالسلوب أو يجمعون بين النقيضين أو يثبتون أسماء مجردة كالأعلام المحضة هؤلاء جميعا يفرون من شيء في زعمهم أي من التشبيه ومحاولين التنزيه ويقعون في نظريه ، أي في تشبيه مثل الذي فروا منه بل (في شر منه) قد يفرون من التشبيه بالموجود ويقعون في التشبيه بالمعدوم ، وقد يفرون منهما جميعا فيقعون في التشبيه بالممتنعات .
(مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل) جمعوا بين السيئتين تحريف النصوص وتعطيل معانيها ثم الوقوع في تشبيه الرب سبحانه وتعالى أحيانا بالجمادات وأحيانا بالمعدومات وأحيانا بالمستحيلات .
(ولو أمعنوا النظر) في النصوص وآمنوا بنصوص الكتاب والسنة وأمعنوا النظر فيها (لسووا بين المتماثلات) وهي الممكنات ، الممكنات والمخلوقات والمحدثات بمعنى واحد ، هذه متماثلات .
(وفرقوا بين المختلفات) بين الخالق والمخلوق إذ " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
(كما تقتضيه المعقولات) المعقولات السليمة تقتضي الاختلاف بين الخالق والمخلوق
(ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أنما أنزل إلى الرسول) من عند الله سبحانه وتعالى (هو الحق) معمول لـ ( يروا ) بالنصب ، رأى هنا بمعنى العلم ، ليست رؤيا بصرية
(الذين يرون) يعلمون (أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) الذي هو القرآن لأنه يهدي إلى التي هي أقوم .
(ولكنهم من أهل المجهولات) ليسوا من الذين يتبعون ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .(3/15)
(ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات) المجهولات التي في نظرهم تشبه المعقولات أو تُشَبَّه عندهم بالمعقولات مع العلم أن العقل الصريح كما تقدم غير مرة لا يخالف النص الصحيح .
(يسفسطون في العقليات) أي يموهون فيغالطون في الأدلة العقلية ، السفسطة المغالطة والتمويه والخداع والمغالطة ، بالنسبة للأدلة العقلية يضللون الناس بالسفسطة .
(ويقرمطون في السمعيات) أي يذهبون طريقة القرامطة بأن يأولوا النصوص ويجعلوا لكل ظاهر باطنا ولكل نص تأويلا هذه طريقة القرامطة كما تقدم .
(وذلك أنه قد علم بضرورة العقل) الدليل الاضطراري والدليل الضروري بمعنى واحد . علم بضرورة العقل وبالاضطرار أي أن العقل يضطر أن يقبل .
(أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه) كل عاقل إذا سلم عقله من التشويش ومن التلوث بآراء أهل الكلام يعلم كل عاقل ولو لم يكن متعلما يعلم أنه لا بد من موجِد قديم ، يدرك ذلك بالاستدلال بهذه الممكنات وبهذه الحوادث التي تتجدد في كل لحظة يدرك لا بد من موجِد ، أي من خالق ، قديم لا أولية لقدمه ، سبق أن قلنا ( قديم ) ليس من أسماء الله ولكن من باب الإخبار يستعمل كل من ( قديم ) و ( مريد ) و ( صانع ) وكل ما يؤدي معنى صحيحا لا يخالف النص من حيث المعنى .
(موجود قديم) إذا لم يوصف بالقِدم والأزلية صار كالممكنات إذن عقلا موجِد هذا الكون يجب أن يكون قديما ، هو الأول الذي ليس قبله شي ، ويجب أن يكون غنيا لأن هذا الممكن فقير ، كل ما عدا الله فقير إلى الله في كل لحظة ، الفقر وصف ذاتي للمخلوقات ، كما أن الغِنى وصف ذاتي للخالق سبحانه ( غني عما سواه ).
(إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات) حدوث المخلوقات والممكنات التي تتجدد في كل لحظة .
(كالحيوان والمعدن والنبات) هذا شيء مشاهد .(3/16)
وهذا الذي يتجدد ويحدث (والحادث ممكن ليس بواجب) طالما تجدد وحدث بعد أن لم يكن إذن هو ممكن وليس بواجب ، الممكن ما يجوز وجوده وعدمه ، أو ما يحدثه غيره ويعدمه غيره ، اسمه ممكن واسمه محدَث واسمه مخلوق ، (والحادث ممكن ليس بواجب) ليس واجب الوجود لأنه وجد بعد أن لم يكن .
(ولا ممتنع) ليس بممتنع لو كان ممتنعا لما وجد .
إذن في الوجود :
- ممكن .
- وممتنع .
- وواجب .
الواجب هو الله وحده سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته .
والمستحيل ما لا يجوز وجوده كالشريك والصاحبة والولد .
والباقي محدَث وممكن .
(وقد علم بالاضطرار أن المحدث) بفتح الدال أي المخلوق (لا بد له من محدث) بكسر الدال أي لا بد له من خالق ، عُلم بالاضطرار علما يستوي فيه الجاهل والعالم .
(أن المحدَث) أن المخلوق الممكن الذي وجد بعد أن لم يكن .
(لا بد له من محدِث) لا بد له من خالق خلقه .
(والممكن لا بد له من موجد) الممكن يدل بإمكانيته هذه على أنه لا بد من واجب الوجود الذي أوجده .
نأخذ ذلك من قوله تعالى (" أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ") لا هذا ولا ذاك .
(فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق) وهذا مستحيل لأن المخلوق يدل على أن له خالقا عقلا .
(ولا هم الخالقون لأنفسهم) مستحيل أيضا أن يخلق المخلوق نفسه لأنه مخلوق كيف يخلق نفسه .
(تعين) إذن (أن لهم خالقا خلقهم) وتعين أيضا أن هذا الخالق مخالف لهم ليس مثلهم ، لو كان مثلهم لما كان خالقا لهم بل هو مخالف لهم قوي غني قدير الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء الذي بطن الأمور بعلمه .
(وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب) لو قيل : وإذا كان من المعلوم بالضرورة أنه لا بد من قديم واجب ومحدث ممكن ، لأن لفظة ( ما ) وإن كان يتسامح فيها هي في الأصل لغير العاقل لكن تستعمل في العاقل وفي غير العاقل وبالنسبة لله يقال عالم .(3/17)
(وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن) الموجود إما :
- (قديم واجب بنفسه) ليس بحاجة إلى من يحدثه بل هو المحدِث وهو الخالق وهو الصانع.
- (وما هو محدث ممكن) مخلوق وجد بعد أن لم يكن ( يقبل الوجود والعدم) جملة ( يقبل الوجود والعدم ) تفسير لـ ( ممكن ) تأخذ تفسير (ممكن) من هنا ، كل ما يقبل الوجود والعدم اسمه ممكن .
(فمعلوم أن هذا) أن واجب الوجود (موجود) .
(وهذا) الممكن الذي وجد بعد أن لم يكن (موجود) .
اشتركا في اسم الوجود هذا موجود وهذا موجود ، الله الذي هو واجب الوجود موجود ، والمحدَث الذي أحدثه هو سبحانه موجود .
(ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا) إذا كان الله موجودا وما خلقه من المخلوقات يوصف أيضا بأنه موجود لا يلزم من هذا (لا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود) هذا موجود وهذا موجود (أن يكون وجود هذا) الذي هو واجب الوجود (مثل وجود هذا) الذي هو جائز الوجود الذي هو ممكن .
(بل وجود هذا) وجود الرب سبحانه وتعالى (يخصه) وجود ليس له أولية ولا له آخرية .
(ووجود هذا يخصه) وجود المحدَث يخصه ، وجود حصل بعد أن لم يكن ، ولا يبقى وسوف يزول .
(واتفاقهما) اتفاق واجب الوجود وجائز الوجود (في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد) انتبه .(3/18)
(اتفاقهما) اتفاق واجب الوجود وجائز الوجود (في اسم عام) الذي هو الوجود المطلق قبل أن يضاف وجود الله إلى الله ووجود المخلوق إلى المخلوق يقال له اسم عام ، ويقال له المطلق الكلي ، الاتفاق بين الخالق وبين المخلوق في الاسم العام أي في الوجود العام ، قبل أن يخصص وجود الله بالله بالإضافة وقبل أن يخصص وجود المخلوق بالمخلوق بالإضافة ، اتفاقهما قي هذا الاسم العام (لا يقتضي تماثلهما) تشابههما ، لا يقتضي عقلا (في مسمى ذلك الاسم) مسمى ذلك الاسم بينهما اختلاف وأي اختلاف ، لأن مسمى واجب هو الله سبحانه وتعالى هو القديم الذي ليس لقِدمه أولية ، ومسمى الوجود الثاني موجود وجد بعد أن لم يكن وسوف لا يدوم .
(لا يقتضي تماثلهما) أي تشابههما (في مسمى ذلك الاسم) متى ؟(3/19)
(عند الإضافة والتخصيص والتقييد) الذي يفرق بين وجود الرب سبحانه تعالى ووجود المخلوق كذلك بين علم الخالق وعلم المخلوق وسمع الخالق وسمع المخلوق وغير ذلك من الصفات الإضافة ، أهم شيء الإضافة ، وقبل الإضافة ليس الوجود مختصا بأحد ولا العلم مختصا ولا السمع مختصا بأحد لأن هذا الذي قبل الإضافة اسمه المعنى العام أو المطلق العام أو المطلق الكلي ، لا وجود له إلا في الذهن ، في خارج الذهن لا وجود للوجود المطلق ولا للعلم المطلق ولا للسمع المطلق مثلا ، لا وجود في الخارج لهذه المعاني ، هذه معاني ذهنية ، ولا بد من الاشتراك في هذا المعنى العام بين الخالق وبين المخلوق ، أي في العلم المطلق قبل إضافة علم الله إلى الله - موضوع دقيق ينبغي أن يفهم - العلم قبل أن يضاف العلم إلى أحد لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق وقبل أن يضاف الوجود لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق ، هذا الوجود وهذا العلم وهذا السمع بهذا المعنى ليس مختصا بأحد بل لا وجود له إلا في الذهن ، في خارج الذهن لا وجود له ، الاشتراك إنما يقع بين أسماء الله تعالى وأسماء المخلوق في هذا المطلق العام وفي هذا المعنى العام ، ولكن بعد إضافة وجود الله إلى الله وعلم الله إلى الله وسمع الله إلى الله لا اشتراك أبدا ، بمعنى : علم الله مثلا علم قديم قِدم الذات - وسمع الله كذلك - علم قديم قِدم الذات ليس له أولية ، وعلم محيط بجميع المعلومات ، علم لا يطرأ عليه جهل أو نسيان أو غفلة ، وهل أحد من المخلوقات يشارك الله في هذا العلم ؟ في هذا العلم الموصوف بالإحاطة والقِدم وعدم طرو النسيان والجهل والغفلة ؟
لا أحد .
إذن هذا علم مختص بالله لا يشارك الله فيه أحد ، وقس على ذلك سائر الصفات .(3/20)
كذلك إذا قلت : وجود زيد وعلم زيد وسمع زيد وبصر زيد مستحيل أن يشارك الربُّ سبحانه وتعالى زيدا في هذا العلم المختص علم زيد ، لأن علم زيد حادث زيد نفسه حادث وعلمه حادث وعلمه قاصر " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " علم لا يحيط بالمعلومات ، علم يطرأ عليه الجهل والغفلة والنسيان ، مستحيل أن يشارك الرب سبحانه وتعالى خلقه في هذا العلم الموصوف بهذه الصفات ، وقس على العلم سائر الصفات .
قال الشيخ رحمه الله تعالى – أرجو أن يكون مفهوما - (واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد) هذه بمعنى واحد ، التقييد والتخصيص بمعنى واحد .
(ولا في غيره) حتى في غير التخصيص والتقييد ، قد يفهم من السياق ما يفرق بين الصفتين ، بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق حتى قبل الإضافة .
(فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود) وإن الفيل شيء موجود وإن النملة شيء موجود ، لا يمكن أن يفهم عاقل أن (هذا مثل هذا) أن العرش مثل البعوض وأن الفيل مثل النملة لا يمكن أن يفهم هذا .
(لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود) الاتفاق في مسمى الشيء وفي مسمى الوجود لا يقتضي التماثل بين المسميات حتى في المخلوقات دع عنك الخالق ، العرش مخلوق ليس وجوده كوجود البعوض ، الفيل مخلوق ليس وجوده كوجود النملة مثلا وقس على ذلك ، إذا كان في الإمكان الاختلاف بين وجود مخلوق ووجود مخلوق آخر كيف يتبادر إلى ذهن عاقل أن يكون وجود الخالق كوجود المخلوق ، إلا إذا مرض العقل بأن شوش عليه بالشبهات .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما) ليس في خارج الذهن شيء موجود غيرهما (يشتركان) أي غير الشيء وغير الوجود (غيرهما) غير الشيء وغير الوجود ، إنما يحصل الاتفاق في اسم الشيء وفي اسم الوجود ، الوجود المطلق كما تقدم لا الوجود المختص .(3/21)
(بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق) مسمى الاسم المطلق إذا سمع العاقل هذا موجود وهذا موجود يفهم وجود العرش أنه غير وجود البعوض مثلا .
(بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا) وهو الذي لا وجود له إلا في الذهن.
(هو مسمى الاسم المطلق) وهذا هو محل الاشتراك بين الخالق والمخلوق وبين سائر المخلوقات جميعا ، المسمى المطلق .
(وإذا قيل هذا موجود) الله موجود سبحانه (وهذا موجود) والعرش موجود والكرسي موجود (فوجود كل منهما يخصه) وجود الله يخص الله وجود هو وجود واجب ليس بممكن ووجود غيره وجود ممكن الذي وجد بعد أن لم يكن .
(لا يشركه فيه غيره) لا يشرك المخلوق في وجود الخالق ولا يشرك الخالق سبحانه في وجود المخلوق لأن وجود المخلوق وقع بعد أن لم يكن .
(مع أن الاسم حقيقة في كل منهما) الوجود وجود المخلوق وجود حقيقي ووجود الخالق وجود حقيقي ، ولكن ليست الحقيقة كالحقيقة ، علم الخالق علم حقيقي وعلم المخلوق علم حقيقي ولكن ليست الحقيقة كالحقيقة وهكذا في سائر الصفات ، نعم .
(( ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص ))
(ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة) بالله ، أسماء الله التي سمى بها نفسه والتي سمى بها صفاته مختصة بالله سبحانه وتعالى (إذا أضيفت إليه) لا بد من هذه الإضافة ، متى تكون أسماء الله مختصة به ؟
إذا أضيفت .(3/22)
(لا يشركه فيها غيره) بعد الإضافة ، إذا قيل علم الله وجود الله نزول الله مجيء الله ، لا يشركه في هذه الصفات أحد غيره ، وجود خاص به ، مجيء خاص به نزول خاص به يليق به ليس كنزول المخلوق ولا المجيء كمجيء المخلوق ولا العلم كعلم المخلوق وهذا الاختلاف حصل من الإضافة ، أي تخصيص وجود الله بالله وعلم الله بالله ونزوله به سبحانه ومجيئه إنما حصل لهذا التخصيص ، أي بالإضافة .
(ولهذا سمى الله نفسه بأسماء) كالعليم والحليم .
(وسمى صفاته بأسماء) العلم والحلم والقدرة .
(وكانت تلك الأسماء مختصة به) سبحانه وتعالى (إذا أضيفت إليه) بهذا القيد ( إذا أضيفت إليه ) قبل الإضافة لا تخصيص لأنه المطلق الكلي كما تقدم .
(لا يشركه فيها غيره) في الاسم المختص الذي حصل الاختصاص له بالإضافة .
(وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم) " غلام عليم " " غلام حليم " وصف مختص بالمخلوق ، ليس العلم كالعلم ولا الحلم كالحلم .
(وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم) ليس بلازم أن تكون الإضافة التي يحصل فيها المضاف والمضاف إليه بل منسوبة إليهم سواء كانت بالإضافة أو بأن يكون مبتدأ وخبر .
(وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء) في المعنى العام (إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص) هذه الأسماء التي سمى الله بها بعض مخلوقاته توافق أسماء الله تعالى في المعنى العام قبل الإضافة (إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص) إذا قطعت أسماء الله وأسماء المخلوق عن الإضافة والتخصيص حصل الاتفاق في المعنى العام بين أسماء الله تعالى وأسماء خلقه ، مفهوم ؟
(ولم يلزم من اتفاق الاسمين) في المعنى العام الذي هو المعنى الذهني .
(ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما) أي تشابه مسماهما - بدون واو - .(3/23)
(واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص) لا يلزم من اتفاق الاسمين في المعنى العام تماثل مسماهما واتحاده عند الاطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص ، لا اتفاق ولا تشابه بين المسميين إنما يحصل الاتفاق في المعنى العام إذا قطع الاسم عن الإضافة .
إلى هنا واضح أما من قوله ( لا اتفاقهما ) إلى قوله ( عن الإضافة والتخصيص ) هذا فيه تكرار ولذلك اختلفت النسخ في هذه الجمل يمكن الاستغناء عن هذه الجمل كليا ، نقرأ هكذا (ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده) اتحاد المسمى ( عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص) لا يحصل الاتحاد أبدا لا في حال الإضافة ولا في حال عدم الإضافة ، لا يحصل الاتحاد بين المسميين ، والاتفاق الذي حصل في المعنى العام عند القطع عن الإضافة لا يلزم منه تماثل المسميين واتحاد المسميين .
ترد الصفات على ثلاث حالات – لعل هذا يوضح – ترد الصفات :
- مضافة إلى الله فتكون مختصة بالله سبحانه وتعالى ، إذا وردت الصفات مضافة ( علم الله ، سمع الله ، نزول الله ، مجيء الله ) تكون مختصة به سبحانه وتعالى لا أحد يشارك الله في حقائق هذه الصفات .
- وترد الصفات مضافة إلى العبد ( علم زيد ، نزول زيد ، واستواء زيد على دابته وعلى كرسيه ) هذه تكون مختصة بالعبد لا يشارك الله سبحانه وتعالى عبده في حقائق هذه الصفات لأنها جاءت مختصة .(3/24)
- ترد الصفات مطلقة غير مضافة فهي لا وجود لها إلا في الذهن وليست مختصة بأحد ، إذا جاءت الصفات مطلقة ( علم ، سمع ، نزول ) هذه المعاني المطلقة أو هذه الصفات المطلقة لا وجود لها إلا في الذهن ، ليست مختصة بالله ولا مختصة بالمخلوق ، هنا يحصل الاتفاق في المعنى العام ، في المطلق الكلي ، يزول هذا الاتفاق بالإضافة ، إذا أطلَقْتَ النزول والمجيء والسمع والبصر يسمى هذا المطلق الكلي أو المعنى العام هو محل الاشتراك أو محل الاتفاق ، ومتى يزول هذا الاتفاق ؟ بالإضافة ، إن أضفت النزول إلى المخلوق صار مختصا بالمخلوق ، مستحيل أن يشارك الله سبحانه وتعالى مخلوقه في الصفات المختصة بهم ، فإذا أضيف النزول إلى الله ( ينزل ربنا ) صار مختصا ، مستحيل أن يشارك اللهَ أحدٌ من خلقه في خصائص نزوله .
هكذا ترد الصفات ، إذا عرفنا هذه الحالات الثلاثة زال الإشكال ، ورود الصفات مختصة مضافة إلى الله ، ورود الصفات مختصة ومضافة إلى المخلوق ، وورود الصفات مطلقة ، هذه الحالات الثلاثة توضح المقام تماما ، نعم .
- إذا لم تسطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع -
واصل .
(( فقد سمى الله نفسه حيا فقال " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وسمى بعض عباده حيا فقال " يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي " وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأنه قوله الحي اسم لله مختص به وقوله " يخرج الحي من الميت " اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين ، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق ))
[[ موجودا أو موجودٌ عندكم ؟
نسختان ؟ أيهما أصح عربية ؟ ( ولكن ليس للمطلق مسمى موجودا ) ( ولكن ليس للمطلق مسمى موجودٌ ) أيهما الصحيح ؟
موجودٌ .(3/25)
لماذا ؟ الفعل ( ليس ) ماذا يعمل ؟ أين معمول ( ليس ) ؟ ( وليس للمطلق مسمى ) ( مسمى ) منصوب أو مرفوع ؟
موجود هذا اسم ليس .
لا ( موجود ) هذا صفة ( مسمى ) ( وليس للمطلق مسمى ) انتهي الكلام و ( موجودا ) أو ( موجودٌ ) صفة لـ ( مسمى ) ، ( مسمى ) أيش موقعه من الإعراب ؟
اسم ليس .
و ( موجود ) تابع لـ ( مسمى ) ما أعرب به ( مسمى ) يعرب به ( موجود ) .]]
هذه الآيات التي ساقها المؤلف توضح المعاني التي شرحناها الآن هي كالأمثلة .
(فقد سمى الله نفسه حيا فقال"الله لا إله إلا هو الحي القيوم") " الحي " .
(وسمى بعض عباده حيا فقال"يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي"وليس هذا الحي) " الحي القيوم " (مثل هذا الحي) الحي الذي أخرجه الله من الميت ، ليس مثله ، لأن حياة الحي القيوم حياة كاملة لا نقص فيها وليس لها بداية وليس لها نهاية ، هذه الحياة ، الحياة الكاملة الكمال المطلق ، ولكن الحي الثاني الذي يخرج من الميت حياة وجدت بعد أن لم تكن ، حياة محدَثة ، كيف تكون هذه الحياة كتلك الحياة ؟ فرق عظيم لا نسبة بينهما ، هذا يوضح ما تقدم .
(وليس هذا الحي) مثلا " الحي القيوم " (مثل هذا الحي لأنه قوله الحي اسم لله مختص به) لأنه قال " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " الاختصاص قد يكون بالإضافة وقد يكون بالوصف ، " الحي القيوم " اسم لله مختص به سبحانه لا أحد يشارك الله في هذه الحياة .
(وقوله"يخرج الحي من الميت"اسم للحي المخلوق مختص به) الحي بحياة مخلوقة ، الحياة المخلوقة لا يشارك اللهُ سبحانه وتعالى عبدَه في هذه الحياة المخلوقة لأنه هو الخالق ، خلق العبد وخلق له هذه الحياة المخلوقة .
(وإنما يتفقان) الحي مع الحي ، إنما يتفقان (إذا أطلقا) ( وإنما يتفقان إذا أطلقا ) إذا أطلق الحي أو إذا أطلقت الحياة (وجردا عن التخصيص) لعدم الإضافة .(3/26)
(ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج) المطلق الكلي المعنى العام لا وجود له في الخارج أبدا وإنما يتصوره الذهن تصورا ، ( وجود ) هكذا واقف ليس لأحد ، ( علم ) واقف هكذا وحده ليس لأحد ، هل له وجود ؟
لا ، إنما في الذهن فقط لكن في الخارج لا يوجد علم قائم بنفسه بل العلم صفة قائم بالموصوف وكذلك الحياة وكذلك السمع وكذلك النزول وكذلك المجيء ، نحن عندنا الصفات كلها تساق سوقا واحدا ، الصفات الذاتية والصفات الفعلية والصفات الخبرية والصفات العقلية كلها تساق سوقا واحدا لا تفريق بين الصفات .
(ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين) هذا تصور.
(وعند الاختصاص) أي بالإضافة (يقيد ذلك بما يتميز به الخالق) يقيد العقل نفسه ، أو نقول ( يقيَّد ذلك ) (بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق) هذا شيء واضح ليس في الوجود فقط بل في سائر الصفات كما مثلنا ، والاتفاق الذي يحصل قبل الاختصاص لا يضر بل أمر لا بد منه ، لا يمكن التصور إلا بهذا الاتفاق في المطلق العام ، ثم إذا أردت أن تفرق بين صفات الخالق وبين صفات المخلوق أضِفْ ( ينزل ربنا ) ( نزول ربنا ) ( مجيء ربنا ) ( يجيء ربنا ) ( الله سميع عليم ) لا أحد يشارك الله في هذه الصفات المختصة به سبحانه وتعالى . نعم
((ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى .
وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال " وبشرناه بغلام عليم " يعني إسحاق وسمى الآخر حليما فقال " وبشرناه بغلام حليم " يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم .(3/27)
وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعدكم به إن الله كان سميعا بصيرا " وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا " وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير.
وسمى نفسه بالرؤوف الرحيم فقال " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " وسمى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم .
وسمى نفسه بالملك فقال " الملك القدوس " وسمى بعض عباده بالملك فقال " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا "" وقال الملك ائتوني به " وليس الملك كالملك .
وسمى نفسه بالمؤمن فقال " المؤمن المهيمن " وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " وليس المؤمن كالمؤمن .
وسمى نفسه بالعزيز فقال " العزيز الجبار المتكبر " وسمى بعض عباده بالعزيز فقال " وقالت امرأة العزيز " وليس العزيز كالعزيز .
وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر فقال " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر ونظائر هذا متعددة))
قال المؤلف رحمه الله تعالى (ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته) لا بد من وقوع الاتفاق في الاسم العام وفي المطلق الكلي ولا بد من إضافة تخصص صفات الخالق بالخالق وصفات المخلوق بالمخلوق ، هذه قاعدة لا بد منها .
(ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق) بمعنى واحد ، المواطأة والاتفاق بمعنى واحد ، وهذا الاتفاق كما تقدم إنما يقع في الاسم العام في المطلق العام وفي المطلق الكلي ، المعنى واحد .(3/28)
(وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة) صفة للإضافة ، المانع صفة للاختصاص ، النسختان صحيحتان .
(وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانع من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) هذه إضافة مهمة جدا وهذا التقييد وهذا الاختصاص بالإضافة أمر مهم لولا ذلك لاختلط الأمر .
(وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال"وبشروه بغلام عليم"يعني إسحاق وسمى الآخر حليما فقال "وبشرناه بغلام حليم"يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم) ليس العليم الذي هو الله سبحانه وتعالى كالعبد العليم الذي وصفه بأنه عليم لأنه ليس العلم كالعلم كما تقدم ، شرحنا خصائص علم الرب سبحانه ، وشرحنا خصائص علم العبد ، إذن الله الذي من خصائص علمه الإحاطة بجميع المعلومات وقِدم ذلك العلم وبقاء ذلك العلم وعدم طرو أي نقص على هذا العلم ، هذا العليم الموصوف بهذا العلم ليس كالعليم الذي علمه قاصر وناقص وحادث وزائل .
(ولا الحليم كالحليم) إلى آخره ، الآيات كلها من هذا القبيل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " " أنزله بعلمه " وقال " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " وقال " أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وقال " وفوق كل ذي علم عليم " وقال " فرحوا بما عندهم من العلم " وقال " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة " وقال " ويزدكم قوة إلى قوتكم " وقال " والسماء بنيناها بأيد " أي بقوة وقال " واذكر عبدنا داود ذا الأيد " أي ذا القوة ، وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة.(3/29)
وكذلك وصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال " لمن شاء منكم أن ستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقال " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ، وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم" ))
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المؤلف رحمه الله تعالى (وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك) من الأسماء فحصل الاتفاق في الاسم العام كما تقدم .
(فقال) سبحانه ("ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء") أضاف العلم إلى نفسه فهذه الإضافة كما تقدم تفيد التخصيص أو الاختصاص أي لا يشارك الله أحد في علمه المحيط بجميع المعلومات العلم القديم قِدم الذات العلم الباقي بقاء الذات العلم الكامل الذي لا يطرأ عليه أي نقص ، بعد هذه الإضافة لا يحصل أي اشتراك بين صفة الخالق وصفة المخلوق .
كذلك قوله تعالى ("أنزله بعلمه "وقال"إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"وقال"أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة") الشاهد ذكر القوة وذكر المتين أيضا .
(وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا") " وما أوتيتم من العلم " أثبت العلم للعباد وإن كان هذا العلم الذي وصف الله علم قليل ومع قلته علم حادث ، رزق العبد العلم بعد أن لم يكن عالما ، وعلم العبد غير محيط بجميع المعلومات علم ناقص عرضة للآفات من النسيان والجهل والذهول وأخيرا بالذهاب ، بهذا يفارق علمُ المخلوق علمَ الخالق أي : ينزه الربُّ سبحانه وتعالى أن يشرك العبد أو يشارك العبد في خصائص علم العبد .
وقال تعالى ("وفوق كل ذي علم عليم") إثبات العلم كالآية التي قبلها .(3/30)
(" فرحوا بما عندهم من العلم") الآيات الثلاث كلها في إثبات العلم للمخلوق العلم بالمواصفات التي تقدمت .
(وقال"الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة") هذا محل الشاهد ذكر القوة ("ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء") " وهو العليم القدير " وإن كان في ذكر العليم القدير أيضا إثبات العلم والقدرة وإثبات اسمه العليم والقدير لكن محل الشاهد الذي ساق المؤلف من أجله الآية ذكر القوة أي إثبات القوة .
("ويزدكم قوة إلى قوتكم") كذلك .
("والسماء بنيناها بأيد"أي بقوة) ( أيد ) هنا ليس بجمع ليس جمع يد وإنما هو مصدر آد الرجل يئيد أيدا أي قَوِيَ ، لئلا يقال إننا أوّلنا الآية هنا وليس هذا بتأويل ، لا يظنن ظان أن ( أيد ) هنا جمع يد وليس الأمر كذلك بل ( أيد ) هنا مصدر آد أي قوة وهذا تفسير لغوي وليس بتأويل ، التأويل المذموم هو التحريف أما التأويل الذي هو بمعنى التفسير والإيضاح وهذا هو الثابت في القرآن ، هذه لغة القرآن ، إذا ذكر بعض المفسرين ( تأويل قوله تعالى كذا وكذا ) أي تفسير ذلك وهذا شيء ثابت ، ولكن التأويل المذموم الذي هو بمعنى التحريف كتفسير ( استوى ) بـ ( استولى ) وتفسير نزول الرب سبحانه وتعالى بنزول الأمر أو نزول ملك ، هذا هو التأويل المذموم .
("واذكر عبدنا داود ذا الأيد") كذلك ، مثل الذي قبله .
(وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة) إلى آخر ما تقدم وأن هذا الاشتراك في الاسم العام لا يضر بل لا بد منه ، والاشتراك الممتنع الاشتراك بعد تخصيص صفات الله بالله وأسماء الله بالله وبعد تخصيص صفة المخلوق بالمخلوق ، هذا الذي لا يقع فيه الاشتراك .(3/31)
(وكذلك وصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال"لمن شاء منكم أن ستقيم") العبد له مشيئة وله اختيار وله قدرة ، ليس العبد بمجبور على ما يفعل بل يفعل ما يفعل بمشيئته واختياره وإرادته ، إلا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى وليست مستقلة ، مشيئة مخلوقة ، قدرة مخلوقة ، وإرادة مخلوقة واختيار مخلوق ، لكنه مخاطب بهذا ومكلف لذلك يؤاخذ على ما يفعل إن شرا ، ويثاب على ما من الخير ، وهي مسألة القدر ومسألة الجبر يُنْتَبه لها .
("وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين") أثبت المشيئة للعباد إلا أنه قيدها بأنها تابعة لمشيئة الله إذ لا يقع في هذا الكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى من إيمان وكفر وطاعة ومعصية وبلاء ونعمة ، كل ما يقع في هذا الكون يقع بمشيئة الله ،أي قد علم الله أن الشيء الفلاني يقع في المكان الفلاني في الزمن الفلاني وكتب ذلك في اللوح المحفوظ وشاء أي قدّر وقضى ونفّذ ذلك ، هذه مراتب القدر لا بد من الإيمان بها ، لا فرق في ذلك بين الخير والشر ، وبين ما يحبه الله وما لا يحبه ، الله سبحانه وتعالى يشاء فيقدّر وقوع ما يحب ووقوع ما لا يحب ولكن لا يحب إلا لإيمان وإلا الطاعة ، المشيئة هنا هي التي نسمي في موضع آخر الإرادة الكونية أي الإرادة الكونية والمشيئة بمعنى واحد . أما الإرادة الدينية فهي بمعنى المحبة والرضا ، والإرادة الكونية بمعنى المشيئة العامة ، لابد من التفريق بين الإرادتين ولذلك مبحث آخر .(3/32)
(وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال"تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم") الله سبحانه وتعالى يريد ، تأتي الإرادة كما قلنا بمعنى المحبة ، يريد بمعنى يحب ، يريد بمعنى يشاء ، إذا جاءت الإرادة في مرضاة الله تعالى هي بمعنى المحبة والرضا وإذا جاءت بمعنى المشيئة العامة هي الكونية ، " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء " لا يقال هنا " ومن يرد أن يضله " أي من يحب أن يضله ، لا ، أي من يشاء لأن الله يريد الضلال أي يشاء ، ويريد الكفر ويريد المعاصي ولكن لا يحبها ، لذلك التفريق بين الإرادتين أمر مهم جدا في باب القضاء والقدر .
((ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " وقال " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ، ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال " رضي الله عنهم ورضوا عنه " ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد ولا إرادته مثل إرادته ولا محبته مثل محبته ولا رضاه مثل رضاه.
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت فقال " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون "))(3/33)
(ووصف نفسه بالمحبة) بأنه يحب ، يحب المؤمنين ، يحب الطاعة يحب الإيمان (ووصف عبده بالمحبة) العبد يحب ربه سبحانه ، فمحبة الله شعبة من شعب الإيمان ، من أعظم شعب الإيمان محبة العبد ربه سبحانه وتعالى المحبة التي هي أصل العبادة لأن أصل العبادة غاية الذل مع غاية الحب ، أن يحب العبد ربه غاية المحبة ، المحبة التي تحمله على تقديم مرضاة الله تعالى على هوى نفسه ومرضاة غيره هذه المحبة كما قلنا شعبة من شعب الإيمان ، كما أن الله سبحانه وتعالى يحب عباده المؤمنين ، فعباده المؤمنون يحبون الله ، وقد تورطت الأشعرية في هذه المسألة فنفوا هذا الإيمان العظيم ، الصفة التي لا بد منها أن تقع بين العبد وبين ربه ، قالوا إن الله لا يُحِب أي لا يوصف بأنه يحب لأن المحبة انفعال نفسي وهذا الانفعال لا يليق بالله ، كذلك لا يوصف بأنه يحَب أي بأن العبد يحبه ، إذ لا علاقة بين الخالق والمخلوق حتى يوصف بأنه يحَب ، هذا خلط وخبط منهم ومخالفة لكتاب الله ومخالفة لما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام ونفي لأصل الإيمان ، المحبة عندهم في مثل هذه الآية إن الله يحب عباده أي يريد الإنعام ، المحبة يفسرونها بالإرادة وإذا جاء ذكر الرضا فسروه بالإرادة إرادة الإحسان إرادة الإنعام ، وإذا جاء ذكر الغضب والمقت كذلك فسروه بالإرادة إرادة الانتقام إرادة التعذيب ، حولوا أكثر الصفات ، الصفات الفعلية حولوها إلى الإرادة بدعوى أن الغضب غليان دم القلب وكذلك المقت والمحبة والرضا انفعال يحصل للإنسان في ظروف معينة كما قال والد إمام الحرمين إن شيوخ الأشاعرة لم يفهموا من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق لذلك وقعوا في هذا الخبط والخلط ولو سئل الأشعري هذه الإرادة التي أثبتَّها وفسرت بها أكثر الصفات أو بعض الصفات ما معناها ؟ يقول إرادة تليق بالله ، صح ؟ لكن أليست الإرادة في حق المخلوق ميل القلب إلى ما يحب ؟ ..
الشريط التاسع :(3/34)
لكن أليست الإرادة في حق المخلوق ميل القلب إلى ما يحب ؟ أو إلى المصلحة ؟
نعم الأمر كذلك ، إذا قلت في الإرادة ليست إرادة الله كإرادة المخلوق بل إرادة تليق به كان الواجب أن تقول محبة الله تعالى محبة تليق به ، ورضاه رضا يليق به وغضبه ومقته وسائر الصفات التي أوَّلْتها إذ لا فرق بين ما أثبتَّ وبين ما أوَّلْت ، هذا التأويل عند الأشاعرة تأويل يؤدي إلى النفي لأنه يقول ليس في الحقيقة لله محبة ولا رضا ولا غضب ولا مقت ، نفي ، وهذا النفي يُلحقهم بالمعتزلة ، المعتزلة نفوا نفيا صريحا بدون دعوى التأويل ، ولكن الأشاعرة بدعوى التأويل نفوا ، الكل نفي ، ومن نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة حُكمه الكفر ، هكذا أجمع السلف على تكفير من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة ، إلا أننا نلاحظ هنا :
- اعتبار الجهل .
- واعتبار الشبهة .
قد تقوم شبهة لمن ينفي هذا النفي أو جهل للنصوص وعدم الإطلاع أو جهل لمعاني النصوص لم يتبين له الحق لذلك يُعذَر فيعذَر حتى يتبين له الحق ، إذا تبين له الحق وعرف الحق وقارن بين الحق الذي عرفه وبين الباطل الذي كان عليه وقدم باطله بدعوى أن هذه عقيدة شيوخه وعقيدة قومه ولا يستطيع أن يخالف قومه وشيوخه وإن اتضحت له العقيدة الصحيحة والمفهوم الصحيح هنا يكفر كفرا بواحا لأنه تبين له الحق واتبع سبيل غير المؤمنين بعد ذلك وشاق الله ورسوله ، لا بد من هذا التدرج وخصوصا بعد أن انتشرت العقيدة الأشعرية بين المسلمين ودرَسها كثير من المسلمين على أنها هي العقيدة التي جاء بها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعرفوا غيرها ، لكن بعد معرفة غيرها وتقديمها على الحق الذي عرف الحكم ما سمعتم ، ولا بد من هذا التفصيل والله أعلم .(3/35)
قال المؤلف رحمه الله تعالى ، والآية هنا صريحة ("فسوف يأتي الله بقوم يحبهم") وهو المؤمنون ، صريحة ("ويحبونه") فالله سبحانه وتعالى يحبهم أي يحب المؤمنين لأنهم أولياءه ، فالمؤمنون يحبون الله سبحانه وتعالى لأنه ربهم ومعبودهم وولي نعمهم ، وكيف تنفى هذه المحبة مع هذه الآية الصريحة ؟ .
(" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله") أمر الله نبيه أن يشترط على الذين يدعون محبة الله تعالى اتباعه عليه الصلاة والسلام ، من ادعى محبة الله – بالنسبة لمن يثبتون المحبة – ادعى أنه يحب الله ومع ذلك لا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يعبد الله بالعبادات المبتدَعة لا يكتفي بما جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، لماذا ؟ هل أنت أعلم منه ؟ وهل ما تبتدعه خير وأحسن مما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ أو أن ما جاء غير كامل وأنت تكمله بالبدع ؟ تَرِد عليه هذه الأسئلة كلها – على من يبتدع ويحاول أن يعبد الله بعبادات مبتدَعة - ، المبتدع لسان حاله يقول إن الدين لم يكمُل بعد ، والله سبحانه وتعالى أخبر أنه أكمل هذا الدين في حجة الوداع في ذلك اليوم تمَّ الدين " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " والذين يبتدعون ويسمون البدع بدعة حسنة ويحسنون البدع بعد أن سمى النبي عليه الصلاة والسلام " كل بدعة ضلالة " يخالفون الله تعالى ويخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بد لتصدُقَ في محبتك لله أن تتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا تعبد الله إلا بما جاء به هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، أما العبادات المبتدَعة أياً كانت فكلها مردودة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، " من أحدث في أمرنا هذا " أي في الدين " ما ليس منه فهو رد " وأما الابتداع والاختراع والإتيان بكل جديد وبكل مخترَع في الشؤون الدنيوية فهذا مسموح إنما(3/36)
البدعة المذمومة في الدين لأن الدين كمُل ، الدين لا يقبل التطوير ، الدين لا يقبل التجديد إلا بمفهوم واحد وهو : عندما تنحرف الناس وتتغير عقيدتهم ويبتعدون عن تطبيق الشريعة عند ذلك يقيض الله لهذه الأمة من يجدد لها دينها ، ومعنى التجديد هنا دعوتهم إلى العودة إلى الإسلام ليس معناه أن المجدد يأتي بشيء جديد ، أما التجديد المألوف الآن عند الناس الذي بدأ يؤلف فيه بعض الناس في تجديد كما يسمونه ( تجديد الفكر الإسلامي ) هذا تغيير للدين وتبديل بأن يأتوا بمعاني جديدة ، للصلاة معنى وللزكاة معنى وللحج معنى وللاجتهاد معنى وللشورى معنى غير المعاني والمفاهيم المعروفة عند المسلمين الأولين ، هؤلاء المجددون الجدد مغيِّرون ومبدِّلون وليسوا بمجددين ، التجديد الحقيقي الذي قام به أبو بكر رضي الله عنه فور وفاة النبي عليه الصلاة والسلام عندما ارتدت بعض قبائل العرب ومنع المانعون الزكاة وبتنفيذ جيش أسامة ، ذلك هو التجديد أي : دعوة الناس إلى العودة إلى الإسلام والبقاء على ما كان عليه المسلمون من قبل ، وكذلك فعل الإمام أحمد وقبل ذلك علي بن أبي طالب في عهده عندما تشيَّعت الشيعة ورفضت الروافض وخرجت الخوارج جدَّد للأمة دينهم بمقاتلة بل إحراق رؤساء الشيعة ليبقى الناس على المفهوم الصحيح للإسلام ، وكذلك فعل الإمام أحمد في وقته ثم الإمام ابن تيمية في وقته وأخيرا الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي نعيش اليوم أثر تجديده ، هذا هو التجديد الصحيح ، استطردت هذا الاستطراد لأنه يجري في الساحة الآن تجديد خطير ، أولئك الذين سموا الإسلام - الدين كله – (الفكر) ، الإسلام ليس هو الفكر الإسلام إسلام والدين دين ،أحدثوا اسما جديدا ( تجديد الفكر الإسلامي ) فكتبوا كتبا فيها تغيير لكثير من مفاهيم الإسلام فليُنْتَبَه لأصحاب الفكر الجديد المجددين وهم يريدون أن يأتوا بجديد .(3/37)
لنرجع إلى ما نحن بصدده ، لا تتم محبة العبد ربه ولا يصدق العبد في محبته لله إلا إذا اتبع هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بحيث لا يتقرب إلى الله ولا يعبد الله إلا بما جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، هذا هو خلاصة الدين وحقيقة الدين .
يقول المؤلف رحمه الله تعالى (ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال"رضي الله عنهم ورضوا عنه") المحبة والرضا والرحمة كلها من صفات الله تعالى الصفات الفعلية الخبرية يجب إثباتها كما جاءت ، رضا يليق به ومحبة تليق به لا كمحبتنا ولا تفسَّر هذه الصفات المحبة والرضا والرحمة لا تفسر بالانفعالات ، الانفعالات هذه صفاتنا ، أما صفة الرب سبحانه وتعالى لا نعلم كنهها وكيفيتها ، لا يعلم ذلك إلا الله لأننا لم نعلم كيفية ذاته لذلك لا نحاول أن نعلم كيفية صفاته ، هنا القاعدة (الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه) يجب أن يحفظ طلاب العلم هذه القاعدة ليردوا الشبه في كل شبهة تَرِد جواب من يسأل عن كيفية رضا الله وكيفية محبته وكيفية نزوله وكيفية مجيئه ، الجواب أن يقال كما قال الإمام مالك : الرضا معلوم والنزول معلوم والمجيء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن الكيفية بدعة والإيمان بهذه الصفات واجب ( الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه ) هكذا قعّد أتباع السلف بعد أن نشأ علم الكلام في المئة الثانية قعدوا هذه القواعد وبذلك دافعوا عن العقيدة ، لأن علماءنا وأئمتنا كالإمام مالك ومن في طبقته كالأوزاعي والثوري والليث بن سعد كلهم والإمام أحمد وبعده الإمام ابن تيمية وغيرهم مدافعون ، والكتب التي أُلِّفت في العقيدة كلها كتب دفاعية للدفاع ، وإلا العقيدة لا تحتاج إلى تأليف ، العقيدة عند المسلمين الأولين مأخوذة من الكتاب والسنة رأسا دون حاجة إلى تأليف ، لا يُعرف عندهم كتاب يسمى كتاب التوحيد أو كتاب العقيدة ، كتاب توحيدهم المصحف وكتاب عقيدتهم وكتاب(3/38)
أحكامهم وكتاب عبادتهم هذا الكتاب ، لأنهم فهموه وعملوا به وطبقوا ، ولكن لما كثرت الفتن اضطر العلماء إلى تأليف هذه الكتب للدفاع عن العقيدة والإبقاء عليها تجديدا للدين بالمفهوم الذي ذكرنا .
(وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت فقال"إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم") هم يمقتون أنفسهم ، مقت الله إياهم أكبر من مقتهم أنفسهم ("إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون") هذا سبب المقت .
نعم اقرأ .
((وليس المقت مثل المقت ، وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بذلك فقال " ويمكرون ويمكر الله " وقال " إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا " وليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد ، ووصف نفسه بالعمل فقال " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون " ووصف عبده بالعمل فقال " جزاء بما كنتم تعملون " وليس العمل كالعمل))(3/39)
قال المؤلف رحمه الله تعالى (وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بذلك) المكر والكيد والاستهزاء والسخرية هذه صفات من الصفات الفعلية تُمَرّ هذه الأفعال كما جاءت ، الله سبحانه وتعالى يمكر بالماكرين ، صفة المكر وصفة الكيد وصفة الاستهزاء والسخرية تأتي جزاءً مقابلا لما يحصل من الأعداء الذين يكيدون لدين الله ولأولياء الله اللهُ يكيد لهم ، الكيد إيصال الشر بطريقة خفية ، وعندما يكيد الكفار والمنافقون لهذا الدين وللدعاة إلى الدين بطرق خفية فيُلحقون بهم الضرر الله يجازيهم جزاءً وفاقا ، يُلحِق بهم الضرر بطرق لا يدركونها وقد يغدق عليهم النعم في هذه الدنيا استدراجا ، وذلك انتقام ومكر وكيد وهم لا يعلمون ، هذا معنى الكيد والمكر في حق الله تعالى ، وهذه الأفعال تُمَر كما جاءت والصفات الفعلية كغيرها تُمَر كما جاءت ، لا يؤخذ من هذه الأفعال لله اسم لأن أسماء الله تعالى توقيفية وهي الأسماء الحسنى ، لا يقال إنه كائد وإنما تذكر هذه الصفات كما قلنا بالمقابل ، مقابل ما يفعل أعداء الله بدين الله ، لذلك أوضح الرب سبحانه وتعالى في حق يوسف عندما قال " كذلك كِدْنا ليوسف " إخوته كادوا له وعملوا أسبابا للتخلص منه بإلقائه في البئر وبدعوى بأن الذئب أكله ، عملوا أشياء للتخلص منه وكاد الله ليوسف بطرق خفية ظهرت في النهاية بأن أظهره الله في مصر واعترفوا له الفضل فطلبوا منه السماح وعرفوا أنه أخوهم ذلك الذي ألقوه في البئر هذا معنى الكيد فليُفهَم جيدا ، لئلا يشوِّش عليكم بعض الناس يقولون لا يليق بالله أن نصف الله بالمكر والكيد ، وإذا تصورتم معنى الكيد ومعنى المكر ليس في ذلك غضاضة " أأنتم أعلم أم الله " إذا كان الله هو الذي وصف نفسه بذلك أنت تنزه الله عما وصف به نفسه ؟ التنزيه عن النقائص الله لا يصف نفسه بالنقص وإنما إذا أردت التنزيه الصحيح اقرأ قوله تعالى وقف عنده " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " لا تنزه(3/40)
الله بأبلغ من هذه الآية فاعلم ذلك .
(ووصف نفسه بالعمل فقال"أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا") لأن في هذا الأسلوب " مما عملت أيدينا " أي مما عملنا ، الله هو الذي عمل (ووصف عبده بالعمل فقال"جزاء بما كنتم تعملون") هذه المشاركة في المعنى العام في المكر والكيد والعمل وغير ذلك الاشتراك في المعنى العام كما تقدم غير مرة لا يضر ولكن الاشتراك الذي لن يقع بعد تخصيص صفات الله بالله بالإضافة وتخصيص صفات العبد بالعبد بالإضافة هذا الذي لا يقع فيه الاشتراك .
وبالله التوفيق .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(3/41)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
( من الوجه الثاني للشريط التاسع إلى الوجه الأول للشريط العاشر )
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((فصل : فأما الأصلان فأحدهما أن يقال ( القول في بعض الصفات كالقول في بعض ) فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات فيقال له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر فإن قلت إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه وهذا هو التمثيل ، وإن قلت : إن له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به))
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تقرير الأصلين اللذين بهما يناقش من تناقض وخالف منهج الأنبياء في هذا الباب (فصل : فأما الأصلان) لأنه تقدم أن قال (ويتبين هذا بأصلين شريفين وبمثلين مضروبين " ولله المثل الأعلى " وبخاتمة جامعة فأما الأصلان فأحدهما أن يقال ( القول في بعض الصفات كالقول في بعض )) أي كالقول في البعض الآخر ، هذا الأصل ممكن نسميه قاعدة في مخاطبة من يفرق بين الصفات .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فإن كان المخاطب) بهذا الأصل (ممن يقر بأن الله حي بحياة) يؤمن بأن الله حي بحياة والحياة صفة له .
(عليم بعلم) يثبت الاسم والصفة معا ( عليم بعلم ) أي يثبت الاسم ويثبت الصفة أيضا .(4/1)
(قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة) إلى آخره إلى آخر الصفات الذاتية التي تثبتها الأشاعرة ويسمونها صفات المعاني ويأخذون منها سبع صفات أخرى يسمونها الصفات المعنوية وقبل ذلك يثبتون خمس صفات يسمونها الصفات السلبية ، وقبل ذلك كله يثبتون صفة واحدة يسمونها الصفة النفسية وهي الوجود ، وهذا الاصطلاح وإن لم يعرف عند السلف بهذا التفصيل طالما المعنى صحيح نحن لا ننكره ولم ينكره أهل السنة الذي ناقشوا الأشاعرة في تصرفهم هذا أي في التفريق بين الصفات لكن لم يخطئوهم في هذا الاصطلاح الجديد في تسمية صفة الوجود صفة نفسية لم أجد من ناقشهم في هذا الاصطلاح إلا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان ناقشهم في هذه التسمية ولى كل ليس هناك خطر في هذه التسمية وفي تسمية الصفات الخمسة بالسلبية أيضا وفي تسمية الصفات السبع بالمعاني أو بالمعنوية إلا أن الخطورة أو المخالفة فيما يأتي الآن ، أثبتوا هذه الصفات على ظاهرها وجعلوا كل ذلك حقيقة ، هذه الصفات ثابتة لله تعالى وحقيقة وليست بمجاز ، في الظاهر وافقوا أهل السنة في إثبات هذه الصفات لكن خالفوهم في طريقة الإثبات ، أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات بالأدلة النقلية مع العلم أن الأدلة العقلية لا تخالف الأدلة النقلية والقاعدة التي قعدها أتباع السلف (أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح) وفي هذا ألف شيخ الإسلام كتابا مستقلا ، والأشاعرة اعتبروا الأدلة النقلية أدلة يستأنس بها ومؤيدة للأدلة الأصلية عندهم وهي الأدلة العقلية ، هذا وجه من وجوه مخالفة الأشاعرة أهل السنة والجماعة وإن كان كثير من الذين درسوا هذه العقيدة على أساس أنها عقيدة أهل السنة والجماعة يستصعبون عندما نقول إن الأشاعرة يخالفون أهل السنة والجماعة ولكننا نحن نقول وندلل لا ندعي مجرد دعوى ، إذا قلنا خالفوا نبين وجه المخالفة ، وإذا قلنا وافقوا نبين وجه الموافقة(4/2)
وما وافقوا فيه وهذا هو الإنصاف ولا داعي للغضب كما يظهر من بعض الأسئلة لماذا تسمى الأشاعرة أنهم ليسوا أهل السنة والجماعة ، ويحسبون أن القول أن القول بأنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة هو الحكم عليهم بالكفر وهذا خطأ في التصور فلْيتأنى هذا المناقش ، فرق بين أن يقال ليسوا من أهل السنة والجماعة وبين أن يقال إنهم كفار ، إذا قيل ليسوا من أهل السنة والجماعة معناه أنهم من المبتدعة من الفرق التي خالفت خط السلف وهذا أمر واضح .
(يجعل) هذه الصفات (حقيقة) ولكن (ينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته) لا يثبت هذه الصفات وما في معناها من الصفات الخبرية المحضة سواء كانت ذاتية أو فعلية كالمحبة والرضا والغضب والكراهة أو ذاتية كالوجه واليدين .
(فيجعل ذلك مجازا) بالنسبة لهذه الصفات المذكورة (يفسره إما بالإرادة) المحبة إرادة الإحسان كذلك الرضا إرادة الإحسان ، والغضب والكراهة إرادة الانتقام .
أو يفسر (ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات) كأن يقول معنى المحبة الإنعام نفسه ومعنى الرضا الإنعام - ليس الإرادة - الإنعام ، ومعنى الكراهة العقوبة أو الانتقام وهكذا إما يفسر بالإرادة إرادة الانتقام إرادة العقوبة أو إرادة الإنعام ، وهذا كما ترون نوع من التناقض لأنه تفريق بين ما جمع الله ، هذه الصفات التي أثبتوها على الحقيقة مع الاختلاف في طريقة الإثبات كما أشرنا والصفات التي أوجبوا تأويلها كلها واردة في الكتاب والسنة ، ما الدليل على هذا التفريق وما هو المبرر ؟ وما هي شبهتهم ؟
شبهتهم التنزيه ، فإذا نزهتم في هذه الصفات وأولتم أو أوجبتم تأويلها بدعوى التنزيه لماذا لم توجبوا تأويل الصفات الأخرى بدعوى التنزيه أيضا ؟ تناقض لا يجدون جوابا مقنعا.
إذا فعلوا ذلك قيل لهم (لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته) بين ما نفيته من المحبة والرضا والغضب وبين ما أثبته من السمع والبصر والإرادة .(4/3)
(بل القول في أحدهما كالقول في الآخر) عقلا وشرعا ، عقلا لأن ما ثبت لأحدهما ثبت للآخر ، وشرعا لأن الله جمع بين هذه الصفات فأثبتها كلها لنفسه أو أثبتها له رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام ، وليس لأحد الافتيات على الله أو على رسوله عليه الصلاة والسلام بأن هذه الصفة تليق بالله وهذه لا تليق هذا تدخل وحكم على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام وتصحيح لله ولرسوله كأن يقول : ما أثبته لنفسك من هذه الصفات لا تليق بك يا رب ، وما أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يليق اللائق كذا ، النزول الذي أثبته الرسول عليه الصلاة والسلام لا يليق بالله ، الذي يليق بالله أن يكون النزول نزول الأمر أو نزول الملك ، الاستواء الذي أثبت الله لنفسه لا يليق بالله اللائق تفسير الاستواء بالمُلك أو بالسلطان أو بالهيمنة ، والمحبة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام لا تليق بالله بل المراد بالمحبة إرادة الإنعام أو الإنعام نفسه أليس هذا تصحيحا وتعقيبا على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام ؟ والأمر واضح .(4/4)
يقال له هذا التصرف خطأ (بل القول في أحدهما كالقول في) البعض (الآخر فإن قلت إن إرادته) التي أثبتُّها (مثل إرادة المخلوقين) ومع ذلك أثبتُّها مع التشبيه (فكذلك محبته ورضاه وغضبه وهذا هو التمثيل) وقعت في التمثيل والتشبيه أي : إن أثبتَّ ما أثبتَّ على أن هذه الصفات مثل صفات المخلوقين من الإرادة والقدرة والسمع والبصر يقال لك إذن المحبة والرضا والغضب كذلك ، الباب واحد وهذا هو التمثيل فأصبحت مشبها ممثلا وفي الوقت نفسه أنت معطل ، لأن كل مشبه معطلا بمعنى : من أثبت لله تعالى سمعا كسمع المخلوق وإرادة كإرادة المخلوق شبه كما لا يخفى وفي الوقت نفسه عطل الله سبحانه وتعالى عن السمع الذي يليق به وعن الإرادة التي تليق به ، جمع بين التشبيه وبين التعطيل ، المشبة مشبه ومعطل ، كذلك المعطل معطل ومشبه ، من نفى صفة من صفات الله تعالى عطل الله من بعض كمالاته كصفة السمع والبصر مثلا وفي الوقت الذي عطل شبه الله تعالى بالجمادات التي لا توصف لا بالسمع ولا بالبصر ، إذا كل منهما يجمع بين الآفتين : التشبيه والتعطيل .
(وإن قلت : أثْبتُ إرادة تليق) بالله تعالى وسمع يليق بالله وبصر يليق بالله إلى آخر ما أثبت (كما أن للمخلوق إرادة تليق به) وتناسبه أي إرادة الله ليست كإرادة المخلوق ولا تشبهها ، كذلك إرادة المخلوق ليست كإرادة الخالق ، لله إرادة تليق به وللمخلوق إرادة تناسبه .
(قيل لك وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به) الباب واحد لماذا فرقت وتصرفت هذا التصرف ؟.
(وله) أيضا (رضا وغضب يليقان به) وللمخلوق رضا وغضب يليقان به ، هكذا يناقش من يفرق بين الصفات وهم معروفون هم الأشاعرة والماتريدية . نعم .(4/5)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( وإن قال الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال له والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة فإن قلت هذه إرادة المخلوق قيل لك وهذا غضب المخلوق ، وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات . وإن قال إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه قيل له وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة ، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته . فإن قال المعتزلي ليس له إرادة ولا كلام قائم به لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم ولا تكون كصفات المحدثات ، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك. ))
قال الشيخ رحمه الله (وإن قال) المفرق بين الصفات النافي للغضب والمحبة مثلا قال إنما نفيت الغضب لأن (الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام) قيل له أنت أثبت الإرادة (والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة) فكيف تفرق بينهما ؟ هذا غليان دم القلب لذلك أولت وهذه ميل النفس وهل تثبت لله ميل النفس تقول الله موصوف بميل النفس ؟ بينما تنفي غليان دم القلب ؟ هكذا يناقش .
(فإن قلت هذه إرادة المخلوق) التي فسرتُها بميل النفس هذه إرادة المخلوق ليست إرادة الله فإرادة الله كما يليق به .
(قيل لك وهذا) الغضب الذي هو غليان دم القلب (غضب المخلوق) وغضب الله غضب يليق به ما الفرق بين هذا وذاك ؟ لا فرق .(4/6)
(وكذلك يُلزم) المفرق (بالقول في كلامه وسمعه وبصره وقدرته) مع ملاحظة أن الكلام هنا أجْمِل وسبق أن درسنا أن الكلام عندهم ليس الكلام اللفظي الذي هو القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكلام الذي خاطب الله به أنبياءه ، ولكن الكلام عندهم الكلام النفسي ، ولكننا نحن الآن نناقش حسبما ذكروا وإن أضمروا شيئا زعموا أنهم يثبتون صفة الكلام وعند المناقشة والتحقيق نعلم ما هو الكلام الذي أثبتوه هو الكلام النفسي ولكن المناقشة على ظاهر كلامهم لذلك قال :
(وكذلك يُلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته) سبحانه (إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات) .
(وكذلك يلزم بالقول في كلامه) وفي بعض النسخ (ولذلك) (يلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات) الكلام فيه ركة [[على كل معروف يجب أن ينفى عن صفات الرب عن الغضب والمحبة والرضا وكذلك عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات ما هو من خصائص المخلوقين أي لا يلزم صفات الخالق خصائص ولوازم صفات المخلوقين هذا كذلك يجب أن نعتبرها قاعدة عندما نثبت صفات الله تعالى يجب أن نعتقد أنه لا يثبت لصفات الخالق خصائص صفات المخلوقين ولا يلزم صفات الله تعالى لوازم صفات المخلوقين هذه قاعدة نافعة .
(وإن قال إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين) لا حقيقة للغضب والمحبة والرضا والصفات التي أولها وأوجب تأويلها لا حقيقة له إلا ما يختص بالمخلوقين أي لا يتصور من الغضب والمحبة والرضا إلا ما يختص بالمخلوقين .(4/7)
(فيجب نفيه عنه قيل له وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة) إذن لك أن تقول لا حقيقة للكلام والسمع والبصر والعلم والقدرة إلا ما يختص بالمخلوقين ويلزمك أن تنفي هذه الصفات كما نفيت التي قبلها ، وهذا الكلام الذي يناقش به شيخ الإسلام الأشاعرة صرح به .. الجويني الأب .. في رسالته التي وجهها بعد توبته إلى شيوخ الأشاعرة تعلم بأن شيوخ الأشاعرة لا يتصورون من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق فيقول ... ]] على يد ابن تيمية في القرن السابع والثامن .
(فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه) من المحبة والرضا وما بعدهما (كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته) تجري الآن المناقشة بين الأشاعرة وبين المعتزلة فنحن نناقش الأشاعرة بما يناقش به الأشعري المعتزلي أولا نستمع كيف يناقش الأشعري المعتزلي فنأخذ أسلوبه فنناقش الأشعري بنفس الأسلوب الذي ناقش به المعتزلي .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه) المعتزلي (فيما أثبته فإن قال المعتزلي ليس له إرادة ولا كلام قائم به) الكلام في عقيدة المعتزلة المعتزلي يثبت بأن الله متكلم أي خالق للكلام كلام الله خلق من خلق الله منفصل خلقه الله في إما في شجرة أو في مخلوق آخر ليس لله كلام قائم به هذه عقيدة المعتزلة ، إذا قال المعتزلي هذا (لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات) يعني في عقل المعتزلة لا تقوم الإرادة والسمع والكلام والبصر إلى غير ذلك لا تقوم إلا بالمخلوقات لا يوصف بالسمع والبصر والكلام والإرادة والقدرة إلا المخلوق .
(فإنه) أي الأشعري ، الضمير هنا راجع للأشعري (يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم ولا تكون كصفات المحدثات) يثبت هنا الأشعري أن الاتفاق في المعنى العام ..
الشريط العاشر :(4/8)
يثبت هنا الأشعري أن الاتفاق في المعنى العام لا يضر بل يجب أن يتصف الخالق بهذه الصفات على ما يليق به في الوقت الذي يتصف المخلوق بهذه الصفات على ما يناسبه (فهكذا يقول له المثبتون) وهم أهل السنة والجماعة يقال لهم المثبتة ، يقول المثبتون للأشعري الذين يثبتون (سائر الصفات) أي جميع الصفات ، سائر هنا بمعنى الجميع ، الذين يثبتون سائر الصفات يقولون للأشعري (من المحبة والرضا ونحو ذلك) يقولون له كما قال هو للمعتزلي أنه يجب أن يثبت لله تعالى المحبة والرضا والكراهة والغضب والفرح على ما يليق بالله تعالى في الوقت الذي يتصف المخلوق بهذه الصفات على ما يناسبه ، ما قلته أنت للمعتزلي نقوله لك أنت ، ندينك من فمك .
نعم ، فإن قال :
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (( فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل لأن الفعل الحادث دل على القدرة ، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم ، وهذه الصفات مستلزمة للحياة ، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك. قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان :أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه ، وليس لك أن تنفيه بغير دليل ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم))
هذه حجة قوية يجب أن تفهموا .
(فإن قال : تلك الصفات) أي الصفات العقلية من السمع والبصر والعلم والحياة وغير ذلك ، الصفات التي تثبتها الأشاعرة .
تلك الصفات (أثبتها بالعقل) لأن العقل يثبت هذه الصفات .
ذلك (لأن الفعل الحادث دل على القدرة) فعل الله خلقه وإيجاده وإعدامه هذه الأفعال التي تتجدد تدل على قدرة الله تعالى فأنا أثبت قدرة الله بالعقل هكذا يقول الأشعري(4/9)
(والتخصيص دل على الإرادة) التخصيص ، هذا الزمن نهار وذاك ليل ، شتاء وصيف ، قصير وطويل عالم وجاهل عاقل وغبي هذا يسمى تخصيص ، هذا التخصيص يدل على الإرادة ، إذن له قدرة بدليل هذا الإبداع وهذا الإيجاد وهذا الإحداث وله إرادة بدليل هذا التخصيص ، يعني صرف النظر عن الأدلة النقلية .
(والإحكام) إحكام هذا الكون بدون خلل وعلى هذا النظام البديع الذي لم يسبق بمثال (دل على العلم) الذي أحكم هذا الإحكام في خلقه وتخصيصه إذن هو عالم متصف بالعلم ، هذه أثبتها بالأدلة العقلية .
ثم قال (وهذه الصفات) التي أثبتُّها بالعقل (مستلزمة للحياة) لأن الحي هو الذي يوصف بالقدرة وبالإرادة وبالعلم ، (ست) صفات أثبتها الآن .
(والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام) أثبت الصفات كلها بالأدلة العقلية (لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك) وضد ذلك نقص والله سبحانه وتعالى لا يتصف بالنقائص إذن يجب أن يتصف بهذه الصفات وهي صفات الكمال ، هذا الدليل مسلَّم مئة في المئة وهو عند أهل السنة والجماعة ليس هو الأصل بل هو جاء موافقا للنقل النقل هو الأصل .
(قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان) على ما قلت .
(أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين) في نظرك لا يوجد دليل معين للصفات الخبرية كالمحبة والرضا والغضب .
(عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين) المدلول صفة المحبة والرضا والغضب ، إذا كان في زعمك لا يوجد دليل عقلي معين يثبت هذه الصفات لكن لا يلزم من ذلك نفي أو عدم المعين عدم إثبات المعين .
(فهب) افرض .
(أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت) أي أن عقل الأشعري لم يثبت المحبة والرضا والكراهة .
لكن (فإنه لا ينفيه) لا يثبت فقط ، قف إلى هذا الحد ، لكن هل الدليل العقلي ينفي ؟ لا ، إلا أنه لا يثبت في زعمك .(4/10)
(وليس لك أن تنفيه بغير دليل) كما أنك أثبت ما أثبت بدليل يجب أن تنفي ما نفيته بدليل وليس لديك دليل فيما نفيت ، كما أثبت ما أثبت بالدليل وعينت الدليل فإذا نفيت هذه الصفات يجب أن تعين الدليل الذي اعتمدت عليه في نفيك إياها ، انتبه .
(فإنه لا ينفيه) الدليل العقلي المعين الذي زعمت أنه لا يثبت هذه الصفات لا ينفي (وليس لك أن تنفيه بغير دليل) سوف يقتنع بهذا لأن هذه مناقشة عقلية يفهمها .
(لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت) هذه قاعدة متفق عليها بين أهل العقل بين العقلاء جميعا ، النافي للشيء عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل لا يطالب المثبت فقط بالدليل والنافي يتصرف كما يشاء ينفي ما يشاء بدون دليل ، لا ، كل منهما يطالب بالدليل ، إن نفيت شيئا تطالب بالدليل إن أثبت شيئا تطالب بالدليل .
(والسمع قد دل عليه) هذا الذي نفيت أنت بدون دليل بل لعدم الدليل المعين أثبته السمع .
(ولم يعارض ذلك معارض عقلي) العقل لم يعارض وإن كان في زعمك لم يثبت ولكنه لم يعارض إذن ثبت بالسمع ، وإن كنت أنت لا تؤمن بالسمع لكن غيرك يؤمن بالسمع وهذه الصفة ثبتت بالسمع والعقل لم ينفِ لم يعارض ، لأن القاعدة كما تقدم العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح .(4/11)
(فيجب) إذن (إثبات ما أثبته الدليل السالم) وهو الدليل السمعي (عن المعارض المقاوم) وهو الدليل العقلي ، هكذا يثبت أهل السنة والجماعة جميع الصفات ويلزِِِم هذا المفرق ليثبِت ما نفاه كما أثبت ما أثبتَه ، بهذه المناقشة وبهذه الدراسة هدى الله كثيرا من شيوخ الأشاعرة بعد أن كانوا أشاعرة فرجعوا ومن هنا يتبين لكم بطلان زعم الخلف بأن السلف لا يجيدون الأدلة العقلية وإنما يسردون النصوص سردا ، وأنتم تشاهدون كيف كانت هذه الأدلة العقلية والمناقشة العقلية المقنعة لكل منصف لذلك رأينا كما قلت أن بعض شيوخ الأشاعرة بعد أن بلغوا المبلغ في العلم والمعرفة في باب علم الكلام والمنطق والفلسفة بمثل هذه المناقشة استفادوا فرجعوا وآخرهم كما يعلم الجميع فيما نعلم الشيخ محمد خليل هراس ليس بالرجل الهين رجل تخصص في علم الكلام وفي المنطق وفي الفلسفة وأخذ الدكتوراه بامتياز في هذه العلوم ، وفي مدة ثلاثة أشهر عكف على دراسة كتب شيخ الإسلام كان يدرسها ليرد عليه لأنه كما قيل له عدو للمنطق والهراس ابن المنطق البار قيل له كن ابنا بارا فدافع عن المنطق ورد على ابن تيمية ، فدرس كتبه ليرد عليه فهداه الله واعترف أنه لم يفهم الدين الصحيح الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا بعد دراسته لهذه الكتب فتاب وأناب وألف رسالة سماها (ابن تيمية السلفي) بها أخذ الدكتوراه وإن كان هضموا حقه لكنه أخذ وليس فرحه بأنه نال الدكتوراه من الأزهر لكن فرحه بتلك التوبة وبفهمه لمنهج السلف ورجوعه إلى ذلك ، بعد ذلك جاء إلى هذا البلد ونفع الله به كثيرا من شباب المسلمين وأنا من الذين درسوا على ذلك الشيخ رحمه الله .
نكتفي بهذا المقدار .(4/12)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
( من الوجه الثاني للشريط العاشر إلى الوجه الأول للشريط الحادي عشر )
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول هو موجود ولا حى ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هى مجاز لأن اثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحى العليم ، قيل له وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حى ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك اقبح من التشبيه بالموجودات فإن قال أنا أنفى النفي والإثبات قيل له فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات فإنه يمتنع أن يكون الشىء موجودا معدوما أولا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت او العلم والجهل أو يوصف بنفى الوجود والعدم ونفى الحياة والموت ونفى العلم والجهل فإن قلت انما يمتنع نفى النقيضين عما يكون قابلا لهما وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حى ولا ميت إذ ليس بقابل لهما قيل لك أولا هذا لايصح فى الوجود والعدم فانهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل فهذا اصطلاح إصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفى الحقائق العقلية وقد قال الله تعالى " والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون"فسمى الجماد ميتا وهذا مشهور فى لغة العرب وغيرهم وقيل لك ثانيا فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك فالأعمى الذى يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذى لا يقبل واحدا منهما فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات(5/1)
القابلة لصفات الكمال ووصفته بصفات الجمادات التى لا تقبل ذلك))
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المناقشة هنا مع نفاة الأسماء والصفات معا (وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول هو موجود ولا حى ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هى مجاز) أي لأنها مجاز .
(هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز) في حق الله تعالى ، يعتبرون الأسماء والصفات حقيقة في حق المخلوق ومجازا في حق الله .
(لأن اثبات ذلك) لله تعالى في زعمهم .
(يستلزم التشبيه بالموجود الحى العليم القدير) لأن المخلوق هو الموصوف بأنه الموجود الحي العليم القدير .
(قيل له وكذلك إذا قلت ليس بموجود ولا حى ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات) هكذا يصل المخلوق إذا أعرض عما جاء به الكتاب والسنة أو عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام بالجملة واعتمد على عقله يصل إلى هذه الدرجة ، يرى بأن وصف الله تعالى بأنه حي عليم قدير فيه تشبيه بالمخلوقات فيقع في تشبيه الله تعالى بالمعدومات ، ينفي عنه الوجود والحياة والعلم والقدرة حتى يشبهه بالمعدومات .
(فإن قال أنا أنفى النفي والإثبات) لا أثبت ولا أنفي وطبعا هذا كلام غير معقول .
(قيل له فيلزمك) في هذه الحالة (التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات) النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان بل لابد من ارتفاع أحدهما مع بقاء الآخر .
(فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما) بل عقلا إما يكون موجودا وإما يكون معدوما .
(أولا موجودا ولا معدوما) ولا معنى لهذا إنما هو هذيان .
(ويمتنع أن يوصف) الشيء (باجتماع الوجود والعدم) معا (والحياة والموت) معا (والعلم والجهل) معا (أو يوصف بنفي الوجود والعدم) معا ، برفعهما.
( ونفى الحياة والموت ونفى العلم والجهل) هذه من الممتنعات عقلا .(5/2)
اعترض (فإن قلت إنما يمتنع نفى النقيضين عما يكون قابلا لهما) قابلا للنقيضين .
(وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة) العدم والمَلَكة أمران أحدهما وجودي والآخر عدمي بالنسبة لم شأنه أن يقبل الاتصاف بالأمر الوجودي كالبصر والسمع والأمر العدمي كالعمى والصمم ، في مثل هذا التقابل يقال تقابل العدم والمَلكَة إنما هو اصطلاح .
(لا تقابل السلب والإيجاب) أي ليس هنا السلب والإيجاب وهذه أيضا مغالطة .
وعلل ذلك بقوله ( فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت إذ ليس بقابل لهما) في زعمه بأن الجمادات لا توصف لا بالموت ولا بالحياة ، المتقابلات في الغالب كلها من باب السلب والإيجاب ، المتقابلات كالآتي – اكتب البيتين - :
الممكنات المتقابلاتُ وجودنا والعدم الصفاتُ
أزمنة أمكنة جهاتُ كذا المقادير روى الثقاتُ
هذه هي المتقابلات عقلا ، الوجود والعدم تقابلهما تقابل السلب والإيجاب أي لا يجتمعان .
الصفات : العلم والحياة ، تقابل السلب والإيجاب .
الأزمنة : ليل ونهار ، شتاء وصيف .
أمكنة : جبل وسهل .
جهات : فوق وتحت .
المقادير : القليل والكثير والصغير والكبير أو الأعداد .
كلها تقابلها تقابل السلب والإيجاب ، أي من النقيضين ، وما ذكر من الجهل والعلم والموت والحياة لا يخرج من هذا الاصطلاح .
وذلك (باتفاق العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل فهذا اصطلاح إصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون) الفلاسفة وعلماء الكلام كغيرهم قد يختلفون في اصطلاحاتهم ، المتفلسفة المشاءون أتباع أرسطو وإنما قيل لهم مشاءون لأن أستاذهم كان من فلسفته يرى عندما يلقي الدرس أنه يتمشى في داخل الحديقة وتلاميذه يمشون حوله فيتلقون المحاضرات والعلوم مشيا على الأقدام فقيل لهم مشاءون .(5/3)
(والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفى الحقائق العقلية) الحقائق العقلية أن هذه كلها من المتقابلات بالسلب والإيجاب ، والجمادات توصف بالعلم وتوصف بالحياة والموت .
(وقد قال الله تعالى"والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون") بما في ذلكم الأصنام ("أموات غير أحياء") وصف الجمادات بأنها أموات غير أحياء ("وما يشعرون أيان يبعثون") إذن لا يستحقون أن يُعبدوا .
(فسمى الجماد ميتا) هذا محل الشاهد من الآية (وهذا مشهور فى لغة العرب وغيرهم) يأتي لهذا تفصيل مفصل في كلام الشيخ مع ذكر الشواهد من اللغة العربية.
الوجه الثاني في المناقشة (وقيل لك ثانيا فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر) يعني تنزلا على رغبتك (ونحو ذلك من المتقابلات) التي سبق ذكرها (أنقص مما يقبل ذلك) .
مثلا (الأعمى الذى يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذى لا يقبل واحدا منهما) أي لا العمى ولا البصر .
(فأنت فررت) بدعوى التنزيه (من تشبيه) الله تعالى (بالحيوانات القابلة لصفات الكمال) وإن كان ذلك أيضا نقصا وغير لائق بالله لكن فررت من هذا التشبيه الذي هو كفر (ووصفته بصفات الجمادات) أكثر كفرا وأكثر امتناعا عقلا (التى لا تقبل ذلك) الذي أوقعهم في ذلك كله في زعمهم التنزيه ولا يتم التنزيه إذا كانت هناك أي مشاركة بين الخالق وبين المخلوق ، بدأوا بنفي الصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق اشتراكا عاما في المعنى العام إلى أن وصلوا إلى تشبيه الله سبحانه وتعالى بالجمادات ...
نعم .. السلب والإيجاب نقيضان .. ، نعم ، أحدهما وجودي والآخر عدمي .
نعم .(5/4)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وأيضا فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعا مما نفيت عنه الوجود والعدم واذا كان هذا ممتنعا فى صرائح العقول فذلك أعظم امتناعا فجعلت الوجود الواجب الذى لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد ، وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين الوجود والعدم ، ورفعُهما كجمعهما ومن يقول لا أثبت واحدا منهما فامتناعه عن اثبات احدهما فى نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما فى نفس الأمر وانما هو كجهل الجاهل وسكوت الساكت الذى لا يعبر عن الحقائق ))
(وأيضا) من وجوه المناقشة (فما لا يقبل الوجود والعدم) معا (أعظم امتناعا) في العقل (من القابل للوجود والعدم بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعا) عقلا أي امتناع وجوده (مما نفيت عنه الوجود والعدم) في الصورة الأولى نفى القبولية نفي القبول أعظم امتناعا من نفي الوجود ( واذا كان هذا ممتنعا) نفي القبول ونفي الوجود معا إذا كان هذا ممتنعا (فى صرائح العقول) لأن العقل الصريح كما تقدم لا يكاد يخالف النقل الصحيح والنقل الصحيح أثبت لله سبحانه وتعالى صفات الكمال مع ما هنالك من المشاركة في المطلق العام .(5/5)
(فذلك أعظم امتناعا فجعلت الوجود الواجب) وهو الله ، الوجود الواجب هو الله ، الله يقال له الواجب ويقال له واجب الوجود (الذى لا يقبل العدم) هذا تفسير لواجب الوجود ، واجب الوجود الذي لا يقبل العدم ولم يسبق بعدم جعلته (هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد ، وهؤلاء الباطنية) الذين سلكوا هذا المسلك لهم مذاهب وقد يكون الاختلاف بينهم اختلافا لفظيا (منهم من يصرح برفع النقيضين) أي لا وجود ولا عدم هذا رفع النقيضين ، والنقيضان لا يرتفعان إما الوجود وإما العدم .
(ورفعهما) رفع النقيضين (كجمعهما) الجمع بين الوجود والعدم وصف الشيء بأنه موجود ومعدوم مستحيل ، ورفعهما أيضا ليس بموجود ولا معدوم مستحيل .
(ومنهم يقول لا أثبت واحدا منهما) أي يتوقف ، لا يصرح برفعهما ولا بجمعهما ولكنه يتوقف .(5/6)
(فامتناعه عن اثبات احدهما فى نفس الأمر) أي توقفه في ذلك (لا يمنع تحقق واحد منهما فى نفس الأمر) وإنما امتناعه مثّل أو شبّه الشيخ هذا بقوله (وانما هو كجهل الجاهل وسكوت الساكت) لو زعم أحدهم أو لو قال قائل إنه يجهل وجود بلد معين أو كتاب معين أي لا يعلم وجود الاسكندرية مثلا لا ينفي ذلك أن ذلك البلد موجود وإنما نفى علمه ، عدم علمك للمعلوم لا يدل على عدم وجود ذلك المعلوم وإنما نفيت هنا علمك ولم تنف ذلك الشيء المعلوم، كذلك إذا توقفت لا أنفي ولا أثبت إنما نفيت علمك فقط ولا يؤدي ذلك إلى عدم تحقق وجود الله تعالى ، كذلك لو تباحث جماعة من الناس واختلفوا في القبلة مثلا ، أحدهما أشار إلى اليمين والآخر إلى اليسار وسكت الثالث ، سكوت الثالث لا يدل على أنه لا رأي له وإنما أمسك عن إبداء رأيه كما أن سكوت الساكت لا يدل على عدم الرأي وجهل الجاهل لا يدل على عدم وجود ذلك الشيء الذي جهله كذلك إذا توقف هؤلاء عن الإثبات وعن النفي والإثبات معا لا يؤدي ذلك إلى عدم وجود الرب سبحانه وتعالى ، هذا معنى قوله – مرة أخرى – (امتناعه عن اثبات احدهما فى نفس الأمر لا يمنع تحقق واحدا منها في نفس الأمر) لو حذف كلمة ( في نفس الأمر) في الجملة الأولى يكون المعنى أوضح ويكون هكذا (وامتناعه عن إثبات أحدهما لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر) أي في الحقيقة والواقع .
(وانما هو كجهل الجاهل) كما مثلنا (وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق) وإنما يعبر عن جهله أو عدم إبداء رأيه في الصورتين في صورة الجهل وفي صورة السكوت.(5/7)
قال شيخ الإسلام رحمه الله ((وإذا كان مالا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعا مما يقدر قبوله لهما مع نفيهما عنه فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا العمى ولا البصر ولا السمع ولا الصمم أقرب الى المعدوم الممتنع مما يقدر قابلا لهما مع نفيهما عنه وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلا لهما أقرب الى الوجود والممكن وما جاز لواجب الوجود قابلا وجب له لعدم توقف صفاته على غيره فإذا جاز القبول وجب واذا جاز وجود القبول وجب وقد بسط هذا فى موضع آخر وبين وجوب اتصافه بصفات الكمال التى لا نقص فيها بوجه من الوجوه ))
(وإذا كان مالا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعا) كما تقدم (مما يقدَّر قبوله لهما) قبوله للوجود والعدم (مع نفيهما عنه) يعني فعلا معدوم لكنه قابل (فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا العمى ولا البصر ولا السمع ولا الصمم أقرب الى المعدوم والممتنع مما يقدر قابلا لهما مع نفيهما عنه) مجرد التقدير (وحينئذ فنفيهما ..
الشريط الحادي عشر :
مجرد التقدير (وحينئذ فنفيهما) الوجود والعدم مثلا (مع كونه قابلا لهما) ليس ممتنعا عليه(أقرب الى الوجود والممكن) مما لا يقبل ذلك (وما جاز لواجب الوجود) وهو الله سبحانه وتعالى (- قابلا -) بين شرطتين (وما جاز لواجب الوجود – قابلا -) لا وجودا بل قابلا يعني في اصطلاحهم (وجب له) فإذا قدّر جواز ذلك لواجب الوجود يجب أن يكون ذلك واجبا لا جائزا لأن الله في ذاته واجب الوجود وما يثبت له من الصفات واجب الوجود ، كما أن الله واجب الوجود سمعه واجب الوجود وبصره واجب الوجود وعلمه واجب الوجود إذن يجب أن يكون ذلك واجبا طالما وافقتم على أن ذلك مقبول وإن لم يكن موجودا في زعمكم .(5/8)
(وما جاز لواجب الوجود – قابلا – وجب له) لماذا (لعدم توقف صفاته على غيره) هذا هو الفرق بين الواجب وبين الممكن ، الممكن ما يتوقف وجوده على غيره ، ما يتوقف وجوده على غيره يقال له جائز ويقال له ممكن ، ما لا يتوقف وجوده على غيره فهو الواجب وهو الله وحده بأسمائه وصفاته .
(فإذا جاز القبول وجب) بمجرد اعترافكم جواز القبول في الواقع واجب ، إثبات وجود الله واجب وإثبات العلم واجب ، معنى الوجوب هنا الواجب الذي لا يتوقف وجوده على غيره والذي لم يسبق بعدم هذا معنى الواجب هنا ، واجب وجائز هذا اصطلاح غير الوجوب والجواز عند الفقهاء أو عند غيرهم ، واجب الوجود الذي لم يسبق بعدم ولا يتوقف وجوده على غيره ذلك هو الله وحده بأسمائه وصفاته يقال له واجب ويقال له واجب الوجود وما عدا رب العالمين يقال له ممكن ويقال له جائز ومعنى الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه ومعنى الجائز الذي يتوقف وجوده وعدمه على غيره ، إذن جائز وممكن بمعنى واحد .
(وإذا جاز وجود القبول) أي أثناء المناظرة وافقتم على القبول (وجب) لماذا وجب ؟
لما تقدم لأنه لا يتوقف وجوده على غيره وما لا يتوقف وجوده على غيره فهو واجب .
(وإذا جاز وجود القبول وجب) كلما توافقوا على احتمال القبول أو على أنه يقبل الوجود فنحن نقول إن ذلك واجب لأن القاعدة تنطبق أي لا يتوقف وجوده على غيره طالما وافقتم على القبول فإنه واجب هذا اصطلاح القوم ، نعم .
يقول شيخ الإسلام (وقد بسط هذا فى موضع آخر وبيّن وجوب اتصافه) سبحانه وتعالى (بصفات الكمال التى لا نقص فيها بوجه من الوجوه) أحال المحقق ذلك على بعض المراجع من كتب شيخ الإسلام من ذلك مجموع الرسائل والمسائل مطبعة المنار بمصر الطبعة الأولى إن كان هذا الكتاب موجود لديكم بإمكانهم أن ترجعوا لتقفوا على البسط هناك .
نعم الوجه الثالث :(5/9)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((الوجه الثالث وقيل له أيضا اتفاق المسميين فى بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذى نفته الأدلة السمعيات والعقليات وانما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق ولا يشركه مخلوق فى شىء من خصائصه سبحانه وتعالى ))
(الوجه الثالث) في المناقشة .
(وقيل له أيضا) لهذا الباطني المتفلسف .
(اتفاق المسميين فى بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذى نفته الأدلة السمعيات والعقليات) التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعية فوافقت الأدلة العقلية ليس هو مجرد الاتفاق ، ليس مجرد الاتفاق بين المسميين في بعض الأسماء وفي بعض الصفات وهذا الموضوع قد بحث .
(وانما نفت) الأدلة السمعية فوافقت الأدلة العقلية (ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق) سبحانه (مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه) متى يأتي هذا الاختصاص ؟
بعد الإضافة .
أما الاسم المطلق والوصف المطلق هذا محل الاشتراك ، المطلق الذي لم يضف لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق كما مثلنا غير مرة بالسمع المطلق والبصر المطلق والعلم المطلق ، أما بعد إضافة سمع الله إلى الله وبصر الله إلى الله وعلم الله إلى الله لا اشتراك ، هذا الاشتراك هو الذي نفته الأدلة السمعية ووافقت الأدلة العقلية الصريحة السليمة التي بقيت على صراحتها وسلامتها ، إشارة إلى أن العقل الصريح السليم لا يكاد يخالف النقل الصحيح ، إذا كان النقل صحيحا كأن كان كتابا أو سنة صحيحة والعقل صريح سليم لا يحصل التعارض أبدا وقد علمتم أن شيخ الإسلام ألف كتابا مستقلا في هذا الموضوع .
يقول (وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق) سبحانه ، وعرفنا كيف يأتي الاختصاص ؟ بالإضافة ( مما يختص بوجوبه) كأسمائه وصفاته (أو جوازه أو امتناعه) ما هو الجائز في حق الله تعالى ؟(5/10)
شيء واحد الإيجاد والإعدام لا أحد يشارك الله في إيجاد الكون أو في إعدام الكون ، هذا يسمى في اصطلاح أهل الكلام جائز ، أي في حق الله تعالى إما أن تثبت الصفات الواجبة وهي جميع كمالات الله تعالى أو تثبت الممتنعات أضداد تلك الكمالات أضداد الصفات من الممتنعات ، أضداد الكمال ممتنع الشريك ممتنع والصاحبة ممتنعة والولد ممتنع والوزير ممتنع والمعين ممتنع هذه ممتنعات ، أما الجواز أي ما يفعله الرب سبحانه وتعالى تفضلا منه وإحسانا وليس إلزاما كالمنع والعطاء والإيجاد والإعدام (فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق) لا يشارك الله تعالى مخلوق في واجباته وفي الجائزات وفي الممتنعات لأن هذه الممتنعات التي تعد من كمالات الله تعالى بالنسبة للمخلوق قد تكون هذه الممتنعات من الكمالات الولد والصاحبة من الكمالات في المخلوق لأن الله كمله بذلك ، الإنسان ضعيف لا يكمل إلا بوجود ما يكمله الصاحبة تكمله والولد كذلك والشريك والمعين وهكذا تجد بعض الأشياء التي هي تعتبر كمالا في المخلوق ولكنها نقص وممتنع في الخالق سبحانه وتعالى لغناه المطلق لأنه الغني المطلق الذي لا يحتاج إلى شيء وكل شيء يحتاج إليه وهو غني عن كل شيء سبحانه .
(ولا يشركه مخلوق فى شىء من خصائصه سبحانه وتعالى) وقد علمنا الخصائص ، صفات الكمال - وصفات الله تعالى كلها كمال - من خصائصه ، متى تعد هذه الصفات ويطلق عليها أنها صفات الكمال ؟(5/11)
إذا اختصت به بالإضافة . وقبل اختصاص الصفات بالله تعالى بالإضافة يعتبر ذلك المطلق الكلي أو المعنى العام وهو محل الاشتراك ، كما ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشرك المخلوق في خصائص صفات المخلوق ، لصفات المخلوق خصائص ، الحدوث ، صفات المخلوق حادثة كما أن المخلوق حادث ، صفات المخلوق ناقصة كما أن المخلوق ناقص ، المخلوق لا يملك الإيجاد والإعدام ، المخلوق قد تكون هذه النواقص في حقه كمالا كما قلنا فالله سبحانه وتعالى منزه من أن يشارك عبده مثلا في علم العبد ، أي في خصائص علم العبد ، انتبه ، خصائص علم العبد لا تطلق ، الله هو الذي أعطى العلم لعبده ، العلم الذي أعطاه علم ناقص " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " علم ناقص حادث وزائل ، وكما قلنا غير مرة عرضة للنسيان والجهل والزوال ، لا يشارك الله سبحانه وتعالى عبده بهذا العلم الموصوف بهذه المواصفات وقس على ذلك سائر الصفات ، إذن هنا يحصل عدم المشاركة بين الخالق والمخلوق واستحالة ذلك ، أما قبل وجود الاختصاص بالإضافة في صفات الله وفي صفات المخلوق هذا محل الاشتراك وأمر لا بد منه كما سيشرح الشيخ في المستقبل إن شاء الله .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله ((وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل وتسميتك ذلك تشبيها وتجسيما تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمى الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقلهم ودينهم حتى أخرجوهم الى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغى والضلالة ))
قال الشيخ رحمه الله تعالى وهو يناقش الفلاسفة الباطنيين (وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل) أي بالعقل الصريح السليم .(5/12)
(وتسميتك ذلك تشبيها) كتسمية إثبات الأسماء والصفات تشبيها (وتجسيما تمويه على الجهال) الذين لم يدرسوا ما جاءت به الرسل ويتبعون كل ناعق .
(الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم) ما (بهذا الاسم) إذا قال الأشعري إثبات الاستواء والنزول والمجيء تشبيه أخذ الجاهل هذا الاسم وهذا المعنى ونفى استواء الله تعالى اللائق به على عرشه ونزوله اللائق به آخر كل ليلة ومجيئه اللائق به يوم القيامة لفصل القضاء لأن هذا المسمي سمى ذلك تشبيها ، وإذا سمى المعتزلي إثبات جميع الصفات أو إثبات أي صفة من الصفات تشبيه اتبعه الناس وقد انطلى هذا المذهب على رجل معروف بالعقل والذكاء والدهاء وهو المأمون العباسي لما قربت منه المعتزلة فصارت بطانته بطانة السوء هي التي أفسدت عليه دينه وعقيدته واعتبر ذلك دينا واعتبر إثبات الصفات تشبيها وتبنى هذا المذهب وآذى علماء الإسلام والأئمة بسبب ذلك إلا أنه لم يتمكن من الإيذاء المباشر حيث هلك قبل أن ينفذ ما أراد إلا أن ذلك نُفذ بعده نفذه المعتصم بالله والواثق بالله ، إلا أن الله رفع هذه المحنة وذلك البلاء في عهد المتوكل على الله الخليفة العاشر من خلاف بني العباس .
أريد أن أقول إن ما حصل للأئمة في عهد العباسيين في عهد المأمون العباسي والخليفتين بعده تلبيس من المعتزلة حيث لبسوا على الناس وموهوا بأن إثبات الصفات يؤدي إلى تشبيه الله تعالى بخلقه وانطلى ذلك على بعض الخلفاء وتبنوا دينا وسياسة عذبوا المثبتين من أتباع السلف على ذلك .
لذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وتسميتك ذلك تشبيها وتجسيما تمويه على الجهال) قد يكون الإنسان صاحب مكانة ومنزلة وجاه لكن يجهل حقيقة دينه كما حصل لبعض الخلفاء .(5/13)
(الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم) أي : مسمٍّ ما سواء كان أشعريا أو معتزليا أو فلسفيا ، بهذا الاسم ( يجب نفيه ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمى الحق بأسماء ينفّر عنها بعض الناس) كما وقع بالفعل ( ليكذب الناس بالحق) وفعلا كذب كثير من الناس بالحق كذبوا إثبات صفات الله تعالى منهم من كذب إثبات جميع الصفات ومنهم من فرق كما تقدم .
(المعلوم) ذلك المعلوم ، الحق المعلوم (بالسمع والعقل) يذكر شيخ الإسلام دائما مع السمع العقل لأنه تقرر عنده بالاستقرار أن العقل الصريح السليم لا يخالف النقل الصحيح وإنما يكرر ذلك لأن خصومه من المعتزلة والأشاعرة جعلوا العمدة في هذا الباب الدليل العقلي ، حتى الأشاعرة الصغار دع المعتزلة ، فيما تصرفوا زعموا بأن العمدة في هذا الباب الدليل العقلي لا الدليل النقلي ، علما بأنهم يذكرون أحيانا عند ذكر بعض الصفات كالسمع والبصر والكلام يذكرون الأدلة النقلية ولكنهم يصرحون بأنهم إنما يذكرون ذلك من باب الاعتضاد بها لا من باب الاعتماد عليها الاعتماد على الأدلة العقلية ، يقول لهم شيخ الإسلام : لا اتبعتم لا السمع ولا العقل ولكن اتبعتم الهوى والتقليد ولو سلمت عقولكم لما نفيتم ما أثبت السمع.
(وبهذه الطريقة) تسمية الحق تشبيها وتجسيما أو تسمية إثبات صفات الله تعالى وأسمائه تشبيها وتجسيما وبهذا التمويه (أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم) يشير شيخ الإسلام بهذا إلى ما سيأتي من تصرف وحدة الوجود وهم الملاحدة إذا أُطلقوا .
(أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقولهم ودينهم حتى أخرجوهم الى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغى والضلالة) يصف شيخ الإسلام أن رئيس وحدة الوجود ابن عربي جاء بكفر أقبح من كفر كفار قريش بكفر لم يأت به كفار قريش لأن كفار قريش يؤمنون بتوحيد الربوبية مع كفرهم بتوحيد العبادة وابن عربي خرج من كل ذلك وجعل الكون كله شيئا واحدا أي نفى وجود الله الحقيقي .
وإن قال ..(5/14)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وإن قال نفاة الصفات اثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات وهذا تركيب ممتنع قيل وإذا قلتم هو موجود واجب وعقل وعاقل ومعقول وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا فهذه معان متعدده متغايرة فى العقل وهذا تركيب عندكم وانتم تثبتونه وتسمونه توحيدا فإن قالوا هذا توحيد فى الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا قيل لهم واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد فى الحقيقة وليس هو تركيبا ممتنعا وذلك أنه من المعلوم فى صريح العقول أنه ليس معنى كون الشىء عالما هو معنى كونه قادرا ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما قادرا فمن جوز أن تكون هذه الصفة هى الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة ثم إنه متناقض فانه ان جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا فيكون الوجود واحدا بالعين لا بالنوع وحينئذ فاذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق يعدم بعد وجوده ويوجد بعد عدمه هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقى الذى لا يقبل العدم واذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفا بكل تشبيه وتجسيم وكل نقص وكل عيب كما يصرح بذلك (أهل وحدة الوجود) الذين طردوا هذا الأصل الفاسد وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير ))
مرة أخرى شبهة التركيب الذين نفوا صفات رب العالمين قالوا إثبات هذه الصفات يؤدي إلى التركيب كما زعموا أن إثبات الوجه واليدين والقدم والأصابع يؤدي إلى إثبات الأعضاء وأجزاء وأبعاض ، ويناقش شيخ الإسلام شبهة التركيب فيقول (وإن قال نفاة الصفات إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات وهذا تركيب ممتنع) وتعدد الصفات يتنافى مع التوحيد لأن الله واحد ، إذا أثبتم هذه الصفات على أساس أنها صفات قديمة أدى ذلك إلى تعدد القدماء ، وإن قلتم إنها ليست قديمة بل حادثة أدى ذلك إلى كون الله سبحانه وتعالى محلا للحوادث ، إذن ما هو التوحيد في نظرهم ؟(5/15)
نفي هذه الصفات .
إثباتها أدى إلى تعدد القدماء ، إن أثبتت على أساس أنها صفات قديمة قدم الذات أدى ذلك إلى تعدد القدماء وإن أثبتت على أساس أنها حادثة والقديم واحد صار الرب سبحانه وتعالى محلا للحوادث ، هذه شبهة باطلة ، إذا قيل الله عليم سميع بصير الله واحد بأسمائه وصفاته ليست الصفات منفصلة عن الذات حتى يقال أدى ذلك إلى تعدد القدماء ، فالله قديم بأسمائه وصفاته فصفاته لا تنفصل عن الذات وأسماؤه كذلك وهي قديمة ، أما القول بأنها حادثة هذا بحث يحتاج إلى تفصيل ، الصفات الذاتية كلها قديمة قدم الذات والصفات الفعلية حادثة لكن ليس حدوث خلق واختراع ولكن حدوث فعل لأن الله فعال لما يريد يفعل يحيي ويميت ويمنع ويعطي ويستوي وينزل ويجيء ، أفعال تتجدد ، هذا التجدد هو المراد بالحدوث بالنسبة للصفات الفعلية ، فليُفْهَم هذا جيدا .
(قيل) لأصحاب التركيب (وإذا قلتم هو موجود واجب) يعني الفلاسفة يثبتون بأن الله موجود وبأنه واجب ، معنى واجب ليس بممكن أي ليس بجائز كما تقدم بيان ذلك .(5/16)
إذا قلتم الله سبحانه وتعالى موجود واجب وزدتم من عند أنفسكم صفات يخجل المسلم الذي يقدر الله حق قدره من ذكرها لولا الحكاية ، قالوا الله (عقل وعاقل ومعقول وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة) ذكر العشق في جناب الرب سبحانه وتعالى لا يتلفظ إلا من فقد الحياء مع الله إثبات صفة العشق فضلا من أن يقال إنه هو نفسه عشق ومعشوق إثبات صفة العشق غير جائز ، العشق حب خاص في معنى خاص ، ليس العشق كالشوق وليس العشق كالمحبة بل محبة لا بد أن يكون فيها معنى معينا وهو معنى الشهوة ، هذا لا يذكر في جانب الرب سبحانه وتعالى لولا الحكاية لبيان الحق ما نطق لسان مسلم ولكن القوم بعد أن نفوا صفات الرب سبحانه وتعالى صفات الكمال كالعلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة نفوا هذه الصفات واخترعوا من عند أنفسهم هذه الصفات التي ذكروها التي يذكرها الإنسان وهو يخجل من ذكرها ، فقالوا في حق الرب سبحانه وتعالى (لذيذ وملتذ ولذة) مثل الذي قبله من الصفات التي تدل أي ذكرها يدل على قلة الحياء من رب العالمين ، هكذا يقع الإنسان إذا ترك منهج الله الذي أنزله على رسوله أو رسله واتبع غير منهج المرسلين واتبع هواه يصل إلى هذا الضلال الذي ليس بعده ضلال .
(أليس المفهوم من هذا) مع ما فيه من سوء الأدب (أليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا) أليس المفهوم مما ذكرتم (هو المفهوم من هذا) أي من إثبات صفات الله تعالى .
( فهذه معان متعددة) العقل والعاقل والمعقول وما عطف عليه معاني متعددة (متغايرة فى العقل وهذا تركيب عندكم) أثبتم التركيب الذي فررتم منه ومن أجله نفيتم صفات الرب سبحانه وتعالى ، زعمتم أن إثبات العلم والسمع والبصر إلى آخر الصفات يؤدي إلى التركيب ثم وقعتم في إيجاد التركيب في زعمكم حيث أثبتم معاني متعددة كالعقل والعقل والمعقول وما يعطف عليه من الصفات التي لا نعود إن شاء الله إلى ذكرها .(5/17)
(فهذه معان متعدده متغايرة فى العقل وهذا تركيب عندكم وانتم تثبتونه) تثبتون هذا التركيب (وتسمونه) هذا التركيب (توحيدا) من عند أنفسكم .
(فإن قالوا هذا توحيد فى الحقيقة وليس هذا تركيبا) دعوى ، الدعوى لا يعجز إنسان أن يدعي دعوى ولكن الذي يعجز عنه إقامة البينة على ما ادعى .
(فإن قالوا هذا توحيد فى الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا قيل لهم واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها) صفات الكمال (توحيد فى الحقيقة وليس هو تركيبا ممتنعا) وفي الواقع إثبات الحياة مثلا إثبات الوجود وإثبات الحياة وإثبات السمع هذا ليس إثباتَ أشياء خارجة عن الذات حتى يقال فيه تعدد أو فيه تركيب بل هذا توحيد هذا هو التوحيد حقيقة توحيد الله تعالى في وجوده في علمه في سمعه وبصره كما وُحِّد الرب سبحانه وتعالى في ذاته ، هذا ليس دعوى ، هذا هو التوحيد الحقيقي الذي جاء به السمع ووافق العقل .
(وذلك أنه من المعلوم فى صريح المعقول أنه ليس معنى كون الشىء عالما هو معنى كونه قادرا) المعنى يختلف .
(ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما) معنى الذات غير معنى الصفات .
(فمن جوز أن تكون هذه الصفة هى) الأخرى ، السمع هو البصر والعلم هو الحلم مثلا .
(وأن تكون الصفة هي الموصوف) الصفة والموصوف بمعنى واحد لا معنى للصفة ولا معنى للموصوف .
(فهو من أعظم الناس سفسطة) أي تمويها ومغالطة على الناس .
(ثم إنه متناقض) وجه ذلك (فانه ان جوز ذلك) كون السمع والبصر بمعنى واحد وكون الذات والموصوف بمعنى واحد (جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا) لا فرق بين وجود شخص ووجود شخص آخر .
(فيكون الوجود واحدا بالعين لا بالنوع) من هنا دخلت عليهم عقيدة وحدة الوجود بأن هذا الكون واحد بالعين .
والله أعلم
وإلى غد إن شاء الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(5/18)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
( من الوجه الأول للشريط الحادي عشر إلى آخر الشريط )
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (فإن قالوا هذا توحيد فى الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا قيل لهم واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد فى الحقيقة وليس هو تركيبا ممتنعا وذلك أنه من المعلوم فى صريح المعقول أنه ليس معنى كون الشىء عالما هو معنى كونه قادرا ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما قادرا فمن جوز أن تكون هذه الصفة هى الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة ثم إنه متناقض فانه ان جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا فيكون الوجود واحدا بالعين لا بالنوع وحينئذ فاذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق يعدم بعد وجوده ويوجد بعد عدمه هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقى الذى لا يقبل العدم واذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفا بكل تشبيه وتجسيم وكل نقص وكل عيب كما يصرح بذلك ( أهل وحدة الوجود ) الذين طردوا هذا الأصل الفاسد وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير)
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(6/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (فإن قالوا) نفاة الصفات الذين بعد نفي صفات الله تعالى أثبتوا من عند أنفسهم صفات كثيرة وسموا رب العالمين عقلا وعاقلا ومعقولا إلى آخره إن قالوا (هذا توحيد فى الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا) أي ما فعلوه من وصف الله تعالى بالعقل وما بعده من الصفات التي أحدثوها إن قالوا (هذا توحيد فى الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا) قال لهم أهل الإثبات (واتصاف الذات) العلية (بالصفات اللازمة لها توحيد فى الحقيقة وليس هو تركيبا ممتنعا) وما قاله أهل الإثبات ليس مجرد دفاع ولا هو مغالطة بل هو الواقع ، اتصاف الرب سبحانه وتعالى بالصفات اللازمة له كالوجود والسمع والبصر والعلم والحياة توحيد لله تعالى في الحقيقة لأن الله سبحانه وتعالى واحد بأسمائه وصفاته لأن الصفات - الصفات الذاتية خصوصا - ملازمة للذات لا تنفك عن الذات ولا يعد تعداد هذه الصفات تعددا بل هو توحيد لله تعالى لأنه واحد بأسمائه وصفاته كما قلنا وهذا الذي دل عليه السمع ووافقه العقل الصريح وليس ذلك تركيبا .
(وذلك أنه من المعلوم فى صريح المعقول أنه ليس معنى كون الشىء عالما هو معنى كونه قادرا) العقل الصريح يفرق بين معنى (عالما) ومعنى (قادرا) (عالما) له معنى مستقل و (قادرا) له معنى مستقل .
(ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما) والعقل الصريح يفرق بين حقيقة الذات وحقيقة الأسماء ليس معنى الذات هو معنى (عالما) أو معنى (قادرا) أو معنى ( سميعا ) بل إذا أطلقت الذات يفهم للذات معنى ويفهم للصفات وللأسماء معنى أيضا .
(فمن جوز أن تكون هذه الصفة) كالسمع مثلا (هى الأخرى) كالبصر مثلا أي أن السمع والبصر شيء واحد .
(وأن تكون الصفة هي الموصوف) لا فرق بين معنى السمع ومعنى السميع .
(فهو من أعظم الناس سفسطة) السفسطة التمويه والمغالطة والتشبيه على الناس .(6/2)
(ثم إنه متناقض) وفي الوقت نفسه متناقض ومعنى تناقضه أو بيان تناقضه :(فانه ان جوز ذلك) جوز أن تكون الصفة عين الموصوف وأن تكون هذه الصفة عين تلك الصفة .
(جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا) وجود هذا المخلوق هو وجود ذاك هذا المخلوق ووجود الواجب هو وجود الجائز .
(فيكون الوجود واحدا بالعين لا بالنوع) يكون الوجود كله ، وجود السماء ووجود الأرض ووجود الحيوانات ووجود الإنسان كل الوجود يكون عينا واحدا فيكون الوجود واحدا بالعين بينما الوجود ليس واحدا بالعين ، للسماء وجود وللأرض وجود مستقل وللإنسان وجود مستقل وللحيوانات وجود مستقل ليس الوجود وجودا واحدا بالعين وإن كان واحدا بالنوع ، أي بمعنى أن هذه الموجودات كلها يطلق عليها بأنها مكونة وأنها حادثة وأنها غير الله ، بهذا الاعتبار بوجود غير واجب الوجود وجودهم وجود بالنوع لا وجود بالعين ، الوجود كله وجود واجب الوجود ووجود جائز الوجود لا يجوز أن يُعتقد أنه واحد بالعين لكن وجود غير واجب الوجود واحد بالنوع ، وجود غير واجب الوجود وجود بالنوع لأنها كلها من نوع المحدثات ومن نوع الممكنات إلا أن حقيقة وجود السماء غير حقيقة وجود الأرض كما تقدم أن للبعوض وجودا وللعرش وجودا وللفيل وجود وللنملة مثلا وجود ، هذا بحث تقدم كالذي قبله تماما.(6/3)
(وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب) في زعمهم ، لا ينبغي أن يفهم أن الواجب من أسماء الله تعالى الواجب ليس من أسماء الله وإنما يذكر الواجب من باب الإخبار كما نقول هو مريد متكلم ومكون هذا الكون وصانع هذا الكون هذا كله من باب الإخبار وليس من باب الأسماء ، أسماء الله تعالى توقيفية كالصفات لا يسمى الرب سبحانه وتعالى إلا بما سمى به نفسه ، وإطلاق الواجب من باب الإخبار فهو مقابل الجائز . فالرب سبحانه وتعالى يمكن من باب الإخبار أن يقال الله سبحانه وتعالى هو المفتي في مسألة الكلالة لأنه هو الذي أفتي ، لكن المفتي ليس من أسماء الله تعالى ولكن يطلق ذلك من باب الإخبار كما قلنا ، باب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات .
(وحينئذ فإذا كان وجود الممكن) الممكن كما تقدم يمكن أن نقول وجود الجائز ووجود المخلوق ووجود المحدَث بمعنى واحد .
إذا كان وجود الممكن (هو وجود الواجب) في زعمهم (كان وجود كل مخلوق يعدم بعد وجوده ويوجد بعد عدمه) وهو الممكن كما تقدم (هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقى الذى لا يقبل العدم) أي صار وجود المخلوق هو وجود الخالق .
مرة أخرى (وحينئذ فإذا كان وجود الممكن) وجود المخلوق وجود المحدَث وجود الجائز بمعنى (هو وجود الواجب) أي وجود الرب سبحانه وتعالى (كان وجود كل مخلوق يعدم بعد وجوده ويوجد بعد عدمه) هذا تفسير للممكن وتفسير للمخلوق وليس هنا احتراز ليس هناك مخلوق لا يعدم ولا يوجد مخلوق لا يعدم أو لا يوجد بعد عدمه ، وصف لبيان الواقع وليس له احتراز وليس له مفهوم أي مفهوم مخالف بل فيه تقديم وتأخير من حيث المعنى ( كان وجود كل مخلوق يوجد بعد عدمه ويعدم بعد وجوده ) من حيث المعنى الترتيب هكذا .
(هو نفس وجود الحق القديم) والقديم أيضا ليس من أسماء الله تعالى ولكن من باب الإخبار.(6/4)
(الدائم الباقى الذى لا يقبل العدم) هذه كلها أوصاف تذكر من باب الإخبار لا من باب أنها من أسماء الله تعالى ، الشاهد : لو طردنا الباب على ما ذكروا يكون وجود الخالق هو وجود المخلوق ، هذا بالاختصار .
(واذا قدر هذا كان الوجود الواجب) وإن شئت ( كان وجود واجب الوجود ) (موصوفا بكل تشبيه وتجسيم) لأن المخلوق الذي اتحد معه الذي يعدم بعد وجوده ويوجد بعد عدمه فيه (كل نقص وكل عيب) يكون واجب الوجود (موصوفا بكل تشبيه وتجسيم وكل نقص وعيب) لأنه اتحد في زعمهم مع المخلوق صار هو والمخلوق شيء واحد ، الإنسان والرب سبحانه وتعالى وجميع المخلوقات والحيوانات والجمادات شيء واحد .
(كما يصرح بذلك ( أهل وحدة الوجود )) يقول شيخ الإسلام ليس هذا من باب الإلزام فقط بل أهل وحدة الوجود يصرحون بذلك ، تقدم أن قلنا إن رئيس وحدة الوجود ابن عربي الطائي صاحب فصوص الحكم ، كتاب اسمه فصوص الحكم وصاحب الفتوحات المكية كتابان كبيران فيهما الكفر البواح ، يصرح ابن عربي في الكتابين وفيما نقل عنهما بأن العبد والرب شيء واحد فيقول :
العبد رب والرب عبد ليت شعري من المكلف
بمعنى أن الخالق والمخلوق شيء واحد ، ومن مبادئهم أو مبدؤهم الأساسي نفي الاثنينية في الكون لا يوجد في الكون اثنان الكون كله شيء واحد لذلك يقول :
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته(6/5)
ولعل المسلم الذي على الفطرة يستغرب أن يقول مسلم هذا القول ولكن في الواقع هذا ليس بمسلم خرج عن الإسلام خرج عن الملة ، رئيس وحدة الوجود جاء بكفر لم يأت به كفار قريش ولا ينبغي أن ينخدع المسلم بما تقوله الصوفية إنه سلطان العارفين ، ابن عربي يسمونه سلطان العارفين ، وذاك زميله ابن الفارض شاعرهم وأديبهم كل هذا من باب الجهل لأن الناس لا تدرس هذا الباب في الغالب الكثير لذلك يدافع بعض المعاصرين عن ابن عربي أنه ليس بكافر ، إن لم يكن هذا القول كفرا فأين الكفر ؟ ما معنى الكفر ؟ كفار قريش شهد الله لهم بأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " كفار قريش يؤمنون بأن الله خالق كل شيء خالق السماوات والأرض مدبر الأمر من السماء إلى الأرض يؤمنون هذا الإيمان ، لكن إنما كفروا واستحل النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم وأُطلق عليهم أنهم كفار لأنهم لم يوحدوا الله تعالى في عبادته ، عبدوا مع الله أصنامهم وأوثانهم أي أشركوا بالله في العبادة وإلا هم يعرفون الله ، يعرفون الله تعالى أكثر مما يعرف ابن عربي وأتباعه .(6/6)
ثم إن الصوفية العادية الآن لا نحكم عليهم بما حكمنا أو بما حُكم على ابن عربي ولكن الخطأ الذي تقع فيه الصوفية ويضلَّلون من أجله يؤمنون بفكرة ابن عربي وإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة يؤمنون ويتمنون أن يصلوا لأن هذا يعتبر عندهم الوصول ، عندهم العارف بالله في أسلوبهم إذا وصلوا إلى الله تسقط عنهم جميع التكاليف لا يقال في حقه هذا حلال وهذا حرام وهذا واجب ، يقول ما يشاء ويأكل ما يشاء ويشرب ما يشاء ليس في حقه حلال أو حرام ويترك جميع العبادات ، وليس هذا مما يحكى عن لأولين كابن عربي وابن الفارض وأمثالهم هذا وقع في هذا الوقت ، محمود محمد طه سمعت أنا بأذنيّ وهو يقول ( قمنا الليالي وصمنا النهار فسقطت عنا التكاليف ) يأمر أتباعه بالصلاة وهو لا يصلي جالس لأنه وصل ، هذا الرجل لي محاضرة ( المحاضرة الدفاعية عن السنة المحمدية ) في الرد عليه لو اطلعتم على ما كتب وما كتبه غيري تتأكدون بأن الصوفية المعاصرة تسعى لتصل إلى ما وصل إليه ابن عربي ، فاعتقاد بأن ابن عربي من المؤمنين ومن الأولياء ومن الصالحين مغالطة ولا ينبغي التمويه على العوام بل ينبغي البيان بأن ابن عربي المنكّر كافر وليس بمؤمن ، لذلك المؤمن لا يقول هذا الكلام ، الذي ينفي الاثنينية ويجعل الكون كله شيئا واحدا فهو كافر وهو ليس ابن العربي – ننبه في كل مناسبة – ليس ابن العربي بـ ( ال ) هذا عالم مالكي سني وإن كان فيه بعض التأويلات ، وشيخ الإسلام من الذين خاضوا مع هؤلاء جميعا في المناظرات والرد عليهم لذلك يؤخذ كلام شيخ الإسلام في بيان الطوائف والفرق وحقيقتهم قضية مسلمة لأنه عايشهم وناظرهم وأفحمهم بحمد الله تعالى لأن الله فتح عليه وتبحر في جميع العلوم في المعقولات والمنقولات حتى جعله الله مدافعا عن الحق وعن العقيدة وعن الشريعة رحمه الله.(6/7)
يقول شيخ الإسلام (كما يصرح بذلك ( أهل وحدة الوجود )) ذكرنا لكم بعض مراجعهم وفي إمكان طالب العلم الصغير أن يبدأ إذا أراد أن يعرف التصوف وشطحات الصوفية يقرأ أولا كتاب هذه هي الصوفية للشيخ عبدالرحمن الوكيل المصري الذي كان رئيس قسم العقيدة في جامعة أم القرى بمكة ، ثم ينطلق منه إلى مصرع التصوف للبقاعي ، البقاعي معاصر لشيخ الإسلام في القرن السابع ، وكتاب هذه الصوفية يذكر لك جميع مراجع الصوفية وله تحقيق لمصرع التصوف ، ثم لشيخ الإسلام مجلد خاص في التصوف في ضمن المجموع ينبغي الإطلاع وقراءة هذه الكتب لئلا تكون معرفة الصوفية مجرد سماع ، ينبغي أن تكون من قراءة مراجعهم وكتبهم بالذات .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (كما يصرح بذلك ( أهل وحدة الوجود ) الذين طردوا هذا الأصل الفاسد وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير) لأنهم لحقوا من حيث لا يشعرون بالقائلين بوحدة الوجود إذا نفوا ، بنفيهم أو بجمعهم بين النقيضين أو برفعهم للنقيضين ، صارت أقوالهم كأقوال وحدة الوجود فإذا كانت أقوال وحدة الوجود باطلة فأقوال نفاة الصفات باطلة أيضا .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وهذا باب مطرد فان كل واحد من النفاه لما أخبر به الرسول من الصفات لا ينفى شيئا فرارا مما هو محذور إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه فلابد فى آخر الأمر من أن يثبت موجودا واجبا قديما متصفا بصفات تميزه عن غيره ولا يكون فيها مماثلا لخلقه فيقال له هكذا القول فى جميع الصفات وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور فى الخيال))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وهذا باب مطرد) مع جميع الطوائف والفرق .(6/8)
( فان كل واحد من النفاه لما أخبر به الرسول) صلى الله عليه وسلم (من الصفات لا ينفى شيئا فرارا مما هو محذور إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه) إذا فر الذين فرقوا بين الصفات من الوقوع في التشبيه في زعمهم وأرادوا النزيه بنفي الصفات الخبرية وخصوصا الصفات الفعلية وقعوا في نظير ما فروا منه لأنهم بنفيهم تلك الصفات يقعون في التعطيل والمعطل مشبه لأنه إذا عطل الصفات التي تليق بالله تعالى شبهه بذلك بالمخلوق وبنفيه الصفات اللائقة بالله تعالى يعتبر مشبها كما أن المشبه يعتبر معطلا ، تقدم تفصيل ذلك .
(فلابد) له في آخر المطاف إذا وفقه الله .
(من أن يثبت موجودا واجبا قديما متصفا بصفات تميزه عن غيره) لأنه لا يتم الإيمان بالله تعالى إلا بهذا حتى يثبت الإنسان موجودا واجبا أي غير جائز أي الذي لم يسبق بعدم ولا يلحقه العدم هذا هو الواجب ، (قديما) ليس لقدمه أولية (متصفا بصفات تميزه عن غيره) بأن يقال هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء .
(ولا يكون فيها مماثلا) ولا يكون في الصفات التي تُثبت له مماثلا (لخلقه) لا في سمعه ولا في بصره ولا في علمه ولا في نزوله ولا في مجيئه ولا في استوائه ، أي في الصفات الذاتية والصفات الفعلية ، عند أهل السنة والجماعة الباب واحد ، الصفات كلها تساق سوقا واحدا لا يفرق بين صفات الذات وصفات الأفعال وبين الصفات العقلية والصفات الخبرية لأن كلها من مصدر واحد الوحي يجب إثبات جميع الصفات على ما يليق بالله تعالى لا على ما يليق بالمخلوق وإن حصل الاتفاق والتواطؤ في المعنى العام كما سيأتي .
(فيقال له وهكذا القول فى جميع الصفات) يقال هذا للمفرق بين الصفات .(6/9)
(وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميات) هذا كما تقدم قبل أن تضاف صفات الله إلى الله وقبل أن تضاف صفات المخلوق إلى المخلوق يوجد قدر تتفق فيه جميع المسميات أي في المعنى العام كالعلم العام والسمع العام والبصر العام والحياة العامة وهكذا ، ولكن هذا المعنى العام لا وجود له في الخارج وإنما وجوده وجود ذهني يتصور الذهن العلم والسمع والبصر غير مضاف إلى الله وغير مضاف إلى المخلوق ، ولكن بعد أن تضاف صفات الله إلى الله وصفات المخلوق إلى المخلوق لا تحصل المشاركة أبدا لأنه حصل التخصيص بهذه الإضافة .
(ولولا ذلك لما فهم الخطاب) لولا هذا القدر التي تتفق فيه المسميات جميع المسميات : علم زيد وعلم عمرو وعلم خالد علم الخالق وعلم المخلوق هذا القدر الذي تتفق فيه هذه المسميات لا بد منه ، بذلك يفهم الخطاب خطاب الله تعالى عندما خاطبنا فأخبرنا عن أسمائه وصفاته وسمى بعض خلقه ببعض أسمائه وصفاته هذا الخطاب العام هذا الخطاب إنما يفهم بوجود هذا القدر التي تتفق فيه الأسماء والصفات وهو المعنى العام .
(ولكن نعلم أن ما اختص الله به) يأتي الاختصاص بعد الإضافة دائما .(6/10)
(وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور فى الخيال) مهما فكرت ودار في خيالك تصور علم الله أو سمع الله أو نزول الله أو مجيء الله فحقيقة تلك الصفات خلاف ما يدور في خلدك ويدور في فكرك لأن المخلوق لا يمكن أن يدرك حقيقة ذات الرب وحقيقة صفاته وليس له أن يدعي الإحاطة ويحاول إن يدرك الحقيقة والإحاطة بالله تعالى وبأسمائه وصفاته من حيث الكنه والحقيقة وإنما يفهم المعنى ، المعنى الذي يفهم من وضع الكلمة يفهم أن العليم غير القدير وأن السمع غير البصر يفهم هذا لكن حقيقة سمع الرب سبحانه وحقيقة بصره وحقيقة مجيئة وحقيقة نزوله وحقيقة استوائه لا ينبغي أن يفكر أو يحاول أحد ليدرك ذلك لأن ذلك أمر لا يدرك أبدا لذلك قال (ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور فى الخيال) واضح .
نعم .(6/11)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ((وهذا يتبين ( بالأصل الثانى ) وهو أن يقال ( القول فى الصفات كالقول فى الذات ) فان الله ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله فاذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات فاذا قال السائل كيف استوى على العرش قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الاجابة عنه وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا الىالسماء الدنيا قيل له كيف هو فإذا قال لا أعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله اذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له فكيف تطالبنى بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه وأنت لا تعلم كيفية ذاته وإذا كنت تقر بأن له ذاتا حقيقة ثابته فى نفس الأمر مستوجبه لصفات الكمال لا يماثلها شىء فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت فى نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التى لايشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم))
(الأصل الثانى( القول فى الصفات كالقول فى الذات ) ) البحث الذي تقدم كله في الأصل الأول والأصل الأول يناقش من يفرقون بين الصفات ومن يفرقون أيضا بين الصفات والأسماء وهذا الأصل يناقش من يثبت الذات وينفي الصفات .
(وهذا يتبين ( بالأصل الثانى ) وهو أن يقال ( القول فى الصفات كالقول فى الذات )) إذا أثبتّ الذات ماذا قلت في الذات ؟ وما قلته في الذات فقله في الصفات .
(فان الله ليس كمثله شىء لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله) وإن كانت الأفعال محدثة ومتجددة لكن ليست أفعال الله التي تتجدد في كل وقت لأنه فعال لما يريد ليست كأفعال العباد ، أي ليس أحد يستطيع أن يفعل كفعل الرب سبحانه وتعالى .(6/12)
(فاذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات) وأنت تؤمن بذلك (فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات) الذات لا بد لها من صفات لا يتحقق وجود الذات إلا بالصفات صفات الكمال التي تتصف بها تلك الذات ، إثباتك للذات المجردة عن الأسماء والصفات إثبات كلا إثبات .
(فاذا قال السائل) يريد أن يدرك حقيقة هذه الأسماء وكنهها وحقيقة الصفات وكنهها إذا قال :
(كيف استوى على العرش) أنتم تقولون الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه أو على الأصح يقول الله تعالى " الرحمن على العرش استوى " لسنا نحن الذين قلنا ولكن الله هو الذي قال وهو الذي أخبر عن نفسه أنه استو على العرش لذلك لا ينبغي أن يسلم لمن يقول أنتم تقولون الله مستو على عرشه وأنتم تثبتون الاستواء نعم نحن نثبت تصديقا لخبر الله لا من عند أنفسنا ، المثبت لهذه الصفات هو الله وهو الذي أخبر عن نفسه " الرحمن على العرش استوى " .
إذا قال كيف استوى على عرشه (قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما) هذا القول المشهور عن الإمام مالك فقط وما نسب إلى ربيعة شيخه وإلى أم سلمة قال بعض أهل العلم لا يثبت ذلك وإنما المعروف الثابت أن ذلك عن الإمام مالك لأن ربيعة وإن كان أدركه شيخه قد يعد من التابعين لأنه أدرك بعض الصحابة كالإمام أبي حنيفة وأم سلمة من باب أولى ، وتجدد هذه الفكرة تأثر الناس بعلم الكلام وبدء الخوض في هذه المسائل إنما بدأ من عصر تابع التابعين لذلك هذا القول مشهور عن الإمام مالك ، الإمام مالك هو الذي سئل " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟ سكت الإمام فلم يرد برهة من الزمن فأخذه الرحضاء حياء من الله سبحانه وتعالى حتى استحيا الحضور فأطرقوا برءوسهم جميعا ثم بعد ذلك قال الإمام (الاستواء معلوم) ومعقول (والكيف مجهول) وغير معقول (والايمان) بالاستواء (واجب) تصديقا لخبر الله تعالى (والسؤال عن كيفية) استواء الله تعالى على عرشه (بدعة) بدعة لأمرين :(6/13)
- الأمر الأول : لأول مرة يحدث في الإسلام هذا السؤال لا يعلمه المسلمون الأولون أي المسلمون الأولون قبل عهد تابع التابعين أي بعد نشأة علم الكلام وانتشار علم الكلام بين المسلمين قبل ذلك لا يفكرون أبدا في السؤال عن كيفية صفة من صفات الله تعالى لا الاستواء ولا النزول ولا المجيء ولا الكلام ولا السمع ولا البصر لا يفرقون كما قلنا بين هذه الصفات كلها إيمانهم بهذه الصفات إيمان إثبات كما أن إيماننا بالله تعالى إيمان إثبات كذلك إيماننا بصفات الله تعالى إيمان إثبات لا إيمان تكييف .
- ثانيا (لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر) هذا السؤال بدعة لأمرين كما قلنا أولا لأنه حدثٌ حدث في الإسلام لأول مرة ما كان يخطر ببال المسلمين الأولين ، ثانيا (لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر) تكلف (ولا يمكنهم الاجابة عنه) من سئل كيف استوى ؟ كيف ينزل ؟ كيف يأتي ؟ كيف سمعه ؟ وكيف بصره ؟ لا يمكن لأحد أبدا أن يجيب على هذا السؤال ، لذلك توجيه السؤال بكيف إلى ذات الرب سبحانه وإلى أسمائه وصفاته بدعة وتكلف ومحاولة الإحاطة بالله تعالى وتلك مستحيلة ، الإحاطة مستحيلة .(6/14)
(وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا الى السماء الدنيا) قد يتصور بعض الناس نزولا كنزولنا يستلزم الحركة ويستلزم خلو المكان ويستلزم أن يكون فوقه شيء بعد نزوله هذه كلها لوازم نزول المخلوق ، القاعدة ( لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق ) ينبغي أن تُحفظ هذه القاعدة ( لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق ) لوازم نزولنا معروف ولوازم استوائنا معروف إذا استوى مخلوق على مخلوق لا يخلو أن يكون المستوي أكبر من المستوى عليه أو أصغر منه أو مساويا له ، القسمة ثلاثية ليست رباعية ، هذا بالنسبة للوازم استواء المخلوق ، أما استواء الخالق لا تلزمه هذه اللوازم ، استواء الله تعالى لا تلزمه لوازم استوائنا ، ونزول الرب سبحانه وتعالى لا يلزمه شيء من لوازم نزولنا ، وسمعه وبصره وكلامه كذلك ، لا يقال إذا أثبتنا له الكلام يلزم أن نثبت له مخارج الحروف ، هذا بالنسبة لتكلمنا نحن أما تكلم الرب سبحانه وتعالى حيث لا ندرك كنهه وحقيقته لا تجري عليه لوازم صفات المخلوق من الكلام وغيره ، ضبط هذه القواعد يريح طالب العلم أو يريح كل مسلم .
(وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا الى السماء الدنيا) لأنه الذي تقرر عنده من دراسته لعلم الكلام بما في ذلك دراسة العقيدة الأشعرية أن الذي ينزل أمر الله ليس هو الله أو ملك من الملائكة وهذا لو فكر الإنسان بعقله الحر يراه أنه غير مناسب لأن الحديث نص الحديث " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول " هل الذي يقول " هل من مستغفر هل من داع " هو الأمر ؟ الأمر شيء معنوي ، هل الأمر يتكلم فيخاطب العباد فيقول للعباد هل من سائل منكم هل من داع هل من مستغفر ؟
مستحيل عقلا .
إذا قلنا النازل هو الملك ، هل الملك يغفر الذنوب ويعطي العطاء ؟ هل هناك أحد يغفر الذنوب إلا الله ؟ إذن الكل مستحيل .(6/15)
ثبت خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواتر أن الذي ينزل فيقول هذا القول هو الله ، بقي القول كيف ينزل ؟ والجواب ما سمعتم في جواب الإمام مالك في صفة الاستواء .
(قيل له كيف هو) أنت سألت كيف ينزل ربنا فنحن نسألك فنقول كيف هو أولا .
(فإذا قال لا أعلم كيفيته قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله) السر في ذلك في عدم علمنا (اذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف) إذا كنت تعلم كيفية الموصوف تعلم كيفية صفاته إنما نعلم كيفية صفات المخلوق لأننا نعلم كيفية ذاته الذي هو الموصوف .
(وهو فرع له وتابع له) معرفة كيفية الصفة فرع تابع لمعرفة كيفية الذات .
(فكيف تطالبنى بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه وأنت لا تعلم كيفية ذاته) لاحظ كيف جمع شيخ الإسلام بين عدة صفات هنا ليشعر بأن الصفات كلها من باب واحد .
(فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه) هذه صفات ذاتية ، والكلام يكون صفة ذاتية باعتبار وصفة فعلية باعتبار كما تقدم تفصيل ذلك غير مرة .
(ونزوله واستوائه) صفة فعلية .
إذن يكون الجواب واحدا فيمن سألك عن كيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه ومحبته ورضاه الجواب واحد (وأنت لا تعلم كيفية ذاته) إذا كنت لا تعلم كيفية ذاته كيف تطالبني بمعرفة كيفية نزوله ومجيئه وغضبه ورضاه وتكليمه إلى آخره .
(وإذا كنت تقر بأن له) سبحانه وتعالى (ذاتا حقيقة ثابتة في نفس الأمر) محققة (مستوجبه لصفات الكمال لا يماثلها شيء) لا يماثل تلك الذات العلية شيء (فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر) ثبوت الذات ، ثبوت الذات لأنها تابعة للذات .(6/16)
(وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم) النزول صفة من صفات الكمال كذلك الاستواء أي نزول الله تعالى ، ليس كل نزول صفة كمال ، نزول الرب من صفات الكمال واستواء الله تعالى من صفات الكمال كما أن سمعه وبصره من صفات الكمال ، إذن لا أحد يشابه الله سبحانه وتعالى أو يشاركه في هذا الكمال .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وهذا الكلام لازم لهم فى العقليات وفى تأويل السمعيات فان من أثبت شيئا ونفى شيئا بالعقل اذا ألزم فيما نفاه من الصفات التى جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو طولب بالفرق بين المحذور فى هذا وهذا لم يجد بينهما فرقا ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض الذين يوجبون فيما نفوه اما التفويض واما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ قانون مستقيم فإذا قيل لهم لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد لم يكن لهم جواب صحيح فهذا تناقضهم فى النفى وكذا تناقضهم فى الإثبات فان من تأول النصوص على معنى من المعانى التى يثبتها فانهم اذا صرفوا النص عن المعنى الذى هو مقتضاه الى معنى آخر لزمهم فى المعنى المصروف اليه ما كان يلزمهم فى المعنى المصروف عنه فاذا قال قائل تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو ارادته للثواب والعقاب كان ما يلزمه فى الارادة نظير ما يلزمه فى الحب والمقت والرضا والسخط ولو فسر ذلك بمفعولاته وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب فانه يلزمه فى ذلك نظير ما فر منه فان الفعل المعقول لابد أن يقوم اولا بالفاعل والثواب والعقاب المفعول انما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول فى الشاهد للعبد مثلوا وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات))
هذا عود لمناقشة من يثبت بعض الصفات دون بعض أي مناقشة للأشعرية .(6/17)
(وهذا الكلام لازم لهم فى العقليات وفى تأويل السمعيات) هم أثبتوا الصفات العقلية ، الأشاعرة يثبتون الصفات العقلية التي يمكن إثباتها بالعقل ، وليس معنى الصفات العقلية توجد هناك صفات تثبت بالعقل دون السمع ، لا وجود لها ولكن إنما يقال لها الصفات العقلية لأن العقل يشارك السمع في إثباتها ، لو فرض أنه لم يأت سمع أو خبر أو نقل في إثبات وجود الله تعالى وحياته وسمعه وبصره أدرك العباد ذلك بعقولهم ولكن كل هذه الصفات جاء بها السمع وجاء العقل موافقا وتابعا (للسمع) هذا النوع من الصفات الذي تشترك السمعيات والعقليات في إثباتها يقال لها الصفات العقلية لعله من باب التغليب أو من باب التعبير عن اصطلاح الأشاعرة وإلا في الواقع هي ليست عقلية محضة إذ لا توجد صفات عقلية محضة ، توجد صفات خبرية محضة وصفات يشترك العقل والسمع في إثباتها وهي الصفات العقلية وما عدا ذلك صفات خبرية محضة أو سمعية محضة أو نقلية محضة .
ويلزمهم في (تأويل السمعيات) لأنهم أثبتوا العقليات وأولوا السمعيات ، الصفات السمعيات المحضة أولوها أوجبوا تأويلها .
(فان من أثبت شيئا ونفى شيئا بالعقل اذا ألزم فيما نفاه من الصفات) كنفي المحبة والرضا مثلا (التى جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو طولب بالفرق بين المحذور فى هذا) أي فيما نفى (وهذا) فيما أثبت (لم يجد بينهما فرقا) لو أنصف الأشعري فقيل له ما الفرق بين الإرادة التي أثبتها وبين المحبة التي نفيتها ؟ لا يجد جوابا سليما أبدا وكل ما في الأمر يقول هذا مذهبنا وهذه عقيدتنا وهكذا قال شيوخنا ، هذا ليس جوابا علميا ، هذا جواب المقلد .
(ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض) هم الأشاعرة كما علمتم (الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ) هذه عندهم قاعدة وهذه القاعدة عبر عنها صاحب جوهرة التوحيد ببيته الآتي :
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها(6/18)
هذا البيت يعتبر عند الأشاعرة قاعدة لا ينبغي أو لا تجوز مخالفتها . ( وكل نص أوهم التشبيها أوله ) بدأ بالتأويل لأن هذا هو الأولى عندهم ( أوله أو فوض ورم تنزيها ) وفي كلتا الحالتين ( رم تنزيها ) أي اقصد التنزيه في تأويلك وفي تفويضك ، كأنه دين جديد ، أين الذين قبلكم من المسلمين ؟، هذه القاعدة التي تقعدونها الآن من جديد ويسيرون عليها في عقيدتكم هل علمها من كان قبلكم ؟ هذا سؤال .
السؤال الثاني هل يجوز اعتقاد أن في كتاب الله وفي السنة الصحيحة ما يدل على ما يوهم التشبيه؟ (وكل نص أوهم التشبيها) لا يجوز اتهام كتاب الله والسنة الصحيحة بأنه يوجد فيهما ما يوهم التشبيه ، " الرحمن على العرش استوى " لا يوهم التشبيه هذا الذي يعنونه ، " ينزل ربنا " لا يوهم التشبيه لأن هذه صفات أضيفت إلى الله بعد إضافته إلى الله لا توهم التشبيه أبدا وإنما التشبيه كما قلنا يقع في المعنى العام ، اتهام كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة بأنهما يوهمان التشبيه إساءة إلى الكتاب والسنة وإلى من أنزلهما ، ثم أوجب التأويل بقوله ( أوله أو فوض ) معنى التفويض أن يدعي الإنسان أنه لا يفهم معنى (استوى) ولا معنى (نزل) ولا معنى (جاء) ولا معنى (الغضب) ولا معنى (المحبة والرضا) يفوض المعنى .
التفويض تفويضان :
- تفويض مذموم .
- وتفويض مقبول بل لا بد منه بل واجب .
تفويض المعاني هذا مذموم ، من يدعي أنه لا يفهم معاني النصوص هذا التفويض مغالطة يغالط الإنسان نفسه لأن أي عربي يدعي أنه لا يفهم معنى (نزل) ومعنى (جاء) ومعنى (استوى) إنما يغالط نفسه اللهم إلا إذا كان لا يعرف اللغة العربية جهله هنا لعدم معرفة اللغة أما إذا كان يعرف اللغة ثم يدعي لا يفهم معنى هذه النصوص أو معاني هذه النصوص هذه مغالطة .(6/19)
ثم إن اتهم السلف بأن هذا مذهبهم أي أن السلف مفوضة ، وهذا اتهام للسلف بأنهم أميون يقرءون النصوص فقط ولا يفهمون معاني النصوص خصوصا نصوص الصفات هذا خطأ ، ولكن التفويض الذي هو منهج السلف تفويض الحقيقة والكيفية ، أي كما أخذ من كلام الإمام مالك ( الاستواء معلوم ) من حيث المعنى (مجهول) من حيث الحقيقة والكنه ، نفوض الكنه والحقيقة في جميع الصفات في الخبرية في الصفات العقلية في الصفات الذاتية في الصفات الفعلية كلها نفوض الحقيقة إلى الله ، هذا التفويض هو منهج السلف وليس تفويض المعاني .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل) على ما شرح (المخالف لمقتضى اللفظ) أي يجب أن تخرج النصوص عن مقتضى اللفظ أي أن ظاهر نصوص الصفات ليس مرادا لله بل المراد خلاف ذلك وهو التأويل .
ليس لهم (قانون مستقيم) نظام مستقيم يمشون عليه .
(فإذا قيل لهم لم تأولتم هذا) لم تأولتم الاستواء والنزول والمحبة والرضا مثلا.
(وأقررتم هذا) أقررتم القدرة والحياة والعلم والسمع مثلا .
(والسؤال فيهما واحد لم يكن لهم جواب صحيح فهذا تناقضهم فى النفي) كما قلنا الجواب إما أن يقولوا هذه عقيدتنا ، للأسف كثيرا ما يقولون هذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، ظلموا أهل السنة والجماعة وافتروا عليهم هذه ليست عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة أهل السنة والجماعة الإثبات ، إثبات لا يصل إلى درجة التشبيه والتمثيل ، تنزيه لا يصل إلى درجة التعطيل إلى درجة النفي والتعطيل ، هذا مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب سلف هذه الأمة ...
نكتفي بهذا المقدار .
والله أعلم .(6/20)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(الوجه الأول للشريط الثاني عشر)
الشريط الحادي عشر :
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق فالسلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما فى الدنيا وبين ما في الآخرة وأن مباينة الله لخلقه أعظم والفريق الثاني الذين أثبتوا ما أخبر الله به فى الآخرة من الثواب والعقاب ونفوا كثيرا مما أخبر به من الصفات مثل طوائف من أهل الكلام المعتزلة ومن وافقهم والفريق الثالث نفوا هذا وهذا كالقرامطة والباطنية والفلاسفة أتباع المشائين ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر ثم إن كثيرا منهم يجعلون الأمر والنهى من هذا الباب فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها كما يتأولون من الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت فيقولون إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم وان شهر صيام رمضان كتمان أسرارهم وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم ونحو ذلك من التأويلات التى يعلم بالإضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه والحاد فى آيات الله وقد يقولون إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فاذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات وقد يوجد فى المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل فى بعض هذه المذاهب وهؤلاء الباطنية والملاحدة الذين أجمع المسلمون على انهم أكفر من اليهود والنصارى)).
الحمد لله .
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(7/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (ولهذا افترق الناس فى هذا المقام ثلاث فرق) افتراق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه من صفات الكمال وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما أخبر عن اليوم الآخر ، في هذين البابين افترق الناس إلى ثلاث فرق :
(فالسلف) وهم الصحابة والتابعون .
(والأئمة) الأئمة المشهود لهم بما في ذلكم الأئمة الأربعة ومن في طبقتهم .
(وأتباعهم) أي جمهور أتباع الأئمة الأربعة أو جمهور أتباع السلف .
(آمنوا بما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التى بين ما فى الدنيا وبين ما فى الآخرة وأن مباينة الله لخلقه أعظم) وأما السلف فلا خلاف بينهم في هذا والأئمة أيضا الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين المشهود لهم بالإمامة لا خلاف بينهم ولكن في أتباع الأئمة من خالف الأئمة والسلف جميعا واتبع طريق أهل الكلام كما هو معروف في أتباع الأئمة الثلاثة خصوصا أبي حنيفة ومالك والشافعي كثير من الذين ينتسبون إلى هؤلاء الأئمة خالفوا الأئمة في هذا الباب وخصوصا في باب الأسماء والصفات وإن كان يوافقونهم في أمور الآخرة كما وافقوهم وتعصبوا لهم في الفروع الفقهية لكن خالفوهم في الغالب الكثير في باب الأسماء والصفات منهم من اعتزل وقليل منهم وأكثرهم من ذهب مذهب الأشعرية الكلابية ومنهم من ذهب مذهب الماتريدية وهما كالشيء الواحد .
(والفريق الثانى الذين أثبتوا ما أخبر الله به فى الآخرة من الثواب والعقاب ونفوا كثيرا مما أخبر به من الصفات مثل طوائف من أهل الكلام كالمعتزلة ومن وافقهم) المعتزلة نفوا جميع الصفات ليس البعض وليس الأكثرية بل نفوا جميع الصفات ولم يثبتوا شيئا من الصفات إلا الأسماء المجردة التي لا تدل على الصفات ، الذين فرقوا بين الصفات كما هو معلوم هم الأشاعرة و الماتريدية وأما غلاة أهل الكلام فقد تقدم الكلام فيهم أنهم لا يثبتون الصفات والأسماء معا .(7/2)
(والفريق الثالث نفوا هذا وهذا) لم يصدقوا الله لم يصدقوا خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام في باب الأسماء والصفات وفي أمور الآخرة ( كالقرامطة الباطنية) (كالقرامطة والباطنية) ممكن ، من باب عطف العام على الخاص لأن القرامطة من الباطنية ، وهناك باطنية غير القرامطة ، الباطنية أصناف ، فرق :
- باطنية الصوفية .
- باطنية أهل الكلام .
- وباطنية الفلاسفة .
وهم فرق كثيرة ، إلا أن الباطنية إذا أطلقت عند الناس ينصرف الذهن إلى الذين يثبتون للكتاب والسنة ظاهرا وباطنا وهم باطنية الصوفية الذين يزعمون أن للكتاب والسنة ظاهرا وباطنا وأن الظاهر للفقهاء لعلماء الشريعة والباطن لأهل الحقيقة ، هم يفرقون الدين أو يقسمونه إلى :
- شريعة .
- وحقيقة .
والشريعة للفقهاء وأهل الظاهر في زعمهم ، والحقيقة لهم ، وهذا تقسيم باطل ، الدين واحد ، القول بأن للدين ظاهر وباطن وتفسير ذلك الباطن بما لا يعلمه إلا العارفون في زعمهم والواصلون إلى الله في زعمهم وموحدوهم هذا إعراض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسخرية بالإسلام وإيثار لآراء وأفكار على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(والفلاسفة أتباع المشاءين) وهم أتباع أرسطو لكن عرفوا بالمشاءين نسبة إلى شيخهم وأستاذهم الذي يتفلسف في أثناء إلقاء الدرس على تلاميذه يتمشى بهم في الحديقة مثلا ويلقي الدرس وهم يمشون حوله ليتلقوا عنه الدروس والعلوم ، وسموا مشاءين لهذا الغرض كما قيل .
(والفلاسفة أتباع المشاءين ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر) كل ما أخبر الله به عن نفسه ليس بحقيقة بل هو مجاز ، الصفات كلها في حق الله تعالى مجاز وفي حق المخلوق حقائق ، وما أخبر به الرب سبحانه وتعالى عن اليوم الآخر ليست بحقائق ، هذه أمور أخبرت الرسل الجمهور ليستميلوهم وليست لهم حقيقة ، هكذا ألحدوا وهكذا كفروا بما جاءت به الرسل .(7/3)
(ثم إن كثيرا منهم يجعلون الأمر والنهى من هذا الباب) أي أن الأوامر والنواهي ليست على حقيقتها كلها مؤولة .
(فيجعلون الشرائع المأمور بها) من الواجبات والمندوبات .
(والمحظورات المنهى عنها) من المحرمات والمكروهات وكل ما نهى الله عنه .
(لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها) وما يعرف المسلمون من المأمورات والمحظورات هذا ما يقوم به الجمهور ، من عداهم جمهور وعوام في نظرهم وأما هم وهم الخاصة وفيهم خاصة الخاصة لهم تأويلات ، الشرائع كلها تؤول ، من هنا تعلمون ما تقوله الصوفية العادية من تقسيم الناس إلى العامة والخاصة وخاصة الخاصة تمهيد لهذا الكفر وإن لم يصلوا إلى هذا الكفر حتى الذكر يقسمونها ، الأذكار مقسومة عند الصوفية ذكر العامة وذكر الخاصة وذكر خاصة الخاصة ، أعظم كلمة كلمةُ لا إله إلا الله هذا ذكر العامة ، الذكر الذي أجمعت عليه الرسل وأتباع الرسل يسمونه ذكر العامة استخفافا بهذا الذكر وذكر الخاصة عندهم أن يذكر المرء الله رب العالمين بلفظ الجلالة لفظ مفرد ( الله ، الله ) يكررون هذا اللفظ ، وربما يحول (الله) إلى (حالله) إذا حمي الوطيس في ذكرهم وحضرتهم ، يسمونها الحضرة الإلهية ، وربما جعلوا ضمير الغيبة لخاصة الخاصة (هو ، هو) وأخيرا يتحول إلى (حو ، حو) وهذا شيء مشاهد الآن لا نتحدث عن ما وقع في عهد الإمام ابن تيمية ولكنه هو واقع الآن ، وهذا التقسيم الآن واقع من أقوام ينتسبون إلى الإسلام وإلى العبادة والإكثار من ذكر الله تعالى بهذا الأسلوب وبهذا التقسيم طالما بدءوا في هذه الخطة مع إيمانهم بهذه الفكرة الملحدة الكافرة أي تأويل ما أخبر الله به عن اليوم الآخر وعن نفسه معنى ذلك هم مؤمنون بهذا الكفر ، ومن يصدق الكفر ولا ينكر الكفر فهو كافر لذلك الأمر خطير جدا بالنسبة لأتباع الصوفية فلينتبهوا .(7/4)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : جعلوا للشرائع من المأمورات والمنهيات (تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها كما يتأولون الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت فيقولون إن الصلوات الخمس) معناها (معرفة أسرارهم) الضمير راجع إلى ما هو معلوم من المقام أي معرفة أسرار شيوخهم وكبرائهم (وان شهر صيام رمضان كتمان أسرارهم) بعد معرفتها (وإن حج البيت السفر الى شيوخهم) مجرد السفر لزيارة الشيوخ أحياء وأمواتا والحج بدل حج بيت الله الحرام ، الذي يبدو أن فكرة التبليغيين جعل الأسفار عبادة وتسمية الأسفار والتجول في العالم خروج في سبيل الله مأخوذ من هذه الفكرة أو تمهيد إلى هذه الفكرة وإلا متى جعل الإسلام مجرد السفر عبادة ، السفر أقسام :
- سفر طاعة .
- وسفر معصية .
- وسفر مباح .
من سافر في مباح كالتجارة فسفره سفر مباح ، قد يتحول إلى الطاعة بنية صالحة ، وسفرك لطلب العلم ولزيارة أخ لك في الإسلام وللجهاد في سبيل الله سفر طاعة فهو في سبيل الله بدون تحديد بأربع ساعات أو أربعة أيام أو أربعة أشهر أو أربع سنوات بدون تحديد ، وأما اعتبار مجرد السفر عبادة وخروج في سبيل الله ثم تحديد هذا الخروج بهذه الأعداد بدعة شنيعة ربما تؤدي في النهاية إلى هذه الفكرة فكرة الباطنيين فتكون العبادة الأسفار والتجول في العالم وتشبه أيضا هذه الفكرة فكرة البوذيين البوذي إذا أراد أن يقضي على نفسه كما يزعم ويكسر نفسه يترك أمواله ولو كان من الأغنياء ، يترك أمواله ويأخذ علبة ويتجول في العالم ويمر على الدكاكين والحوانيت فيطلب ، أحب الناس إليه من يطرده ولا يعطيه ، لأن ذلك يكسر قلبه ويورثه التواضع ، هذه ملة جديدة فكرة جديدة غير فكرة الإسلام .(7/5)
كل هذه الأفكار تتجاوب وتتفق على مخالفة ما جاءت به الرسل والزهد في الدين الذي جاءت به الرسل والإتيان ببدع مزينة للناس ثم تسمية هذه البدع بأسماء محببة إلى الناس كالخروج في سبيل الله فليُنْتَبَه .
(ونحو ذلك من التأويلات التى يعلم بالإضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم وتحريف لكلام الله ورسوله عليه الصلاة والسلام عن مواضعه والحاد فى آيات الله) تعالى ، وهو كلام بيّن لا يحتاج إلى الشرح الكثير .
(وقد يقولون إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة) أي يقرون الشرائع دون تأويل فيثبتونها ولكن الشرائع هذه تلزم العامة دون الخاصة .
(فإذا صار الرجل من عارفيهم) وهذا أسلوب خاص بهم ، اصطلاح ، الصوفية ، العارف بالله ، الواصل إلى الله ، وكلمة العارف أولا تبدأ بالشيخ ، الشيخ عندهم شيخ الطريقة ، لفظة الشيخ لا تطلق عندهم على العلماء علماء الشريعة ولكن شيخ الطريقة ، ثم يتطور اللقب من الشيخ إلى العارف ولعل الواصل بعد العارف ، الواصل إلى الله ، الواصل بالتحديد معناه الحقيقي المارق ، المارق عن الإسلام ، لأن معنى الواصل في زعمهم إذا وصل يترك جميع الدين المأمورات والمحظورات كلها تسقط ليس عليه شيء ، حر طليق لا يقال في حقه هذا حلال أو هذا حرام ، يصير كالحيوانات ويسمونهم العارفين والواصلين والمحققين ، ما الذي حققوا ؟ حققوا الكفر والإلحاد لم يحققوا شيئا آخر .(7/6)
(وموحديهم) وحدوا ، أي شيء وحدوا ؟ هكذا تغيير المفاهيم ، يسمون هذا الإلحاد توحيدا بدأت الفكرة من عند تسمية المعتزلة نفي الصفات : التوحيد ، من الأصول الخمسة عند المعتزلة التوحيد ، التوحيد مفسرا بنفي الصفات ، ويسمون العدل ، من أصولهم العدل ، العدل الإيجاب على الله أن يفعل الأصلح فالأصلح للعباد وأن يدخل المطيعين الجنة والعصاة النار حتى إذا دخل أصحاب الكبائر النار لا يخرجون بل يخلدون هكذا بدأ تغيير مفاهيم ما جاءت به الرسل وانتهى الأمر إلى تسمية هذا الإلحاد والإعراض عما جاءت به الرسل وتخصيص الشرائع بالعوام الذين لم يصلوا إلى هذا الكفر وإعطاء الحرية لهؤلاء الموحدين والمحققين والعارفين والواصلين .(7/7)
يرفعون عنهم جميع (الواجبات) ويبيحون لهم جميع (المحظورات) إن الواحد منهم يطلب الخمر فيشربها فيزعم أتباعه أن الخمرة إذا دخلت في فم العارف تحولت لبنا خالصا سائغا للشاربين أو عسلا مصفى بمجرد دخولها في فم العارف إلى هذا الحد يصل الإلحاد بالناس ، وهؤلاء الباطنية كلهم معدودون الآن من جملة المسلمين الملايين ، لذلك الإسلام الرسمي اليوم أكثر من الإسلام الحقيقي ، الإسلام الرسمي الذي يحمله الإنسان في جيبه ، الهوية ، الديانة مسلم ، إذن يحمل الإسلام في جيبه وهو ليس بمسلم لأنه يحمل هذه الفكرة ، من هؤلاء الإسماعيلية ، الإسماعيلية موجودة الآن ويأتون في الحج ، يدخلون المسجدين ويقفون بعرفة على حساب الإسلام ، حجاج ، ما أكثر الحجاج ، فيهم الإسماعيلية ، الإسماعيلية من هذا القبيل من الباطنية وفي بلادهم المسلمون يعرفونهم لهم معابد ، معابدهم لا تُدخل هناك أي أن المسلمين لا يدخلون معابدهم تعتبر كالكنائس تماما ، وهم لا يدخلون مساجد المسلمين هناك في بلادهم حيث يعرفهم المسلمون ولكن يخرجون باسم الحج وباسم الزيارة حاملين إسلامهم في جيوبهم كما قلنا يحجون ويزورون ويعتمرون ويرجعون ولهم زي معين خاص بالنسبة لمن يعرفهم ، يعرفون ، هكذا وصل مفهوم الإسلام إلى هذه الدرجة عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام .(7/8)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله ، وما يتحدث عنه شيخ الإسلام في القرن السابع والثامن موجود الآن بكثرة وبكثرة هائلة بالنسبة لمن يعرف فرق الناس والطوائف المنتشرة في العالم (وقد يوجد فى المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل فى بعض هذه المذاهب) فعلا ، كثير من الذين ينتسبون إلى التصوف والسلوك يدخلون في بعض هذه المذاهب وفيما يشبه ذلك ، من مشايخ الصوفية من لا يصلي الصلاة في الظاهر ، يصلي في الباطن ، إذا كان في بلد ناء في إفريقيا في آسيا وإذا دخل وقت الصلاة توجه إلى القبلة وهو جالس ويقرب له ماء الوضوء ، في زعمه يتوضأ والناس لا يروه يذهب فيصلي في أحد المسجدين في الصف الأول بالتحديد ثم يعود وهو لم يغادر مكانه ، والعامة تصدق والعجب كل العجب وجود من يصدقون هؤلاء وهو يتعمدون هذا الكفر ، كفر يتعيشون به لكن وجود أتباع لهؤلاء الملاحدة يصدقونهم في وضوئهم ، في صلاتهم ، شخص لم يتحرك من مقامه ويصدقون بأنه قد ذهب وصلى في أحد المسجدين ثم رجع في أقصى إفريقيا أو آسيا هذا موجود بكثرة وخصوصا في القارة الهندية والقارة الإفريقية بكثرة جدا ، منهم من يحج بهذه الطريقة : يطير يحج ويعود والناس تصدق ، منهم من يعلن ويأمر أتباعه بالصلاة أمرا جازما من باب التمويه يقول (نحن قمنا الليالي وصمنا النهار فوصلنا فعليكم أن تجتهدوا في العبادة) يأمرهم بالعبادة والإكثار من الصلوات وهو لا قد سقطت عنه .(7/9)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وهؤلاء الباطنية الملاحدة) سواء كانوا من باطنية الصوفية أو باطنية الشيعة أو باطنية الفلاسفة قد (أجمع المسلمون على انهم أكفر من اليهود والنصارى) وصرح شيخ الإسلام في بعض كتبه أن رئيس وحدة الوجود ابن عربي الطائي أتى بكفر لم تعرفه قريش ، كفار قريش لم يعرفوا الكفر الذي جاء به ابن عربي ومع ذلك الصوفية العادية تعظم هذا الرجل ويسعون للوصول إلى ما وصلوا إليه بدعوى أنه سلطان العارفين وخاتمة الأولياء ، هذا موجود في كتبهم وشيخ الإسلام صرح بكفره هكذا لذلك كثير من الصوفية ليسوا براضين عن شيخ الإسلام لمثل هذا الموقف . نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على هؤلاء الملاحدة يحتج به كل من كان من اهل الايمان والاثبات على من يشرك هؤلاء فى بعض إلحادهم فاذا اثبت لله تعالى الصفات ونفى عنه مماثلة المخلوقات كما دل على ذلك الآيات البينات كان ذلك هو الحق الذى يوافق المنقول والمعقول ويهدم أساس الإلحاد والضلالات والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الامثال التى فيها مماثلة لخلقه فان الله لا مثيل له بل له ( المثل الاعلى ) فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوقات فى قياس تمثيل ولا فى قياس شمول تستوى أفراده ولكن يستعمل فى حقه المثل الاعلى وهو ان كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه فاذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة فى الاسم فالخالق اولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق وان حصلت موافقة فى الاسم))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات) وهم السلف والأئمة وأتباعهم كما تقدم .
(على هؤلاء الملاحدة) الذين سبق ذكر مذاهبهم .(7/10)
(يحتج به كل من كان من اهل الايمان والاثبات على من يشرك هؤلاء فى بعض إلحادهم) أي الدليل الذي يحتج به على الملاحدة جميعا على من ألحد ونفى ولم يصدق خبر الله فيما أخبر عن نفسه وفيما أخبر عن اليوم الآخر ما تحتج به على هؤلاء تحتج به على من يشاركهم في بعض إلحادهم وإن لم يلحد إلحادا كاملا مثلهم ، لأن كما تقدم من الناس من يثبت ما أخبر الله به عن اليوم الآخر وينفي الصفات كلها أو ينفي الأسماء والصفات أو يفرق بين الصفات ، تحتج على هؤلاء بما تحتج به على الملاحدة الذين كذبوا الخبرين :
- الخبر عن الله وعن أسمائه وصفاته .
- والخبر عن اليوم الآخر .
(فاذا اثبت) إذا أثبت المرء (لله تعالى الصفات) كلها كما جاءت دون أن يفرق بين الصفات .
(ونفى عنه مماثلة المخلوقات) فيما أثبت ، يثبت لله صفات تليق بالله تعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقات .
(كما دل على ذلك) أو (كما دلت على ذلك) جائز (الآيات البينات) يجوز تذكير الفعل والتأنيث هنا لوجود الفاصل بين الفعل والفاعل ولأن تأنيث الفاعل تأنيث غير حقيقي ( كما دل على ذلك الآيات البينات ) جائز ( كما دلت على ذلك الآيات البينات ) جائز .
(كان ذلك هو الحق الذى يوافق المنقول والمعقول) المنقول هو خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام ويسمى الدليل النقلي والدليل السمعي والدليل الخبري ، والمعقول ما يدرك الإنسان بعقله وكما تقدم إن العقل السليم الصريح لا يخالف النقل الصحيح .
(ويهدم أساس الإلحاد والضلالات) إنما يهدم هذا الأساس بالإيمان بخبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام .
(والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الامثال التى فيها مماثلة لخلقه فان الله لا مثيل له) كيف تضرب له الأمثال ؟ فإنه لا مثل له .
(بل له "المثل الاعلى") المثل الأعلى الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه أحد .(7/11)
(فلا يجوز أن يشترك هو) سبحانه (والمخلوقات فى قياس تمثيل ولا فى قياس شمول) قياس تمثيل هو المعروف عند الأصوليين بقياس العلة قياس العلة المعروف عند الأصوليين وهو الاستدلال بجزئي على جزئي ، إلحاق فرع بأصل بعلة جامعة بينهما كإلحاق النبيذ بالخمر المعروفة عند نزول القرآن ، كل ما يتجدد مما يسكر سواء كان مائعا أو جامدا يلحق بالخمر بجامع الإسكار ، وهذا يسمى قياس تمثيل ويسمى قياس العلة عند الأصوليين ، لا يستعمل هذا في حق الله تعالى أي لا يجعل الرب سبحانه وتعالى أصلا لفرع يلحق به الفرع ولا يجعل الرب سبحانه وتعالى فرعا لأصل لأنه لا مثيل له لا يليق بالله تعالى أن يلحق به غيره بأن يجعل الرب سبحانه وتعالى أصلا والمخلوق فرعا لأن في ذلك تشبيه المخلوق بالخالق والعكس أيضا بأن تجعل المخلوق أصلا والخالق فرعا لأن في ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق إذن قياس التمثيل لا يستعمل في حق الله مطلقا لأنه لا يليق بالله إذ ليس له مثيل .
وقياس الشمول هو الاستدلال بكلي على جزئي ، هذا قياس المناطقة أو المنطقيين كأن يقال : كل متغير حادث ، فالعالم حادث بجميع أفراده ، الدليل على حدوث العالم هذا التغير المشاهد في جميع أفراد العالم والعالم كل ما سوى الله ، فلا يستدل بمثل هذا القياس على الله تعالى لأنه لا يدخل الرب سبحانه وتعالى مع أفراد هذا العالم في مثل هذا القياس حتى يكون فردا مع أفراد هذه الكليات ، كل ذلك مستحيل في حق الله تعالى لأنه لا يليق به .
(ولكن يستعمل فى حقه) تعالى (المثل الاعلى) وهو الكمال المطلق فسره شيخ الإسلام بقوله :(7/12)
(وهو ان كل ما اتصف به المخلوق من كمال) لا نقص فيه (فالخالق أولى به) لأن معطي الكمال أولى بالكمال ، الذي أعطى الكمال للمخلوق هو الله إذن هو أولى به بالكمال الذي لا يشاركه فيه المخلوق ، الكمال الذي أعطى للمخلوق كمال نسبي ليس الكمال الحقيقي أو ليس الكمال المطلق ، الكمال المطلق الذي لا مشاركة فيه لله سبحانه كامل في حياته وهو الذي منح الخلق الحياة ، كامل في علمه وهو الذي أعطى عباده شيء من العلم علما يسير وقليلا ، هذا هو المثل الأعلى .
(وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه) العمى والصمم وغير ذلك هذا نقص .
(فاذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق) موجود الآخرة منزه عن مماثلة موجود الدنيا كما تقدم لا يماثل موجود الآخرة أي ما في (الآخرة) من النعيم لا يماثل موجود الدنيا وإن اتفق معه في الاسم .
(مع الموافقة فى الاسم فالخالق اولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق) أي مخلوق كان .
(وان حصلت موافقة فى الاسم) إن حصلت الموافقة بين الخالق وبين المخلوق في الاسم العام وفي المعنى العام لا بد من هذا القيد كما تقدم غير مرة ، المشاركة إنما تحصل بين الخالق وبين المخلوق في الاسم العام في الصفة العام في المعنى العام قبل أن يحصل التخصيص بالله ، التخصيص بالله يحصل بالإضافة كعلم الله وسمع الله وحياة الله ، بعد هذه الإضافة المخصصة لا مشاركة بين حياة الخالق وحياة المخلوق وسمع الخالق وسمع المخلوق ، استواء الله إذا خصص الاستواء بالله تعالى بالإضافة هكذا لا تحصل المشاركة ، نزول الله مجيء الله وجه الله هذه الإضافة هي الإضافة المهمة جدا لأن بها يحصل الفرق بين صفات الله تعالى وصفات المخلوق .(7/13)
كذلك إذا أضيفت الصفة للمخلوق علم زيد سمع زيد حياة زيد ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشرك زيدا في خصائص هذه الصفات لأن صفات زيد ناقصة وحادثة حدوثه ومخلوقة كما أن زيدا مخلوق كذلك ، لذلك هذا الاشتراك أو الموافقة في الاسم التي ذكر الشيخ إنما في الاسم العام أو في المعنى العام .
نعم .
نكتفي بهذا المقدار .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(7/14)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(إلى الوجه الثاني للشريط الثاني عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وهكذا القول فى ( المثل الثانى ) وهو ان الروح التى فينا فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية وقد اخبرت النصوص انها تعرج وتصعد من سماء الى سماء وانها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة والناس مضطربون فيها فمنهم طوائف من اهل الكلام يجعلونها جزءا من البدن أوصفة من صفاته كقول بعضهم انها النفس او الريح التى تردد فى البدن وقول بعضهم إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم وهى امور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود فيقولون لا هى داخل البدن ولا خارجة ولا مباينة له ولا مداخلة له ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط ولا هى جسم ولا عرض وقد يقولون أنها لا تدرك الامور المعينة والحقائق الموجودة فى الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة وقد يقولون أنها لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة له ولا مداخلة وربما قالوا ليست داخلة فى اجسام العالم ولا خارجة عنها مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة اليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التى تلحقها بالمعدوم والممتنع))
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد :(8/1)
... هذه المناقشة الإيمانية ليثبت بهذا الأسلوب كيفية الإيمان بالله سبحانه وتعالى وإثبات أسمائه وصفاته وذكر أولا الأصلين اللذين لا بد منهما ، في الأصل الأول ناقش نفاة الصفات الذين يثبتون الذات ولا يثبتون الصفات فأثبت لهم بالأدلة العقلية أنه كما أثبت الذات يلزمه أن يثبت الصفات لأن إيمانه بالذات إيمان إثبات وليس إيمان تكييف ، وكذلك يجب الإيمان بالصفات لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه .
ثم ناقش في الأصل الثاني المفرقين بين الصفات الذين يؤمنون ببعض الصفات ويؤولون البعض الآخر فأثبت لهم أن الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر ولا يفرق بينهما عقلا وشرعا ، وتوسع شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الأصلين إلى مناقشة الذين يجمعون بين النقيضين أو يحاولوا أن يرفعوا النقيضين فأثبت لهم أن ذلك مستحيل عقلا أي الذين يحاولون أن يقولوا لا نقول إنه موجود أو غير موجود أو حي أو غير حي أو لا حي ولا ميت إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يقبله أي عاقل ، بعد أن انتهى من مناقشة هؤلاء الفرق في الأصلين المذكورين انتقل إلى المثلين ، ضرب لهم مثلا لإقناعهم إلى بأن الإنسان يضطر إلى إثبات مباينة الرب سبحانه وتعالى لخلقه لأنه أثبت لهم أن هناك مخلوقا في غير هذا العالم في عالم آخر في عالم الاخرة وهو موجود وجودا حقيقيا ولكنه يخالف موجود الدنيا ، هذا مخلوق وذلك مخلوق فإذا ثبتت المباينة بين مخلوق ومخلوق فمن باب أولى أن تثبت المباينة بين الخالق وبين المخلوق ، موجود الآخرة موجود حقيقة والأسماء تتفق في الغالب بين موجود الآخرة وبين موجود الدنيا لكن مع الاتفاق في الاسم أثبت الله سبحانه وتعالى المباينة بين موجود الآخرة وموجود الدنيا بما سمعنا من الأمثلة .(8/2)
ثم انتقل إلى المثل الآخر وهو الروح ، الروح يذكر ويؤنث يقال (هذه الروح) و (هذا الروح) ، الروح التي فينا ويكون الإنسان به إنسانا لأن الإنسان مجموع الروح والجسد ، لا يقال للجسد وحده إنسان كما يقال للروح وحدها إنسان وإنما الإنسان مجموع الروح والجسد ، هذه الروح التي فينا التي نتأكد بدون تردد في وجودها فينا ولكن لا ندري أين هي ؟ في رءوسنا في أرجلنا في أي مكان من أجسامنا ما كيفيتها وما كنهها وما حقيقتها لا نعلم ، ولكن نؤمن إيمانا لا يخالطه شك بأن فينا الروح ، لأن الإنسان كما قلنا لا يكون إنسانان إلا بالروح (فإنها) إن هذه الروح (قد وصفت بصفات ثبوتية) وصفات (سلبية) لها صفات ثبوتية وصفات سلبية وصفت بالوصفين في الكتاب والسنة .
(قد اخبرت النصوص انها تعرج وتصعد من سماء الى سماء) كما يأتي نص ذلك في حديث البراء بن عازب .
(وانها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة) هذه أوصاف إيجابية ثبوتية .
ومع ذلك (الناس مضطربون فيها فمنهم طوائف من اهل الكلام يجعلونها جزءا من البدن .. ) .
أي بما يصفون واجب الوجود عندهم في فهمهم وفي أسلوبهم .
(وهى امور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود فيقولون لا هى داخل البدن ولا خارجة) أين هي ؟ (ولا مباينة له ولا مداخلة ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط ولا هى جسم ولا عرض) الجسم لهم تفاسير في الجسم والأقرب الجسم : ما يقوم بنفسه .
والعرض : ما يقوم بغيره .
لذلك يسمون صفات الله تعالى أعراضا ، على كل وصفوا الروح بهذه الصفات كما وصفوا الله تعالى بمثل هذه الصفة تماما لإنهم قالوا في الله تعالى ليس هو داخل العالم ولا خارج العالم لا متصل ولا منفصل ، بمثل هذه الصفات وصفوا الروح .
(وقد يقولون أنها لا تدرك الامور المعينة والحقائق الموجودة فى الخارج) أي في خارج الذهن (وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة) الأمور الكلية المطلقة لا وجود لها في الخارج أمر ذهني .(8/3)
(وقد يقولون إنها لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة له ولا مداخلة) كما قالوا مثل ذلك في رب العالمين .
(وربما قالوا ليست داخلة فى اجسام العالم ولا خارجة عنها) احتاروا حيرة ولم يهتدوا إلى الصواب ، لأن الصواب فيها ما قال الله ، وأما ترك كلام الله وترك كلام الرسول صلى الله عليه وسلم والبحث عن حقيقة الروح خارج النص لا يزيدهم إلا حيرة .
(قالوا ليست داخلة فى اجسام العالم ولا خارجة عنها مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية) هذا تفسير من تفاسير الجسم عندهم ، الجسم ما يقبل الإشارة الحسية .
(فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة اليها) إلى الروح .
(ونحو ذلك من الصفات السلبية التى تلحقها بالمعدوم والممتنع) لا يستغرب منهم هذا إذا كانوا قد وصفوا الله سبحانه وتعالى بمثل هذه الصفات .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وإذا قيل لهم إثبات مثل هذا ممتنع فى ضرورة العقل قالوا بل هذا ممكن بدليل ان الكليات ممكنة موجودة وهى غير مشار اليها وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا فى الأذهان لا فى الأعيان فيعتمدون فيما يقولونه فى المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذى لا يخفى فساده على غالب الجهال ))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وإذا قيل لهم إثبات مثل هذا ممتنع) الشيء الذي ليس داخل العالم ولا خارج العالم لا داخل الجسم ولا خارج الجسم إلى آخره هذا ممتنع (فى ضرورة العقل) إذا نوقشوا هكذا يكون جوابهم :
(بل هذا ممكن بدليل ان الكليات ممكنة موجودة وهى غير مشار اليها) والروح مثل الكليات .(8/4)
(غفلوا) أو تغافلوا (عن كون الكليات لا توجد كلية إلا فى الأذهان) كلما قيل إنها كلية أو معنى عام أو المطلق الكلي هذه أمور ذهنية لا وجود لها إلا في الأذهان لو كانت في الخارج يمكن الإشارة إليها لكن هذه الكليات لا وجود لها إلا في الذهن ، ما في الذهن مطلق كلي لا يقبل الإشارة لأنه غير موجود حقيقة إنما هو خيال يتخيله الذهن ، استدلالهم بأن الكليات موجودة ومع ذلك لا يشار إليها اعتبر شيخ الإسلام هذا غفلة منهم ، قد يكون غفلة وقد يكون تغافلا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان وما في الأعيان لا يسمى كلية ولا مطلقا .
(فيعتمدون فيما يقولونه فى المبدأ والمعاد) أي في شؤون المعاد (على مثل هذا الخيال الذى لا يخفى فساده على غالب الجهال) بل الجهال أغلب الجهال يدركون ذلك ولكن بعض الجهال ومن يلحقون بالجهال قد ينطلي عليهم مثل هذا الأسلوب ويحسبون أنها حجج وليست بحجج كما قال الخطابي :
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
وليست هناك حجج ، الحجج فيما قال الله وفيما قال رسوله عليه الصلاة والسلام وفي المعقول الذي يتصوره العقل الصريح السليم أما من تلوث عقله وتغيرت فطرته وغلب عليه الهوى والتقليد لا يمكن أن يأتي بحجج مقنعة .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((واضطراب النفاة والمثبتة فى الروح كثير وسبب ذلك ان الروح التى تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هى من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها بل هى من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التى توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ))
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مناقشة الفلاسفة (واضطراب النفاة والمثبتة فى الروح كثير) النفاة للروح والمثبتة للروح يحتمل ، أو نفاة الصفات ومثبتة الصفات يشمل .(8/5)
(وسبب ذلك ان الروح التى تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة) يقسمون النفس إلى :
- النفس الناطقة .
- والنفس الفلكية .
كلام لا معنى له عند العقلاء ولا يمكن تصوره إلا مجرد حكاية كلام الفلاسفة .
(التى تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هى من جنس هذا البدن) بل جنس آخر (ولا من جنس العناصر والمولدات منها بل هى من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس) ما هي تلك الأجناس ؟ لا حقيقة لها إلا مجرد حكاية .
(فصار هؤلاء لا يعرفون) الروح (إلا بالسلوب التى توجب مخالفتها للأجسام) حتى تكون سلبية خيالية لا وجود لها إلا في الأذهان ولو كان وجودها خارجيا لأمكن وصفها بالصفات الثبوتية والصفات السلبية كما في الكتاب والسنة .
(فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التى توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها) أي أهل الكلام (هؤلاء) الصنف الأول الفلاسفة .
(فصار هؤلاء) أي الفلاسفة (لا يعرفونها إلا بالسلوب التى توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك) المتكلمون(يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ) لا من هذا ولا من ذاك وسيأتي بيان حقيقتها .
نعم .(8/6)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج الى تفصيل فإن لفظ الجسم للناس فيه اقوال متعددة إصطلاحية غير معناه اللغوى فاهل اللغة يقولون الجسم هو الجسد والبدن وبهذا الإعتبار فالروح ليست جسما ولهذا يقولون الروح والجسم كما قال تعالى (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم) وقال تعالى (وزاده بسطة فى العلم والجسم) وأما اهل الكلام فمنهم من يقول الجسم هو الموجود ومنهم من يقول هو القائم بنفسه ومنهم من يقول هو المركب من الجواهر المنفردة ومنهم من يقول هو المركب من المادة والصورة وكل هؤلاء يقولون أنه مشار إليه إشارة حسية ومنهم من يقول ليس بمركب من هذا ولا من هذا بل هو مما يشار اليه ويقال أنه هنا أو هناك فعلى هذا اذا كانت الروح مما يشار اليها ويتبعه بصر الميت كما قال (ان الروح اذا خرجت تبعها البصر)(وانها تقبض ويعرج بها الى السماء) كانت الروح جسما بهذا الإصطلاح))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج الى تفصيل) ذلك (فإن لفظ الجسم للناس فيه اقوال) في تعريف الجسم للناس أقوال (متعددة) كلها (إصطلاحية غير معناه اللغوى) للجسم معنى لغة وللجسم معان وتعاريف في الاصطلاح اصطلاح الناس .
(فاهل اللغة يقولون الجسم هو الجسد والبدن) لا فرق بين الجسم وبين الجسد وبين البدن ألفاظ مترادفة .
(وبهذا الإعتبار فالروح ليست جسما) شيء آخر .
(ولهذا يقولون الروح والجسم كما قال تعالى) أي ولهذا يقال الروح والجسم يعطف الجسم على الروح أو تعطف الروح على الجسم والعطف يقتضي المغايرة إذن الجسم غير الروح والروح غير الجسم .
(كما قال تعالى (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم) ) أثبت لهم أجساما والأجسام غير الروح .
(وقال تعالى (وزاده بسطة فى العلم والجسم) ) هذا شيء غير الروح .(8/7)
(وأما اهل الكلام فمنهم من يقول الجسم هو الموجود) كل موجود جسم سواء كان حيوانا أو جمادا أي موجود على وجه الأرض أو في هذا الكون فهو جسم ، هذا تعريف .
(ومنهم من يقول هو القائم بنفسه) ليخرجوا بذلك العرض ، لأن العرض لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بغيره .
(ومنهم من يقول هو المركب من الجواهر المنفردة) الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة ، وتحقيق ذلك يصعب جدا وجود شيء موجود لا يقبل القسمة ولو ذرة من الصعوبة بمكان إذن هذا كلام غير واقعي .
(ومنهم من يقول هو المركب من المادة والصورة وكل هؤلاء يقولون أنه مشار إليه إشارة حسية) لأن هذه التعريفات كلها تثبت وجود الروح وجودا خارجيا كل ما وجوده خارجيا يمكن الإشارة إليه وما كان وجوده ذهني كالكليات لا يمكن الإشارة إليه .
(ومنهم من يقول ليس بمركب من هذا ولا من هذا) لا من المادة والصورة .
(بل هو مما يشار اليه) ما حقيقته ؟ ما ماهيته ؟ إن لم يكن مركبا لا من هذا ولا من ذاك لكنه شيء موجود يشار إليه .
(ويقال أنه هنا أو هناك) إن (الروح) هنا أو هناك يعني ممكن أن يشير الإنسان إلى رأسه يقول هنا ويشير إلى صدره هناك ، يوجد هنا وهناك ، أو في أي مكان في الجسم ، تخبطات لا دليل عليها .
(فعلى هذا اذا كانت الروح مما يشار اليها ويتبعه بصر الميت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الروح اذا خرج) هذا دليل جواز تذكير الروح (ان الروح اذا خرج) لم يقل إذا خرجت جائز لكن الحديث ثبت هكذا ((ان الروح اذا خرج تبعها البصر) ) ذكّره في هذا الحديث ((وانها) أنث ((وانها تقبض ويعرج بها الى السماء) ) هذه صفات ثبوتية .
(كانت الروح جسما بهذا الإصطلاح) ويمكن الإشارة إليها لأن النبي عليه الصلاة والسلام أثبت لها أنها تتبع البصر وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء صفات ثبوتية تثبت هذه الصفات بأن الروح جسم ولكن غير هذا الجسم جسم آخر غير هذا الجسم المعهود .
نعم .(8/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((والمقصود أن الروح اذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة تصعد وتنزل وتذهب وتجىء ونحو ذلك من الصفات والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا والشىء انما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته وأهل العقول هم اعجز عن ان يحدوه أو يكيفوه منهم عن ان يحدوا الروح أو يكيفوها فإذا كانت من نفى صفات الروح جاحدا معطلا لها ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلا ممثلا لها بغير شكلها وهى مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات مستحقة لما لها من الصفات فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته جاحدا معطلا ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات مستحق لما له من الاسماء والصفات))
وبعد : هذه الخلاصة هي المقصودة من ضرب المثل ، لذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله (والمقصود) أي المقصود من ضرب المثل ، المثل الأخير .
(أن الروح اذا كانت موجودة حية عالمة قادرة) الروح التي فينا توصف بأنها موجودة وهذا شيء لا نزاع فيه ، عالمة قادرة لأن وصفك بأنك عالم وقادر مع الروح لو خرجت الروح هل توصد بأنك قادر وبأنك عالم وبأنك سميع وبأنك بصير ؟ لا ، بوجود الروح يوصف الإنسان بهذه الصفات الثبوتية .(8/9)
(إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة) ليست منفصلة عن الجسم بل مع الجسم ، هذه صفات الإنسان ، والإنسان مجموع الروح والجسد ، لذلك يوصف بهذه الصفات مع الروح لا الروح وحدها ولا الجسم وحده وإن كانت قد توصف الروح ببعض الصفات الثبوتية التي تقدمت من الصعود والعروج وغير ذلك بأنها سميعة بصيرة و(تصعد وتنزل) هذه تتصف بهذه الصفات وحدها ، الروح وحدها هي التي تصعد دون الجسد وهي التي تنزل وهي التي تذهب وهي التي يصعد بها إلى فوق سبع سماوات حتى ترد من هناك الروح الطيبة إلى قبرها بعد أن صعد بها الملائكة الذين هم عبارة عن الوفد عندما تقبض الروح الطيبة يأتي وفد من الجنة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة ويجلس من الإنسان المُحضر مد البصر ينزلون قبل ملك الموت ثم يأتي ملك الموت فيقبض ولا يتركونها في يد ملك الموت بل هم الذين يبادرون بقبض هذه الروح الطيبة فيجعلونها في كفن من الجنة وحنوط من الجنة ويصعد بها ويرحب بها في كل سماء إلى أن ينتهي أمرها بالجوع إلى القبر فيفتح له باب إلى الجنة وتنعم هذه الروح ، إذن توصف بهذه الصفات إذن هي توصف بالحياة والسمع والبصر والنزول والصعود ويشار إليها لأن وجودها وجود حقيقي .
توصف بـ (نحو ذلك من الصفات والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها) مع ذلك ، مع هذه الأوصاف التي تجعل الروح كيانا موجودا معقولا مشارا إليه مع ذلك العقول كلها قاصرة عن تكييفها ، عن بيان كيفيتها وإدراك كيفيتها وتحديدها طولا وعرضا ، كيف هي ؟ عاجزة ، فإذا كان يعلم الإنسان أن في بدنه هذه الروح بهذه الصفات وهو يعجز عن كيفية هذه الروح التي يؤمن بوجودها حقيقة وأنها موصوفة بهذه الصفات حقيقة ولكنه يعجز عن تكييفها وتحديدها ، كيف يحاول أن يدرك حقيقة الرب سبحانه وتعالى وحقيقة صفاته وأسمائه بحيث إذا عجز يقف أحد موقفين :(8/10)
- إما التشبيه بدعوى أنه لا يقل إلا ما في هذا الكون المشاهد ، إلا ما هو معقول له في المشاهد إذن هو كهذا المشاهد لأنه لم يكلف إلا بما يدركه عقله فيقع في التشبيه والتشبيه كفر .
- أو يدعي إذا عجز أنه لا وجود لهذه الصفات بل يجب نفيها كلها أو نفي بعضها أو نفي الصفات وإثبات الأسماء الجامدة كل ذلك تنزيها للرب سبحانه وتعالى لأنه عجز عن إدراك حقيقته وحقيقة أسمائه وصفاته .
تكلف هذا التكلف ناسيا الروح ، لو تذكر الروح التي فيه وهو عاجز عن إدراك حقيقتها وكنهها ومع ذلك يؤمن بها حقيقة كان الأولى انطلاقا من هذا الإيمان بروحه أن يؤمن بالله وبأسمائه وصفاته دون محاولة للتكييف والتحديد ، هذا ما يريد أن يقوله الشيخ رحمه الله وسوف يقول أبلغ من هذا .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا) إنما عجزوا هذا العجز لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا .
ثم قال كلاما ينبغي أن يكون قاعدة (والشىء انما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره) اعتبر هذا الكلام قاعدة . الشيء إنما يدرك أو تدرك حقيقته إما :
- بمشاهدة ذلك الشيء .
- أو بمشاهدة نظيره لتقيسه على نظيره .
(فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات) لا تماثل البدن ، لا تماثل أي شيء مما تشاهد أنت .(8/11)
(فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته) والمشاركة في الاسم العام والصفة العامة أو في المعنى العام أو في المطلق الكلي لا يُثبت أو لا يرفع المباينة ويُثبت المشابهة أو المماثلة بين الخالق والمخلوق لأن ذلك لم يُثبت ، إثبات تلك الصفات الثبوتية والسلبية أيضا للروح لم يُثبت المماثلة بينها وبين هذا المشاهد ولم يُزِل ذلك المباينة ، فالخالق أولى أن تثبت مباينته لمخلوقاته وأن الاشتراك في أنه سميع عليم وأن المخلوق سميع عليم وهذا في المعنى العام قبل تخصيص صفات الله بالله وتخصيص صفات المخلوق بالمخلوق لا يلزم من هذا المشابهة والمماثلة كما تقدم ذلك مفصلا .
قال الشيخ رحمه الله (فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته وأهل العقول هم اعجز عن ان يحدوه) سبحانه (أو يكيفوه منهم) أي من عجزهم (عن ان يحدوا الروح أو يكيفوها) إذا ثبت عجزهم أن يحدوا الروح ويكيفوا الروح هم أعجز عن تحديد الرب سبحانه وتعالى وتكييفه – منهم - أي من عجزهم أن يحدوا الروح أو يكيفوها .
(فإذا كان من نفى صفات الروح) التي ثبتت بالنص وتقدم تعداد بعضها .
(فإذا كان من نفى صفات الروح جاحدا معطلا لها ومن مثلها بما يشاهده) قال هي جسم قال هي بدن قال هي النفَس .
(ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلا) لها و (ممثلا لها بغير شكلها وهى مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات مستحقة لما لها من الصفات) التي تقدم ذكرها (فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته) صفاته كلها كالجهمية والمعتزلة ، (صفاته وأسماءه) كالجهمية ، أو (نفى صفاته) كالمعتزلة ، أو (فرق بين صفاته) كالأشاعرة (جاحدا معطلا) .(8/12)
(فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفى صفاته جاحدا معطلا)ليس بلازم نفي جميع الصفات ، من نفى بعض الصفات وأول البعض تأويلا يؤول إلى النفي فهو معطل جاحد على الأصل الذي تقدم ، لأن الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر ، فالواجب إثبات جميع الصفات ، وأما إثبات بعض الصفات ونفي بعضها وجحود بعضها وتأويل بعضها تأويلا يؤدي إلى الإنكار ثم إعلان بأن ذلك طريقة أهل السنة والجماعة هذه مغالطة ، مغالطة إما مقصودة أو غير مقصودة ، قد تكون مقصودة عند كبار أصحاب هذا المذهب لأنهم أعلنوا أنهم يخالفون المعتزلة ويثبتون لأنفسهم بذلك أنهم أهل السنة والجماعة ، وتكون غير مقصودة بالنسبة لأتباعهم المقلدين الذين لم يعلموا إلا هذا المذهب ، رأوا أن هذا المذهب له الوجود الجماعي بين المسلمين منذ نشأ كالذين نشأوا بعد انتشار هذا المذهب بين المسلمين ، نشأوا في المنطقة نفسها ولم يجدد لهم الدين التجديد الصحيح ، بقوا مترددين في هذا الوهم واهمين بأنهم على مذهب أهل السنة والجماعة وهم معطلة جاحدة ، فليُعلم هذا .
(ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا) من قاسه بخلقه كالمشبهة الذين قالوا لا نعقل من الصفات إلا كما نعقلها في أنفسنا إذن الرب سبحانه كغيره لا فرق بينه وبين غيره لأن هذا هو المعقول عندنا ، قياسا منهم على خلقه .(8/13)
(ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات مستحق لما له من الاسماء والصفات) وليس بلازم أن يُرى أيضا لأننا أثبتنا بأن الروح لا تُرى وهي موجودة وجودا حقيقيا وموصوفة بصفات ثبوتية ، إذا ثبت وجود الروح وجودا حقيقيا ونحن لا نشاهدها ولا نراها وإثبات وجود الرب سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وهو لا يُرى في هذه الدنيا أولى عقلا ، علما بأننا أُخْبِرْنا عن الله سبحانه وتعالى أو أخبرنا الله وأخبرنا رسوله عليه الصلاة والسلام بأن الله سوف يُرى ، بأن المؤمنين سوف يرونه في دار الكرامة وإن عجزوا عن رؤيته في هذه الدار ، عجز أولوا العزم من الرسل كموسى خاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام لم تثبت رؤيتهما لرب العالمين في هذه الدار بل نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ ( لن ) الرؤية في هذه الدار " إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " فثبت بالكتاب والسنة رؤية المؤمنين ربهم في عرصات القيامة وفي دار الكرامة أما في عرصات القيامة على خلاف بين أهل العلم هل هي خاصة بالمؤمنين أو للمؤمنين والكفار والمنافقين معا؟ إلا أنه يحتجب أخيرا عن الكفار والمنافقين هذا قول لبعض أهل العلم ، ويرى البعض الآخر لعل في مقدمتهم الحافظ ابن حجر أن الرؤية في عرصات القيامة خاصة أيضا بالمؤمنين ، ويوجه ذلك فيقول : إذا مكن الله سبحانه وتعالى المؤمنين من السجود ومنع المنافقين والمرائين من السجود حتى تصير ظهورهم كطبق واحد لا يستطيعون السجود فهو قادر أن يمكن المؤمنين من الرؤية في عرصات القيامة ولا يمكن المنافقين والكفار من ذلك ، رأيان لأهل العلم في هذه المسألة بالنسبة للرؤية في عرصات القيامة .
أما في دار الكرامة فهي لأهل دار الكرامة ، من هم ؟ المؤمنون وحدهم ، فنسأل الله لنا ولكم الثبات على ديننا حتى نلقى ربنا سبحانه وتعالى وهو راض عنا .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(8/14)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(من آخر الوجه الثاني للشريط الثاني عشر إلى الوجه الأول من الشريط الثالث عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (((وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة) :القاعدة الأولى:أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفى فالإثبات كإخباره أنه بكل شىء عليم وعلى كل شىء قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك والنفى كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وينبغى أن يعلم أن النفى ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا وإلا فمجرد النفى ليس فيه مدح ولا كمال لأن النفى المحض عدم محض والعدم المحض ليس بشىء وما ليس بشىء فهو كما قيل ليس بشىء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا ولأن النفى المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفى متضمنا لإثبات مدح كقوله(الله لا اله الا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)الى قوله(ولا يؤوده حفظهما)فنفى السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام فهو مبين لكمال أنه الحى القيوم وكذلك قوله(ولا يؤوده حفظهما)أى لا يكرثه ولا يثقله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها بخلاف المخلوق القادر اذا كان يقدر على الشىء بنوع كلفة ومشقة فإن هذا نقص فى قدرته وعيب فى قوته(9/1)
وكذلك قوله تعالى(لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الارض)فان نفى العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة فى السموات والأرض وكذلك قوله(ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب)فان نفى مس اللغوب الذى هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذى يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه وكذلك قوله(لا تدركه الابصار)انما نفى الادراك الذى هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية لأن المعدوم لا يرى وليس فى كونه لا يرى مدح إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا وإنما المدح لكونه لا يحاط به رؤية كما أنه لا يحاط به وإن عُلم فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما كذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية فكان فى نفى الادراك من اثبات عظمته ما يكون مدحا وصفة كمال وكان ذلك دليلا على اثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على اثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذى اتفق عليه سلف الامة وأئمتها وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفى لا يستلزم ثبوتا هو مما لم يصف الله به نفسه فالذين لا يصفونه الا بالسلوب لم يثبتوا فى الحقيقة الها محمودا بل ولا موجودا وكذلك من شاركهم فى بعض ذلك كالذين قالوا إنه لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش ويقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا محايث له إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم وليست هى مستلزمة صفة ثبوت ولهذا ( قال محمود بن سبكتكين ) لمن ادعى ذلك فى الخالق ميز لنا بين هذا الرب الذى تثبته وبين المعدوم وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس فى ذلك صفة مدح ولا كمال بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات فهذه الصفات منها ما لا يتصف به الا المعدوم ومنها ما لا يتصف به الا الجماد أو الناقص فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا(9/2)
متقدم على العالم ولا مقارن له))
الحمد لله رب العالمين
وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم والرسول الأمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين الطاهرين .
أما بعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية بعد أن تحدث عن المثلين ثم عن الأصلين والمثلين قال ((وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة) ) الخاتمة في الغالب الكثير إنما تأتي ملخصة ما تقدم في الكتاب أي أن المؤلف يلخص كتابه في الخاتمة ولكن الخاتمة في هذا الكتاب جاءت على خلاف ذلك ، عبارة عن قواعد نافعة وكثيرة وهي أي هذه الخاتمة من صلب الموضوع موضوع الكتاب .
(القاعدة الأولى) (صفات الله تعالى إثبات ونفي ) أي أن صفات الرب سبحانه وتعالى منها ما هو صفات ثبوتية ومنها ما هو صفات سلبية ، يوصف الرب سبحانه وتعالى بالإثبات وبالنفي ، الغالب الكثير الإثبات ويكون الإثبات مفصلا ويأتي النفي مجملا في الغالب وإن كان قد يأتي مفصلا أيضا .
(القاعدة الأولى أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفى) هذه هي القاعدة تُحفظ بأن الله يوصف بالإثبات والنفي ، لا يوصف بالإثبات فقط ولا يوصف بالنفي فقط ولكن يوصف بالإثبات والنفي معا .
ثم جعل يمثل فقال (فالإثبات كإخباره) سبحانه وتعالى (أنه بكل شىء عليم) إثبات للعلم العلم الواسع المحيط بكل شيء نأخذ ذلك من الصيغة ومن التركيب ( أنه بكل شيء ) نأخذ من هذا التركيب ثم من لفظة(عليم) ( أنه بكل شيء عليم ) .
(وعلى كل شىء قدير) هو الأسلوب نفسه .
(وأنه سميع بصير ونحو ذلك) كل الصفات التي لم تقع في سياق النفي أو في سياق النهي أو في سياق الاستفهام الإنكاري فهي صفة ثبوتية .
(والنفى كقوله تعالى (لا تأخذه سنة ولا نوم) ) " لا تأخذه " .
ثم قال (وينبغى أن يعلم) بعد أن قعد القاعدة بأن الله يوصف بالإثبات والنفي جعل يبين الفرق بين النفي وبين الإثبات .(9/3)
(وينبغى أن يعلم أن النفى ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا) إذن النفي الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى هو النفي الذي يتضمن إثباتا وليس مجرد نفي.
(وإلا فمجرد النفى ليس فيه مدح ولا) فيه (كمال لأن النفى المحض) الذي لا يتضمن إثباتا (عدم محض والعدم المحض) أي العدم الخالص (ليس بشىء وما ليس بشىء فهو كما قيل ليس بشىء) إذن لا يوصف الرب سبحانه وتعالى بما ليس بشيء وإنما يوصف بالكمال ، النفي إذا تضمن إثباتا يدل على الكمال وإن لم يتضمن إثباتا فهو لا شيء .
(فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا ولأن النفى المحض) الذي لا يتضمن إثباتا (يوصف به المعدوم والممتنع) الممتنع كجمع النقيضين ورفع النقيضين ، المعدوم أي غير الموجود يوصف بالنفي المحض ، المعدوم الذي لم يوجد يوصف بـ ...
الشريط الثالث عشر :
المعدوم الذي لم يوجد يوصف بالنفي المحض ، والممتنع كجمع النقيضين الوجود والعدم يوصف بالنفي المحض .
(والمعدوم والممتنع لا يوصفا بمدح ولا كمال) لا يُتَصور أن يقال في المعدوم والممتنع المدح أو الكمال .
ثم جعل يسوق شيخ الإسلام رحمه الله آيات في هذا المعنى فقال (فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح) هذه تعتبر أيضا قاعدة وإن لم يسم هو قاعدة رحمه الله ، عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمن لإثبات مدح ولا بد من ذلك ، إن لم يتضمن إثبات مدح لا يوصف به الرب سبحانه وتعالى ولا يعد كمالا ولا مدحا .
(كقوله تعالى (الله لا اله إلا هو الحي القيوم)) ثم قال ((لا تأخذه سنة ولا نوم)) هذا محل الشاهد " لا تأخذه سنة ولا نوم " .
(إلى قوله(ولا يؤوده حفظهما)) بيان ذلك :(9/4)
(فنفى السنة والنوم يتضمن كمال الحياة) وكمال القيومية ، الحي بالحياة الكاملة هو الذي لا يكون عرضة لا للسنة ولا للنوم ، الذي يتعرض أو يكون عرضة للسنة والنوم حياته ناقصة لأن النوم أخو الموت ، من ينام ويأتيه غفلة وذهول ونسيان ونعاس هذه صفاتُ نقص تدل هذه الصفات على ضعف الحياة ، أما الحي الذي لا يموت الحي القيوم صاحب الحياة الكاملة لا تكون حياته عرضة لهذه النقائص .
(تضمن كمال الحياة والقيام فهو مبين) أي هذا النفي (لكمال أنه الحي القيوم) (الحي) هذا الاسم مرجع لجميع الصفات الذاتية ، صفة الحياة مرجع لجميع الصفات الذاتية أي هي الأصل ، الحي هو الذي يوصف بالسمع والبصر والعلم والحلم وغير ذلك .
(القيوم) القائم بنفسه أي الغني عن غيره ، الذي يقيم غيره فغيره لا يقوم إلا به ، القائم على كل شيء ، كل شيء تحت تدبيره ، القائم بنفسه الغني عن غيره المقيم لغيره الذي لا يقوم ولا حياة ولا وجود لغيره إلا به ، القائم على كل شيء ، مدبر الأمور ، هذه من معاني (القيوم) لذلك (القيوم) أيضا مرجع لجميع الصفات الفعلية ، (الحي القيوم ) تضمن هذا النفي هذه المعاني الثبوتية التي تدل على المدح والكمال " لا تأخذه سنة ولا نوم " لو لم يدل هذا النفي على هذه المعاني لا يكون مدحا ولا كمالا .
(وكذلك قوله تعالى (ولا يؤوده حفظهما)لا يكرثه ولا يثقله) وذلك لكمال قدرته وتمام قدرته ، لكون قدرته قدرة كاملة وتامة لا نقص فيها " لا يؤوده حفظهما " .
(بخلاف المخلوق القادر) المخلوق قد يوصف بالقدرة بأنه قادر .
(إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة) أي قدرة غيره ناقصة ليست تامة وليست كاملة ، صاحب القدرة التامة والقدرة الكاملة هو الله وحده ، دلت هذه الآية وهذا النفي على هذا المعنى .(9/5)
(فإن هذا نقص) الذي يقدر على شيء مع شيء من المشقة والتعب نقص (في قدرته وعيب فى قوته) هذا وصف ذاتي للمخلوق : العجز والعيب والنقص ، صفات ذاتية للمخلوق كما أن القدرة التامة والكمال والقيومية صفة ذاتية للرب سبحانه وتعالى .
(وكذلك قوله تعالى(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) ) نفي .
(فان نفى العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض) لا يغيب عن علمه شيء في السماوات والأرض ، كيف يغيب عن علمه وهو الخالق ؟ " ألا يعلم من خلق " .
(وكذلك قوله(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) ) مع العلم أنه خلق هذه الأجرام العظيمة التي لا يعلم عظمتها إلا هو مع ذلك قال " وما مسنا من لغوب " .
(فان نفي مس اللغوب التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة) هذا الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه أحد في مثل هذه القدرة وهذه القوة لا يشارك الله أحد لذلك هذا من الكمال المطلق ، له الكمال المطلق في قدرته في علمه في سمعه في بصره في جميع صفات الكمال وصفات الله كلها كمال .
(بخلاف المخلوق الذى يلحقه من النصب والكلال ما يلحقه) شيء لا يحتاج إلى التفصيل والشرح ، الإنسان إذا عمل عملا في حدود قدرته المحدودة في نهاية العمل يحس بالتعب والنصب والكلل لأن قدرته محدودة ضعيفة .
(وكذلك قوله(لا تدركه الابصار)) هذه الآية ينبغي أن تُفهم فهما صحيحا لأن أهل الكلام أساءوا فهم هذه الآية واستدلوا بها على أن الله لا يُرى في الآخرة ، والبيان ما ستسمعون الآن من كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
يقول (إنما نفى الادراك) الإدراك أمر زائد على الرؤية ، لم ينف الرؤية نفى الإدراك ، يجب أن نفرق بين الرؤية وبين الإدراك ، الرؤية شيء والإدراك شيء زائد على الرؤية ، لذلك قال :(9/6)
(إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة) الإدراك الإحاطة ، قد ترى شيئا ولا تحيط به ترى الشمس فوقك ، تنظر إلى الشمس وترى لكن لا تحيط بها ، شعاعها القوي ، نورها القوي يحول بينك وبين الإحاطة بالشمس ، مخلوق من مخلوقات الله تعالى لكن لن تستطيع أن تحيط بها فكيف الرب سبحانه وتعالى ؟ إذن الرؤية أو الإدراك أمر زائد على الرؤية ، قد ترى شبحا من بعيد لا تدرك هل الشخص الذي تراه من بعيد رجل أو امرأة ، لا تدرك لكن رأيت ، إذن الرؤية تثبت ولا يلزم من إثبات الرؤية إثبات الإدراك ، المنفي هنا في الآية الإدراك لا الرؤية .
قال رحمه الله (نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء) إذا ذكر العلماء لا يدخل أهل الكلام في عدادهم لذلك قيل : لو وقف الإنسان مالا على العلماء لا حظ لأهل الكلام في هذا الوقف . لأنهم ليسوا من العلماء ولكن من المتكلمين ، لديهم اصطلاحات ، تسمية اصطلاحاتهم بالعلم فيه تسامح ، وعند التحقيق ما لدى علماء الكلام ليس بعلم ، اصطلاح وآراء وتخمينات ليس بالعلم الحقيقي ، لذلك قوله رحمه الله (كما قاله أكثر العلماء) لا يدخل علماء الكلام لأنهم لا يقولون بهذا القول وليسوا من العلماء .
(ولم ينف) الرب سبحانه وتعالى (مجرد الرؤية) بقوله " لا تدركه الأبصار " (لأن المعدوم لا يُرى وليس في كونه لا يرى مدح) صفات الله صفات مدح وكمال وعدم الرؤية ليس فيه مدح .
(إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا) لأنه لا يرى لكونه معودما .
(وإنما المدح لكونه لا يحاط به) المدح في كون الرب سبحانه وتعالى يُرى لا يحاط به لأن المخلوق لا يحيد بالخالق لا عِلما ولا رؤية .
(وإنما المدح لكونه لا يحاط به) وإن رؤي .
(كما أنه لا يحاط به وإن عُلم) ثم قال مبينا لهذا الكلام :
(فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما كذلك إذا رؤي لا يحاط به رؤية) فنحن نعلم ربَّنا سبحانه وتعالى الآن هل نحيط به ؟ لا .(9/7)
معرفتنا للرب سبحانه وتعالى وإيماننا به إيمان إثبات ووجود وتسليم لخبره وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام لكن لا نحيط به ، لا نحيط لا بذاته المقدسة ولا بأسمائه وصفاته ، نعلم بأنه عليم سميع بصير علي على خلقه مستو على عرشه ، نعلم معاني هذه الصفات لكن لا نحيط بها ولا نعلم كيفية علمه وسمعه وكيفية استوائه ونزوله ومجيئه ، نجهل ، في هذا كمال ، نعلم ولا نحيط به ، كذلك سوف يراه أهل الموقف في عرصات القيامة يرونه ولا يحيطون به على خلاف يأتي ذكره هل هذه الرؤية في عرصات القيامة خاصة بالمؤمنين أم لا ؟
وأهل دار الكرامة يرونه من فوقهم يشرف عليهم من فوقهم ويكلمهم ويسلم عليهم "سلام قولا من رب رحيم" ويضحك إليهم فيرفع كل إنسان بصره حيثما كان فيرى ربه دون زحام أو غبن أو ظلم ، ولكن لا يحيط به .
(فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما كذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية) هذا الكلام أيضا ينبغي أن يعتبر قاعدة ، وإن كان شيخ الإسلام قعد قواعد بارزة واضحة لكن في عرض كلامه تمر عليكم قواعد ينبغي أن تفهم أيضا أنها قواعد .
(فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما كذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية) هذه قاعدة مستقلة ونافعة .
(فكان فى نفى الادراك من اثبات عظمته ما يكون مدحا) لا يدرك لماذا؟ لعظمته سبحانه وتعالى هذا هو المدح .
(فكان فى نفى الادراك من اثبات عظمته ما يكون مدحا وصفة كمال وكان ذلك دليلا على اثبات الرؤية لا على نفيها) هذا قلب أهل السنة هذه الآية على المعتزلة استدلت المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية فقلب أهل السنة عليهم الدليل فجعلوا الآية دليلا على الرؤية لا على النفي ، هكذا ينبغي أن يفهم وهذا من دقة فهم السلف يفهمون من كتاب الله تعالى وكلامه ما لا يفهم علماء الكلام كما قلنا هؤلاء ليسوا بعلماء عند التحقيق . انتبه .(9/8)
(وكان ذلك دليلا) أي نفي الإدراك دليل (على اثبات الرؤية) لأنه إذا نفى الإدراك يفهم من ذلك النفي أنه رئي إلا أنه لا يدرك .
(لا على نفيها لكنه دليل على اثبات الرؤية مع عدم الإحاطة) المنفي إذن الإحاطة فكما تقدم الإحاطة أمر آخر زائد على مجرد الرؤية .
(وهذا هو الحق الذى اتفق عليه سلف الامة وأئمتها) يدخل في الأئمة دخولا أوليا الأئمة الأربعة لأنهم هم المشهورون هم الذين بارك الله في تلاميذهم فدونوا مذاهبهم واشتهروا بين المسلمين ، الأئمة الأربعة وغيرهم متفقون مع سلفهم أي مع التابعين والصحابة على إثبات رؤية الرب سبحانه وتعالى في دار الكرامة وأن الله يمنح العباد في الآخرة قوة غير عادية غير هذه القوة ، وفي هذه الدنيا لا يقوى أحد أن يثبت أمام التجلي فإذا كان الجبل مع قوته وصلابته لم يثبت أمام التجلي فتدكدك فكيف البشر ؟ ولكن العليم القدير الذي لا يعجزه شيء سوف يمنح عباده قوة في الدار الآخرة ليثبتوا أمام التجلي فيتجلى لهم فيمكنهم من رؤية وجهه سبحانه وتعالى .
(وهذا هو الحق الذى اتفق عليه سلف الامة وأئمتها) لذلك من الخطأ أن ينفي الرؤية بعض أتباع الأئمة الأربعة ، الرؤية تنفيها المعتزلة مع انتساب بعضهم إلى بعض الأئمة ، وتضطرب الأشاعرة في باب الرؤية اضطرابا خطيرا غير مفهوم ، يثبتون الرؤية بدون مقابلة ، ما الذي أداهم إلى هذا الاضطراب ؟(9/9)
المحافظة على مذهبهم في نفي العلو والاستواء ، نفوا العلو واستواء الله على عرشه ولكن أثبتوا رؤية مضطربة وكون الرائي يرى المرئي في غير مقابلة لا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره غير معقول ، وقد قالوا قولا متناقضا ، والذي أوقعهم وغيرهم في هذا التناقض عدم التقيد بما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الباب وعدم التقيد بما عليه سلف هذه الأمة بما في ذلك الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم ، ننبه هذا التنبيه خشية أن يوجد بين طلاب العلم من يطالع كتب الأشاعرة لأنها انتشرت الآن لتعلموا أن هذا تناقض وليس بصواب ما يقولون ، اضطراب وتناقض . الصحيح إثبات العلو وإثبات الرؤية معا ، كما أنهم يخافون ربهم من فوقهم يرون ربهم من فوقهم ، هذا هو الحق الذي عليه سلف هذه الأمة وأئمتها .
(وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفى لا يستلزم ثبوتا هو مما لم يصف الله به نفسه) ولا وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام لا يوجد في نصوص الكتاب والسنة النفي المحض ، الذي لا يستلزم مدحا ولا كمالا .(9/10)
(فالذين لا يصفونه الا بالسلوب لم يثبتوا فى الحقيقة الها محمودا) ولا إلها (موجودا) الذين يقولون ليس فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره ، أين الله ؟ الذي يقولون ليس الله داخل العالم ولا خارج العالم وليس هو بمتصل ولا منفصل ، أين الله ؟ هل يمكن أن تصف المعدوم بغير هذه الصفة ؟ هذه صفة المعدوم وليست صفة الموجود ، الموجود من الخلق لا يوصف بهذا ، الإنسان هذا الإنسان هو داخل العالم وليس بخارج ، كل موجود هو داخل العالم داخل الكون ، الكون ما عدا الله ، لكن الذي يقال له ليس داخل العالم ولا خارجه وليس بمتصل ولا منفصل ذلك المعدوم ، لذلك نبهنا غير مرة ما يكرره صاحب السنوسية ويحفظه كثير من شبابنا في كثير من الأقطار بأن الله ليس فوق العرش ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره عقيدة دخلت على الأشاعرة وهي في الأصل عقيدة الفلاسفة لأن الأشعرية دخلت عليها أمور لأنهم زعموا أنهم يتصدون للدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة ضد المعتزلة ، الذي يدافع يجب أن يكون بسلاح متطور غير سلاح العدو ، سلاح عدوهم العقل وهم أرادوا أن يردوا على عدوهم بالعقل ، لا ، يجب أن يكون سلاحك أحسن من سلاح الذي ترد عليه وتدافع ، وإلا تكون مثله إن لم تكن أسوأ منه ، هذا ما وقعت فيه الأشاعرة فنسأل الله لنا ولكم الثبات .(9/11)
(وكذلك من شاركهم فى بعض ذلك كالذين قالوا إنه لا يتكلم) مَن الذين قالوا إن الله لا يتكلم ؟ قالت الأشاعرة ، قالوا لا يتكلم بكلام لفظي وإنما يوصف بكلام نفسي ليس بحرف ولا صوت ، نفي للكلام ومشاركة للمعتزلة الذين زعموا بأنهم خصومهم لذلك قال الإيجي في كتابه المواقف الكتاب موجود في الأسواق قال ( الفَرق بين المعتزلة وبين الأشاعرة إثبات الكلام النفسي وعدم الإثبات ) أي أن المعتزلة قالوا المراد إذا قيل الله متكلم أو الله يتكلم معناه يخلق الكلام ، لا يتكلم ، حرفوا الكلام ، حرفوا الكلم ، قالوا معنى متكلم خالق للكلام ، كلامهم صريح ، لكن الأشاعرة قالوا صحيح لا يتكلم بالكلام اللفظي ولكن له كلام آخر ، ما هو ؟
الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ، الكلام النفسي حتى في اللغة لا يسمى كلاما يسمى حديث النفس ، فرق بين الكلام وبين حديث النفس ، حديث النفس لا يبطل الصلاة والكلام يبطل الصلاة فالنبي عليه الصلاة والسلام فرق بين حديث النفس وبين الكلام " إن هذه الصلاة لا تصلح لشيء من كلام بني آدم " إذا تكلم الإنسان في صلاته في غير مصلحة الصلاة تبطل صلاته لكن لو حدثته نفسه وهو في الصلاة ، سافر ورجع وهو واقف في الصلاة هل تبطل صلاته ؟
لا ، وإن كان ينقص أجرها لعدم حضور القلب لكن الصلاة صحيحة ، أرادت الأشاعرة أن تخالف من زعموا أنهم خصومهم المعتزلة أثبتوا اصطلاحا جديدا ليس لهم سلف ولا لهم خلف انفردوا بهذا الاصطلاح ، إثبات الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت خالفوا اللغة وخالفوا ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام وخالفوا عامة الناس انفردوا بهذا الاصطلاح فليتنبه لهذا .(9/12)
لذلك قال (وكذلك من شاركهم فى بعض ذلك كالذين قالوا إنه لا يتكلم أو لا يرى) أما الرؤية فكما تقدم يثبتون رؤية مضطربة ، الذين قالوا لا يرى هم المعتزلة ، ولكن الذي سبق قال (لا يصفونه الا بالسلوب) وهم الفلاسفة كما تقدم ، وإنما أجملنا لأن الكلام مكرر ، سبق أن بينا في الدروس السابقة مذهب الفلاسفة الذين يجمعون بين النقيضين هؤلاء لا يصفونه إلا بالسلوب ، السلوب الصفات التي تقع في سياق النفي أو النهي أو الاستفهام الإنكاري ، يشارك هؤلاء في بعض الصفات المعتزلة كنفيهم للرؤية ونفيهم للعلو ونفيهم للكلام وتشارك الأشاعرة في نفيهم الكلام اللفظي وهو كلام الله الذي هو القرآن الذي أخبر الرب سبحانه وتعالى بكلام صريح بأنه كلامه حيث قال الرب سبحانه " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " القرآن ، وهل المشركون وغيرهم كانوا يسمعون من رسول الله عليه الصلاة والسلام الكلام النفسي أو الكلام اللفظي ؟ هل الكلام النفسي يقرأ ويتلى حتى يسمع ؟ حديث النفس ، إذن لا فائدة لإثباتهم الكلام النفسي بعد أن نفوا الكلام اللفظي الذي هو كلام الله حقيقة ، لك أن تقول ما شبهتهم في هذا النفي ؟
زعموا بأنهم لو أثبتوا الكلام اللفظي بأن الله يتكلم بحرف وصوت يستلزم ذلك إثبات مخارج الحروف كالفم واللسان والحنك وغير ذلك كما تعلمون وهذا مستحيل وما يؤدي إلى المستحيل فهو مستحيل ، إذن فالكلام اللفظي مستحيل .(9/13)
نصحتكم غير مرة لا تسلوا لمقدماتهم إذا بدؤوا يناقشوا ، إذا قالوا يلزم من إثبات الكلام اللفظي إثبات مخارج الحروف ، هذه مقدمة لا تسلِّم ، إن سلمت يلزمك أن تسلِّم للمقدمة الثانية إن سلمت للمقدمتين يلزمك أن تُثبت النتيجة ولكن تنفي المقدمة الأولى تقول غير لازم ، لأنه ثبت في المخلوق كلام لفظي لمخلوق ليس له مخارج الحروف ، الطعام سبح والحصى وحن الجذع وسلم الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم والأيدي سوف تتكلم والأرجل تتكلم ، هذه ليس لها مخارج الحروف إذا ثبت بالكتاب والسنة مخلوقات تتكلم بكلام لفظي يسمع وليس لها مخارج الحروف إذن فالله سبحانه وتعالى الذي أنطق هذه الأشياء بقدرته دون أن تكون لها مخارج الحروف قادر أن يتكلم ولا نثبت له مخارج الحروف لأن صفات الله تعالى توقيفية ، ليس لنا أن نقول على الله من عند أنفسنا لنسلم من معارضة الأشاعرة ومن نحا نحوهم .
(كالذين قالوا إنه لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش) تشترك كل من المعتزلة والأشاعرة في هذه العقيدة في عقيدة نفي العلو .
وبالله التوفيق .
نكتفي بهذا المقدار .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(9/14)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(إلى الوجه الثاني من الشريط الثالث عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وكذلك من شاركهم فى بعض ذلك كالذين قالوا إنه لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش ويقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا محايث له إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم وليست هى مستلزمة صفة ثبوت ولهذا ( قال محمود بن سبكتكين ) لمن ادعى ذلك فى الخالق ميز لنا بين هذا الرب الذى تثبته وبين المعدوم وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس فى ذلك صفة مدح ولا كمال بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات فهذه الصفات منها ما لا يتصف به الا المعدوم ومنها ما لا يتصف به الا الجماد أو الناقص فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له ومن قال أنه ليس بحى ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم لزمه ان يكون ميتا اصم أعمى ابكم فان قال العمى عدم البصر عما من شأنها ان يقبل البصر وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى والخرس والعجمة وأيضا فكل موجود يقبل الإتصاف بهذه الأمور ونقائضها فان الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصى وأيضا فالذى لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها فالجماد الذى لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس أعظم نقصا من الحى الاعمى الأخرس فاذا قيل إن البارى عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك كان فى ذلك من وصفه بالنقص اعظم مما اذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك مع انه إذا جعل غير(10/1)
قابل لهما كان تشبيها له بالجماد الذى لا يقبل الإتصاف بواحد منها وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات فكيف ينكر من قال ذلك على غيره مما يزعم انه تشبيه بالحى وأيضا فنفس نفى هذه الصفات نقص كما ان اثباتها كمال فالحياة من حيث هى هى مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق ان يتصف به من المخلوقات فلو لم يتصف به مع إتصاف المخلوق به لكان المخلوق اكمل منه)
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهو يناقش نفاة الصفات الذين يصفون الله سبحانه وتعالى بالسلوب أي بالنفي دون أن يثبتوا صفة وجودية بعد أن وصفهم بما سمعنا قال :
(وكذلك من شاركهم) من شارك الذين يصفونه بالسلوب (في بعض ذلك كالذين قالوا إنه لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش) هؤلاء يطلق عليهم أنهم من أهل السلوب أو من النفاة ويطلق عليهم أنهم من الصفاتية ، جمعوا بين الوصفين ، أي أن الأشاعرة باعتبار إثباتهم لبعض الصفات يقال لهم إنهم من الصفاتيين أي من الذين يثبتون الصفات ، وبهذا الاعتبار الذي نحن بصدده أي بسبب نفيهم علو الله سبحانه وتعالى واستواءه على عرشه وأنه لا يرى رؤية حقيقية ولا يتكلم بكلام لفظي يعدون من النفاة .
(ويقولون) أي أصحاب السلوب .
(ليس بداخل العالم) يصفون الله سبحانه وتعالى بأنه ليس داخل العالم (ولا خارجه) ولا يتصور عقلا أن يكون موجود ما ليس بداخل العالم ولا بخارج ، إما يكون داخلا أو خارجا ، لا يتصور غير هذا .(10/2)
(ولا مباين للعالم ولا محايث) أي لا مداخل ، لا مباين ولا مداخل غير معقول بل الله سبحانه وتعالى مباين لخلقه بائن من خلقه كما تقدم ليس في خلقه شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، هذا معنى (بائن من خلقه) كما سيأتي في كلام عبدالله بن المبارك .
(إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم) المعدوم يوصف بأنه هو الذي ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا محايث .
(وليست هى مستلزمة صفة ثبوت ولهذا قال محمود بن سبكتكين) الهندي الغزنوي الذي كان يعيش في القرن الخامس الهجري كان سلفيا عالما من سلاطين الهند محبا للعلم والعلماء قال (لمن ادعى) بأن الله ليس بداخل ولا خارج إلى آخره ، قيل إن هذا ابن فورك المعروف الأشعري المتكلم المعروف قال له (ميز لنا بين هذا الرب الذى تثبته وبين المعدوم) الرب الذي تزعم أنه ثابت ولكن لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لا مباين ولا محايث أثبت الفرق بين هذا الذي تصفه بهذه الصفات وبين المعدوم فأفحمه إذا لا يوجد له جواب ، لأن الموجود لا بد له أن يكون إما داخل العالم أو خارجا عن العالم أو متصلا بهذا العالم أو منفصلا ، الذي يوصف بهذه السلوب هو العدم ، هكذا غلبه هذا الغزنوي ابن فورك المعروف بأنه متكلم فيلسوف ومعروف بأنه من أئمة الأشاعرة ، وهذا الأسلوب من الغزنوي يدل على أن أتباع السلف حيثما كانوا ليسوا كما وُصفوا بأنهم يسردون النصوص فقط ولا يستخدمون الأدلة العقلية بل هم قادرون بتوفيق الله تعالى على الاستدلال بالأدلة العقلية والنقلية على حد سواء .
(وكذلك كونه لا يتكلم) الرب سبحانه وتعالى .
(أو لا ينزل) كما زعم علماء الكلام وفيهم الأشاعرة .
(ليس فى ذلك صفة مدح ولا كمال) بل من الكمال أن يوصف الرب سبحانه وتعالى بأنه فعال لما يريد ينزل إذا شاء وكيف شاء ويتكلم إذا شاء وكيف شاء ولا يعجزه شيء، هذا هو الكمال .(10/3)
(بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات) المنقوص الذي لا يستطيع أن يفعل كل ما يريد .
(أو) تشبيه له بـ (المعدومات فهذه الصفات منها ما لا يتصف به الا المعدوم) كالجمع بين النقيضين .
(ومنها ما لا يتصف به الا الجماد) كنفي الكلام عنه .
(أو الناقص) أو الإنسان الذي أصيب بالنقص لا يستطيع أن يتكلم .
(فمن قال لا هو مباين للعالم ولا) هو (مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره) القائم بنفسه هو من له ذات ، والقائم بغيره الصفات أي ليس ذاتا ولا صفة ، من قيل في حقه إنه ليس بقائم بنفسه ولا بغيره معناه وصف بأنه لا ذات ولا صفات .
(ولا قديم ولا محدَث ولا متقدم على) هذا (العالم ولا مقارن له) في وجوده ، ما هو هذا ؟ هذا هو العدم ، وصفوا الله سبحانه وتعالى بصفات لا يتصف بها إلا المعدوم .
(ومن قال أنه ليس بحى ولا سميع ولا بصير ولا متكلم) القائلون بهذا هم أصحاب السلوب الذين تقدم وصفهم ، وكما تقدم أن الأشاعرة أحيانا يشتركون وأحيانا يخالفون ، قوله (ليس بحى ولا سميع ولا بصير) الأشاعرة يخالفون هؤلاء ويوافقون أهل السنة بأن الله حي سميع بصير ، (ولا متكلم) هنا يشاركون النفاة بالنسبة للكلام اللفظي وأما دعوى إثبات الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت لا شيء ، أي خالفوا خصومهم الذين زعموا أنهم خصومهم وهم المعتزلة في نفيهم للكلام اللفظي .
من قال هذا (لزمه أن يكون) في زعمه أن يكون الرب سبحانه وتعالى (ميتا اصم أعمى ابكم) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وإن كانوا قد لا يصرحون بهذه الألفاظ الكفرية ولكن لازم كلامهم إذا قالوا ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا متكلم لازم ذلك أن يصفوه بنواقض ذلك بأضداد ذلك ، ومن أضداد ذلك أن يكون (ميتا اصم أعمى ابكم) . اعتراض :(10/4)
(فان قال العمى عدم البصر عما من شأنه ان يقبل البصر وما لا يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير) يريد أن يشبه رب العالمين بالحائط بالجمادات التي لا توصف لا بالبصر ولا بعدم البصر .
(قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه) أنتم أهل الكلام .
(وإلا فما يوصف بعدم الحياة و) عدم (السمع و) عدم (البصر والكلام يمكن وصفه بالموت والصمم والعمى والخرس والعجمة) يمكن ذلك عقلا .
الوجه الثاني : (فكل موجود يقبل الإتصاف بهذه الأمور ونقائضها فان الله قادر على جعل الجماد حيا) كل موجود يقبل الاتصاف إما بهذه الأمور أو بنواقضها أي بأضدادها ، لأن الله لا يعجزه شيء ، فالله سبحانه وتعالى قادر على جعل الجماد حيا .
(كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصى) وليس ذلك على الله بعزيز . (وأيضا) الوجه الثالث :
(فالذى لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات) لا بالسمع ولا بالبصر ولا بالكلام ، الذي لا يقبل (أعظم نقصا ممن ..
الذي لا يقبل (أعظم نقصا ممن يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها) ولو كان متصفا بأضدادها لكنه يقبل الاتصاف بهذه الصفات يكون أكمل من الذي لا يقبل الاتصاف .
إذن (فالجماد الذى لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس أعظم نقصا من الحى الاعمى الأخرس) الحي إنما أصيب بآفة ، بالعمى والصمم ، الإنسان الأعمى والأصم أكمل من الجماد الذي لا يتصف بهذه الصفات ، وأنتم وصفتم الله سبحانه وتعالى بصفات الجمادات التي لا تقبل .
(فاذا قيل إن البارى عز وجل لا يمكن اتصافه بذلك) لا بالسمع ولا بالبصر ولا بعدم ذلك .
(كان فى ذلك من وصفه بالنقص اعظم مما اذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك مع انه إذا جعل غير قابل لهما) لا هذه الصفات ولا أضدادها (كان تشبيها له بالجماد الذى لا يقبل الإتصاف بواحد منهما) لا بالسمع ولا بالبصر ولا بأضدادهما .(10/5)
(وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات) إذا كنتم قد شبهتموه سبحانه وتعالى بالجمادات تعالى الله عما زعمتم علوا كبيرا (لا بالحيوانات) أي جاوزتم تشبيهه بالحيوانات وشبهتموه بالجمادات .
(فكيف ينكر من قال ذلك على غيره مما يزعم انه تشبيه بالحى) إذا وصف الإنسان رب العالمين بالسمع والبصر والنزول والاستواء قيل فيه أي قال أصحاب الكلام إنه مشبه لأن الذي يتصف بهذه الصفات مخلوق إنه شبه بالمخلوق ، وهل تشبيهه بالمخلوقات التي تتكلم وتسمع وتبصر أحسن حالا ؟ أليس ذلك أحسن حالا من التشبيه بالحيوانات ؟ ثم التشبيه بالحيوانات أخف ضررا من التشبيه بالجمادات ، الكل كفر تشبيه الله تعالى بالمخلوق الذي يتكلم كفر ، وتشبيهه بالحيوانات كفر أشد ، وتشبيهه بالجمادات أشد وأشد ، أما إثبات صفات الكمال التي أثبتها لنفسه كالسمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة والعلو والنزول والمجيء ليس في ذلك تشبيه وإنما الاشتراك كما تقدم في المطلق الكلي ، إثبات صفات الكمال لا يؤدي إلى التشبيه لا بالحي المتكلم ولا بالحيوانات ولا بغير ذلك .
الوجه الرابع : (فنفس نفى هذه الصفات نقص) نفي السمع والبصر والكلام نقص .
(كما ان اثباتها كمال) إثبات الحياة والسمع والبصر كمال .
(فالحياة من حيث هى هى بصرف النظر عن تعيين الموصوف بها) دون أن نقول حياة فلان مثلا هي (صفة كمال) الحياة من حيث هي حياة بصرف النظر عن الموصوف بالحياة صفة كمال .
(وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام) هذه صفات كمال من وصف الله بالحياة ووصفه بالقدرة والسمع والبصر والكلام إنما وصفه بصفات الكمال علما بأن هذه الصفات أهل السنة والجماعة عندما وصفوا الله بهذه الصفات لم يصفوه من عند أنفسهم إنما إثبات لما وصف به نفسه وتصديق لخبره وخبر رسوله الأمين ، وهي في الوقت نفسه صفات كمال ليس فيما وصف الله به نفسه صفات نقص وليس فيما وصف اللهَ به رسولُه صفات نقص أيضا .(10/6)
(والفعل) صفة كمال ، الكامل الذي يفعل ما يشاء وما يريد ولا يمنعه شيء من العمل ومن الفعل .
(ونحو ذلك وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق ان يتصف به من المخلوقات) الحياة في المخلوق صفة كمال ، السمع والبصر والكلام في المخلوق صفة كمال ، إذا كانت هذه في المخلوقات صفة كمال فما كان صفة كمال فهو سبحانه وتعالى أحق بأن يتصف به من المخلوقات لأنه هو الذي أعطى المخلوقات هذا الكمال ، هو الذي أعطى المخلوقات هذه الكمالات ومعطي الكمال أولى بالكمال .
(فلو لم يتصف به) لو لم يتصف الرب سبحانه وتعالى بهذه الصفات مع أنها صفات كمال .
(مع إتصاف المخلوق) بهذه الصفات (لكان المخلوق اكمل منه) لو لم يتصف الرب سبحانه وتعالى بالسمع والبصر والكلام والحياة والعلم وغير ذلك مع اتصاف المخلوق بهذه الصفات صار المخلوق المتصف بهذه الصفات أكمل من رب العالمين وحاشا أن يكون كذلك ، لأن هذه المخلوقات كما قلنا إنما أعطاها هذه الكمالات صاحب الكمال الذي يملك الكمال الذي يعطي الكمال فهو أولى بالكمال .
نعم(10/7)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وأعلم ان الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولوا ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حى ولا ليس بحى ومعلوم ان الخلو عن النقيضين ممتنع فى بدائه العقول كالجمع بين النقيضين وآخرون وصفوه بالنفى فقط فقالوا ليس بحى ولا سميع ولا بصير وهؤلاء أعظم كفرا من أولئك من وجه وأولئك أعظم كفرا من هؤلاء من وجه فاذا قيل لهؤلاء هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم قالوا انما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك وهذا الإعتذار يزيد قولهم فسادا وكذلك من ضاهى هؤلاء وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه اذا قيل هذا ممتنع فى ضرورة العقل كما اذا قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره قالوا هذا إنما يكون اذا كان قابلا لذلك والقبول انما يكون من المتحيز فاذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين فيقال لهم علم الخلق بإمتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل فى العالم وان أريد به أنه منحاز عن المخلوقات أى مباين لها متميز عنها فهذا هو الخروج فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم وتارة ما هو خارج العالم فإذا قيل ليس بمتحيز كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر وهو المعنى الذى علم فساده بضرورة العقل كما فعل أولئك في قولهم ليس بحى ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل))
هذا الكلام فيه نوع تكرار لكنه تكرار مقبول .(10/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (واعلم ان الجهمية المحضة كالقرامطة) المراد بالجهمية المحضة هم الذين يجمعون بين النقيضين أو يحاولوا رفع النقيضين ، الجهمية إذا أطلقت في الأصل أتباع جهم بن صفوان وهم إنما عرفوا بنفي صفات الباري كلها والأسماء معا ، ولكن يسمي شيخ الإسلام القرامطة الباطنية : الجهمية المحضة وهم غلبوا الجهمية أي هم أسوأ حالا من الجهمية العادية .
(ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولوا ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حى ولا ليس بحى) هذا كلام من أصيب في عقله ولا يدري ماذا يقول ، هكذا يصاب الإنسان بهذا التناقض وبالقول بغير معقول إذا أعرض عن النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
(ومعلوم أن الخلو عن النقيضين) عن الحياة والموت معا .
(ممتنع فى بدائه العقول) دون حاجة إلى التفكير ، أيما عاقل يسمع بأنه ليس بحي ولا ميت ليس بموجود ولا بمعدوم ينكر ذلك ، وإذا كان يصفه بنفي النقيضين : ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي أشد امتناعا وأبعد من المعقولات .
(وآخرون) من الجهمية (وصفوه بالنفى فقط فقالوا ليس بحى ولا سميع ولا بصير) هؤلاء في الأصل هم المعتزلة لكن كلمة الجهمية كما تقدم توسعوا في استعمالها ، يستعملونها في المعتزلة بل حتى في الأشاعرة لأنهم شاركوا الجهمية إما في نفي الصفات كلها أو في نفي بعض الصفات .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وآخرون وصفوه بالنفى فقط) أي لم يصفوه بنفي النقيضين أو بجمع النقيضين .
(فقالوا ليس بحى ولا سميع ولا بصير) لأننا لو وصفناه بالحياة والسمع والبصر شبهناه بالمخلوق ، هكذا زعموا .
يقول (وهؤلاء أعظم كفرا من أولئك من وجه) الذين وصفوه بالنفي فقط أعظم كفرا من أولئك الذين وصفوه بنفي النقيضين أو بجمع النقيضين من وجه .
(وأولئك) الذين جمعوا بين النقيضين .
(أعظم كفرا من هؤلاء من وجه) آخر ، بيان ذلك :(10/9)
(فاذا قيل لهؤلاء هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك) إذا لم يكن حيا ولم يكن سميعا ولا بصيرا يلزم وصفه بنقيض ذلك (كالموت والصمم والبكم) إذا قيل لهم هكذا وهو الكلام المعقول قالوا :
(انما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك) لو كان الرب سبحانه وتعالى قابلا للسمع والبصر والحياة يلزم إذا نفينا السمع والبصر والحياة أن يتصف بنقيض ذلك ولكنه غير قابل لا للسمع ولا للبصر ولا للحياة .
يقول شيخ الإسلام (وهذا الإعتذار يزيد قولهم فسادا) هذا الذي يقال فيه اعتذار أقبح من ذنب ، الذنب الذي وقعوا فيه نفي السمع والبصر والحياة ، والاعتذار الذي هو أقبح من هذا الذي وقعوا فيه قولهم إنه غير قابل ، وكونه غير قابل أقبح وأنقص من كونه قابلا ، هذا معنى قوله (وهذا الإعتذار يزيد قولهم فسادا) قولهم هو أنه (ليس بحى ولا سميع ولا بصير) هذا هو القول ، والذي يزيد هذا القول فسادا قولهم إنه غير قابل لهذه الصفات .
(وكذلك من ضاهى هؤلاء) من شابههم (وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا خارجه اذا قيل) لهم (هذا ممتنع فى ضرورة العقل كما قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن) أما قديم ومحدَث واضح ، واجب وممكن متقابلان ، الواجب : هو الذي ليس لوجوده بداية ولا لوجوده نهاية وهو الرب سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته ، إذا قيل واجب في اصطلاح أهل الكلام الواجب هو الرب سبحانه وتعالى أي هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء يقال له واجب ، والممكن خلاف ذلك ، الممكن ما وجد بعد أن لم يكن أو ما يمكن وجوده وعدمه ، إذا وصفوا الرب سبحانه وتعالى بأنه ليس بواجب ولا ممكن (ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره) .
(اذا قيل) لهم (هذا ممتنع فى ضرورة العقل كما قيل ليس بقديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره قالوا) في الجواب (هذا إنما يكون اذا كان قابلا لذلك) إذا كان قابلا أن يتصف بهذه الصفات الثبوتية .(10/10)
(والقبول انما يكون من المتحيز) المتحيز هو الذي يقبل الاتصاف بالصفات الوجودية .
(فاذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين النقيضين) .
يشرع الآن شيخ الإسلام في بيان معنى التحيز :
(فيقال لهم علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين) لا حي ولا ميت لا سميع ولا أصم (هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود) أي جمع النقيضين ممتنع امتناعا مطلقا بصرف النظر عن الذي امتنع في حقه (لا يستثنى منه موجود) أي ممتنع في جميع الموجودات ، جمع النقيضين ممتنع في جميع الموجودات بصرف النظر عن التحيز وعدم التحيز .
(والتحيز المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به) كالسماوات والأرض والعرش والكرسي (فهذا هو الداخل) إذا قيل متحيز بهذا الاعتبار أي الذي تحيط به الأحياز ، الأماكن الموجودة فهذا هو الداخل صار داخلا (في العالم ،وان أريد به أنه منحاز عن المخلوقات أى مباين) للمخلوقات (متميز) عن المخلوقات (فهذا هو) الخارج ، إذن عقلا لابد أن يكون إما داخلا وإما خارجا لأن قولكم المتحيز لا بد من أحد هذين التفسيرين :
- إما التحيز بمعنى الذي تحيط به المخلوقات فصار داخلا .
- المتحيز المنحاز المباين فصار خارجا .
(فالمتحيز) إذن (يراد به تارة ما هو داخل العالم وتارة ما هو خارج العالم) لم تأتوا بجديد إنما غيرتم العبارة فقط .
(فإذا قيل ليس بمتحيز كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه) إذا قالوا إن الله ليس بمتحيز يكون معناه ليس داخل العالم ولا خارجه .
(فهم) إنما فعلوا (غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا) هو (معنى آخر وهو المعنى الذى علم فساده بضرورة العقل) أي لم يأتوا بجديد إذا فُسِّر التحيز بما سمعنا .
(كما فعل أولئك في قولهم ليس بحى ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل) أي جمعوا بين النقيضين ، كذلك من قال إنه ليس بمتحيز هو معنى هذا تماما ولم يأت بجديد .
نعم .(10/11)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((القاعدة الثانية أن ما أخبر به الرسول عن ربه فانه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف لأنه الصادق المصدوق فما جاء فى الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع ان هذا الباب يوجد عامته منصوصا فى الكتاب والسنة متفقا عليه بين سلف الأمة وما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا فليس على أحد بل ولا له ان يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رد وان اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس فى الجهة والتحيز وغير ذلك))
هذه القاعدة مهمة جدا .
(القاعدة الثانية) وهي قاعدة عامة في كل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام وليست خاصة بالصفات فقط .
(أن ما أخبر به الرسول) عليه الصلاة والسلام (عن ربه عز وجل فانه يجب الإيمان به) تصديقا لخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام .
(سواء عرفنا معناه أو لم نعرف) كذلك ما أخبر به رب العالمين في كتابه يجب الإيمان به عرفنا المعنى أو لم نعرف .
(لأنه الصادق المصدوق) يجب تصديق خبره .(10/12)
(فما جاء فى الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه) إذا لم يفهم معناه يستفسر " إنما شفاء العي السؤال " الإنسان يسأل ما لا يعلم ولكن لا ينفي ما لم يعلم من خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام ولا يضرب الكتاب بعضه ببعض كما فعل من قصُر فهمه في باب العلو والمعية ولم يستطع التوفيق بين صفة العلو وصفة المعية وارتبك في ذلك وكلما أثبتَّ له العلو علو الله على خلقه عارضك بقوله ألم يقل الرب سبحانه وتعالى " وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير " " وهو معكم " كيف يكون مستويا على عرشه عاليا على خلقه وهو معنا ؟ يعارض العلو بالمعية ، فالواجب أن يسأل كيف التوفيق بين العلو وبين المعية ، وأما دعوى بأنه يستحيل إثبات العلو وهو معنا ويعتقد أن الله معنا بذاته هذا هو من باب ضرب الآيات بعضها ببعض ومن باب الاعتراض على الله بغير علم ، فالواجب أن يصدق أولا بأن الله معنا ويصدق بأن الله فوق عرشه بائن من خلقه ، ثم يسأل أهل العلم ، ويسأل كيف فهم السلف هذه الآيات لأنها لم تنزل الآن ، نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام وتلاها على أصحابه ، كيف فهم الصحابة وكيف فهم تلاميذ الصحابة التابعون مثل هذه الآيات ، العلو والمعية لم يصعب عليهم فهم ذلك لأنهم يفهمون ويؤمنون بأن الله منزه أن يكون بذاته مع خلقه في الأرض ولا في السماء ، بل هو بائن من خلقه ، ومعنى المعية معية العلم بإجماع السلف ، إذا(10/13)
أجمع السلف على تفسير المعية بمعية العلم المعية العامة وجب على الخلف اتباع ذلك ، لأن السلف هم سندنا في هذا الدين وهم الذين تلقوا هذا الدين من رسول الله عليه الصلاة والسلام فهموا من قوله تعالى " وهو معكم أينما كنتم " أي بعلمه بسمعه ببصره بتدبير شؤونكم ، وفهموا بأن الله سبحانه وتعالى منزه أن يكون معنا بذاته بل هو فوق جميع مخلوقاته مستو على عرشه ، إذن لا يصعب على من سلك مسلك السلف التوفيق بين المعية وبين العلو ، في هذا المعنى سئل أحد السلف عبدالله بن المبارك قيل له : كيف نعرف ربنا ؟ قال : ( نعرفه بأنه فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته ولا نقول كما تقول الجهمية ). الجهمية ماذا تقول ؟(10/14)
تقول في كل مكان وفي كل شيء ، إذن الجهمية لم تعرف ربها ، ومن سلك مسلك الجهمية واعتقد بأن الله بذاته في كل مكان لم يعرف ربه إنما الذي يعرف ربه الذي يؤمن بأن الله منزه بأن يكون مختلطا بخلقه بل هو فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه ، هذه هي المعرفة ، ولما كانت هذه المعرفة من أهم المعارف ومن أخطر المعارف خص رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية بهذا السؤال قبل أن يسألها عن أي صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى عندما أراد أن يختبر إيمانها ، سألها فقال لها " أين الله ؟ " لم يقل يسأل عن سمعه وبصره وقدرته ولكن سأل عن العلو قال لها " أين الله ؟ " قالت في السماء أي في العلو ، القول هنا ( في السماء ) في جوابها كقوله تعالى " أأمنتم من في السماء " أي في العلو ، ثم سألها كما تعلمون السؤال الثاني " من أنا ؟ " قالت ( أنت رسول الله ) فشهد لها بالإيمان ، قال لمولاها " اعتقها فإنها مؤمنة " هذه الشهادة العظيمة لذلك يجب تصديق خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام فهمت المعنى أو لم تفهم ، ما فهمت آمنت به وما لم تفهم فوضت العلم إلى الله حتى تفهم وتكون على غرار ما قال الإمام الشافعي ( آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله عليه الصلاة والسلام وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ) وإذا فتح الله عليك وفهمت معاني النصوص ، معاني النصوص مفهومة وليست مجهولة وإنما جهلت لقصور علمك عليك أن تسأل أما دعوى : لا يمكن التوفيق بين هذا وذاك وتضرب الآيات بعضها ببعض أو تضرب النصوص بعضها ببعض هذا خروج على خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم .
فلنكتفي بهذا المقدار ، لهذه المسألة مزيد بحث إن شاء الله في الدرس الآتي .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(10/15)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(من الوجه الثاني للشريط الثالث عشر إلى الوجه الأول للشريط الرابع عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((القاعدة الثانية أن ما أخبر به الرسول عن ربه فانه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف لأنه الصادق المصدوق فما جاء فى الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه وكذلك ماثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع ان هذا الباب يوجد عامته منصوصا فى الكتاب والسنة متفقا عليه بين سلف الأمة وما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا فليس على أحد بل ولا له ان يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رد وان اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس فى الجهة والتحيز وغير ذلك))
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (القاعدة الثانية) في هذه القاعدة يبحث الشيخ عن الألفاظ ويَقْسِم الألفاظ إلى قسمين :
- ألفاظ ورد ذكرها واستعمالها في حق الله تعالى وتعتبر ألفاظا شرعية ، وهذه الألفاظ الشرعية الحكم التصديق والتسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
- وهناك ألفاظ غير ورادة .
والألفاظ الغير الواردة تنقسم إلى قسمين :(11/1)
- ألفاظ لها معان صحيحة ، أو جميع معانيها صحيحة ، أي ألفاظ غير محتملة وإن لم يَرِد ذكرها في الكتاب والسنة في حق الله تعالى لا اسما ولا صفة ولكن من حيث المعنى صحيح ، هذه الألفاظ تستعمل من باب الإخبار لا من باب أنها من أسماء الله تعالى أو من صفاته كـ (القديم) و (المريد) و (المتكلم) و (الصانع) تستعل هذه الألفاظ من باب الإخبار يجوز أن يقال (الله صانع كل مصنوع) (وصانع هذا الكون) معناه الخالق ، و (مريد) و (متكلم) و (قديم) هذه الألفاظ لا تشتمل على الباطل ، المعاني صحيحة وإن كانت الألفاظ غير واردة .
- ولكن هناك ألفاظ غير واردة وهي مجملة تشتمل على الحق والباطل ، هذه الألفاظ هي التي يتحدث عنها شيخ الإسلام في هذا الدرس .
أولا (أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل فانه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف لأنه الصادق المصدوق) وتصديق خبره واجب بل تصديق خبره من الإيمان به ، من لم يصدق خبره لا يصح دعوى الإيمان به ، إذن يجب أن يصدَّق إذا صح الخبر .(11/2)
(فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه) لا يُفهم من هذا الكلام أن نصوص الصفات معناها غير مفهوم وليس هذا مراد شيخ الإسلام ، نصوص الصفات مفهومة المعنى ولكن مجهولة الكيفية ، كيفيات الصفات مجهولة بمعنى : نعلم معنى السمع ومعنى البصر ومعنى العلم ومعنى النزول ومعنى المجيء ومعنى الاستواء المعاني معروفة لكن لا نعلم كيفية هذه الصفات ، هذه قاعدة لا يختلف فيها اثنان سلكا مسلك السلف ، ولكن الكلام هنا كلام عام ، قد تمر عليك ألفاظ في الكتاب والسنة لم تفهم معناها يجب أن تستفسر ويجب أن تفهم فإذا فهمت وجب عليك التصديق ولا يجوز رد ما لم تفهم معناه كما فعل كثير من أهل الكلام ردوا ألفاظا اشتبهت عليهم قبل أن يستفسروا ، أما نصوص الصفات لم يختلف السلف فيها إلا لفظة (ساق) " يوم يكشف عن ساق " اختلف الصحابة في تفسير الساق هنا لأن لفظة الساق جاءت منكَّرة غير مضافة ، لم تضف إلى الله لذلك اختلفوا في ذلك قبل أن يثبت عندهم حديث أبي موسى الأشعري ، وبعد ثبوت الحديث لم يبق هناك خلاف ، في أول الأمر هذا اللفظ يعتبر عندهم مجملا لذلك فسره بعضهم بالمعنى اللغوي ولكن لما ثبت أن معنى الساق هو ساق الله تعالى بالحديث الصحيح حديث أبي موسى الأشعري " إن الله سبحانه وتعالى يأتي يوم القيامة " في حديث الشفاعة " فيكشف عن ساقه " جاء مضافا ، هذه الإضافة إضافة تخصيص فإذا كشف عن ساقه عرف المؤمنون أنه ربهم فسجدوا له سجودا ، ويحاول المراءون والمنافقون أن يسجدوا فتصير ظهورهم طبقا واحدا فلا يستطيعون أن يميلوا إلى السجود ، هذا معنى الحديث ، روينا الحديث بالمعنى ، مثل هذا اللفظ هو الوحيد أو هذا اللفظ هو اللفظ الوحيد الذي وقع فيه الاختلاف بين الصحابة بالنسبة لنصوص الصفات وإلا جميع النصوص مفهومة عندهم ، وعندنا الآن لفظ الساق ليس بمجمل بل مفسر ، هذا من باب : لفظ مجمل قرآني فسرته السنة ، السنة تفسر وتفصل(11/3)
وبعد تفسير السنة لا يبقى هناك إشكال ، وإن مر على إنسان ما لم يفهم معناه من خبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام عليه أن يؤمن أولا بالجملة ثم يبحث عن المعنى ويستحضر قول الإمام الشافعي رحمه الله ( آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنا برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ) ( من الله الإرسال وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم) هكذا يقول الزهري من كبار التابعين، هذا هو منهج السلف أي التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتى ما أشكل عليك معناه ، وبعد معرفة المعنى تزداد إيمانا ، الإنسان الشيء الذي لم يفهمه يسأل ولا يجوز أن يرده ، ولما قعد علماء الكلام قاعدة لأنفسهم أن العمدة في باب الأسماء والصفات الدليل العقلي وجاءت النصوص تدل على المعاني وقفوا موقفين :
- منهم من شبه .
- ومنهم من عطل .
أما أهل السنة والجماعة لا يقعدون قاعدة أبدا مخالفة للكتاب والسنة ، القاعدة عندهم التسليم لله ، لا يسلم في دين الله إلا من سلم لله ولرسوله ، هذه القاعدة عند الله ، لا يسلم في دينه إلا من سلم لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام ، على هذا الأساس يتحدث شيخ الإسلام كلاما عاما ولا يفهم من كلامه أن نصوص الصفات غير مفهومة المعنى ، فليفهم هذا .
(وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها) يجب الإيمان به .
(مع إن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة متفقا عليه بين سلف الأمة) وإن كان بعض الألفاظ حصل فيه التوقف كما مثلنا بلفظة (الساق) ، وكلام السلف في هذا الباب ينبغي الاهتمام به لأنه يفسر لنا ويبين معاني النصوص ، إذا ذكر دليل من الكتاب والسنة ثم ذكر بعد ذلك آثار من الصحابة والتابعين فائدة هذه الآثار :
- تفيد أولا أن هذه النصوص محكمة باقية غير منسوخة .(11/4)
- وثانيا تؤكد لنا المعنى المراد ، بفهم كلام السلف نستطيع أن نجزم مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من قوله ومن قول رسوله عليه الصلاة والسلام .
من ذلكم قول أم المؤمنين زينب تتفاخر على أمهات المؤمنين فتقول لهن ( زوجكن أهالكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات ) هذا الأثر منها رضي الله عنها يبين لنا معنى " الرحمن على العرش استوى " ومعنى " أأمنتم من في السماء " وغير ذلك من نصوص الصفات نصوص العلو أي أن السلف هكذا فهموا ، ولم يكن هذا الفهم أو هذا المفهوم جديدا كما يزعم بعض المتأخرين الآن يحسبون أن شيخ الإسلام هو الذي أتى بهذا المفهوم من عند نفسه لذلك حرص شيخ الإسلام في الفتوى الحموية في نقل فتاوى الصحابة والتابعين والأئمة بل جميع العلماء الذين اطلع على أقوالهم إلى وقته حتى من بعض الصوفية حتى من بعض علماء الكلام نقل كلاما يؤكد بأن هذا ليس مفهومه الخاص بل هذا مفهوم المسلمين الأولين جميعا وإنما جهله من جهل من المتأخرين .
(وما تنازع فيه المتأخرون نفيا أو إثباتا فليس على أحد) أي لا يجب على أحد (بل ولا له) أي ليس له (أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه) إذا اختلف المتأخرون - وهم الذين يكثر اختلافهم - إذا اختلفوا نفيا وإثباتا في لفظ من الألفاظ ليس لأحد لا يجب على أحد بل لا يجوز له إثبات لفظ أو نفيه (حتى يعرف مراده) لأنهم أحدثوا ألفاظا كثيرة كما سيأتي .
(فإن أراد حقا) في اللفظ المحدَث (قُبل) الحق ، لا يُرَد لكونه مصطلحا جديدا .(11/5)
(وإن أراد باطلا رد) في هذا المعنى يقول شيخ الإسلام : سبب إنكار السلف علم الكلام وذمهم ليس لكونه مصطلحا جديدا بل لكونه دالا على باطل وإلا فالمصطلحات كثيرة ، علم النحو مصطلح والصرف والبلاغة ومصطلح الحديث وأصول الفقه وعلوم التجويد ، هذه كلها مصطلحات ما كانت معروفة عند السلف ، السلف كانوا يطبقون هذه القواعد نطقا لا كتابة أي ليس لهم كتب مؤلفة في هذه المصطلحات لكن احتاج المسلمون أخيرا إلى تدوين قواعد اللغة العربية تحت اسم النحو والصرف والبلاغة وغير ذلك ، هذه المصطلحات مقبولة غير مردودة وغير مذمومة ، إذن سبب ذمهم لعلم الكلام لا لكونه مصطلحا جديدا ولكن لكونه مشتملا على باطل ، هنا يشير إلى هذا المعنى فيقول : إن جاء في كلام المتأخرين لفظ إن أراد به حقا قُبل وإن أراد باطلا رُد ، لفظة (الصانع) كما تقدم من الألفاظ المستحدثة ، إطلاق (صانع) على الله يقبل من حيث المعنى لأن معناه خالق ، وإطلاق لفظ (قديم) وإن لم يكن اسما من أسماء الله تعالى مقبول لأنهم يريدون بذلك (الأول) الأول الذي ليس قبله شيء ، وإن كان اسمه (الأول) اسم الله (الأول) أبلغ من (القديم) لكن لا نعيب ولا نرد لفظة قديم ، (الأول) فسره النبي عليه الصلاة والسلام الأول الذي ليس قبله شيء ، ولفظة (قديم) لا يدل على هذا المعنى كاملا بل قد يطلق هذا المعنى على القِدم النسبي " كالعرجون القديم " إذا تجدد العرجون هذا العام قيل للعرجون الذي في العام الماضي العرجون القديم إذن قدم نسبي أي تقدم نسبي ، ولكن المعنى صحيح يقبل . هذا معنى (إن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رد) يأتي ما يدل على الباطل في لفظة (الجهة والتحيز) .
أو إن أراد بلفظة - حتى - لفظ (القديم) لفظ (الصانع) لو أراد به معنى باطلا كأن فسر القدم بغير معنى الأولية لا يقبل ، إن فسر بأنه أراد بالأول هو الذي ليس لأوليته بداية وليس لآخريته نهاية يقبل هذا المعنى .(11/6)
(وان اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا..
الشريط الرابع عشر :
(وان اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه) مطلقا (بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك) بمعنى : نحن لا نستعمل لا (الجهة) ولا (التحيز) ولكن لو استعمل إنسان ما قال (الله في جهة) أو قال (ليس الله في جهة) أو قال (الله متحيز) أو (غير متحيز) لا نرد ردا ولكن نستفسر ماذا يريد ؟ إن كان طالب علم ومطلع على هذه الاصطلاحات وفسر تفسيرا صحيحا كما سيأتي في كلام الشيخ قبل ، وإن فسر تفسيرا باطلا رد ، ولكن نحن لا نستعمل باختيارنا هذه الألفاظ بل نستعمل الألفاظ الشرعية ، أما كلمة (التحيز)و (الجهة) و (العرض) و (الجسم) لا نستعمل شيئا من ذلك في حق الله تعالى لعدم الورود ولاشتمال هذه الألفاظ على الحق والباطل .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((فلفظ الجهة قد يراد به شىء موجود غير الله فيكون مخلوقا كما اذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما اذا أريد بالجهة ما فوق العالم ومعلوم أنه ليس فى النص اثبات لفظ الجهه ولا نفيه كما فيه إثبات العلو والإستواء والفوقية والعروج اليه ونحو ذلك وقد علم أن ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى ليس فى مخلوقاته شىء من ذاته ولا فى ذاته شىء من مخلوقاته فيقال لمن نفى الجهة أتريد بالجهة أنها شىء موجود مخلوق فالله ليس داخلا فى المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم فلا ريب ان الله فوق العالم بائن من المخلوقات))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في لفظ (الجهة) (فلفظ الجهة قد يراد به شىء موجود غير الله فيكون مخلوقا) ذلك الشيء يكون مخلوقا إذ الموجود إما خالق وإما مخلوق . (كما اذا أريد بالجهة نفس العرش) قد يراد بالجهة نفس العرش ، العرش نفسه .
(أو) السماوات نفسها .(11/7)
(وقد يراد) بلفظ الجهة (ما ليس بموجود غير الله تعالى) أي يراد به الجهة العدمية.
(كما اذا أريد بالجهة ما فوق العالم) ليس فوق العالم شيء الله سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات ن من قال إنه في جهة وأراد بذلك أنه في داخل العرش أو في السماوات أو يحيط به شيء من مخلوقاته فهذا المعنى باطل .
(ومعلوم أنه ليس فى النص اثبات لفظ الجهه) لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة إثبات لفظ الجهة مستعملا في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا .
(كما فيه إثبات العلو والإستواء والفوقية والعروج اليه ونحو ذلك) كالصعود إليه وقوله " أأمنتم من في السماء " هذه الألفاظ هي الألفاظ الشرعية اليت ورد استعمالها في حق الله تعالى ، أما لفظ الجهة لا نفيا ولا إثباتا لم يرد استعمالها أي لم يأت ذكر الجهة في كتاب الله ولا في سنة رسوله الصحيحة في حق الله تعالى نفيا ولا إثباتا .
إذا كان الأمر كذلك (وقد علم أن ما ثم موجود إلا الخالق و) إلا (المخلوق) ليس هناك شيء ثالث ، الموجود إما الخالق خالق السماوات والأرض وخالق كل شيء وهو الله وإما المخلوق .
(والخالق مباين للمخلوق سبحانه) الخالق مستحيل أن يكون مختلطا أو في داخل المخلوقات بل الخالق شرعا وعقلا مباين للمخلوق .(11/8)
(ليس فى مخلوقاته شىء من ذاته ولا فى ذات) الله تعالى (شىء من مخلوقاته) هذا معنى المباينة فالله سبحانه وتعالى بائن من خلقه ليس مختلطا بخلقه وليس ممتزجا بخلقه ، ليس في ذات الله المقدسة شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته بل هو بائن مباينة مطلقة ، وهذا هو معرفة الله ، من أراد أن يعرف الله تعالى يعرفه بهذا المعنى بأن الله سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات ليس في ذات الله تعالى شيء من مخلوقات الله وليس في مخلوقات الله تعالى شيء من ذات الله ، إذن الله مباين ، هذا معنى كلام عبد الله بن المبارك الذي تقدم لما سئل بم نعرف ربنا ؟ قال : ( نعرفه بأنه فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه) بهذا نعرفه والسلف مجمعون على هذا ، هذا محل إجماع عند السلف كون الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه ، صرح بذلك كثير من الأئمة كالليث بن سعد والإمام مالك والزهري ومكحول وغير ذلكم من التابعين وتابع التابعين ، سبق أن قلنا كلام السلف يستأنس به ليفهم به كلام الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، هكذا اتفقوا على هذا .
بعد هذه القاعدة (يقال لمن نفى الجهة) قال ليس الله في جهة ، ماذا تريد ؟ (أتريد بالجهة أنها شىء موجود مخلوق فالله ليس داخلا فى المخلوقات) إذن معنى نفيه صحيح ، إذا قال (ليس الله في جهة) وأراد بذلك بـ (الجهة) شيئا مخلوقا أي ليس الله في داخل شيء مخلوق المعنى صحيح .(11/9)
(أم تريد بالجهة ما وراء العالم فلا ريب ان الله فوق العالم بائن من المخلوقات) إذا قال (ليس الله في جهة) وأراد بذلك ليس الله فوق العالم وليس وراء هذا العالم لا يوجد وراء هذا العالم وفوق العالم شيء ، ليس هناك رب يعبد وإله يسجَد له ، هذا المعنى باطل يرد ، إذن لا بد من هذا الاستفسار ، كل من قال (ليس الله في جهة) يستفسر هذا الاستفسار ، وإن قال (الله في جهة) كذلك ، إذا قال (الله في جهة) ما تريد ؟ هل تريد الله في السموات ؟ تحيط به السماوات ؟ المعنى باطل ، إذا قال (الله في جهة) أي فوق جميع المخلوقات أراد بالجهة العدم الجهة العدمية ، فوق جميع المخلوقات بائن من خلقه المعنى صحيح ، ولكن لا يضطر المسلم إلى هذا اللفظ المحتمل ، لذلك يستعمل الألفاظ الشرعية ويستغني عن هذه الألفاظ ، ولكن ينبغي أن يدرس هذا خشية أن تسمع من أحد لا تبادر بالرد ولا بالموافقة إلا بعد هذا الاستفسار .
(فيقال) مرة أخرى (لمن نفى الجهة) فقال (إن الله ليس في جهة) .
(أتريد بالجهة أنها شىء موجود مخلوق فالله ليس داخلا فى المخلوقات) معنى قولك (الله في جهة) أي ليس داخلا في المخلوقات المعنى صحيح ولكن أخطأت في استعمال هذا اللفظ المحتمل ، تغنيك الألفاظ الشرعية عن هذا اللفظ كقولك (الله في العلو) (الله فوق المخلوقات) (فوق جميع مخلوقاته) (فوق عرشه) وتستدل بالنصوص على هذا المعنى " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا وهو عنده فوق العرش " هكذا في الحديث الصحيح ، ينبغي الاقتصار على هذه الألفاظ الشرعية .(11/10)
أو (تريد بالجهة ما وراء العالم) إذا قال (ليس الله في جهة) وأراد بذلك ليس الله وراء ذلك العالم وليس فوق هذا العالم هذا نفي نفى وجود الله لا شك أن هذا المعنى باطل ، إذن ما هو الصحيح ؟ الصحيح : الله فوق جميع المخلوقات " الرحمن على العرش استوى " العرش سقف الدنيا ، أعظم المخلوقات على الاطلاق ، فالله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه بعد أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام استوى على عرشه استواء يليق به ، الاستواء صفة فعل علو خاص ، لله سبحانه وتعالى علو الذات وعلو الذات صفة ذاتية أي لم يزل الله ولن يزال في علوه أبدا ، (لا في حال نزوله ولا في حال مجيئه) ، العلو صفة ذاتية ثابتة كالسمع والبصر والقدرة والإرادة ، أما الاستواء فعل فعله سبحانه وتعالى بعد أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء ، العرش قديم نسبيا أي بالنسبة للسماوات والأرض ، العرش والقلم والاختلاف في أيهما الأول الصحيح العرش هو الأول أي أول المخلوقات ومع ذلك لم يخبر الله سبحانه وتعالى أنه خصه بالاستواء عليه إلا بعد أن خلق السماوات والأرض ، هكذا نقتصر على الألفاظ الشرعية : العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه والصعود إليه أنه في السماء ، هذه الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة فيها الغنية من استعمال الألفاظ المستحدثة كـ (الجهة) .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وكذلك يقال لمن قال إن الله فى جهة أتريد بذلك ان الله فوق العالم أو تريد به أن الله داخل فى شىء من المخلوقات فان اردت الأول فهو حق وان اردت الثانى فهو باطل))(11/11)
وإن شرح هذا الكلام مرة أخرى يقال لمن قال (إن الله في جهة) وهذا كثيرا ما يستعملونه ، علماء الكلام كثرا ما يستعملون (إنه في جهة) أو (ليس في جهة) ، وربما بعض أتباع السلف من المؤلفين الآن قد يستعملون (إن الله في جهة العلو) وكان الأولى أن يقولوا (إن الله في العلو) ويحذفوا لفظة الجهة في جميع المؤلفات الحديثة التي يؤلفها أتباع السلف إن تأثروا بعلم الكلام استعملوا هذه الألفاظ أحيانا وربما بعض المؤلفين السلفيين الطيبين ورد في كتبهم استعمال لفظ (الجهة) والأولى عدم الاستعمال ، لكن إذا قال (إن الله في جهة) يقال (أتريد بذلك ان الله فوق العالم) إن أردت هذا ، المعنى صحيح .
(أو تريد به أن الله داخل فى شىء من المخلوقات) وهذا المعنى باطل .
(فان اردت الأول فهو حق) لكنه يخطّأ في استعماله هذا اللفظ المستحدث الغير وراد في الكتاب والسنة .
(وان اردت الثانى فهو باطل) باطل لفظا ومعنى ، الأول يخطّأ من حيث استعمال لفظ محدث ، والثاني على المعنى الثاني يخطّأ لأنه أراد معنى باطلا .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ((وكذلك لفظ المتحيز ان اراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل قد وسع كرسيه السموات والأرض وقد قال الله تعالى(وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه)وقد ثبت فى الصحاح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال(يقبض الله الأرض ويطوى السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الارض)وفى حديث آخر(وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)وفى حديث إبن عباس(ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن فى يد الرحمن إلا كخردلة فى يد أحدكم)وإن أراد به انه منحاز عن المخلوقات أى مباين لها منفصل عنها ليس حالا فيها فهو سبحانه كما قال أئمة السنة فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه))(11/12)
لفظ (المتحيز) من الألفاظ المستحدثة ومن المصطلحات الجديدة عند علماء الكلام (ان اراد به أن الله تحوزه المخلوقات) أي تحيد به المخلوقات .
(فالله أعظم وأكبر) وهذا المعنى باطل ، من قال (إن الله متحيز) وأراد بذلك أن الله تحوزه وتحيط به المخلوقات أي مخلوق من المخلوقات يقال له (فالله أعظم وأكبر) من أن يحيد به أي مخلوق .
(بل قد وسع كرسيه السموات والأرض) الكرسي موضع القدمين للرب سبحانه وتعالى كما في أثر ابن عباس والأثر في حكم الرفع ، الكرسي موضع القدمين ، هذا الكرسي الذي هو موضع القدمين وسع السماوات والأرض ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله ، فالله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم ، فوق جميع المخلوقات لا يحيط به أي مخلوق حتى العرش ، العرش الذي استوى عليه ليس معنى ذلك أنه يحيط به أو أن الله محتاج إليه ، لا ، الغنى وصف ذاتي لله كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك فالله غني غنى مطلقا عن جميع المخلوقات وإنما خص العرش بالاستواء الخاص لحكمة يعلمها ولا نعلمها ، فعال لما يريد ، وهو العليم الحكيم ، وليس بحاجة إلى العرش .(11/13)
(وقد قال الله تعالى(وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه)) فرسول الله عليه الصلاة والسلام فيما أخبر عندما يقرأ هذه الآية هكذا يقول " مطويات بيمينه " يقبض ويبسط ، بعض صغار الطلبة يستنكرون الإشارة ويستنكرون مثل هذا القبض وهذه الإشارة وهذا البسط ، هذا شيء ثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يراد بذلك التشبيه ، يراد التوكيد ، فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار هكذا " وكان الله سميعا بصيرا " أشار هذه الإشارة ، وأشار إلى السماء إلى الله سبحانه وتعالى في خطبة يوم عرفة لذلك استنكار بعض الناس الإشارات عند ذكر هذه النصوص إنكار يدل على الجهل لا ينبغي أن ينكَر ما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام وأما مبالغة علماء الكلام على الحكم بقطع الإصبع التي تشير فلينتبهوا لإصبع رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أول من أشار ، لا يتورطوا في الحكم بالقطع على إصبع رسول الله عليه الصلاة والسلام ، هذا كلام جريء جدا يدل على الجهل ، الشاهد الإشارة إلى العين إلى الأذن بالقبض والبسط هكذا إشارة إلى تأكيد هذه المعاني ليس فيها أدنى تشبيه لا يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يشبه ولا يتهم من اتبعه بأنه يشبه فليُنتبه لذلك .
(وقد ثبت فى الصحاح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال(يقبض الله الأرض ويطوى السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الارض)) في ذلك اليوم العظيم .
(وفى حديث آخر(وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)) يميل بها .
(وفى حديث إبن عباس(ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن فى يد الرحمن إلا كخردلة فى يد أحدكم)) إذا جعل الإنسان خردلة حبة صغيرة كحبة سمسم أو أصغر جعلها في يده وقبض هكذا أحاط بها من جميع الجهات ، فالله سبحانه وتعالى جميع المخلوقات في يده كخردلة في يد أحدنا ، فالله العظيم وهذه عظمته كيف يكون داخل المخلوقات ؟ لا يليق .(11/14)
(وإن أراد به انه منحاز) بقوله (متحيز) هذا المعنى الذي تقدم باطل طبعا .
(وإن أراد به انه منحاز عن المخلوقات أى مباين لها) (متحيز) بمعنى مباين (منفصل عنها) ليس مختلطا بالمخلوقات ولا ممتزجا بها ولا (حالا فيها) إذا أراد هكذا ليس حالا فيها (فهو سبحانه كما قال أئمة السنة فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه) إذن معنى (متحيز) إن أراد المعنى الثاني المعنى صحيح لكن كما قلنا في (الجهة) يخطّأ لاستعماله هذا اللفظ المجمل المشتمل على الحق والباطل ، وإن أراده حقا لكن اللفظ من حيث هو مشتمل على الحق والباطل لا يجوز استعماله في حق الله تعالى .
نكتفي بهذا المقدار .
والله أعلم . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(11/15)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(إلى الوجه الثاني للشريط الرابع عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((القاعدة الثالثة إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال وإشتراك فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم فلا ريب أن هذا غير مراد ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ولا يرتضون أن يكون ظاهرالقرآن والحديث كفرا وباطلا والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من ان يكون كلامه الذى وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجا الى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك وتارة يردون المعنى الحق الذى هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل ( فالأول ) كما قالوا فى قوله ( عبدى جعت فلم تطعمنى ) الحديث وفى الأثر الآخر ( الحجر الأسود يمين الله فى الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) وقوله ( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ) فقالوا قد علم أن ليس فى قلوبنا أصابع الحق فيقال لهم لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق أما ( الواحد ) فقوله ( الحجر الأسود يمين الله فى الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) صريح فى ان الحجر الأسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه لأنه قال ( يمين الله فى الارض ) وقال ( فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففى نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرا وأنه محتاج الى التأويل مع ان هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس وأما الحديث الآخر وهو فى الصحيح مفسرا ( يقول الله عبدى جعت فلم تطعمنى ) فيقول رب(12/1)
كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدى فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندى عبدى مرضت فلم تعدنى فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلو عدته لوجدتنى عنده ) وهذا صريح فى ان الله سبحانه لم يمرض ولم يجع ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه جوعه ومرضه مرضه مفسرا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى ولو عدته لوجدتنى عنده فلم يبق فى الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل وأما قوله (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) فإنه ليس فى ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها ولا أنها فى جوفه ولا فى قول القائل هذا بين يدى ما يقتضى مباشرته ليديه وإذا قيل (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والأرض ونظائر هذا كثيرة))
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(12/2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية (القاعدة الثالثة إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد) لو سئل الإنسان هل ظاهر نصوص الصفات مراد لله سبحانه وتعالى أو غير مراد ؟ وهل هي على ظاهرها أو ليست على ظاهرها ؟ بعد أن دخل مبحث علم الكلام في باب العقيدة لا يجاب على هذا السؤال لا بنفي ولا بإثبات بل يستفسر ، وهذا المبحث تجدد ،أي كون الظاهر لفظ محتمل إنما تجدد بعد أن دخل علم الكلام في مبحث العقيدة وإلا عند السلف الصالح لا يتوقفون في مثل هذا ولا يحتمل أي احتمال بل عندهم ظاهر النصوص مراد لله تعالى ولا يفهمون من الظاهر إلا ما يليق بالله ولا يعتقدون أنه يوجد في كتاب الله أو في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام الصحيحة ما يدل على الباطل حتى يحتاج إلى التأويل كأن ذلك التأويل هو التصحيح لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام ، هذا مفهوم خاطئ دخل على المسلمين من حين أن نشأ علم الكلام فعلم الكلام لم ينشأ إلا في عهد العباسيين ، بمعنى أن المسلمين قبل ذلك كانوا في عافية وليس عندهم هذا الارتباك في لفظة ظاهر النصوص .
(إذا قال القائل ظاهر النصوص) المراد بظاهر النصوص هنا نصوص الصفات لأن المبحث في صفات الله تعالى وليست (نصوص) عامة ، ولو كان المبحث مع الباطنيين والقرامطة قد يشمل جميع النصوص لأنهم يؤولون حتى نصوص الأحكام ، لكن حيث كان البحث هنا في باب الأسماء والصفات المراد بالنصوص نصوص الصفات .
إذا قيل ظاهرها مراد أو ليس بمراد (فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك) إجمال واشتراك طرأ وليس هذا أصيلا ، في الأصل ليس هنا اشتراك ولا احتمال لكنه طرأ كما قلنا .(12/3)
(فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل) يفهم من الظاهر التمثيل والتشبيه ، إذا قال القائل ظاهر النصوص مراد فالله سبحانه وتعالى أراد بقوله " الرحمن على العرش استوى " ظاهر هذا اللفظ وبقوله تعالى " وجاء ربك والملك صفا صفاً " أراد هذا الظاهر وهو المجيء ، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام بقوله " ينزل ربنا " أراد هذا الظاهر وهو النزول الحقيقي ، لو قلت هذا القائل أمام الذين يفهمون أن المراد بالظاهر هو التمثيل والتشبيه اتهموك بأنك مشبه وممثل ، إذن لا ينبغي أن تطلق أمامهم هذا الإطلاق إذا كانوا يفهمون هذا المعنى .
(فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائص) المخلوقين (فلا ريب أن هذا غير مراد) يقال له الظاهر الذي أنت تزعمه غير مراد لأن الظاهر في زعمك وفي عقيدتك هو التمثيل وهو إثبات خصائص المخلوقين للخالق هذا الظاهر الذي أنت تعنيه غير مراد ، يُبَيَّن له هكذا ، لا يقال له مراد ولا يقال له غير مراد لا بد من هذا التفصيل ، وهذا جميع أهل الكلام بما فيهم الأشاعرة الذين هم أقرب الناس إلى منهج السلف يعتقدون أن ظاهر النصوص غير مراد لله وأن الله أراد خلاف هذا الظاهر وأن هذا الظاهر لا بد فيه من أمرين إما التفويض وإما التأويل ، يعبر عن هذا قائلهم :
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها(12/4)
هذا البيت يفسر هذا الكلام . (وكل نص أوهم التشبيها) " الرحمن على العرش استوى " عندهم يوهم التشبيه " يأتي ربنا يوم القيامة لفصل القضاء " " ينزل ربنا " " بل يداه مبسوطتان " " يد الله فوق أيديهم " كل هذا يوهم التشبيه عندهم . موقفهم من مثل هذه النصوص أحد موقفين إما التأويل وإما التفويض، التأويل وهو التحريف ، أن يقال إن هذا الظاهر غير مراد والمراد بـ ( استوى ) أو المراد بالاستواء الاستيلاء أو السلطان أو الملك أو الهيمنة ، قالوا هذا هو المراد ، أراد الله هذه المعاني بقوله " الرحمن على العرش استوى" من أين علمتم هذا المراد ؟ من الذي فسر لكم ظاهر كتاب الله تعالى أو ظاهر الآية بهذا المعنى ؟ هل الله بين في موضع آخر أن المراد بالاستواء الاستيلاء أو الملك أو السلطان أو الهيمنة ؟
لم يوجد .
وهل بين النبي عليه الصلاة والسلام الذي كلف بالبيان بيّن أن هذا الظاهر غير مراد وأن المراد ما ذكرتم ؟ لم يبين أو لم يذكر .(12/5)
إذن هذا افتيات على الله وقول على الله بغير علم وهو ضلال وبدعة مع ذلك ينظر إلى مقصدهم وإلى مرادهم وما الذي دعاهم إلى هذا ، في ظنهم أنهم يريدون التنزيه وأن هذا الإثبات أي إثبات هذه النصوص على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه إذن لا بد من التنزيه ، والتنزيه في زعمهم بهذا التأويل أو هذا هو المذهب المشهور عند الأشاعرة ( أوله أو فوض ) ولذلك قدم شاعرهم قدم التأويل على التفويض إشارة بأن هذا هو المذهب المشهور عندهم وهو المختار ، ( أو فوض ورم تنزيها ) في كلتا الحالتين ، التفويض المراد بالتفويض هنا تفويض المعاني والكيفية معا أي كن مفوضا أي ادعي بأنك لا تفهم معنى جاء ومعنى استوى ومعنى نزل ، هذا تكلف بين أيما إنسان يعرف اللغة ويدعي أنه لا يعلم معنى استوى ولا معنى جاء أو معنى ينزل فيفوض معاني هذه النصوص إلى الله ، والله أعلم ما معنى استوى وما معنى جاء وما معنى نزل وأنا لا أعلم ، فضلا من أن يعلم الكيفية والكيفية مجهولة لدى الجميع لكن المعاني المفروض أن يعترف بأن المعاني معلومة هذا هو التفويض لذي اعتبره شيخ الإسلام فهو شر من التعطيل لأن المعطل قصده هو حاول التنزيه والمحاولة فاشلة وأدته إلى التعطيل ولكن المفوض لم يحاول أي محاولة بل أعرض عن كتاب الله وعن سنة رسوله عليه الصلاة والسلام لذلك هو أسوأ حالا من المعطل، المفوض أسوأ حالا من المعطل . وقال ( ورم تنزيها ) لتعلموا أن الغرض من هذا التخبط في نظرهم هو التنزيه ولم يوفقوا في التنزيه الصحيح ، التنزيه يؤخذ من قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " أي التنزيه الحقيقي التنزيه الذي هو الصواب ولا صواب غيره أن تثبت لله ما أثبت لنفسه من صفات الكمال أو ما أثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام الأمين على وحيه وبعد الإثبات تنزِّه هذه الصفات التي أثبتها عن المشابهة ، له سمع ليس كسمع المخلوقين وله بصر ليس كبصرهم وله استواء ليس كاستوائهم إذن أثبت أولا ثم نزه ،(12/6)
أما نفي الصفات وتسليط التأويل عليها أو الإعراض عنها باسم التفويض ليس في ذلك تنزيه ، إنك لم تثبت حتى تنزه أثبت أولا ثم نزه .
يقول شيخ الإسلام (ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرا) (ولكن السلف) الصحابة والتابعون .
(والأئمة) الأئمة المشهود لهم بالإمامة منهم الأئمة الأربعة ، من الأئمة الأربعة من هو في عداد التابعين كالإمام أبي حنيفة ، ومنهم من هم في عداد تابع التابعين كالأئمة الثلاثة وغيرهم ممن في طبقتهم كلهم لا يسمون هذا ظاهر النصوص .
(ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرا) هذا ما قلنا إن هذا الاحتمال تجدد بعد دخول أو بعد نشأة علم الكلام وقبل ذلك ما يسمون هذا الذي لا يليق بالله تعالى هذا الباطل لا يسمونه ظاهرا .
(ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا) بل لا يجوز أن يعتقد مسلم أنه يوجد في كتاب أو توجد في كتاب الله آية واحدة تدل على المعنى الباطل حتى يضطر الإنسان أن يصحح ذلك الباطل بالتأويل أو أن يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حديث واحد صحيح لكنه يدل على الباطل حتى يؤول كأن المؤوِّلة الذين نشأوا مع نشأة علم الكلام هم الذين يصححون كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وقعوا في هذه الجريمة من حيث لا يشعرون لأن اعتقاد أنه يوجد في كتاب الله أو في سنة رسول الله الصحيحة ما يدل على الباطل حتى يؤوَّل معنى ذلك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يبين ذلك الباطل وإن الصحابة لم يفهموا ذلك الباطل فضلا من أن يصححوا ولكن جاء فيما بعد من فهم هذا الباطل وصحح ، صحح بأحد أمرين :
- إما بالتأويل .
- أو بالتفويض .
(ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا) هذا أمر غير جائز عقلا وشرعا .(12/7)
(والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذى وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال) في أول وهلة حتى يؤوَل وبعد التأويل يعرف مراده وهذا يتنافى مع العلم والحكمة ، الله عليم يعلم ما يليق به وما لا يليق به وهو الحكيم الذي لا ينزل في كتابه إلا ما هو الحق وكونه ينزل باطلا فيضطر بعض عباده إلى التصحيح هذا لا يليق بعلم الله تعالى ولا بحكمته .
(والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين) خطؤهم من وجهين وهم أهل الكلام جميعا كما قلنا .
(تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ) يجعلون المعنى الفاسد الذي لا يليق بالله تعالى ظاهر اللفظ ، أن ظاهر استوى يدل على أن الله سبحانه وتعالى إذا تركنا هذه الآية على ظاهرها يدل على ما هو الباطل وذلك هو المراد من اللفظ وأن استوى يدل على أن الله سبحانه وتعالى محتاج إلى العرش والمستوي على الشيء إما يكون مثل ذلك الشيء الذي استوى عليه أو أكبر أو أصغر ، وهذه أعراض استواء المخلوق على المخلوق وهذا مستحيل ، إذن إثبات الاستواء على ظاهره الذي هو الظاهر عندهم مستحيل فيجب التأويل ، يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ .
(حتى يجعلوه محتاجا الى تأويل) طالما دل ظاهر اللفظ على هذا المعنى المستحيل إذن يحتاج إلى التأويل .(12/8)
(الى تأويل يخالف الظاهر ولا يكون كذلك) لا يكون مستحيلا بعد التأويل بل يكون لائقا بالله تعالى ، ما هو ذلك المعنى اللائق بالله الذي يجب التأويل إليه والخروج من ظاهر اللفظ لأجله لأجل هذا التصحيح ؟ بالنسبة للاستواء كما تقدم إما أن يفسر الاستواء بمعنى الملك فهو مالك العرش ، سلطانه على العرش مهيمن على العرش ، فإذا كان مهيمنا على العرش أليس هو بمهيمن على جميع المخلوقات ؟ أليس ملكه عاما ؟ هل ملكه على العرش فقط ؟ لو نوقشوا لا يجدون جوابا صحيحا مقنعا ولكن القضية عندهم التقليد مجرد التقليد ، التلميذ يقلد الشيخ وشيخه من قبل قلد شيخه وهكذا سلسلة التقليد وليس لديهم دليل مقنع بدعوى أن ذلك عقلا مستحيل ، وأن النقل لا يعتمد عليه في هذا الباب ، أي أدلة الكتاب والسنة لا يعتمد عليها في باب العقيدة لأن باب العقيدة باب خطير لا بد أن يكون الإثبات فيها بالدليل القطعي الدليل القطعي عندهم هو الدليل العقلي والدليل اللفظي الذي هو الكتاب والسنة ظني وليس بقطعي إذن إنما تذكر الأدلة النقلية من باب الاستئناس بها أو من باب الاعتضاد بها لا من باب الاعتماد عليها والاعتماد على الدليل العقلي ، لما تركوا كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وقعدوا هذه القاعدة ضلوا ، كل من ترك الكتاب والسنة وقعد له قواعد وأصلوا أصولا فقد ضلوا لأن الواجب خصوصا في هذا الباب الاكتفاء التام بالكتاب والسنة وعدم محاولة الإتيان بقاعدة أو بأصل مخالف للكتاب والسنة .
(وتارة يردون المعنى الحق) الذي هو العلو والارتفاع في مثالنا " الرحمن على العرش استوى " مثلا .
(يردون المعنى الحق الذى هو ظاهر اللفظ) ظاهر اللفظ يدل على العلو على خلقه سبحانه وتعالى وعلى الصعود ، لأن الفعل (استوى) إذا تعدى بـ (على) يدل على العلو ، وإذا تعدى بـ (إلى) يدل على القصد (استوى إلى كذا) أي قصد إلى كذا ، و (استوى على كذا) علا على كذا هذا ما يدل عليه ظاهر اللفظ .(12/9)
(يردون المعنى الحق الذى هو ظاهر اللفظ) هذا الظاهر هو الوحيد الذي كان يفهمه السلف لا يفهم سلف هذه الأمة والأئمة من الظاهر من ظاهر النصوص إلا هذا المعنى الحق . (لاعتقادهم) يردون هذا المعنى لاعتقادهم (أنه باطل) ، في اعتقادهم بأن الله في العلو باطل وقد شدد بعضهم إلى القول بأن من أشار الإشارة الحسية إلى السماء عند قوله تعالى "أأمنتم من في السماء " إن اعتقد بأن الله في العلو بهذه الإشارة يكفر لأنه في زعمهم جعل لله مكانا ، جعل الله في مكان معين وإن أشار هذه الإشارة غير معتقد بأن الله في العلو ولكن اتباعا لغيره أشار فهو فاسق ليس بكافر ، قضية في غاية الخطورة ، أولا الفهم السقيم ، القول بأن الله مستو على عرشه وأنه فوق جميع مخلوقاته ليس في ذلك ما يدل على أن الله يحيط به مكان معين ، وقوله تعالى " أأمنتم من في السماء " ليس معنى ذلك أنه في داخل السماوات وأن السماوات تحيط أو أن الكرسي يحيط به أو أن العرش نفسه يحيط به أو أن مخلوقا من مخلوقاته العلوية تحيط به ، ليس في ظاهر اللفظ ما يدل على هذا المعنى ، إنما تدل الآية على العلو (أأمنتم من في العلو) وهذا العلو فسره قوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " والعرش فوق جميع المخلوقات فالله سبحانه وتعالى فوق ذلك بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من (ذاته) بائن من جميع المخلوقات لا يحيط به أي مخلوق ، هذا المعنى الحق الذي فهمه سلف هذه الأمة ، الذي يجب على المتأخرين من المسلمين أن يبحثوا كيف فهم السلف هذه النصوص بل كيف فهموا القرآن كله وكيف فهموا السنة وماذا كانوا يعتقدون في حق الله تعالى وفي حق رسول الله عليه الصلاة والسلام وفي حق القرآن ، يجب أن يتقيد المسلمون بمفهوم السلف الصالح ولا يمكن اتباع الكتاب والسنة ما لم يتقيد اللاحقون بمفهوم السابقين لأن السابقين الأولين مشهود لهم بالخيرية والله أثنى عليهم وأثبت لهم الرضا فأخبر(12/10)
النبي عليه الصلاة والسلام : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ولا يمكن أن يكونوا خير الناس إذا لم يفهموا مراد الله في صفاته سبحانه وتعالى ولم يفهموا مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، الذين لا يفهمون عن الله شيئا ولا عن رسوله عليه الصلاة والسلام شيئا في هذا الباب الخطير كيف يكونوا خير الناس ، لا يكونون أبدا ، بل يلزم من كونهم خير الناس أنهم فهموا كل شيء جاء في كتاب الله وجاء في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا العلم الذي استأثر الله به ، ذلك حقيقة الصفات وكيفيات الصفات وبعض مراد الله تعالى ببعض الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور ، هذا المعنى فقط هو الذي لا يفهمه السلف وما عدا ذلك القرآن كله مفهوم عندهم بما في ذلك نصوص الصفات ، واعتقاد أن نصوص الصفات غير مفهومة لدى السلف وأن الخلف الفضلاء هم الذين استطاعوا أن يؤولوا فيخرجوا المعاني الصحيحة بالتأويلات هذا ضلال وربما يؤدي إلى الكفر ، لذلك الجهمية أتباع جهم بن صفوان الذين أعرضوا الإعراض الكلي لم يثبتوا لله تعالى لا الأسماء ولا الصفات إلا الوجود المطلق الذهني هؤلاء أجمع السلف وأتباع السلف على تكفيرهم وهم كفرة ، وبحمد الله تعالى ليس لهم اليوم وجود جماعي إلا إذا كان بعض أفراد من المعتزلة تأثروا بعقيدتهم واعتقد عقيدتهم ، لا وجود للجهمية بالمفهوم الأول وجود جماعي اليوم إلا أن السلف وأتباع السلف توسعوا في إطلاق الجهمية على كل ناف أي يطلقون أن فلانا جهمي على كل مؤول ولو كان معتزليا ولو كان أشعريا ، الأشعري وإن كان لا يطلقون عليه أنه من النفاة بل يطلقون عليه أنه من المؤولة ولكن تأويل الأشاعرة أحيانا يؤول إلى النفي خصوصا في هذه الصفة في صفة العلو لأننا اطلعنا على كتبهم المقررة حتى اليوم أنها تنفي نفيا صريحا علو الله حيث يوجد في كتبهم (ليس الله فوق العرش ولا تحت العرش ولا عن يمينه ولا عن يساره) هذه الكتب(12/11)
موجودة في أيدي طلاب العلم اليوم في خارج هذا البلد ، إذن معنى ذلك القوم ينفون العلو بهذا لحقوا بالمعتزلة والجهمية فيطلق عليهم أنهم جهمية من هذا الباب ، أريد أن أتوسع في مسألة الأشاعرة ، الأشاعرة لهم ألقاب عند أتباع السلف :
- يقال لهم صفاتية أحيانا أي أنهم من الصفاتيين أي من مثبتة الصفات باعتبار إثباتهم بعض الصفات .
- ويقال لهم مؤولة لأن غالب نصوص الصفات مؤولة عندهم .
- ويقال لهم نفاة لنفيهم علو الله تعالى كما سمعتم ولنفيهم عن الله تعالى الكلام اللفظي بهذا الاعتبار يدخلون في الجهمية ، يدخلون في عداد الجهمية وقبلهم المعتزلة .
((فالأول)) الذي جعلوا فيه المعنى الفاسد ظاهر اللفظ هذا الأول (ما قالوا فى قوله) تعالى في الحديث القدسي ((عبدى جعت فلم تطعمنى))هذا الحديث حديث صحيح وهو حديث قدسي وبالمناسبة فهو من كلام الله ، الحديث القدسي معدود من كلام الله تعالى لأنه على الصحيح من قولي أهل العلم أنه من عند الله تعالى لفظا ومعنى لذلك الله يقول (عبدي) فالنبي لا يقول لأحد (عبدي) الذي يقول (عبدي) هو الله إذن الحديث القدسي من كلام الله تعالى لفظا ومعنى ، فإذا كان هو من كلام الله والقرآن من كلام الله ما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما:
- الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته ، لا يجوز للإنسان أن يكرر حديثا قدسيا ليتعبد بتلاوته (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما) هذا كلام الله لكن لو كررت بدعوى أنك تتعبد بتلاوة هذا الكلام كما تتعبد بالقرآن هذا خطأ لأنه لا يتعبد بتلاوته ، هذا الفرق الأول .
- الفرق الثاني ليس بمعجز لأنه ليس متحدى به ليس كالقرآن في الإعجاز .
- ثالثا لا تصح به الصلاة ، الصلاة لا تصح إلا بالقرآن ولا تصح بالحديث القدسي .
- رابعا لا يلزم أن يكون متواترا قد يأتي متواترا كالأحاديث النبوية وقد يأتي آحادا وقد يوجد هناك ما هو ضعيف ، لا يلزم أن يكون متواترا والقرآن كله متواتر .(12/12)
هذه الفوارق التي بها يفرَّق بين الحديث القدسي وبين القرآن وإلا فهو من كلام الله تعالى .
((عبدي جعت فلم تطعمني)الحديث وفى الأثر الآخر) أشار شيخ الإسلام بقوله (وفى الأثر الآخر) إلى أن حديث ابن عباس ليس بمرفوع ، لا يصح مرفوعا ولكنه يثبت موقوفا عليه وإن كان روى بعض أهل العلم مرفوعا وحاول بعضهم الدفاع عنه ليثبتوا بأنه حديث مرفوع حسن ولكن شيخ الإسلام كما اختار غيره أيضا يختار أنه أثر ابن عباس وليس بحديث مرفوع ((الحجر الأسود يمين الله فى الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)) (فكأنما) من صافح الحجر الأسود وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمين الله ، لم يقبل يمين الله ولكن كأنه قبل يمين الله لم يصافح الله ولكن كأنه صافح الله لأنه قبل وصافح الحجر الأسود أو الأسعد الذي شرع الله لنا تقبيله عبادة لله سبحانه وتعالى لا عبادة للحجر لأن الله يتعبد ويشرع لعباده أنواعا من العبادات كما شرع لنا الطواف بالبيت شرع لنا أن نقبل ذلك الحجر ، عندما نقبل ذلك الحجر نقبله تأسيا برسول الله عليه الصلاة والسلام الذي قبل وأخبر بأن من قبله بحق يشهد له يوم القيامة أي هو من الشواهد لأجل هذا يقبل لا عبادة له ، من قبله فكأنما قبل يمين الله ومن صافحه فكأنما صافح الله ، ليس في هذا بأن الحجر الأسود يمين الله وليس في هذا بأن من قبله قبل يد الله أو قبل يمينه ولكن كأنه فعل ذلك ، شبه الشخص المقبل للحجر والمصافح له شبهه بمن قبل يمين الرحمن ، إذن التشبيه بين شخص وشخص .(12/13)
(وقوله) قوله عليه الصلاة والسلام ((قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)) أهل السنة والجماعة يثبتون لله يدا ويثبتون لله أصابع ويثبتون لله وجها ولكن يعتقدون جازمين بأن وجه الله ليس كوجوه عباده وبأن يد الله ليست كيد عباده وأن أصابعه ليست كأصابع عباده صفات ذاتية خبرية يجب إثباتها ويجب الإعراض عن البحث عن الكيفية يجب وجوبا الإعراض عن التفكير والتأمل في كيفية أصابع الرحمن وفي كيفية يد الله ووجه الله ، هذا سر من أسرار الرب سبحانه وتعالى في هذا الباب ، الله له سر في باب الأسماء والصفات وله سر في باب القضاء والقدر ، وسر هذا الباب كيفية صفات الرب سبحانه وتعالى كيفية الاستواء كيفية النزول كيفية المجيء كيفية السمع والبصر هذا سر لا يجوز للعبد أن يتعرض لهذا السر وإلا يهلك ، لو تعرض لهذا السر يريد أن يدرك حقيقة صفات الرب سبحانه وتعالى لأن هذا كأنه يحاول أن يحيط بالله علما ، هذه هي المحاولة الفاشلة ، العبد لا يجوز له أن يعتقد بأن عبدا من عباد الله ولو كان رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحيط بالله علما ، الخالق هو الذي يحيط بالمخلوق علما " ألا يعلم من خلق " أما المخلوق لا يمكن أن يحيط بالله علما لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا ، يقف عند حده ، لذلك بعد إثبات ما أثبت الله لنفسه واعتقاد أن ظاهرها حق واعتقاد أن ظاهرها ما يليق بالله فقط لا ما يليق بالمخلوق ، ليس ما يليق بالمخلوق ، بعد هذا تعرض إعراضا كليا وتستعيذ بالله من الشيطان لو جاءتك الوسوسة في هذا الباب ، جاءك وسواس لتحاول وتتصور كيف استواء الله تعالى على عرشه بل كيف عرشه ، تستعيذ بالله تعالى وتعرض عن ذلك ، تقول آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله عليه الصلاة والسلام وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام وكفى ، هذا الذي كفى ، وسع السلف ، يجب أن يسعك اليوم ما وسع السلف الصالح إذا لم يسعك ذلك(12/14)
فأنت على هلاك لا تغتروا بما يقوله بعض الدكاترة الأشاعرة اليوم كالذي يقول لا يسعنا أن نقول اليوم كما قال الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف مجهول) لا يسعنا ذلك وقد درسنا العلوم العربية ودرسنا البلاغة وأدركنا أسرار اللغة العربية لا يسعنا ما وسع مالكا . بمعنى : يريد أن يقول : لا يسعنا ما وسع المسلمين الأولين ، ويريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين هذا خطأ وخطر جدا وحيث أن هذا الكتاب موجود في الأسواق قد يقع في أيديكم وهو كتاب (كبرى اليقينيات) .. للدكتور سعيد رمضان البوطي والكتاب موجود في الأسواق ينبغي أن تنتبهوا لمثل هذه الأمور لأن المتأخرين عندهم دعوى طويلة وعريضة يزعمون أنهم أعلم من السلف لذلك القاعدة التي تقول (طريقة الخلف أعلم وأحكم طريقة السلف أسلم) كلام متناقض ينقض أولُه آخرَه أو ينقض آخرُه أولَه لأن السلامة إذا كانوا هم أسلم السلامة إنما تتوافر مع وجود العلم والحكمة ، لو كانوا ناقصي العلم والحكمة ما يكونون أسلم بل هم أعلم وأحكم وأسلم ، هذا الذي يجب اعتقاده ، يجب أن تعتقد في سلفك أنهم أعلم منك وأحكم وطريقتهم أسلم .
نكتفي بهذا المقدار .
وإلى غد إن شاء الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(12/15)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(من نصف الوجه الثاني للشريط الرابع عشر إلى الوجه الأول للشريط الخامس عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (فقالوا قد علم أن ليس فى قلوبنا أصابع الحق فيقال لهم لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق أما الحديث فقوله(الحجر الأسود يمين الله فى الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)صريح فى ان الحجر الأسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه لأنه قال(يمين الله فى الارض)وقال(فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه)ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به ففى نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو نفس يمينه فكيف يجعل ظاهره كفرا وأنه محتاج الى التأويل مع ان هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس وأما الحديث الآخر وهو فى الصحيح مفسرا(يقول الله عبدى جعت فلم تطعمنى)فيقول رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدى فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندى عبدى مرضت فلم تعدنى فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلو عدته لوجدتنى عنده)وهذا صريح فى ان الله سبحانه لم يمرض ولم يجع ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه جوعه ومرضه مرضه مفسرا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى ولو عدته لوجدتنى عنده فلم يبق فى الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل وأما قوله(قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)فإنه ليس فى ظاهره أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها ولا أنها فى جوفه ولا فى قول القائل هذا بين يدى ما يقتضى مباشرته ليديه وإذا قيل (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) لم يقتض أن يكون مماسا للسماء والأرض ونظائر هذا كثيرة)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(13/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان بعض الألفاظ التي غلط فيها بعض المتأخرين وفيها نوع من الإجمال قال في بيانها أو في بيان بعضها (فقالوا) بالنسبة للأحاديث التي سبق ذكرها ، منها " عبدي جعلت فلم تطعمني " ومنها " الحجر الأسود يمين الله في الأرض " إلى آخره .
(فقالوا قد علم) أي في بيان شبهتهم في رد هذه الآثار والأحاديث .
(قد علم أن ليس فى قلوبنا أصابع الحق) إذن معنى قوله عليه الصلاة والسلام " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " يجب تأويله لأن ظاهره أن تكون أصابع الرحمن في قلوب العباد .
(ليس فى قلوبنا أصابع الحق) إذن لا بد من التأويل .
(فيقال لهم) بالنسبة للنصوص التي تقدم ذكرها .
(لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق) النصوص نصوص الكتاب والسنة والآثار الثابتة عن الصحابة الذين هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام هذه النصوص لو فهمها الإنسان حق الفهم لا تدل إلا على الحق ولا تدل على الباطل أبدا .
ثم بدأ الشيخ يفسر ويفصل فيما أجمل فقال (أما الحديث (الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)) هذا نص الحديث أو نص الأثر ، هذا (صريح فى أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله) تعالى (ولا هو نفس يمين) الرحمن ، ذلك (لأنه قال(يمين الله فى الأرض)) فالله سبحانه وتعالى ليس في الأرض ،الله مستو على عرشه وليس حالا في خلقه ولم يحل شيء من مخلوقاته في ذاته والله بائن من خلقه ، ولو صح هذا الحديث وسمي الحجر الأسود يمين الله في الأرض إنما يعتبر هذا اسما له ، اسما للحجر ،يمين الله في الأرض وليس هو يمينه الذي صفة من صفاته ولكن اسم للحجر الأسود ، لو ثبت هذا الحديث مرفوعا قيل للحجر الأسود يمين الله في الأرض يكون بمثابة الحجر الأسود والحجر الأسعد أي يكون من أسماء هذا الحجر .(13/2)
(وقال(فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله)) ولم يقل " فمن قبله وصافحه فإنه صافح الله " ولكن قال " فكأنما صافح الله " أي الشخص الذي يصافح الحجر الأسود ويقبله على فرض ثبوت هذا الحديث فكأنه قبل يمين الرحمن ، فكأنه صافح الله لأن الله شرع تقبيله وليس هو يمين الله ، لم يقل صافح الله أو قبل يمين الله لكن قال (فكأنما) أي مثل ذلك مثل الذي يصافح الله ويقبل يمينه .
(ومعلوم أن المشبه) غير (المشبه به) المشبه الذي قبل الحجر الأسود وصافح الحجر الأسود ليس كالذي يقدر أنه صافح الله وقبل يمين الله ، ليس مثله إنما شُبِّه به لأنه ينال الأجر الذي أثبت الرسول عليه الصلاة والسلام بإذن الله وبأمره أثبت له بأنه سوف يشهد له يوم القيامة ، فهو من الشواهد ليس المشبه كالمشبه به ، وعلى كل التشبيه إنما وقع بين شخص وشخص ، ليس هنا تشبيه شيء من مخلوقاته بالله تعالى أو بيد الله أو بيمين الله وليس في الحديث جعل هذا الحجر يمينا لله أو يدا لله سبحانه وتعالى .
(ففى نص الحديث بيان أن مستلمه) مستلم الحجر الأسود .
(ليس مصافحا لله سبحانه وتعالى وأنه ليس هو نفس يمينه) ليس هو نفس يمين الرحمن ويمين الله ، ولكن أطلق عليه هذا ويعتبر كما قلنا لو ثبت اسما من أسمائه فقط لأنه في الأرض وليس هو يمين الله ولا هو يد الله .
(فكيف يجعل ظاهره) إذا كان عند البيان والتحليل واضح أنه ليس يمينا لله ولا المستلم مستلما يمين الله .(13/3)
(فكيف يجعل ظاهره كفرا وأنه محتاج الى التأويل مع ان هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس) بصرف النظر أنه حديث مرفوع أو أثر موقوف على ابن عباس لا يدل الحديث أبدا على معنى كفري فيه التشبيه حتى يحتاج إلى التأويل وإنما يؤتى الإنسان من سوء فهمه ومن تعجله ، قد يتعجل الإنسان ولا يتأنى ولا يفهم الفهم الصحيح ، الفهمُ السقيم هو الذي أوجب له أن يعتقد أن ظاهر هذا الحديث كفر لأن فيه تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه حتى يحتاج إلى التأويل ، أرجو أن يكون واضحا .
(وأما الحديث الآخر وهو فى الصحيح مفسرا) ليس بأثر حديث صحيح جاء مفسرا .
يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لعبد من عبيده ((عبدى جعت فلم تطعمنى)فيقول) العبد (رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين) أنت الذي تطعم العباد وتسقيهم وترزقهم فكيف أطعمك أنت رب العالمين ، ومثل هذا السؤال إذا جاء في النص في كتاب الله وفي السنة الغرض منه إثارة انتباه المخاطب لينتبه لعظم هذا المعنى .
فيقول الرب سبحانه وتعالى لعبده (أما علمت أن عبدى فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندى) " إن عبدي فلانا جاع " وأنت في إمكانك أن تطعمه وأن تمد له يد المساعدة ولكن لم تفعل لو فعلت ذلك لوجدت ثواب ذلك عندي ، جعل جوع العبد جوعه وهذا يدل على مكانة وعظم الإطعام ، أجر الإطعام إطعام المحتاج ، لأنه جل جوع عبده المؤمن الجائع جعله كأنه هو الذي جاع لذلك ليس في الحديث ما يدل على التشبيه ولكن في الحديث الحث على الإطعام فقط . قال " أما علمت أن عبدن فلانا جاع " هذا صريح في التفسير والبيان ، " فلو أطعمته لوجدت ذلك " الإطعام " عندي " أي أجره ، أجر ذلك الإطعام ، ولم يبق هنا أي غموض .(13/4)
فيقول (عبدى مرضت فلم تعدنى فيقول) العبد جوابا لربه تعالى الذي يخاطبه بهذا الخطاب تلطفا منه سبحانه ورحمة (عبدى مرضت فلم تعدنى) يقول العبد (رب كيف أعودك وأنت رب العالمين) لا تمرض ، أنت رب العالمين الذي يشفي المرضى ، كيف أعودك ؟
(فيقول أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلو عدته لوجدتنى عنده)) "لوجدتني عنده " لأن الله سبحانه وتعالى مع هذا العبد المضطر المريض الذي هو بحاجة إلى الشفاء ، الله عنده ومعه بحفظه ولطفه وكلئه ، فإذا عاد المسلم أخاه المريض المسلم فليعتقد بأن الله عنده ومعه ، والعندية والمعية ليست عندية الذات ولا معية الذات ، معه بعلمه ورحمته ولطفه ويشكر لعبده الذي عاد عبده المريض فيثيبه على ذلك ، هذا معنى بليغ وفيه معنى الكناية والكناية لا تتنافى مع الحقيقة ، فيه حث على زيارة المريض وأن الذي يزور المريض عليه أن يؤمن ويتيقن بأن الله مع هذا العبد المريض المضطر ، معه وعنده يعلم منه كل شيء ويلطف به ويشفيه إن شاء ويقبضه إليه إن شاء ولكن العبد الذي يزور أخاه المسلم يجد الله عنده إذ هو الذي يثيبه على هذه الزيارة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وهذا صريح فى ان الله سبحانه لم يمرض ولم يجع) كل ذلك لا يليق به (ولكن مرض عبده وجاع عبده فجعل جوعه جوعه) جعل الله جوع عبده كأنه هو الذي جاع حثا على الإطعام وعلى الرحمة .
(ومرضه مرضه) جعل مرض عبده كأنه هو الذي مرض حثا أو حاثا عباده على زيارة المرضى .
(مفسرا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى ولو عدته لوجدتنى عنده فلم يبق فى الحديث) بعد هذا التفسير ، التفسير جاء من الحديث نفسه من رب العالمين لأن الحديث حديث قدسي الله هو الذي تكلم به فأجمل في أول الحديث ثم فسر وأوضح فلم يبق شيء يحتاج إلى التأويل .(13/5)
(فلم يبق فى الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل) وزعمُ الذين يزعمون أن مثل هذه النصوص يعجز السلفيون من بيان معاني هذه النصوص إلا بالتأويل فيضطرون إلى التأويل ، هكذا يلبسون على الناس ، الحديث لم يحتج إلى تفسير خارجي وإلى بيان خارجي بيانه من نفسه وتفسيره من نفسه وبعبارة أخرى الله هو الذي فسره وبينه فلم يترك مجالا لقائل حتى يؤوِّل أو حتى يقول إنه بحاجة إلى التأويل .
(وأما قوله(قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)) " يقلبها كيف يشاء " يقيم ما شاء من القلوب ويزيغ ما شاء من القلوب فهو مقلب القلوب .(13/6)
(فإنه ليس فى ظاهر) الحديث (أن القلب متصل بالأصابع) إذا كنا نجهل كيفية أصابع الرحمن سبحانه نجهل بالتالي كيف تكون القلوب بين أصبعين من أصابعه ، نجهل كل ذلك ، ولكننا نؤمن بأن لله أصابع حقيقية ليست كأصابعنا ، إذا مر عليك حديث كهذا فيه ذكر الأصابع فيه ذكر اليد فيه ذكر الساق فيه ذكر القدم لا ينبغي أن يتبادر إلى ذهنك التشبيه ، أي تظن أن أصابعه كأصابع المخلوقين ، لا ، أصابع تليق به بدليل أنك آمنت بالله وبذاته العلية وأنت لا تعلم كيفية ذاته ، هل آمنت بالله وبذاته العلية بعد أن علمت كيفية ذاته ؟ هل ذاته كسائر الذوات ؟ إيمانك بالله إيمان إثبات وتسليم ، سلمت لله سبحانه وتعالى ولنبيه الأمين وأثبت ما أثبت الله وما أثبت رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات وأنت تجهل تماما حقيقة الصفات لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه ، أي إذا جاءتك وسوسة في نصوص الصفات كهذه تذكر إيمانك بالله بأنك آمنت بالله تعالى وأنت لم تعلم حقيقة ذاته ولن تعلم ، ولم تدرك حقيقة ذاته ولن تدرك ، فليكن إيمانك بالصفات كإيمانك بالذات ، إيمانك بالذات – مرة أخرى – إيمان تسليم وإثبات ، إيمان تسليم لله في خبره وتسليم لرسول الله عليه الصلاة والسلام في خبره ثم إثبات الحقائق التي أثبتها الله وأثبتها رسوله عليه الصلاة والسلام في الذات والصفات والأسماء والأفعال والقضاء والقدر وفي جميع المطالب الإلهية ، كل ذلك من الغيب ، من صفات المؤمنين " الذين يؤمنون بالغيب " لا تحاول أن تدرك هذه الحقائق لأنك لن تدرك ولكن تهلك لو حاولت أنك تدرك لأنك تخرج بإحدى نتيجتين :
- إما التشبيه المحض وذلك كفر .
- وإما النفي وهو الكفر الثاني .
السلامة في التسليم ، السلامة من الكفر في التسليم لله والتسليم لرسوله عليه الصلاة والسلام لأن ذلك من الإيمان بالغيب ، الإيمان بالغيب هو التسليم والإثبات ، لا يزيد على هذا .(13/7)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وأما قوله(قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) فإنه ليس فى ظاهر) الحديث (أن القلب متصل بالأصابع ولا مماس لها) أي هذه الألفاظ لا تدل على هذه المعاني التي يدندن حولها الخلف .
(ولا أنها فى جوفه ولا فى قول القائل) لو قال قائل (هذا بين يدى ما يقتضى مباشرته ليديه وإذا قيل (والسحاب المسخر بين السماء والأرض)) السحاب فوقنا بين السماء والأرض ، هل السحاب لاصق بالسماء ؟
لا ، وهل هو لاصق بالأرض ؟
لا ، إذن يُتصور أن يكون شيء بين شيئين لا يكون متصلا بأحد الشيئين لا بهما ولا بأحدهما ، " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " والطائرة عندما تطير تطيرُ بين السماء والأرض لا هي متصلة بالسماء ولا بالأرض بل بينهما ، أشياء كثيرة ، لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن أنها لاصقة ومتصلة بالأصابع ، ليس ما يدل على هذا عندما تفهم النصوص على حقيقتها .
قال الشيخ رحمه الله (وإذا قيل (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) لم يقتض) هذا الأسلوب وهذا الخبر (أن يكون) السحاب (مماسا للسماء والأرض ونظائر هذا كثيرة) جدا في الكتاب والسنة وفي كلام الناس ، واضح جدا .
نعم .(13/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيرا لما ليس مثله كما قيل فى قوله(ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدى)فقيل هو مثل قوله(أو لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما)فهذا ليس مثل هذا لأنه هنا أضاف الفعل الى الأيدى فصار شبيها بقوله(فبما كسبت أيديهم)وهنا اضاف الفعل اليه فقال(لما خلقت)ثم قال(بيدى)وأيضا فإنه هناك ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد وفى اليدين ذكر لفظ التثنية كما فى قوله(بل يداه مبسوطتان)وهناك أضاف الأيدى الى صيغة الجمع فصار كقوله(تجرى بأعيننا)وهذا فى(الجمع)نظير قوله(بيده الملك)(وبيدك الخير)فى(المفرد)فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهرا أو مضمرا وتارة بصيغة الجمع كقوله(انا فتحنا لك فتحا مبينا)وأمثال ذلك ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط لأن صيغة الجمع تقتضى التعظيم الذى يستحقه وربما تدل على معانى أسمائه وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور وهو مقدس عن ذلك فلو قال(ما منعك أن تسجد لما خلَقتْ يدى)لما كان كقوله(مما عملت أيدينا)وهو نظير قوله(بيده الملك)(وبيدك الخير)ولو قال(خلقت بيدي)بصيغة الإفراد لكان مفارقا له فكيف اذا قال(خلقت بيدى)بصيغة التثنية هذا مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن كما هو مبسوط فى موضعه مثل قوله(المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما ولُّوا)وأمثال ذلك))(13/9)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (ومما يشبه هذا) مما يشبه النصوص التي تقدمت التي وهم بعض الواهمين من المتأخرين بأنها بظاهرها تدل على الباطل وأنها بحاجة إلى التأويل حتى يفهم المعنى الصحيح بالتأويل يشبه هذا (القولَ أن يُجْعَلَ اللفظُ نظيرا لما ليس مثله) آية في كتاب الله في سورة ص يقول الله تعالى فيها ((ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)) يقول لإبليس "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " (ما) في الأصل يقول علماء العربية لغير العاقل ، و(من) للعاقل لكن قد تستعمل (ما) في العاقل و(من) لغير العاقل أي الغالب أن تكون (ما) لغير العاقل و(من) للعاقل هذا الغالب ولكن الاستعمال جارٍ على العكس والدليل هذه الآية " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " وهو آدم والمعنى (لمن خلقت بيدي) (ما) بمعنى (من) (لمن خلقتُ بيدي) ، لا ينبغي أن تجعل هذه الآية نظير قوله تعالى ((أو لم يروا إنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا)) "مما عملت " انظر إلى الفروق ..
الشريط الخامس عشر :(13/10)
لا ينبغي أن تجعل هذه الآية نظير قوله تعالى ((أو لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت أيدينا)) " مما عملت " انظر إلى الفروق : في الآية الأولى أسند الفعل إلى نفسه سبحانه " لما خلقتُ " أسند الفعل إلى نفسه ، ثم عدى الفعل بالباء ثم ثنى اليد " لما خلقتُ بيدي " لا يحتمل أي احتمال بل نص صريح في أن الله باشر خلق آدم بيديه ولم يباشر خلق إبليس الذي يعاند ولا خلق غيره من المخلوقات لم يباشر بيده سبحانه ولكن قال له كن فكان ، كل شيء ، آدم خُلق بالقدرة وباليد هذه ميزة آدم ، الله ميز أبا البشر آدم بميزة ، الله يفعل كل شيء بقدرته ، خلقه بقدرته وباشر خلقه وتصويره وإيجاده بيده كما يشاء ولم يعترض إبليس نفسه الذي هو كثير الاعتراض لم يعترض على هذا بل سلم وعلى الذين جاءوا متأخرين وزعموا أنهم لا يسعهم ما وسع المسلمين الأولين ولا بد أن يخرجوا من النصوص معاني جديدة بعد دراستهم للغة العربية وخصوصا علم البلاغة فليدركوا الفرق بين التعبيرين . الآية الأولى – مرة أخرى – أسند الله فيها الفعل إلى نفسه قال " لما خلقتُ " ثم الفعل عدي إلى المفعول بالباء وثنى اليد وهذا في قوة قولك (كتبت بقلمي) أو (كتبت بالقلم) نص لا يحتمل معنى آخر إلا أنك باشرت الكتابة بقلمك لا يحتمل أي معنى آخر ، إذن قوله تعالى " لما خلقت بيدي " ليس بظاهر بل هو نص لأن الآيات والأحاديث قد تأتي نصا وقد تأتي ظاهرا ، الظاهر ما يحتمل المعنيين أو أن تفسر بأحد المعنيين اللذين تدل عليهما ظاهر الآية أو ظاهر الحديث وقد تأتي النصوص نصا ، النص عند الأصوليين ما لا يحتمل إلا معنى واحدا فقوله تعالى " لما خلقت بيدي " لا يحتمل إلا هذا المعنى مباشرة خلقه بيده سبحانه أو بيديه .(13/11)
وأما قوله تعالى " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا " " مما عملت أيدينا " أسند العمل إلى الأيدي فلم يسند إلى نفسه قال " مما عملت أيدينا " وجمَع الأيدي ، وهناك يدين وهنا جمع الأيدي ، أولا إسناد الفعل إلى الأيدي ثم جمْع الأيدي إذن التعبير غير التعبير والأسلوب غير الأسلوب ، " مما عملت أيدينا " في قوة (مما عملنا) وهذا أسلوب معروف في القرآن وفي غير القرآن عند العرب (مما عملنا) " مما عملت أيدينا " بمعنى واحد ، إسناد العمل إلى الأيدي ، لأن القرآن يخاطب العرب والعرب في لغتهم قد يسنَد الفعل إلى الفاعل وقد يسند إلى يده واليد قد تُفرد وقد تثنى وقد تجمع كل هذا أسلوب عربي معروف عند أهل اللغة ، والأيدي هنا جمع لأنها أضيفت إلى ضمير الجمع ، الضمير الذي هو (نا) صيغته صيغة جمع ولكن صيغة الجمع ليست نصا في العدد بل هي محتملة أن يكون القائل يريد العدد أو يريد التعظيم لذلك يقال لهذا الضمير ضمير العظمة " أيدينا " " إنا أنزلنا " " إنا فتحنا " " إنا نحن " هذه الضمائر صيغتها صيغة جمع ولكن صيغة الجمع ليست نصا في العدد في التعدد بل قد تأتي لذلك وقد تأتي للعظمة ، الذي يفرق لك بين الأمرين القرينة والسياق ومعلوم بأن الله هو الواحد الأحد وإذا قال " إنا فتحنا " " إنا أنزلنا " " مما عملت أيدينا " جاء ضمير الجمع هكذا لا يدل على التعدد لأن التعدد ممتنع يتنافى مع التوحيد ولكنه يدل على العظمة ، والإنسان نفسه قد يستعمل هذا الأسلوب أي أسلوب معروف في اللغة (نحن فعلنا) (نحن كتبنا) (نحن سرنا) قد يعبر الإنسان عن نفسه بهذا التعبير (نحن الذين فعلنا) (نحن كتبنا لك) شخص واحد كتب لك كتابا فلم ترد له يعاتبك فيقول (لماذا لم ترد الجواب ونحن كتبنا لك) وهو شخص واحد ولكنه يرى أنه بالنسبة لمن كتب إليه أنه أعظم منه أو أكبر منه فيعظم نفسه أمام المخاطب ، ولذلك يقال (نا) " إنا نحن " ضمير العظمة ولا يقال لهذه الضمائر في حق(13/12)
الله تعالى أنها للجمع وللتعدد ، إذن في الآية الثانية – لنرجع إلى الفروق – :
- إسناد العمل إلى الأيدي .
- ثم جمع الأيدي .
- ثم إضافة الأيدي إلى ضمير العظمة .
- والتعبير في هذه الآية يخالف التعبير أو الأسلوب في هذه الآية يخالف الأسلوب في الآية السابقة .
وكل الذي يريد أن يقول الشيخ : لا ينبغي أن يستدل نفاة اليد أو نفاة خلق آدم بيده أن يستدلوا بآية سورة يس لأن الفرق واضح بين الآيتين ، في الآية التي أراد الله أن يثبت مكانت آدم أسند الفعل إلى نفسه ثم عدى الفعل بالباء وثنى اليد .
لله سبحانه وتعالى يدان مبسوطتان مع ذلك جاء في الكتاب ذكر اليد أحيانا بصيغة الإفراد وأحيانا بصيغة الجمع وأحيانا بصيغة التثنية . لا تكن ظاهريا متعصبا لظاهريتك حتى تقول الله له يد وله يدان وله أيدي ، هذا ما يفعله بعض الضعفاء في فهم النصوص بل له يدان مبسوطتان ليست هناك أيدي كثيرة ولا يد واحدة بل له يدان ، بهذا تجتمع النصوص ، تفهم لماذا جمع ؟ لأن اليد أضيفت إلى ضمير العظمة والأسلوب في مثل هذا يقتضي الجمع وإذا ذُكرت اليد بصيغة الإفراد هذا يقال له جنس يصلح للواحد وللأكثر من واحد ، الذي يفسر كل هذا قوله تعالى " لما خلقت بيدي " وقوله تعالى في آية أخرى " بل يداه مبسوطتان " "يداه" "لما خلقت بيدي" هاتان الآيتان تفسر لك كل ما فيه إجمال كذكر اليد بصيغة الإفراد وجمع اليد وتخرج بنتيجة أن لله يدين مبسوطتين .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (فهذا ليس مثل هذا) فهذا الذي جاء ذكره في آية يس ليس مثل هذا ، أو هذا الذي جاء فيه ذكر اليد بصيغة المثنى ليس مثل هذا الذي جاء فيه ذكر اليد بصيغة الجمع ، لك أن تجعل الإشارة أو اسم الإشارة في الأولى للآية الأولى والإشارة الثانية للآية الثانية .
(لأنه هنا أضاف الفعل الى الأيدى) أي في قوله " عملت أيدينا " .(13/13)
(فصار شبيها) قوله تعالى " مما عملت أيدينا " شبيه (بقوله(فبما كسبت أيديكم)) أسند الكسب إلى الأيدي وهو في قوة (بما كسبتم) ولكن إنما أسند الفعل والكسب إلى الأيدي لأن أكثر الأعمال إنما تزاول باليد ، الإنسان قد يكسب شرا أو خيرا بجميع جوارحه يطيع الله بجميع جوارحه ويعصي الله بجميع جوارحه لكن الغالب أن يكون الكسب باليد ، يعطي باليد ، يجاهد باليد ينفق بيده ثم يظلم بيده يضرب بيده يقتل بيده ، أكثر الأعمال إنما تزاول خيرا أو شرا باليد وإلا الكسب يكسب الإنسان كل ما يريد أن يكسبه من خير وشر بجميع الجوارح ، هذا هو السر في تخصيص الأيدي ، إذن قوله تعالى " مما علمت أيدينا " شبيه بقوله تعالى " بما كسبت أيديكم " ليس شبيها بقوله تعالى " لما خلقت بيدي " هكذا يجب التفريق بين الأسلوبين ويجعل هذا نظير هذا ، يجعل قوله تعالى " مما عملت أيدينا " نظير قوله تعالى " فبما كسبت أيديكم " هذا نظير هذا وليس نظير قوله تعالى " لما خلقت بيدي " هذا الذي يريد الشيح أن يثبت لأنه إن لم تفرق بين الأسلوبين وبين التعبيرين .. ترتبك ، لتتخلص من هذا يجب أن تفهم معاني النصوص كما فهم السلف الصالح وكما دلت على ذلك اللغة ، من أعرض عن إدراك هذه المعاني على ضوء ما أدرك السلف قد أعرض عن اللغة ، ودعوى الخلف أنهم تبحروا في العلوم العربية واستطاعوا أن يخالفوا السلف في التفسير هذا خطأ ودعوى فارغة بل السلف أعلم حتى في اللغة وإن كان في وقتهم لم توضع هذه الاصطلاحات ، اصطلاح يسمى البلاغة اصطلاح يسمى نحو اصطلاح يسمى الصرف هذه الاصطلاحات ما كانت معروفة لكن الناس كانوا يطبقون تطبيقا عمليا لا يلحنون كما يلحن المتأخرون ، المتأخرون مع دراستهم للغة فيهم لحن كثير ولذلك الشعراء المتأخرون لا يحتج بشعرهم ولكن الشعراء الذي كانوا في الجاهلية ، في صدر الإسلام كلامهم حجة يحتج بكلامهم في معرفة اللغة ، أما الذين نشؤوا بعد ذلك بعد عهد الأمويين الشعراء(13/14)
المحدثون لا يحتج بكلامهم لأن اللغة ضعفت لذلك دعوى المتأخرين أنهم يعلمون من نصوص الكتاب والسنة ما لا يعلم السلف هذه الدعوى غير واقعية دعوى فارغة بل نيلٌ من السلف بأنهم فيهم نقص في فهم اللغة ، وهذا غير وارد وغير جائز بدليل فهمهم هذه النصوص فهما دقيقا حتى لا تتضارب النصوص بأيديهم ، إنما تتضارب النصوص في أيدي الخلف لنقص علمهم ونقص فهمهم ولإعراضهم عن مفاهيم السلف الصالح .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(13/15)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(إلى الوجه الأول من الشريط السادس عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((فاذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق اليه وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب اليه كالمنسوب اليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ) فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئى بالمرئى))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (فاذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذاته) المراد بالنفس هنا الذات ، لو كان التعبير بالذات لكان أدق (فإذا كانت ذاته المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين فصفاته كذاته) يشير بهذا شيخ الإسلام رحمه الله إلى القاعدة المعروفة عند السلف (الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه) أي يقال في الصفات ما قيل في الذات ، بمعنى أن الناس جميعا تؤمن بالذات المقدسة بأن الله موجود وجودا حقيقيا ولا يكيفون وجود الذات بل إيمانهم بالذات إيمان تسليم وإثبات فيجب الإيمان بالصفات مثل هذا الإيمان أي إيمان إثبات وتسليم ، هذا معنى كلامه (فصفاته كذاته) .
ثم قال (ليست كصفات المخلوقين) لأن ذاته ليست كذوات المخلوقين ، إذن صفاته ليست مثل صفات المخلوقين .
(ونسبة صفة المخلوق إليه) أي إلى المخلوق .
(كنسبة صفة الخالق اليه) أي إلى الخالق ، أي صفة المخلوق تناسب المخلوق وتليق به ، وصفة الخالق تليق بالخالق ، كما أن ذاته ليست كذواتهم صفاته ليست كصفاتهم ، (ونسبة صفة المخلوق إليه) أي إلى المخلوق (كنسبة صفة الخالق اليه) سبحانه وتعالى ، تلك صفات تناسب المخلوق وهذه صفات تليق بالله تعالى .(14/1)
(وليس المنسوب كالمنسوب ولا المنسوب اليه كالمنسوب اليه) أي ليست صفات الله تعالى كصفات المخلوق وليست ذاته كذوات المخلوق ، مرة أخرى .
(وليس المنسوب) أي وليست صفات الله تعالى .
(كالمنسوب) كصفات المخلوق .
(ولا المنسوب اليه) الذات سبحانه وتعالى .
(كالمنسوب اليه) كذوات المخلوقين ، شرح وتفصيل للكلام الذي أجمل سابقا .
(كما قال النبي صلى الله عليه وسلم) في إثبات حقيقة الرؤية رؤية المؤمنين ربهم في الجنة ورؤيتهم ربهم في عرصات القيامة قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنكم سترون يوم القيامة كما سترون الشمس والقمر " الحديث مروي بالمعنى ((ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)) .. ولا تضامون ، أي رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة وفي الجنة رؤية حقيقية كرؤيتهم للشمس والقمر ، لا يشك أحد في أن رؤية الإنسان للشمس رؤية حقيقية ، ورؤية للقمر كذلك ، ليس هناك ازدحام ولا تضرر عند رؤية الشمس والقمر ، بل كل يرفع رأسه من موقعه ويرى الشمس فوقه والقمر فوقه ، هكذا رؤية المؤمنين في الجنة ورؤية الناس جميعا على الخلاف في ذلك في عرصات القيامة رؤية حقيقية وليست رؤية مجازية ، يرون ربهم من فوقهم رؤية لا تضرر فيها ولا ازدحام .(14/2)
( فشبه الرؤية بالرؤية) في كون تلك الرؤية حقيقة كهذه الرؤية وأنها تكون من فوقهم كما أن هذه من فوقهم ، ليس في تشبيه الرؤية بالرؤية أي محظور لأن الرؤية صفة المخلوق ، المخلوق هو الذي يرى الخالق وقع التشبيه من باب الإيضاح بين الرؤيتين ، الرؤية المحققة التي يؤمن بها كل إنسان رؤية الشمس والقمر كرؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ، أما في الجنة فرؤية خاصة بالمؤمنين لأنها أعظم نعيم الجنة والجنة لا يدخلها إلا المؤمن ، إذن تلك الرؤية خاصة ، أما الرؤية يوم القيامة فاختلف أهل العلم هل هي خاصة كما هي في الجنة أو عامة يراه الكافرون والمنافقون مع المؤمنين ثم يحتجب الرب سبحانه وتعالى عن الكفار والمنافقين عقوبة لهم فتبقى رؤية المؤمنين ، هذا رأي .
من أهل العلم من جعل الرؤية خاصة أي الرؤية في عرصات القيامة كالرؤية في الجنة ويرى أن النصوص لا يعتمد عليها فالله سبحانه وتعالى قادر أن يحتجب عن الكفار في عرصات القيامة كما فرق بين الكفار والمؤمنين في السجود ، وعندما يرى المؤمنون ربهم يسجدون ويذهب المنافق والمرائي ليسجد فيصبح ظهره طبقا واحدا لا يقو على السجود ، أي كما فرق بينهم في السجود فهو قادر أن يفرق بينهم في الرؤية لذلك يرجح بعض الحفاظ كالحافظ ابن حجر أن الرؤية في عرصات القيامة خاصة مثل الرؤية في الجنة والخلف لفظي ، والله أعلم .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة وهي ان كثيرا من الناس يتوهم فى بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين ثم يريد أن ينفى ذلك الذى فهمه فيقع فى أربعة أنواع من المحاذير: (أحدها) كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل))
الكلام هذا يحتاج إلى شرح انتبهوا :(14/3)
القاعدة الرابعة ، والكلام الذي تقدم (يتبين بالقاعدة الرابعة وهي ان كثيرا من الناس يتوهم) كثير من الناس من أهل الكلام لأنه صارت لهم الكثرة بعد دخول الكلام أي مبحث الكلام والفلسفة والمنطق في مبحث صفات الله تعالى صاروا هم الأكثر وقبل ذلك لا وجود لهم ، هؤلاء النفاة والمفرقون لا وجود لهم قبل نشأة علم الكلام ، فعلم الكلام لم ينشأ إلا في عهد العباسيين ، فقبل ذلك لا وجود لهم ولكن لما وجد هذا العلم ووجد من يؤازره ويدافع عنه من خلفاء بني العباس صارت لهم الأغلبية فانقسموا إلى قسمين :
- نفاة ينفون جميع الأسماء والصفات ، نجعل هنا الجهمية و المعتزلة قسما واحدا نسميهم نفاة ليتضح الكلام .
- ومنهم من يفرق بين الصفات .
هذان هما الصنفان في هذا الباب ، لذلك هنا الكلام يحتاج إلى نوع من الإيضاح .
(وهي ان كثيرا من الناس يتوهم فى بعض الصفات أو في كثير منها أو أكثرها) من أين لنا هذه الأقسام الكثيرة ؟ (أو كلها) صارت الأقسام كم ؟
- (يتوهم في بعضها) إذا جعلنا هذا قسما .
- (أو في كثير منها) القسم الثاني .
- (أو أكثرها) القسم الثالث .
- (أو كلها) .
هذه الأقسام الكثيرة لا وجود لها ، إذن ينبغي أن يكون بدل (أو) (بل) مما نعلم بأن هذه الكتب اشتغلت فيها أيدي كثيرة ليس هذا أسلوب شيخ الإسلام وهذا حصل من النساخ لأن الكتب نسخت عدة مرات وطبعت وتروى بالمعنى في الغالب الكثير ، وإلا التعبير الصحيح الذي يمشي مع الواقع مع واقع علماء الكلام هكذا (يتوهم في بعض الصفات بل في كثير منها) بدل (أو) (بل) (بل في كثير منها) (بل) للإضراب الانتقالي (بل في أكثرها) هذا كله قسم واحد .
فيأتي القسم الثاني (أو) في (كلها) .
القسم الأول الذي عبرنا عنه ببعض الصفات بل في كثير منها بل في أكثرها ....
الشريط السادس عشر :(14/4)
(يتوهم في بعض الصفات بل في كثير منها) بدل (أو) : (بل) (بل في كثير منها) (بل) للإضراب الانتقالي (بل في أكثرها) هذا كله قسم واحد .
فيأتي القسم الثاني (أو) في (كلها) .
القسم الأول الذي عبرنا عنه : ببعض الصفات بل في كثير منها بل في أكثرها . هم المفرقون بين الصفات ، قسم واحد وهم الأشاعرة ومن نحا نحوهم .
(أو كلها) المعتزلة والجهمية .
صارت القسمة ثنائية إذا ضممنا إليهما أهل السنة المثبتة القسمة ثلاثية :
- المثبتون لجميع الأسماء والصفات هم الصفاتية أهل السنة .
- النافون لجميع الأسماء والصفات أو جميع الصفات هم المعتزلة والجهمية .
- المفرقون بين الصفات هم الأشاعرة .
لا تخرج القسمة عن هذه القسمة الثلاثية أبدا ، إذا تركنا في المبحث هنا أهل السنة خارجا عن هذا المبحث لأن المبحث مع النفاة تكون القسمة ثنائية :
- من ينفي أكثر الصفات .
- ومن ينفي كل الصفات .
هكذا تكون القسمة ثنائية ، إذن بدل (أو) في المقامين ينبغي أن يكون التعبير بـ (بل) للإضراب الانتقالي والله أعلم .
واضح ؟ نمشي الآن .
(القاعدة الرابعة وهي ان كثيرا من الناس يتوهم فى بعض الصفات) ( بل) (في كثير منها) ( بل في ) (أكثرها) قف
(أو) في (كلها) قسم آخر (أنها تماثل صفات المخلوقين) اتفقوا جميعا بأنها تماثل صفات المخلوقين .
(ثم يريد أن ينفى ذلك الذى فهمه فيقع فى أربعة أنواع من المحاذير) اقرأ الآن التفصيل ، أحدها :(14/5)
((أحدها) كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل (الثانى) أنه اذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من اثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايته على النصوص وظنه السىء الذى ظنه بالله ورسوله حيث ظن ان الذى يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل قد عطل ما اودع الله ورسوله فى كلامهما من اثبات الصفات لله والمعانى الالهية اللائقة بجلال الله سبحانه . (لثالث) أنه ينفى تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم فيكون معطلا لما يستحقه الرب تعالى (الرابع) أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الاموات والجمادات أو صفات المعدومات فيكون قد عطل به صفات الكمال التى يستحقها الرب تعالى ومثله بالمنقوصات والمعدومات وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل فيكون ملحدا فى أسماء الله وآياته)
قال الشيخ رحمه الله تعالى مفصلا للمحاذير الأربعة ((أحدها) كونه) أي النافي بصفة عامة سواء كان النافي مفرقا أو نافيا لأكثر الصفات .(14/6)
(كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل) عندما يسمع الأشعري " الرحمن على العرش استوى " " ينزل ربنا " "وجاء ربك والملك صفا صفا " جعل مفهوم هذه النصوص ما يليق بالمخلوق ، استواء يليق بالمخلوق ، نزولا يليق بالمخلوق ، مجيئا يليق بالمخلوق فقط وزعم أن النصوص تدل على هذا المعنى الباطل وظن أن مدلول النصوص هو هذا التمثيل ، بينما لم يفهم هذا الفهم من قوله تعالى مثلا " وهو السميع البصير " لم يفهم من السمع والبصر ما يليق بالمخلوق بل فهم ما يليق بالخالق ، لذلك سميناه مفرقا فرق بين الصفات وبين نصوص الصفات ، نصوص يفهم منها ما يليق بالخالق ولا يقع في هذا المحظور ، نصوص يفهم منها في زعمه ما يليق بالمخلوق ويقع في هذا المحذور ، هذا بالنسبة للمفرق .
أما من ينفي جميع الصفات يفهم من قوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " ومن قوله تعالى "وهو السميع البصير" مفهوما واحدا وهو ما يليق بالمخلوق ، هؤلاء المعتزلة والجهمية معا ، إذن المحذور الأول وقوع الجميع وظنهم أن مدلول النصوص هو التمثيل ، ثم بعد التمثيل اختلفوا ، منهم من فهم التمثيل كما قلنا من جميع النصوص ونفى جميع الصفات ، منهم من فهم التمثيل من بعض النصوص وزعم أنه يجب تأويلها ، تأويل هذه النصوص التي تدل على التمثيل ، هذا المحذور الأول .
((الثانى)أنه) أي النافي (اذا جعل ذلك هو مفهومها) يكون (مفهومها) معمول لـ (جعل) (اذا جعل ذلك هو مفهومَها) والضمير ضمير فصل .
أو (إذا جعل ذلك هو مفهومُها) (هو) مبتدأ و (مفهوم) خبر والجملة معمول جعل ، جائز .
(إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من اثبات الصفات اللائقة بالله تعالى) إذا جعل الاستواء الاستواء الذي يليق بالمخلوق ونفى ذلك بقي الفعل استوى معطلا عن الدلالة على المعنى الذي يليق بالله تعالى وهو العلو ، إذن عطل النصوص .
(فيبقى) هذا النافي .(14/7)
(مع جنايته على النصوص) بإساءة الظن بها (وظنه السىء الذى ظنه بالله ورسوله حيث ظن ان الذى يُفهم من كلامهما) من كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام (هو التمثيل الباطل قد عطل) هذا جواب (إذا) (إذا جعل ذلك هو مفهومها .. قد عطل) هكذا الجواب ، ما بينهما جمل معترضة هنا .
(أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها) (قد عطل ما اودع الله ورسوله فى كلامهما) في كلام الله وكلام رسوله (من اثبات الصفات لله تعالى والمعانى الالهية اللائقة بجلال الله سبحانه) عطل ذلك إذا جعل ذلك المفهوم قد عطل ما أودعه الله في هذه النصوص أي وقع في تعطيل الصفات عن المعاني اللائقة بالله تعالى بجعله ذلك المعنى المفهوم ذلك المعنى الباطل مفهوم النصوص .
أرجو أن يكون مفهوما .
(أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها) ذلك الذي تقدم وهو التمثيل (هو مفهومها وعطله) عطل النص (بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من اثبات الصفات اللائقة بالله تعالى فيبقى) هذا الجاني ( مع جنايته على النصوص وظنه السىء الذى ظنه بالله ورسوله حيث ظن) تفصيل للظن السيء (حيث ظن ان الذى يُفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل قد عطل) هذا الجواب (قد عطل ما اودع الله ورسوله فى كلامهما من اثبات الصفات لله تعالى والمعانى الالهية اللائقة بجلال الله سبحانه) هذا تصوير المحذور الثاني .
((لثالث) أنه) أي الجاني (ينفى تلك الصفات عن الله تعالى بغير علم) هذا محذور ثالث .
(فيكون معطلا لما يستحقه الرب تعالى) في المحذور الثاني عطل النصوص وجعل المحذور الثالث أنه عطل الله عما يستحقه من صفات الكمالات من كمالات الرب سبحانه وتعالى وصفات الرب كلها كمال ، في المحذور الثاني التعطيل تعطيل النصوص ، في المحذور الثالث التعطيل تعطيل الذات العلية من الصفات التي يستحقها الرب سبحانه وتعالى .(14/8)
((الرابع) أنه يصف الرب عز وجل بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات أو صفات المعدومات) إذ لابد من أحدهما ، إما أن يثبت لله تعالى ما يليق بالله أو يقع في أن يصف الله تعالى بنقيض تلك الصفات ، إذا نفى السمع والبصر شبهه بمن لا سمع له ولا بصر الجمادات (من صفات الموات والجمادات أو صفات المعدومات) كأن يجمع بين النقيضين ، هذا الكلام تقدم مفصلا ، يجمع له بين النقيضين ، لا سميع ولا بصير ، لا يوصف لا بالسمع ولا بالبصر ولا بضدهما ، لا بالعلو ولا بالسفول ، لا بالمجيء ولا بعدم المجيء ، الجمع بين النقيضين كنفي النقيضين مستحيل ، يقع في هذا ، هذا أعظم محذور من المحذورات الأربعة .
(فيكون قد عطل به صفات الكمال التى يستحقها الرب سبحانه تعالى ومثله بالمنقوصات) جميع المخلوقات ناقصة سواء كانت جمادات أو حيوانات وإن كانت تتفاوت في النقص ، الحيوانات الناطقة الحيوانات الموصوفة بالصفات الوجودية أكمل من الجمادات التي لا توصف بالصفات الوجودية .
(ومثله بالمنقوصات والمعدومات وعطل النصوص) كلها نصوص الصفات (عما دلت عليه من الصفات) أي من صفات الله تعالى التي هي صفات الكمال ، شرح وتفسير للمحذور الرابع .
(وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات) لذلك كل من نفى يدعي التنزيه لأنه خطر بباله عندما قرأ النصوص التمثيل ، ويريد أن ينفي هذا التمثيل ويقع في التعطيل ، إذن وقع في محذورين اثنين :
- أولا التمثيل .
- ثانيا التعطيل .(14/9)
لذلك يقال كل معطل مشبه لأنه لم يعطل حتى شبه ، كذلك من بقي على التشبيه كل مشبه معطل ، المشبهة التي تشبه الله في ذاته وفي صفاته بالمخلوقات وتصرح بذلك لا وجود لها اليوم بصفتها فرقة قائمة بذاتها ، وإن كان قد يقع في التشبيه بعض الناس وتوجد عقائدهم في كتب الفرق ، ولكن فرقة قائمة بذاتها مشبهة كوجود المعطلة لا وجود لها اليوم ، وعلى كل من شبه عطل قد عطل عما يليق بالله تعالى فجمع بين التشبيه وبين التعطيل ، ومن عطل جمع بين التشبيه وبين التعطيل ، المعطل يشبه أولا ثم فرارا من هذا التشبيه يعطل فيجمع بين الجنايتين .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله (وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات فيجمع) بذلك (في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل) كما شرحنا الآن (فيكون ملحدا فى أسماء الله وآياته) الإلحاد هو الميل عن الحق الميل عن الصواب ، قد يصل الإلحاد إلى الكفر وقد لا يصل ، إلحاد الجهمية كفر بواح وإلحاد من دونهم بالنسبة لبعضهم يتوقف فيهم تورعا كالمعتزلة وإلحاد الأشاعرة لا يصل إلى الكفر وإن كان في النفس شيء بالنسبة لنفيهم علو الله تعالى واستوائه على عرشه وبالنسبة لنفيهم الكلام اللفظي لأنهم يشاركون المعتزلة في هاتين الصفتين .
نعم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((مثال ذلك أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات واستوائه على العرش فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع وليس فى الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينه ولا مداخله))
(مثال ذلك) كيف يجمع بين التعطيل والتمثيل .
(أن النصوص كلها) نصوص الصفات سواء كانت نصوص الكتاب أو نصوص السنة .(14/10)
(دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات واستوائه على العرش) صفتان اثنتان ، العلو والفوقية صفة واحدة والاستواء صفة أخرى ، العلو والفوقية صفة ذاتية علو الله تعالى على جميع المخلوقات صفة ذاتية ثابتة لازمة للذات بمعنى لم يزل الله سبحانه وتعالى في علوه ولن يزال لأن العلو صفة كمال والكمال لا يفارقه ، لا يوصف الرب سبحانه وتعالى في لحظة من اللحظات بالسفول ، مستحيل لأنه لا يليق بالله بل هو موصوف بالعلو دائما وأبدا ، ثبوت العلو كثبوت الحياة والقدرة والسمع والبصر أي من الصفات الذاتية ، وأما استواؤه على العرش فصفة فعلية لأن الاستواء تجدد ، الله أخبر أنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام استوى على عرشه استواء يلي به وخص العرش بهذا العلو الخاص الذي هو الاستواء لحكمة يعلمها لا لحاجته إلى العرش بل الله سبحانه وتعالى هو الذي يحمل العرش وحملة العرش بقدرته وسلطانه ليس العرش هو الذي يحمل رب العالمين ولا حملة العرش بل الله فوق العرش مستويا على العرش عاليا على العرش استواء يليق به ، يثبت شيخ الإسلام كيفية الاستدلال على العلو وعلى الاستواء ، أي بم نثبت العلو وبم نثبت الاستواء انتبه هذه مسألة دقيقة مهمة جدا .(14/11)
يقول شيخ الإسلام (فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع) أي علو الله تعالى على خلقه ومباينته لجميع مخلوقاته بأنه مباين لخلقه فوق جميع مخلوقاته هذه صفة سمعية عقلية فطرية وإجماعية ، على الله على جميع المخلوقات ثبت بالسمع أي بالأدلة المسموعة أي بالكتاب والسنة ، يقال لها صفة سمعية وصفة نقلية وصفة خبرية المعنى واحد ، السمع والخبر والنقل هذه الألقاب لنصوص الصفات نصوص الكتاب والسنة ، إذن علة الله تعالى ثابت بالعقل أولا وبالفطرة السليمة ، لو سئل أي مخلوق أي إنسان بشرط أنه بقي على فطرته لم يدرس علم الكلام لم يدرس الأشعرية ولا الاعتزال ولا أي نوع من أنواع علم الكلام ، باق على فطرته في باديته لو سألت بدويا حيثما كان عربيا أو عجميا لو قلت له أين الله يقول الله في السماء الله فوقنا ، لذلك نجد كل داع كل مسلم يدعو الله يرفع يديه يقول يا رب ، لأنه يعتقد أن ربه فوقه فوق جميع المخلوقات يدعوه من فوقه ويخافه من فوقه ويراقبه من فوقه ، هذا معنى أن هذه الصفة صفة فطرية عقلية جاءت النقول أي الأدلة السمعية والخبرية مؤكدة وموافقة لما دل عليه الدليل العقلي ، اجتمع الدلالة العقلية والدلالة النقلية في صفة العلو .
إذن أعود مرة أخرى لئؤكد فأقول : صفة العلو غير صفة الاستواء صفة العلو ثابتة بالفطرة والعقل والسمع ، ثابتة بالعقل والفطرة بمعنى واحد ، ثابتة بالعقل ثابتة بالسمع ثابتة بالإجماع ، أي لم يختلف أولئك الذين يعتد بإجماعهم لم يختلفوا ، من هم ؟
السلف .(14/12)
لأن الإجماع - كما قلنا غير مرة - الإجماع الذي يعتبر أصلا من أصول الدين الأصل الثالث في الدين هو إجماع السلف ، عندما كان عددهم محصورا ويمكن ضبط إجماعهم والخلاف قليل وكانوا مجتمعين في مكان واحد الحجاز ، أجمعوا جميعا على هذا المعنى لم يختلفوا ، وصرح الإمام البيهقي أن أئمة الخلفاء الأمويين وخلفاء بني العباس إلى الخليفة السابع الذي هو المأمون كلهم على منهج السلف الصالح ، جميع خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس إلى الخليفة السابع الخليفة السابع والثامن والتاسع : المأمون والمعتصم بالله والواثق بالله ، هؤلاء الثلاثة هم الذين أصيبوا بنكسة علم الكلام وتبنوا عقيدة المعتزلة وعذبوا العلماء والأئمة والقضاة في وقتهم ، بدأت فتنة علم الكلام في هذا الوقت وقبل ذلك كلهم مجمعون في أصول الدين في هذه الصفة وغيرها ، هكذا يتضح أن السلف مجمعون على اعتقاد علو الله تعالى استدلالا بالكتاب والسنة والدليل العقلي السليم والفطرة السليمة .
أما الاستواء يقول الشيخ (وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع) السمع فقط ، استواء الله تعالى على عرشه ونزوله في آخر كل ليلة ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء من الصفات الفعلية السمعية ، صفات فعلية سمعية محضة ، أي لو لم يرد الدليل السمعي لا يجرؤ أحد بأن يصف الله بأنه مستو على عرشه وأنه ينزل في آخر كل ليلة وأنه يأتي لفصل القضاء ، لا مجال للعبد ، إذن هذه صفة سمعية ، ليست وحدها صفة الاستواء صفات كثيرة : الاستواء والنزول والمجيء هذه صفات فعلية سمعية ، أما الصفات الذاتية السمعية فكثيرة ، إثبات الوجه لله تعالى وإثبات اليدين وإثبات الساق وإثبات الأصابع صفات ذاتية سمعية أيضا ، وهل أحد يفكر حتى تفكير لو لم يرد النص بأن الله موصوف بالوجه واليدين والأصابع والقدم والساق ؟(14/13)
لا . لكن لما ورد النص من الكتاب والسنة وجب على المؤمنين الإيمان بخبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام وإثبات ذلك على ما يليق بالله تعالى لا على ما يليق بالمخلوق ، إذا أثبتنا هذه الصفات نثبتها صفات لائقة بالله على ما تقدم ، لأن صفات الله تليق بالله وصفات المخلوق تناسب المخلوق ، صفات الخالق تناسب الخالق ، صفات المخلوق تناسب المخلوق ، الاتفاق في الاسم استواء مع الاستواء النزول مع النزول مع النزول الوجه مع الوجه واليد مع اليد هذا الاشتراك في الاسم وفي المعنى العام لا يثبت هكذا إلا معنى عاما مطلقا قبل أن تضاف صفات الله إلى الله وقبل أن تضاف صفات المخلوق إلى المخلوق لكن إذا قلت (وجه الله) (يد الله) (استواء الله) (مجيء الله) لا اشتراك هنا أبدا ، لا أحد يشارك الله في الصفات الخاصة بالله ، هذا الاختصاص وقع بالإضافة ، كذلك إذا قلت : استواء زيد ومجيء عمرو ووجه خالد ، الله منزه بأن يشارك هذا المخلوق في خصائص صفاته ، لأن صفاته صفات مخلوقة محدثة بعد أن لم تكن ، وصفات تزول ، هكذا كما مثلنا بالعلم في بعض الدروس السابقة يجب أن يفهم هكذا ، مجرد الاشتراك في الاسم لا يستلزم الاشتراك في الحقائق ، وعدم الاشتراك في الحقائق يتصور ويتحقق بالإضافة ، ولذلك هذه الإضافة من أهم الإضافات إضافة صفات الله إلى الله وإضافة صفات المخلوق إلى المخلوق .
يقول الشيخ رحمه الله (وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع وليس فى الكتاب والسنة وصف له سبحانه بأنه لا داخل العالم ولا خارج) العالم (ولا مباينه ولا مداخله) هذه الصفات السلبية التي يصف الله بها بعض علماء الكلام بدعوى التنزيه ، قالوا نريد أن ننزه الله ماذا نقول في التنزيه ؟ أو ماذا يقولون ؟
(ليس الله داخل العالم ولا خارج العالم ولا مباين ولا مداخل) ما معنى هذا ؟(14/14)
أي ليس بموجود ، إذا أردت أن تصف المعدوم أو طلب منك أن تصف المعدوم تقول المعدوم هو الذي ليس ليس الله داخل العالم ولا خارج العالم ولا مداخل ولا مباين ، هذا عدم محض ، وصفوا الله بهذا العدم ، بدعوى التنزيه ، السبب : لأنهم أعرضوا عما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام وعما وصف الله به نفسه من التنزيه وما وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام وزعموا أن العمدة في هذا الباب في باب الأسماء والصفات الدليل العقلي فاختلفت عقولهم كما رأيتم منهم من نفى بعقله الأسماء والصفات جميعا لم يثبت لله تعالى إلا الوجود المطلق الذهني وهم الجهمية ، منهم من نفى جميع الصفات ولم يثبت لله صفة واحدة من صفات الكمال الواردة في الكتاب والسنة وهم المعتزلة ، ومنهم من فرق بين الصفات وهم الأشاعرة ، ضلوا لإعراضهم عن الكتاب والسنة وزعموا أن التنزيه أن يوصف الرب سبحانه وتعالى بهذه السلوب وهذه السلوب لا مدح فيها ، السلب والنفي إنما يكون مدحا إذا تضمن نقيضه من الكمالات " قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد " هذه سلوب ونفي ولكن كل نفي يتضمن كمال ضده ، هكذا من بقي مع النصوص وسلم لله تعالى ولرسوله سلِم ومن أعرض عن الكتاب والسنة وحاول أن يخوض في المطالب الإلهية بعقله هلك ، إما يقع في التشبيه والمشبه كافر ، وإما يقع في النفي والإنكار والجحود وذلك كفر آخر ، إذن السلامة كل السلامة أن تسلم لله سبحانه وتعالى ولرسوله وتبقى على ظهر الاستسلام .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(14/15)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(من الوجه الثاني للشريط السادس عشر إلى الوجه الأول من الشريط السابع عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((وكذلك قوله ( ءأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الارض فاذا هى تمور ) من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله فى داخل السموات فهو جاهل ضال بالإتفاق وإن كنا إذا قلنا إن الشمس والقمر فى السماء يقتضى ذلك فان حرف ( فى ) متعلق بما قبله وبما بعده فهو بحسب المضاف اليه ولهذا يفرق بين كون الشىء فى المكان وكون الجسم فى الحيز وكون العرض فى الجسم وكون الوجه فى المرآة وكون الكلام فى الورق فان لكل نوع من هذه الانواع خاصية يتميز بها عن غيره وان كان حرف ( فى ) مستعملا فى ذلك كله ولو قال قائل العرش فى السماء أو فى الارض لقيل فى السماء ولو قيل الجنة فى السماء أم فى الأرض لقيل الجنة فى السماء ولا يلزم من ذلك ان يكون العرش داخل السموات بل ولا الجنة فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن ) فهذه الجنة سقفها الذى هو العرش فوق الافلاك مع ان الجنة فى السماء والسماء يراد به العلو سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها قال تعالى ( فليمدد بسبب الى السماء ) وقال تعالى ( وانزلنا من السماء ماءا طهورا ) ولما كان قد استقر فى نفوس المخاطبين أن الله هو العلى الأعلى وأنه فوق كل شىء كان المفهوم من قوله (من في السماء )إنه فى السماء أنه فى العلو وأنه فوق كل شىء وكذلك الجارية لما قال لها أين الله قالت فى السماء إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها واذا قيل العلو فانه يتناول ما فوق المخلوقات كلها فما فوقها كلها هو فى السماء ولا يقتضى هذا ان يكون هناك ظرف وجودى يحيط به اذ ليس فوق العالم شىء موجود الا(15/1)
الله كما لو قيل إن العرش فى السماء فإنه لا يقتضى أن يكون العرش فى شىء آخر موجود مخلوق واذا قدر ان السماء المراد بها الافلاك كان المراد انه عليها كما قال ( ولأصلبنكم فى جذوع النخل ) وكما قال ( فسيروا فى الارض ) وكما قال ( فسيحوا فى الارض ) ويقال فلان فى الجبل وفى السطح وإن كان على أعلى شىء فيه))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
يقرر شيخ الإسلام أنه لا يلزم من الاستواء من استواء الله تعالى على عرشه أن يكون الله سبحانه وتعالى محتاجا إلى العرش كما يفهم ذلك من استواء مخلوق على مخلوق ، هذا ملخص الدرس السابق ، وفي هذا الدرس يقرر شيخ الإسلام معنى العلو وتقدم البحث والتفريق بين صفة الاستواء وصفة العلو ، صفة الاستواء صفة فعلية خبرية محضة وصفة العلو صفة ذاتية ثابتة بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع أي إجماع السلف .
يقول شيخ الإسلام في تقرير علو الله تعالى في ضوء قوله تعالى (( ءأمنتم من فى السماء أن يخسف بكم الارض فاذا هى تمور ) من توهم أن مقتضى هذه الآية) " من في السماء " (أن يكون الله فى داخل السموات) أي داخل الأجرام المبنية (فهو جاهل ضال بالإتفاق) بل بالإجماع ، الإجماع أقوى من الاتفاق ، الاتفاق قول الجمهور أي قول الأكثرية وهذا بالإجماع أي إجماع السلف لا يجوز الاعتقاد بأن الله داخل السماوات وداخل هذه الأجرام المبنية بل الله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله .(15/2)
من توهم أن مقتضى قوله تعالى " أأمنتم من في السماء " (أن يكون الله فى داخل السموات فهو جاهل) وضال بالإجماع ، الضلال يتفاوت ، ضلال لا يصل إلى الكفر وضلال يصل إلى حد الكفر ، اعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى داخل السماوات بأن السماوات تحيط بالله سبحانه وتعالى هذا ضلال يؤدي إلى الكفر ما يعذر هذا المعتقد وهذا المتوهم بجهل يعذر به أو بشبهة كما كنا نقول دائما في مثل هذا المقام لأن المقام خطير والشبه قائمة منذ أن دخل علم الكلام على المسلمين والجهل فاش لذلك لا بد من التأني عند الحكم بالتكفير أو بالكفر على من قال كفرا ، ليس كل من قال كفرا فهو كافر خارج عن الملة ولا كل من اعتقد كفرا كافر خارج عن الملة بل لا بد من التماس الاعذار والشبه ، من له عذر يعذر مثله بجهله من له جهل أي من هو جاهل مثله يعذر بذلك الجهل ومن له شبهة حالت بينه وبين المفهوم الصحيح فهو يعذر وإلا فاعتقاد بأن الله داخل هذ الأجرام التي فوقنا داخل السماوات فهذا ضلال أي كفر بالله سبحانه وتعالى لأنه تشبيه للخالق بالمخلوق الذي يكون مظروفا في داخل مخلوق ما .(15/3)
(وإن كنا إذا قلنا إن الشمس والقمر فى السماء يقتضى ذلك) يقتضي أي يحتمل أن تكون الشمس والقمر داخل السماوات مع بحث معروف هنا أن الذي في داخل السماوات أضواء ، ضوء القمر وضوء الشمس ، عند قوله تعالى " وجعل القمر فيهن نورا " " فيهن " أي في بعضهن كما يقول بعض المفسرين أي في السماء الأولى ، ثبت أو روي عن ابن عباس وعبدالله بن عمرو أن الشمس والقمر وجوههما إلى السماوات وأقفيتهما إلى الأرض فنور الشمس وضوء القمر في السماوات بمعنى أن عين الشمس وعين القمر ليسا في السماوات ولكن ضوءهما لذلك إذا قيل إن الشمس والقمر في السماء الاحتمال قائم وجائز عقلا أن تكون داخل السماوات سواء كان الشمس بعينها أو بضوئها وسواء كان القمر كذلك بعينه أو بضوئه ، الذي يثبت بالبحث العلمي وبالآثار بأن هذه الكواكب معلقة تحت السماء وتضيء في السماء ليست بذاتها في السماء .
(فان حرف ( فى ) متعلق بما قبله وبما بعده) هذا تعلق بالمعنى .
(فهو بحسب المضاف اليه) ليس تعلق الجار والمجرور ولكن تعلق المعنى ولذلك قال ( ) (ولهذا يفرق بين كون الشىء فى المكان وكون الجسم فى الحيز) إذا قلنا الكتاب في المكتبة نفرق بين هذا وبين أن نقول الكتاب في الحيز ، الكتاب في الحيز أي شغل هذا الحيز وليس مظروفا في الحيز ، الحيز المكان المعين المحدود ، هذا الإنسان في الحيز وذاك الإنسان في الغرفة بينهما فرق ، فرق كبير يفهمه المخاطب ، في الحيز أي إنه شغل مكانا محدودا معينا ، وهو في الغرفة أي مظروفا في داخل الغرفة وفرق بين كونه في الغرفة وبين كون الكتاب في الغرفة أيضا .(15/4)
(وكون العرض فى الجسم) العرض الصفة ، الأعراض صفات مختلفة ، الألوان من الأعراض والأخلاق كالشجاعة والكرم والجبن والبخل من الأعراض ، إذا قيل فلان في غرفته وفيه الكرم المخاطب يفرق بين المعنيين ، وفي غرفته وفيه الكرم وفيه الشجاعة الفرق واضح بين التعبيرين ، هذا العرض ، الأولوان كلها من الأعراض وهذه الأخلاق التي ذكرناها من الأعراض وكونها في الإنسان وكون الإنسان في الحجرة أو في الغرفة بينهما فرق واضح .
(وكون الوجه فى المرآة وكون الكلام فى الورق) إذا قلت رأيت وجه فلان في المرآة ورأيت الكلام في الورق ، فأنت تفرق بين الظرفين ، استعمال في استعمال حقيقي في هذا وفي ذاك لكن المعنى يختلف باختلاف المضاف والمضاف إليه باختلاف ما قبل (في) وما بعد (في) .
(فان لكل نوع من هذه الانواع خاصية يتميز بها عن غيره) كون الكلام في الورق أي مكتوب في الورق وكون الإنسان في الغرفة وكون الإنسان فيه الكرم لكل معنى خاصية يتميز بها عن غيره .
(وان كان حرف ( فى ) مستعملا فى ذلك كله) على الحقيقة لا على المجاز ، قولك الكلام في الورق حقيقة ، وقولك زيد في غرفته حقيقة ، وقولك زيد فيه الكرم حقيقة ، ولكن أنت تفرق بين هذه المعاني ، إذا كان هذا معلوما في الاستعمال العربي فقوله تعالى " أأمنتم من في السماء " يجب أن يعلم ذلك لاستحالة كون الله سبحانه وتعالى مظروفا في خلق من مخلوقاته ، كيف يكون الرب العظيم سبحانه الذي خلق السماوات كيف يكون في داخل السماوات ؟ إذن أي عربي لم تتغير فطرته يفهم من قوله " أأمنتم من في السماء " العلو فقط أي أأمنتم من في العلو ليس في داخل السماوات .(15/5)
(ولو قال قائل العرش فى السماء أو فى الارض) لو سأل سائل العرش في السماء أم في الأرض ، ماذا يقال في الجواب ؟ (لقيل فى السماء) وهل يراد بقوله في السماء ، من يقول إن العرش في السماء هل يريد أنها في داخل هذه الأجرام ؟ لا ، مستحيل لأن عرش الله أعظم المخلوقات على الإطلاق لا نقول من أعظم المخلوقات بل أعظم المخلوقات على الإطلاق أعظم من السماوات كلها ، إذن مستحيل أن يكون العرش داخل السماوات .
(ولو قيل الجنة فى السماء أم فى الأرض لقيل الجنة فى السماء) الجنة عرضها السماوات إذن مستحيل أن تكون الجنة داخل هذه الأجرام إذن معناه في العلو ز
(ولا يلزم من ذلك ان يكون العرش داخل السموات بل ولا الجنة) بل فوق ذلك كله كل من العرش والجنة فوق السماوات ، إذن معنى الجنة في السماء والعرش في السماء أي في العلو ، السماء كل ما على وارتفع .
(فقد ثبت فى الصحيح) ما يؤيد هذا المعنى أو يؤخذ منه هذا المعنى (عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال(إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة وسقفها عرش الرحمن ) ) إذن الجنة فوق السماوات وفوق الكرسي ليس فوق الجنة إلا العرش ، سقف الجنة عرش الرحمن كل هذا يقال فيه في السماء ، الكرسي في السماء والعرش في السماء والجنة في السماء لا يفهم من هذا أنها داخل هذه الأجرام المبنية السماوات السبع بل فوق ذلك .
(فهذه الجنة سقفها الذى هو العرش فوق الافلاك) كلها فوق السماوات ، جميع الأفلاك التي فوقنا العرش فوق ذلك (مع ان الجنة فى السماء والسماء يراد به) إذن (العلو سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها) فقطعا فوق الأفلاك ، العرش فوق الأفلاك والجنة فوق الأفلاك والعرش فوق ذلك .
(قال تعالى (فليمدد بسبب الى السماء)) أي إلى العلو .(15/6)
(وقال تعالى (وانزلنا من السماء ماءا طهورا)) السماء هنا السحاب ليس الأجرام ، " وأنزلنا من السماء " أي من السحاب " ماء طهورا " السماء قد يطلق أحيانا حتى على الماء نفسه ، المطر إذا نزل يقال نزل السماء أي المطر ، يطلق لفظ السماء على المطر ويطلق على السحاب ويطلق على كل ما علا ويطلق على الأجرام السبعة المعروفة ويطلق على ما فوق ذلك كالعرش والجنة وغير ذلك ، كل ما علا فرق رأسك فهو سماء ويفرق بينهما بالقرينة والسياق سياق الكلام والقرائن التي تحيط بالنصوص هي التي تفسر المراد .(15/7)
(وكذلك الجارية لما قال لها) الجارية لصحابي يقال له معاوية بن الحكم هذه الجارية قصتها بالنسبة لمن لم يسمع من قبل جارية لمعاوية بن الحكم أحد الصحابة السلمي كانت راعية لغنمه بجوار جبل أحد وفي ذات مرة رأى من بعيد بأن ذئبا أخذ شاة من غنمه وهي غافلة ، غفلت الجارية فأخذ الذئب شاة من غنمها فجاء هذا الصحابي غضبان فلطمها لطمة شديدة ثم تندم وجاء عند النبي صلى الله عليه وسلم ليستشيره في عتقها ليكون ذلك كفارة لما فعل من الظلم فطلب النبي عليه الصلاة والسلام إتيانها فأتت فاختبرها النبي عليه الصلاة والسلام اختبر إيمانها بسؤالين اثنين فقط ، انتبه ، السؤال الأول " أين الله " ، قال لها " أين الله " يستعظم الأشعري الآن عندما يسمع كلمة " أين الله " عند الأشاعرة اليوم يعتبر جريمة السؤال عن الله بأين ، لا يسأل عن الله بأين عندهم علما بأن الذي جاءنا بهذا الدين محمد رسول الله سأل جارية عامية لم تقرأ قط سألها هذا السؤال قال لها أين الله علما منه عليه الصلاة والسلام بأنها على الفطرة ، من لم تتغير فطرته يعتقد بأن الله في العلو لذلك قالت الجارية في الجواب لما قال لها أين الله قال (في السماء) قال لها " من أنا " قالت "أنت رسول الله " عليه الصلاة والسلام فقال " اعتقها فإنها مؤمنة " شهد لها بالإيمان لأنها عرفت ربها والذين يعتقدون الآن بأن الله في الأرض معنا وفي كل مكان وفي كل شيء ، الذين يقولون الله في كل مكان لم يعرفوا ربهم لم يؤمنوا بربهم الله إنما يعلم بالفطرة أنه يدعى من فوق ويخاف من فوق قالت الجارية " في السماء " وشهدت لرسول الله عليه الصلاة والسلام بأنه رسول الله فشهد لها بالإيمان ، لذلك من تلفظ لا إله إلا الله محمد رسول الله وإن كان قبل ذلك كافرا يكف عنه ، لأن هذه الكلمة معنى كلام الجارية يؤخذ من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله أي آمنت بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حتى يختبر هل(15/8)
قال ذلك تقية أو قال ذلك من قلبه يعرف فيما بعد ، أما عندما ينطق الإنسان هذه الكلمة لو رفعت سيفا على كافر قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وجب عليك الكف لا يجوز قتله يحتمل أنه قال ذلك تقية ليحفظ ماله ودمه ، تتركه وإن تبين منه بعد ذلك أنه يتهرب من الصلاة ومن تعاليم الإسلام ويتكاسل يعرف أنه قال ذلك تقية يقتل ردة وإن استسلم ووجدنا منه الإقبال على الصلاة وما يدل على خوف الله تعالى ومراقبته والحرص على الإسلام والندم على ما قدم شهدنا له بالإيمان .
الشاهد معرفة العبد بأن الله في السماء أي في العلو لا في داخل الأجرام من الإيمان ، واعتقاد بأن الله في كل مكان يتنافى مع الإيمان ومع معرفة الله سبحانه وتعالى .
(قالت فى السماء إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها) هذا ما لا يتبادر إلى عقل إنسان على الفطرة وعقله سليم صريح وإنما يتبادر هذا عند من درس علم الكلام أو جلس أمام أستاذ أشعري .
(واذا قيل العلو) الله في العلو ، الله فوق السماوات ، الله فوقنا (فانه يتناول ما فوق المخلوقات كلها) لفظة العلو يتناول ما فوق المخلوقات كلها .
(فما فوقها كلها هو فى السماء) ما فوق المخلوقات كلها يقال له في السماء .
(ولا يقتضى هذا ان يكون هناك ظرف وجودى يحيط به) سبحانه وتعالى ، ليس هناك طرف وجودي كالسماوات السبع وغيرها يحيط برب العالمين .
(اذ ليس فوق العالم شىء) إذا آمنت بأن الله فوق العالم كله ليس هناك شيء يحيط بالله (اذ ليس فوق العالم شىء) غير الله سبحانه وتعالى .
(كما لو قيل إن العرش فى السماء فإنه لا يقتضى) كما تقدم (أن يكون العرش فى شىء آخر موجود مخلوق) بل العرش فوق الجنة وسقف الجنة كما تقدم .(15/9)
(واذا قدر ان السماء المراد بها الافلاك) عندما تقرأ قوله تعالى " أأمنتم من في السماء " إذا أردت أن تفهم من هذه السماء الأفلاك يتغير معنى (في) ، (في) إما يبقى هذا الحرف على ظرفيته إذا أردت بالسماء العلو ، (في) أي في العلو ، حرف (في) يبقى على...
الشريط السابع عشر :
(كما لو قيل إن العرش فى السماء فإنه لا يقتضى) كما تقدم (أن يكون العرش فى شىء آخر موجود مخلوق) بل العرش فوق الجنة وسقف الجنة كما تقدم .
(واذا قدر ان السماء المراد بها الافلاك) عندما تقرأ قوله تعالى " أأمنتم من في السماء " إذا أردت أن تفهم من هذه السماء الأفلاك يتغير معنى (في) ، (في) إما :
- يبقى هذا الحرف على ظرفيته إذا أردت بالسماء العلو ، (في) أي في العلو ، حرف (في) يبقى على الظرفية إذا أردت بالسماء العلو .
- وإن أردت بالسماء الأفلاك (كان المراد انه عليها) أي يكون حرف (في) بمعنى (على) " أأمنتم من في السماء " أأمنتم من على السماء .
لا يقولن قائل إنكم أولتم وأنتم تحاربون التأويل ، الجواب : هذا ليس بتأويل ، حروف الجر تتناوب ، الحروف تتناوب يفسر حرف بحرف وهذا أسلوب عربي معروف قبل نشأة علم الكلام .
" أأمنتم من في السماء " إذن يجب أن نفهم بمفهومين اثنين ، إذا أردت بالسماء " أأمنتم من في السماء " يجوز أن يراد بالسماء العلو وتبقى (في) على بابها ، أأمنتم في العلو ، المراد بالعلو فوق العالم كله ، ليس هناك ظرف يحيط برب العالمين إذ ليس فوق العالم شيء موجود غير رب العالمين ، أو " أأمنتم في السماء " يراد بالسماء الأفلاك ، الأجرام وتكون (في) بمعنى (على) أأمنتم من على السماء من على الأفلاك ، وهل لذلك نظائر في كتاب الله تعالى ؟
نعم (كما قال) حكاية عن قول فرعون ((ولأصلبنكم فى جذوع النخل ) ) ما معنى " في جذوع النخل " ؟ أي على جذوع النخل ، ليس معنى ذلك أنه يشق فيصلبهم في داخل جذوع النخل ، لا ، إنما فوق .(15/10)
(( فسيروا فى الارض ) ) سيروا في الأرض معناه سيروا على وجه الأرض وليس معنى ذلك احفروا الأرض فادخلوا فيها فامشوا في داخلها ، لا ، لا يفهم عربي هذا المعنى أبدا ، ولو حاول الإنسان أن يفعل هذا لتكلف ، " فسيروا في الأرض " أيما إنسان يسمع (سيروا في الأرض) يفهم أنه امشوا على وجه الأرض .
(( فسيحوا فى الارض ) ) كذلك .
إذن ليس هنا تأويل وإنما هو تفسير ، تفسير حرف بحرف للبيان ، ليس كل تأويل مذموما ، التأويل المذموم التأويل الذي هو بمعنى التحريف كما سيأتي إن شاء الله تفصيل ذلك ، أما التأويل الذي بمعنى التفسير والبيان هذا هو المتبع عند المفسرين .
(ويقال فلان فى الجبل) ما معنى فلان في الجبل؟ أي على الجبل ليس أنه داخل فيه ، فهو جالس في رأس الجبل وأنت تقول فلان في الجبل بمعنى على الجبل .
(وفلان في سطح البيت) أي على سطح البيت (وإن كان على أعلى شىء) منه والمعنى واضح .
نعم .
نكتفي بهذا المقدار .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(15/11)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(الوجه الأول من الشريط السابع عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وبهذا يتبين ان التشابه يكون فى الالفاظ المتواطئة كما يكون فى الالفاظ المشتركة التى ليست بمتواطئة وان زال الإشتباه بما يميز احد النوعين من اضافة أو تعريف كما اذا قيل فيها انهار من ماء فهناك قد خص هذا الماء بالجنة فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من التأويل الذى لا يعلمه إلا الله وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذى يختص بها التى هى حقيقة لا يعلمها إلا هو،ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال الإمام احمد فى كتابه الذى صنفه فى الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر فى ذلك ما يشتبه عليهم معناه وان كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على انهم تأولوه على غير تأويله ولم ينف مطلق التأويل كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله تعالى به فذلك لا يعاب بل يحمد ويراد بالتأويل الحقيقة التى إستأثر الله بعلمها فذاك لا يعلمه الا هو وقد بسطنا هذا فى غير هذا الموضع ومن لم يعرف هذا إضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره ويحتجون بقوله تعالى ( وما يعلم تأويله الا الله ) ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل وهذا تناقض منهم لأن هذه الآية تقتضى ان هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل مطلقا)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(16/1)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وبهذا يتبين ان التشابه يكون فى الالفاظ المتواطئة كما يكون فى الالفاظ المشتركة التى ليست بمتواطئة) عند هذه العبارة قلنا لا بد من التفصيل في هذه الألفاظ التي أشار إليها الشيخ (وبهذا يتبين ان التشابه يكون فى الالفاظ المتواطئة كما يكون فى الالفاظ المشتركة التى ليست بمتواطئة) ما هي الألفاظ المتواطئة وما هي الألفاظ المشتركة ؟ وهل هناك ألفاظ أخرى ؟ هذا مما ينبغي أن يعرفه طالب العلم . النسب بين الألفاظ كالآتي :
- أولا : الترادف : الألفاظ المترادفة ما اختلف لفظة واتحد معناه ، إذا قيل هذا اللفظ مترادف مع اللفظ الفلاني معناه ما اختلف لفظه واتحد معناه كالليق والأسد والغضنفر ، والسيف والصارم ، هذه الألفاظ وإن اختلفت الألفاظ المعاني واحدة ، هذا يقال له مترادف .
- وهناك الاشتراك : اللفظ المشترك ما اتحد لفظه واختلف معناه كالعين والقرء ، العين تطلق على العين الباصرة وعلى العين الجارية وعلى الذهب ، والقرء يطلق على الحيض وعلى الطهر ، هذا يقال من الألفاظ المشتركة أي يتحد اللفظ ويختلف المعنى ، فالاشتراك من حيث اللفظ لا من حيث المعنى .
- وهناك ألفاظ متباينة : ما اختلف لفظه ومعناه ، كالسماء والأرض والجبل والنهر والبقر والجمل هذه الألفاظ متباينة لفظا ومعنى .
- وهناك ألفاظ متواطئة – هذا هو محل الشاهد - : ما اتفق لفظه ومعناه ينقسم إلى قسمين :
* متواطئ ، هذا اللفظ يسمى متواطئا ولكنه لا بد أن يقسم : قد يكون متواطئا مطلقا إن كان المعنى متساويا ، يقال له المتواطئ المطلق ، مثل لفظ الرجل يطلق على زيد وعلى عمرو والمعاني متساوية معنى الرجولة في زيد وفي عمرو متساوية وإن حصل التفاضل في بعض الصفات كالكرم والشجاعة هذا أمر زائد على معنى الرجولة لكن معنى الرجولة فيهما متحد متساوي .(16/2)
* وإن كان المعنى متفاوتا ومتفاضلا يقال له الألفاظ المشككة كالنور ، لفظ النور للشمس والسراج ، لفظ النور يطلق على الشمس ويطلق على ذلك السراج الضعيف وبينهما من التفاوت والتفاضل ما لا يخفى هذا يقال له من الألفاظ المشككة ، فلذلك اشتراك لفظ العلم أو العالم مثلا على علم الله تعالى وعلم المخلوق يعتبره بعضهم من هذا الباب من الألفاظ المشككة للتفاوت والتفاضل بين علم الخالق وعلم المخلوق .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى الاشتراك أو الاشتباه (يكون فى الالفاظ المتواطئة) سواء كان التواطؤ متساويا أو بالتفاوت (كما يكون فى الالفاظ المشتركة) كما شرحنا (التى ليست بمتواطئة وان زال الإشتباه بما يميز احد المعنيين من اضافة أو تعريف كما اذا قيل (فيها انهار من ماء) ) (فيها) هذا الضمير هو الذي يميز أي الحديث عن الماء الذي في الجنة (فيها أنهار من ماء) وإلا لفظ الماء يشترك فيه لفظ ماء الجنة وماء الدنيا (فهناك قد خص هذا الماء بالجنة فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا) ما هي الحقيقة الخاصة التي امتاز بها ذلك الماء من هذا الماء (وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) كما جاء ذلك في الحديث المقدسي ، ذلك (من التأويل الذى لا يعلمه إلا الله) إذن الشيء الذي نجهل لا نجهل معنى الماء ولا معنى الخمر ولا معنى العسل لكن حقيقة ذلك العسل وحقيقة تلكك الخمر وذلك الماء أي حقيقة ذلك الماء هو التأويل الذي لا يعمله إلا الله .(16/3)
(وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذى يختص بها والتى هى حقيقة لا يعلمها إلا الله) معنى هذا أننا نفهم معاني الأسماء ومعاني الصفات كما نفهم معنى ماء وعسل وخمر ونجهل حقيقة أسماء الله تعالى وكيفيتها وحقيقة صفات الرب سبحانه وتعالى وكيفيتها كما نجهل حقيقة الماء وحقيقة العسل واللبن والخمر والحرير في الجنة ، وإذا كنا نجهل ولا نتردد في جهلنا لحقيقة موجودات الجنة فلا ينبغي أن نتردد في جهلنا وعجزنا عن إدراك حقائق الصفات وحقائق الأسماء وحقيقة الذات .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره) من أئمة أهل السنة الذين تكلموا في هذا الباب وردوا على أهل الباطل .(16/4)
(ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله) إذن الشيء الذي أنكروه (تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله) وهو التحريف ، التأويل المذموم الذي ذمة الأئمة وأنكروا على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هو تأويلهم القرآن على غير تأويله أي صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يدّعى وذلك الدليل هو شيء واحد عند الجميع ، عند الذين ينفون جميع الصفات والذين ينفون بعضها أو عند الذين ينفون ويؤولون الأسماء والصفات مطلقا ، الذين لا يثبتون لله سبحانه وتعالى إلا الوجود المطلق الذهني وهم الجهمية أو الذين يفرقون بين الأسماء والصفات ويدعون إثبات أسماء مجردة لا معنى لها كالأعلام وهم المعتزلة أو الذين يفرقون بين صفات الله تعالى ويتلاعبون بكلام الله حيث يدعون إثبات بعض الصفات على ظاهرها الظاهر الذي يليق بالله تعالى ثم يدعون وجوب تأويل الباقي باقي الصفات وهم الأشاعرة والماتوريدية ، قسموا من عندهم نصوص الصفات إلى قسمين : قسم يجب إمراره وإجراؤه على ظاهره كما يليق بالله تعالى من ذلكم الصفات السبع التي تدعي الأشاعرة أو تسمي صفات المعاني ، هذه الصفات كالقدرة والإرادة والسمع والبصر والحياة والكلام مع ما في الكلام من الكلام الطويل والتفصيل كما تعلمون يدعون يجب إجراء هذه الصفات أو نصوص هذه الصفات على ظاهرها ولا يجوز تأويلها ، وإذا قيل لهم أي ظاهر هذا ؟ قالوا الظاهر الذي يليق بالله ، وإذا جاء ذكر الوجه واليدين وذكر الاستواء والمجيء والنزول قالوا يجب تأويلها وجوبا ، ما الفرق بينهما ؟ لماذا فرقتم بين ما جمع الله ؟ ما الذي أذن لكم في هذا التفريق ؟ قالوا الاستحالة العقلية ، كما قالت الجهمية من قبل الاستحالة العقلية هي التي أوجبت نفي الأسماء والصفات معا وقالت المعتزلة الاستحالة العقلية هي التي أوجبت نفي الصفات دون الأسماء زعمت(16/5)
الأشعرية أن الاستحالة العقلية هي التي أوجبت هذا التفريق ، يستحيل عقلا إثبات الوجه واليدين مثلا لله ويجب عقلا إثبات القدرة والإرادة والسمع والبصر إلى آخر الصفات ، إذن العمدة الدليل العقلي وأعرضوا جميعا عن النصوص ، بهذا اختلفوا وتضاربوا ورد أهل السنة على الجميع على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ، ودعوى الأشاعرة إلى يومنا هذا أنهم من أهل السنة والجماعة تناقض ، أهل السنة والجماعة لا يتناقضون ولا يجرؤون على كتاب الله تعالى بهذا التلاعب .
(كما قال الإمام احمد فى كتابه الذى صنفه فى الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله) رد عليهم ردا وناقشهم مناقشة عقلية وسمعية ، من راجع الكتاب يدرك أن سلفنا يجيدون المناقشة العقلية كما يجيدون المناقشة بالأدلة النقلية ، ودعوى المتأخرين بأن السلف لا يستعملون الأدلة العقلية يسردون النصوص سردا هذا اتهام باطل .
(وإنما ذمهم) الإمام ، وفي بعض العبارات أو في بعض النسخ (وإنما ذموهم) الأئمة .
(لكونهم تأولوه) تأولوا القرآن (على غير تأويله وذكر فى ذلك ما يشتبه عليهم معناه وان كان لا يشتبه على غيرهم) هذا يعتبر المتشابه النسبي ، متشابه بالنسبة لمن يفهم واشتبه عليه الأمر ومحكم بالنسبة لغيره .(16/6)
(وذمهم على انهم تأولوه على غير تأويله ولم ينف مطلق التأويل) ولم ينف الإمام أحمد أو لم ينفوا الأئمة مطلق التأويل (كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله تعالى) هذا الذي يجب أن يفهمه طلاب العلم ويحفظوه معاني التأويل ، من عرف إطلاق التأويل ومعاني التأويل لا يشتبه عليه الأمر ، التأويل المذموم الذي ذمه الأئمة وأنكروا على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هو التأويل الذي يعرفه الأصوليون اليوم :صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ، أي التحريف بأن يقولوا " الرحمن على العرش استوى " معناه استولى ، الاستواء بمعنى الاستيلاء وبمعنى السلطان وبمعنى الملك ومعنى الهيمنة ، بمعنى واحد ، هذه الألفاظ كلها تؤدي معنى واحد نفي استواء الله تعالى بذاته على عرشه ، لماذا ؟ لأن العقل يحيل ذلك ، والقرآن أثبت ، قالوا لا ، ما أثبته القرآن لا بد من عرضه على العقل ، لذلك قال قائلهم :
وكل نص أوهم التشبيها .. أوله أو فوض ورم تنزيها
(وكل نص أوهم التشبيها) عندهم النص يتهم بأنه قد يوهم التشبيه ، قد ينزل الله في الكتاب في زعمهم نصا يوهم تشبيه الله تعالى بخلقه أي نصا يدل على ما لا يليق بالله ، ومن الذين يصححون هذه النصوص؟
علماء الكلام .
ومتى نشأ الكلام في الإسلام ؟
في عهد العباسيين .
الصحابة والذين عاشوا في عهد الأمويين لا يعلمون لهذا معنى ولم يذكر لديهم شيء ، بمعنى : أن المسلمين من العهد الأول إلى عهد العباسيين بل إلى عهد الخليفة السابع المأمون إلى هذا العهد ما كانوا يفهمون هذه المعاني التي صححت بها الأشاعرة ومن معهم معاني هذه النصوص لأن (استوى) في زعمهم لو أثبت على ظاهره الاستواء لا يخلو من أحد الاحتمالات الثلاثة :
- المستوي على الشيء إما أن يكون مثل ذلك الشيء .
- أن يكون أكبر منه .
- أو أصغر منه .(16/7)
هذه الاحتمالات كلها باطلة وما يؤدي إلى الباطل فهو باطل إذا إبقاء " الرحمن على العرش استوى " على ظاهره باطل عندهم ، وهل هذا يفسر بأنهم يؤمنون بهذا القرآن ؟
لا.
نصوص الصفات لا يؤمنون بها الإيمان المطلوب بل بعد تأويلها إلى المعاني التي يريدونها ، بعد ذلك يثبتون لا لأن النصوص أثبتت ما أثبتوا بل لأن الدليل العقلي أثبت ، أي عندما تثبت الأشاعرة العلم مثلا لم يثبتوا العلم بالكتاب والسنة وكذلك بقية صفات المعاني ولكن أثبتوها لأن الدليل العقلي يثبت ذلك ، ثم نفوا وأولوا الصفات الأخرى لأن الدليل العقلي يحيل ذلك ، هكذا تصرفوا في هذه النصوص .
لذلك يقول الشيخ (وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله) أي بهذا التحريف الذي أشرنا إليه ومثلنا بالاستواء .(16/8)
(وذكر فى ذلك ما يشتبه عليهم معناه وان كان لا يشتبه على غيرهم) نصوص الصفات " الرحمن على العرش استوى " " وجاء ربك " " أأمنتم من في السماء " إلى غير ذلك هذه النصوص ليست من المتشابه عند أهل السنة والجماعة من حيث المعنى الاشتباه هنا من حيث الحقيقة والكنه وإلا من حيث المعنى محكم ، لأن الفعل (استوى) والفعل (جاء) و (يصعد) و (ينزل) هذه المعاني معلومة من وضع الكلمة ولا تحتاج إلى تفسير لذلك من يسأل ما معنى (استوى) وما معنى (جاء) وما معنى (ينزل) ؟ كيف تفسر له ؟ تقول النزول ضد الصعود فقط تفسر المعنى بضده بذكر ضده ، وإلا لا تستطيع أن تفسر هذه المعاني ، هذا مثل الذي يسأل ما هو الماء ؟ الماء هو الماء والنزول هو النزول والمجيء هو المجيء ليس هناك تفسير آخر ولكن إنما لو سئلت ما حقيقة (استوى) أو كيف (استوى) كيف (يجيء) كيف (ينزل) كيف (علمه) ؟ هذا السؤال الذي ورد على الإمام مالك فأجاب فيجب أن نجيب بما أجاب به الإمام مالك اليوم وبعد اليوم : الاستواء معلوم والنزول معلوم والمجيء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن كيفية هذه الصفات بدعة ، فينبغي أن ينكر على من يأتي بهذه البدعة .(16/9)
(ولم ينف مطلق التأويل) النفي لمطلق التأويل يوقعك في التناقض ، ومن قال لا يعرف لهذه الصفات تأويل ، من يقول مثلا اليد لا تأويل لها ، الوجه لا تأويل له ، واستوى لا تأويل له أي لا معنى له ، إن كان يريد (لا تأويل له) لا معنى له تناقض ، بعد أن ادعيت أنه لا معنى قولك يبقى على ظاهره أي ظاهر ؟ وأنت نفيت المعنى ؟ هذا تناقض ، والاستدلال على هذا الخطأ بقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله" تناقض آخر ، نفيت المعنى ، وما هو هذا التأويل المنفي بقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " ؟ إذن أثبت المعنى ثم أثبت أن هناك تأويلا آخر غير المعنى لا يعلمه إلا الله ، أثبت بأنك تعلم معنى استوى وتعلم معنى جاء ومعنى نزل إلى غير ذلك ثم تنفي جهلك حقيقة الاستواء وحقيقة المجيء وحقيقة النزول وأن هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله .
وعلى هذا كما تقدم التأويل يأتي بمعنى (التفسير المبين لمراد الله تعالى) وهو الذي يعلمه الراسخون وهو المراد عند المفسرين إذا قالوا (تأويل الآية الفلانية كذا وكذا) .
وتأويل بمعنى (الحقيقة) هذا التأويل هو الذي لا يعمه إلا الله سبحانه وتعالى .
التأويل بمعنى التفسير وبمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام .
أما التأويل الثالث وهو المذموم بمعنى التحريف ، كلما ذكر التأويل في معرض الذم المراد به هذا ، ولا يجوز للإنسان أن يقول في بعض النصوص لا تأويل لها أو لا معنى لها .
و(يراد به التفسير المبين لمراد الله تعالى به فذلك لا يعاب) التفسير (بل يحمد) إذا كان بمعنى التفسير لا يعاب التأويل إذا كان بمعنى التفسير .
(ويراد بالتأويل الحقيقة التى إستأثر الله بعلمها فذاك لا يعلمه الا هو) كما مثلنا .(16/10)
يقول الشيخ رحمه الله (وقد بسطنا هذا فى غير هذا الموضع) بسطه في غير موضع في هذا الكتاب وفي غير هذا الكتاب ، وكتب شيخ الإسلام أكثرها في الرد على الأشاعرة في هذا المعنى كهذه الرسالة والواسطية والحموية ودرء التعارض وغير ذلك .
قال الشيخ رحمه الله (ومن لم يعرف هذا) هذا التفصيل (إضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل) ويطلقون هذا الإطلاق ، هذا خطأ ، من قال إن التأويل باطل فأطلق فقط أخطأ ، إذا أراد أن يحكم على التأويل بأنه باطل يجب أن يبين مراده بهذا التأويل الباطل ، التأويل الباطل هو الذي بمعنى التحريف كما تقدم .
(وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره) إذا كان التأويل باطلا فأطلقت ثم قلت يجب إجراء اللفظ على ظاهره ما معنى هذا ؟
هذا تناقض ، أي ظاهر تعني ؟ الظاهر الذي يليق بالله تعالى ؟ هذا صح ولكن التعبير خطأ ، وإن كنت تريد بالظاهر و(يجب إجراء اللفظ على ظاهره) هذا يقوله من يثبت التأويل بمعنى التفسير وبمعنى الحقيقة يقول (يجب إجراء اللفظ على ظاهره) أي الظاهر الذي يليق بالله تعالى ، اللفظ بظاهره لا يدل إلا على المعاني التي تليق بالله تعالى ، ومن زعم أن في القرآن توجد ألفاظ تدل على ظاهر لا يليق بالله تعالى حتى يؤول ويصحح وهذا باطل كما تقدم في البيت الذي استشهدنا به للأشاعرة :
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها
التفويض المذموم هو تفويض المعنى مع الحقيقة وهو التفويض المطلق ، من يقول إن معنى " الرحمن على العرش استوى " يفوض إلى الله فأطلق هكذا فقد أخطأ ، المعاني لا تفوض لأننا أمرنا بتدبر القرآن كله ولكن المفوض الحقيقة والكنه .(16/11)
(ومن لم يعرف هذا) هذا التفصيل (إضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره ويحتجون بقوله تعالى (وما يعلم تأويله الا الله) ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل) مطلقا وهذا خطأ بين وإنما يستدل بهذه الآية على التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهو الحقيقة ، حقيقة الذات وحقيقة الأسماء وحقيقة الصفات .
(وهذا تناقض منهم لأن هذه الآية تقتضى ان هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل مطلقا) الآية تثبت التأويل إلا أنها تنفي أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله أي هناك حقيقة لا يعلمها إلا الله ولكن التفسير كما تقدم معلوم لدى أهل العلم ولم يبق إلا التأويل المذموم الذي هو التحريف .(16/12)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(الوجه الثاني من الشريط السابع عشر إلى الوجه الأول من الشريط الثامن عشر)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((( الثانى ) أن التأويل بمعنى التفسير وهذا هو الغالب على إصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول إبن جرير وأمثاله من المصنفين فى التفسير واختلف علماء التأويل ومجاهد إمام المفسرين قال الثورى اذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به وعلى تفسيره يعتمد الشافعى وأحمد بن حنبل والبخارى وغيرهم فاذا ذكر انه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره ( الثالث ) من معانى التأويل هو الحقيقة التى يؤول اليها الكلام كما قال الله تعالى ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) فتأويل ما فى القرآن من أخبار المعاد هو ما اخبر الله تعالى به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك كما قال فى قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته فقال ( ياأبت هذا تأويل رؤياى من قبل ) فجعل عين ما وجد فى الخارج هو تأويل الرؤيا والتأويل الثانى هو تفسير الكلام وهو الكلام الذى يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله وهذا ( التأويل الثالث ) هو عين ما هو موجود فى الخارج ومنه قول عائشة رضي الله عنها ( كان النبى يقول فى ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى ) يتأول القرآن تعنى قوله ( فسبح بحمد ربك واستغفره ) وقول سفيان بن عيينة السنة هى تأويل الامر والنهى فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الامر به ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر والكلام خبر وأمر ولهذا يقول أبو عبيد وغيره الفقهاء أعلم بالتأويل من اهل اللغة كما ذكروا ذلك فى تفسير اشتمال الصماء لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعلم أتباع(17/1)
بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما ما لا يعلم بمجرد اللغة ولكن تأويل الأمر والنهى لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
قسم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى معنى التأويل وذكر أنه يستعمل في ثلاثة معانٍ :
المعنى الأول هو ما عليه المتأخرون من المتكلمين والأصوليين وغيرهم وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يدعى سواء كان ذلك الدليل مقبولا أو مردودا ، وهذا هو المعروف عند المتكلمين وعند علماء الأصول وخصوصا المتأخرين منهم ، تقدم الكلام على ذلك .
وثانيها أي ثاني المعنى (أن التأويل بمعنى التفسير وهذا هو الغالب على إصطلاح المفسرين للقرآن) المفسرون للقرآن التأويل في لغتهم بمعنى التفسير والبيان والإيضاح .
(كما يقول إبن جرير وأمثاله من المصنفين فى) علم (التفسير) يقول ابن جرير مثلا فتأويل قوله تعالى كذا وكذا ومعنى ذلك أي تفسير قوله تعالى .
(واختلف علماء التأويل ومجاهد إمام المفسرين قال الثورى) في حقه (اذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به) هذا التفسير هو التأويل أو هذا التأويل هو ذاك التفسير (وعلى تفسيره يعتمد الشافعى وأحمد بن حنبل والبخارى وغيرهم) لأنه هو الذي عرض المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره ثلاث عرضات ، يقف معه عند كل آية فيسأل عنها .
(فاذا ذكر انه يعلم تأويل المتشابه) إذا ذكر أهل العلم بأن ابن عباس يعلم تأويل المتشابه أو إذا ذكر هو بأنه يعلم تأويل المتشابه (فالمراد به معرفة تفسيره) كذلك المراد بالمتشابه المتشابه النسبي أما المتشابه المطلق كحقائق الصفات وحقيقة ذات الرب سبحانه وتعالى وحقائق ما في المعاد هذه لا يعلمها إلا الله ، المتشابه الذي يعلمه مجاهد وشيخه ابن عباس وغيرهما من الراسخين في العلم هو تفسير المتشابه النسبي الذي يجهله غيرهم وأمثالهم ، هذا هو المشهور في اصطلاح المفسرين من معنى التأويل .(17/2)
((الثالث)من معانى التأويل هو الحقيقة التى يؤول اليها الكلام) تلك الحقائق نفسها بذواتها هي التأويل .
(كما قال الله تعالى) في حق الكفار ((هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتى تأويله)) أي جحودهم لآيات الله تعالى يأتي نتيجة ذلك ((يقول الذين نسوه من قبل) ) النسيان هنا بمعنى الترك ، الفعل (نسي) يستعمل في معنيين وكل من المعنيين حقيقة لا مجاز :
- (نسي) بمعنى غفل ، النسيان بمعنى الغفلة والذهول هذا هو المشهور .
- النسيان بمعنى الترك والإعراض .
الذي هنا بمعنى الترك والإعراض ((يقول الذين نسوه من قبل)) تركوا وأعرضوا عن ذلك ((قد جاءت رسل ربنا بالحق)) يعترفون الآن ما أعرضوا عنه وجحدوه من قبل ، هذا هو التأويل ، ظهور هذه الحقيقة هو التأويل .
(فتأويل ما فى القرآن من أخبار المعاد) المعاد ما بعد الموت من البعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وما فيهما كل هذا شؤون المعاد .
(فتأويل ما فى القرآن من أخبار المعاد هو ما اخبر الله تعالى به فيه) أي في المعاد ، ما سيقع ، ما يشاهده العباد بعد البعث من الحوض وهو أول مورد يردونه عندما يقوم الناس من قبورهم عطاشا ثم الميزان والحساب وما يتبع ذلك كل هذا من أخبار المعاد .
(من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك كما قال) الرب سبحانه وتعالى ، أي هذه الحقائق هي التأويل ، تأويل أخبار المعاد تلك الحقائق التي سوف يشاهدها العباد ولا يعلمون قبل ذلك ، قبل ذلك لا يعلم تأويلها إلا الله ، تلك الحقائق لا يعلمونها وقد يسمعون عنها ويعرفون أسماءها لكن لا يعلمون تلك الحقائق حتى يشاهدوها .
(كما قال) الرب سبحانه وتعالى (فى قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته قال (وقال ياأبت هذا تأويل رؤياى من قبل)) يقول يوسف للأسرة التي سجدت له سجود تحية لا سجود عبادة (هذا تأويل رؤياى من قبل) ما هي تلك الرؤيا ؟(17/3)
" يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " هكذا رأى يوسف ، وخاف يعقوب مما يترتب على هذه الرؤيا قال له " يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا " ولكن كما قيل لا يمنع الحذر وقوع القدر ، ما خافه يعقوب هو الذي وقع ، كاد له إخوته كيدا عظيما كما هو معروف ولكن الله كاد له " كذلك كدنا ليوسف " من هنا يتبين لطلاب العلم الفرق بين الكيدين ، بين كيد المخلوق وكيد الخالق كلاهما حق ، الله سبحانه وتعالى يكيد لعباده المؤمنين ، ولما كاد إخوة يوسف ليوسف وعرضوه للإهانة والهلاك كاد الله له وحفظه ومرت عليه تلك الأطوار إلى أن جاء يوم قوله (ياأبت هذا تأويل رؤياى من قبل) ما رآه في صغره تحقق الآن ، وقوع هذه الواقعة ، سجود الأبوين والإخوة هو تأويل الرؤيا .
(فجعل عين ما وجد فى الخارج) وهو السجود (تأويل الرؤيا) هذا هو المعروف بالنسبة للحقائق التي يؤول إليها الكلام ، أو هذا المعنى الثالث من معاني التأويل وهو معروف .
(والتأويل الثانى هو تفسير الكلام) يعني شرح لما تقدم (وهو الكلام الذى يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه أو تعرف علته أو دليله) لكلام نفسه هو التأويل ، الكلام الذي يفسر الكلام الغامض فيوضحه هو الذي يقال له التفسير وهو لغة المفسرين كما تقدم .
(التأويل الثالث هو عين ما هو موجود فى الخارج) ليس هو كلام ، إذن التأويل الثاني تفسير الكلام ، كلام يفسر كلاما يقال له تأويل ، الثالث ليس هو كلاما بل عين ما هو موجود في الخارج كالسجود الذي تحدث عنه ...
الشريط الثامن عشر :
(التأويل الثالث هو عين ما هو موجود فى الخارج) ليس هو كلام ، إذن التأويل الثاني تفسير الكلام ، كلام يفسر كلاما يقال له تأويل ، الثالث ليس هو كلاما بل عين ما هو موجود في الخارج كالسجود الذي تحدث عنه .(17/4)
(ومنه قول عائشة رضي الله عنها(كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى ركوعه وسجوده (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى) ) هذا يسمى تأويلا ، هذا العمل ، أي التطبيق والعمل بقوله تعالى ((فسبح بحمد ربك واستغفره)) عمله بهذه الآية وترجمة ذلك عمليا كما يقال يعتبر تأويلا لهذه الآية وتفسيرا لهذه الآية ، وهو ليس بكلام ولكنه عمل ، إذن التفسير قد يكون كلاما وقولا وقد يكون عملا وقد يكون أعيانا موجودة في الخارج ، هذا ملخص التأويل ، كلام يفسر كلاما ، عمل يفسر كلاما ، وأعيان موجودة في الخارج توضح كالرؤية مثلا أو كالرؤية .
(فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الامر به) عندما يقول النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى)) هذا هو تأويل لهذا الأمر وهو المأمور به .
(ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر) كأخبار المعاد كالحساب والميزان والجنة والنار .
(والكلام) كله (خبر وأمر) الكلام ينقسم إلى قسمين خبر وأمر .
(ولهذا يقول أبو عبيد وغيره :الفقهاء أعلم بالتأويل من اهل اللغة) هذا كلام عظيم سيظهر من المثال الآتي .
(الفقهاء أعلم بالتأويل) تأويل نصوص الشريعة بل أحيانا تأويل حتى المفردات إذا جاءت في كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أو في كلام الله (الفقهاء أعلم بالتأويل) .(17/5)
(كما ذكروا ذلك فى تفسير اشتمال الصماء) اشتمال الصماء يقول فيه علماء اللغة عند العرب اشتمال الصماء أن يشتمل الرجل بثوبه فيجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانبا فيخرج منه يده ، معناه يترتب على هذا لو هاجمه أحد يصعب عليه أن يدافع عن نفسه لأنه حبس يديه تحت الثوب الذي اشتمل به ، هذا كل الذي يفهمه علماء اللغة من هذا ، ولكن علماء الشريعة يفهمون من هذا أن اشتمال الصماء قد يؤدي إلى كشف العورة لذلك نهي المصلي أن يشتمل اشتمال الصماء وهو أن يشتمل على ثوب واحد ليس عليه غيره يغطي جسمه كله ويجلل جسده كله بثوب واحد ويداه في داخل الثوب ، وإذا أراد أن يرفع جانبا انكشفت عورته ، هذا المعنى لا يفهمه إلا الفقهاء ، إذن مقصد عندما نهى عن اشتمال الصماء ليؤدي ذلك في النهاية إلى كشف العورة عندما يريد أن يركع أو يسجد أو يتحرك ويرفع هذا الجانب مثلا على كتفه تنكشف عورته ، هكذا يفهم الفقهاء مقاصد معنى التأويل لعلمهم بمقاصد الشارع .
(لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهى عنه) المأمور به ستر العورة والمنهي عنه كشف العورة واشتمال الصماء يؤدي إلى كشف العورة ، لعلمهم هذه المقاصد يعلمون معنى اشتمال الصماء أحسن من علماء اللغة ، اللغويون لهم اعتبار ولكن بهذا الاعتبار الشرعي الفقهاء أعلم. (لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعلم أتباع بقراط) وهو الطبيب اليوناني المعروف (وسيبويه) شيخ النحويين (ونحوهما من مقاصدهم) فهم أعرف من غيرهم ما يعني سيبويه عندما يقسم الكلام وعندما يبين أحكام الفاعل وأحكام المفعول به ويبين ما هي الحال وما هو التمييز يعرفون المقاصد – النحويون وأتباعه – أحسن من غيرهم ، كذلك بقراط في المسائل الطبية التي نجهلها .(17/6)
(لا يعلم بمجرد اللغة ولكن تأويل الأمر والنهى لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر) تأويل الأمر والنهي لأن العباد منهيون ومأمورون لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر ، تأويل الخبر قد يعلم وقد لا يعلم .
نعم اقرأ ..
(إذا عرف ذلك فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الاسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد ولهذا ما يجىء فى الحديث نعمل بمحكمة ونؤمن بمتشابهه لأن ما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه فى الدنيا كما اخبر أن فى الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وخمرا ونحو ذلك وهذا يشبه ما فى الدنيا لفظا ومعنى ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته كحقيقته واسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقته كحقيقته)
قال الشيخ رحمه الله (إذا عرف ذلك) كل الذي تقدم تمهيد وتوطئة لتقرير مسائل الصفات وما يتعلق بحقيقة الذات وما يتعلق بحقائق الأسماء والصفات ويقرب ذلك بالحقائق التي في الجنة .(17/7)
قال (إذا عرف ذلك فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الاسماء والصفات هو حقيقة نفسه) تأويل ما أخبر الله به عن نفسه هو حقيقة نفسه ، هذه الحقيقة لا يعلمها إلا الله وهو أمر متفق عليه عند جميع المؤمنين الذين يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بوجوده الحقيقي لا الذين يجعلون وجوده وجودا مطلقا ذهنيا لا وجود له في الخارج وهم الجهمية أما من بعدهم من المعتزلة والأشاعرة والماتوريدية يوافقون أهل السنة والجماعة في هذه الحقيقة في الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبحقيقة ذاته ولا يبحثون عن الكيفية والحقيقة ، نقطة مهمة يوافق فيها جل أهل الكلام أهل السنة والجماعة وهي الإيمان بحقيقة الذات العلية المقدسة الغنية عن كل شيء وأن وجود الله وجود حقيقي وأن العباد لا يعلمون حقيقة الذات ، هذا محل الاتفاق ، لو وفق أهل الكلام لانطلقوا من هذه الحقيقة في حقائق الصفات لقالوا في الصفات ما قالوا في الذات لم يوفق في هذا إلا السلف وأتباع السلف هم الذين قالوا الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه أي كما آمنا بالله سبحانه وتعالى وبوجوده الحقيقي ولم نبحث عن الكيفية ولم نحاول تكييف الذات العلية كذلك لا يجوز لنا أن نبحث عن حقائق الصفات ونحاول تكييف صفاته تعالى لتكون النتيجة إما التشبيه وإما الإنكار ، هذه الحقيقة كما قلنا اتفق جل أهل الكلام مع أهل السنة والجماعة .
(هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد) العذاب والنعيم وما سيجري في الآخرة هي تلك الحقائق ، تأويل الوعد والوعيد .
(ولهذا ما يجىء فى الحديث نعمل بمحكمة) الواضح الذي لا لبس فيه ولا غموض .(17/8)
(ونؤمن بمتشابهه) إذا كان هناك متشابه لا يظهر معناه جليا إلا للراسخين نؤمن فنقول آمنا برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء به رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام .
(ونؤمن بمتشابهه لأن ما اخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه فى الدنيا) تشبه المعاني قد تكون المعاني متفقة والألفاظ متحدة والمعاني العامة متفقة والحقائق تختلف .
(كما اخبر أن فى الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وخمرا) هذه حقائق لها معان وحقائق نعلمها في الدنيا ولها في الجنة معان وحقائق لا نعلمها كما قال عبد الله بن عباس (ليس في الدنيا عما في الجنة إلا الأسماء) لبن لبن ، خمر خمر ، عسل عسل ، لكن حقيقة ذاك العسل ليس كحقيقة العسل الذي عندنا والذي نعلمه نعلم مادته من أين يصدر وهذه الكمية الضئيلة ليست كتلك الأنهار ، هناك أنهار من عسل وأنهار من خمر وأنهار من لبن من أين هذه الأنهار من أين تمد ما مادتها ما حقيقتها ؟ مجرد الاتفاق في الاسم والمعنى العام أما الحقائق فتختلف ، هذا من المتشابه .
(وهذا يشبه ما فى الدنيا لفظا ومعنى) لفظا : لبن لبن المعنى هي المادة الحلوة السائلة لكن تلك المادة من أي شيء وما مدى حلاوة تلك المادة ؟ لا نعلم .(17/9)
(ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته كحقيقته) فإذا كانت المخلوقات تتفق في الأسماء وفي المعنى العام وتختلف حقائقها فكيف يقال إذا اتفقت صفات الله تعالى مع صفات خلقه في الاسم وفي المعنى العام علم بعلم وسمع بسمع واستواء باستواء كيف يقال لا بد أن يكون العلم كالعلم والسمع كالسمع والاستواء كالاستواء والنزول كالنزول ؟ مستحيل ، وقد ثبت في المخلوقات مخلوقات تتفق في الاسم والمعنى وتختلف في الحقائق وهذا أمر واضح ، إذن لا يستبعد أن تتفق صفات الله مع صفات خلقه في الاسم وفي المعنى العام وتختلف الحقائق ، إن النصوص نصوص الصفات إنما تتحدث عن صفات الله تعالى فإذا آمنت بأن الله في ذاته لا يشبه المخلوقات ثم حدث الله عن نفسه ووصف نفسه بنفسه بصفات يجب أن يفهم العاقل أن تلك الصفات تخالف صفات المخلوقين لأن الله في ذاته يخالف المخلوقين إذن يجب أن تخالف صفاته صفات المخلوقين ، لا يخدعنك مجرد الاتفاق في الاسم والمعنى العام ، انظر إلى الإضافة " الرحمن على العرش استوى " إنما أخبرنا عن استوائه ، " ينزل ربنا " إنما أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن نزول الرب لا عن النزول العام ولا عن الاستواء العام ، " وجاء ربك " إنما أخبر عن مجيئه الخاص ، إذن ذلك المجيء وذلك الاستواء وذلك النزول حقائق خاصة لا نعلم كنهها كما لم نعلم كنه الذات العلية ، هذه الحقيقة وهذا هو الإيمان وهذا هو معرفة الرب سبحانه وتعالى يجب أن يعرف العباد ربهم بهذه الطريقة أي بأنه كما هو مخالف لمخلوقاته في ذاته فهو مخالف لجميع مخلوقاته في أسمائه وصفاته .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(17/10)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(الوجه الأول من الشريط الثامن عشر)
(واسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقته كحقيقته والاخبار عن الغائب لا يفهم ان لم يعبر عنه بالاسماء المعلومة معانيها فى الشاهد ويعلم بها ما فى الغائب بواسطة العلم بما فى الشاهد مع العلم بالفارق المميز وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم فى الشاهد وفى الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنحن اذا اخبرنا الله بالغيب الذى اختص به من الجنة والنار علمنا معنى ذلك وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مثل التى لم تكن بعد وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذى لا يعلمه الا الله ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) قالوا الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله الإستواء معلوم والكيف مجهول ومن الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا الايمان فبين ان الاستواء معلوم وان كيفية ذلك مجهولة)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(18/1)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (واسماء الله تعالى وصفاته أولى) بعد أن تحدث شيخ الإسلام عن نعيم الجنة وأنها إنما تتفق مع ما في الدنيا في الاسم والمعنى العام وحقيقة نعيم الجنة غير حقيقة نعيم الدنيا ، حقيقة اللبن هناك غير حقيقة اللبن في الدنيا وحقيقة الماء وحقيقة العسل إلى غير ذلك قال (واسماء الله تعالى وصفاته أولى) إذا تبينا الاختلاف في الحقيقة بين الشاهد وبين الغائب ، المراد بالغائب نعيم الآخرة وما في الجنة والنار وما فيها أيضا فـ (اسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه) أي تشابه في الاسم والمعنى العام عليم مع عليم السمع مع السمع مثلا والقدرة مع القدرة والاستواء مع الاستواء ، التشابه والاشتراك يحصل بين صفات الرب سبحانه وتعالى وصفات خلقه لكن هذا الاشتراك هو اشتراك في الاسم المعنى العام كما تقدم غير مرة ، إذا ثبت ذلك بين المخلوقات فثبوت التباين في الحقيقة بين صفات الله تعالى وصفات خلقه وإن حصل الاشتراك في الاسم والمعنى العام فذلك أولى ، نريد بالمعنى العام المعنى الذي يحصل فيه الاشتراك قبل تخصيص الصفات بالإضافة ويسمى المطلق الكلي ، والمطلق الكلي – نكرر هذه النقطة لأهميتها – المطلق الكلي لا وجود له إلا في الذهن أي السمع المطلق والبصر المطلق والعلم المطلق والاستواء المطلق إلى آخره لا وجود له إلا في الذهن وما في الخارج مختص ، كل ما في خارج الذهن فهو مختص وهذا الاختصاص يقع بالإضافة لذلك نصوص الصفات إنما تتحدث عن صفات الله تعالى المضافة إليه لذلك لا يحصل الاشتراك أبدا بين صفات الله وبين صفات المخلوقين ، إذا قال الله تعالى " الرحمن على العرش استوى " وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " ينزل ربنا " وإذا قال الرب سبحانه وتعالى " ويبقى وجه ربك " تجد هذه الصفات كلها مضافة إلى الله ، إذن الآيات والنصوص كلها تتحدث عن الصفات المختصة بالله ، لا يحصل(18/2)
الاشتراك أبدا بعد هذه الإضافة وإنما يحصل الاشتراك لو أطلقت الصفات ، لو أطلق الاستواء والنزول والسمع والبصر والعلم والقدرة مثلا قبل أن تضاف هذه الصفات إلى الخالق سبحانه وقبل أن يضاف شيء منها إلى المخلوق يحصل الاشتراك في هذا المطلق الكلي أو بعبارة أقرب في هذا المعنى العام الذي لم يخصص بالإضافة ، وأما بعد تخصيص صفات الله تعالى بالله بالإضافة وبعد تخصيص صفات المخلوق بالمخلوق أيضا بالإضافة لا يحصل الاشتراك بين صفات الله تعالى وصفات خلقه ، بمعنى ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشاركه أحد من خلقه في خصائص صفاته ، صفاته تليق به خصوصا الصفات الذاتية لأنها صفات قديمة قدم الذات ولم توجد بعد أن لم تكن بل قدرته قديمة وسمعه قديم وبصره قديم وعلمه قديم قدم الذات ، وصفات المخلوقين وجدت بعد أن لم تكن هم أنفسهم وجدوا بعد أن لم يكونوا فصفاتهم من باب أولى ، فصفات الرب سبحانه وتعالى في غاية الكمال لا يتطرق إليها شيء من النقص ، علم الله علم محيط بجميع المعلومات بهذا يخالف علم المخلوقات ، علم الله علم قديم محيط بجميع المخلوقات لا يطرأ عليه غفلة ولا نسيان ولا ذهاب وقس على ذلك سائر الصفات ، كذلك استواء الرب سبحانه وتعالى لا يلزم منه حاجة الله إلى العرش لأن الله من صفاته الغنى ، الغنى وصف ذاتي لله كما تقدم وقس على ذلك الصفات الفعلية أيضا .
لذلك يقول الشيخ رحمه الله (واسماء الله تعالى وصفاته أولى وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه) على ما وصفنا وشرحنا الآن (أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق ولا حقيقته كحقيقته) لأجل هذا الاشتراك في الاسم والمعنى العام لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق أي لا يلزم من هذا الاشتراك أن يكون الخالق سبحانه كالمخلوق ولا حقيقته كحقيقة المخلوق للمخلوق حقيقة وللخالق حقيقة والحقائق تختلف حتى في المخلوق تختلف الحقائق كما تقدم في نعيم الجنة .(18/3)
(والاخبار عن الغائب) كنعيم الجنة وأخبار المعاد كلها .
(والاخبار عن الغائب لا يفهم ان لم يعبر عنه بالاسماء المعلومة معانيها فى الشاهد) لو لم نعلم معنى اللبن والعسل والخمر في الدنيا ما كنا نتصور ذلك الغائب أي نعيم الجنة إنما تصورنا وعرفنا أن العسل غير الخمر وأن الماء غير اللبن لتصورنا هذه المعاني في الحاضر والمشاهد عندنا .
(ويعلم بها ما فى الغائب بواسطة العلم بما فى الشاهد) بواسطة علمنا بما هو شاهد عندنا من نعيم الدنيا .
(مع العلم بالفارق المميز) الفارق المميز هذا شيء واضح إذ تقدم بأنه لا يوجد في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء لبن مع اللبن ماء مع الماء العسل مع العسل لكن الحقائق تختلف .(18/4)
(وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم فى الشاهد) إذن كوننا نقيس ونفهم عن الغائب بالشاهد من باب التقريب فقط وإلا ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد يريد أن يوضح هذا المعنى فيقول الشيخ (وفى الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) في الغائب يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " هذا حديث قدسي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله فليتأمل الذين كانوا يسألون عن الحديث القدسي وهل القائل هذا القول هو الله أو الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ " أعددت لعبادي الصالحين " هذا كلام الله " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " هذا الكلام كله لفظه ومعناه من عند الله ، الله هو الذي قال كما قال في القرآن لا فرق بين هذا الكلام وبين القرآن إلا بالفوارق التي ذكرناها أي إن هذه الألفاظ من كلام الله والمعاني من كلام الله ، فرق بين هذا وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام مثلا " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله " الحديث ، الفرق واضح ، الذي يقول " بني الإسلام على خمس " هو رسول الله عليه الصلاة والسلام ولكنه قال ذلك بوحي من الله ، الله أوحى إليه هذه المعاني فأخبر عنها وعبر عنها بعبارة نبوية من عنده ، لكن الذي يقول " أعددت لعبادي الصالحين " إلى آخره هو الله سبحانه ، فلنعد ذكر الفوارق لئلا يلتبس الأمر على من لم يحضر سابقا ، الفوارق :
- أن الأحاديث القدسية لا يتعبد بها بخلاف القرآن ، القرآن متعبد بتلاوته من قرأ القرآن ولو كان لا يفهم المعنى ، لو قرأ أعجمي لا يفهم معاني ما يقرأ له بكل حرف حسنة ، ولكن الأحاديث القدسية لا يتعبد بتلاوتها .
- الأحاديث القدسية لا تصح بها الصلاة ، الصلاة لا تصح إلا بالقرآن .(18/5)
- الأحاديث القدسية لا يلزم أن تكون متواترة كلها منها ما هو متواتر ومنها ما هو آحاد .
- الأحاديث القدسية ليست معجزة ولا متحدى بها بخلاف القرآن .
- الأحاديث القدسية يجوز روايتها بالمعنى كالأحاديث النبوية بخلاف القرآن .
بهذه الفوارق تفارق الأحاديث القدسية القرآن أوضح ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله هذا بالاستطراد ، وبعد : (فنحن اذا اخبرنا الله بالغيب الذى اختص به في الجنة) عندكم نسخة (من الجنة) وفي الجنة أفصح (اذا اخبرنا الله بالغيب الذى اختص به في الجنة والنار علمنا معنى ذلك) إذا أخبرنا الله عن نعيم الجنة وعذاب النار علمنا ذلك هذا الغيب الذي اختص به علمنا معنى ذلك .
(وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك) للناس إذا كان يحتاج إلى تفسير وربما ترجمنا إلى غير العربية إن كانت الحاجة إلى الترجمة .
(وأما نفس الحقيقة المخبر عنها) حقيقة العسل حقيقة اللبن حقيقة الخمر وحقيقة الذهب هناك (مثل التى لم تكن بعد وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذى لا يعلمه الا الله) أي كالوعد والوعيد ، الحساب والميزان والصراط معنى قوله (مثل التى لم تكن بعد) لم تكن بعد في علمنا وهي موجودة بالفعل ، الجنة ونعيمها النار (وعذابها) مخلوقة من قبل ولكن لم تكن هذه الأشياء في علمنا لأننا لم نشاهدها لم نشاهد الصراط والميزان وما في معنى ذلك بعد هذا معنى (لم تكن) أي في علمنا ومشاهدتنا وإلا فهذه الأشياء موجودة مخلوقة .
(ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف) من هنا تستطيع أن تأخذ تعريف السلف أن تابعي التابعين داخلون في السلف لأن مالك ليس من التابعين ولكنه من تابعي التابعين .(18/6)
يقول شيخ الإسلام (ولهذا لما سئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى)) أي لما سئل عن كيفية الاستواء لا عن معنى الاستواء ، السؤال عن معاني القرآن معاني الآيات القرآنية وارد وجائز من لم يفهم له أن يسأل لكن الذي لا يجوز السؤال عن الكيفية ولذلك لا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام لما سئل عن قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى " ، أي سئل عن كيفية الاستواء لأن السائل قال ( " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ؟) ولم يقل ما معنى " الرحمن على العرش استوى " لو سئلت ما معنى " الرحمن على العرش استوى " وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام " ينزل ربنا " تفسر ، التفسير وارد ، السؤال وارد والتفسير وارد ليس هنا ابتداع ولكن الابتداع أن تسأل " الرحمن على العرش استوى " كيف استوى ، " ينزل ربنا " كيف ينزل ؟ " وجاء ربك " كيف يجيء ؟ السؤال بكيف في باب الأسماء والصفات بدعة ومن سأل بكيف باحثا عن كيفية صفات الرب سبحانه وتعالى يقال له ابتدعت إن كانت المصلحة تقتضي الإخراج من المجلس أخرج وإن كانت المصلحة إبقاءه في المجلس ليستفيد ويتعلم أبقي ، الشاهد ينكر عليه ، كل من سأل عن صفات الرب سبحانه وتعالى بكيف ينكر عليه ، ومن سأل عن سر القدر بلماذا ولِم ، لم فعل هذا ؟ لم أغنى فلانا وأفقر فلانا؟ لم أسعد فلانا وأفقر فلانا؟ من سأل هذا السؤال ينكر عليه يقال له القدر سر الله فلا نكشفه ، ولا يجوز السؤال في باب القضاء والقدر (لِم ، ولماذا) بل عليك أن تسلم وعليك أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما أصابك في علم الله لا يخطئك أبدا وما اخطأك في علم الله لا يصيبك أبدا ، هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر ، وهذان السران ينبغي التحفظ منهما السر في باب الأسماء والصفات والسر في باب القضاء والقدر. قال الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف مجهول) الكيف الذي سألت عنه أيها السائل مجهول للعباد جميعا (والإيمان(18/7)
ب) الاستواء واجب تصديقا بخبر الله يجب أن تؤمن بأن الله مستو على عرشه كما يليق به ولا يجوز لك أن تؤول فتقول معنى الاستواء الملك والسلطان والهيمنة ، هذا تحريف من تفاسير الأشاعرة المتأخرين .
(والسؤال عن) الكيفية (بدعة) لأنه تدخل فيما لا يعنيك وفيما لا يصل إليه علمك ولم تؤت أنت من العلم إلا قليلا ولا تحاول أن تحيط بالله سبحانه وتعالى ولن تستطيع إلى ذلك سبيلا .
(وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله) وفي ثبوت هذا الأثر عن ربيعة نظر وخلاف بين أهل العلم إن صح هذا كلامهم (الإستواء معلوم والكيف مجهول ومن الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا الايمان) كلام في غاية الروعة سواء صح أو لم يصح المعنى صحيح ، (من الله البيان) الله بيَّن ، ومن (الرسول البلاغ) فالرسول عليه الصلاة والسلام بلغ ، ما علينا إلا الإيمان والاستسلام لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام في خبرهما لأن هذا من الغيب ، من صفات المؤمنين " الذين يؤمنون بالغيب " محاولة الإحاطة محاولة فاشلة .
(فبين ان الاستواء معلوم) أي من حيث المعنى معنى الاستواء معلوم .
(وان كيفية ذلك مجهولة) وأن البحث عن هذه الكيفية المجهولة بدعة .
نعم .(18/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله (ومثل هذا يوجد كثيرا فى كلام السلف والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله فلا يعلم ما هو إلا هو وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) وهذا فى صحيح مسلم وغيره وقال فى الحديث الآخر ( اللهم انى أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو إستأثرت به فى علم الغيب عندك ) وهذا الحديث فى المسند وصحيح أبي حاتم وقد اخبر فيه ان لله من الاسماء ما استأثر به فى علم الغيب عنده فمعانى هذه الاسماء التى إستأثر الله بها فى علم الغيب عنده لا يعلمها إلا هو لا يعلمها غيره والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم قدير سميع بصير غفور رحيم الى غير ذلك من اسمائه وصفاته فنحن نفهم معنى ذلك ونميز بين العلم والقدرة وبين الرحمة والسمع والبصر ونعلم ان الاسماء كلها اتفقت فى دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها فهى متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات)
قال الشيخ رحمه الله (ومثل هذا يوجد كثيرا فى كلام السلف والأئمة) مثل كلام الإمام مالك وشيخه ربيعة كثير في كلام السلف والأئمة (ينفون علم العباد بكيفية صفات الله وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله فلا يعلم كيف هو إلا هو) هذا ما أجمع عليه السلف فينبغي الوقوف عند هذا الإجماع ، تقدم أن قلنا هذه الصفات بالنسبة لصفة العلو صفة ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع وبالعقل الصريح السليم وبالفطرة السليمة ولا يجوز مخالفة هذا الأمر الذي أجمع عليه السلف ، يجب اعتقاد بأن الله يدعى من فوق وليس معنى أنه في السماء أنه تحيط به السماوات كما تقدم غير مرة بل هو في العلو .(18/9)
(وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم(لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) مهما عدد العباد نعم الرب سبحانه وتعالى ويثنون عليه بجميع المحامد وبجميع الألفاظ التي يملكونها لا يحصون ثناء على الله " أنت كما أثنيت على نفسك " اعتراف بالعجز والعجز عن الإدراك إدراك ، هكذا يقال العجز عن الإدراك إدراك ، العبد الذي عرف قدره وأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا وأدرك عجزه عن الإحاطة بالله وبأسمائه وصفاته والثناء عليه هو الذي أدرك وهو العالم لا الذي يحاول الإدراك والإحاطة .
(وهذا فى صحيح مسلم وغيره وقال فى الحديث الآخر (اللهم انى أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك)) حتى علم عبادك أسماءك من كتابك ((أو علمته أحدا من خلقك)) كائنا من كان ولا نعلم من ذلك شيئا ((أو إستأثرت به فى علم الغيب عندك)) هذا محل الشاهد من الحديث ((أو إستأثرت به فى علم الغيب عندك)) أسماء لا يعلمها أحد إلا الله وهذا لا ينافي الحديث المشهور " إن لله تسعا وتسعين اسما مئة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة " هذا الحديث لا يدل على أنه ليس لله إلا هذا العدد بل هذا العدد له خاصية من خاصية هذا العدد من أحصاها وفهم معانيها وتعبد بها وعمل بمقتضاها دخل الجنة بخلاف الأسماء الأخرى ، فلله أسماء لا يعلمها أحد إلا الله ((أو إستأثرت به فى علم الغيب عندك)) لأنها من الكمالات وكمالات الله تعالى لا يحاط بها ، العباد لا يحيطون بأسمائه وصفاته وبجميع كمالاته لأن علمهم قليل .
(وهذا الحديث فى المسند وصحيح أبي حاتم وقد اخبر فيه ان لله من الاسماء ما استأثر به فى علم الغيب عنده فمعانى هذه الاسماء التى إستأثر الله بها فى علم الغيب عنده لا يعلمها إلا هو لا يعلمها غيره والله سبحانه وتعالى) بل من الغيب الذي لا يعلمه ومن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه .(18/10)
(والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم قدير سميع بصير غفور رحيم الى غير ذلك من اسمائه وصفاته فنحن نفهم معنى ذلك) لا ندعي أننا لا نفهم معاني هذه الأسماء وهذه الصفات وندعي التفويض أننا نفوض علم ذلك إلى الله بل نعلم معاني هذه الأسماء ومعاني الصفات ..(18/11)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجلس )
(الوجه الثاني من الشريط الثامن عشر)
(ثم من الناس من لا يهتدى للفصل بينهما فيكون مشتبها عليه ومنهم من يهتدى الى ذلك فالتشابه الذى لا تمييز معه قد يكون من الامور النسبية الإضافية بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الإشتباه كما اذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به فى الآخرة بما يشهدونه فى الدنيا فظن أنه مثله فعلم العلماء أنه ليس هو مثله وان كان مشبها له من بعض الوجوه ومن هذا الباب الشبه التى يضل بها بعض الناس وهى ما يشتبه فيها الحق بالباطل حتى تشتبه على بعض الناس ومن أوتى العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات لأنه تشبيه للشىء فى بعض الأمور بما لا يشبهه فيه فمن عرف الفصل بين الشيئين إهتدى للفرق الذى يزول به الإشتباه والقياس الفاسد وما من شيئين إلا ويجتمعان فى شىء ويفترقان فى شىء فبينهما اشتباه من وجه وإفتراق من وجه فلهذا كان ضلال بنى آدم من قبل التشابه والقياس الفاسد لا ينضبط كما قال الإمام أحمد أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل فى الأدلة السمعية والقياس فى الأدلة العقلية وهو كما قال والتأويل الخطأ إنما يكون فى الألفاظ المتشابهة والقياس الخطأ إنما يكون فى المعانى المتشابهة)
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على خاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ثم من الناس من لا يهتدى للفصل بينهما) بين الأمور المتشابهة (فيكون مشتبها عليه) لقصر علمه أو لقصور في علمه .
(ومنهم من يهتدى الى ذلك) إلى التفريق بين ما هو متشابه من بعض الوجوه دون بعض .(19/1)
(فالتشابه الذى لا تمييز معه قد يكون من الامور النسبية الإضافية) أي يكون التشابه ويكون مشتبها ومن المتشابهات بالنسبة لبعض الناس دون بعض ، لفظة النسبية الإضافية بمعنى واحد (قد يكون من الامور النسبية الإضافية) أي بالنسبة لبعض الناس وبالإضافة إلى بعض الناس وليس من المتشابه المطلق بل يقال له من المتشابه النسبي ، كون الإنسان لا يظهر له معنى آية من الآيات أو حديث من الأحاديث يشتبه عليه يقال له هذا المتشابه النسبي أو الإضافي وهذه الآية والحديث ظاهر بالنسبة لكثير من الناس ومن هذا القبيل جميع نصوص الصفات التي يؤولها علماء الكلام بدعوى أنها من المتشابه ، هي من المتشابه بالنسبة لهم بالنسبة لمن لم يفهم وبالنسبة لمن يفهم من أهل العلم نصوص الصفات من حيث المعاني ليست من المتشابه ، قوله تعالى " الرحمن على العرش استوى " " إليه يصعد الكلم الطيب " " أأمنتم من في السماء " " ينزل ربنا " إلى آخره من الكتاب والسنة هذه النصوص بالنسبة لأهل العلم ظاهرة وليست من المتشابهة لكن تعتبر من المتشابه النسبي بالنسبة لمن لم يفهم أو طرأت له شبهة حالت بينه وبين الفهم الصحيح وظن أنه لو أبقاها على ظاهرها هذه النصوص تؤدي إلى التشبيه وادعى أنه مضطر إلى التأويل ، هذا ما وقع في المتأخرون من علماء الكلام كالأشاعرة والماتوريدية .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فالتشابه الذى لا تمييز معه قد يكون من الامور النسبية الإضافية بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض) كما أشرنا .(19/2)
(ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الإشتباه) لأنهم إذا عرفوا أن هذه الألفاظ من حيث المعنى ظاهرة وقد تختلف المعاني للفظ واحد " الرحمن على العرش استوى " يختلف معناه أي يختلف معنى (استوى) بحسب الحرف الذي يتعدى به إذا تعدى بـ (على) فهو نص في العلو " الرحمن على العرش استوى " لا يحتمل إلا العلو ، وقد يتعدى بـ (إلى) قد يفسر بمعنى القصد (استوى إلى كذا) أي قصد إلى كذا .
(كما اذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به فى الآخرة بما يشهدونه فى الدنيا فظن أنه مثله فعلم العلماء أنه ليس هو مثله وان كان مشبها له من بعض الوجوه) إذا سمع بعض الناس وجود الماء واللبن والخمر والعسل والذهب والفضة في الجنة يحسب أن تلك الحقائق كالحقائق الموجودة عندنا هنا في الدنيا وليس الأمر كذلك ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، اتفاق في الاسم وفي المعنى العام ، لكن إذا قيل خمر الجنة وعسل الجنة بهذه الإضافة حصل التخصيص ليس عسل الجنة كالعسل الذي في الدنيا ولا الخمر كالخمر ولا اللبن كاللبن بل حتى ولا الماء كالماء تلك حقائق لا تعرف حقيقتها ولكن نعرف هذه الأسماء ونميز بالمعنى بين هذه الحقائق أي نميز بين الماء واللبن وبين الخمر والعسل لأننا نعرف لها نظائر في هذه الدنيا هذه نظائرها ومن الأمور المشتبهة على الناس لكن من يعرف أن الله أعد لعباده الصالحين هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يعلم أن الاتفاق إنما هو في الاسم المطلق وفي المعنى العام والحقائق مختلفة هذا ما عناه ابن عباس رضي الله عنه عندما قال (ليس في الدنيا عما في الجنة إلا الأسماء) .(19/3)
(ومن هذا الباب الشبه التى يضل بها بعض الناس) في باب الأسماء والصفات إذا سمعوا العلم والسمع والبصر فهذه الصفات موجودة في الخلق ظنوا أن إثبات هذه الصفات على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه فنفوا نفيا باتا وممن ذهب إلى هذا المذهب المعتزلة وقبلهم الجهمية ، المعتزلة لهم وجود الآن في عالمنا المعاصر لأن جميع فرق الشيعة من المعتزلة لنعلم أننا عندما يتحدث شيخ الإسلام أو غيره إنما يتحدثون عن الطوائف الموجودة وعقائدها موجودة في بطون الكتب أي الذين يزعمون أن إثبات هذه الصفات على ظاهرها يؤدي إلى التشبيه وأن هذه النصوص من الكتاب والسنة لا تقبل لأنها دلت على المستحيل العقلي لأن العمدة عندهم في هذا الباب العقل لا النقل بدعوى لأن النقل خاضع للنسخ والتخصيص والتقييد والدليل العقلي غير خاضع للتخصيص والنسخ والتقييد وهو الدليل القطعي هكذا قدموا العقل على النقل فضلوا وأضلوا في هذا الباب .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (ومن هذا الباب الشبه التى يضل بها بعض الناس وهى ما يشتبه فيها الحق بالباطل) النصوص لا تحتمل إلا الحق وكون الإنسان يفهم من ظاهر النصوص الباطل هذا من سوء فهمه وإلا فمستحيل أن يحتمل كلام الله وما صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا الحق لا يحتمل إلا الحق بل هو الحق المحض (حتى تشتبه على بعض الناس ومن) لقصور في علمهم أو لوجود الشبه ، علم الكلام يعتبر شبهة في هذا الباب بالنسبة لمن يبدأ في دراسة العقيدة بعلم الكلام كأن يبدأ في دراسة العقيدة بدراسة كتب الأشاعرة والماتوريدية الموجودة الآن عند كثير من المسلمين للأسف وكتب المعتزلة الموجودة عند الشيعة ، من بدأ يتفقه في دينه على هذه الكتب يضل لأن كلها شبه .
(ومن أوتى العلم بالفصل بين هذا وهذا) بين الحق والباطل بين المعاني الحقة التي تدل عليها النصوص وبين الباطل الذي لا يليق بالله تعالى .(19/4)
(لم يشتبه عليه الحق بالباطل) ومجرد اعتقاد أن ظاهر النصوص يدل على الباطل ما لم يؤول هذا نفسه باطل هذا الاتهام اتهام النصوص أن ظاهرها يدل على ما لا يليق بالله وعلى الباطل فيضطر الإنسان للتأويل هذا ما ذهبت إليه الأشاعرة حيث قالوا :
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها
الشطر الأول الذي يعتبر مقدمة لهذه القاعدة باطل (وكل نص أوهم التشبيها) مستحيل أن يوهم كلام الله التشبيه ومستحيل عقلا وشرعا أن يوهم كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد صحته التشبيه لأن معنى ذلك قد ينزل الله في كتابه آيات تدل على المعاني التي لا تليق بالله وعلى المستحيل وعلى الباطل ، هذا الاعتقاد نفسه باطل وهو من الشبه التي حالت بين الدارسين العقيدة على مذهب الأشاعرة وبين معرفة الحق وجعلهم يقعون في الاضطراب ، لم يتخلصوا من النصوص تخلصا كليا كما فعلت المعتزلة فأعرضت عن النصوص بالكل واعتقدوا أن الحق ما دلت عليه العقول وأن النصوص تعرض على العقل ما وافق العقل قبل وما خالف العقل رد ، أمثال هؤلاء لا يتعب المرء في مناظرتهم ومناقشتهم لأن موقفهم واضح ولكن الخصم الذي يتعبك في المناقشة والمناظرة الذي يدعي بأنه ينزه الله سبحانه وتعالى وأن ظاهر النصوص قد يدل على الباطل فالتأويل واجب ، ولم يؤولوا جميع الصفات كما فعلت المعتزلة ولكن أوجبوا إمرار بعض النصوص على ظاهرها ونصوص الصفات على ظاهرها وأوجبوا تأويل البعض الآخر وهذا تفريق بين ما جمع الله ، إذا أوجبوا إثبات نصوص السمع والبصر والعلم والحياة مثلا وأوجبوا تأويل النصوص التي تدل على صفة الوجه واليدين والنزول والمجيء والاستواء ، ما الفرق بين هذه النصوص وتلك ؟ كلها من كلام الله تعالى منزل من عند الله ما الذي أوجب التفريق بين النوعين حتى يجب تأويل البعض ويجب إمرار البعض الآخر على ظاهره ؟ إن كان ما أقررتموه وأمررتموها على ظاهرها هذه النصوص إن كانت هي لم تدل على الباطل(19/5)
فالتي أولتموها لا تدل على الباطل ، إن كان التي أولتموها تدل على الباطل فما أثبتم يدل على الباطل ، هذا هو التناقض البين عند الأشاعرة .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (ومن أوتى العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات) قياس صفات الله تعالى على صفات خلقه وأننا لا نفهم من النصوص إلا ما نعقل في أنفسنا فإذا ذكر السمع والبصر والعلم والحياة قالوا ظاهر هذا باطل لأنه قياس على صفات المخلوق فيجب نفيها ، هذه طريقة الجهمية والمعتزلة .
(فمن عرف الفصل بين الشيئين إهتدى للفرق الذى يزول به الإشتباه والقياس الفاسد) ذلك لأن النصوص إنما تحدثت عن صفات الله تعالى فصفات الله بعض إضافتها إلى الله لا يبقى هناك تشابه بينها وبين صفات المخلوق قطعا ، إذا قلنا علم الله واستواء الله ونزول الله ومجيء الله بهذه الإضافة لا يبقى اشتباه ولا اشتراك بين هذه الصفات وبين صفات المخلوقين وإنما يقع الاشتراك في المطلق الكلي أي قبل أن تضاف صفات الله إلى الله وقبل أن تضاف صفات المخلوق إلى المخلوق كأن أطلقت العلم والقدرة والنزول والمجيء وهذا يقال له المطلق الكلي الذي لا وجود له إلا في الذهن أي لا وجود للسمع القائم بنفسه هكذا دون أن يضاف إلى الله أو إلى المخلوق ويقال له هذا وجوده وجود ذهني ، الذهن يتصور وجود علم بلا عالم دون أن يضاف هذا العلم إلى أي عالم لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق ولكن في الخارج لا توجد الأشياء إلا معينة مخصصة ، جميع الأشياء صفات الله تعالى بعد إضافتها إلى الله اختصت بالله سبحانه وتعالى فمستحيل أن يشارك الله سبحانه وتعالى في حقائق صفاته من عرف هذا الفرق بين الحق والباطل زالت عنه الشبه والكلام الفاسد .(19/6)
يقول الشيخ رحمه الله تعالى ليوضح هذا الكلام الذي سبق ذكره (وما من شيئين إلا ويجتمعان فى شىء ويفترقان فى شىء فبينهما اشتباه من وجه وإفتراق من وجه) ولولا هذا التصور ما استطعنا أن نتصور صفات الله تعالى ، بين صفاتنا كالعلم والقدرة والسمع وبين صفات الله تعالى كالعلم والقدرة والسمع مثلا اشتراك من وجه وافتراق من وجه اشتراك من وجه وهو في المطلق الكلي أي في المعنى العام قبل أن تضاف الصفات لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق ، وبينهما افتراق ذلك الافتراق يحصل بالإضافة إذا قلت علم الله سمع الله مجيء الله نزول الله بهذه الإضافة يزول الاشتراك والاشتباه إذ يستحيل أن يشارك الله تعالى في هذه الصفات أي مخلوق بعد أن أضيفت هذه الصفات إلى الله تعالى وخصصت بهذه الإضافة والإضافة تسمى هنا إضافة تخصيص كما أن الله سبحانه ينزه أن يشارك العبد في حقائق وخصائص صفات المخلوق إذا قلنا علم زيد مستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشارك زيدا في خصائص علمه ، ما هي خصائص علم زيد ؟ علم مسبوق بجهل ، علم محدث مسبوق بجهل غير محيط بجميع المعلومات علم يطرأ عليه النسيان والغفلة والذهول بل الذهاب أخيرا ، الله منزه أن يشارك المخلوق في صفة كهذه أي في العلم الناقص غير محيط بجميع المعلومات في العلم المحدث غير القديم في العلم الذي هو عرضة للنسيان والذهول والذهاب لأن علم الله تعالى علم قديم قدم الذات علم محيط بجميع المعلومات علم قديم لم يُحدَث وعلم لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان ، صفة الله باقية بقاء الذات العلية إذن إذا عرفنا هذه الخصائص خصائص صفات الرب سبحانه وتعالى استحال أن يشارك الله أحد في هذه الخصائص وإذا علمنا أيضا خصائص صفات المخلوق مستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشارك المخلوق في خصائص صفات المخلوق كما مثلنا بالعلم .(19/7)
مرة أخرى يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وما من شيئين) كالعلمين والسمعين كما ذكرنا (إلا ويجتمعان فى شىء) في المطلق الكلي في المعنى العام في الاسم المجرد (ويفترقان فى شىء) في الخصائص وهذا الافتراق يحصل بالإضافة كما قلنا ، وجميع النصوص في الكتاب والسنة إنما تتحدث عن علم الله تعالى ليس بلازم أن تضاف الإضافة المعروفة يعني كالمضاف والمضاف إليه ، لا ، إذا تحدثت آية أو حديث عن صفات الرب سبحانه وتعالى يعتبر هذا تخصيص ، الإضافة هنا بمعنى النسبة فإذا نسبت الصفات إلى الله ونسبت صفات المخلوق إلى المخلوق زال الاشتراك وزال الاشتباه .
(فلهذا كان ضلال بنى آدم من قبل التشابه) ضلال أكثر بني آدم من قبل التشابه اشتبهت عليه هذه الحقائق ولم يهتدي إلى هذا التفصيل وإلى هذه الإضافة .
(كان ضلال بنى آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد لا ينضبط) قياس الصفات المحدثة على الصفات القديمة قياس باطل كما أن قياس الذات العلية على ذوات المخلوقين قياس باطل يقال هنا الكلام في الصفات كالكلام في الذات أو فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه إذا آمنا وأيقنا بأن الله سبحانه وتعالى في ذاته لا يشبه المخلوقات يجب أن نوقن أيضا بأن صفات الخالق لا تشبه صفات المخلوقين والاشتراك إنما يقع كما تقدم في الاسم وفي المعنى العام الذي يسمى المطلق الكلي .(19/8)
(كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل) لأنهم لا يفرقون بين التأويل المذموم وبين التأويل الجائز لأن للتأويل كما تقدم ثلاث معاني التأويل بمعنى التفسير وهذا ليس بمذموم وهذا الذي عليه جميع المفسرين إذا قال مفسر تأويل قوله تعالى كذا وكذا أي تفسيرها لا يقال إن التأويل كله مذموم بل التأويل المذموم تأويل علماء الكلام وتأويل المتأخرين الذي دخل على الأصوليين أخيرا لتأثرهم بعلم الكلام وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يدعى وذلك الدليل الاستحالة العقلية ، الاستحالة العقلية هي الدليل الوحيد التي أوجبت على الأشاعرة تأويل هذه النصوص فمن سلم من هذا القياس قياس صفات الخالق على صفات المخلوق سلم من هذا الاضطراب ... ذكرنا أنواع التأويل :التأويل الذي بمعنى التفسير وهو المعروف عند المفسرين والتأويل الفاسد الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح التأويل الثالث تأويل لا يعلمه إلا الله وهو الحقيقة التي يؤول إليها الأمر كحقائق صفات الله تعالى وحقيقة ذاته وحقائق موجودات الجنة ، موجودات الجنة كاللبن والماء والخمر والعسل هذه الموجودات تأويلها لا يعلمها إلا الله لأنه كما قلنا إنما تشترك مع موجودات الدنيا في الاسم فقط والحقائق مختلفة .
قال الإمام رحمه الله تعالى (أكثر ما يخطىء الناس من جهة التأويل والقياس . فالتأويل فى الأدلة السمعية) الأدلة السمعية يقال لها الأدلة الخبرية ويقال لها الأدلة النقلية وهي نصوص الكتاب والسنة ، تأويل نصوص الكتاب والسنة وصرفها عن الاحتمال الراجح الذي يظهر من وضع الكلمة إلى التأويل المرجوح الذي يتكلف بدعوى التأويل أي بدعوى الاستحالة العقلية أكثر ضلال بني آدم في هذا الباب في هذا التأويل في الأدلة السمعية .(19/9)
(والقياس فى الأدلة العقلية) من استعملوا العقل وانصرفوا عن النصوص قاسوا المعاني العقلية قاسوا بعقولهم صفات الخالق على صفات المخلوق حتى ضلوا بذلك ، وهو قياس مع الفارق كما أنه لا تقاس ذات الله تعالى على ذوات المخلوقين أو لا تقاس ذوات المخلوقين على الذات العلية كذلك قياس صفات الله تعالى على صفات المخلوقين قياس فاسد وهو قياس مع الفارق .
(وهو كما قال) يقول شيخ الإسلام الأمر كما قال الإمام أحمد وهو أكثر ضلال بني آدم في تأويل الأدلة السمعية والقياس الفاسد في الأدلة العقلية .
(والتأويل الخطأ إنما يكون فى الألفاظ المتشابهة) الألفاظ المتشابهة التشبيه النسبي الذي لا يهتدي إليه أي إلى اجتنابه إلا أهل العلم وجميع نصوص الصفات عند علماء الكلام تعتبر من الألفاظ المتشابهة .
(والقياس الخطأ إنما يكون فى المعانى المتشابهة) سواء كان في باب الأسماء والصفات أو في موجودات الجنة كما تقدم .
نعم .
قال رحمه الله (وقد وقع بنو آدم فى عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات حتى آل الأمر بمن يدعى التحقيق والتوحيد والعرفان منهم الى أن إشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا انه هو فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق مع انه لا شىء أبعد عن مماثلة شىء أو أن يكون إياه أو متحدا به أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات حتى ظنوا وجودها وجوده فهم اعظم الناس ضلالا من جهة الإشتباه وذلك ان الموجودات تشترك فى مسمى الوجود فرأوا الوجود واحدا ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وآخرون توهموا أنه إذا قيل الموجودات تشترك فى مسمى الوجود لزم التشبيه والتركيب فقالوا لفظ الوجود مقول بالإشتراك اللفظى فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف اصنافهم من ان الوجود ينقسم الى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات)(19/10)
هذه النقطة مهمة ، انتبه ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مبينا مذاهب طوائف ضلت من هذه الجهة من جهة الشبه ومن جهة القياس الفاسد يقول (وقد وقع بنو آدم فى عامة ما يتناوله هذا الكلام) وقع بنوا آدم أي أكثر بني آدم أو بعض بني آدم لأنه يشير إلى وحدة الوجود ، لم يقع جميع الناس في وحدة الوجود ولكن البعض .
(فى عامة ما يتناوله هذا الكلام) الذي تقدم ذكره (من أنواع الضلالات حتى آل الأمر بمن يدعى التحقيق والتوحيد والعرفان منهم) أي من هؤلاء القوم (الى أن إشتبه عليهم وجود الرب سبحانه وتعالى بوجود كل موجود) وهم يدعون أنهم أهل التحقيق وأهل التوحيد وأهل العرفان ويسمون كبراءهم بالعارفين بالله وبالواصلين إلى الله وهذه من ألفاظ الأضداد إذا وصلوا إلى هذه الدرجة وهم من الجاهلين بالله وليسوا من الواصلين ولكن من المارقين من دين الله تعالى .
(الى أن إشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود) قالوا الكون هذا كله وحدة واحدة لا إثنينية في الوجود ، الوجود كله من عين واحد بل هو عين واحدة كل الوجود دون تفريق بين الخالق وبين المخلوق ، وجود الخالق ووجود المخلوق عين واحدة وهذا هو التوحيد عندهم ، من أثبت الإثنينية فهو مشرك عندهم ليس بموحد ، الله المستعان .
(فظنوا انه هو) أن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق ووجود المخلوق عين وجود الخالق هنا نتساءل : وهل هذه الطائفة لها وجود ؟(19/11)
لها وجود ولكنه لا يظهر لكثير من الناس وجودها وهم أتباع ابن عربي الطائي صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية له كتابان مشهوران فصوص الحكم والفتوحات المكية ، ابن عربي كما سيأتي تفصيل كلامه يقول شيخ الإسلام (أتى بكفر لم يأت به كفار قريش) لأن كفار قريش لم يزعموا قط بأن الله اتحد مع المخلوق فصار وجود الخالق عين وجود المخلوق بل يؤمنون بالله سبحانه وتعالى في ربوبيته يؤمنون بأن الخالق غير المخلوق وأنه هو الذي خلق هذا الكون " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " يثبتون وجود الله وجودا حقيقيا ويؤمنون بأن الله وحده هو الخالق الرازق المعطي المانع النافع الضار مدبر الأمور ، هذا التوحيد موجود عند مشركي العرب عند أبي جهل وأمثاله ، إذن لم يجهل أبو جهل ما جهله ابن عربي مع دعوى العرفان والتحقيق والاجتهاد ، هذا المذهب أو الطائفة التي يشير إليها الشيخ من أتباع هذا الرجل وهم وإن لم يكن لهم وجود ظاهر بين الناس لكن عند من يدرسون الطوائف المنتسبة إلى الإسلام طائفة وحدة الوجود لها وجود وقد لا يعلم بعض الناس أنه من وحدة الوجود وهو واقع في وحدة الوجود ، من يقول لا إله إلا الله أي لا موجود إلا الله من فسر هذه الكلمة لا موجود إلا الله وأن الوجود هو وجود الله وقع في عقيدة وحدة الوجود من حيث لا يشعر أو من حيث يشعر ويخفي .
(فظنوا انه هو) أن وجود الله هو وجود المخلوق أو العكس وجود المخلوق هو وجود الله .
(فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق) أي نفوا الإثنينية والانفصال بين الخالق وبين المخلوق .(19/12)
(مع انه لا شىء أبعد عن مماثلة شىء أو أن يكون إياه أو متحدا به أو حالا فيه من الخالق مع المخلوق) تبدأ عقيدتهم بالحلول وتنتهي إلى الاتحاد ، الحلول كأن يدعي مدع بأن الله حال في فلان في العالم الفلاني في الولي الفلاني ، حل فيه كما ادعت غلاة الروافض بأن الله حال في علي وزعموا بأنه لا يموت ولن يموت إذ فيه جزء من الله سبحانه وتعالى هذا نوع من الحلول ليس هو الاتحاد لا يعتقدون بأن الله اتحد معه ولكن يقولون حل فيه ، فعقيدة الحلولية كثيرة عند كثير من غلاة المتصوفة وهم دون جماعة وحدة الوجود ، وحدة الوجود لم يثبتوا لله تعالى وجودا حقيقيا منفصلا عن المخلوق إلا أنه متحد مع المخلوق ، الحلولية يثبتون لله تعالى وجودا حقيقا إلا أنه يحل في بعض مخلوقاته كما حل في عيسى في زعمهم وحل في مريم وحل في علي بن أبي طالب وهكذا ضلت هذه الطوائف ، أما لو استعمل الإنسان عقله الحر قبل أن يتلوث بآراء هؤلاء ليس هناك ما هو أبعد من الاشتباه بين الخالق والمخلوق ومن الحلول ومن الاتحاد هذا أبعد شيء عقلا وشرعا .
(فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات حتى ظنوا وجودها) أي وجود المخلوقات (وجوده) هو سبحانه وتعالى (فهم اعظم الناس ضلالا من جهة الإشتباه) أعظم الناس ضلالا وأعظم الناس كفرا هذا معنى قول شيخ الإسلام أنهم أتوا من الكفر ما لم يأت به كفار قريش .(19/13)
(وذلك ان الموجودات تشترك فى مسمى الوجود) الوجود المطلق تشترك فيه جميع الموجودات ، الله موجود والمخلوق موجود لكن لوجود الله تعالى حقيقة قائمة بذاتها ولوجود المخلوق له حقيقة قائمة بذاته لا يقال وجود المخلوق مجاز غير حقيقي الوجود الحق هو وجود الله تعالى ، هذا خطأ وقد وقع في هذا صاحب (في ظلال القرآن) في تفسير سورة الإخلاص وفي سورة الحديد حيث زعم أن الوجود الحقيقي هو وجود الله وحده ، هذا خطأ ، وجود الله وجود حقيقي ووجود المخلوق وجود حقيقي لكن ليست الحقيقية كالحقيقة ، كما أن علم المخلوق علم حقيقي وعلم الخالق علم حقيقي ليس العلم كالعلم ولا الوجود كالوجود ولكن دعوى بأن وجود غير الله تعالى ليس بحقيقي بل مجاز هذا خطأ وتخبط ، لأن المجاز ما يجوز نفيه ، حقيقة المجاز ما يجوز نفيه إذا كان وجود المخلوق وجودا مجازيا إذن لك أن تقول لا وجود للمخلوق وهذا خلاف الواقع ، هذا خطأ محض وشاع بين من يكثرون من النظر في كتب ابن عربي وإن لم يصلوا إلى درجته في الصراحة في نفي الإثنينية لكنهم وقعوا في مثل هذا التخبط فلينتبه .
(وذلك ان الموجودات تشترك فى مسمى الوجود) في مسمى الوجود المطلق الوجود المطلق قبل أن يضاف وجود الله إلى الله ووجود المخلوق إلى المخلوق كما تقدم .
(فرأوا الوجود واحدا) من يرى أن الوجود وجود واحد فهو من وحدة الوجود أي من أتباع ابن عربي ، الوجود وجودان ليس وجودا واحدا وجود الخالق ووجود المخلوق .(19/14)
(ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع) الواحد بالعين لا اشتراك فيه وجود الله تعالى وجود بالعين وجود حقيقي وجود خاص بالله لا اشتراك فيه ، أما الوجود بالنوع يعني الاشتراك في الوجود المطلق في المطلق الكلي الذي لا وجود له إلا في الذهن في خارج الأذهان الوجود المطلق والعلم المطلق والسمع المطلق والنزول المطلق والمجيء المطلق لا وجود لهذه الحقائق في الخارج أي في خارج الأذهان ولكن يتصوره الذهن لأن الذهن قد يتصور حتى المستحيلات الذهن حر له أن يتصور حتى المستحيلات كالشريك لذلك الموجود في الذهن بالوجود الذهني بالمعنى العام في حقيقته لا وجود له .
ولنكتفي بهذا المقدار وإلى بعد غد إن شاء الله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(19/15)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجالس ، إلى الشريط الثالث والعشرون )
الشريط التاسع عشر :
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (ومن لم يعرف هذا إضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره ويحتجون بقوله تعالى ( وما يعلم تأويله الا الله ) ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل وهذا تناقض منهم لأن هذه الآية تقتضى ان هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل مطلقا وجهة الغلط ان التأويل الذى استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التى لا يعلمها إلا هو وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله الى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك ويدعون ان فى ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما اثبتوه بالعقل ويصرفونه الى معان هى نظير المعانى التى نفوها عنه فيكون ما نفوه من جنس ما اثبتوه فان كان الثابت حقا ممكنا كان المنفى مثله وان كان المنفى باطلا ممتنعا كان الثابت مثله وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقا ويحتجون بقوله تعالى ( وما يعلم تأويله الا الله ) قد يظنون أنا خوطبنا فى القرآن بما لا يفهمه أحد أو بمالا معنى له او بما لا يفهم منه شىء وهذا مع أنه باطل فهو متناقض لانا إذا لم نفهم منه شيئا لم يجز ان نقول له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه لإمكان أن يكون له معنى صحيح وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا فانه لا ظاهر له على قولهم فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلا ولا يجوز نفى دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير فان تلك المعانى التى دلت عليها قد لا نكون عارفين بها ولأنا اذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فلأن لا نعرف المعانى التى لم يدل عليها اللفظ أولى لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من(20/1)
اشعاره بما لا يراد به فاذا كان اللفظ لا اشعار له بمعنى من المعانى ولا يفهم منه معنى أصلا لم يكن مشعرا بما اريد به فلأن لا يكون مشعرا بما لم يرد به اولى)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وعلى آله وصحبه وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية (ومن لم يعرف هذا) التفصيل الذي تقدم والتأويل الذي بمعنى التفسير المبين لمراد الله تعالى (من لم يعرف هذا إضطربت أقواله مثل طائفة يقولون إن التأويل باطل) ويطلقون القول بأن التأويل باطل (وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره) وهذان قولان متناقضان : القول بأن التأويل باطل ثم القول (وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره) قولان متناقضان ، إذا كان يجب إجراء اللفظ على ظاهره والتأويل باطل أي ظاهر هذا ؟ وهذا يقوله بعض من يفرق بين الصفات ويرون أن تأويل النصوص التي تدل على الصفات العقلية أن التأويل باطل وأنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره ، الظاهر الذي يليق بالله تعالى وفي الوقت نفسه يرون وجوب التأويل بالنسبة للصفات الخبرية ، أي قسموا النصوص إلى قسمين : - قسم يجب إجراؤه على ظاهره الظاهر الذي يليق بالله تعالى ما يدل على القدرة والإرادة والسمع والبصر من الصفات التي سموها صفات المعاني يجب إجراء اللفظ على ظاهره وتأويل هذه النصوص باطل .
- وفي الوقت نفسه يقولون الصفات الخبرية يجب تأويل النصوص فيها ولا يجوز إجراؤها على ظاهرها ، فرقوا بين ما جمع الله ولا داعي لهذا التفريق ولا دليل .(20/2)
(ويحتجون) على قولهم إن التأويل باطل (بقوله تعالى(وما يعلم تأويله الا الله)) ويحسبون أن المراد بالتأويل هنا هو صرف اللفظ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ، لا يعلمون من التأويل إلا هذا المعنى ، ويحسبون أن قوله تعالى " وما يعلم تأويله الا الله " هو ينفي هذا المعنى ، والمراد بالآية " وما يعلم تأويله إلا الله " هو التأويل الذي بمعنى الحقيقة ، والتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، والحقيقة التي يؤول إليها الكلام كحقائق الصفات والأسماء وحقيقة الذات وحقائق موجودات الجنة هذا الذي لا يعلم تأويله إلا الله والآية في واد والاستدلال غير صحيح لأن التأويل الذي هم يريدون : التحريف ، والاستدلال بالآية في غير محلها .
(ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل) التأويل الذي هم يريدون، الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ، والآية لا تعني هذا المعنى أبدا وإنما تثبت الآية أن هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله وهو الحقيقة كما تقدم .
(وهذا تناقض منهم لأن هذه الآية تقتضى ان هناك تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون التأويل مطلقا) لأنهم لا يعلمون من التأويل إلا معنى واحدا من المعاني الثلاثة وهم يسلطون هذه الآية على التأويل الذي يفهمونه .
ويقول الشيخ رحمه الله تعالى شارحا لهذا التناقض (ووجه الغلط) أو (وجهة الغلط) نسختان .
(ووجه الغلط ان التأويل الذى استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التى لا يعلمها إلا هو) حقيقة الغضب حقيقة الرضا وحقيقة الوجه حقيقة النزول حقيقة المجيء أي : حقائق جميع الصفات ذاتية أو فعلية خبرية أو عقلية ، هذه الحقيقة هي التي لا يعلمها إلا الله .
(وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله) بصرف اللفظ عن الاحتمال الراجح الذي يظهر من وضع الكلمة إلى التأويل المرجوح .(20/3)
(ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله الى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك) ولا يوجد دليل لا للذين ينفون جميع الأسماء والصفات جميعا ولا يثبتون إلا واجب الوجود بالإلزام ، ولا للذين ينفون الصفات ويثبتون الأسماء ، ولا للذين يفرقون بين الصفات ، لا يوجد لهم دليل يوجب هذا التأويل أبدا إلا دليل واحد مدعى وهو دليل باطل ألا وهو الاستحالة العقلية ، الذين ينفون جميع الأسماء والصفات دليلهم الاستحالة العقلية ، إثبات الأسماء والصفات يؤدي إلى التشبيه والتمثيل وذلك مستحيل عقلا وما يؤدي إلى المستحيل فهو مستحيل ، فإثبات الأسماء والصفات جميعا مستحيل ، لا يبقى لله سبحانه وتعالى في نظرهم إلا الوجود المطلق الكلي الذي في الذهن ، والذين ينفون (الأسماء والصفات) جميعا تعرفون أسماءهم كذلك يحتجون بالدليل نفسه الاستحالة العقلية ، والذين يفرقون بين الصفات أيضا يستدلون بالدليل نفسه الاستحالة العقلية ، والاستحالة العقلية لا تنضبط ، تختلف باختلاف الفرق إذن كل هذا باطل وتخبط وتناقض والقاعدة التي لا تخطئ أن كل من خالف الكتاب والسنة لا بد أن يتناقض أمر لازم لهم لا بد من التناقض .(20/4)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (ويدعون ان فى ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما اثبتوه بالعقل) أثبتت الفرقة الأولى الجهمية الواجب الوجود أو الوجود الواجب بالعقل ونفوا جميع الصفات بالعقل يلزمهم فيما أثبتوا وهو وجود الواجب المحظور الذي فروا منه عند نفي جميع الأسماء والصفات وهو التشبيه والتمثيل ويلزم كذلك المعتزلة فيما أثبتوه من الأسماء نظير ما فروا منه في نفيهم للصفات ، ويلزم الأشاعرة في الصفات العقلية التي أثبتوها يلزمهم نظير ما نفوه في الصفات الخبرية إذ لا فرق بين ما أثبتوه وبين ما نفوه الكل مثبت بدليل واحد وهو الدليل النقلي ، أي صفات كلها خبرية سمعية والدليل العقلي الصريح السليم لا يخالف الدليل النقلي إذن يلزمهم فيما أثبتوه ما فروا منه فيما نفوه .
مرة أخرى (ويدعون ان فى ظاهره) في ظاهر ما نفوه (من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما اثبتوه) وإن لم يدركوا ذلك أو لم يقتنعوا بذلك عقلا ، يلزمهم فيما نفوه من المحذور (نظير المحذور اللازم فيما اثبتوه) من الصفات (بالعقل) على حسب ما فصلنا من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة .
(ويصرفونه الى معان هى نظير المعانى التى نفوها عنه) نمثل بصفة واحدة ليظهر (ويصرفونه) يصرفون الغضب مثلا والرضا والمحبة (الى معان) إلى الإرادة (هى نظير المعانى التى نفوها عنه) نفوا الغضب والمحبة والرضا بدعوى أنها انفعالات نفسية وأن الغضب غليان دم القلب عند إرادة الانتقام ، هذه الصفات كلها فسروها بصفة واحدة ، الغضب إرادة الانتقام ، المحبة والرضا إرادة الإحسان أو إرادة العطاء ، حولوا هذه الصفات كلها إلى صفة واحدة وهي الإرادة يقال لهم (ويصرفونه الى معان هى نظير المعانى التى نفوها عنه) الإرادة إذا فسرت بالتفسير الذي يريدون ، الإرادة ميل القلب وهل تثبتون لله ميل القلب ؟(20/5)
لا ، كما لم تثبتوا لله غليان دم القلب عند إرادة الانتقام أنتم لا تثبتون الميل ، إذن لم تفعلوا شيئا فررتم من شيء ووقعتم في مثله تماما وهو إثبات هذا الميل ولابد من هذا التفسير ، والميل يسمى إرادة .
(فيكون ما نفوه من جنس ما اثبتوه) ما نفوه من صفة الغضب والرضا والمحبة من جنس ما أثبتوه من الإرادة والقدرة وغيرها لأنها كلها إذا فسرت بما يليق بالمخلوق المعنى متقارب مع ما نفوه أو متحد معه .
(فان كان الثابت حقا) إن كان الثابت من الإرادة والسمع والبصر والقدرة وغيرها حقا (ممكنا كان المنفى) كالرضا والغضب والمحبة (مثله وان كان المنفى باطلا) إن كان الغضب والمحبة والرضا باطلا مثلا (ممتنعا كان الثابت مثله) الإرادة والقدرة والسمع من الصفات التي يؤمنون بها مثله إذ لا فارق بينهما هذه صفات ثابتة بالكتاب والسنة وتلك صفات ثابتة بالكتاب والسنة ولا مبرر للتفريق بينهما .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى – أرجو أن يكون هذا الكلام مفهوما - (وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقا) ويقولون التأويل باطل ثم (يحتجون بقوله تعالى (وما يعلم تأويله الا الله) قد يظنون أننا خوطبنا فى القرآن بما لا يفهمه أحد) لا الذي نزل به من عند الله جبرائيل ولا الذي نزل عليه القرآن محمد رسول الله ولا أصحابه ومن بعدهم من باب أولى .
(يظنون أننا خوطبنا فى القرآن بما لا يفهمه أحد) أي نصوص الصفات لازم كلامهم لا يفهمها أحد ، وأحد نكرة ، لا يفهمه أحد أي لا ملك ولا نبي ولا من بعده .
(أو بمالا معنى له) أصلا ، ليس الفهم فقط بل خوطبنا بما لا معنى له أصلا أن نصوص الصفات لا معنى لها ، جاء ونزل واستوى ، هذه الصفات أو هذه النصوص لا معنى لها أصلا .
(او بما لا يفهم منه شىء) هذه النصوص تتلى لكن لا يفهم منها أي شيء لا حق ولا باطل ولا دلالة لها .(20/6)
(وهذا مع أنه باطل) كما يظهر جليا لكل عاقل (فهو متناقض) وجه ذلك (لاننا إذا لم نفهم منه شيئا) إذا لم نفهم من نصوص الصفات شيئا " الرحمن على العرش استوى " " وجاء ربك والملك صفا صفا " " ينزل ربنا " النصوص تشمل الكتاب والسنة .
(لاننا إذا لم نفهم منه شيئا) من نصوص الصفات إذا لم نفهم شيئا (لم يجز ان نقول له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه) ذكر التأويل كلام لاغٍ لأن النصوص إما لا معنى لها أو لا يفهم منها شيء أو لا يفهمها أحد إذن كيف يقال بعد ذلك له تأويل يخالف الظاهر ؟ أو له تأويل يوافق الظاهر ؟ كلام لا معنى له .
(لإمكان أن يكون له معنى صحيح وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا) المعلوم لنا الموافق لما يليق بالله سبحانه وتعالى .
(فانه) على كلامهم هذا (لا ظاهر له على قولهم فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر) لأن النصوص حكموا عليها لا معنى لها أو لا يفهم منها شيء أو لا تدل على شيء (فلا يكون تأويلا ولا يجوز نفى دلالته على معان لا نعرفها) إذ لا معنى لها ولا دلالة لها (على هذا التقدير فان تلك المعانى التى دلت عليها قد لا نكون عارفين بها) المعاني التي لم ندركها ولم نعرفها لا نسميها : على الظاهر أو على خلاف الظاهر . لأننا لا نعرفها .
(ولأنا اذا لم نفهم اللفظ ومدلوله) إذا لم نفهم معنى (جاء) .
(ولأنا اذا لم نفهم اللفظ) وهو (جاء) مثلا " وجاء ربك " أو (استوى) .
(ومدلوله المراد) المراد لله تعالى .(20/7)
(فلأن لا نعرف المعانى التى لم يدل عليها اللفظ) إلا بتأويل وتكلف (أولى) إذا كان المعنى الظاهر من اللفظ غير مفهوم لنا ولا نعرفه (لا نعرف المعانى التى لم يدل عليها اللفظ) بل يصار إليه بالتكلف وبالتحريف (أولى ، لأن إشعار اللفظ) الفعل (جاء) أو (استوى) مثلا (بما يراد منه) وهو المعنى الذي وضع من أجله (أقوى من اشعاره بما لا يراد منه) وهو التأويل بمجيء الأمر أو بمجيء الملك أو أن الاستواء بمعنى السلطان والملك .
(فان كان اللفظ لا اشعار له بمعنى من المعانى) أصلا (ولا يفهم منه معنى أصلا لم يكن مشعرا بما اريد به) وهو المجيء والاستواء (فلأن لا يكون مشعرا بما لم يرد به) وهو مجيء الأمر أو مجيء الملك أو الاستواء بمعنى الملك (اولى) هكذا يتناقضون ، وهذا التناقض الذي يحكيه الشيخ من القوم أكثر من يقع فيه الأشاعرة كما تدل على ذلك كتبهم الموجودة بين أيدينا ، فكتاب يدرسه شبابنا في كثير من المعاهد الدينية والكليات كليات الدعوة (جوهرة التوحيد) يقول صاحب جوهرة التوحيد متناقضا :
(وتابع السنة ممن سلفا) أثبت أن اتباع السلف هو السنة .
(وجانب البدعة ممن خلفا ) أثبت أن البدعة عند الخلف .
(وكن كما كان خيار الخلق ... حليف علم تابعا للحق) أثبت أن الحق ينحصر في اتباع السلف ، وينصح أن يكون كل إنسان كالسلف لكن ما اعتقاده في السلف ؟
اعتقاده في السلف أنهم قوم يتلون النصوص ولا يفهمون معانيها ، هذا ذم بما يشبه المدح .
ويقول ( وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف ) لو عرفتم مراده اتباع من سلف عدم التعرض لمعاني النصوص وتفويضها وإمرارها كما جاءت مع دعوى عدم معرفة معانيها ، وهل هذا مدح للسلف أو ذم لهم ؟ هذا ذم بما يشبه المدح .(20/8)
ثم يقول متناقضا ( وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها ) هذه طريقة الخلف ، السلف لا يعينون المعاني يسردون النصوص ويتركونها ولا يفهمون – إن كان هذا مدحا – والخلف يقفون أحد موقفين : إما يؤولون وهو الأولى لذلك قدمه في البيت ( وكل نص أوهم التشبيها ... أوله ) هذه هي الطريقة المثلى ، هذه من طريقي الخلف ، ( أو فوض ) فوض ( ورم تنزيها) أو على الأصح التأويل وتعيين المعنى وتعيين مراد الله بالدعوى بأن الله أراد بها كذا هذه طريقة الخلف ، وأما التفويض المطلق الذي لا معنى ولا حقيقة طريقة السلف في زعمهم ولم يفهم طريقة السلف ، لذلك يقول شيخ الإسلام في الفتوى الحموية : (سبب ضلالهم تصويبهم خطأ الخلف وجهلهم لمنهج السلف) منهج السلف لم يفهم أو لم يعرف عند هؤلاء ، ليس من منهج السلف التفويض المطلق ، منهج السلف فهم المعاني ، يفهمون معنى استوى وجاء ونزل وغضب ويحب ويرضى ، يفهمون المعاني لهذه النصوص كلها ، يفوضون شيئا واحدا : الحقيقة والكنه ، كيفية استواء الرب سبحانه وكيفية نزوله وكيفية مجيئه وكيفية رضاه ومحبته وكيفية السمع والبصر جميع الصفات ، إذن الشيء الذي يفوضه السلف أمر واحد وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا الله ، والمعاني معروفة من وضع الكلمة .(20/9)
هكذا يتخبطون ويتناقضون ولا يزال شبابنا في كثير من الجامعات يدرسون هذا التخبط وهذا التناقض ويسمونه عقيدة أهل السنة والجماعة وهي بعيدة جدا كل البعد من عقيدة أهل السنة والجماعة ولكن من حيث إثباتهم أو من حيث إثباتهم لبعض الصفات كالصفات السبع وصفات المعاني السبع والمعنويات السبع على اصطلاحهم ، والصفات السلبية الخمس وصفة نفسية واحدة وأضدادها ، بإثباتهم هذه الصفات شهد لهم شيخ الإسلام أنهم أقرب طوائف الكلام إلى منهج أهل السنة والجماعة أي الأشاعرة مع ربيبتهم الماتريدية هم أقرب طوائف أهل الكلام إلى منهج أهل السنة والجماعة مع هذا البعد ، وهذا القرب قرب نسبي أي بالنسبة للجهمية والمعتزلة وإلا هم بعيدون كما ترون لأنهم لم يفهموا حتى الفهم منهج السلف فضلا من أن يكونوا من أهل السنة والجماعة ، إنهم لم يفهموه ولم يتصوروه التصور الصحيح حتى يكونوا منهم ولكن هذا القرب الذي شهد به شيخ الإسلام لهؤلاء قرب نسبي جدا بالنسبة لغيرهم ، فليفهم هذا جيدا لئلا تنخدعوا بمثل هذا الكلام لأن كتبهم موجودة بين أيدي شبابنا وفي أيدينا أيضا ، فلينتبه وهي فتنة منتشرة لا يدرك كثير من الناس بأنها فتنة لأنها تشكك في كتاب الله تعالى وتحط من قيمة القرآن لأنهم يعلنون أن الأدلة النقلية ظنية غير يقينية ولا يعتمد عليها في باب العقيدة والاعتماد على الدليل العقلي وتذكر الأدلة النقلية من باب الاعتضاد بها والاستئناس بها لا من باب الاعتماد عليها ، إذا كان لا يعتمد على كلام الله وكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام في باب معرفة الله تعالى على أي شيء يعتمد ؟
على العقل ، والعقول اختلفت ، أين العقل الحاكم الذي يحكم بين هذه العقول ؟ هذا سبب ضلال علماء الكلام مطلقا ، أي أقربهم وأبعدهم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مرة أخرى (وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقا) ويطلقون بأن التأويل باطل لنصوص الصفات .(20/10)
(ويحتجون بقوله تعالى (وما يعلم تأويله الا الله) قد يظنون أننا خوطبنا فى القرآن بما لا يفهمه أحد) أي جميع نصوص الصفات .
(أو بمالا معنى له) أصلا ، أي أن الله أنزل نصوص الصفات وهي لا معنى لها أصلا ، ألفاظ مجردة جوفاء .
(او بما لا يفهم منه شىء) خوطبنا بما لم يفهم منه شيء ، المعاني متقاربة لهذه الألفاظ الثلاثة ، إما أننا لا نفهم أي هي في الأصل لها معنى لكننا لا نفهم ، أو بما لا معنى له أصلا أو بما لم يفهم منه شيء ، العبارتان الأخريان معناهما متقارب .
(وهذا مع أنه باطل فهو متناقض) كما ترون .
(لانا إذا لم نفهم منه شيئا لم يجز ان نقول له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه) – هذا شرحناه كله .. -
(فلا يجوز إذن ان يقال إن هذا اللفظ) (استوى) مثلا و (نزل) و (جاء) (متأول) على تفسير ما تقدم من التناقض .
(لا يجوز ان يقال إن هذا اللفظ متأول بمعنى انه مصروف عن الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح فضلا عن أن يقال إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله) إذا كان التأويل باطلا أو إذا كان اللفظ لا معنى له أو لا يفهم منه شيء أو نحن لا نفهم منه شيء كيف يقال هذا اللفظ متأول ؟ بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ، هذا التعبير يدل على أن للكلمة أو للفظ معنى ، معنى راجح ومعنى مرجوح ، وهذا يجب أن يسبق إثبات المعاني لهذه الألفاظ ، معاني مفهومة يفهما التالي ليخرج بها عن الراجح إلى المرجوح لكن إذا كان لا معنى لها أو التالي لا يفهم كيف يقول تحمل على المعنى المرجوح دون الراجح ؟ وكيف يقال إن تأويله لا يعلمه إلا الله ؟ فهذا يدل على إثبات المعنى ، لو أثبتنا المعنى كما هو الواقع قلنا لا يعلم تأويله إلا الله .
(اللهم إلا ان يراد بالتأويل ما يخالف الظاهره المختص بالمخلوق فلا ريب ان من أراد بالظاهر هذا لا بد وان يكون له تأويل يخالف ظاهره) الظاهر يختلف عندهم :(20/11)
- أحيانا يراد بالظاهر الظاهر الذي يليق بالله تعالى ، وهو ما دلت عليه النصوص .
- وأحيانا يراد بالظاهر الظاهر الذي يليق بالمخلوق .
والنصوص مستحيل أن تدل على الظاهر الذي يليق بالمخلوق لأن النصوص كلها إنما تتحدث عن الظاهر الذي يليق بالله تعالى أي عن الاستواء الذي يليق بالله وعن النزول الذي يليق بالله والمجيء الذي يليق بالله والغضب الذي يليق بالله إلى آخره أما كونها تدل على الظاهر الذي يليق بالمخلوق ثم يضطر العباد ليؤولوا هذه النصوص ويبينوا مراد الله منها وأن مراد الله قبل بيان علماء الكلام غير معروف وإنما يبين مراد الله علماء الكلام وأما قبل نشأة علم الكلام السلف لم يفهموا مراد الله من هذه النصوص ، هذا تعد على النصوص وعلى السلف معا ودعوى المعرفة الخاصة بالنسبة للخلف .
(لكن اذا قال هؤلاء إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر أو انها تجرى على المعانى الظاهرة منها كانوا متناقضين ) لكن إذا قال هؤلاء إنه ليس لها تأويل يخالف هذا الظاهر ماذا يريدون بالظاهر ؟ هل يريدون الظاهر الذي يليق بالله أو يريدون الظاهر الذي يليق بالمخلوق ؟ القرائن هي التي تبين ، إذا قال الأشعري تجري هذه النصوص على الظاهر الذي يليق بالله تعالى بالنسبة للصفات العقلية كالصفات السبع يريد بذلك إن هذه النصوص معانيها مفهومة ومراد الله منها مفهوم وأنها باقية على ظاهرها ، هذا كلام حق .(20/12)
أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها وفي الوقت نفسه في نصوص أخرى يقول لا يجوز أن تجري على ظاهرها ولا يجوز بقاؤها على ظاهرها لأنهم فهموا من هذا الصنف الظاهر الذي يليق بالمخلوق ، إذن الظاهر عندهم انقسم إلى قسمين ، بالنسبة للصفات التي أثبتوها الظاهر هو الظاهر الذي يليق بالله وكلامهم صحيح في هذا الصنف ، وإذا قالوا بالنسبة للصفات التي يوجبون تأويلها لا يجوز بقاؤها على ظاهرها ولا تجري على ظاهرها يريدون بالظاهر الظاهر الذي يليق بالمخلوق وبأن هذه النصوص لم تدل أبدا على الظاهر الذي يليق بالله تعالى ولكنها دلت على الظاهر الذي يليق بالمخلوق لذلك يجب تأويلها ، وكلها من كلام الله تعالى ، هذا هو التناقض .
مرة أخرى : (لكن اذا قال هؤلاء إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر) بالنسبة للصنف الأول .
(أو انها تجرى على المعانى الظاهرة منها) كذلك هذا تكرار وتفسير .
(كانوا متناقضين) لأن هناك صنف من النصوص أوجبوا تأويلها ولا يجوز إجراؤها على ظاهرها . (وان ارادوا بالظاهر هنا معنى وهناك معنى فى سياق واحد من غير بيان كان تلبيسا) إذا قلتم النصوص التي تدل على الإرادة والقدرة والسمع و البصر مثلا تجري على ظاهرها أردتم بالظاهر هنا معنى ، وقلتم النصوص التي تدل على الوجه واليدين والغضب والرضا والنزول والمجيء والاستواء لها ظاهر ولا يجوز بقاؤها على الظاهر ، أردتم هنا ظاهرا غير ذلك الظاهر ، هذا هو تلبيس على الناس ، الذي لا يعرف اصطلاحكم لا يستطيع أن يفهم مرادكم لأنكم قسمتم الظاهر إلى قسمين ظاهر يليق بالله وظاهر لا يليق بالله ، وجعلتم بعض النصوص تدل على هذا الظاهر ونصوصا أخرى تدل على ذاك الظاهر وهذا هو التلبيس .
مرة أخرى (وان ارادوا بالظاهر هنا) مثلا في صفات المعاني (معنى وهنا) في الصفات الخبرية (معنى فى سياق واحد) لأن النصوص كلها سيقت سياقا واحدا وهو الإثبات إثبات صفات الله تعالى .(20/13)
(من غير بيان) من الذي بين لنا أن الظاهر ينقسم إلى قسمين وأن بعض النصوص تبقى على ظاهرها وبعضها يجب تأويلها ؟ أين البيان ؟ البيان هذا لا يأتي إلا من الله أو من رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا لم يكن هناك شيء كما هو الواقع (كان) هذا التصرف (تلبيسا) على الناس ، لذلك الأشاعرة أشد الناس تلبيسا على الناس أكثر من المعتزلة الذين هم أبعد منهم ، أضرب لكم لذلك مثالا ، في كلام الله تعالى أي في القرآن المعتزلة صرحاء قالوا هذا القرآن مخلوق ، معنى الله متكلم أي خالق للكلام ، ليس له كلام إلا الكلام المخلوق كأي خلق من مخلوقات الله تعالى ، كلام ظاهر تستطيع أن تناقشه وتناظره على ضوء هذه الصراحة ، لكن يأتي الأشعري يقول كلام الله ينقسم إلى قسمين إذا أطلقنا على القرآن كلام الله إنما نعني مجازا ، مجاز ليس بحقيقة ، في الواقع أن هذا القرآن ليس بكلام الله حقيقة ولكن نقول في مجلس التعليم للتلاميذ كلام الله ، نهمس في آذانهم لئلا يسمع النس لئلا يستخف بهذا القرآن لأنه دال على كلام الله الحقيقي وإلا هو ليس بكلام الله المعتزلة على الحق في قولهم إنه مخلوق لكن نحن لسنا مثلهم أغبياء نصرح في كل مكان بأنه مخلوق ، لا ، في مجالس العلم نعلن بأنه مخلوق ، أمام الناس نقول القرآن كلام الله قال الله تعالى ويقرأ آية كأي سني ، هكذا لبسوا على الناس ، الذي لا يعرف طريقهم لا يعرف كيف يمشي معهم ، لأن في القرآن لهم تصرف غريب ، مخلوق في الحقيقة لكن لا يطلق بأنه مخلوق في كل مقام لذلك يقول الإيجي من كبار علمائهم : الفرق بيننا وبين المعتزلة إثبات الكلام النفسي وعدم إثبات الكلام النفسي . أي المعتزلة لا يثبتون الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت بل هذا هو كلام الله ولكنه مخلوق ، والأشاعرة يوافقونهم في أن هذا الكلام اللفظي مخلوق لكن يثبتون الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ، هكذا هم أشد الناس تلبيسا على الناس .(20/14)
قال الشيخ رحمه الله (وان ارادوا بالظاهر مجرد اللفظ أى تجرى) الألفاظ أو تجري النصوص (على مجرد اللفظ الذى يظهر من غير فهم لمعناه) معنى الظاهر ألفاظ مجردة تُمر كما جاءت من غير فهم لمعناها .
(كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضا) لا معنى للإثبات ولا للنفي ، هذا كلام يعتبر مكرر مع السابق والمكرر أحلى .
(لأن من أثبت تأويلا أو نفاه فقد فهم منه معنى) كل من يقول إن التأويل ثابت أو منفي يدل كلامه هذا أنه فهم المعنى .
(فهم معنى من المعانى وبهذا التقسيم يتبين تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها فى هذا الباب) نفاة الصفات الجهمية والمعتزلة ومثبتيها بالنسبة لبعضها وهم الأشاعرة والماتوريدية ، المعتزلة كما قلت لكم موقفهم صريح ، لكن استطاعت الأشاعرة أن تكسب ألقابا ، إن نظرت إليهم من حيث نفي بعض الصفات أي تأويلها تأويلا يؤدي إلى النفي كالعلو والاستواء والكلام فهم من النفاة ، ومن حيث إثباتهم بعض الصفات فهم من المثبتة ، إذن فهم مثبتة ونفاة ومعطلة وجهمية وأقربهم إلى أهل السنة والجماعة ، هذه ألقاب الأشاعرة ، فليرضوا بهذا وليعالجوا أنفسهم .
إلى هنا نكتفي هذا اليوم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(20/15)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((القاعدة السادسة أن لقائل ان يقول لا بد فى هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز فى النفى والاثبات اذ الاعتماد فى هذا الباب على مجرد نفى التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد وذلك انه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فالنافى إن إعتمد فيما ينفيه على ان هذا تشبيه قيل له إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل وان أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له فى الاسم لزمك هذا فى سائر ما تثبته وانتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذى فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له ومعلوم ان إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فانه يعلم بضرورة العقل إمتناعه ولا يلزم من نفى هذا نفى التشابه من بعض الوجوه كما فى الاسماء والصفات المتواطئة ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرا بمعنى من المعانى ثم ان كل من اثبت ذلك المعنى قالوا أنه مشبه ومنازعهم يقول ذلك المعنى ليس من التشبيه))
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية (القاعدة السادسة) هذه القاعدة فيها ذكر الضابط الذي تعرف به الطرق الصحيحة من الطرق الباطلة في النفي والإثبات .(20/16)
قال شيخ الإسلام رحمه الله (أن لقائل ان يقول لا بد فى هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز) في هذا الباب أي في باب الأسماء والصفات ، هذا الباب الذي كثر فيه الخلط والخبط بين علماء الكلام لا بد من معرفة ضابط يعرف به ما يثبت لله وما يُنفى ، ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز (فى النفى والاثبات اذ الاعتماد) أي لأن الاعتماد (فى هذا الباب على مجرد نفى التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد) (اذ الاعتماد فى هذا الباب على مجرد نفى التشبيه) لو نفى إنسان صفة من الصفات أو اسما من الأسماء فقيل له ما الضابط وما السبب يقول إثبات ذلك يؤدي إلى التشبيه ، يؤدي إلى التشبيه في نظره هو ، قد تكون الصفة ثابتة بالكتاب والسنة وينفي عالم من علماء الكلام هذه الصفة فيقول إثباتها يؤدي إلى التشبيه إذن ما هو الضابط ؟
(أو مطلق الإثبات من غير تشبيه) يثبت صفة من الصفات غير واردة في الكتاب والسنة ويقول نثبت على ما يليق بالله تعالى ، يثبتها من غير تشبيه ، على أساس أثبت ؟ والنفي والإثبات في هذا الباب توقيفي ، لا يجوز لإنسان أن يتجرأ وينفي أو يثبت من عند نفسه .
لذلك يقول الشيخ هذا (ليس بسديد) إذن لا بد من ضابط ، ما هو الضابط ؟(20/17)
ضابط النفي والإثبات أولا ضابط الإثبات ثبوت الصفة بالوحي ، هذا هو الضابط ، ضابط الإثبات في هذا الباب ثبوت تلك الصفة بالوحي ، المراد بالوحي الكتاب والسنة ، وإنما اخترنا الوحي ليشمل الكتاب والسنة الصحيحة ، السنة غير الصحيحة لا تقبل لا بد أن تكون السنة صحيحة ، إذن بدلا من أن نقول بالكتاب والسنة إذا قلنا بالوحي كفى ، الضابط ثبوت تلك الصفة بالوحي وعدم الثبوت ، ما ثبت بالوحي أثبتنا وما لم يثبت لا نثبت ، ولو ادعى ما ادعى بأننا نثبتها من غير تشبيه ، الأساس الثبوت ، ودعوى إثبات صفة ثم القول على ما يليق بالله تعالى هذا غير ثابت وليس هنا ضابط لهذا تتفق عليه العقول كما قال بعض من فقد تقدير الله تعالى حق قدره يثبت له البكاء يقول يبكي على ما يليق بالله ، وهذا باطل البكاء نقص لا يليق بالله بوجه من الوجوه ومن هذا القبيل ما يتساهل فيه ويقوله بعض الناس (وهو معنا في الأرض على ما يليق به) ، باطل ، لا يليق بالله تعالى بوجه من الوجوه أن يكون في الأرض بين خلقه ممتزجا ومختلطا بخلقه بل لا يليق بالله سبحانه وتعالى أن يكون في جوف السماوات أو أن يحيط به أي مخلوق من المخلوقات ، كيف يحيط المخلوق بالخالق ؟ فهو أعظم وأجل من ذلك ، القول - هذا منتشر في هذه الآونة - القول بأن سبحانه وتعالى معنا في الأرض كما يليق به قول باطل .(20/18)
(وذلك انه ما من شيئين) إذا اعتمدنا على نفي المشابهة ما من شيئين (إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز) ما من شيئين موجودين سواء كان الوجود الوجود الواجب أو الوجود الجائز إلا أن يكون بينهما قدر مشترك ، قدر مشترك في الاسم وقدر مشترك في المعنى العام ، والمعنى العام الذي لا وجود له إلا في الذهن ولا وجود له في الخارج ، أما ما في الخارج لا اشتراك فيه أي إذا اختصت صفات الله تعالى بالله وصفات المخلوق بالمخلوق لا اشتراك هنا ، لكن في المعنى العام المطلق الثابت في الذهن لابد من المشاركة ، وبذلك نميز بين الصفات بين القدرة والإرادة والسمع والبصر مثلا وبين وجود الخالق ووجود المخلوق .
(فالنافى إن إعتمد فيما ينفيه على ان هذا تشبيه قيل له إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل) لا يقول عاقل بهذا ، إن أردت أن إثبات السمع مثلا أو إثبات البصر أو إثبات الاستواء يؤدي إلى التشبيه أي الى المماثلة بين الخالق والمخلوق من كل وجه فهذا باطل لا يقوله عاقل .
(وان أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه) أي يحصل الاشتراك أو المشاركة بين الخالق والمخلوق في السمع العام قبل الإضافة وفي الاستواء العام وفي المجيء العام وهو المعنى الذي في الذهن الذي لا وجود له في الخارج ، إن أردت به هذا (لزمك هذا فى سائر ما تثبته) هذا مثلا تلزم بهذه الحجة الأشعري الذي يثبت السمع والبصر فتقول له على أي وجه أثبت ؟
على ما يليق بالله .
ولماذا نفيت الاستواء والنزول ؟ .
لأنه يؤدي إلى المشابهة ؟
أي مشابهة ؟ .
المشابهة من كل وجه ؟ .
باطل .
المشاركة في وجه دون وجه ؟
نعم .(20/19)
إذن يلزمك في السمع والبصر وفيما أثبت من الصفات السبع ما فررت منه في إثبات الاستواء والمجيء ونفيت من أجله ، لا فرق ، لأن الاشتراك واقع في السمع العام والإرادة العامة أي في المعنى العام للإرادة والمعنى العام للسمع والبصر أي في ذلك الذي يقع في الذهن قبل أن يوجد في الخارج ، لا فرق بين ما أثبت وبين ما نفيت ، إن نفيت فرارا من هذه المشاركة من وجه دون وجه فهذا ثابت فيما أثبت ، إذن تقع في التناقض وأمر لا بد منه ، التناقض كما قلنا قاعدة عامة لكل من خالف الكتاب والسنة لا بد أن يتناقض .
مرة أخرى (فالنافى إن إعتمد فيما ينفيه) كالاستواء والنزول والوجه واليد .
(على ان هذا تشبيه قيل له إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل) لا يقوله أحد .
(وان أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه) أو مشارك له في الاسم العام (لزمك هذا فى سائر ما اثبته) كما مثلنا ، من نفى الصفات الخبرية لأنها تؤدي إلى التشبيه وهو يثبت الصفات العقلية هكذا يُلزم وهكذا يتناقض .
(وانتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذى فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع على الآخر ويجب له ما يجب له) أي التشابه من كل وجه فيما يجوز وفيما يمتنع وفيما يجب مثل هذا التشابه كما قلنا لا يقوله عاقل ، وإن أرادوا التشابه من وجه دون وجه فهذا ثابت كما قلنا غير مرة .
(ومعلوم ان إثبات التشبيه بهذا التفسير) أي يجوز عليه ما يجوز على الآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له ، هذا التفسير الذي يعنيه .
(ومعلوم ان إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول فانه يعلم بضرورة العقل إمتناع ذلك) المشاركة المطلقة بين الخالق والمخلوق بحيث يجوز له ما يجوز على المخلوق ويمتنع عليه ما يمتنع على المخلوق ويجب له ما يجب على المخلوق وبالعكس ممنوع بضرورة العقل .(20/20)
(ولا يلزم من نفى هذا نفى التشابه من بعض الوجوه) إذا نفينا المشاركة من كل وجه لا يلزم من نفي هذا (نفى التشابه من بعض الوجوه) كما قلنا .
(كما فى الاسماء والصفات المتواطئة) ما هي الأسماء والصفات المتواطئة ؟
التي تشترك في اللفظ وتختلف في الحقيقة والمعنى كالعلم مع العلم والقدرة مع القدرة والسمع مع السمع إلى آخر الصفات ، والاشتراك من وجه دون وجه لا بد فيه في الأسماء المتواطئة والصفات المتواطئة أي الاشتراك في الاسم والمعنى العام الذي يسمى عند علماء الكلام المطلق الكلي .
(ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسرا بمعنى من المعانى) الجهمية يفسرون التشبيه بمعنى من المعاني وكذلك المعتزلة في تفسيرهم الخاص ، والأشاعرة والماتوريدية في تفسيرهم الخاص .
(ثم ان كل من اثبت ذلك المعنى قالوا أنه مشبه) عند الجهمية حتى المعتزلة مشبهة لأنهم يثبتون الأسماء ، وعند المعتزلة الأشاعرة وجميع المثبتة مشبهة لأنهم يثبتون الأسماء والصفات .
(ومنازعهم يقول ذلك المعنى ليس هو من التشبيه) أي إثبات الصفات وإثبات الأسماء ، إثبات الصفات الخبرية كإثبات الصفات العقلية ليس بتشبيه ولكن التشبيه الممتنع أن يجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجوز عليه ما يجوز عليه كما تقدم ، هذا ممتنع .
نعم .
((وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل وذلك ان المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون كل من اثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل فمن قال بان لله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم مشبها ممثلا لأن القدم عند جمهورهم هو اخص وصف الإله فمن اثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الإعتبار ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا بل يقولون أخص وصفه ما لا يتصف به غيره مثل كونه رب العالمين وأنه بكل شىء عليم وأنه على كل شىء قدير وأنه اله واحد ونحو ذلك))
انتبه لهذه النقطة مهمة جدا .(20/21)
(وقد يفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل) (قد) هنا في نوع من الإشكال ، فيه نظر لأن السياق يدل على أنها للتقليل والواقع خلاف ذلك (ويفرق بين لفظ التشبيه والتمثيل) لابد من التفريق بينهما ، التمثيل يكون من كل وجه ، والتشبيه لا يلزم منه أن يكون من كل وجه ، لو قيل مثلا للرجل الشجاع (زيد كالأسد) فهل هو مثل الأسد من كل وجه ؟ لا ، إنما شابه الأسد في صفة واحدة الشجاعة والإقدام ، وإلا إن زيدا ليس حيوانا مفترسا يمشي على أربع وله شعر كثير وناب قوي ، هذا الأسد ، وهل زيد شابه أسدا في هذه الصفات كلها ؟ لا ، إنما شابهه في صفة واحدة لذلك يسوغ أن يقال زيد كالأسد بل بالتشبيه المبالغ فيه (زيد أسد) جائز ولا يلزم من هذا المماثلة من كل وجه ، إذن لا بد من التفريق بين لفظ التشبيه ولفظ التمثيل ، هذا ليس ..
الشريط العشرون :
ولا يلزم من هذا المماثلة من كل وجه ، إذن لا بد من التفريق بين لفظ التشبيه ولفظ التمثيل ، هذا ليس أحيانا أو في وقت دون وقت بل مطلقا لغة هكذا هذا هو الذي جعلنا نقول لفظة (قد) فيها نظر .
(وذلك ان المعتزلة ونحوهم) أي من يوافقهم على نفي الصفات منهم الجهمية فهم أبلغ منهم في النفي .(20/22)
(من نفاة الصفات يقولون كل من اثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل) هذا كلام باطل (كل من اثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل) على هذا حتى الأشاعرة يعتبرون من المشبهين الممثلين في نظر الجهمية والمعتزلة لأن الأشاعرة يثبتون الصفات السبع والصفات السبع صفات قديمة لله سبحانه وتعالى قائمة بذاته كل من أثبت صفة قديمة من الصفاتية ، الصفاتية تشمل المثبتين لجميع الصفات وهم السلف وأتباع السلف وتشمل هذه الصفة الأشاعرة أيضا في هذه النقطة ، أي إن الأشاعرة يشاركون أتباع السلف من المثبتين لجميع الصفات يشاركونهم في وصف الصفاتية في نظر المعتزلة والجهمية لأنهم يثبتون بعض الصفات على ما يليق بالله تعالى وهي الصفات العقلية التي تسمى عندهم صفات المعاني .. أي إن الأشاعرة يثبتون الصفات العقلية معنى الصفات العقلية الصفات التي تثبت بالشرع والعقل معا أي بالنقل والعقل معا هي التي لولا ورود الشرع لولا ورود السمع لأدرك العقل إثباتها هذه الصفات العقلية أي في إمكان الإنسان أن يثبت لله سبحانه وتعالى القدرة قبل أن يسمع شيئا من النصوص استدلالا بالأدلة الكونية المشاهدة ، هذا الإبداع من غير مثال سابق دليل على القدرة دليل عقلي والتخصيص دليل على الإرادة خص هذا بالعلم وذاك بالجهل وذاك بالفقر وذاك بالغنى وهكذا هذا يسمى تخصيص ، وهذا التخصيص يدل على الإرادة ، إلى آخر الصفات السبع تسمى الصفات العقلية ، لأنها تثبت بالدليل العقلي والنقلي معا ، وهل توجد صفات عقلية محضة تثبت بالدليل العقلي فقط ولا تثبت بالدليل النقلي ؟(20/23)
لا وجود لها ، ربما يفهم بعض الناس إذا قيل الصفات العقلية أنه توجد صفات تثبت بالعقل فقط ولم يرد بها نص لا من الكتاب ولا من السنة هذا غير صحيح يجب أن يصحح هذا المفهوم وإنما أطلق على بعض الصفات أنها صفات عقلية لأن العقل يشترك مع النقل في إثبات هذه الصفات كما مثلنا بالقدرة والإرادة كذلك العلم وكذلك السمع وكذلك البصر إلى آخره ، أما الصفات الخبرية تسمى الصفات النقلية وتسمى الصفات النقلية ، هي الصفات التي لا مجال للعقل في إثباتها لولا ورود النص ، لو لم يرد نص من الكتاب والسنة لا يجرؤ أحد أن يقول إن الله مستوعلى عرشه وأنه ينزل آخر كل ليلة وأنه يأتي يوم القيامة لفصل القضاء هذه صفات خبرية محضة ويقال لها الصفات السمعية ويقال لها الصفات النقلية أي لولم يرد نص لا ترد هذه الصفات بالعقل ، لا مجال للعقل إلى إدراكها ، يجب أن يفرق بين الصفات السمعية والعقلية بهذا التفسير .
نعود فنقول (فان المعتزلة) ومن وافقهم (من نفاة الصفات) وهم الجهمية (يقولون كل من اثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل) الصفاتية على الحقيقة الذين يثبتون جميع الصفات وكذلك الأشاعرة .
(فمن قال) مثلا (ان لله علما قديما أو قدرة قديمة كان عندهم) عند الجهمية والمعتزلة (مشبها ممثلا) والأشاعرة هنا يوافقون أهل السنة فيثبتون علما قديما وقدرة قديمة إذن هم من المشبة والممثلة في نظر الجهمية والمعتزلة .
(لأن القدم عند جمهورهم) جمهور المعتزلة والجهمية (هو اخص وصف الإله) هذا في نظرهم وفي اصطلاحهم وهو اصطلاح باطل كما سيأتي .(20/24)
(فمن اثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلا قديما ويسمونه ممثلا بهذا الإعتبار) كما قلنا ينطبق هذا على أهل السنة والجماعة وعلى الأشاعرة الذين وافقوا أهل السنة والجماعة في هذه النقطة أو في بعض النقاط ، ليتضح المقام إن الأشاعرة كثيرا ما يوافقون أهل السنة والجماعة في بعض الصفات وفي بعض المواقف وفي بعض العقائد ولكن يخالفون في بعض المواقف الخطيرة جدا لذلك يكفي أن يقال فيهم أنهم أقرب إلى أهل السنة والجماعة ولا يقال لهم من أهل السنة والجماعة أو هم أهل السنة والجماعة أو يقال إنهم أهل الحق كما يحلو لبعضهم هذه الأيام يسمون الأشاعرة أهل الحق ، أين الحق فيمن يقول إن القرآن مخلوق وليس بكلام الله حقيقة ، هذا ما تقوله الأشاعرة مشاركين أو موافقين للمعتزلة في هذه الصفة الخطيرة التي فيها تكذيب لرب العالمين الذي قال في كتابه "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" كلام الله الذي تلاه النبي عليه الصلاة والسلام على المشركين وغير المشركين وسمعوا منه هو هذا القرآن العربي الذي بين دفتي المصحف هذا القرآن عند الأشاعرة مخلوق فإطلاق أنه كلام الله عليه إطلاق مجازي ، هذه النقطة نكررها في كل مناسبة لأن الأشاعرة يوجدون في المجتمع المعاصر الآن وجودا جماعيا وقد يستنكرون عندما نقول إنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة ولا بد من دليل يثبت أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة هذه الصفة ، الصفة الثانية الخطيرة التي وافقت الأشاعرة فيها جميع النفاة من المعتزلة والجهمية نفي العلو ونفي الاستواء ، لعلكم تفرقون بين صفة العلو وصفة الاستواء صفة العلو علو الله تعالى صفة قديمة عقلية سمعية ثابتة بالعقل والسمع والإجماع والفطرة ، صفة العلو كون الرب سبحانه وتعالى يدعى من فوق لا من أسفل ، صفة عقلية سمعية ثبتت بالكتاب والسنة وثبتت بالعقل السليم هذه الصفة وثبتت بإجماع السلف من الصحابة والتابعين وثبتت بالفطرة ، كل من سلم في(20/25)
فطرته وعقله يعتقد علو الله سبحانه وتعالى لذلك كل داع عربيا أو عجميا يرفع يديه عند الدعاء بل إذا قال يا الله التفت ضميره إلى العلو قبل أن يرفع يديه ، هذا دليل عقلي فطري يؤدي بالفعل سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الجارية الأعجمية راعية الغنم التي أراد مولاها في بعض المناسبات أن يعتقها فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأكد من إيمانها فطلبها فسألها السؤال الآتي "أين الله" وكلمة أين الله عند الأشاعرة الآن السؤال عن الله بأين يعتبرونه جريمة لندرك ونثبت بهذا مخالفة الأشاعرة لأهل السنة والجماعة ، في كتبهم لا يسأل عن الله بأين والذي سأل بأين هو رسول الله الذي جاءنا بهذا الدين ، يقول للجارية العامية "أين الله" فقالت في السماء أي في العلو ، من أين علمت ؟ علمت بدليل الفطرة ، ثم قال لها "من أنا" قالت أنت رسول الله فشهد لها بالإيمان قال فاعتقها فإنها مؤمنة بهذا تدركون إن صفة علو الله تعالى وأنه فوق جميع المخلوقات مستو على عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته إيمان فطري عقلي شرعي وثبت بالإجماع كما قلنا ، أما صفة الاستواء على العرش صفة فعلية لأن الله أخبر أنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام هذا علو خاص بالعرش ويسمى صفة الاستواء ، صفة العلو في إمكان الإنسان أن يدرك ذلك بعقله وفطرته إن سلم له عقله وفطرته من لوثة أهل الكلام وأما كونه خص العرش بالاستواء لا يعلم هذا إلا بدليل سمعي من الكتاب والسنة وفي الكتاب آيات كثير تدل على الاستواء وفي السنة قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لما خلق الخلق كتب عنده كتابا وهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي " أو "غلبت غضبي" أشير في كل مناسبة هذه الإشارة ردا على الأشاعرة أيضا لأن الأشاعرة يرون أن هذه الإشارة غير جائزة قد تؤدي إلى الكفر عندهم ، لو أشار المؤشر هكذا معتقدا بأن الله في العلو(20/26)
بذاته يكفرون وإن أشار دون اعتقاد يفسقون ويجهلون أو يتجاهلون على الأصح إنهم يجهلون السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام تلك الإشارة العظيمة من النبي العظيم عليه الصلاة والسلام في اليوم العظيم في ذلك الاجتماع العظيم في يوم عرفة عندما سأل أصحابه في آخر الخطبة "أنتم مسؤولون عني ماذا أنتم قائلون؟" قالوا نشهد بأنك نصحت وبلغت أو كما قالوا قال النبي عليه الصلاة والسلام "اللهم اشهد اللهم اشهد" ثلاث مرات يرفع أصبعه إلى الله وينكبها عليهم ويشهد الله عليهم بأنهم شهدوا له بأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح لأمته ونحن نشهد معهم هذه الشهادة والحمد لله على ذلك .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا) لا يوافقون بأن كل من أثبت صفة قديمة لله تعالى فهو مشبه أو ممثل .
(بل يقولون) بل لا بوافقون على أن أخص وصف الرب سبحانه وتعالى القدم (بل يقولون أخص وصفه) على الحقيقة ( ما لا يتصف به غيره) أخص أوصاف الرب سبحانه وتعالى ما لا يتصف به غيره .
(مثل كونه رب العالمين) لا أحد يوصف بأنه رب العالمين غير رب العالمين خالق السماوات والأرض ، إذن هذا من أخص صفات الرب سبحانه .
(وأنه بكل شىء عليم) الوصف بأنه بكل شيء عليم خاص بالله الله منح العباد العلم ولكن وصف علمهم بأنه قليل "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" أما العلم المحيط بجميع المعلومات فهو علم الرب وحده سبحانه .
(وأنه بكل شىء عليم وأنه على كل شىء قدير) العبد له قدرة الله منحه علما وقدرة وإرادة واختيارا ، هل هو على كل شيء قدير ؟ لا ، قدرة محدودة .(20/27)
(وأنه اله واحد) وأنه الإله الواحد ، لو كان التعبير بالتعريف لكان أولى وأنه الإله الواحد لأن لفظة إله قبل التعريف تطلق على المعبود بالحق والمعبود بالباطل ، الآلهة كثيرة سابقا وحاضرا ، المستقبل عند الله ، الذين يعبدون من دون الله وما يعبد من دون الله من الجمادات والعقلاء كثر قديما وحديثا لكن الإله الحق هو الله وحده ، ولفظ إله تطلق على المعبود بالحق والمعبود بالباطل إلا أن لفظة الله لفظ الجلالة لا يطلق إلا على المعبود بحق وهو فاطر السماوات والأرض ، (الإله) إذا عرفناه هكذا يكون اسما للرب سبحانه وتعالى .
(ونحو ذلك والصفة لا توصف بشىء من ذلك) لا يقال في الصفات إن القدرة رب العالمين ولا يقال في القدرة مثلا إن القدرة عليمة بكل شيء إلى غير ذلك إذن هذا أخص صفات الرب سبحانه وتعالى هذه الصفات وما في معناها .
نعم .
((ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول فى الصفات أنها قديمة بل يقول الرب بصفاته قديم ومنهم من يقول هو قديم وصفته قديمة ولا يقول هو وصفاته قديمان ومنهم من يقول هو وصفاته قديمان ولكن يقول ذلك لا يقتضى مشاركة الصفة له فى شىء من خصائصه فان القدم ليس من خصائص الذات المجردة بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم فضلا عن ان تختص بالقدم وقد يقولون الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم وليست الصفات الها ولا ربا كما ان النبى صلى الله عليه وسلم محدث وصفاته محدثة وليست صفاته نبيا))(20/28)
انتبه ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في بيان الاختلاف بين الصفاتية وغير الصفاتية ، تقدم أن عرفنا المراد بالصفاتية أهل السنة والجماعة وتشترك الأشاعرة في هذا الوصف أنهم من الصفاتية لإثباتهم بعض الصفات كما تقدم (من هؤلاء الصفاتية من لا يقول فى الصفات أنها قديمة بل يقول الرب بصفاته قديم) أي لا يفصلون الصفة من الذات ويصفونها بأنها قديمة بل يقولون الرب بصفاته قديم أو الرب قديم بأسمائه وصفاته هذا هو الصحيح .
(ومنهم من يقول هو قديم وصفاته قديمة) وإن كان التعبير الأول أدق لكن هذا ليس فيه محظور .
(ولا يقول هو وصفاته قديمان) بالتثنية .
(ومنهم من يقول هو وصفاته قديمان) أي إن الصفاتية يختلفون في التعبير وهذا الاختلاف التنوعي لا يضر .
(ولكن يقول ذلك لا يقتضى) بعد أن يثبت القدم للصفة وللذات لكنه يقول (ذلك لا يقتضى مشاركة الصفة له سبحانه وتعالى فى شىء من خصائصه) كالذي تقدم كونه سبحانه وتعالى رب العالمين وأنه بكل شيء عليم إلى آخره .(20/29)
(فان القدم ليس من خصائص الذات المجردة) عن الصفات (بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات) الكمال ، هذه مهمة ينبغي أن نفهم (فان القدم ليس من خصائص الذات المجردة) لأن الذات المجردة عن الصفات لا وجود لها إلا في الذهن (بل) هو (من خصائص الذات الموصوفة بصفات) الكمال (وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم) أي عند الصفاتية جميعا (فضلا عن ان تختص بالقدم) هذا واضح ، هل الصفة غير الموصوف ؟ أو عين الموصوف ؟ بحث معروف عند أهل الكلام ثم انتقل هذا البحث إلى الصفاتية من أهل السنة والجماعة لأنه اصطلاح ينبغي أن يعرف ، لا يقال الصفة غير الذات بالإطلاق ولا يقال الصفة عين الذات بالإطلاق ولكن لا بد من تفصيل ، الصفة عين الذات باعتبار عدم الانفصال بين الذات وبين الصفة أي لا توجد ذات مجردة عن الصفات ولا توجد صفة قائمة بنفسها مجردة عن الذات ، بهذا الاعتبار الصفة عين الذات ، وباعتبار تصور المعنى لكل من الصفة والذات الصفة غير الذات للقدرة مفهوم وللقادر مفهوم ، للعلم مفهوم وللعالم مفهوم ، بهذا الاعتبار الصفات غير الذات ، لا بد من هذا التفصيل .
(وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم) أي عند الصفاتية (فضلا عن ان تختص بالقدم وقد يقولون الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم) هذا صحيح ، الذات الله سبحانه وتعالى متصف بالقدم وقدرته وسمعه وبصره وجميع الصفات الذاتية موصوفة بالقدم ، صفات الله الذاتية غير الفعلية متصفة بالقدم أما الصفات الفعلية فتتجدد حسب مشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته بقدرته .
(وليست الصفات الها) أي إذا قيل الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم لا يلزم من هذا أن تكون (الصفات الها ولا ربا كما ان النبى صلى الله عليه وسلم) وغيره (محدث وصفاته محدثة وليست صفاته نبيا) كالكرم والشجاعة هذه الصفات من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي النبي بل صفات النبي .
ولنكتفي بهذا المقدار .(20/30)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ((فهؤلاء اذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل كان هذا بحسب إعتقادهم الذى ينازعهم فيه أولئك ثم يقول لهم أولئك هب ان هذا المعنى قد يسمى فى اصطلاح بعض الناس تشبيها فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع وإنما الواجب نفى ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية و القرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ولكن يقولون الصفة فى لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا يدخل فى النص وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه فى اصطلاح المعتزلة وكذلك أيضا يقولون إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقيام الافعال الإختيارية به ونحو ذلك ويقولون الصفات قد تقوم بما ليس بجسم وأما العلو على العالم فلا يصح إلا اذا كان جسما فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه فلهذا تجد هؤلاء يسمون من اثبت العلو ونحوه مشبها ولا يسمون من اثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها كما يقوله صاحب الارشاد وأمثاله وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضى أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية كما هو أول قولى القاضى أبى يعلى فيكون الكلام فيه كالكلام فى الوجه وقد يقولون ان ما يثبتونه لا ينافى الجسم كما يقولونه فى سائر الصفات والعاقل اذ تأمل وجد الامر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق))
بسم الله الرحمن الرحيم(20/31)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يورد شبه المعتزلة والرد عليهم (فهؤلاء) أي المعتزلة ومن يوافقهم (اذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه) سبق أن عرفنا الصفاتية من هم ، الصفاتية مثبتة الصفات كلها كل الصفات الصفات والأسماء معا أي الذين يثبتون لله تعالى ما أثبت لنفسه وما أثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال كما تشمل هذه اللفظة أو هذا الاصطلاح أحيانا الأشاعرة لإثباتهم بعض الصفات كما تقدم التفصيل ، تطلق المعتزلة ومن وافقهم على من يثبت الصفات كلها أو بعض الصفات من الصفاتية اسم التشبيه أي من يثبت الصفات فهو مشبه سواء أثبت الصفات كلها أو بعضها ويقال له إنه ممثل ، سبق أن فرقنا بين التشبيه وبين التمثيل ، من حيث اللغة بين التمثيل وبين التشبيه فرق كبير التشبيه قد يطلق على أمرين يتشابهان من بعض الوجوده ويختلفان من بعض الوجوه لكن التمثيل هو أن يكون الشيء مثلا لما يشبهه ولا فرق بينه بين المشبه والمشبه به بالنسبة للتمثيل أو بين الممثَّل والممثَّل به . (كان هذا) الاطلاق (بحسب إعتقادهم الذى ينازعهم فيه أولئك) أولئك اسم الإشارة للصفاتية كان هذا الإطلاق بحسب اعتقاد المعتزلة الذي ينازعهم فيه الصفاتية لأن الصفاتية لا يثبتون ولا يوافقون أن كل من أثبت صفة من صفات الله تعالى بأنه مشبه أو ممثل .(20/32)
(ثم يقول لهم أولئك) أي الصفاتية يقولون للمعتزلة (هب) افرض (ان هذا المعنى قد يسمى فى اصطلاح بعض الناس تشبيها) في اصطلاح بعض الناس هم المعتزلة ومن وافقهم (فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع) أي إثبات تسمية مثبتة الصفات تسميته مشبها أو ممثلا أو إثبات الصفات لم ينفه عقل ولا سمع ، بل ورد السمع بإثبات الصفات ووافق العقل السليم إثبات الصفات (وإنما الواجب نفى ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية) هذا راجع لما تقدم من ذكر الضوابط ، الضابط الصحيح نفي ما نفته النصوص وإثبات ما أثبتته النصوص من الكتاب والسنة .
(وإنما الواجب نفى ما نفته الأدلة الشرعية) والأدلة (العقلية) والأدلة العقلية تابعة للأدلة الشرعية ، الأصل عندنا الأدلة الشرعية وتسمى الأدلة النقلية والأدلة الخبرية ، الواجب إثبات ما أثبتته الأدلة الشرعية فوافقت الأدلة العقلية السليمة الصريحة هذا هو الواجب بل هذا هو الضابط لذلك يقول الشيخ (والقرآن قد نفى مسمى المثل) ومسمى (الكفء والند) نفى المثل حيث قال الرب سبحانه وتعالى "فلا تضربوا لله الأمثال" " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" هكذا نفى المثل ، ونفى الكفء "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" ونفى الند "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" الأنداد جمع ند ، نفى القرآن المثل ونفى الكفء ونفى الند ، الواجب نفي ما نفاه القرآن .
(ولكن يقولون) الصفاتية ولفظة (لكن) الاستدراك ليس بواضح نعيد العبارة (والقرآن قد نفى مسمى المثل والكفء والند ونحو ذلك ويقولون) الصفاتية أو فيقولون الصفاتية (الصفة فى لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفؤه ولا نده فلا تدخل فى النص) لا تدخل في النص المتقدم "فلا تضربوا لله الأمثال" وفي قوله تعالى "فلا تجعلوا لله أندادا" لا تدخل في هذه النصوص .(20/33)
(وأما العقل فلم ينف مسمى التشبيه فى اصطلاح المعتزلة) التشبيه في اصطلاح المعتزلة إثبات الصفات ، العقل لا ينفي مسمى التشبيه أي لا ينفي إثبات الصفات لله تعالى الذي يسمى تشبيها في اصطلاح المعتزلة إذن على أي أساس ننفي ما ننفي يجب أن يكون الذي ينفى بناء على ما نفته النصوص من الكتاب والسنة وما نثبته كذلك بناء على ما أثبتته النصوص من الكتاب والسنة .
(وكذلك أيضا يقولون) هذه شبهة أخرى قريبة من التي قبلها عند المعتزلة يقولون (إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز) إثبات الصفات يؤدي إلى القول بأن الله جسم وأنه متحيز وسيأتي التفصيل في الجسم هل الجسم ما يشار إليه هل الجسم ما يقوم بنفسه هل الجسم مركب يأتي هذا التفصيل ، والمتميز الذي يتخذ حيزا معينا ويعتبرون إثبات العلو أنه متحيز كل هذه اصطلاحات لم يرد بها كتاب ولا سنة ولم يستعملها السلف لذلك كلمة متحيز وجسم وجوهر وعرض هذه الألفاظ لا يجوز استعمالها في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا لما فيها من الإجمال لأن الجسم قد يطلق ويراد به الذات ويطلق ويراد به ما يشار إليه ما يقبل الإشارة إليه بهذا الاعتبار ممكن لولا عدم الورود إطلاقه على الله سبحانه وتعالى لأن الإشارة إلى الله واردة ولأن الله سبحانه وتعالى ذات بهذا الاعتبار ممكن إطلاق الجسم لكن يحتمل الجسم معنى آخر وهو المركب إما من الجواهر الفردة أو من الجواهر مطلقا بهذا الاعتبار لا يصح ، ما دام فيه هذا الإجمال لا ينبغي استعمال الجسم في حق الله تعالى لا يقال إن الله جسم ولا يقال إن الله ليس بجسم بل نستعمل الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة ، كذلك المتحيز لأن المتحيز يحتمل أن يكون بمعنى البائن من خلقه ويحتمل أن يكون معناه الذي يحوزه مكان ما ، طالما فيه هذا الإجمال لا يجوز أن يقال إن الله متحيز أو إن الله غير متحيز أولاً لعدم الورود ثانيا لما فيه من الإجمال ، كذلك العرض ، العرض قد يطلقونه على(20/34)
الصفات وقد يطلقونه على معان أخرى سيأتي تفصيلها لا يجوز استعمالها ، كذلك الجوهر هذه الألفاظ كلها يجب تجنبها نفيا أو إثباتا .
قال الشيخ رحمه الله تعالى نقلا لكلامهم قال (وكذلك أيضا يقولون) أي المعتزلة ومن معهم (إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز والأجسام متماثلة فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلا لسائر الأجسام وهذا هو التشبيه) هذه شبهة خطيرة بسببها ضل كثير من أهل الكلام وانطلت هذه الشبهة على الأشاعرة إلا أنهم لم يطبقوها في جميع الصفات ولكن طبقوا في الصفات الخبرية فنفوا الصفات الخبرية بناء على هذه الشبهة لئلا يكون جسما لو أثبتوا له سبحانه وتعالى الاستواء مثلا والنزول والمجيء وغير ذلك من الصفات الخبرية .
(وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش) بعض الصفاتية أي من مثبتة الصفات انطلت عليهم هذه الشبهة قالوا قول المعتزلة (الذين يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقيام الافعال الإختيارية به) وهم الأشاعرة ومن تأثر بهم الأشاعرة يثبتون بعض الصفات بل من الصفاتية من يثبت جميع الصفات كما سيأتي في بعض أئمة الأشاعرة الذين سوف يورد الشيخ أسماءهم يثبتون جميع الصفات إلا العلو وإثبات العلو عندهم يؤدي إلى التجسيم بينما يثبتون جميع الصفات ، كذلك ينفون العلو والأفعال الاختيارية وكلمة الاختيارية يقال لها صفة كاشفة المراد بالأفعال الاختيارية أفعال الرب سبحانه وتعالى كالخلق والرزق والإحياء والإماتة هذه الأفعال المتعدية يثبتونها وينفون الأفعال اللازمة كالمجيء والنزول والاستواء كلها تسمى الأفعال الاختيارية ، إثبات هذه الأفعال الاختيارية وإثبات العلو لله تعالى يؤدي إلى التشبيه في نظر هؤلاء الصفاتية الذين يثبتون بعض الصفات .(20/35)
(ويقولون الصفات قد تقوم بما ليس بجسم) كما يقول أبو يعلى كما سيأتي (الصفات قد تقوم بما ليس بجسم) أي لا يلزم من إثبات الصفات كونه جسما (وأما العلو على العالم فلا يصح إلا اذا كان جسما) هكذا تضطرب الأقوال ويتناقض الإنسان إذا ترك التقيد بالنص هذا باب لا يقبل إلا التوقيف الواجب كما تقدم إثبات ما أثبت الله أما كوننا نوزع على عقولنا منهم من ينفي عقله جميع الأسماء والصفات ومنهم من ينفي عقله الصفات مع إثبات الأسماء ومنهم من يفرق بين الصفات فيثبت الصفات العقلية وينفي الصفات الخبرية وصفات الأفعال ، وأبو يعلى كما سيأتي ذكره من كبار أئمة الحنابلة الذين تأثروا بهذه الفكرة فكرة المعتزلة ، اضطرب أحيانا يثبت جميع الصفات وينفي العلو وأحيانا يثبت العلو ولكن يرى أن العلو صفة خبرية وليست بعقلية وتقدم البحث في هذه الصفة أن صفة العلو صفة ثابتة بالأدلة العقلية والأدلة النقلية والفطرة والإجماع ، فأبو يعلى بعد أن تأثر بعلماء الكلام اضطرب اضطرابا خطيرا جدا أحيانا ينفي الصفات إلا الصفات العقلية على طريقة الأشاعرة وأحيانا يثبتها كلها إلا العلو وأحيانا يثبت العلو ويرى أن العلو صفة نقلية خبرية سمعية والعقل لا يثبت ذلك ، هكذا اضطرب .
(فلو أثبتنا) على هذا القول لو أثبتنا (علوه للزم أن يكون جسما وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه) ولعلنا سبق أن تكلمنا كون الأجسام متماثلة وهذا باطل هذه القاعدة باطلة والأجسام ليست متماثلة حتى أجسام المخلوقات غير متماثلة وهل الفيل مثل الغنم وهل الغنم مثل الأرنب وهكذا وهل هو مثل بني آدم ؟ الأجسام متفاوتة وكون الأجسام متماثلة قاعدة باطلة غير مقبولة .(20/36)
يقول الشيخ (فلهذا تجد هؤلاء يسمون من اثبت العلو ونحوه) كالمجيء والنزول أي من الأفعال الاختيارية وصفة العلو (مشبها ولا يسمون من اثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها كما يقوله صاحب الارشاد) الذي هو الجويني (وأمثاله) كالباقلاني والأشعري في طوره الثاني .
(فلهذا تجد هؤلاء يسمون من اثبت العلو ونحوه) كالاستواء (مشبها ولا يسمون من اثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبها) الأشاعرة الذين يسمون أتباع السلف بأنهم مشبهون وممثلون لإثباتهم جميع الصفات يثبتون السمع والبصر والحياة والكلام والعلم ولا يؤدي ذلك إلى التشبيه ما الفرق بين ما أثبتم وبين ما نفيتم ؟ قالوا الذي أثبتناه أثبتناه بالعقل والصفات التي يمكن إثباتها بالعقل لا تؤدي إلى التشبيه والتجسيم ولكن الذي يؤدي إلى التشبيه والتجسيم والتمثيل إثبات الصفات الخبرية التي لا سبيل إلى إثباتها إلا الخبر وإلا النقل وإلا السمع وهذا تصرف وتلاعب بكتاب الله تعالى وتفريق بين ما جمع الله ، الصفات التي أطلقوا على مثبتيها بأنهم مجسمة وممثلة كإثبات الوجه وإثبات اليدين وإثبات القدم وإثبات الأصابع وإثبات العلو والنزول هذه الصفات جاءت في الكتاب والسنة كما جاء السمع والبصر والعلم والكلام في الكتاب والسنة إذن حتى من الناحية العقلية هذا اضطراب وتناقض لأن التفريق بين المثلين غير جائزعقلا ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر طالما وردت هذه الصفات في الكتاب والسنة إما أن تنفى كلها أو أن تثبت كلها .
(وكذلك يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضى أبو يعلى وأمثاله) كابن عقيل من بعض شيوخ الحنابلة الذين تأثروا وهم قليلون جدا بينما أتباع الأئمة الثلاثة كلهم إلا من شاء الله تأثروا بعلم الكلام فصاروا إما معتزلة أو أشاعرة أو ماتوريدية وأما أتباع الإمام أحمد فيهم عدد قليل جدا يعدون على أطراف الأصابع الذين تأثروا بهذه الفكرة أو بهذه الاصطلاحات منهم أبو يعلى هذا وابن عقيل .(20/37)
(وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضى أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو) يثبتون الصفات والعلو ويعتبرون العلو صفة خبرية ولكن يوافقون علماء الكلام في تماثل الأجسام .
(ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية) صفة خبرية محضة وإذا جعلوه صفة خبرية يؤدي هذا – إثبات هذه الصفة – إلى التجسيم والأجسام متماثلة ولو جعلوها صفة عقلية ما نفوها لعل جعلهم – اعتبارهم – أنها صفة خبرية تمهيد لنفي هذه الصفة لأن الصفات الخبرية هي التي يجب نفيها أو تأويلها عندهم والصفات العقلية يجب إثباتها لعل هذا البحث تقدم غير مرة وبحثنا الفرق بين الصفات العقلية والصفات الخبرية التي يقال لها أحيانا سمعية وأحيانا نقلية ، نعيد مرة أخرى إذا قيل الصفات العقلية المراد الصفات التي تثبت بالأدلة النقلية والعقلية معا أي بحيث لو لم ترد النصوص من الكتاب والسنة أدرك العقل إثباتها هذه هي الصفات العقلية وليس معنى كونها عقلية أنها قد توجد صفات عقلية محضة ولم يرد النص بإثباتها لا وجود لهذا الصنف من الصفات بل الصفات إما ثابتة بالأدلة الخبرية السمعية النقلية وتسمى خبرية محضة أي لو لم يرد النص لا يجرؤ إنسان ما أو مخلوق ما على إثباتها لو لم يرد خبر الله من أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه لا أحد يستطيع أن يتصور أنه مستو على عرشه ، لو لم يرد النص بأن الله ينزل ما تجرأ أحد على إثبات هذه الصفة كذلك المجيء كذلك الوجه وكذلك اليدين جميع الصفات الخبرية أما إثبات القدرة مثلا وإثبات الإرادة وإثبات العلم هذه الصفات التي تسمى الصفات العقلية لو لم يرد النص لو فرضنا لم يرد نص يثبت بأن الله على كل شيء قدير وأنه فعال لما يريد وأنه عليم حكيم لو لم يرد النص أدرك العقل إثبات هذه الصفات لذا تسمى العقلية تغليبا لجانب العقل لأن الذين سموها عقلية هم أهل الكلام غلبوا جانب العقل فقالوا فيها عقلية وهي عقلية خبرية معا ، هكذا يجب أن تفهم(20/38)
إذ لا توجد صفات عقلية محضة.
قال الشيخ رحمه الله تعالى (ولكن هؤلاء) أبو يعلى وأمثاله (قد يجعلون العلو صفة خبرية) كما قلنا تمهيدا لنفيها أو تأويها (كما هو أول قولى القاضى أبى يعلى) إذن أبو يعلى له قولان نرجو أن يكون القول الأخير هو الذي وافق فيه أهل السنة والجماعة إما نفيها أو إثباتها واعتبارها أنها خبرية .
(فيكون الكلام فيه) أي في العلو (كالكلام فى الوجه) واليدين من الصفات الذاتية الخبرية ، نلاحظ هنا الصفات الخبرية تنقسم إلى قسمين :
- صفات خبرية فعلية : كالنزول والمجيء والاستواء صفات خبرية ولكنها فعلية من أفعال الرب سبحانه وتعالى التي سماها الشيخ الأفعال الاختيارية .
- وهناك صفات خبرية ذاتية : إثبات الوجه لله تعالى وإثبات اليدين وإثبات القدم وإثبات الأصابع صفات ذاتية خبرية محضة .(20/39)
لذلك قال (فيكون الكلام فيه كالكلام فى الوجه وقد يقولون ان ما يثبتونه لا ينافى الجسم كما يقولونه فى سائر الصفات والعاقل اذا تأمل وجد الامر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق) إذ كلها واردة في الكتاب والسنة والعقل السليم يوافق على إثباتها إذن ما هي الشبهة التي جعلتهم يفرقون بين الصفات الخبرية والصفات العقلية ؟ كون العقل لا يدرك الصفات الخبرية وقد قرروا في قواعدهم أن العقل هو العمدة في هذا الباب وأن الأدلة النقلية ظنية لا تقبل إلا إذا وافقت العقل ، إذن القاعدة التي قعدها المعتزلة ووافق على بعضها الأشاعرة هذه القاعدة هي التي ضيعتهم وهي : العمدة في هذا الباب الدليل العقلي لا الدليل النقلي ، لأن الدليل الدليل النقلي عرضة للنسخ والتخصيص والتقييد ، يكون منسوخا ويكون مقيدا أما العقل الدليل العقلي لا نسخ فيه ، ما أشبه الليلة بالبارحة ، سمعت من بعض من ينتسب إلى العلم نوقش في صفة من صفات الصلاة وردت فيها النصوص سئل هذا الشيخ هل ترى العمل بالحديث في هذه الصفة صفة من صفات صلاة النبي عليه الصلاة والسلام قال الحديث ورد ولكن الرجال بعض الرجال خالفوا فلان وفلان وفلان وعدد فقيل له كيف تعارض الحديث بأقوال الرجال ؟ قال إن الرجال أقوى من الحديث ، ما السبب ؟ لأن الحديث قد ينسخ والرجال لا ينسخون ، إذا كنا نحكي هذا من أهل الكلام ومن يقول هذه القولة الأخيرة موجود الآن بيننا في هذا الوقت بل في هذا المسجد من يقول إن الرجال أقوى من الحديث لأن الحديث قد ينسخ والرجل لا ينسخون وفات هذا المسكين بأن الرجال لا يقال لهم أنهم رجال إلا إذا آمنوا بنصوص الكتاب والسنة وإلا فهم ليسوا بشيء وليسوا بناس الناس الذين يقتدى بهم هم الذين يتمسكون بالكتاب والسنة ، فنسأل الله لنا ولكم العافية ، هذه من الأمراض ومن الشبه التي يضللون بها صغار طلبة العلم الذين يجلسون إليهم فيهمسون في آذانهم مثل هذه الهمسات الخبيثة تنفيرا للناس(20/40)
من السنة وتضييعا للسنة ودعوة إلى التقليد الأعمى ...
نعم .
يقول الشيخ مرة أخرى (وأصل كلام هؤلاء كلهم على ان اثبات الصفات يستلزم التجسيم والاجسام متماثلة والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع لمقدمة الأولى وتارة بمنع المقدمة الثانية وتارة بمنع كلتا من المقدمتين وتارة بالاستفصال ولا ريب ان قولهم بتماثل الاجسام قول باطل سواء فسروا الجسم بما يشار اليه أو بالقائم بنفسه أو بالموجود أو بالمركب من الهيولى والصورة ونحو ذلك فأما اذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة وعلى انها متماثلة فهذا يبنى على صحة ذلك وعلى اثبات الجواهر المفردة وعلى انها متماثلة وجمهور العقلاء يخالفونهم فى ذلك)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وأصل كلام هؤلاء) المعتزلة ومن نحا نحوهم (وأصل كلام هؤلاء كلهم على ان اثبات الصفات يستلزم التجسيم) ولكن إثبات الأسماء عند المعتزلة لا يستلزم التجسيم ، انظروا إلى هذا التناقض يعني من قال بأن الله عليم سميع بصير لا يستلزمه التشبيه ومن قال إن لله سمعا وبصرا وقدرة وإرادة هذا مجسم ، ما الفرق بين إثبات الصفة وإثبات الاسم ؟ الصفات من معاني الأسماء ، عليم يدل على العلم سميع يدل على السمع بصير يدل على البصر التفريق بين الأسماء وبين الصفات تفريق بين الدال والمدلول لأن الأسماء تدل على هذه المعاني التي هي الصفات .(20/41)
(والاجسام متماثلة والمثبتون) المثبتون للصفات كلها من أهل السنة والجماعة أو المثبتون لبعض الصفات كالأشاعرة (يجيبون عن هذا) وإن كان إجابة الأشاعرة ليست بشيء (تارة بمنع لمقدمة الأولى) ما هي المقدمة الأولى ؟ إثبات الصفات يستلزم التجسيم ، يمنعون هذه المقدمة لأنها باطلة ، أو (وتارة بمنع المقدمة الثانية) أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم المقدمة الأولى والأجسام متماثلة المقدمة الثانية (وتارة بمنع كلتا المقدمتين) هذا هو الصحيح هذا هو الذي يقطع الخصم تمنع المقدمة الأولى والثانية لأنك لو سلمت الأولى قد يلزمك جدلا المقدمة الثانية . (وتارة بمنع كلتا المقدمتين) هذا هو الصحيح (وتارة بالاستفصال ) والاستفصال يأتي في الفقرة الثانية .
يقول الشيخ (ولا ريب ان قولهم بتماثل الاجسام قول باطل) ومخالف للواقع (سواء فسروا الجسم بما يشار اليه) إن فسروا الجسم بما يشار إليه يشمل هذا حتى الذات الإلهية لأن الله سبحانه وتعالى يشار إليه عند أهل السنة والجماعة وإن منعت الأشاعرة .
(أو بالقائم بنفسه) يصلح هذا كذلك يطلق على الله لأن الله سبحانه وتعالى قائم بنفسه أي غني عمن سواه معنى القائم بنفسه في وجوده هو الغني عمن سواه الذي لا يحتاج وجوده إلى وجود شيء آخر كالصفات ، الصفات ليست قائمة بنفسها ولكنها قائمة بغيرها .
(أو بالموجود) أو فسروا الجسم بالموجود فيصح إطلاقه بهذا المعنى على الله سبحانه وتعالى فهو واجب الوجود ولكن كما قلنا يكره السلف استعمال هذا اللفظ مطلقا لهذا الإجمال ولعدم الورود .(20/42)
(أو بالمركب من الهيولى والصورة) أي من الأصل والصورة الهيولى ليست لفظة عربية هي في الأصل يونانية لكن بمعنى الأصل ، المركب من الأصل والصورة (ونحو ذلك فأما اذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على انها متماثلة فهذا يبنى على صحة ذلك) على وجود الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة (وعلى اثبات الجواهر المفردة) نفسها (وعلى انها متماثلة وجمهور العقلاء يخالفونهم فى ذلك) ونسأل الله لنا ولكم الثبات واليقين في عقيدتنا .
نكتفي بهذا المقدار .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
((والمقصود هنا انهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام والمثبتون ينازعونهم فى اعتقادهم كإطلاق الرافضة النصب على من تولى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما بناء على ان من أحبهما فقد أبغض عليا رضى الله عنه ومن أبغضه فهو ناصبى وأهل السنة ينازعونهم فى المقدمة الأولى ولهذا يقول هؤلاء ان الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه وأكثر العقلاء على خلاف ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا فى غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها وأيضا فالإعتماد بهذا الطريق على نفى التشبيه إعتماد باطل وذلك انه إذا اثبت تماثل الاجسام فهم لا ينفون ذلك الا بالحجة التى ينفون بها الجسم واذا اثبت أن هذا يستلزم الجسم وثبت امتناع الجسم كان هذا وحده كافيا فى نفى ذلك لا يحتاج نفى ذلك الى نفى مسمى التشبيه لكن نفي التجسيم يكون مبنيا على نفي هذا التشبيه بأن يقال لو ثبت له كذا وكذا لكان جسما ثم يقال والاجسام متماثلة فيجب إشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا ممتنع عليه لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمدا فى نفى التشبيه على نفى التجسيم ويكون اصل نفيه نفى الجسم وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه ان شاء الله تعالى))
الحمد لله رب العالمين(20/43)
وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم والرسول الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
لا يزال الشيخ يواصل الإجابة على شبهة النفاة تلك الشبهة العظيمة التي أوردوها بأن قالوا إن إثبات الصفات يستلزم التجسيم والأجسام متماثلة هذه الشبهة هي التي يحاول الشيخ الإجابة عليها بأساليب مختلفة وقد أجاب عليها فيما تقدم بمنع المقدمتين ، المقدمة الأولى أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم وهذه المقدمة باطلة ، المقدمة الثانية : والأجسام متماثلة . وهذه أيضا باطلة سواء فسرنا الجسم بالموجود أو بما يشار إليه أو بما يقوم بنفسه ، والأجساد والأجسام لا تتماثل كل جسم يخالف الجسم الآخر وهذا هو الواقع وهو المعقول إذا كانت المقدمة الأولى باطلة إثبات الصفات يستلزم التجسيم وهذا على زعمهم وإلا إثبات الصفات إذا عنينا بالصفات كما هو الواقع صفات الله تعالى لا يستلزم التجسيم أو بعبارة أدق إن ستعمال الجسم هنا ممتنع في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا إذا قررنا هذه القاعدة عند أهل السنة والجماعة استعمال الجسم ممتنع لا يقال إن إثبات الصفات يستلزم التجسيم لأننا لا نطلق التجسيم في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا وعلى فرض أننا جدلا سلمنا استعمال الجسم مرادا به الذات القائمة بنفسها ومرادا به الموجود ومرادا بها أي القائم بنفسه الغني عن غيره المشار إليه ، بهذا الاعتبار إذا سلمنا استعمال الجسم بعد الاستفسار ننتقل إلى المقدمة الثانية كون الأجسام متماثلة وهذا باطل قطعا لأنه خلاف الواقع حتى الأجسام المخلوقة غير متماثلة جسم الفيل غير جسم النمل وجسم الإنسان غير جسم الجمل وهكذا سائر الأجسام إذن الأجسام غير متماثلة فالقاعدة باطلة ، إذا بطلت الأولى وبطلت الثانية النتيجة أن إثبات الصفات لا يؤدي إلى التجسيم ولا إلى التشبيه .(20/44)
هكذا ناقش الشيخ في الفقرة الأولى ثم قال (والمقصود انهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما بناء على تماثل الأجسام) (يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيما) أي على إثبات الصفات أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه (بناء على تماثل الأجسام) في زعمهم (والمثبتون ينازعونهم فى اعتقادهم) هذا الاعتقاد باطل اعتقاد أن إثبات الصفات يؤدي إلى التجسيم وأن التجسيم يؤدي إلى التشبيه ينازعونهم في هذا ، أراد الشيخ أن يقرب بالمثال ومنازعة أهل السنة لأهل الكلام في هذه القاعدة أو في هذه الشبهة كمنازعة أهل السنة للروافض ، الرافضي عنده النصب إطلاق (النصب على من تولى أبا بكر وعمر) عند الرافضي من تولى أبا بكر وعمر فهو ناصبي أي نصب العداء لآل البيت نصب العداء لعلي وآل البيت متى يتخلص من النصب ؟ إذا لم يحب أبا بكر وعمر أي لا بد من البراءة والولاء عندهم ، لا بد من البراءة من الشيخين ليثبت الولاء لعلي وآل البيت وأهل السنة ينازعون في هذه القاعدة الباطلة إذ لا ترابط بين ولاء علي وبغض أبي بكر وعمر بل الواجب محبة الجميع ، أهل السنة والجماعة صدورهم تسع لمحبة جميع أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من آل البيت أو من غيرهم والقاعدة التي تقول لا ولاء إلا بالبراء قاعدة باطلة أي لا ولاء لآل البيت إلا بالبراءة من الشيخين وغيرهما من الصحابة قاعدة باطلة لا يسلمها أهل السنة وهي خلاف الواقع خلاف ما عليه جميع المسلمين غير الروافض .(20/45)
(بناء على ان من أحبهما فقد أبغض عليا) والقاعدة الأولى باطلة (ومن أبغضه فهو ناصبى) والقاعدة الثانية باطلة تبعا للقاعدة الأولى ، المقدمة الأولى : من أحبهما فقد أبغض عليا مقدمة باطلة وخلاف الواقع خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة فإذا بطلت المقدمة الأولى المقدمة الثانية من باب أولى باطلة (ومن أبغضه فهو ناصبى) أي من أبغض عليا فهو ناصبي ليس هناك في أهل السنة والجماعة أو في المسلمين من هو ناصبي على هذا التعريف إذ لا يوجد في أهل السنة والجماعة من يبغض عليا وأولاده وجميع آل البيت بل يرون أن محبتهم من الإيمان محبة آل البيت ومحبة الصحابة من الإيمان لأنها تابعة لمحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام فمن أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام يلزمه أن يحب أصحابه لأنهم نخبة اختارهم الله لصحبته من كان منهم من آل البيت يحب لأمرين اثنين : الأمر الأول الصحبة . والأمر الثاني : كونه من آل البيت . ومن لا ، يُحَب لكونه صحابيا ثم إن الصحابة أجمعوا على تقديم أبي بكر وإن لم يكن من آل البيت وأنه أفضل هذه الأمة على الإطلاق ثم عمر ثم عثمان ثم علي والاختلاف جار بين أهل السنة في التفضيل بين عثمان وعلي وإن كان أجمعوا على الخلافة على الترتيب افطنوا لهذا القاعدة أو لهذه الفائدة : الاجماع انعقد على الآتي : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، هذا من حيث الخلافة ، ومن حيث الفضل انعقد الاجماع على تفضيل أبي بكر ثم عمر ، واختلفوا فيما بين علي وعثمان أيهما الأفضل ، إذن هناك فرق بين التفضيل وبين الخلافة ، من حيث الخلافة الخلافة على هذا الترتيب الواقع الموجود محل إجماع والفضل محل إجماع بالنسبة لأبي بكر وعمر أما بالنسبة فيما بين عثمان وعلي ليس محل اتفاق حتى فيما بين أهل السنة وهناك خلاف ، وعلى كل اعتبار أنه لا يتم الولاء لعلي إلا ببغض الشيخين هذه مقدمة باطلة أجمع عليها المسلمون إذا استثنينا الروافض .(20/46)
(ولهذا يقول هؤلاء) نفاة الصفات الإشارة إلى نفاة الصفات (ان الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه) وهذه القاعدة باطلة لذلك (أكثر العقلاء على خلاف ذلك) ما من شيئين موجودين إلا وبينهما اشتراك وافتراق ، شيئان موجودان وجودا خارجيا لا بد أن يكون بينهما اتفاق واختلاف ، الاتفاق في الاسم وفي المعنى العام الذهني سواء كان وجود الخالق أو وجود المخلوق بين وجود الخالق وبين وجود المخلوق بين علم الخالق وعلم المخلوق وبين قدرة الخالق وقدرة المخلوق اتفاق واختلاف اشتراك واختلاف يشتركان في الاسم القدرة مع القدرة العلم مع العلم الوجود مع الوجود هذا اشتراك في الاسم لا ينكره عاقل ، ثم يشتركان في المعنى العام ، المعنى العام قبل إضافة صفات الله تعالى إلى الله وقبل إضافة صفات المخلوق إلى المخلوق ، إذا أطلقنا (سمع) هكذا سمع منكر هذا السمع لمن ؟ ليس لأحد ، هذا يسمى المطلق العام وهو المعنى الذهني ، يحصل الاشتراك بين الخالق وبين المخلوق في هذا المعنى العام وفي هذا المطلق الكلي الذهني الذي لا وجود له في خارج الذهن أرجو أن يُفهم هذا لأنها قاعدة مهمة جدا وجهلها يؤدي إما إلى التشبيه أو إلى التعطيل لا بد من فهمها ، الاشتراك في الاسم وفي المعنى العام الذهني الذي لا وجود له في خارج الذهن أمر ضروري لتصور هذه المعاني بعض إضافتها أما في المعاني الخاصة في الخصائص في خصائص صفات الرب سبحانه وتعالى لا اشتراك ، صفات الله المختصة به سبحانه التي اختصت به بالإضافة ، سمع الله بصر الله علم الله استواء الله مجيء الله سواء كانت الصفات ذاتية كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر أو فعلية كالنزول والمجيء والاستواء ، هذه الصفات بعد إضافتها إلى الله مستحيل أن يشرك الله سبحانه وتعالى أو أن يشارك الله في حقائق هذه الصفات أي أحد يشارك الله في العلم الذي يليق به المختص به وفي السمع الذي يليق به المختص به السمع الذي يحيط بجميع(20/47)
المسموعات السمع القديم قدم الذات السمع الذي لا يزول ، لا أحد يشارك الله في خصائص هذه الصفات هكذا في جميع الصفات ، كذلك ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشارك المخلوق في خصائص صفات المخلوق ، علم زيد وقدرة زيد وسمع زيد إلى آخره ، هذه صفات حقيقة لكن هل سمع زيد قديم قدم سمع الله ؟ لا ، هل سمع زيد محيط بجميع المسموعات ؟ لا، سمع زيد حادث كحدوثه هو ثم إنه غير محيط بجميع المسموعات ثم إنه زائل إذن فالرب سبحانه وتعالى ينزه أن يشارك عبده في خصائص صفاته هكذا هذا معنى الاشتراك من وجه والافتراق من وجه .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وقد بسطنا الكلام على هذا فى غير هذا الموضع وبينا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك وبينا فساد قول من يقول بتماثلها) تسمية الشيخ شبههم بالحجج فيه تسامح وإلا هي كما قال الخطابي :
شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حججا وكل كاسر مكسور
ما يسوقه علماء الكلام لا تسمى حجج إن أطلق عليها حجج فمن باب التسامح وإلا هي شبه ، شبه تهافت كالزجاج ، إذا ضربت الزجاج بالزجاج الكل كاسر مكسور :
شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حججا وكل كاسر مكسور
بيّن الشيخ ذلك في كتابه درء التعارض وسيأتي أمامنا في هذا الكتاب أيضا إبطال هذه الشبه التي أطلق عليها تسامحا هنا أنها حجج .(20/48)
قال الشيخ رحمه الله (وأيضا فالإعتماد بهذا الطريق) أي نفي الصفات (على نفى التشبيه إعتماد باطل) من ينفي الصفات لئلا يؤدي ذلك إلى التشبيه الاعتماد في النفي على نفي التشبيه اعتماد باطل (وذلك انه إذا ثبت) في زعمهم ، لا بد من هذا القيد هنا ، إذا ثبت في زعمهم (تماثل الاجسام فهم لا ينفون ذلك) أي الصفات (الا بالحجة التى ينفون بها الجسم واذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم) إثبات الصفات (وثبت امتناع الجسم كان هذا وحده كافيا فى نفى ذلك) أي الصفات (لا يحتاج نفى ذلك الى نفى مسمى التشبيه) إنما تطويل للطريق ، لكم أن تجعلوا العلة في نفي الصفات التجسيم لا التشبيه لأنكم سوف تصلون إلى التشبيه بالتدرج ولكن جعل العلة أو الاعتماد على التشبيه في نفي الصفات طريق باطل حتى في قاعدتهم ، أرجو أن يكون مفهوما والشيخ اليوم يناقش القوم بلغتهم .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (لكن نفي التجسيم يكون مبنيا على نفي هذا التشبيه) أراد الشيخ أن يقرب بالمثال فقال (بأن يقال لو ثبت له كذا) لو ثبت له سمع أو بصر مثلا (لكان جسما) عند من ؟ .. عند المعتزلة والجهمية لو ثبت له كذا لكان جسما ، الأشعري ماذا يقول ؟ لو ثبت له الاستواء والنزول لكان جسما ، هكذا كل يوزع ، وزعوا على مذاهبهم ، لو ثبت له كذا وكذا كالسمع والبصر مثلا عند الجهمية والمعتزلة لكان جسما والأشعري لا يسلم هنا إثبات السمع والبصر لا يجعله جسما لأنه يثبت الأشعري يثبت السمع والبصر على ما يليق بالله تعالى موافقا لأهل السنة في هذه النقطة كما قلنا غير مرة وإن كان طريق الإثبات يختلف ، أهل السنة يثبتون بالكتاب والسنة بالأدلة النقلية هي العمدة والأشعري يثبت بالدليل العقلي الدليل العقلي هو العمدة عنده لكن النتيجة هي هي إثبات الصفات ، نحن نتسامح كما يتسامح شيخ الإسلام .(20/49)
(ثم يقال الاجسام متماثلة) المعتزلي والجهمي يقول الأجسام متماثلة إذا أثبتنا السمع والبصر صار جسما والأجسام متماثلة صار كغيره وأدى ذلك إلى التشبيه ، والأشعري يقول لو قلنا هو الذي ينزل ليس أمره ولا الملك لو قلنا هو الذي يأتي يوم القيامة لفصل القضاء لا الأمر ولا الملك أدى ذلك إلى التجسيم والأجسام متماثلة فيؤدي ذلك إلى التشبيه وكل ما يؤدي إلى التشبيه فهو مستحيل إذن مجيئه مستحيل ، هكذا يقرر والذي لا يعرف بطلان هذه القاعدة قد ينخدع بهذه الثرثرة الطويلة .
ويقول الشيخ (والاجسام متماثلة فيجب إشتراكها) في تقرير هذه القاعدة يشترك الجميع مع العلم أن ما ينفونه يختلف .
(فيجب إشتراكها فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا ممتنع) على الله سبحانه وتعالى (لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك) المسلك الطويل كونه يجعل إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه ويترك التجسيم في الوسط (معتمدا فى نفى التشبيه على نفى التجسيم ويكون اصل نفيه نفى الجسم) أصل نفيه أن يقول إثبات الصفة يؤدي إلى التجسيم والتجسيم يؤدي إلى التشبيه (وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه ان شاء الله) في صفحة 132 أمامنا في الفصل الآتي ، ثم قبل أن نترك هذا الخبط والخلط لا بد أن نعرف الحق في هذا الباب ، أهل السنة والجماعة في هذا الباب لهم قواعد ، قواعد في إثبات هذه الصفات :
القاعدة الأولى : تقديم النقل على العقل مع عدم أهدار العقل ، لا يجعلون العقل لا قيمة له ولكن العقل له حدود إلا أن الأصل القاعدة في إثبات ما يثبت لله سبحانه وتعالى النقل ، ما هو النقل ؟
أدلة الكتاب والسنة وتسمى أدلة سمعية وتسمى أدلة خبرية ، هذا الأساس أي نصف الله بما وصف به نفسه إذ لا يصف الله أعلم من الله ونصف الله بما وصفه به رسوله الأمين إذ لا يصف الله من خلقه أعلم من رسوله عليه الصلاة والسلام ، إذن القاعدة الأولى تقديم النقل .
القاعدة الثانية : رفض التأويل ، عدم تأويل النصوص ، أي التأويل ؟(20/50)
التأويل الذي بمعنى التحريف ، أما التأويل الذي بمعنى التفسير هذا مقبول ومعمول به يستخدمه علماء التفسير ، أما التأويل الذي بمعنى الحقيقة التي تؤول إليها الأمور هذا لا يعلمه إلا الله ، إذن التأويل إما بمعنى التحريف هذا هو المذموم الذي يجب رفضه ، أما التأويل الذي بمعنى التفسير هذا مقبول ، والتأويل الثالث لا يعلمه إلا الله ، حقائق الأسماء والصفات وحقائق موجودات الجنة كما تقدم غير مرة .
ثم بعد أن قررنا هذه القواعد هناك أسس هذه الأسس لا بد من ملاحظتها ، الأسس إثبات ما أثبته الله لنفسه دون تردد إثبات ما أثبته الله لنفسه سواء كانت صفات ذاتية كالوجه واليدين والقدرة والإرادة والسمع والبصر ، أو صفات فعلية كالنزول والمجيء والاستواء ، إثبات ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه على ما يليق به ، هذا أساس .
الثاني : إثبات ما أثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام لأنه أمينه على وحيه .
ثم : قطع الطمع عن إدراك الحقيقة ، إذا أثبت هذه الصفات اقطع الطمع عن إدراك الحقائق لأن العقل له حدود والعقل لا يكشف لك شيئا معدوما ، العقل عبارة عن النور الكشاف ، إذا سلطت الكشاف على شيء ماذا يظهر لك ؟ هل يوجد المعدوم ؟ لا ، يظهر الموجود ، فيكبره والعقل لا يوجد لك شيئا معدوما ولكن العقل جهاز ، آلة تستخدم في فهم كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام لذلك محاولتك إدراك حقائق الصفات والأسماء كأنك كما يقولون تضرب في الحديد البارد لذلك يقال :
وللعقول حدود لا تجاوزها ... والعجز عن الإدراك إدراك
العجز عن الإدراك إدراك ، من أدرك عجزه عن إدراك حقيقة ذات الرب وحقائق أسمائه وصفاته فهو المدرك وهو المؤمن ، يجب أن يقف الإنسان عند هذا الحد "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" .
نعم ..(20/51)
(وإنما المقصود هنا أن مجرد الإعتماد فى نفى ما ينفى على مجرد نفى التشبية لا يفيد إذ ما شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه بخلاف الإعتماد على نفى النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن هذا نفى المماثلة فيما هو مستحق له وهذا حقيقة التوحيد وهو أن لا يشركه شىء من الأشياء فيما هو من خصائصه وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ولهذا كان مذهب سلف الأمه وأئمتها اثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفى مماثلته لشىء من المخلوقات)
قال الشيخ رحمه الله تعالى مبينا الطريقة الصحيحة في باب النفي وهو نفي النقص ونفي المثل ، بعد إثبات ما أثبت الله لنفسه كما قلنا (وإنما المقصود هنا) أي الطريقة الصحيحة (أن مجرد الإعتماد فى نفى ما ينفى على مجرد نفى التشبية لا يفيد) لأن الناس تتفاوت ما يراه الجهمي والمعتزلي تشبيها لا يراه الأشعري تشبيها وما يراه الأشعري تشبيها لا يراه السني تشبيها ، إذن ما هو الضابط ؟.(20/52)
(إذ ما شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه) أوضحنا ذلك بالأمثلة قبل قليل (بخلاف الإعتماد على نفى النقص والعيب) الواجب فيما ينفى عن الله الاعتماد على نفي النقص والعيب ، كل كمال يتصف به المخلوق وليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به ، هذه قاعدة ، كل كمال اتصف به المخلوق وليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به لأن معطي الكمال أولى بالكمال الذي أعطى المخلوق هذا الكمال العلم والحياة والسمع والبصر ، من هو ؟ الله ، فالله أولى بهذا الكمال وإنما قلنا (وليس فيه نقص بوجه من الوجوه) قد يوجد ما يعتبر كمالا في المخلوق وهو في حق الخالق نقص لا يليق بالله ، وجود الصاحبة والولد والمعين والوزير بالنسبة للمخلوق كمال لأن المخلوق ناقص لا بد له من صاحبة لا بد له من ولد لا بد له من شريك ليكمل بذلك أما الغني أما الكامل كمالا ذاتيا الذي الكمال وصف ذاتي له والغنى وصف ذاتي له لا يحتاج إلى هذه الأشياء وتعتبر في حقه سبحانه وتعالى نقصا لا بد من فهم هذه القاعدة ولذلك يقول الشيخ (بخلاف الإعتماد على نفى النقص والعيب ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة) بأن تقول نصفه بالسمع والبصر والكلام والنزول والمجيء ..
الشريط الحادي والعشرون :
تصديقا لخبر الله وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام على ما يليق بالله تعالى لا على ما يليق بالمخلوق ما يليق بالمخلوق نقص كما تقدم .(20/53)
(وكذلك إذا أثبت له صفات الكمال) كالسمع والبصر (ونفي مماثلة غيره له فيها فإن هذا نفى المماثلة فيما هو مستحَق له) إذا وصف الله نفسه بالسمع والبصر والقدرة والإرادة والمجيئ والنزول وصف نفسه بذلك أو وصفه رسوله عليه الصلاة والسلام ننفي في هذا المماثلة فقط أي نثبت ما أثبت لنفسه وما أثبت له رسوله وننفي في ذلك المماثلة ، أوضح دليل على هذا قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" "ليس كمثله شيء" نفى المماثلة "وهو السميع البصير" فأثبت له الكمال ، إذن النفي الصحيح والتنزيه الصحيح أن تثبت له ما أثبت لنفسه سبحانه وما أثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام وتنفي المماثلة في ذلك ، لأن ما أثبت لنفسه صفات كمال وصفات الله تعالى كلها كمال .
ثم قال الشيخ رحمه الله (فإن هذا نفى المماثلة فيما هو مستحَق له وهذا حقيقة التوحيد) حقيقة التوحيد الاستسلام حقيقة التوحيد أن يتفق مرادك مع مراد ربك سبحانه إذا اتفق مراد المحب مع مراد المحبوب هذا هو تحقيق التوحيد ، يجب أن تقف عند مرضاة الله تعالى لا تكذبه فيما وصف به نفسه ولا تكذب نبيه الأمين فيما وصف به ربه سبحانه وتعالى بذلك تكون حققت التوحيد .
(وهو) ما هو حقيقة التوحيد؟ (أن لا يشركه شىء من الأشياء فيما هو من خصائصه) هذا تفسير لحقيقة التوحيد أن لا يشرك الله (شىء من الأشياء فيما هو من خصائصه) أي بعد إضافة صفات الله تعالى إلى الله كما تقدم أما الاشتراك في الاسم كقدير مع قدير والقدرة مع القدرة وأما الاشتراك في المعنى العام المطلق الذهني لا يضر هذا توحيدك بل هذا أمر لا بد منه .
(وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد) من خلقه وهذا أمر واضح .(20/54)
(ولهذا كان مذهب سلف الأمه وأئمتها) كالأئمة الأربعة وغيرهم ومن في طبقتهم (اثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفى مماثلته لشىء من المخلوقات) مما يجب التنبيه عليه أن الأئمة الأربعة على اختلافهم في الفروع الفقهية متفقون ومتحدون في هذا الباب ، الإمام أبوحنيفة عنده من يقول بأن الله ليس مستو على عرشه فهو كافر لأنه كذب كلام الله ولو قال وهو مستو على عرشه لكن لا أدري أين العرش فهو كافر لأنه نفى العلو ، وهكذا تعرفون موقف الإمام مالك وتعرفون محنة الإمام أحمد فيم عذب وتعرفون حكم الإمام الشافعي على أهل الكلام (حكمي في أهل الكلام أن يطلف بهم في العشائر والقبائل ويحملوا على الحمر الأهلية ويضربوا بالنعال ويقال هذا جزاء من ترك كتاب الله واشتغل بعلم الكلام) هذا الذي جعل الكوثري يعادي الإمام الشافعي أكثر من غيره لأنه أصدر عليه هذا الحكم والحكم يتناول الكوثري فلذلك له عداء خاص وموقف خاص يعرفه طلاب العلم من الإمام الشافعي دون غيره ، والكلام ذو شجون ..
فلنكتفي اليوم بهذا المقدار لنواصل غدا إن شاء الله بتوفيق الله تعالى .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
(( ))
ذكر شيخ الإسلام فيما تقدم بعض اصطلاحان أهل الكلام عند تعريف الجسم ، هل الجسم هو المشار إليه ؟
بعد هذا الاستفسار لو أطلق على الله سبحانه وتعالى بأنه جسم بمعنى الذات لا مانع لأن الإشارة إلى الله جائزة ، ثبتت عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن سلف هذه الأمة .
لو فسر الجسم بأنه الموجود ، صح ، يطلق عليه وعلى غيره على التفصيل الذي تقدم الوجود المطلق والوجود المختص .(20/55)
لو فسر الجسم بأنه القائم بنفسه أي الغني عن غيره الذي لا يحتاج في وجوده إلى أن يقوم بغيره كالصفات ، الصفة ليست قائمة بنفسها ، قائمة بغيرها لكن الذات قائمة بنفسها ، بهذا الاعتبار وبهذا التفسير لو أطلق إنسان على الله صح لأن هذه المعاني كلها صحيحة أي بعد الاستفسار لا قبل الاستفسار .
وقال بعضهم الجسم هو المركب من الجواهر المفردة أو من الجوهر الفرد ، قالوا هذا غير صحيح حتى عند العقلاء إذ لا وجود للجوهر الفرد ، الجوهر الفرد معناه الذي لا يقبل القسمة ، أي شيء موجود أصغر حجم تتصوره كحبة خردل ، هل حبة الخردل تقبل القسمة أم لا ؟
تقسم .
لا يوجد شيء لا يقبل القسمة مهما يكون صغيرا وإن اختلفت الأجزاء ، إذن الجوهر الفرد مستحيل لا وجود له .(20/56)
((فإن قيل إن الشىء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه ووجب له ما وجب له وامتنع عليه ما امتنع عليه قيل هب ان الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم اثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى ولا نفى ما يستحقه لم يكن ممتنعا كما اذا قيل انه موجود حى عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات حيا عليما سميعا بصيرا فإذا قيل يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى فإن ذلك لا يقتضى حدوثا ولا امكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافى صفات الربوبية وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو الموجود أو الحياة أو الحى أو العلم أو العليم أو السمع أو البصر أو السميع أو البصير أو القدرة أو القدير والقدر المشترك مطلق كلى لا يختص بأحدهما دون الآخر فلم يقع بينهما إشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث ولا فيما يختص بالواجب القديم فإن ما يختص به أحدهما يمتنع إشتراكهما فيه فإذا كان القدر المشترك الذى إشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدرة ولم يكن فى ذلك ما يدل على شىء من خصائص المخلوقين كما لا يدل على شىء من خصائص الخالق لم يكن فى إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود ولهذا لما أطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطلة وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئا وربما قالت الجهمية هو شىء لا كالأشياء فاذا نفى القدر المشترك مطلقا لزم التعطيل التام والمعانى التى يوصف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدرة بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك تجب له لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضى ثبوت اللازم وخصائص المخلوق التى يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم(20/57)
ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من باب ربط الدرس نعيد ربط ما تقدم الطريقة الصحيحة في النفي تتناول أمرين :
- الأمر الأول نفي النقص .
- الأمر الثاني نفي المثل في صفات الكمال .
لا بد من ضبط هذه القواعد أو هذه القاعدة لذلك يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وإنما المقصود هنا أن مجرد الإعتماد فى نفى ما ينفى على مجرد نفى التشبية لا يفيد) شيئا (إذ ما شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه) هذا واضح (بخلاف الإعتماد على نفى النقص والعيب) هذا الذي يجب الاعتماد عليه (ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى) منزه و (مقدس عنه فإن هذه طريقة صحيحة) إذن الطريقة الصحيحة التي يجب الاعتماد عليها نفي النقص والعيب عن الله سبحانه وتعالى (كذلك إذا أثبت له صفات الكمال ونفي مماثلة غيره له فيها فإن هذا نفى المماثلة فيما هو مستحق له) سبحانه وتعالى ، هذا الأمران :
- نفي النقص والعيب .
- ونفي المماثلة في الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى .
قال الشيخ (وهذا حقيقة التوحيد) أي حقيقة التوحيد في باب الأسماء والصفات ، لا بد من هذا القيد ، هذا الذي ذكرنا : نفي النقص والعيب ونفي المماثلة في خصائص الرب سبحانه وتعالى في صفات الكمال . هذا هو حقيقة التوحيد في باب الأسماء والصفات ، وما هو حقيقة التوحيد في باب العبادة ؟
حقيقة التوحيد في باب العبادة : اتحاد مراد المحب مع مراد المحبوب ، هذه حقيقة التوحيد في باب العبادة وفي هذا الباب ما سمعتم هو نفي والعيب النقص عن الله سبحانه وتعالى ونفي المماثلة في الصفات الثابتة له بهذا تحثث التوحيد في هذا الباب .(20/58)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى مفسرا حقيقة التوحيد في هذا الباب (وهو أن لا يشركه شىء من الأشياء فيما هو من خصائصه) (فيما هو من خصائصه) لئلا يدخل الاشتراك في الاسم العام والمعنى العام (وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد) هذه أيضا كأنها قاعدة (وكل صفة من صفات الكمال فهو) سبحانه وتعالى (متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد) متصف بالسمع الذي لا يماثله فيه أحد وبالعلم الذي لا يماثله فيه أحد وبالمجيء الذي لا يماثله فيه أحد وبالوجه الذي لا يماثله فيه أحد وهكذا وليس معنى ذلك نفي هذه الأسماء وهذه الصفات عن المخلوق ، لا ، إنما إثبات ذلك الإثبات العام الاشتراك في الاسم العام والمعنى العام أما بعد الاختصاص لا يشارك الله أحد من خلقه في خصائص صفاته .(20/59)
(ولهذا كان مذهب سلف الأمه وأئمتها) (سلف الأمه) الصحابة بالدرجة الأولى ثم التابعون تلاميذ الصحابة ثم تابع التابعين وفي مقدمة تابع التابعين أئمة الهدى المشهود لهم بالإمامة كالأئمة الأربعة ومن في طبقتهم هؤلاء هم سلف هذه الأمة وأئمتها . ولهذا كان مذهبهم (اثبات ما وصف به نفسه من الصفات ونفى مماثلته لشىء من) مخلوقاته ، أيضا اعتبرها قاعدة ، مذهب السلف إثبات ما وصف به الرب سبحانه وتعالى نفسه إذ لا يصف الله أعلم من الله ونفي مماثلته لشيء من مخلوقاته ، إذا أثبت له ما وصف به نفسه تنفي المماثلة على حد قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" هذه هي الطريقة الصحيحة ، إذا سلكت هذه الطريقة لا يضرك قول من يقول إن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه أو إلى التمثيل أو إن ذلك تجسيم كل هذا لا تلتفت إليه طالما أنت على يقين من هذا المذهب الذي هو إثبات ما وصف به نفسه وإثبات ما وصف به رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نفي المماثلة فيما أثبت إذا سلكت هذا المسلك لا تلتفت إلى قول من يقول إن إثبات الصفات تشبيه أو تجسيم أو تمثيل ، لذلك يقول العلامة ابن القيم بعد أن تعب منهم :
فإن كان تجسيما إثبات استوائه ... على عرشه إني إذا لمجسمُ
لا تبالي يجب أن تعلن هكذا تثبت على عقيدتك ولا يضرك قول من يقول ، والإمام الشافعي لما تعب من خصومه اتهم بأنه رافضي فقال في آخر أبيات قالها :
وإن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
هكذا يكون الإنسان ، أولا يصل إلى درجة اليقين في عقيدته لا يكون مذبذبا ، فإذا ثبت وتجاوز درجة الإمعة الذي يصلح إذا صلح الناس ويفسد إذا فسد الناس هذه طريقة المذبذبين قريبة من النفاق ، إذا تجاوز الإنسان هذه المرحلة فوصل إلى درجة اليقين لا يضره كل ما يقول فيه بل يقول كما سمعتم :
فإن كان تجسيما إثبات استوائه ... على عرشه إني إذا لمجسمُ(20/60)
هكذا يعلن ثبوته على عقيدته على الرغم مما يقال فيه ، العلامة ابن القيم وشيخه كانا يعيشان على هذا المنهج حيث لا توجد للعقيدة دولة تدافع عنها كانوا في وحشة وفي غربة الناس يعادونهم وعلماء السوء يعادونهم وإن كان السلاطين يقدرونهم لما يرون فيهم من العلم والثبات والشجاعة خصوصا شيخ الإسلام لكن عدم وجود دولة تدافع عن العقيدة وتتبناها هذا الذي جعل يعيشون تلك الحياة الغريبة ويصرحون بمثل هذا التصريح .
يقول شيخ الإسلام (فإن قيل إن الشىء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه ووجب له ما وجب له) أي لذلك الشيء (وامتنع عليه ما امتنع عليه) هذا اعتراض ، الجواب على هذا الاعتراض : فلنفترض (ان الأمر) كما زعمتم أن الشيء إذا شابه شيئا جاز عليه من ذلك الوجه كل ما يجوز على الآخر ويجب له ويمتنع عليه فليكن الأمر كذلك من باب التسليم جدلا (ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم اثبات ما يمتنع على الرب سبحانه وتعالى ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا) لماذا ؟ لأن ذلك لم يكن أمرا وجوديا في الخارج إنما هو أمر ذهني لا يلحق بالله سبحانه وتعالى ما يمتنع عليه أو ينفى عنه ما يستحقه لأنه ليس خاصا به ولا بالمخلوق لأن القدر المشترك كما سيأتي مطلق كلي ذهني معنى ثابتا في الذهن فقط (كما اذا قيل انه موجود حى عليم سميع بصير وقد سمى بعض المخلوقات) بل أكثر المخلوقات تتصف بالحياة والعلم والسمع والبصر (فإذا قيل يلزم أنه يجوز عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه موجودا حيا عليما سميعا بصيرا قيل لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعا على الرب تعالى) لما ذكرنا لأنه أمر ذهني ليس أمرا وجوديا في الخارج (فإن ذلك لا يقتضى حدوثا ولا امكانا ولا نقصا ولا شيئا مما ينافى صفات) الرب ، إنما يكون الأمر كذلك لو شاركه أحد فيما يختص بالرب سبحانه وتعالى ولكن هذا الاشتراك الذي وقع في المعنى الكلي الذهني الذي لا وجود له في الخارج لذلك(20/61)
يقول الشيخ رحمه الله (وذلك أن القدر المشترك هو مسمى الوجود أو) مسمى (الموجود أو) مسمى (الحياة أو) مسمى (الحى) يعني الصفة أو الاسم (أو) مسمى (العلم أو) مسمى (العليم) المسمى العام للعلم أو المسمى العام للعليم (أو السمع والبصر والسميع والبصير أو القدرة أو القدير) يأتي مثالا للصفة ومثالا للاسم (والقدر المشترك) هذا بيت القصيد (والقدر المشترك مطلق كلى لا يختص بأحدهما) لا بالخالق ولا بالمخلوق لأنه لا وجود له كما قلنا غير مرة لا وجود له إلا في الذهن معنى ثابت في الذهن فقط لا وجود له في الخارج لا يختص بأحدهما لا بالخالق ولا بالمخلوق (دون الآخر فلم يقع بينهما إشتراك لا فيما يختص بالممكن المحدث) الذي هو المخلوق (ولا فيما يختص بالواجب القديم) الذي هو الله سبحانه وتعالى ، الواجب مقابل الممكن ، القديم مقابل المحدث والقديم ليس منأسماء الله سبحانه وتعالى وهذه الألفاظ تستعمل في باب الأخبار باب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات لا القديم من أسماء الله تعالى ولا المتكلم ولا المريد ولا الصانع لكن يستعملون هذه الألفاظ من حيث المعنى لأن المعنى صحيح ويخبرون عن الله سبحانه وتعالى بهذه الأسماء لا أنها من أسماء الله الحسنى .(20/62)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى شيخ الإسلام (فإن ما يختص به أحدهما) الخالق أو المخلوق (يمتنع إشتراكهما فيه) يمتنع اشتراك الرب سبحانه وتعالى مع خلقه فيما يختص بالرب ضربنا المثال غير مرة فلنعيد فلنكرر : يمتنع اشتراك الرب سبحانه وتعالى والعبد في العلم الخاص بالله في العلم المختص بالله في السمع المختص بالله والبصر المختص بالله والاستواء المختص بالله والنزول والمجيء المختصين بالله تعالى مستحيل ، كذلك الله ينزه أن يشارك العبد المخلوق في نزوله المختص بالمخلوق في استوائه المختص بالمخلوق كاستوائي هذا استوائي هذا له كيفية معلومة وإذا نزلت نزولي له كيفية معلومة فالله سبحانه وتعالى منزه أن يشارك العبد في استوائه المختص بالعبد وفي نزوله المختص بالعبد وفي قدرته المختصة بالعبد وفي علمه المختص بالعبد ، مستحيل لأن هذه الصفات محدثة لأن العبد نفسه محدث وصفاته محدثة ، العبد ناقص وصفاته ناقصة إذا كيف يشارك الرب سبحانه وتعالى عبده الناقص في صفاته الناقصة مستحي ، كذلك الله ينزه من أن يشارك العبد الله أن يشارك العبد رب العالمين في خصائص صفاته في علمه القديم المحيط بكل شيء الذي لم يسبق بجهل ، في استوائه الخاص به الذي لا نعلم كنهه وكيفيته ، هكذا إذا حصل التخصيص صفات المخلوق بالمخلوق وصفات الخالق بالخالق لا يحصل بينهما الاشتراك أبدا .(20/63)
قال الشيخ رحمه الله (فإذا كان القدر المشترك الذى إشتركا فيه صفة كمال كالوجود) المخلوق موجود والخالق موجود المخلوق يوصف بالوجود والخالق يوصف بالوجود لكن وجود الله وجود يليق به ووجود العبد وجود يناسبه ، يوصف العبد بالحياة والرب بالحياة أيضا حياة الله تعالى صفة قديمة قائمة بذاته تليق به وحياة المخلوق صفة حادثة حدوث المخلوق تناسبه وكذلك العلم وكذلك القدرة وقس على ذلك سائر الصفات (ولم يكن فى ذلك ما يدل على شىء من خصائص المخلوقين) الوجود المطلق والحياة المطلقة والعلم المطلق ليس في ذلك ما يدل على الاشتراك (ولم يكن فى ذلك ما يدل على شىء من خصائص المخلوقين كما لا يدل على شىء من خصائص الخالق) أي ليس هناك ما يدل على الاشتراك إذا حصل الاشتراك في العلم العام المطلق والحياة العامة المطلقة والاستواء العام المطلق قبل تخصيص هذه الصفات بالله أو بالمخلوق ليس هناك ما يدل على الاشتراك ولكن الاشتراك في المعنى العام في العلم العام والحياة العامة والقدرة العامة لا يضر بل أمر لا بد منه .(20/64)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (كما لا يدل على شىء من خصائص الخالق لم يكن فى إثبات هذا محذور أصلا) لم يكن في إثبات الاشتراك في المعنى العام في الاسم العام في المطلق الكلي لم يكن في ذلك محظور أصلا أي في إثبات الاشتراك في هذا المعنى العام (بل إثبات هذا من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا) كل موجودين من المخلوقين وكل موجودين بين الخالق والمخلوق لا بد من الاشتراك في هذا المعنى العام لأن الله موصوف بأنه موجود والعبد موصوف بأنه موجود الله موصوف بأنه عليم والعبد موصوف بأنه عليم وحليم وقد وصف الله سبحانه وتعالى رسوله بأنه "بالمؤمنين رؤوف رحيم" هذا الاشتراك في المعنى العام الكلي قبل التخصيص وبعد أن خصصت الرحمة والرأفة بالنبي عليه الصلاة والسلام فالله لا يشارك في رحمته الخاصة بالنبي وفي الرأفة الخاصة بالنبي لأن رحمته عليه الصلاة والسلام مخلوقة كما هو مخلوق محدثة كما هو محدث كما أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يشارك الله في رحمة الله وفي قدرته وفي علمه كما تقدمت الأمثلة غير مرة .(20/65)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (ولهذا لما أطلع الأئمة) الأئمة أئمة السلف بما فيهم الأئمة الأربعة نكرر هنا الأئمة الأربعة على مذهب واحد موحد في العقيدة لم يكن بينهم اختلاف قط الاختلاف الذي الذي وقع بين الأئمة الأربعة وغيرهم أئمة المسلمين ليسوا بأربعة أكثر من أربعين كلهم قد يتفقوا وقد يختلفوا في المسائل الفقهية التي مطرح الاجتهاد ولكن بحمد الله تعالى لم يقع بينهم اختلاف قط من عهد الصحابة إلى آخر أيانهم لم يقع بينهم اختلاف قط في باب العقيدة لا في باب الأسماء والصفات ولا في باب توحيد العبادة ولا في باب توحيد الحاكمية لا اختلاف بين أئمة المسلمين قديما وحديثا أبدا هذا أمر موحد بحمد الله تعالى وحدة كاملة يتمتع بها المسلمون من قديم عهدهم إلى وقت قريب من هذا الذي حصل فيه التفرق لم يكن بينهم اختلاف أبدا ، وهذا الاختلاف الذي وقع بين المسلمين والفرق الإسلامية الكثيرة التي تنتسب إلى الإسلام التي تتضارب وتتناحر في الاختلاف في باب العقيدة إنما حدثت كل ذلك بعد نشأة علم الكلام فعلم الكلام لم ينشأ إلا في عهد العباسيين ما قبل عهد العباسيين المسلمون يتمتعون بالوحدة الكاملة في عقيدتهم في باب الأسماء والصفات أي في ما يعتقدونه نحو ربهم سبحانه وتعالى وفي ما يخص نبيهم عليه الصلاة والسلام وفي باب العبادة وفي تحكيم شرع الله تعالى ما بينهم اختلاف ..(20/66)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال كالوجود والحياة والعلم والقدرة ولم يكن فى ذلك ما يدل على شىء من خصائص المخلوقين كما لا يدل على شىء من خصائص الخالق لم يكن فى إثبات هذا محذور أصلا بل إثبات هذا من لوازم الوجود) من لوازم الوجود للجميع من لوازم وجود الخالق ولوازم وجود المخلوق لا يمكن أن تتصور الموجود بأنه موجود إلا وتتصور الاشتراك في هذا المعنى العام (فكل موجودين) اثنين (لا بد بينهما من مثل هذا) الله موجود والمخلوق موجود لا بد من الاشتراك في هذا القدر المشترك أي في الاسم العام والمعنى العام (ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود) من يزعم أنه لا يحصل الاشتراك في المطلق الكلي يلزمه تعطيل وجود كل موجود ، وجود الخالق ووجود المخلوق معا وهذا هو الجهل الذي وقع فيه النفاة ولم يتصوروا هذا التصور الدقيق لذلك آل أمرهم إلى أحد أمرين :
- إما التشبيه .
- وإما التعطيل .
التشبيه كأن يزعم الزاعم بأننا إنما خوطبنا بما نعقل لا نعقل من العلم إلا كما نعقل علمنا ولا نعقل من السمع إلا كما نعقل سمعنا ولا نعقل من الاستواء والنزول والمجيء إلا كما نعقل ذلك في صفاتنا إذا صفاته سبحانه وتعالى كصفاتنا لأننا لم نخاطب إلا بما نعقل فوقعوا في التشبيه .(20/67)
والطرف الثاني قالوا لا ، مراد الله خلاف هذا الظاهر وهذا الظاهر ليس مرادا لله عندما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه يأتي يوم القيامة لفصل القضاء وأنه ينزل في آخر كل ليلة وأنه موصوف بالوجه الكريم واليدين المبسوطتين قالوا مراد الله خلا ف هذا الظاهر ، ما هو هذا المراد ؟ هم الذين يعينون ، المراد بالمجيء مجيء الأمر أو مجيء الملك والمراد بالنزول كذلك ، المراد بالوجه الذات المراد باليد النعمة أو القدرة هكذاا تجرأوا أن يبينوا مراد الله تعالى قبل أن يسألوا الله رب العالمين هل أنت أردت هذا ؟ وقبل أن يسأول رسوله الأمين الذي كلف بالبيان من عند أنفسهم بعد انقراض القرون المفضلة المشهود لهم بالخيرية بعد انقراض الصحابة والتابعين في عهد تابع التابعين بدأ هذا التخبط والخبط والخلط فتجرأوا على التصرف في كتاب الله تعالى من عند أنفسهم ، هذا ما آل إليه أمر أهل الكلام إما التشبيه وإما التعطيل .(20/68)
قال الشيخ رحمه الله (ولهذا لما أطلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية) أي التعطيل ، نفي الأسماء والصفات معا وعدم إثبات الوجود الحقيقي لله تعالى بالنسبة للجهمية الحقيقة الجهمية الأولى وبالنسبة للجهميو المعتزلة نفي الصفات مع دعوى إثبات الأسماء ومع الجهمية الأخيرة الأشاعرة التفريق بين الصفات الخبرية والصفات العقلية ، كل هؤلاء يطلقون عليهم معطلة ، الجهمية معطلة صرفة لأنهم يعطلون كل شيء لا يثبتون لله سبحانه وتعالى إلا الوجود المطلق ويختلفون هل يسمى موجودا أم لا وهل يسمى شيئا أم لا ، من قال بأن الله ليس بشيء معناه أن الله ليس بموجود هذه المعطلة الصرفة ، المعطلة التي تعطل الصفات مع دعوى إثبات الأسماء وهم المعتزلة ليعلم الجميع أن هذه العقائد كلها موجودة اليوم في عالمنا المعاصر وخصوصا المعتزلة والأشاعرة والأشاعرة هم الذين لهم الوجود الجماعي بين المسلمين اليوم وتليهم المعتزلة والجهمية توجد عقيدتهم موزعة بين الأشاعرة وبين المعتزلة .
(وكان جهم) رئيسهم جهم بن صفوان السمرقندي كان (ينكر أن يسمى الله شيئا) من عند نفسه هكذا بهواه (وربما قالت الجهمية) أي بعض أتباعه (هو شىء لا كالأشياء فاذا نفى القدر المشترك) الذي كررناه غير مرة أرجو أنه محفوظ إن شاء الله (فإذا نفي القدر المشترك مطلقا) وهو الاشتراك في المطلق الذهني الذي لا وجود له في الخارج (لزم التعطيل التام) كتعطيل الجهمية .(20/69)
(والمعانى التى يوصف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدرة بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك تجب له لوازمها) لوازم الحياة ولوازم العلم بلغتنا مواصفاتها ، مواصفات العلم لوازمها ، علم الله تعالى علم قديم قدم الذات غير مسبوق بجهل لا يطرأ عليه نسيان قس على العلم سائر الصفات يجب إثبات هذه اللوازم (فإن ثبوت الملزوم يقتضى ثبوت اللازم) ثبوت العلم يقتضي ثبوت اللازم أي لازم صفات الله تعالى من القدم والثبات وعدم الزوال وعدم النقص وعدم العيب (يقتضي ثبوت اللازم وخصائص المخلوق التى يجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عنها ليست من لوازم ذلك أصلا) خصائص صفات المخلوق النقص في العلم النقص في الحياة والنقص في القدرة إلى آخر ما مثلنا ليس من لوازم صفات الخالق وبالجملة يقال لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق وكذلك العكس (بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود) محدود محدث (وحياة) ناقصة غير كاملة (وعلم) قليل ناقص غير محيط (ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه) منزه من العلم الناقص الحادث الزائل الذي لا يحيط بجميع المعلومات وهكذا إلى آخر تلك الصفات صفات الكمال .
نكتفي بهذا المقدار .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(20/70)
((والمعانى التى يوصف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدرة بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك تجب له لوازمها فإن ثبوت الملزوم يقتضى ثبوت اللازم وخصائص المخلوق التى يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء فى هذا المقام وقد بسط هذا فى مواضع كثيرة وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وأن معنى إشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(20/71)
نواصل درسنا وإجابات شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على شبهة النفاة الذين ينفون صفات الله تعالى بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى التجسيم وأن التجسيم يؤدي إلى التشبيه ولا يتم التنزيه إلا بنفي الصفات ، نكرر هذه المقدمة ، كل الذين نفوا صفات الله تعالى صفات الله كلها الصفات والأسماء معا كالجهمية لم يقصدوا في زعمهم إلا التنزيه كذلك الذين نفوا الصفات مع إثباتهم للأسماء كالمعتزلة زعمهم التنزيه ومن باب أولى الأشاعرة الذين يثبتون بعض الصفات أو يؤولون البعض الآخر كل هؤلاء قصدهم التنزيه أي ليس غرضهم الخروج على الله على خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإساءة إلى الله ، لم يقصدوا هذا كما يظهر ذلك من كتبهم ، القوم كلهم يريدون التنزيه لكن كل من يريد الخير يوفق لفعل الخير أرادوا التنزيه فلم يوفقوا في التنزيه والتنزيه أمره سهل جدا وميسور لمن يسر الله عليه ، من فهم قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" عرف التنزيه والإثبات معا ، التنزيه يسبقه الإثبات إثبات ما أثبت الله لنفسه من الصفات .. .. ضلوا فتفرقوا فبقي على الخط أتباع أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين سلكوا منهج سلف هذه الأمة من الصحاية والتابعين بما في ذلك الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم جميعا .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (والمعانى التى يوصف بها الرب تعالى كالحياة والعلم والقدرة بل الوجود والثبوت والحقيقة) إنما أضرب هذا الإضراب الانتقالي لأن الوجود حتى الجهمية تثبت بالجملة كذلك الثبوت ما من مسلم إلا ويثبت لله سبحانه وتعالى بأنه موجود وبأنه ثابت ويثبت بأنه الحق ومن أسمائه الحق سبحانه وتعالى .(20/72)
(تجب له لوازمها) كل ذلك تجب له لوازمها لوازم الحياة ولوازم العلم ولوازم القدرة ولوازم الوجود من لوازم الحياة الكاملة أنها حياة لا نقص فيها حياة قديمة قدم الذات لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء الذي أحاط بكل شيء علما ، الحياة الكاملة وهو الحي القيوم لوازمها هذه المعاني ولوازم العلم كما علمنا علم قديم قدم الذات علم لم يسبق بجهل علم محيط بجميع المعلومات إلى آخر لوازم الصفات التي كررناها غير مرة (فإن ثبوت الملزوم يقتضى ثبوت اللازم) ثبوت الصفات يقتضي ثبوت اللازم لازم الصفات ، إذا أثبت الحياة يلزمك أن تثبت لوازم الحياة إذا أثبت العلم يلزمك أن تثبت لوازم العلم (وخصائص المخلوق التى يجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عنها ليست من لوازم ذلك أصلا) خصائص المخلوق العلم الناقص والحياة الناقصة العلم الزائل والسمع الزائل خصائص المخلوق التي يجب تنزيه الرب عنها ليست من لوازم ذلك أصلا ليست من لوازم حياة الله ولا من لوازم علم الله إلى آخره (بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق) نقص العلم ونقص الحياة وزوال ذلك فيما بعد كل ذلك مما يختص بالمخلوق (من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك) بمعنى المخلوق يوصف بالوجود ويوصف بالحياة ويوصف بالعلم ويوصف بالقدرة هذه الصفات لها خصائصا ولوازمها خصائص هذه الصفات لا تلزم صفات الرب سبحانه وتعالى ولوازم صفات المخلوق لا تلزم صفات الخالق عز وجل .(20/73)
(والله سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق) وليس معنى ذلك نفي الاشتراك العام كما تقدم إذن الاشتراك ثبت الآن في العلم العام والقدرة العامة وفي الأسماء العامة في المعنى المطلق لكن ينزه الرب سبحانه وتعالى عن خصائص المخلوق خصائص المخلوق مرة أخرى لحياة المخلوق خصائص حياة حادثة ناقصة وزائلة ، علم المخلوق له خصائص علم حادث حدوث العالم هذا الذي هو المخلوق وعلم ناقص وغير محيط وعلم يطرأ عليه النسيان والغفلة والجهل وأخيرا الذهاب .
والرب (سبحانه وتعالى منزه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه) التي عددناها الآن .(20/74)
وبعد : يقول شيخ الإسلام (وهذا الموضع) الذي نحن فيه (من فهمه فهما جيدا وتدبره زالت عنه عامة الشبهات) التي شغلت علماء الكلام وأبعدتهم عن فهم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وظنوا أنهم على شيء وليسوا على شيء (وانكشف له غلط كثير من الأذكياء فى هذا المقام) شيخ الإسلام من إنصافه يثبت لهم الذكاء ، لهم الذكاء لكن ليست لهم الزكاة ليس لهم طهارة ونزاهة لكن لديهم ذكاء وهذ الذكاء إن لم يهذب بالمفهوم الصحيح مفهوم السلف الصالح يضر ، ذكاء الإنسان وفطنته إن لم يوفق الإنسان الذكي والفطن إن لم يوفق من الله سبحانه وتعالى التوفيق فهو يضيع ذكاؤه يكون وبالا عليه ، هذا ما وقع فيه كثير من فطاحل علماء الكلام الذين كان يناقشهم شيخ الإسلام في كتبهم مثل أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ووالد إمام الحرمين ومثل الشهرستاني ومثل الرازي ومثل القاضي أبو يعلى والقاضي أبو بكر هؤلاء كلهم أذكياء وعلماء وكبار لكن أخطأوا أخطاء سيئة جدا سوف نعرض أخطاءهم بأسمائهم ونذكر كلام شيخ الإسلام فيهم كيف أنصف لأن الناس تفوقت في هؤلاء الأئمة الذين أخطأوا منهم من ذمهم فوقف عند الذم فقط ومنهم من عظمهم وبالغ في تعظيمهم ووقف عند التعظيم فقط ولكن الإنصاف أن يذكر ما لهم وما عليهم ولا ينبغي إلحاقهم بالمبتدعة الذين تصل بدعتهم إلى حد الكفر ولا ينبغي القول بعدم الترحم والاستغفار لهم وهذا غلط فاحش ومن يمنع الترحم على أمثال هؤلاء والاستغفار لهم كأنه يلحقهم بالكفار لأن الكفار والمشركيم هم الذين نهينا عن الاستغفار لهم والترحم عليهم هؤلاء نذكر أخطاءهم ونذكر محاسنهم إذا ذكرنا أخطاءهم استغفرنا الله لهم وأن يعفوا عنهم وأن تكون تلك الأخطاء مغمورة في بحر علمهم وخدمتهم للإسلام والمسلمين وخدمتهم لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام هذا هو موقف الإنصاف وشيخ الإسلام من أكثر الناس خبرة لهؤلاء لأنه عاشرهم وناظرهم وأفحم كثيرا منهم ومع ذلك(20/75)
من إنصافه لا يجعل علمهم وخدمتهم ضائعة كثيرا ما يدخل كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ويصفه بكثرة العلم كتاب فيه علم كثير ويثني عليه ثم يبين ما فيه من الأخطاء أخطاء التصوف أخطاء في علم الكلام ينصف ويبين ما في الكتاب من الأخطاء وما فيه من العلم ثم يذكر الرجل بما فيه من الفضل والعلم وما فيه من الأخطاء هذا هو الإنصاف والإنصاف من الإيمان .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وقد بسط هذا فى مواضع كثيرة) هكذا تحويل شيخ الإسلام من فوائد هذا التحويل العام يجعل طالب العلم يبحث لا يقول له ارجع إلى الكتاب الفلاني المجلد الفلاني والصفحة الفلانية هذا يحمل الإنسان على الكسل دائما ما يريد إلا الشيء الجاهز لكن عندما يحيلك شيخ الإسلام مثل هذه الحوالة تبحث في كتبه الكثيرة في أثناء البحث تستفيد مسائل أخرى هذه من فوائد هذا التحويل العام .
(في مواضع كثيرة وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج) هذه اصطلاحات يستطيع أن يهضمها ويفهما طلاب العلم ، هذه المعاني القدر المشترك بين الصفات بين صفات الخالق وصفات المخلوق يقال له المشترك الكلي لا يوجد في الخارج معنى الخارج أي خارج الذهن ولا يوجد معينا مقيدا بل هو دائما عام ليس لأحد لا للخالق ولا للمخلوق (العلم) إذا أطلق هكذا (والسمع والبصر والاستواء) استواء من ؟ علم من ؟ قدرة من ؟ ليس لأحد ، إذا كان ليس لأحد ليس مضافا إلى أحد لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق إذن لا وجود له في الخارج في خارج الذهم إنما معنى ثابت في الذهن والاشتراك في هذا المعنى الثابت في الذهن أمر ضروري ومن نفى هذا ينفي وجود الخالق ووجود المخلوق معا من حيث لا يشعر .(20/76)
يقول الشيخ رحمه الله (أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا) و (مقيدا) إذا وجد في الخارج فهو مختص وهو معين وهو مقيد (وأن معنى إشتراك الموجودات) الموجودات المخلوقات وكذلك الموجود الحق هو الله سبحانه وتعالى(في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه) العلم مع العلم والقدرة مع القدرة قبل الإضافة كما قلنا غير مرة (وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا) العلم المطلق يصلح بعد الإضافة لله ويصلح بعد الإضافة للمخلوق (لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر) لا ، العلم الموجود في الخارج علم الله المختص به وعلم المخلوق الموجود في الخارج المختص بالمخلوق لا مشاركة بينهما ، وجود الله ووجود المخلوق لا مشاركة بينهما بعد تخصيص وجود الله بالله بالإضافة ووجود المخلوق بالمخلوق بالإضافة لا مشاركة أصلا .
مرة أخرى (وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لا أن الموجودات في الخارج) خارج الذهن (يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله) الله موجود متميز بذاته المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المسماة بأسمائه الحسنى ، المخلوق الموجود متميز بوجوده الناقص بوجوده الحادث الناقص وبعلمه الحادث الناقص الزائل ، إذن كلّ متميز بل المخلوق المعين متميز عن مخلوق مثله معين ، علم زيد ليس مثل علم عمرو وإن كان الكل عالم لكن الناس تتفاوت في العلم ووتفاوت في قوة البصر وتتفاوت في قوة السمع التفوات والتمييز حاصل حتى بين المخلوقين .
نوجز اليوم نقف عند هذا الحد إذ لدي سؤال مهم جدا وهذا السؤال يهم الجميع قد يأخذ الكلام عليه وقتا فلنكتفي بهذا المقدار .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ...(20/77)
((بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل يجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفظن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته وهل لفظ الوجود مقول بالإشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك كما وقع الإشتباه في إثبات الأحوال ونفيها وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها وتارة يبقى في الشك والتحير وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من الإشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج وأن لفظ الوجود كلفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة وإذا قيل إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطيء العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا وبينا أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به))(20/78)
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، وبعد :
مبحث هذا اليوم استعمل فيه اسلوب أهل الكلام لذلك قد يستصعب بعض الناس هضم هذا الأسلوب ولكنه أسلوب خاص بطلاب العلم والآخرون يصبرون معنا حتى نخرج من هذه القطعة إلى الكلام المفهوم الذي يفهمه الجميع ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يناقش أولئك الذين يرون أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه وهو يرد هذا يقول (بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله) كل موجود ، الموجود واجب الوجود الذي هو الله سبحانه وتعالى والموجود الذي هو جائز الوجود وهو الممكن وهو المخلوقات متميز عن غيره بذاته وبصفاته وأفعاله ، الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء متميز عن جميع الموجودات بذاته المقدسة ليس كمثله شيء في ذاته ، ومتميز بصفاته فصفاته تابعة لذاته ما يقال في الذات يقال في الصفات ، لذلك يقال الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الصفات يحذو حذوه ، أي إذا آمن المسلم بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته وأن ذاته المقدسة لا تشبه الذوات يجب أن يؤمن بما أخبر عن نفسه من صفات الكمال وما أثبت له رسولع الأمين عليه الصلاة والسلام ثم يقول صفاته ليس كصفات خلقه وكذلك أفعاله ، أفعال الرب سبحانه وتعالى لا تشبه أفعال العباد إلا في المطلق الكلي الذي تقدم البيان .(20/79)
ثم قال شيخ الإسلام (ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات) أي فيما يرى ، فيما يظن أي فيما يرى نفيه من الصفات (حذرا من ملزومات التشبيه) كأن يقول إن إثبات الاستواء لله تعالى وإثبات مجيئه لفصل القضاء يوم القيامة وإثبات نزوله في آخر كل ليلة وإثبات الوجه له سبحانه وتعالى واليدين يؤدي إلى الاشتراك وإلى التجسيم وحذرا من هذا منهم من ينفي ومنهم من يؤول ، أما المعتزلة فينفون هذه الصفات كلها وغيرها وأما الأشاعرة فيدعون التأويل إلا أن تأويل الأشاعرة يؤول إلى النفي في كثير من الصفات وخصوصا في صفة العلو وصفة الاستواء على عرشه سبحانه وتعالى وهم نفاة وليسوا بمؤولة وإن كانوا مؤولة في سائر الصفات لكن في هاتين الصفتين وفي صفة الكلام اللفظي الأشاعرة نفاة وليسوا من المؤولة وعلى الرغم من ذلك أنهم كما قلنا غيرة مرة أو كما قال أهل العلم قبنا فهم أقرب إلى أهل السنة والجماعة وليسوا منهم ، يؤولون وينفون هذه الصفات حذرا من ملزومات التشبيه ، في زعمهم مثلا لو أثبتوا الاستواء يلزم من الاستواء أن يكون المستوي أصغر من ما استوى عليه أو أكبر منه أو مساويا له ، وهذه من لوازم استواء المخلوق ويزعمون أن إثبات الاستواء يؤدي إلى هذه اللوازم فينفون ، ويزعمون مثلا في صفة الكلام لو أثبتوا له كلاما لفظيا لزم من ذلك إثبات مخارج الحروف كالشفتين واللسان وذلك يؤدي إلى التشبيه وكل ما يؤدي إلى التشبيه فهو مستحيل فإثبات الكلام اللفظي لله تعالى مستحيل ، هكذا ينفون وأنتم ترون أن هذا ليس بتأويل ولكنه نفي محض ، نفي لكلام الله اللفظي ، وإطلاق الكلام على هذا القرآن عندهم إطلاق مجازي وليس بحقيقي .(20/80)
ثم يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وتارة يتفظن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير) لا بد من إثبات ما أثبت الله لنفسه (فيجيب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة) يثبت الصفات التي تسمى صفات المعاني ويقول لا بد من إثباتها على ما يليق بالله تعالى لا على ما يليق بالمخلوق أي يثبتون قدرة تليق بالله وإرادة تليق بالله وعلما يليق بالله إلى آخر الصفات السبع التي سموها صفات المعاني ويحتجون بهذا على من ينفي يقولون هذا الإثبات لا يلزم منه أن تكون صفاته كصفات خلقه هذا هو التناقض ، وكيف لزم من إثبات الاستواء والنزول والمجيء والوجه واليدين التشبيه أو التجسيم ولم يلزم من إثبات القدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم التشبيه ولا التجسيم ؟ هكذا يتناقضون .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ليضرب أمثلة لذلك (ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب سبحانه وتعالى هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته) ماهية الشيء حقيقته أي هل وجود الرب شيء زائد على حقيقته أو هو عين حقيقته ؟ هكذا لأن الماهية بمعنى الحقيقة .(20/81)
(وهل لفظ الوجود مقول بالإشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك) تقدم الحث في هذا أن التواطؤ إذا كانت المعاني متساوية وأن التشكيك إذا كانت المعاني متفاوتة ، وهل وجود الله تعالى كوجود خلقه يشارك وجود الخلق ويتفق معهم من الألفاظ المتواطئة أو من الألفاظ المشككة ؟ كما قلنا هذا أسلوب يخص طلاب العلم (كما وقع الإشتباه في إثبات الأحوال ونفيها) الأحوال بالنسبة للأشاعرة هي الصفات التي يسمونها الصفات المعنوية سبع صفات سموها صفات المعاني وهي واضحة ثم سموا سبع صفات تؤخذ من صفات المعاني سموها الصفات المعنوية وهي التي تسمى عند أبي هاشم الجبائي الأحوال كونه قادرا كونه مريدا كونه عالما كونه سميعا إلى آخره ، وجه ذلك : المعتزلة لا يثبتون أي صفة من الصفات والجبائي عندما يثبت هذه الكوكنة وهو ينفي الصفات لا يثبت إلا الأسماء كيف يفهم من يعرف مذهبه هل هو يثبت الصفات هل هذه صفات موجودة أو غير موجودة ؟ هل هي صفات معقولة أو غير معقولة ؟ لا يُدرى ، وهو من مستحيلات الكلام ، وعند الأشاعرة الأمر هين لأنهم أثبتوا الصفات فأخذوا من صفات المعاني الصفات المعنوية لو كان أبو هاشم الجبائي يثبت صفات المعاني كالأشاعرة لا يعد هذا الكلام ولا يعد تناقضا بل لا يعد من مستحيلات الكلام ولكن الآن بناء على مذهبه إثبات الأحوال يعتبر عنده من مستحيلات الكلام .(20/82)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (كما وقع الإشتباه في إثبات الأحوال) التي يثبتها من المعتزلة أبو هاشم الجبائي فقط (ونفيها) أما حذاقهم فينفون ، المعتزلة (وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا) قوم فارغون اختلفوا هل المعدوم شيء أو ليس بشيء (وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا) وجود أي موجود وجود إنسان وجود الحيوان هل هذا الوجود زائد على ماهيته على حقيقته أم لا ؟ يقول الشيخ (وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه) أئمة النظار الكبار من كبار الأشاعرة الذين منهم الشهرستاني الذي يقول بعد الحيرة الطويلة :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
وصل بهم الحال إلى هذه الدرجة بعد أن خاضوا في علم الكلام علما طويلا ، جل أعمارهم ، انتهوا إلى هذه الحقيقة :
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
ولم يصل إلى أي نتيجة وإلى أي حقيقة ، يدخل تلميذ على شيخه في الصباح الباكر والشيخ في حيرة فيقول لتلميذه هل أنت على يقين بأن الله موجود ؟ فيقول الطالب نعم أنا على يقين ، فيقول احمد ربك فبت البارجة طول الليل أقرع الدليل بالدليل ولم أصل إلى حقيقة أن الله موجود حقيقة في هذا الكون هل هو داخل العالم أو خارج العالم هل هو متصل أو منفصل ؟ هذا البحث الذي قضوا فيه أعمارهم ، ويقول الرازي وهو أسوأ حالا من الشهرستاني :
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
العالمين أي من عالم علماء الكلام ليس جميع العالم :
(نهاية إقدام العقول عقال) في النهاية (وأكثر سعي العالمين ضلال)
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال(20/83)
هذا ما انتهى إليه الرازي ونقل شيخ الإسلام كلام هؤىء في غيرهم مما يدل على أنهم في النهاية ندموا والندم نوع من التوبة يظهر أنهم أظهروا التوبة في آخر حياتهم وفي مقدمتهم الجويني أبو المعالي إمام الحرمين من كبار أئمة الشافعية الذي يبالغ فيه الشافعيون المتأخرون فيقولون (لو كان نبي بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام لكان الجويني) والجويني يقول في آخر حياته (لقد خضت البحر الخضم وتركت علوم الإسلام وخضت في الذي نهوني عنه فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل للجويني فها أنا ذا أموت على عقائد عجائز نيسابور) ما عقيدتهن ؟(20/84)
عقيدة الفطرة عقيدة الجارية التي عرفتموها أي الاعتراف بعلو الله تعالى تاركا كل ما درس في حياته يرجع إلى الاعتراف بعلو الرب سبحانه وتعالى وأنه فوق جميع المخلوقات بائن من خلقه هذه عقيدة الفطرة وعقيدة العجائز وعقيدة كل من بقي على الفطرة ولم يجلس بين يدي مدرس أشعري أو معتزلي ، هكذا ندموا هؤلاء هم النظار الذين يشير إليهم شيخ الإسلام بقوله (وقد كثر من أئمة النظار) الذين كانوا معروفين بالمناظرة والجدال كثر منهم (الاضطراب والتناقض) كما سمعتم (في هذه المقامات فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين) كأن يقول الأحوال ليست معلومة وليست مجهولة وليست موجودة وليست معدومة ، لا يفهم هذا الكلام (ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها) ظنا وتخمينا (وتارة يبقى في الشك والتحير) كما سمعتم من الشهرستاني والرازي والجويني ثم قال الشيخ (وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات وما وقع من الإشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج) أي لا فرق بين الوجود وبين الماهية في الخارج أي في خارج الذهن وإن كانت المهاية التي في الذهن تلك معنى ذهني ولكن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج ليس وجود الله فقط بل وجود كل موجود (بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج) لأن الموجود في الخارج خاص مختص والذي في الذهن عام مغنى عام ليس مختصا من موجود نعين لا بواجب الوجود ولا بجائز الوجود .(20/85)
مرة أخرى (وبينا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج) سواء كان وجود واجب الوجود أو وجود جائز الوجود (بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج) لأن الموجود في الخارج معين ومقيد ومخصص اما الذي في الذهم لا وجود له إلا في الذهن (وأن لفظ الوجود كلفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة ونحو ذلك فهذه الألفاظ كلها متواطئة وإذا قيل إنها مشككة لتفاضل معانيها فالمشكك نوع من المتواطيء العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك) تقدم البحث والتفريق بين المتواطئ وبين المشكك ، إذا كانت المعاني متساوية كإطلاق الإنسان على زيد وعمرو أو رجل على زيد وعمر هذا متواطئ وإذا كان هناك تفاوت يسمى مشكك كإطلاق النور على الشمس وعلى الفتيلة مثلا والسراج - ما تقدم من مسؤوليات الطلاب وما سيأتي من مسؤليات المدرس ينبغي أن تحفظوا هذا –
(فالمشكك نوع من المتواطيء العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلا في موارده أو متماثلا) إن كان متماثل فهو متواطئ ، إن كان متفاضلا فهو مشكك .
نعم .
((وبينا أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف لها وجود في الأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف به وأما هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب الضلال ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذ لكل مقام مقال))(20/86)
قال الشيخ رحمه الله (وبينا أن المعدوم شيء أيضا في العلم والذهن) المعدوم أيا كان لو سئلت هل المعدو شيء أو لا ؟ لا ينبغي ان يكون الجواب بنعم أو بلا لا بد من التفصيل : المعدوم شيء في العلم والذهن وليس بشيء في الخارج ، المعدوم ليس بشيء في الخارج في خارج الذهن إذ لا وجود له لأن الذي في الخارج يجب أن يكون معينا ومقيدا ومختصا والمعدوم لا يستحق هذه الصفات إذن المعدوم شيء في العلم والذهن (لا في الخارج فلا فرق بين الثبوت والوجود) الثبوت الوجود بمعنى واحد ، اصطلاحات ، هذا شيء موجود وهذا شيء ثابت المعنى واحد (لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي) والوجود (العيني) الوجود العلمي الذي في الذهن والوجود العيني الذي في الخارج المعين (مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة) الذي في العلم أي الذي في الذهن ليس هو الحقيقة الموجودة لأن ذلك لا وجود له أصلا (ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف) أشرنا إلى الأحوال ومن أراد البسط يرجع إلى درء التعارض وإلى المقالات مقالات الإسلاميين لأبي الحسن وإلى الملل والنحل هذه التي بسطتت الأحوال وأنها من المستحيلات وأضافوا إلى ذلك طفرة النظام وكسب الأشعري وقالوا (ثلاثة من مستحيلات الكلام لا وجود لها كسب الأشعري وطفرة النظام وأحوال أبي هاشم) ولبسط ذلك يرجع طالب العلم إلى المراجع التي أشرنا إليها ..
الشريط الثاني والعشرون :(20/87)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف لها وجود في الأذهان وليس في الأعيان إلا الأعيان) اعتبروا هذه قاعدة ليس في الأعيان إلا الأعيان (الموجودة) كل ما في الأعيان أي في خارج الذهن أعيان موجودة مختصة وما في الذهن ليس بعيان ولكن معاني ثابتة في الأذهان (وصفاتها القائمة بها المعينة فتتشابه بذلك وتختلف) ثم يقول (وأما هذه الجمل المختصرة) التي نحن بصددها التدمرية وما في معناها (فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى) لأن بذلك تزول الشبه منذ بدانا نحن في رد الشبه وبيان الشبهة كيف ترد لذلك مثل هذا المختصر وقبل ذلك الفتوى الحموية دراسة هذه الرسائل ومن فتح الله عليها وفهم هذه الرسائل يستطيع دفع الشبه والشبه كثيرة لمن ينظر في علم الكلام (من فهمها علم قدر نفعها وانفتح له باب الهدى وإمكان إغلاق باب الضلال) يمكن ذلك (ثم بسطها وشرحها له مقام آخر إذ لكل مقام مقال)
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(20/88)
((والمقصود هنا أن الإعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفى عن الرب وينزه عنه كما يفعله كثير من المصنفين خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طرق النفي الباطلة فصل وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما تجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون أنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة والذين يقولون بإلهية بعض البشر وأنه الله فإن كثيرا من الناس يحتج على هؤلاء بنفي لتجسيم أو التحيز ونحو ذلك ويقولون لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسما أو متحيزا وذلك ممتنع وبسلوكهم مثل هذه الطرق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة نفاة الأسماء والصفات فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوده أحدهما أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فسادا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم فإن هذا فيه من الإشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك وكفر صاحب ذلك معلوم بالضروة من دين الإسلام والدليل معرف للمدلول ومبين له فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود ،الوجه الثاني أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات يمكنهم أن يقولوا نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات الكمال فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحدا ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد وهذا في غاية الفساد الثالث أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة واتصافه بصفات الكمال واجب ثابت بالعقل والسمع فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(20/89)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (والمقصود هنا) في هذه الرسالة (أن الإعتماد على مثل هذه الحجة) أي نفي صفات الكمال حذرا من الوقوع في التجسيم ، هذه الحجة قال (والمقصود هنا أن الإعتماد) أي اعتماد النفاة (على مثل هذه الحجة) على نفي صفات الكمال حذرا من الوقوع في التجسيم (فيما ينفى عن الرب سبحانه وتعالى وينزه عنه كما يفعله) بعض (المصنفين) بعض المصنفين من النفاة ، النفاة الذين ينفون جميع الصفات أو النفاة الذين ينفون بعض الصفات بدعوى التأويل أن ذلك (خطأ لمن تدبر ذلك وهذا من طرق النفي الباطلة) إذا كان هذا من طرق النفي الباطلة ما هي الطريقة الصحيحة في النفي ؟
نفي العيب والنقائص وإثبات صفات الكمال ونفي المماثلة ، هذه هي الطريقة الصحية ، نفي العيب والنقص عن الرب سبحانه وتعالى وإثبات صفات الكمال ثم نفي المماثلة فيما أثبتّ على حد قوله تعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" .(20/90)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى في الاحتجاج على نفي النقائص بنفي التجسيم أو التحيز هذا أمر لا يحص المقصود به لذلك قال (وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها) نفاة الصفات كلها وهم الجهمية والمعتزلة أو بعضها وهم الأشاعرة ، قد يقول قائل إن الأشاعرة ليسوا من النفاة بل من المؤولة ، الجواب إنهم مأولة في أكثر الصفات ولكنهم نفاة في بعض الصفات ومثبتة لبعض الصفات ، فيهم هذه الصفات كلها ، الأشاعرة مثبتة بالنسبة للصفات العقلية التي سموها صفات المعاني والصفات المعنوية والصفة السلبية والصفة النفسية بالنسبة لهذه الصفات أي باعتبار إثباتهم لهذه الصفات يقال لهم المثبتة ، سيأتي في كلام شيخ الإسلام تسميتهم مثبتة عدة مرات ويقال لهم مؤولة بالنسبة لبعض الصفات التي أولوها بلازمها كالغضب والمحبة والحمة وغير ذلك لأن هذه الصفات لم يتركوها على ظاهرها ولم ينفوها نفيا مطلقا ولكن فسروها بلازمها فأهل السنة يثبتون الصفة ولازمها ، لازم الغضب الانتقام لازم المحبة الإحسان فأهل السنة يثبتون الصفة ولازمها وهم يؤولون الصفة بلازمها بهذا الاعتبار هم مؤولة ، وأما بالنسبة لبعض الصفات فهم نفاة ولا شك في ذلك كنفيهم صفة كلام الله تعالى الكلام اللفظي ونفيهم لعلو الله تعالى فوق جميع مخلوقاته ونفيهم لاستواء الله تعالى على عرشه في هذه الصفات يعتبرون نفاة .
(إذا أرادوا) جميعا ، نفاة الصفات إذا أرادوا (أن ينزهوا) رب العالمين (عما تجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك) كاللغوب والاستراحة كما قالوا (ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون أنه بكى على الطوفان) على طوفان نوح (حتى) رمدت عيناه (وعادته الملائكة) سبحان الله هكذا من فقد الحياء إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ، لا يستغرب من اليهود لأنهم كفار لا ذنب بعد الكفر .(20/91)
(والذين يقولون بإلهية بعض البشر) كالنصارى الذين زعموا إلهية عيسى وكغلاة الروافض الذين زعموا إلهية علي رضي الله عنه (وأنه الله فإن كثيرا من الناس يحتج على هؤلاء) على هؤلاء الذين يقعون في هذا الكفر (بنفي لتجسيم أو التحيز ونحو ذلك) كالتركيب والتشبيه والتمثيل (ويقولون لو اتصف بهذه النقائص) كالحزن والبكاء (والآفات لكان جسما أو متحيزا وذلك ممتنع) كأنهم لا يعرفون من أسلوب المناقشة والأخذ والرد إلا الجسم والتحيز والتركيب والتشبيه والتمثيل ، كأن هذه العبارات مسجلة عندهم كيف يناقشون الكفار بمثل هذه الأساليب وهذا الأسلوب ممكن أن يناقش به المثبتة كما تعودوا لكن بالنسبة لمن كفر الكفر البواح وهم من قبل كفار وأساءوا هذه الإساءة فوصفوا رب العالمين بالبكاء والحزن ما وجدتم لهم جوابا إلا أن ذلك يوقعهم في التجسيم والتحيز ؟ أمر غريب ولذلك يقول شيخ الإسلام (وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة) فغلبوهم فضحكوا عليهم (نفاة الأسماء والصفات) وهم الجهمية والفلاسفة (فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود) المقصود الذي هو التنزيه لا يحصل بهذه الطريقة أي مناقشة من وقع في الكفر بإثبات مثل هذه العيوب والآفات مناقشتهم بنفي التجسيم والتحيز لا يحصل به المقصود أبدا للوجوه الآتية :(20/92)
الوجه الأول : (أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات) كالحزن والبكاء (أظهر فسادا في العقل والدين) كل من لديه عقل سليم ومن لديه دين يدرك أن هذا وصف باطل (أظهر فسادا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم فإن هذا) أي نفي التحيز والتجسيم (فيه من الإشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك) ما ليس في وصفه بالحزن والبكاء (وكفر صاحب ذلك) الذين وصفوه بالنقائص (معلوم بالضروة من دين الإسلام) هو علم ضروري العلم الضروري هو الذي لا تستطيع دفعه عن نفسك لو حاولت ، لو حاول الإنسان كل المحاولة ليرد عن نفسه معرفة أن هذا كفر وإلحاد لن يستطيع ، هذا معنى العلم الضروري (والدليل) عادة (معرف للمدلول ومبين له) وهل نفي التجسيم ونفي التحيز هو الذي يدل على نفي العيب ونفي الحزن والبكاء ؟ (فلا يجوز أن يستدل على الأظهر) الذي هو الكفر كفر اليهود حيث وصفوا الله سبحانه وتعالى بالحزن والبكاء ، لا يستدل على الأظهر (الأبين بالأخفى) الأخفى التحيز والتجسيم ، لا يستدل بنفي التحيز والتجسيم على ما هو أظهر وأبين كفرا وهو وصف الله تعالى بالحزن والبكاء (كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود) الحدود دائما والتعريفات هي التي تبين الأمور إذا أردت أن تعرف العبادة :اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة. وإذا أردت أن تعرف الكلام عند النحويين تقول : الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع . أو : كلامنا لفظ مفيد كاستقم . هكذا بهذه الحدود توضح وتعرف ما تريد تعريفه ، وأما كونك تستدل وتبين بطلان من يصف الله بالحزن والبكاء تبين بطلانه بنفي التحيز والتجسيم هذا أمر غير لائق عقلا ، وبهذه المناسبة تعريفات النحاة الكلام بأنه اللفظ المركب المفيد بالوضع على اختلاف تعبيراتهم فيه رد على الأشاعرة، ما وجه ذلك .. فيه رد على الأشاعرة في صفة الكلام .. (الكلام هو اللفظ) اللفظ الملفوظ والمنطوق حديث النفس ليس بكلام لا بالتعريف(20/93)
اللغوي ولا شرعا لذلك هنا الأشاعرة ابتدعوا بدعة غلبوا بها حتى المعتزلة لأن المعتزلة لم يثبتوا الكلام النفسي ولكنهم وقفوا عند باطلهم بأن معنى كون الله متكلم خالق للكلام ، لم يزيدوا على هذا ، شاركت الأشاعرة المعتزلة في هذا وزادوا إثبات الكلام النفسي وهو باطل .
وبعد : (الوجه الثاني أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات) كالحزن والبكاء (يمكنهم أن يقولوا) للنفاة (نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز) نصفه بهذه النقائص لكنا لا نقول بالتجسيم والتحيز (كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال) من يثبت صفات الكمال يقول للنفاة نحن نثبت صفات الكمال كالسمع والبصر والنزول والمجيء ومع ذلك ننفي التجسيم والتحيز لا نقول بالتحيز والتجسيم ، على هذا يصير نزاعهم نزاع النفاة مع هؤلاء الذين يصفون الله بالنقائص مثل نزاع مثبتة صفات الكمال كما ينازعون مثبتة صفات الكمال في إثباتهم صفات الكمال يقولون لهم إثباتكم للسمع والبصر والمجيء والنزول مثلا يؤدي إلى التجسيم كذلك يقولون لليهود قولكم إنه موصوف بالحزن والبكاء يؤدي إلى التجسيم ، ما أفسد هذا النزاع (فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال) وهم المثبتة (وصفات النقص) وهم اليهود (واحدا) عندهم أي عند النفاة (ويبقى) بعد ذلك (رد النفاة على الطائفتين) طالما خاطبوهم بكلام واحد (يبقى رد النفاة على الطائفتين) على مثبتة الصفات وعلى الذين وصفوا الله بالنقائص (بطريق واحد وهذا في غاية الفساد) وهذا في غاية الفساد كما ترون ، واضح ؟(20/94)
(الثالث أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة) أن هؤلاء النفاة (ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة) بدعوى التجسيم والتحيز (واتصافه تعالى بصفات الكمال واجب) شرعا وعقلا و(ثابت بالعقل والسمع) المفروض بالسمع والعقل لكن الواو لا تقتضي الترتيب الأصل السمع والعقل تابع (فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة) أي إنهم ينفون صفات الكمال الثابتة بالأدلة السمعية والدليل العقلي ينفون بهذه الطريقة بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى التجسيم وإلى التحيز وهذا باطل لأن نفي ما ثبت بالسمع والعقل بهذه الطريقة السقيمة باطل .
نعم .(20/95)
((الرابع أن سالكي هذه الطريقة متناقضون فكل من أثبت شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات كما أن كل من نفى شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي فمثبته الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر إذا قالت لهم النفاة كالمعتزله هذا تجسيم لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بالجسم فإنا لا نعرف موصوفا بالصفات إلا جسما قالت لهم المثبتة وأنتم قد قلتم انه حي عليم قدير وقلتم ليس بجسم وانتم لا تعلمون موجودا حيا عالما قادر الا جسما فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم فكذلك نحن وقالوا لهم انتم اثبتم حيا عالما قادرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل ثم هؤلاء المثبة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض أو من وصفه بالاستواء والنزول والاتيان والمجىء أو بالوجه واليد ونحو ذلك إذا قالوا هذا يقتضى التجسيم لانا لا نعرف ما يوصف بذلك الا ما هو جسم قالت لهم المثبتة فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وهذا هكذا فإن كان هذا لا يوصف به الا الجسم فالآخر كذلك وان أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائض بهذه الطريق طريقا فاسدا لم يسلكه احد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله تعالى بالجسم لا نفيا ولا اثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لانها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ماهو من هذا النوع بل هذا هو من الكلام المبتدع الذى أنكره السلف والأئمة))(20/96)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الوجه (الرابع أن سالكي هذه الطريقة) وهم النفاة سواء كانوا كانوا كما قلنا نفاة لجميع الصفات أو لبعضها (متناقضون) فيبدأ الحوار الآن بين الأشاعرة وبين المعتزلة (فكل من أثبت شيئا منهم) من النفاة (ألزمه الآخر) الذي لا يثبت ذلك الشيء (بما يوافقه فيه من الإثبات كما أن كل من نفى شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي) الأمثلة (فمثبته الصفات) – اكتب عندك – أي الأشاعرة (كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر) والكلام بالجملة كما تعلمون التفصيل لأنهم استعملوا أسلوبا أشبه ما يكون كما يقولون أسلوب دبلوماسي في صفة الكلام يطلقون الكلام ليوهموا الناس بأنهم يثبتون صفة الكلام وفي واقعهم لا يثبتون الكلام الحقيقي ولكن يثبتون الكلام النفسي وأهل السنة لا يشاركونهم في ذلك ولا المعتزلة يشاركونهم في ذلك وهم بين بين أي بين أهل السنة وبين المعتزلة .(20/97)
(إذا قالت لهم النفاة كالمعتزله) صرح هنا ، إذا قالت المعتزلة للأشاعرة (هذا تجسيم) إثباتكم للحياة والعلم والقدرة إلى آخره تجسيم (لأن هذه الصفات) العلم والحياة والقدرة والكلام (أعراض والعرض) ما يقوم بغيره ولا يتحقق وجوده إلا بواسطة غيره هذا هو العرض هم يسمون الصفات أعراض (والعرض لا يقوم إلا بالجسم فإنا لا نعلم موصوفا بالصفات إلا جسما) يقول المعتزلي للأشعري إننا لا نعرف موصوفا بالصفات إلا جسما فإذا وصفتم الله بهذه الصفات جعلتموه جسما (قالت لهم المثبتة) وهم الأشاعرة (وأنتم) أيها المعتزلة (قد قلتم انه حي) بلا حياة (عليم) بلا علم (قدير) بلا قدرة (وقلتم ليس بجسم وانتم لا تعلمون موجودا حيا عالما قادر الا جسما) أيضا كما قلتم في حقنا (فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم) أثبتم موصوفا بالحياة والعلم على خلاف ما علمتم لأنكم لا تعلمون ذلك إلا جسما (فكذلك نحن) أي نشترك معكم في هذا التناقض (وقالوا لهم) قالت الأشاعرة للمعتزلة (انتم اثبتم حيا عالما قادرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة وهذا تناقض) منكم ، هنا استظهرت الأشاعرة على المعتزلة (انتم اثبتم) أيها المعتزلة (حيا عالما قادرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة) لأنهم خالفوا في هذا ، الأشاعرة كما تعلمون وافقوا أهل السنة هنا أثبتوا الاسم والصفة معا والمعتزلة نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء (وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل) هكذا تجد شبها كما قال الخطابي :
شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور
هذا يصدق – هذا البيت – على هذا الحوار الذي سمعتم الآن .(20/98)
(ثم هؤلاء المثبة) أي الأشاعرة (إذا قالوا لمن أثبت) أي للمثبتة الحقيقيين الذي يثبتون جميع الأسماء والصفات وهم أهل السنة والجماعة ، (ثم هؤلاء المثبة) لبعض الصفات وهم الأشاعرة (إذا قالوا لمن أثبت أنه تعالى يرضى ويغضب ويحب ويبغض أو من وصفه بالاستواء والنزول) وهم أهل السنة أيضا لذلك هذا العطف ليس بواضح (إذا قالوا لمن أثبت أنه تعالى يرضى ويغضب ويحب ويبغض ومن وصفه بالاستواء والنزول والاتيان والمجىء) لو عطف هكذا بدون (أو من يصفه) لكان أولى لأنهم هم جماعة واحدة هم أهل السنة والجماعة لأن (أو) التغيير ب(أو) يفيد بأن هذه جماعة وتلك جماعة وليس الأمر كذلك (ومن وصفه بالاستواء والنزول والاتيان والمجىء أو بالوجه واليد) وهم أهل السنة والجماعة الذين نهجوا منهج سلف هذه الأمة(ونحو ذلك إذا قالوا هذا يقتضى التجسيم) إثباتكم لهذه الصفات الخبرية – ترى هذه الصفات كلها خبرية التي ذكروا الآن وخالفت الأشاعرة فيها أهل السنة والجماعة كلها خبرية – سواء كانت فعلية أو ذاتية الذاتية كالوجه واليد صفات ذاتية والباقي كلها صفات فعلية .(20/99)
(إذا قالوا هذا يقتضى التجسيم لانا لا نعرف ما يوصف بذلك) أي بالغضب والمحبة والرضا (الا ما هو جسم قالت لهم المثبتة) هنا المثبتة أهل السنة والجماعة قالت لهم المثبتة لجميع الصفات والأسماء وهم أهل السنة والجماعة (فأنتم قد وصفتموه) أيها الأشاعرة (بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام) وفي الكلام كلام كما تقدم (وهذا هكذا) لا فرق بين هذا وذاك ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر (فإن كان هذا لا يوصف به) إن كان هذا أي ما هو من قبيل الصفات الخبرية لا يوصف به (الا الجسم فالآخر كذلك) أي ما كان من قبيل الصفات العقلية (وان أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين) كما قيل : ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر . والتفريق بين ما جمع الله في كتابه وما جمعه رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته التفريق بينهما بالعقل بأن يثبت البعض وينفى البعض الآخر افتيات على الشاره وجرأة جريئة على كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .(20/100)
يقول شيخ الإسلام (ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائض بهذه الطريق) أي بدعوى نفي التحيز والتجسيم (طريقا فاسدا) لما كان الأمر كذلك (لم يسلكه احد من السلف والأئمة) كثيرا ما يعطف شيخ الإسلام يعطف شيخ الإسلام الأئمة على السلف غالبا كما لاحظتم (لم يسلكه احد من السلف) يفسر السلف هنا بالصحابة (والأئمة) الأئمة الأربعة ومن في طبقتهم لأن من الأئمة الأربعة من هو تابعي وهو الإمام أبو حنيفة والآخرون من تابعي التابعين كلهم متفقون على هذا المسلك وعلى هذا المنهج ومع الصحابة أي إجماع بين الصحابة والتابعين وتابع التابعين مع وجود الأدلة السمعية والعقل السليم والفطرة السليمة لا يوجد شيء آكد من هذا وأثبت ، صفات ثبتت بكتاب الله وبالسنة الصحيحة وبإجماع الصحابة وبإجماع التابعين وعلماء تابع التابعين وثبتت هذه الصفات بالعقل السليم والفطرة السليمة نفي ما ثبت بهذه الأدلة بهذه الدرجة أو تأويلها إنما يعتبر افتياتا على الشارع وجرأة على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام ومخالفة لسبيل المؤمنين .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (لم يسلكه أحد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم) قط (في حق الله تعالى بالجسم لا نفيا ولا اثباتا) لا يقولون بأن الله جسم أو إن الله ليس بجسم بل لا يتلفظون بهذه الكلمة مع ذكر الله تعالى حياء منهم وتعظيما لرب العالمين وذلك من قوة إيمانهم .(20/101)
(ولا بالجوهر) ولا (لتحيز) الجسم والجوهر تقريبا متقارب أي ما يشار إليه أو ما هو قائم بنفسه ، والتحيز كل هذه الكلمات كما سيأتي فيها إجمال وهذا الإجمال سبق بيانه وسيأتي مرة أخرى أيضا (لانها عبارات مجملة) الجسم والجوهر والتحيز والعرض كلها عبارات مجملة (لا تحق حقا ولا تبطل باطلا) إذن لا تستعمل في حق الله تعالى إنما يكتفى بالألفاظ الشرعية في حق الله تعالى يجب الاكتفاء بالألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة (ولهذا لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ماهو من هذا النوع) أي هذه الألفاظ المستحدثة (بل هذا هو من الكلام المبتدع الذى أنكره السلف والأئمة) أنكره السلف والأئمة كما تقدم ، هذا هو الحق فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على هذا الحق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(20/102)
((وآخرون توهموا أنه إذا قيل الموجودات تشترك فى مسمى الوجود لزم التشبيه والتركيب فقالوا لفظ الوجود مقول بالإشتراك اللفظى فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف اصنافهم من ان الوجود ينقسم الى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات وطائفة ظنت انه إذا كانت الموجودات تشترك فى مسمى الوجود لزم أن يكون فى الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه وزعموا أن فى الخارج عن الأذهان كليات مطلقة مثل وجود مطلق وحيوان مطلق وجسم مطلق ونحو ذلك فخالفوا الحس والعقل والشرع وجعلوا ما فى الأذهان ثابتا فى الاعيان وهذا كله من نوع الإشتباه ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن إشتركت من بعض الوجوه وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والإختلاف وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذى يبين ما بينهما من الفصل والإفتراق وهذا كما ان لفظ ( إنا ) و ( نحن ) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد له شركاء فى الفعل ويتكلم بها الواحد العظيم الذى له صفات تقوم كل صفة مقام واحد وله أعوان تابعون له لا شركاء له فإذا تمسك النصرانى بقوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر)ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى (وإلهكم إله واحد)ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدا يزيل ما هناك من الإشتباه وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينا لما يستحقه من العظمة والاسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم))(20/103)
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يعدد أنواع الضلالات التي وقع فيها كثير من بني آدم في هذا الباب في باب الأسماء والصفات قال رحمه الله (وآخرون) من الذين وقعوا في هذه الضلالات (توهموا أنه إذا قيل الموجودات تشترك فى مسمى الوجود) توهموا أنه (لزم التشبيه والتركيب) إذا قيل إن الموجودات بما في ذلك واجب الوجود وجائز الوجود ، المخلوقات كلها جائزة الوجود ظنوا أنها تشترك في مسى الوجود ظنوا إذا قيل الموجودات تشترك في مسمى الوجود ظنوا أنه يلزم من ذلك التشبيه والتركيب (فقالوا لفظ الوجود مقول بالإشتراك اللفظى) المشترك اللفظي هو اللفظ الواحد الذي له عدة معاني كالعين العين تطلق على الباصرة وتطلق على العين الجارية وتطلق على الذهب وهذا يقال له المشترك اللفظي ، ظنوا أن الوجود من هذا القبيل (فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف اصنافهم) سواء كانوا من أهل الكلام أو من غيرهم (من ان الوجود ينقسم الى قديم ومحدث) أي أن الوجود ليس من الألفاظ المشتركة بل الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث ، الموجود إما قديم وإما محدث لا ثالث لهما إذا لا اشتراك بينهما لا اشتراك بين قديم ومحدث لأن القديم هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الذي أحدث هذا المحدث إذن لا مشاركة بين القديم وبين الحديث أي بين القديم المحدِث وبين الحديث المحدَث (ونحو ذلك من أقسام الموجودات) ضلوا في هذا الباب .(20/104)
(وطائفة ظنت) طائفة من أهل الكلام من الذين وقعوا في الضلالات (انه إذا كانت الموجودات تشترك فى مسمى الوجود لزم أن يكون فى الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه) ولا يوجد خارج الأذهان موجود مشترَك فيه والاشتراك إنما يقع في المطلق الكلي ، المطلق الكلي ذهني وليس بخارجي كلما ما يوجد في الخارج فهو معين ومخصص لا يوجد العام في خارج الأذهان وهذه قاعدة مهمة جدا تهم طالب العلم (طائفة ظنت انه إذا كانت الموجودات تشترك فى مسمى الوجود) اشتراك الموجودات في مسمى الوجود هذا حاصل لكن أي وجود هو ؟(20/105)
الوجود المطلق ، اشتراك الموجودات في مسمى الوجود في الوجود المطلق الذهني الذي لا وجود له في الخارج وإنما يتصوره الذهن تصورا ، ظنوا أنه يلزم (أن يكون فى الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه) ولا صحة لهذا (وزعموا أن فى الخارج عن الأذهان كليات مطلقة) وهذا غلط ، لا يوجد في الخارج كليات مطلقة كل ما يوجد في الخارج فهو متخصص خصص كل موجود في الخارج بالإضافة الوجود المطلق إنما يوجد في الذهن والعلم المطلق إنما يوجد في الذهن والقدرة المطلقة إنما توجد في الذهن لكن في خارج الذهن قدرة خاصة وعلم خاص ووجود خاص هذا الذي موجود في الخارج أي خارج الأذهان ، إذا قيل (وجود) وجود من ؟ الوجود المطلق الذي لا يخص أحدا لا يخص قديما ولا حديثا هذا الوجود المطلق لا وجود له إلا في الذهن أي لا يوجد في خارج الذهن موجود أو وجود قائم بنفسه هكذا ليس وجود قديم ولا وجود محدث بعبارة أخرى ليس وجود الخالق ولا وجود المخلوق لا وجود لمثل هذا الوجود في الخارج وإنما هو في الذهن ، وهذا ليس في الوجود فقط ، في جميع صفات الرب سبحانه وتعالى ، العلم المطلق الذي لا يضاف أو قبل أن يضاف العلم لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق لا وجود له إلا في الأذهان ، السمع المطلق لا وجود له إلا في الأذهان والبصر المطلق لا وجود له إلا في الأذهان وكل ما هو موجود في الخارج ليس بمطلق .(20/106)
نعيد هذه الكلية مرة أخرى ، يقول الشيخ (وزعموا أن فى الخارج عن الأذهان كليات مطلقة) وهذا باطل (مثل وجود مطلق وحيوان مطلق وجسم مطلق ونحو ذلك) لا يوجد في الخارج وجود مطلق أو حيوان مطلق أو جسم مطلق أو علم مطلق لا وجود له (فخالفوا الحس) الشيء المحسوس الذي يلمسه كل إنسان وخالفوا (العقل) وخالفوا (الشرع) لذلك ضلوا (وجعلوا ما فى الأذهان ثابتا فى الاعيان) ما في الأذهان لا وجود له في الأعيان وإنما هو ثابت فقط في الأعيان ولا وجود له في الأعيان بمعنى في خارج الأذهان كما مثلنا غير نرة ونعود مرة أخرى نمثل مثلا بالعلم العلم المطلق لا وجود له في الأعيان إنما يوجد في الأذهان أما العلم الموجود في الخارج في الأعيان هو العلم الخاص إما علما مختصا بالخالق أو علما مختصا بالمخلوق وهذا الاختصاص يأتي بالإضافة ، الآيات التي تتحدث عن صفات الرب سبحانه وتعالى إنما تتحدث عن الصفات الخاصة بالله لا تشترك فيها صفات المخلوقين ، تتحدث النصوص عن علم الله وعن سمع الله وعن بصر الله "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" لا أحد يشارك الله أبدا في السمع الخاص والبصر الخاص وفي العلم الخاص الذي خصص بالإضافة ، لهذا العلم الخاص مواصفات ولعلم المخلوق الخاص مواصفات يستحيل عقلا وشرعا وحسا أن يشترك المخلوق في صفات الخالق في خصائص صفات الخالق ومواصفات صفات الخالق فلنأخذ العلم كما قلنا ، علم الله تعالى علم قديم قدم الذات علم لم يسبق بجهل علم محيط بجميع المعلومات علم باق بقاء الذات لا يطرأ عليه نسيان أو غفلة أو ذهول أو ذهاب ، وهل يتصور عقلا وحسا وشرعا أن يشترك مخلوق ما رب العالمين في هذا العلم الموصوف ؟(20/107)
لا ، إذن هذا هو الموجود في الأعيان ، العلم الموجود في الأعيان كهذا لا أحد يشارك الله في هذا العلم ، وعلم المخلوق : المخلوق له علم علم المخلوق علم مسبوق بجهل علم غير محيط بجميع المعلومات لأن المخلوق لم يؤت من العلم إلا قليلا علم يطرأ عليه النسيان والغفلة وأخيرا الذهاب مستحيل على الله وينزه أن يشارك المخلوق في هذا العلم بهذه الصفات ، هو الذي منحه لكن لا يشاركه في خصائص ومواصفات علم المخلوق إذن حصل الاختصاص لا يحصل الاشتراك أبدا فيما يوجد في الأعيان أي فيما يوجد في خارج الأذهان سواء كان علما أو سمعا أو بصرا أو استواء أو نزولا أو مجيئا أي في الصفات الذاتية وفي الصفات الفعلية في الصفات الخبرية وفي الصفات العقلية لا يحصل الاشتراك أبدا في الخارج عن الأذهان هذه قاعدة يجب أن يحفظها طلاب العلم .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وهذا كله من نوع الإشتباه) وقع القوم في هذا الاشتباه حيث ظنوا أن الكليات المطلقة لها وجود في الخارج .
ثم قال (ومن هداه الله) سبحانه وهو الذي رزقه الفقه في كتاب الله "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " من رزقه الله فقه كتابه هو الذي هداه الله وفرق وخرج من هذا الاشتباه ، قال (ومن هداه الله سبحانه فرق بين الأمور وإن إشتركت من بعض الوجوه) ذكرنا الآن الاشتراك في بعض الوجوه ، متى ؟
في المطلق الكلي الذي لا وجود له إلا في الذهن وهذا الاشتراك أمر ضروري بين صفات الخالق وصفات المخلوق لأننا لو لم نتصور هذا الوجود المطلق لا نستطيع أن نفرق بين الصفات بين السمع والبصر والعلم والحلم مثلا .(20/108)
(ومن هداه الله سبحانه فرق بين الأمور وإن إشتركت من بعض الوجوه) فرق وعلم (وعلم ما بينهما) ما بين الأمور (من الجمع والفرق) الجمع الاشتراك في المطلق الكلي والفرق عدم الاشتراك إذا وجدت في الأعيان (والتشابه والإختلاف وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه) من هداهم الله هذه الهداية لا يضلون بالمتشابه (من الكلام) في هذه النقطة وغيرها (لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق) المحكم هو الفارق بين المتشابهات ، إذا تلوا الآيات التي فيها التشابه حكموا بينها بالمحكم ، الفارق (الذى يبين ما بينهما) ما بين المتشابهات (من الفصل والإفتراق وهذا كما ان لفظ) هذا يعتبر مثال ، القطعة الجاية هذه مثال للقواعد التي تقدمت ، انتبه (وهذا كما ان لفظ (إنا) و (نحن) وغيرهما من صيغ الجمع) صيغ الجمع ، هي في الظاهر صيغ الجمع (يتكلم بها الواحد له شركاء) صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء (فى الفعل) فعلنا قلنا كتبنا (ويتكلم بها الواحد العظيم الذى له صفات تقوم كل صفة مقام واحد) أي ليس هناك اشتراك وليس هناك شركاء لكن له صفات تقوم كل صفة مقام واحد أي تبيح وتسيغ الجمع ، وجود هذه الصفات تسيغ الجمع (وله جنود) لهذال العظيم له جنود (تابعون له لا شركاء له) ليس له شركاء ولا له أعوان لكن هناك جنود تابعون له ليسوا معه ولكن تابعون له لا شركاء له .
(فإذا تمسك النصرانى) بالمتشابه فقال : قوله تعالى مثلا ((إنا نحن نزلنا الذكر) وإنا له لحافظون" هذه ضمائر تدل على الجمع ، في ظاهرها تدل على التعدد ، إذن هذه الضمائر تدل (على تعدد الآلهة) وقد يقول هذا من ينتسب إلى الإسلام وأصيب بشبهة ، كيف ترد ؟(20/109)
ترد هذا المتشابه إلى المحكم (إنا) ضمير فصل صيغته صيغة الجمع (نحن) ضمير فصل صيغته صيغة الجمع (إنا نحن نزلنا) (نا) ضمير متصل صيغته صيغة جمع "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" واو الجماعة في ظاهرها هذا الحرف في ظاهره ضمير جمع يدل على التعدد ، وهل في حق الله تعالى هذه الضمائر تدل على التعدد ؟
لا ، ترد هذا المتشابه إلى المحكم الذي يحكم على هذا المتشابه وما هو ذلك المحكم ؟
((وإلهكم إله واحد) ) لا إله إلا هو" " قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد" هذا محكم يحكم على المتشابه أي يبين مراد المتكلم بهذه الضمائر ، هذه الضمائر تسمى ضمائر العظمة ليست ضمير الجمع ليست ضمائر تدل على التعدد وإن كانت الصيغة صيغة جمع لكن بالنسبة للرب سبحانه وتعالى تدل على العظمة لأنه العظيم الذي له الصفات العلا والأسماء الحسنى وله جنود السماوات والأرض ،وجود هذه الصفات العظيمة والأسماء الحسنى والجنود الذين لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى سوغ هذا الجمع أي هذه الضمائر وإن كانت لا تدل على تعدد المتكلم ولكن تدل على عظمة المتكلم ، يقال لهذه الضمائر في حق الله تعالى إنها ضمائر عظمة ضمائر تدل على عظمة الرب سبحانه وتعالى ، هكذا تجمع بين المحكم وبين المتشابه .(20/110)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فإذا تمسك النصرانى بقوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر) وإنا له لحافظون " (ونحوه على تعدد الآلهة) أخذا بظاهر هذه الضمائر (كان المحكم) الذي يحكم في هذه القضية (قوله تعالى (وإلهكم إله واحد) لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " (ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدا) قوله تعالى " إلهكم إله واحد" لا يحتمل إلا معنى واحدا توحيد رب العالمين بأن معبودكم واحد المعبود بالحق واحد وإن عبد غيره فعبادتهم باطلة لكن المعبود بالحق "إلهكم إله واحد" معبودكم بالحق معبود واحد لا تعدد فيه وهذه الضمائر لا تدل على التعدد ولكن تدل على العظمة كما قلنا .
(يزيل ما هناك من الإشتباه وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبينا لما يستحقه من العظمة والاسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم) عباد الله سبحانه وتعالى من الملائكة والجن والإنس في طاعة الرب سبحانه وتعالى هؤلاء كلهم جنود ، وجود هؤلاء الجنود وجود الأسماء والصفات كل هذا يدل على عظمة الرب سبحانه وتعالى إذن له أن يقول سبحانه "لا يسأل عما يفعل" له أن يقول "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ليدل ذلك على العظمة .
نعم .(20/111)
((وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الاسماء والصفات وماله من الجنود الذين يستعملهم فى أفعاله فلا يعلمهم إلا هو (وما يعلم جنود ربك إلا هو ) وهذا من تأويل المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله بخلاف الملك من البشر إذا قال قد أمرنا لك بعطاء فقد علم أنه هو وأعوانه مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من إعتقاداته وإراداته ونحو ذلك والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التى اخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر ولا يعلم حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة وبهذا يتبين ان المتشابه يكون فى الالفاظ المتواطئة كما يكون فى الالفاظ المشتركة التى ليست بمتواطئة وان زال الإشتباه بما يميز احد النوعين من اضافة أو تعريف كما اذا قيل فيها انهار من ماء فهناك قد خص هذا الماء بالجنة فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلومة لنا وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من التأويل الذى لا يعلمه إلا الله وكذلك مدلول أسمائه وصفاته الذى يختص بها التى هى حقيقة لا يعلمها إلا الله ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله كما قال الإمام احمد فى كتابه الذى صنفه فى الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله وذكر فى ذلك ما يشتبه عليهم معناه وان كان لا يشتبه على غيرهم وذمهم على انهم تأولوه على غير تأويله ولم ينف مطلق التأويل كما تقدم من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله تعالى به فذلك لا يعاب بل يحمد ويراد بالتأويل الحقيقة التى إستأثر الله بعلمها فذلك لا يعلمه الا هو وقد(20/112)
بسطنا هذا فى غير هذا الموضع))
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الاسماء والصفات) لا الأسماء والصفات بل حقائق الأسماء والصفات الشيء الذي لا يعلمه العباد حقائق الأسماء والصفات لا معاني الأسماء والصفات ، معاني الأسماء معلومة ومعاني الصفات معلومة الشيء الذي لا يعلمه العباد الحقائق وهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله .
(وماله من الجنود الذين يستعملهم فى أفعاله فلا يعلمه إلا هو) هؤلاء الجنود من الملائكة وغيرهم عددهم وحقيقتهم بالنسبة للملائكة خصوصا وما يقومون به من الأعمال كل ذلك لا يعلمه إلا هو ((وما يعلم جنود ربك إلا هو) وهذا من تأويل المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله) يخطئ كثير من الناس عندما يستدلون بقوله تعالى "وما يعلم تأويله إلا الله" يحسبون أن معاني نصوص الصفات لا يعلمها إلا الله هذا خطأ كبير وجسيم جدا حال بين كثير من الناس وبين تدبر كتاب الله ، التأويل الذي لا يعلمه إلا الله حقائق الصفات وحقائق الأسماء وحقيقة ذاته سبحانه وتعالى وحقائق ما أعده الله في الجنة لعباده ، الحقائق لا المعاني ، لا أحد يجهل معنى السمع ومعنى البصر ومعنى الاستواء ومعنى النزول ومعنى المجيء ، هذه المعاني كلها معلومة سواء كانت الصفات صفات ذاتية كالقدرة والإرادة والسمع والبصر أو صفات فعلية كالاستواء والنزول والمجيء أو صفات خبرية كالوجه واليدين والقدم والأصابع أو صفات عقلية كالسمع والبصر والإرادة كل هذه الصفات معانيها معلومة عند أهل العلم بل عند كل من يعلم اللغة العربية لأنها معلومة من وضعها أمال الذي لا يمكن أن يعلمه العباد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل الحقائق ، حقيقة سمع الرب سبحانه وتعالى وحقيقة بصره وحقيقة استوائه على عرشه وحقيقة نزوله وحقيقة مجيئة وكيفية هذه الصفات لا يعلمها إلا الله هكذا يجب أن نفرق بين التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وبين التأويل الذي يعلمه الراسخون بل بين(20/113)
المعاني التي لا يعذر أحد بجهلها يقول عبدالله بن عباس : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير تعلمه العرب من لغتها ، المفردات الغريبة إذا أشكلت عليك اسأل عليك اسأل صاحب البادية المتوغل في البادية يعلم الانشقاق والانفطار لا تعلم هذه المفردات إلا من العرب الذين بقوا على لغتهم ولم تتغير لغتهم ، هذا تفسير ، وتفسير يعلمه العلماء ، العلماء هم الذين يعلمون الناسخ من المنسوخ والمقيد والمطلق وغير ذلك والجمع بين المحكم وبين المتشابه هذا تفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعذر أحد بجهله ولو كان أعجميا ولو كان لا يقرأ القرآن يجب أن يطبق معاني تلك الآيات "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" هل يعذر مسلم في جهل معنى "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" ؟
لا ، حتى إذا كان لا يقرأ ، حتى إذا كان أعجميا طالما هو مسلم يعرف أنه مطالب بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومطالب بأن يتجنب ما حرمه الله عليه ، هذه المعاني أي الأحكام "إلهكم إله واحد" لا يعذر أحد بجهل هذا ، من الذي يجهل وهو مسلم "إلهكم إله واحد" ؟ يعلمه كل مسلم وإن جهل لا ييعذر بجهله في مثل هذا هذا معنى (تفسير لا يعذر أحد بجهله) الرابع تفسير لا يعلمه إلا الله ، حقائق الأسماء والصفات حقيقة ذات الرب الحقائق التي هيأها الله سبحانه وتعالى في الجنة لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، هكذا يعلم أهل العلم ويفرقون بين هذه الأشياء لذلك يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وهذا من تأويل المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله) إذن لا نخلط بين التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وبين التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم (بخلاف الملك من البشر إذا قال) الملك من البشر مخاطبا لبعض الناس (أمرنا لك بعطاء) أمرنا ببناء مدينة ، أمرنا الجيش بالهجوم أمرنا بكذا وكذا ، هل هذه لمجرد العظمة ؟ الضمير هذا ؟(20/114)
لا ، (فقد يعلم أنه هو وأعوانه مثل كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك أمروا به) أي الملك من البشر لا يستقل بالأمر والفعل بل هو بحاجة إلى الأعوان بحاجة إلى أمرائه ووزرائه وكتابه والحراس والحاجب والخادم والمراسل هؤلاء كلهم جنوده إذا قال أمرنا بكذا يعني هو ومن يتعاونون معه لأن الملك من البشر ضعيف لا يمكن أن يستقل بالفعل وحده بل في كل فعل صغير أو كبير بحاجة إلى من يتعاون معه إذن هناك فرق بين أن يقول الملك من البشر أمرنا بكذا وبين أن يقول الله سبحانه وتعالى"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" لا يختلط الأمر علينا أبدا بينهما فرق كبير .
(وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل) فالرب سبحانه وتعالى يفعل فعلا لحكمة يشرع لحكمة لكن هل كل الناس يعلمون الحكمة في أفعل الرب سبحانه وتعالى ؟
في الغالب الكثير لا يعلم وإذا علمنا الحكمة في أمره وتشريعه بإخبار من الله سبحانه وتعالى نزداد إيمانا على إيمان وإذا لم نعلم آمنا بخبره قبل أن نعلم الحكمة وليس الأمر من الملك من البشر بهذه المثابة ، لا ، لذلك قال (وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من إعتقاداته وإراداته ونحو ذلك) الناس تعلم لماذا أمر ببناء المدينة الفلانية ولماذا أمر بأن يعطى فلان كذا وكذا يعلمون لأنه كان بطلا أبلى بلاء حسنا في الجهاد لذلك يعطى ، أي الأسباب ومراده واعتقاداته فيما يأمر وفيما يفعل معلوم ليس كالملك الحق الملك القوي العزيز الله رب العالمين سبحانه .(20/115)
(والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التى اخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر) لا نعلم حقائق صفاته كما تقدم سواء كانت الصفات ذاتية أو فعلية ولا نعلم حقيقة صفات اليوم الآخر من البعث بعد الموت إلى أن يستقر العباد إما في الجنة وإما في النار الذي يجري في عرصات يوم القيامة تلك الحقائق لا نعلم حقيقتها ولكن نؤمن إيمانا منا بخبر الله سبحانه وتعالى وخبر رسوله لأننا من المؤمنين ومن صفات المؤمنين "الذين يؤمنون بالغيب" نؤمن بشؤون المعاد كما آمنا بالمطالب الإلهية وبالنبوات كل ذلك في الغالب الكثير من الغيب نؤمن بهذا الغيب كما نؤمن بالمحسوسات لا فرق عندنا في الإيمان بين أن يكون الأمر محسوسا أو غيبا .(20/116)
(ولا يعلم حقائق ما أراد بخلقه وأمره) لماذا خلق الله الخلق ؟ إلا إذا أخبرنا "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" علمنا هنا الحكمة العامة في خلق الجن والإنس ، خلق الله الجن والإنس ليعرفوه وليوحدوه وليعبدوه وحده هذه الحكمة اللام هذه عند النحاة تسمى لام العلة هي التي نفاها الأشاعرة واضطربوا ، بنفي لام العلة نفوا الحكمة في فعل الرب سبحانه وتعالى قالو أفعال الله تعالى لا تعلل أي لا تذكر لها الحكم ، هذا خطأ ، الله سبحانه وتعالى من أسمائه العليم الحكيم لا يفعل ولا يأمر ولا ينهى ولا يشرع إلا لحكمة علمنا ذلك أو لم نعلم ، هذا معنى قوله (ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره) إذا أمر بأمر أو نهى بنهي أو نهى عن شيء لا نعلم من الحكمة إلا ما علمنا الله (ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة) ما هو وإن كان مصدر ذلك مشيئة الله تعالى وقدرته لكن ما هي حقائق تلك ؟ حقيقة مشيئته وحقيقة قدرته وحقيقة إرادته ؟ لا نعلم ، ومع ذلك يجب أن نفرق بين الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى المشيئة التي تصدر منها هذه الأشياء وبين الإرادة الشرعية الدينية التي بمعنى المحبة والرضا ، وهذا – عدم التفريق بين الإرادتين – هو سبب ضلال كثير من شيوخ الأشاعرة ، الذين لا يفرقون بين الإرادة الدينية والإرادة الشرعية والرضا والمحبة وجعلوه شيئا واحدا واضطربوا اضطرابا عظيما جدا كبارهم بما يطول شرحه الآن .(20/117)
(وبهذا يتبين ان التشابه يكون فى الالفاظ المتواطئة) أي المتفقة كالاتفاق في الظاهر بين أسماء الله تعالى وأسماء خلقه وبين صفاته وصفات خلقه (كما يكون فى الالفاظ المشتركة) الألفاظ المشتركة التي مثلنا فيما سبق بالعين مثلا وإن كان لهذا البحث مزيد بحث إن شاء الله (التى ليست بمتواطئة وان زال الإشتباه بما يميز احد المعنيين من اضافة أو تعريف) وإن زال الاشتباه بما يميز بين المعنيين المشتركين في الظاهر في اللفظ وفي المعنى العام من إضافة أو تعريف ، الذي يفرق بين المعنيين الإضافة والتعريف كما تقدم مثلنا بالعلم مثلا (كما اذا قيل فيها انهار من ماء فهنا قد خص هذا الماء بالجنة) (فيها) في الجنة "أنهار من ماء" خص هذا الماء بالجنة (فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا) أنهار من ماء وأنهار من لبن أنهار من خمر أنهار من عسل وهناك الحرير وهناك الفضة وهناك وهناك وهل تلك الحقائق كهذه الحقائق ؟ لا ، اتفاق في الأسماء فقط ولو جمعنا عسل الدنيا كله هل نكون منه نهرا واحدا ؟ هناك أنهار ، أنهار من عسل ، هل يمكن تكوين نهر واحد من العسل الذي يخرج من هذا الطير المعروف ممكن ؟ لا ، هذا دليل على أن تلك الحقائق خلاف هذه الحقائق ، اتفاق في الاسم العام والمعنى العام والحقائق غير معلومة فإذا كنا لا ندرك حقائق بعض المخلوقات كموجودات الجنة كيف يحاول الإنسان أن يدرك حقائق صفات الرب سبحانه وتعالى وإذا ما أدرك خرج بإحدى نتيجتين : إما التشبيه وإما التعطيل ، هؤلاء الذين تورطوا إما في التشبيه أو في التعطيل بدأوا بمحاولة إدراك حقائق صفات الرب سبحانه وتعالى قالوا إنما خوطبنا بما نعقل إذن يجب أن ندرك حقيقة السمع وحقيقة البصر وحقيقة الاستواء وحقيقة .. قعدوا هذه القاعدة ثم حالوا فعجزوا ، خرجوا كما قلنا بإحدى نتيجتين منهم من قال : إذن حقائق هذه الصفات كحقائقنا لأننا لا نعقل إلا كما نعقل في أنفسنا ، ومنهم من قال لا ، إن قلنا هكذا وقعنا(20/118)
في التشبيه ما المخرج ؟
أن ننفي ومن هداهم الله من أهل السنة والجماعة فرقوا كما تقدم بين الحقائق أن تلك الحقائق لا تدرك والاشتراك في الاسم العام والمعنى العام لا يضر ، هذه هي العقيدة السليمة .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا) لأن الآية إنما تتحدث عن ماء في الجنة "فيها أنهار" تعريف ، هكذا عُرِّف هذا الماء والتعريف والإضافة هنا بمعنى النسبة ليست الإضافة المعروفة عند النحاة مضاف ومضاف إليه ليس هذا خاصا بل ما يميز .
(لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا) ما حقيقة ذلك الماء ؟ وهل كحقيقة هذا الماء ؟ لا ، لذلك قال عبدالله بن عباس (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) ماء ماء ، عسل عسل ، خمر خمر ، لكن الحقيقة لا .
(وهو مع ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من التأويل الذى لا يعلمه إلا الله وكذلك مدلول أسمائه وصفاته) إذا عجزنا كما قلنا عن إدراك حقائق بعض المخلوقات كموجودات الجنة فنحن عاجزون قطعا عن إدراك حقائق أسمائه وصفاته سبحانه (وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التى يختص بها التى هى حقيقة لا يعلمها إلا الله) ..
فلنكتفي بهذا المقدار وإلى غد إن شاء الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
الشريط الثالث والعشرون :(20/119)
(فصل وأما في طريق الإثبات فمعلوم ايضا أن المثبت لا يكفى في اثباته مجرد نفى التشبيه إذ لو كفى في اثباته مجرد نفى التشبيه لجاز ان يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفى التشبيه وأن يوصف بالنقائض التى لا تجوز عليه مع نفى التشبيه كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفى التشبيه وكما لو قال المفترى يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشربهم ويبكى ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم كما يقال يضحك لا كضحكهم ويفرح لا كفرحهم ويتكلم لا ككلامهم ولجاز أن يقال له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم كما قيل له وجه لا كوجوهم ويدان لا كأيديهم حتى يذكر المعدة والأمعاء وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات فلا بد من اثبات فرق في نفس الأمر فان قال العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجىء به السمع قيل له أولا السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات والخبر دليل على المخبر عنه والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن قد نفاه ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها وأيضا فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والإمتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض في الجواز والوجوب والإمتناع فلا بد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت وقد يعبر عن ذلك(20/120)
بأن يقال لا بد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى كما لأنه لا بد من أمر يثبت له ما هو ثابت وان كان السمع كافيا كان مخبرا عما هو الأمر عليه في نفسه فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا)
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته على على هذا النبي الكريم والرسول الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
تقدم أن أثبت شيخ الإسلام الضابط في إثبات الصفات ، الضابط هناك ورود الصفة في الكتاب والسنة أي إثبات ما جاء في الكتاب والسنة مع نفي المماثلة هذا هو الضابط إثبات ما أثبته الوحي مع نفي المماثلة فيما أثبت أي في الحقيقة أو في حقائق الأسماء والصفات لا في الاسم العام ولا في المطلق العام في ضوء قوله تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ، وفي هذا الفصل وما بعده يبحث شيخ الإسلام رحمه الله ضابط النفي ولا ينبغي الاكتفاء في النفي أو في الإثبات بمجرد نفي التشبيه فيما يثبت ، إذا أثبت شيئا وادعيت إنما أثبت ما أثبت لأنك نفيت التشبيه فيما أثبت دون أن تتقيد في الإثبات في الوارد في الكتاب والسنة كما أنه لا يجوز النفي إلا اعتمادا على إثبات صفات الكمال فصفات الكمال أضدادها منفية وصفات الكمال ثابتة بالكتاب والسنة لا تثبت بمجرد العق أو الاستحسان ، هذا هو الموضوع الذي يبحث فيه شيخ الإسلام فيقول (وأما في طرق الإثبات فمعلوم ايضا) كما تقدم (أن المثبَت لا يكفى في اثباته مجرد نفى التشبيه) لا يكفي أن يثبت الإنسان ما يشاء أن يثبته بمجرد نفي التشبيه (إذ لو كفى في اثباته) في إثبات المثبَت (مجرد نفى التشبيه لجاز ان يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى) إذا جعلنا الضابط أن يثبت الإنسان ثم ينفي التشبيه إذن لكل إنسان أن يثبت ما يشاء من الأعضاء والأفعال ويدعي نفي التشبيه (مما هو ممتنع عليه مع نفى التشبيه) ولو نفي التشبيه تلك النقائص التي يأتي ذكرها كأمثلة هي ممتنعة على الله(20/121)
سبحانه وتعالى في نفس الأمر .
ولجاز (أن يوصف بالنقائض التى لا تجوز عليه مع نفى التشبيه) لو فتح هذا الباب للإنسان أن يصف الله بالنقائص مع نفي التشبيه ، مثال ذلك (كما لو وصفه مفتر) على الله ، الذي يفتري على الله سبحانه وتعالى ولا يقدره حق قدره يثبت له (البكاء والحزن والجوع والعطش مع نفى التشبيه وكما لو قال المفترى) أيضا (يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشرب) العباد (ويبكى ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم) هذه عبارات يضطر الإنسان أن يتكلم بها وأن يحكيها من باب (حاكي الكفر ليس بكافر) وإلا هي من العبارات الصعبة تلفظها مع اسم الله سبحانه وتعالى ولكن لما وجد من افترى وتجرأ على الله فوصف الله بهذه النقائص بدعوى نفي التشبيه فيها وجب على دعاة الحق الذين هم مسؤولون في الدفاع عن العقيدة وعن دفع الشبه وإبطال الباطل يضطرون إلى حكاية هذه الألفاظ الصعبة التي يصعب ذكرها من باب كما قلت حاكي الكفر ليس بكافر وإلا العبارات وصف الله بهذه العبارات كفر لا إشكال فيه لكن لو ابتليت بمن هذا مذهبه وهذه عقيدته كيف ترد ؟ هذا هو السر في إيراد مثل هذه الصفات ، يقول المفتري على الله تعالى الله سبحانه وتعالى (يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشرب) العباد (ويبكى ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم) يريد أن يقول إنكم قلتم إن الله سبحانه وتعالى يضحك ليس ضحكه كضحك العباد ويفرح ليس فرحه كفرح العباد ويتكلم ليس كلامه ككلام العباد ويوصف بالسمع والبصر إلى آخر الصفات طالما أثبتم هذه الصفات وقلتم فيها إن الله يضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر فيدخلان الجنة كليها ، كافر يقتل مسلما ثم يمن الله عليه بالتوب بالتوبة النصوح ثم بالشهادة فيدخلان الجنة يضحك الله سبحانه وتعالى إليهما هذا في صفة الضحك أي أثبتنا صفة الضحك لورودها في حديث متفق عليه وفي الفرح يقول النبي صلى الله عليه وسلم "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من صاحب ناقة التي حمل عليها كل ما(20/122)
يملك من طعام وشراب ومتاع فسافر بها في فلاة من الأرض فغلبته عيناه فعلق الناقة أي زمامها عند رأسه فنام فلما استيقظ فلم يجدها فقد ذهبت فبحث عنها هنا وهناك فلم يجدها واستسلم للموت فرجع إلى الشجرة نفسها فقال تحتها أي نام تحتها منتظرا للموت فلم يمت بل استيقظ فإذا الناقة واقفة عند رأسه عليها شرابه وطعامه فنظر إليها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك يقول النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ من شدة الفرح يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام " لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه من فرح صاحب الناقة" التي سمعتم وصفها ، إذن إذا أثبتنا الفرح لم نثبته من عند أنفسنا بل أثبت الفرح لله سبحانه وتعالى أمينه على وحيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الفرح والضحك من صفات الكمال ليس من النقائص كون المفتري يقيس على هذا فيثبت العطش والجوع والبكاء والحزن هذه فرية وافتيات على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام وعدم تقدير لله حق قدره .(20/123)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، إذن المفتري لو فتح هذا الباب لو قيل لكل إنسان أن يثبت لله ما يشاء من النقائص والأعضاء والأجزاء والأبعاض بالنسبة لبني آدم ثم يدعي نفي التشبيه في ذلك يقول كما يليق به من باب التقريب بالمثال ما يقوله بعض الناس أحيانا مرتبكين في صفة المعية بأن الله معنا بذاته في الأرض هنا كما يليق به وهذا من هذا القبيل لأنه لا ينبغي أن تعتقد بأن الله موجود معنا بذاته لأن في هذا نفي لعلو الله تعالى فعلو الله تعالى صفة ذات لا تنفك عن الذات كما أن القدرة والإرادة والسمع والبصر والحياة هذه صفات ذات فصفات الذات لا تنفك عن الذات فعلو الله تعالى فوق جميع مخلوقاته صفة ذات القول بأن الله بذاته معنا في الأرض يتنافى مع صفة العلو ثم إن السفول من صفات النقص ليس من صفات الكمال ثم دعوى اختلاط الرب سبحانه وتعالى بخلقه وكيف تسعه أرضه وسماواته وهو خالقها سبحانه وتعالى كلها ؟ هذه المعاني غابت عن الذين يزعمون أن الله معنا بذاته في كل مكان ثم يقول كما يليق به لا يفيده أبدا قوله كما يليق به وهذا من هذا القبيل .(20/124)
ثم يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إذن أيضا للمفتري أن يثبت له أعضاء كثيرة فيقول ليس كأعضائهم (كما قيل له وجه لا كوجوهم ويدان لا كأيديهم) وهذا قياس مع الفارق نحن إنما أثبتنا الوجه لله سبحانه وتعالى لأنه أثبت لنفسه وأثبتنا له اليدين لأنه أثبت لنفسه إذن لم نقل على الله سبحانه وتعالى من عند أنفسنا فإذا قلنا له وجه كريم لا كوجوهنا لأن الله أثبت الوجه لنفسه فليحذر ذلك الذي يزعم عند قوله تعالى "كل شيء هالك إلا وجهه" بأن الله يهلك بجميع أسمائه وصفاته ويفنى ويذهب لا يبقى إلا الوجه ما أجرأ هذه العبارة وصاحبها هي كالافتراء التي تقدم تماما لأن هذا يتنافى مع الإيمان بأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء ، الله باق بقاء ذاتيا بأسمائه وصفاته كما أن القدرة كما قلنا صفة ذات البقاء أيضا صفة ذات بقاء الله تعالى صفة ذات وهو وحده هو الذي يبقى وكل شيء يفنى لا يبقى إلا وجه الله لا يبقى إلا الله بوجهه ويديه وأسمائه وصفاته هو الباقي وحده ولا يبقى بعد انتهاء هذه الدار في الدار الآخرة إلا ما يبقيه الله سبحانه وتعالى ويريد الإبقاء عليه كالجنة وأهلها ونعيمها والنار وعذابها وأهلها هذه الأشياء تبقى وبقاؤها ليس بقاء ذاتيا بل بإبقاء الله إياها وإلا الباقي وحده هو الله سبحانه وتعالى ومن أسمائه تعالى الوارث الباقي لذلك نكرر في كل مناسبة الرد على هذه الشبهة الجريئة لئلا يغتر وينخدع بعض الناس بمثل هذا التأويل الباطل .(20/125)
وهذا الذي يثبت لله تعالى أعضاء كثيرة من عند نفسه يثبت له كل شيء (حتى المعدة والأمعاء) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (فإنه يقال) لأمثال هؤلاء ، فإنه يقال أي يقول المفتري – انتبهوا من هنا يبدأ الحوار حوار بين المفتري وبين النافي - (فإنه يقال لمن نفى ذلك) تلك النقائص وتلك الأعضاء التي افتراها المفتري يقال له (يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية) الصفات الخبرية التي تقدم ذكر بعضها كالضحك والفرح والوجه واليدين هذه كلها صفات خبرية ، لاحظوا أن الصفات الخبرية قد تكون صفات ذاتية كالوجه واليدين وقد تمون صفات فعلية كالنزول والمجيء كلها خبرية أي لا طريق لإثباتها إلا الخبر وكما تقدم تسمى الصفات النقلية والصفات الخبرية والصفات السمعية المعنى الواحد أي لا تثبت هذه الصفات إلا بخبر مسموع منقول عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام ، إذا نفيت ما افتروا به مع إثبات الصفات الخبرية التي تقدم ذكرها (وغيرها من الصفات) الخبرية والصفات العقلية ، الصفات العقلية الصفات التي يشترك في إثباتها العقل والنقل كالصفات السبع التي تثبتها الأشاعرة هم يثبتون بالأدلة العقلية ونحن نثبتها بالأدلة النقلية والعقلية معا أي قدرة الله تعالى وإرادته وسمعه وبصره وحياته وكلامه هذه تسمى الصفات العقلية بمعنى لو لم يرد النقل يمكن أن يدرك العقل إثبات هذه الصفات استدلالا بالأدلة الكونية وبالدليل العقلي إذا نظر الإنسان في هذا الكون وهذا الكون البديع يدل على القدرة الباهرة ثم التخصيص تخصيص كل شيء بما هو عليه يدل على الإرادة والعلم والحكمة إلى غير ذلك هذه يقال لها الصفات العقلية ولكن الذي يجب التنبيه عليه لا توجد صفات عقلية محضة أي صفات تثبت بالعقل فقط ولا تثبت بالنقل ، لا ، لا وجود لها لأن الأصل النقل والعقل تابع للنقل .(20/126)
فيقول (فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات ما الفرق بين هذا) وبين (ما أثبته) بين هذا الذي نفيت وبين ما أثبته (إذا نفيت التشبيه) يمكن أن يقال ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته أنا – يقوله المفتري – إذا نفيتُ التشبيه بل الأولى : (ما الفرق بين هذا) وبين (ما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات فلا بد من اثبات فرق في نفس الأمر) يقول المفتري أنت أثبت صفات وأنا أثبت صفات وأنت نفيت وأنا أثبت لكن أثبتنا ما أثبتنا مع نفي التشبيه ما الفرق بين ما أثبت أنت ونفيت أنا أو ما الفرق بين ما نفيت أنا وأثبت أنت الصفات الخبرية وبين ما أثبت أنا من النقائص ونفيت أنت ؟ ما الفرق بين هذا وذاك ؟ (فان قال العمدة في الفرق هو السمع) يقول النافي للنقائص وتلك الأعضاء الكثيرة يقول (العمدة في الفرق هو السمع) أي الأدلة السمعية (فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجىء به السمع) هذا جواب مختصر من النافي العمدة السمع ، يقول المفتري (قيل له أولا السمع هو خبر الصادق) كلنا نصدقه (خبر الصادق عما هو الأمر به في نفسه) أي خبر الصادق الذي يخبر عن الواقع ولكن لا يخبر عن خلاف الواقع إنما يخبر عن الواقع كالسمع والبصر والوجه واليدين وغير ذلك (فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات) (من نفي أو إثبات) لأن الخبر الصادق قد يأتي بالنفي "لم يلد ولم يولد" "ليس كمثله شيء" هذا نفي (والخبر دليل على المخبر عنه) لا يزيد عليه إنما يدل على المخبر عنه ، ثم (والدليل لا ينعكس) انتبه ، جملة (والدليل لا ينعكس) يفسرها ما بعدها (فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه) لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه قد يأتي دليل يدل على صفة معينة ولم ينف الصفات الأخرى ، يحتمل أنها موجودة (فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع) هذا الكلام في الجملة قد يؤخذ لأن كمالات الله(20/127)
تعالى لا حصر لها ونحن إنما نثبت بالتفصيل ما جاء به السمع وإلا فكمالات الله تعالى لا حصر لها لا نحصيها " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الصفات التي تدل عليها تلك الأسماء التي استأثر الله بها لا نعلمها "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" لذلك هذا الكلام بالجملة مأخوذ نعيد مرة أخرى (فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع إذا لم يكن قد نفاه ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة) السمع نفى بالجملة "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" لكن هل نفى هذه الأمور بأسمائها كالبكاء والحزن مثلا ؟ (فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع) إذا نفيتم لا بد من ذكر ما ينفيها من السمع (وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها) هكذا يقول المفتري (كما لا يجوز إثباتها) هذا يقال في أثناء المناظرة قد يتناقض المناظر وهذا فيه نوع من التناقض من المفتري (وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها) كما نفيتم أنتم (كما لا يجوز إثباتها) لكن أنتم أثبتم (وأيضا) مرة أخرى (فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي) هذا أهم شيء لا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت لله وما ينفى عن الله (فإن الأمور المتماثلة) التي يزعمون أنها انفعالات نفسية الضحك مثلا والفرح والحزن والبكاء هذا يسمونها الأمور المتماثلة لأنها كلها في حق الإنسان انفعالات نفسية ، الفرح انفعال والضحك انفعال في حقنا كذلك الحزن وكذلك البكاء إذن لا بد من الفرق بين ما يثبت وبين ما ينفى (فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والإمتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض في الجواز والوجوب والإمتناع) كونكم تفرقون بين الفرح والضحك تثبتوا وتنفون البكاء والحزن فهي أمور متماثلة ما الذي يفرق بين هذا وذاك ؟ انتبه سيأتيك الجواب لا تنزعج (فلا بد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه(20/128)
بالنفي) وهو وجود النقص (ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت) كونه وارد وكونه من صفات الكمال لا نقص فيه (وقد يعبر عن ذلك) يعني كما نقول مثلا :وبعبارة أخرى (بأن يقال لا بد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله سبحانه تعالى) أي لا بد من ضابط إذا نفيت شيئا لا بد أن تثبت الضابط فيما نفيت عن الله (كما لأنه لا بد من أمر يثبت له ما هو ثابت) لا بد من ضابط تثبت له ما هو ثابت (واذا كان السمع كافيا كان مخبرا عما هو الأمر عليه في نفسه) أي كان مخبرا عن الواقع فقط (فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وذا) ما الفرق قي نفس الأمر إذا كان السمع إنما يثبت الأمور الواقعة التي ورد فيها النص وهناك أمور متشابهة كالضحك والفرح والبكاء والحزن ما الفرق بين هذا وهذا ؟ هنا هذا الاستفهام يجيب عليه شيخ الإسلام الآن .
تفضل
((فيقال كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه وأنه قديم واجب القدم علم امتناع العدم والحدوث عليه وعلم أنه غني عما سواه فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجودا بنفسه بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه فكل ما نافي غناه فهو منزه عنه وهو سبحانه وتعالى قدير قوي فكل ما نافي قدرته وقوته فهو منزه عنه وهو سبحانه حى قيوم فكل ما نافي حياته وقيوميته فهو منزه عنه))(20/129)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مجيبا على ذلك الحوار من المفتري (فيقال كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه) هذا ضابط كل ما يتنافى مع صفات الكمال أو ينفي صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه فالرب سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ، وذلك :(فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر) إذا أثبت صفة الكمال ضد صفة الكمال صفة النقص ، [الضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان بخلاف النقيضين النقيضان لا يجتمعان وقد يرتفعان ، النقيض مثلا كهذا اللون وذاك اللون ، هذا اللون أبيض وهذا لون أخضر لا يجتمع الأخضر مع الأبيض ولكن قد يرتفعان ويحل محلهما لون آخر كالأصفر والأحمر والأسود وما كان من هذا القبيل يقال له نقيضين ، اثنان لا يجتمعان ولا يرتفعان معا هذا ضد ، الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان إما وجود وإما عدم] ، صفات الكمال من صفات الكمال الوجود ، لا يجتمع الوجود والعدم إذن إثبات الوجود لله تعالى ينفي العدم ، من صفات الكمال الحياة ، حياة الله سبحانه وتعالى الحياة الكاملة ، كذلك كونه القيوم وقيوميته ، هذه صفات الكمال وما يضادها منفي إذن كل ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه سبحانه وتعالى ، منزه عن العدم منزه عن الحدوث منزه عن الهلاك منزه عن الموت منزه عن النوم والسنة والجوع والعطش كل ذلك لأنها صفات نقص تتنافى مع الحياة الكاملة والقيومية الكاملة (فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر) واضح ؟ (فإذا علم أنه سبحانه وتعالى موجود واجب الوجود بنفسه) واجب الوجود الذي لم يسبق بعدم ، وجود لم يسبق بعدم وجود لم يتولى إيجاده غيره موجود وجودا ذاتيا بغير حاجة إلى من يوجده لأن الذي يحتاج إلى من يوجده من يوجد بعد أن لم يكن فالله سبحانه وتعالى كما تقدم هو الأول الذي ليس قبله شيء إذن فهو واجب الوجود وليس جائز الوجود وكل ما عدى الله بأسمائه وصفاته جائز الوجود ، وجودنا جائز لأننا وجدنا بعد أن لم نكن فيقال(20/130)
فينا جائز وممكن ومحدث وحادث كل هذه من صفاتنا (فإذا علم أنه سبحانه وتعالى موجود واجب الوجود بنفسه وأنه قديم واجب القدم) القدم كما تقدم إنما يفسرونه بقوله عليه الصلاة والسلام أو يفسر ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " هو الأول الذي ليس قبله شيء " وإلا القدم أو القديم ليس من صفات الله تعالى لكن عند الإخبار باب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات يخبر عن الله تعالى بأنه قديم وبأنه صانع هذا الكون وبأنه متكلم وبأنه مريد هذه كلها من باب الإخبار ليست من الأسماء الحسنى (وأنه قديم واجب القدم علم) إذا علم ذلك (علم امتناع العدم) لأن العدم ضد الوجود (والحدوث عليه) كذلك (وعلم أنه غني عما سواه فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه) يجوز التذكير لوجود الفاصل (ليس هو موجودا بنفسه بل بنفسه وبذلك الآخر) الذي يحتاج إليه (الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به وهو سبحانه وتعالى) الإنسان حيث إنه ليس بصفة ولا هو عرض يقال قائم بنفسه لكنه محتاج إلى من يقيمه ليس قائما بذاته قائما بنفسه ذاتيا قائم بنفسه بإقامة غيره الله هو الذي أقامه بنفسه وهو المقيم عليه لذلك كون الإنسان قائما بنفسه أي ليس بحاجة إلى تحقق وجوده إلى من يقوم عليه كالصفة ليس قيامه بنفسه كقيام الله تعالى بنفسه ، نعيد هذه العبارة (فالمفتقر إلى ما سواه) (ما) تصلح للجميع هي في الأصل لغير العاقل (فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه) أو في بعض ما تحتاج إليه نفسه (ليس هو موجودا بنفسه) كحالتنا مثلا (بل بنفسه وبذلك) الغير (الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به) الله هو الذي يوجده (وهو سبحانه وتعالى غني عن كل ما سواه) الغنى وصف ذاتي لله تعالى كما أن الفقر وصف ذاتي لنا (فكل ما نافي غناه فهو منزه عنه) سبحانه وتعالى كالنوم والسنة والعجز يتنافى مع غناه (وهو سبحانه وتعالى قدير قوي فكل ما نافي قدرته وقوته فهو منزه عنه(20/131)
وهو سبحانه حى قيوم فكل ما نافي حياته) الكاملة (وقيوميته فهو منزه عنه) سبحانه وتعالى .
نعم .
((وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه كما ينفي عنه المثل والكفؤ فإن اثبات الشىء نفي لضده ولما يستلزم ضده والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف اثبات ضده فاثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، في الفقرة الأولى أثبت أن السمع والعقل يثبتان لله تعالى صفات الكمال وينفيان عنه ما يضاد صفات الكمال ثم ينفيان أن يكون له مثل وكفؤ في مخلوقاته لذلك قال (وبالجملة فالسمع) السمع الدليل من الكتاب والسنة (قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد) فنحن نثبت كل ما ورد ثم نقول كل كمال في المخلوق ليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به هذا بعد أن نثبت الوارد نختم ذلك بهذه الجملة العامة ، فكل كمال ثبت للمخلوق ليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به لأن معطي الكمال أولى بالكمال أعطاك العلم والسمع والبصر والحياة فالله أولى بذلك لكن قد يوجد في المخلوق كمال وليس في حق الله تعالى كمال لذلك احترزنا بقولنا (فكل كمال في المخلوق ليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به) لكن لو وجد في المخلوق ما يعتبر كمالا في المخلوق وفي حق الخالق نقصا فالله منزه عن ذلك ، الصاحبة كمال في المخلوق والولد كمال في المخلوق والمعين والوزير كمال في المخلوق لماذا ؟ لأن المخلوق ناقص يحتاج إلى الصاحبة يحتاج إلى الولد يحتاج إلى الوزير يحتاج إلى المعين اما الغني غنى مطلقا بكل وجه وبجميع ما تحمله هذه الكلمة (الغنى) لا يحتاج إلى هذا بل هذه الأشياء في حقه نقص ، لذلك يقول الشيخ رحمه الله تعالى (وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد فكل ما يضاد ذلك فالسمع ينفيه) السمع أثبت له الحياة وينفي الموت والعدم والحدوث ،(20/132)
فالسمع أثبت له سبحانه وتعالى العلو وينفي السفول (كما ينفي عنه المثل والكفؤ) ليس له مثل ولا كفؤ في جميع صفاته (فإن اثبات الشىء نفي لضده) كما تقدم لأن الضدان لا يجتمعان (ولما يستلزم ضده والعقل يعرف نفي ذلك) لأن العقل السليم الصريح لا يخالف النص الصحيح هذه قاعدة مسلمة عند جميع العقلاء ، ألف شيخ الإسلام كتابا كبيرا في هذه الجملة درء التعارض العقل الصريح السليم لا يعارض ولا يخالف النقل الصحيح ، لو حصل ما ظاهره التعارض بين العقل وبين السمع إما بأن السمع غير صحيح حديث غير صحيح مثلا أو إن العقل لم يبق سليما ، مشوش بآراء أهل الكلام والشبه (والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف اثبات ضده) تابعا للنقل طبعا (فاثبات أحد الضدين نفي للآخر وما يستلزمه)
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
((فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة لا يحتاج فيها إلى الإقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير الذين تناقضوا في ذلك وفرقوا بين المتماثلين حتى ان كل من أثبت شيئا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي فقالوا لا يقال موجود ولا ليس بموجود ولا حى ولاليس بحى لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزمهم نفي النقيضين وهو أظهر الاشياء امتناعا ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا وقد تقدم أن ما ينفى عنه سبحانه ينفي لمتضمن الإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجود وليس هذا مدحا له لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق كما أن مماثاة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى))(20/133)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية في آخر القاعدة السادسة (فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه سبحانه وتعالى متسعة لا يحتاج فيها إلى الإقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير) أهل القصور الذين في علمهم قصور ونقص والتقصير عطف مترادف ، لعله يريد الشيخ رحمه الله تعالى بكون هذه الطرق متسعة بأن تلك الطرق معروفة بالسمع والعقل والفطرة السليمة ، يثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبت لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم المعصوم مع نفي المماثلة بصفات المخلوقين وتنفى عنه النقائص والعيوب هذه ضوابط للنفي والإثبات .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (كما يفعله أهل القصور والتقصير الذين تناقضوا في ذلك) اختلفوا وتناقضوا (وفرقوا بين المتماثلين) بأن أثبتوا بعض الصفات ونفوا البعض الآخر هذا بالنسبة للأشاعرة أو أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات كما فعلت المعتزلة هاتان الطائفتان أقرب ما يضرب بهم المثل وإلا فإن الجهمية لم يثبتوا شيئا اللهم إلا الوجود المطلق ولكن الذين فرقوا بين المتماثلين في الدرجة الأولى الأشاعرة إذ أثبتوا الصفات العقلية الذاتية وأولوا أو نفوا الصفات الخبرية ، أولوا في الغالب الكثير ونفوا أحيانا كصفة العلو والاستواء وصفة الكلام بالكلام اللفظي (حتى ان كل من أثبت شيئا) كالأشاعرة مثلا (احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه) إذا أثبتت الأشاعرة الصفات المعروفة عندهم كصفات المعاني والمعنوية والسلبية والصفة النفسية احتجت عليهم المعتزلة فاعتبروهم مشبهة ، وإن أثبتت المعتزلة الأسماء احتجت عليهم الجهمية فاعتبروهم مشبهة وهكذا يتناقضون ، شبه تتناقض ، الذي لا يعلم يحسبها حججا :
شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور(20/134)
شبه المعتزلة وشبه الأشاعرة وشبه الجهمية كلها كاسر مكسور (وكذلك احتج القرامطة) وهم أسوأ كالا (على نفي جميع الأمور) القرامطة فرقة من الفلاسفة يطول شرحهم ومن أراد الإطلاع من طلاب العلم على تفاصيل تاريخ وحقيقة القرامطة عليه أن يرجع إلى كتب الفرق كالمقالات لأبي الحسن الأشعري والفرق بين الفرق للبغدادي والملل والنحل تجدون هناك تفاصيل القرامطة وهم طائفة من الفلاسفة ، احتجت القرامطة (على نفي جميع الأمور) بمثل ما احتجت به الأشاعرة والمعتزلة والجهمية (حتى نفوا النفي فقالوا لا يقال موجود ولا ليس بموجود) هكذا يتحدثون عن الله سبحانه وتعالى بجهل : لا يقال في حق الله تعالى بأنه موجود لأنه لو قيل موجود في ذلك تشبيه للموجودات ولا يقول ليس بموجود أي عدم لئلا يلزم تشبيهه بالمعدومات ، أين الفرار ؟ لو هداهم الله المفر إلى النصوص إلى الوحي ولكنهم ابتعدوا كثيرا ، قالوا (ولا حى ولاليس بحى) لا يوصف بحياة ولا بعدم الحياة (لأن ذلك تشبيه بالموجود) إن أثبتوا بأنه موجود في زعمهم شبهوا بالموجود وإن قالوا معدوم شبهوا بالمعدوم إذن ينفون الوجود والعدم معا (فيلزمهم نفي النقيضين وهو أظهر الاشياء امتناعا) رفع النقيضين معا أو الضدين معا من أظهر الأشياء امتناعا في العقل (ثم إن هؤلاء) القرامطة وغيرهم من فرق الفلاسفة (يلزمهم من تشبيه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين) من زعم أنه لو أثبت لله وجودا أدى ذلك إلى تشبيهه بالموجودات وفر إلى نفي النقيضين وقع في تشبيه الله تعالى بالمعدومات والممتنعات والجمادات وتشبيه بالممتنعات أعظم وأفظع (فطرق تنزيه) الرب سبحانه وتعالى (وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا) قد تقدم ذلك بأن يثبت لله ما أثبت لنفسه وما أثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام أن ذلك يتنافى مع أضدادها ويكفي هكذا .(20/135)
(وقد تقدم) في حدود صفحة خمسين في هذا الكتاب (وقد تقدم أن ما ينفى عنه سبحانه وتعالى ينفي لتضمن النفي الإثبات) أي النفي في حق الله تعالى يتضمن إثبات الكمالات وليس مجرد النفي مدحا لذلك كل نفي وسلب ورد في الكتاب والسنة هو إنما يتضمن الكمال "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" "هل تعلم له سميا" "ولم يكن له كفوا أحد" كل ذلك يتضمن كمال ضد هذا المنفي ، النفي المحض لا يكون مدحا .
مرة أخرى (وقد تقدم أن ما ينفى عنه سبحانه وتعالى) إنما (ينفي لتضمن النفي الإثبات) النفي الذي لا يتضمن الإثبات ليس بمدح (إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال) هذا ما وقعت فيه كثير من فرق علماء الكلام الذين وصفوا الله تعالى بالسلوب المحض كأن قالوا ليس في داخل العالم ولا داخل العالم ولا متصل ولا منفصل ولا بذي طول أو قصر ولا بذي دم إلى غير ذلك من السلوب التي يقشعر جلد الموحد عندما يعددها ، راجع مقالات الإسلاميين تجد الغرائب هناك ، نفي محض ليس فيه صفة واحدة للإثبات ومثل هذا حتى المخلوق لا يتحمله لو وقف الإنسان أمام سلطان ما فقال له أنت لست بجزار ولا حداد ولا سباك ولا زبال ، هل مدحه ؟ هل يتحمل ؟ لا ، إنما انتقصه ، لكن لو قيل له لست أنت كأحد رعيتك أنت خيرهم وأفضلهم ، أجمل في النفي والمدح ومن أجمل في النفي والسلب فقد أجمل في المدح ، ومن بالغ في النفي والسلب أساء ، ما وقع فيه كثير من علماء الكلام إنما هو إساءة وليس بمدح ، وصف الله تعالى بأشياء لا تخطر ببال الموحدين :ليس بذي دم ولا لحم ، ما معنى هذا ؟ هل مدحه ؟ إذن النفي المحض كهذا لا مدح فيه والنفي الذي ورد في كتاب الله تعالى ليس من هذا القبيل. (إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال فإن المعدوم يوصف بالنفي) لو قيل لك صف لنا معدوما ماذا تقول ؟ المعدوم هو الذي ليس في داخل هذا العالم ولا في خارجه ولا متصلا بهذا العالم ولا منفصلا عنه ، هذا هو المعدوم لأنه غير موجود لا في الداخل(20/136)
ولا في الخارج إذن (فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجود) لأنه معدوم على اسمه كيف يشبه الموجود (وليس هذا مدحا له لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق) مشابهة الناقص سواء كان موجودا أو معدوما (في صفات النقص) صفات الموجودات الممكنات كلها صفات نقص (نقص مطلق) تشبيه الله تعالى بالمعدوم بالمعدوم أو بالموجود أو بالجمادات نقص مطلق وتشبيه صفات الله تعالى بصفات المخلوق نقص مطلق لأن صفات المخلوق كلها ناقصة ليس للمخلوق صفة كاملة ، علم المخلوق ناقص وقدرته ناقصة وسمعه وبصره ومن شبه صفات الله تعالى بصفات المخلوق قد شبهه بنقص وذلك نقص مطلق (كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى) مماثلة المخلوق في شيء من الصفات أي في حقائق الصفات لا ننسى الاشتراك في المطلق الكلي ولكن الذي لا ينبغي ولا يجوز تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوق في حقائقها إما أن يلحق صفات المخلوق بصفات الخالق في الكمال أو يحلق صفات الخالق بصفات المخلوق في النقص هذا الذي لا يجوز .
نعم ..(20/137)
((والنقص ضد الكمال وذلك مثل أنه قد علم أنه حى والموت ضد ذلك فهو منزه عنه وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة فإن النوم أخو الموت وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره كما أن الإستعانة بالغير والإعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الإفتقار إليه والإحتياج إليه وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته أو أفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا بنفسه فكيف من يأكل ويشرب والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل الشارب ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب وقد تقدم أن كل كماله ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله تعالى الله الصمد والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب وهذه السورة هي نسب الرحمن وهى الأصل في هذا الباب وقال في حق المسيح وأمه ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فجعل ذلك دليلا على نفى الألوهية فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأخرى والكبد والطحال ونحو ذلك هى أعضاء االأكل والشرب فالغنى المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فأنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل إذ ذاك من صفات الكمال فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل))(20/138)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (والنقص ضد الكمال) هذا معروف شرعا وعقلا وفطرة (وذلك مثل أنه قد علم أنه تعالى حى والموت ضد ذلك) إذن (فهو منزه عن) الموت ، من أثبت له الحياة الكاملة نفى عنه ضد الحياة وهو الموت والعدم والهلاك (وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة) الحياة الكاملة تتنافى مع الموت والعدم والهلاك والنوم والسنة هذه الحياة هي حياة الله وحده ليس أحد يملك مثل هذه الحياة أو يوصف بمثل هذه الحياة ، الحياة الكاملة التي يستجيل على صاحبها الموت والعدم والهلاك والنوم والسنة (فإن النوم أخو الموت وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة) فالله سبحانه وتعالى ذو القدرة الباهرة لا يلحقه اللغوب (والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره كما أن الإستعانة بالغير والإعتضاد به ونحو ذلك) كالانتصار به (يتضمن الإفتقار إليه والإحتياج إليه وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيامه بذاته) يجعله قائما بذاته (أو) في (أفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا بنفسه) كل هذا يتنافى مع غنى الرب سبحانه وتعالى لأن الله غني الغنى المطلق ، الغنى وصف ذاتي لله سبحانه وتعالى كما أن كل من عداه مفتقر إليه فقرا ذاتيا (فكيف من يأكل ويشرب والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل الشارب) الذي لا يحتاج إلى الأكل ولا يقصد إلى الأكل ولا يقصد إلى أي شيء بل الصمد المقصود الذي يقصده كل شيء ولا يقصد هو إلى أي شيء هذا هو الكمال (ولهذا كانت الملائكة صمدا) أي لا يأكلون ولا يشربون وهم أكمل في هذه الناحية من بني آدم (وقد تقدم أن كل كماله ثبت لمخلوق) انتبهوا لهذه القاعدة (وقد تقدم أن كل كماله ثبت لمخلوق فالخالق أولى به) عدم الأكل وعدم الشرب كمال في بعض المخلوقات كالملائكة (أن كل كماله ثبت لمخلوق) ما (فالخالق أولى) بذلك الكمال لأنه معطي الكمال ومعطي الكمال أولى بالكمال (وكل نقص تنزه عنه مخلوق) الأكل والشرب نقص في(20/139)
حق الملائكة (كل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك) تقدم أن نبهنا هنا على قيد لا بد منه : كل كمال ثبت لمخلوق وليس فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق أولى به ، هذا القيد لا بد منه ، كل كمال ثبت لمخلوق ما وليس فيه نقص بوجه من الجوه فالخالق أولى به ولو ثبت لمخلوق كمال وهذا الكمال فيه نقص فيه معنى الحاجة فيه معنى العجز فالخالق لا يتصف بذلك فالمخلوق ناقص لا يكمل إلا بوجود معين أو وزير أو وجود ولد ووجود والد ووجود صاحبة فالله سبحانه وتعالى غني غنى مطلقا لا يحتاج إلى هذه الأشياء وإن كانت هذه الصفات كمالا في المخلوق لكون المخلوق ناقصا ولكن الرب سبحانه وتعالى منزه عن مثل هذا الكمال الذي هو كمال في المخلوق ونقص في الخالق أرجو أن يكون هذا مفهوما دائما عند ذكر هذه القاعدة أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به بالقيد الذي ذكرنا (وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك) وهذا يتفاوت بالنسبة للملائكة مثلا الأكل والشرب نقص وبالنسبة لسائر المخلوقات عدم البصر وعدم السمع نقص وعدم الكلام نقص ينزه عن ذلك إذن فالله سبحانه وتعالى أولى أن ينزه من هذه العيوب والنقائص .
(والسمع قد نفى ذلك في غير موضع) أي الدليل السمعي من الكتاب والسنة والدليل النقلي والدليل الخبري نكرر هذا في كل مناسبة ليحفظ وهذه الألقاب بمعنى واحد ، والدليل السمعي والدليل الخبري والدليل النقلي (نفى ذلك في غير موضع كقوله تعالى (الله الصمد)) الصمد الذي يصمد إليه كل شيء يقصد إليه كل شيء ، يحتاج إليه كل مخلوق في كل لحظة في كل ثانية .
(والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب) هذا تفسير بجزء المعنى بعض التفاسير يقال لها تفسير بجزء المعنى لا بكل المعنى ، إذا أردنا أن نفسر بكل المعنى الصمد الذي يصمد إليه أي يقصد إليه كل شيء ويحتاج إليه كل مخلوق وهو لا يحتاج إلى أي شيء .(20/140)
ثم قال رحمه الله (وهذه السورة هي نسب الرحمن) نسب الرحمن ، الكفار لقصور فهمهم وعقلهم يعرفون الإنسان بالنسب فلان ابن فلان من القبيلة الفلانية قالوا يا محمد انسب لنا ربك ، بين لنا نسب ربك نحن لا نعرف إلا بالنسب فأنزل الله هذه السورة "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولك يكن له كفوا أحد" لذلك قيل لهذه السورة إنها نسب الرحمن ، بينت بأن الله سبحانه وتعالى ليس بمحتاج لا إلى أصل ولا إلى فرع ولا إلى صاحبة ولا معين ولا وزير بل هو الغني غنى مطلقا الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء .
ثم قال الشيخ رحمه الله (وهى الأصل في هذا الباب) في باب تنزيه الرب سبحانه وتعالى من النقائص والعيوب وإثبات الكمالات .(20/141)
(وقال في حق المسيح وأمه) عليهما السلام ((ما المسيح بن مريم) الذي عبده النصارى (إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) ليس بمعبود لا هو ولا الرسل الذين قبله (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام)) من علامة أنهما ليسا من الآلهة أنهما يأكلان الطعام (فجعل ذلك دليلا على نفى الألوهية) لأن الإله الحق غير محتاج إلى أي شيء (فدل ذلك على تنزيهه سبحانه وتعالى عن ذلك) عن الكل والشرب (بطريق الأولى والأحرى والكبد والطحال ونحو ذلك هى أعضاء االأكل) التي يريد أن يثبت المفتري الذي يريد أن يثبت لله كل شيء مع دعوى نفي التشبيه (فالغنى المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد) لا تقس ذلك على اليد لإن إثبات اليد صفة كمال لأن اليد (للعمل والفعل) الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد (وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل إذ ذاك من صفات الكمال) ما أثبت الله لنفسه في كتابه شيئا من الصفات إلا أنها كلها من صفات الكمال سواء كانت صفة ذات أو صفة فعل وسواء كانت صفات خبرية أو صفات عقلية (فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل) حتى في المخلوق الإنسان الذي منحه الله القدرة على الفعل والعمل أكمل من العاجز الذي لا يفعل ولا يعمل فكيف الرب سبحانه وتعالى .
نعم .(20/142)
((وهو سبحانه منزه عن الصحابة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه الله عنه سبحانه بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال فكما يوصف بالقدرة دون العجز وبالعلم دون الجهل وبالحياة دون الموت وبالسمع دون الصمم وبالبصر دون العمى وبالكلام دون البكم فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك وأيضا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه وتعالى لا كفؤ له ولا سمى له وليس كمثله شىء فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شىء من المخلوقات ولا حقيقة شىء من صفاته كحقيقة شىء من صفات المخلوقات فيعلم قطعا أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم ولا غير ذلك بل يعلم أن حقيقته عن مماثلات شىء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق وأن مماثلته لشىء منها أبعد من مماثلة حقيقة شىء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر))(20/143)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وهو سبحانه منزه عن الصحابة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه) وهذا شيء واضح (وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف) البكاء والحزن (والعجز الذي ينزه الرب عنه سبحانه) عنه (بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال) هذه المناقشة توجه إلى الذين يفرقون بين هذه الصفات الخبرية الأشاعرة مثلا يتفقون مع أهل السنة والجماعة في عدم وصف الله تعالى بالبكاء والحزن ولكن يخالفونهم في وصف الله تعالى بالفرح والغضب فيجعلون الفرح والغضب من جنس البكاء والحزن وهذا من جهلهم أو تجاهلهم أو تأثرهم بآراء علماء الكلام وإعراضهم عن النص وعدم الاعتماد على الأدلة السمعية لأن الفرح ليس كالحزن والغضب والضحك هذه صفات خبرية ثابتة بالكتاب والسنة وليس فيها نقص ، ما أثبت الله لنفسه لا نقص فيه أبدا فإنه من صفات الكمال ، الفرح والغضب من صفات الكمال (فكما يوصف) الرب سبحانه وتعالى (بالقدرة دون العجز) وأنتم تثبتون القدرة لله تعالى ويوصف (بالعلم دون الجهل) وأنتم تثبتون لله تعالى العلم أيها الأشاعرة (وبالحياة دون الموت) وأنتم تثبتون الحياة أيضا (وبالسمع دون الصمم وبالبصر دون العمى وبالكلام دون البكم) يثبتون هذه الصفات كلها بالجملة وبالأدلة العقلية لا بالأدلة النقلية مع ملاحظة ما وقعوا فيه من التخبط والتناقض في صفة الكلام حيث نفوا الكلام اللفظي وأثبتوا الكلام النفسي الذي لا أصل له ، اصطلاح جديد لا أصل له مخالف للعقل والشرع واللغة (فكذلك) يقال لهم كما أثبتم القدرة والعلم والسمع والبصر كذلك (يوصف بالفرح دون الحزن) لماذا ؟(20/144)
لأنه وارد ، بالنسبة لنا أهل السنة والجماعة لا فرق بين ما ثبت في السنة وما ثبت بالقرآن الفرح من الصفات التي ثبتت بالسنة ، السنة الصحيحة يعمل بها كما يعمل بالقرآن تماما هذا الذي درج عليه سلف هذه الأمة ما كانوا يفرقون بين الكتاب والسنة بل من قواعدهم عدم التفريق بين الكتاب والسنة بل من قواعدهم أيضا عدم اشتراط التواتر في الأحاديث التي يستدل بها في باب الأسماء والصفات لا فرق بين الأدلة التي يستدل بها في الفروع وبين الأدلة التي يستدل بها في الأصول ، المدار على الثبوت إذا ثبتت السنة جاز الاستدلال بها في الأصول في صفات الله تعالى في النبوات وفي المعاد كما يجوز الاستدلال بها في الفروع أما تصنيف الأحاديث إلى متواتر يستدل بها في الأصول والفروع معا وآحاد لا يستدل بها إلا في الفروع هذا التقسيم ليس تقسيم أهل الحديث هذا تقسيم علماء الكلام ولكن تأثر بهذا بعض علماء المصطلح وعلماء أصول الفقه انطلت عليهم هذه القاعدة من حيث لا يشعرون ويقررون ذلك الآن في كتبهم هذا غلط ، اشتراط التواتر في الأحاديث التي يستدل بها في باب الأسماء والصفات وفي الأصول جميعا لا أصل لهذا وأبو الأصول المعروف بأنه أبو الأصول الإمام الشافعي يقرر هذا أن الآحاد يستدل بها في باب الأسماء والصفات كما يستدل بها في جميع الأحكام ، ينبغي أن يفطن لهذه القاعدة خصوصا طلاب العلم الجامعيون الذين يدرسون المصطلح وأصول الفقه ينبغي أن لا ينخدعوا إذا مرت عليهم مثل هذه القاعدة في أصول الفقه وهي لعلماء الكلام .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن) لثبوت ذلك من المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي جعله الله أمينا على وحيه وليبين للناس دين الله .
(والضحك دون البكاء) لثبون ذلك أيضا من النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(20/145)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجالس ، إلى الشريط السابع والعشرون )
((وهم ايضا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم لما تقدم وهؤلاء يضلون من وجوه ( منها ) ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة وليس الامر كذلك بل القرآن بين من الدلائل العقلية التى تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله فى كلام أئمة النظر فتكون هذه المطالب شرعية عقليةو ( منها ) ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التى سلكوها وهم مخطئون قطعا فى انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة كما قد بسط فى غير هذا الموضع و ( منها ) ظنهم أن تلك الطريق التى سلكوها صحيحة وقد تكون باطلة ( ومنها ) ظنهم انما عارضوا به السمع معلوم بالعقل ويكونون غالطين فى ذلك فإنه اذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع والمقصود هنا ان من ( صفات الله تعالى ) ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وانه حى كما ارشد الى ذلك قوله ( ألا يعلم من خلق ) وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات على انه يعلم بالعقل ( عند المحققين ) أنه حى عليم قدير مريد وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن اثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما اثبته بذلك الأئمة مثل احمد بن حنبل وغيره ومثل عبد العزيز المكى وعبد الله بن سعيد بن كلاب بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من اثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته وهذه الطريق اصح من تلك وقد يمكن اثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفى والإثبات كما يقال إن الرؤية لا تتوقف إلا على امور وجودية(21/1)
فإن ما لا يتوقف إلا على امور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث والكلام على هذه الأمور مبسوط فى غير هذا الموضع))
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على هذا النبي الكريم والرسول الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (وهم ايضا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم لما تقدم) يقول شيخ الإسلام إن أهل الكلام لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة حتى على وفق قولهم أي إلا إذا وافق الكتاب والسنة الأدلة العقلية وكما تقدك لأنهم يجعلون الأدلة العقلية هي الأصل والأدلة النقلية تابعة معنى ذلك الاستدلال بالكتاب والسنة استدلال تابع للعقل وليس استدلالا استقلاليا .(21/2)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (وهؤلاء يضلون من وجوه) من وجوه ضلالهم (ظنهم أن السمع) إنما هو (بطريق الخبر) المجرد فقط ، سرد الأخبار المجردة التي لا تفيد وحدها على استقلال وهو تابع للكلام السابق وتفصيل له (وليس الامر كذلك بل القرآن بين من الدلالة العقلية التى تعلم بها المطالب الدينية) أي إن القرآن يبين هو نفسه من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية بـ (ما لا يوجد مثله فى كلام أئمة النظر) أئمة النظر أي أئمة الكلام علماء الكلام الذين يعتمدون على النظر والتأمل والتعقل في زعمهم والاستدلال بالنظر ، الكتاب يحث على النظر في السماوات والأرض ويبين بأن الآيات الكونية دالة على وجود الله تعالى ثم قال (ومنها) أي من وجوه ضلالهم (ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التى سلكوها) على تناقض في ذلك فيما بينهم ، أي أن الرسول لا يعلم إلا بالمعجزات الخارقة للعادة هذه الطريقة التي سلكوها بالنسبة لمن يثبت النبوة كالمعتزلة والأشاعرة على ما ذكرنا سابقا من التناقض في ذلك وهم يعلنون في كتبهم إثبات النبوة بالمعجزات أي بالأمور الخارقة للعادة ولا ينحصر معرفة النبوة في هذا ،( ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التى سلكوها وهم مخطئون قطعا) في ذلك (فى انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه) طريق تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينحصر في الأمور الخارقة للعادة ، أهل السنة والجماعة يؤمنون بالأمور الخارقة للعادة لتكون علامة وآية لصدق رسوله عليه الصلاة والسلام وغيره من الرسل إلا أنهم لا يرون حصر الطرق لمعرفة صدق الرسول في هذه الأمور والاتفاق على إثبات الأمور الخارقة للعادة عند أهل السنة دون تناقض وعند الأشاعرة والمعتزلة مع التناقض ، والتناقض البين عند الأشاعرة لأن الأشاعرة لأن الأشاعرة لا يثبتون الحكمة في أفعال الرب سبحانه وتعالى أي لا يثبتون بأن الله يفعل شيئا لشيء ، إذا أثبتوا(21/3)
المعجزة أثبتوا بأن الله فعل شيئا لشيء أي أظهر ناقة صالح مثلا لتكون دليلا على صدق دعواه بالرسالة وهذا تعليل لفعل الرب سبحانه وتعالى وقس على ذلك سائر المعجزات وهذا غير ثابت على أصلهم ومع ذلك أثبتوا ولما أثبتوا حصروا طريق معرفته في هذه الأمور الخارقة للعادة وهذا خطأ ووجه خطأه أنه ثبت أن كثيرا من الناس عرفوا صدق رسالة النبي عليه الصلاة والسلام بدون معرفة أو بدون اطلاع على الأمور الخارقة للعادة ، ورقة بن نوفل لم يعرف نبوة النبي عليه الصلاة والسلام بالأمور الخارقة للعادة والنجاشي لم يعرف صدق رسالته بالأمور الخارقة للعادة بل اعتبروا بالرسل الأولين وقاسوا على ذلك بل صدق رسوله عليه الصلاة والسلام معلوم عند قومه حتى قبل أن يدعي الرسالة قبل أن يدعي النبوة كانوا يعرفون أنه الصادق وأنه الصداق الأمين وقد أظهر الله سبحانه وتعالى صدقه وأمانته في صباه ، كان يتجنب مجالس شباب قريش ولا يحضر معهم مجالس اللعب واللهو وكان يترفع وكان معروفا بالصدق بصدق اللهجة والقوم كانوا يعرفون صدقه إلا أن الرسالة لما جاءت مخالفة لهواهم ولما هاجم آلهتهم عند ذلك كفروا به ، وبالاختصار طرق معرفة نبوة النبي عليه الصلاة والسلام وصدقه وصدق الرسل قبله لا تنحصر في الأمور الخارقة للعادة ، هذه النقطة التي يناقش فيها شيخ الإسلام وتوسع في ذلك في كتابه النبوات فليرجع إليه .
لذلك قال (فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة كما قد بسط فى غير هذا الموضع) وهو الكتاب المشار إليه كما ترون في التعليق .
(ومنها) من طرق ضلالهم (ظنهم أن تلك الطريق التى سلكوها صحيحة وقد تكون باطلة) أما البطلان فيما يظهر لنا حصر معرفته أو معرفة نبوته في ذلك هذا وجه البطلان وإن كانت هناك وجوه أخرى للبطلان بينها الشيخ في غير هذا الموضع فالله أعلم .(21/4)
(ومنها ظنهم انما عارضوا به السمع معلوم بالعقل ويكونون غالطين فى ذلك) إذا ظنوا أن ما عارضوا به الأدلة السمعية من عقولهم واستحساناتهم أن ذلك معلوم بالعقل يكونون غالطين في ذلك وذلك (فإنه اذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات) وهم ظنوا أو زعموا أن ما بنوا عليه أصول دينهم من المعقولات ، أصول الدين التي تقدمت الإشارة إليها ، ظنوا أن ذلك من المعقولات والشيخ يقول إن ذلك من المجهولات لا من المعقولات (وقد بسط الكلام على هذا فى غير هذا الموضع) الكتاب المشار إليه وأكثر من ذلك في درء التعارض وكتاب المنهاج هناك البسط لمن أراد أن يتوسع .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (والمقصود هنا ان من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر) أي أن القرآن لم يحصر الأدلة في الأدلة النقلية بل القرآن يدل على وجود الأدلة العقلية لمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته من ذلكم يعلم أنه سبحانه وتعالى عالم وأنه قادر (وانه حى) هذه الأسماء والصفات تعلم بالعقل (كما ارشد الى ذلك قوله (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ) قد يستدل بأسماء الله تعالى وصفاته على الله وهذه طريقة الخواص ، الاستدلال على الله بأسمائه وصفاته وأن ذلك يدرك بالعقل كما يدرك بالنقل طريقة خاصة يمتاز بها ..
الشريط الرابع والعشرون :
(كما ارشد الى ذلك قوله (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) قد يستدل بأسماء الله تعالى وصفاته على الله وهذه طريقة الخواص ، الاستدلال على الله بأسمائه وصفاته وأن ذلك يدرك بالعقل كما يدرك بالنقل طريقة خاصة يمتاز بها خاصة أهل العلم من أهل التحقيق الذين جمعوا بين العقل والنقل منهم المؤلف رحمه الله .(21/5)
(وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات) (من مثبتة الصفات) سواء كانوا يثبتون جميع الصفات وهم أهل السنة والجماعة أو يثبتون بعضها ويؤولون وينفون البعض الآخر كالأشاعرة ، الأشاعرة يدخلون مع أهل السنة في المثبتة هنا .
(وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات على انه يعلم بالعقل عند المحققين أنه حى عليم قدير مريد) بل عند الأشاعرة الدليل الأساسي أو الدليل الرئيسي هنا الدليل العقلي في معرفة بأن الله حي وأنه عليم وأنه قدير مريد (وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم) وهم الأشاعرة الذين يشاركون أهل السنة في هذا المعنى وأما المعتزلة كما نعلم أنهم لا يثبتون إلا الأسماء ، والصفات ينفونها وهل الأسماء أثبتوها بالأدلة النقلية ؟
لا ، بالأدلة العقلية ، إذن المعتزلة يشاركون في هذا بالنسبة للأسماء المجردة التي لا تدل على الصفات ولكن لا يدخلون في عموم المثبتة كما تدخل الأشاعرة .
(بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن اثباته بالعقل) هذا عند أهل السنة فقط لأن الأشاعرة لا يثبتون الحب والرضا والغضب والكراهة والفرح والضحك هذه الصفات الأشاعرة لا يثبتونها لأنها صفات سمعية خبرية نقلية محضة وهم لا يثبتون من الصفات إلا ما يشترك فيه العقل وهي الصفات التي تسمى الصفات العقلية وهي التي تسمى عندهم صفات المعاني والصفات المعنوية والصفات السلبية وصفة نفسية التي هي صفة الوجود ، هذه يثبتونها كلها بالأدلة العقلية لا بالأدلة النقلية ، إذا قلنا إنهم يشاركون أهل السنة في إثبات هذه الصفات أي في مجرد الإثبات بصرف النظر عن طريق الإثبات طريق الإثبات عند أهل السنة بالأدلة النقلية والعقلية معا مع الإيمان بأن الأدلة النقلية هي الأصل وعند الأشاعرة يثبتون بالأدلة العقلية ويجعلون الأدلة النقلية يستأنس بها ولا يستدل بها على استقلال كما تقدم .(21/6)
قال الشيخ رحمه الله تعالى (بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن اثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل) لأن العقل السليم ينزه الرب سبحانه وتعالى مما لا يليق به مع إثبات ما أثبت لنفسه أو أثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام ومعنى إثباتها بالعقل بأن العقل لا يخالف النقل هذه نقطة مهمة يجب أن نفهمها ، ليس معنى ذلك يستقل العقل في الإدراك والاستدلال به ولكنه تابع للنقل وموافق للنقل .
(وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما اثبتته بذلك الأئمة مثل احمد بن حنبل وغيره ومثل عبد العزيز المكى وعبد الله بن سعيد بن كلاب) هذه النقطة تحتاج وقفة ، أولا صفة العلو صفة ذاتية تدرك بالعقل وبالفطرة السليمة وثابتة بالنقل وثابتة بإجماع السلف ، علو الله تعالى فوق جميع مخلوقاته ومباينته لخلقه ، معنى المباينة عدم الاختلاط ، عدم مخالطته لخلقه وأنه بائن من جميع خلقه ثابت بالكتاب والسنة الصحيحة والعقل السليم الصريح والفطرة السليمة وبإجماع السلف إجماع الصحابة والتابعين ، وإجماع الصحابة هو العمدة وهو محل الإجماع بأنه حجة وإجماع غير الصحابة ليس محل اتفاق بأنه حجة ، إذن هذه الصفة التي هي صفة العلو ثبتت بهذه الأدلة .(21/7)
وهنا صفة وهي علو خاص صفة الاستواء على العرش ، استواء الله تعالى على عرشه صفة فعلية خلاف صفة العلو ، استواء الله تعالى صفة فعلية أي صفة تجددت لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، إذن فعل تجدد كما يتجدد النزول وكما يتجدد المجيء وكما يتجدد الغضب "إن الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله" هذا كلام قاله الأنبياء أو سيقوله الأنبياء يوم القيامة يوم الشفاعة العظمى عند الاعتذار ، هذه صفات تتجدد ، التجدد والحدوث لا يلزم منه الخلق إذا قلنا الصفات الفعلية متجددة وتحدث في وقت دون وقت لا يلزم من ذلك القول بأنها مخلوقة لأن الحدوث خلاف الخلق ، كلام الله تعالى باعتبار مفرداته يتجدد ويحدث في وثت دون وقت كما هو معلوم ، خاطب آدم ونوحا وموسى وكلم نبيه وخاتم رسله عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج وهذا القرآن كلامه وقبله التوراة والإنجيل والزبور ، كلام الله يتجدد باعتبار مفردات الكلام ، وإذا قيل بهذا الاعتبار بأنه محدث أي أحدثه الله بالتكلم والخطاب والإنزال ولا يلزم من ذلك القوم بالخلق ، هذه نقطة مهمة يجب أن يفهمها طلاب العلم .(21/8)
النقطة الثانية التي ينبغي التنبيه عليه : جمع الشيخ هنا رحمه الله بين ذكر الإمام احمد وعبدالعزيز المكي وعبدالله بن سعيد بن كلاب وهل هؤلاء كلهم من أئمة الإثبات ؟ (كما اثبتته بذلك الأئمة) بالنسبة للإمام أحمد وعبدالعزيز المكي لا إشكال لكن ذكر ابن كلاب معهما هذا هو محل إشكال وإنما ذكره معهما لأنه من مثبتة الصفات بالنسبة لبعض الصفات ، الطريقة المعروفة الآن بالطريقة الأشعرية هي طريقة ابن كلاب هذا ، العقيدة الأشعرية الموجود في العالم الإسلامي اليوم عقيدة كلابية أخذها الأشعري عن ابن كلاب بعد أن رجع عن الاعتزال إذن يعتبر إماما من أئمة المثبتة بالنسبة لإثباته لبعض الصفات ومشاركته أهل السنة في إثبات بعض الصفات وفي كثير من المطالب الإلهية بالجملة كما تقدم بيان ذلك غير مرة إذن لا غرابة في ذكر أنه من الأئمة فهو إمام في بابه وفي عقيدته ولا ينفي كونه مثلا من المؤولة ومن النفاة أحيانا بالنسبة لصفة العلو وصفة الاستواء وصفة الكلام لا ينفي إمامته فيما هو فيه فيما فهم وفيما سلكه إذن إمام بالنسبة لمذهبه وإمام لأتباعه وليست إمامه إمامه على الإطلاق كالإمام المكي والإمام أحمد بن حنبل والإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أبي حنيفة وغيرهم من أئمة الهدى المشهود لهم بالإمامة ، فهو ليس منهم ولكنه إمام لقومه وفي مذهبه وعقيدته .
(بل وكذلك إمكان الرؤية يثبت بالعقل لكن منهم) أي في طريقة الإثبات اختلفوا ، اتفقوا أنه يمكن إثبات الرؤية بالعقل ، كيف ذلك ؟(21/9)
(لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته) هذه كيفية إثبات الرؤية بالعقل كل موجود تصح رؤيته فالله سبحانه وتعالى موجود إذن رؤيته صحيحة تصح رؤيته رؤيته في الدار الآخرة في عرصات القيامة وفي الجنة وأما في الدنيا فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح في صحيح مسلم "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" في هذه الحياة لا تثبت الرؤية وإن كان الناس يختلفون بالنسبة للرؤية في المنام ، الرؤية في المنام إن ثبتت إنما تثبت لرسول الله عليه الصلاة والسلام خاصة لأن القاعدة إذا اختلف القول والفعل القول للأمة والفعل للنبي عليه الصلاة والسلام ، إذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه رأى ربه ثم قال للأمة " إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " تكون الرؤية خاصة له في المنام في هذه الدنيا وبالنسبة للأمة لا يرون حتى يموتون ، ذلك لأن القوى البشرية في هذه الدار لا تقوى لتثبت أمام التجلي ، إذا كان الجبل لم يثبت تدكدك أمام التجلي فقوى البشر من باب أولى إلا أن الله يمنح عباده المؤمنين فيكومهم بأن يثبتوا أمام التجلي في دار الآخرة وخصوصا في الجنة في دار الكرامة .
الرؤية في عرصات القيامة هل هي خاصة بالمؤمنين أو عامة يرونه جميعا الكفار والمنافقون والمؤمنون جميعا ثم يحتجب عن الكفار والمنافقين هذا قول لبعض أهل العلم ، ويرجح الحافظ ابن حجر أن الرؤية في عرصات القيامة أيضا خاصة بالمؤمنين لأن الله قادر أن يحجب الآخرين كما منعهم من السجود حيث تكون ظهورهم طبقا واحدا إذا أرادوا أن يسجدوا ولا يطيقون السجود – إلا المؤمنين – كذلك غير المؤمنين لا يتمكنون من رؤيته سبحانه وتعالى ، هذا قول آخر يؤيده ويرجحه الحافظ ابن حجر ، الشاهد : الرؤية المذكورة هنا هي الرؤية في دار الآخرة .(21/10)
(لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته) مسلمة ، قاعدة مسلمة (ومنهم من اثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته) القائم بنفسه الذي هو غني عن غيره لا يحتاج في تحقق وجوده إلى القيام بغيره ، الذوات كلها قائمة بنفسها إلا أن قيام الله تعالى بنفسه غير قيام الذوات الأخرى بنفسها لأن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء وهو الغني عن كل شيء بهذا المعنى لا أحد يشارك الله سبحانه وتعالى في أنه قائم بنفسه ، وإن كانت الذوات كلها غير الصفات غير الأعراض يقال لها قائمة بنفسها في تحقق وجودها إلا ذلك بإقامة الله إياها ، الله هو الذي يقيمها .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وهذه الطريق اصح من تلك) الأولى أن كل موجود تصح رؤيته هذه تقبل النقاش ، ول كل موجود ولو كان أمرا معنويا يمكن رؤيته ؟ هذا محل نظر ، ولكن كل موجود قائم بنفسه يتحقق وجوده بنفسه هذا يمكن ، ولذلك الطريقة الثانية لا تقبل الجدل لذلك رجح الإمام بقوله (وهذه الطريق اصح من تلك)(21/11)
ثم قال الإمام رحمه الله تعالى (وقد يمكن اثبات الرؤية بغير هذين الطريقين) كل موجود تصح رؤيته ، كل قائم بنفسه تمكن رؤيته ، هاتين الطريقتين (بتقسيم دائر بين النفى والإثبات كأن يقال إن الرؤية لا تتوقف إلا على امور وجودية) أي لا تتصور افهم هكذا : إن الرؤية لا تتصور (إلا على امور وجودية فإن ما لا يتوقف إلا على امور وجودية) أي ما لا يتصور (إلا على امور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث) ولعل الطريقة الأولى ، الطريقتين وخصوصا الثانية أوضح من هذه ولكن كلها مقبوله إن شاء الله عقلا بالنسبة لمن فهم ، ممكن أن نعيد (وقد يمكن اثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفى والإثبات كأن يقال إن الرؤية لا تتوقف إلا على امور وجودية) لا تتصور إلا عن أمور وجودية (فإن ما لا يتوقف إلا على امور وجودية) أي ما لا يتصور إلا على أمور وجودية (يكون الموجود الواجب القديم أحق به) لأن وجوده أظهر من وجود غيره ، وجود واجب الوجود القديم أظهر من وجود غيره لأن هو الذي أوجد غيره أحق به (من الممكن المحدث) ما عدا الله سبحانه وتعالى موجود لكنه ممكن ولكنه محدث ، المحدث والممكن بمعنى واحد كل ما وجد بعد أن لم يكن يقال له محدث ويقال له ممكن ، إذا كان تصور الرؤية يتوقف على أمور وجودية فوجود الله سبحانه وتعالى أحق وأظهر إذن الله سبحانه وتعالى أولى بهذه الصفة أي بأن يكون مرئيا (والكلام على هذه الأمور مبسوط فى غير هذا الموضع) والموضع هو المواضع التي أشير إليها : درء التعارض وكتاب المنهاج وأهم شيء في هذه النقطة كتاب النبوات .
نعم .(21/12)
((والمقصود هنا أن من الطرق التى يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة فى هذا الباب أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم إتصافه بالأخرى فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أولى))
خذوا البيتين الآتيين نحن الآن ندخل في المتقابلات ، المتقابلات هذه أسلوب جديد ، اكتب هذين البيتين:
والممكنات المتقابلات ... وجودنا والعدم الصفات
أزمنة أمكنة جهات ... كذا المقادير روى الثقات
تأملوا في البيتين إلى غد إن شاء الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(21/13)
((والمقصود هنا أنه لابد من الايمان بالقدر فإن الايمان بالقدر من تمام التوحيد كما قال ابن عباس هو نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ولابد من الايمان بالشرع وهو الايمان بالأمر والنهى والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه والانسان مضطر الى شرع فى حياته الدنيا فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضرته والشرع هو الذى يميز بين الأفعال التى تنفعه والأفعال التى تضره وهو عدل الله فى خلقه ونوره بين عباده فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس فى معاملاتهم بل الانسان المنفرد لابد له من فعل وترك فإن الانسان همام حارث كما قال النبى ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) وهو معنى قولهم متحرك بالارادة فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولابد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار وهل يصلحه أو يفسده وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضه يعرفونه بالإستدلال الذى يهتدون به بعقولهم وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم إياهم(21/14)
وفىهذا المقام تكلم الناس فى الأفعال هل يعرف حسنها وقبحها بالعقل أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل كما قد بسط فى غير هذا الموضع وبينا ما وقع فى هذا الموضع من الاشتباه فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل وهو أن يكون الفعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به وسببا لما يبغضه ويؤذيه وهذا القدر يعلم بالعقل تارة وبالشرع أخرى وبهما جميعا أخرى لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل ومعرفة الغاية التى تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة فى الدار الآخرة لا تعرف الا بالشرع فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم وان كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(21/15)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية (والمقصود هنا أنه لابد من الايمان بالقدر) بعد أن تحدث الشيخ عن ضلال من أنكر الأسباب وعن جهل من قال إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد تحدث في هذا حديا مستفيضا وقال ملخصا لذلك (والمقصود هنا أنه لابد من الايمان بالقدر) لا بد لكل مسلم من أن يؤمن بالإيمان بالقدر (فإن الايمان بالقدر من تمام التوحيد) لا يتم التوحيد إلا بالإيمان بالقدر (كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هو نظام التوحيد) (هو) أي الإيمان بالقدر (نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) هذا كلام عظيم إذا ينبغي أن نعرف معنى الإيمان بالقدر ، الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يسع مؤمنا جهله ولكن الناس تتفاوت في المواهب العلمية منهم من وهبهم الله سبحانه وتعالى مقدرة على معرفة التفاصيل ومن الناس من لا يقدر أن يفهم التفاصيل حتى في باب القضاء والقدر وفي باب الأسماء والصفات فضلا عما سوى ذلك من تفاصيل الشريعة ، بالنسبة للرجل العامي الذي لم يرزق الفهم الثاقب والدراسة التفصيلية يكفيه في باب القضاء والقدر أن يؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء من خير أو شر وأن ما أصابه في علم الله من خير أو شر لا يخطئه وما أخطأه في علم الله لا يصيبه "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" هذا المقدر يكفي بالنسبة للعامي في باب الإيمان بالقضاء والقدر أن يعلم هذا العلم ، وعلى طلاب العلم أن يعلموا التفاصيل التي لا تؤدي إلى القول أو إلى التكلم في سر القدر ، يعلمون مراتب القدر : العلم السابق : علم الله السابق علم الله سبحانه وتعالى كل شيء قبل أن يخلقه وكتب ذلك عنده وشاء ذلك بمشيئته العامة وخلق ذلك على وفق مشيئته وحكمته ، هذه مراتب القدر يجب أن يعلم العبد هذه المراتب ويعلم ويعمل يعمل بذلك إن حصل له شيء أو حصل(21/16)
عليه شيء علم أن كل ذلك من الله ولكن ذلك لا يؤدي إلى نفي الأسباب ، يجب أن يعلم المؤمن بأن الله إنما يفعل بالأسباب في الغالب الكثير فهو خالق الأسباب وخالق المسببات لا ينكر الأسباب ولا يبالغ فيها ، هذا ملخص الإيمان بالقضاء والقدر ، من آمن بالقضاء والقدر هكذا مع توحيد الله تعالى في عبادته وربوبيته وفي باب الأسماء والصفات تم توحيده ولو آمن بأن الله خالق كل شيء وأنه لا يستحق العبادة إلا هو وأثبت الأسماء والصفات كما جاءت في الكتاب والسنة لكنه أنكر القدر أنكر علم الله السابق وكتابه السابق أو آمن بالعلم والكتابة ولكن أنكر المشيئة العامة وأثبت مع الله خالقين بلا حساب نقض تكذيبه للقدر توحيده لا يستفيد بتوحيده ، إذن لا بد من الجمع بين الإيمان بالقدر وبين توحيد الله تعالى .(21/17)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أثر ابن عباس : القدر (نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر) كما شرحنا (تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) هذا كلام واضح ، يقول الشيخ بعد هذا (ولابد من الايمان بالشرع) أيضا مع الإيمان بالقدر ، ما هو الشرع ؟ (وهو الايمان بالأمر والنهى والوعد والوعيد) الشرع مجموع الأمر والنهي والوعد والوعيد ، يؤمن الإنسان بالأوامر فيمتثلها ، الأوامر الواردة في الكتاب والسنة ، ويؤمن بالنواهي فينتهي ويؤمن بالوعد فيصدق ويؤمن بالوعيد فيصدق ولا يعارض الوعيد بالوعد ولا العكس بل يؤمن بنصوص الوعد والوعيد ، الوعد بالخير الله سبحانه وتعالى وعد بالخير كثيرا وهو لا يخلف الميعاد وأوعد كثيرا الوعد بالشر أوعد بالغضب والمقت ودخول النار وعدم دخول الجنة هذا وعيد تنفيذ الوعد الله ينفذ ما وعد به لا يخلف الميعاد ، ينفذ الوعد فضلا منه سبحانه وتعالى تفضلا منه على عباده لا لأن ذلك واجب عليه ، من أطاعه وامتثل أوامره وانتهى من نواهيه وصدق وعده ووعيده واتبع رسوله وعده بخير فالله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد إذا أدى العبد كل ذلك بالإخلاص إذ الأعمال لا تقبل إلا بشرطين اثنين : الإخلاص لله وصدق المتابعة . إذا أدى العبد ما شرع الله بهذه الطريقة نفذ الله له وصدق معه ، من صدق مع الله صدق الله معه .
أما الوعيد لا يلزم أو قد ينجز الرب سبحانه وتعالى وقد لا ينجز الإيعاد ، الوعيد ، حتى في حق العباد تنجيز الوعد مدح وكرم وتنجيز الوعيد لا ، بل من الكرم أن يعفو ويصفح لذلك يقول الشاعر :
فإني وإن وعدته أو أوعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز وعدي(21/18)
إخلاف الإيعاد مكرمة كونك بعد أن أوعدت الإنسان بالشر بالضرب بالقتل تفعل وتفعل وتفعل ثم تنازلت عن ذلك وعفوت ولم تفعل ، هذه مكرمة وكرم يمدح الإنسان بذلك ويحترم ويذكر بخير بخلاف أن يعد أنه يفعل كذا يفعل له كذا ويعطيه كذا ثم لا ينجز هذا الذي لا يجوز ، هنا ضلت المعتزلة زعموا أنه يجب على الله إنجاز الوعد والإيعاد معا يجب على الله أن يثيب المطيعين كما وعد ويدخلهم الجنة كما وعد ويجب عليه أن يعذب المنافقين والكافرين والعصاة كما أوعد ، أخطأوا ، كلمة الإيجاب إلزام ، من الذي يلزم رب العالمين أن يكرم عبده بالجنة ؟ من الذي يلزمه ؟ هذا كرم من الله الأمر كله راجع إلى الله ، من الذي خلق هذا العبد ؟ ومن الذي خلق له أسباب دخول الجنة فوفقه إلى ذلك إلى أن أوصله إلى دار كرامته ؟ هو الله واحده كرما وتفضلا وإحسانا ، وإن أمسك عنه ذلك وخذله ولم يوفقه ليعمل بمرضاته وتخبط في عقيدته وأعماله وعبادته وتعرض لسخط الله إلى أن دخل النار ، ذلك عدل إذ لا يتصور عقلا الظلم في حق الله تعالى لأن الأمر كله له إن أكرم من أكرم أكرمه تفضلا وإحسانا وإن أمسك إكرامه ذلك عدل لم يظلمه لأنه لم يسلب حقه إنما يكون الظالم ظالما إذا سلبك حقك ومنعك حقك :
وليس على الله واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع(21/19)
ولكن تفضلا منه يكرم وعدلا منه يمسك عنه ذلك الإكرام وذلك التوفيق ، العبد يدور بين العدل وبين الفضل لا ظلم هناك أبدا ، إذن فلنفهم ما هو الشرع ، الشرع مجموع الأمر والنهي والوعد والوعيد .. بالنسبة للكفار والمشركين الشرك الأكبر هم بالجملة تحت الوعيد لكن قد يكرم الله من شاء منهم فيتوب عليه يؤمن في حياته حتى يتمتع بالعمل بشرعه أما إن مات على كفره وشركه الأكبر لا يستحق دار الكرامة هذا ينفذ فيه الوعيد إنما ما ذكرناه بالنسبة لمن يموت على الإيمان ونحن قد مر بنا "إن الله يضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة" هذا كافر وقاتل فهو تحت وعيد شديد لكن الله قد يمن عليه ، من الله عليه بالإسلام ثم بالجهاد في سبيل الله إلى أن جاهد فقاتل فقتل فدخل الجنة بهذه الطريقة ممكن عدم تنفيذ الإيعاد بالنسبة للكفار والله أعلم .(21/20)
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (ولابد من الايمان بالشرع) ثم فسر الشرع فقال (وهو الايمان بالأمر والنهى والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه) ثم قال الشيخ رحمه الله ليبين الحاجة الماسة للإنسان إلى شرع الله في حياته الدنيا ، لا يمكن للإنسان أن يعيش حياة سعيدة وكريمة تليق بالإنسان إلا بالشرع لذلك يقول الشيخ (والانسان مضطر الى شرع الله فى حياته الدنيا) أي إنسان بصفته إنسان مضطر إلى شرع الله في حياته الدنيا ، إذا لم يطبق شرع الله بين الناس ، الناس تتحول من حياة الإنسان إلى حياة الحيوان لذلك يقول (فإنه لابد له) أي للإنسان (من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضرته والشرع هو الذى يميز بين الأفعال التى تنفع) الإنسان (والأفعال التى تضره) والشرع (عدل الله فى خلقه ونوره بين عباده) هذه حقيقة الشرع شرع الله عدل الله في خلقه ولا عدل إلا بالشرع ونور الله بين عباده لا نور لعباده إلا بالشرع وإلا فهم يعيشون في ظلمات لذلك يقول الشرع بفاء الفصيحة (فلا يمكن الآدميين) إذن (أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه) وما (يتركونه) لا يمكن للآدميين مطلقا كافرهم ومسلمهم لا يمكنهم أن يعيشوا بلا شرع كأن شيخ الإسلام يتحدث عما نعيشه اليوم ، لاحظوا لما ترك الآدميون في الجملة إلا من شاء ربك وقليل ما هم لما تركوا شرع الله تحولت الحياة جحيما لا يطاق بين قاتل ومقتول وطارد ومطرود ومغتال ومحاول للاغتيال وقتال مستمر بين بني الإنسان في مدينة واحدة بين جنس واحد بين الإخوان فيما بينهم قتال ونهب ، جحيم لا يطاق هذه الحياة التي يعيشها أكثر العالم اليوم السبب في هذه الحياة الجهنمية عدم الشرع لأن الناس تركت شرع الله لا يسع الآدميين كافرهم ومسلمهم إلا شرع الله ليعيشوا حياة الإنسان وإن تركوا شرع الله تحولت حياتهم إلى حياة الحيوان وأسوأ ، الحيوانات التي في الغابة تعيش اليوم حياة أهدأ وأحسن من حياة كثير من(21/21)
الآدميين وليس في ذلك أدنى مبالغة وأنتم تقرأون وتسمعون ما الذي يجري في العواصم الإسلامية والعربية اليوم بين بني الإنسان بين بني جنسهم فيما بينهم تلك الحياة الذي سبب هذه الفوضى وهذا الجحيم الذي لا يطاق عدم شرع الله ، ابتعادهم عن شرع الله ، عندما كان الشرع يطبق أو إذا كان الشرع يطبق يعلم الإنسان من يُقتل ومن لا يُقتل الشرع يبين المستحق للقتل فيقتل عدلا يبين الشرع من تقطع يده فتقطع تلك اليد لتحفظ الأيدي كلها ، تقطع الرقبة لتحفظ الرؤوس كلها "ولكم في القصاص حياة" إقامة القصاص والحدود حياة وحفظ للحياة حفظ للأرواح حفظ للرؤوس والأيدي جميعا وما نعيشه اليوم أكبر شاهد لما نقول ، حياة المسلمين الأولين عندما كانت تطبق شريعة الله في جميع الأرض كانوا يعيشون حياة سعيدة هادئة متحابين ومتعاونين مقبلين على الله وعلى عبادة الله ولما ابتعدت الناس عن الشريعة حصل ما حصل مما لا يحتاج إلى وصف ولكن فلنحمد الله على ما نحن فيه في هذه المنطقة مع ما فينا من القصور لكن بعض الشر أهون من بعض أهل هذه المنطقة لا يزال ينعمون بنعمة الإسلام لا تزال آثار الشريعة تظهر في حياتهم في تصرفاتم في أمنهم وأمانهم وفي عقيدتهم وتطبيق الشريعة وهذا شيء ملموس لذلك فلنقرأ مرة ثانية كلام شيخ الإسلام لنطبق على حياة المسلمين العامة كيف يعيش المسلمون وغير المسلمين تلك الحياة الجهنمية يقول الشيخ رحمه الله (والانسان مضطر الى شرع فى حياته الدنيا فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته وحركة يدفع بها مضرته والشرع هو الذى يميز بين الأفعال التى تنفعه والأفعال التى تضره وهو) أي الشرع (عدل الله فى خلقه ونوره بين عباده فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه) هذا هو الواقع (وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس فى معاملاتهم) وهذه العدل في معاملات الناس طبعا لا يتم ذلك إلا بالشرع (بل الانسان المنفرد لابد له من(21/22)
فعل وترك فإن الانسان همام وحارث) الفرد نفسه لا تنضبط حياته إلا بالشرع ، علاقته فيما بينه وبين الله ليوحده ويخلص له العبادة علاقته بنبيه الذي بعث إليه ليتبعه متابعة صادقة ، علاقة بأهله وأولاده وجيرانه وبالمسلمين عامة وبالكافرين ، الإسلام نظم حياتنا حتى في الكفار ، الكفار الذين يجب علينا أن نقاتلهم ونقتلهم والكفار الذين لا يجوز لنا أن نقاتلهم أو نقتلهم ، بين الشرع كل ذلك ، إذن بالشرع تعرف من تسالم ومن تقاتل ومن تعادي ، الفرد نفسه لا تنضبط حياته إلا بالشرع (فإن الانسان همام وحارث كما قال النبى صلى الله عليه وسلم) وإن كان الحديث فيه مقال من حيث الإسناد ((أصدق الأسماء حارث وهمام)) لكن المعنى واضح ، الإنسان همام بطبعه كثير الاهتمام يهتم بأمور وكاسب يكسب يعمل يكد لذلك هذان الاسمان من أصدق الأسماء على الإنسان ، كل إنسان همام وحارث ، كذلك من حيث الذم يصدق على أغلب الناس أنه ظالم إذا قلت لإنسان ظالم قد لا تكذب لا يسلم الإنسان إلا من عصمه الله وهم الأنبياء من كونه ظالما إما يظلم نفسه أو يظلم غيره ، على كل الإنسان حارث وهمام (وهو معنى قولهم) : الإنسان (متحرك بالارادة) هذه عبارة عصرية الإنسان متحرك بالإرادة والمعنى صحيح الله أعطى كل إنسان إرادة متحرك بإرادته ليس مجبورا على حركته إن تحرك في الخير أو تحرك في الشر فهو متحرك بالإرادة لذلك يثاب إذا تحرك في الخير ويعاقب إذا تحرك في الشر لأنه فعل ما فعل باختياره وإن كان هو وفعله مخلوق لله تعالى لكنه لم يكن مجبورا قط على ما يفعل من خير أو شر (فإذا كان له إرادة فهو متحرك) بهذه الإرادة ، فالواقع له إرادة عند العقلاء ، العقلاء يدركون أن الإنسان له إرادة لذلك يفرقون بين الأفعال الاضطرارية والأفعال الاختيارية للإنسان ، الإنسان له أفعال اضطرارية ليس له فيها أي إرادة يرمى من فوق السطح فيقع على الأرض مضطر ، يصاب بشلل فترتعش يده مضطر لكن فيما عدا ذلك(21/23)
يقوم باختياره ويقعد باختياره ويمشي باختياره يصلي باختياره ويترك باختياره ليس له أن يعتذر بالقدر بل هو متحرك بإرادته (ولابد أن يعرف) هذا الإنسان (ما يريده هل هو نافع له أو ضار) بالطبع وبالضرورة وبالفطرة يعلم كل إنسان إذا تحرك أنه تحرك إلى ما يضره أو إلى ما ينفعه ، البهائم البهم تدرك العلف الذي يضر والعلف الذي ينفع تعاف بعض المياه وبعض العلف وتحرص على ما ينفع من العلف والماء الطيب هذا إلهام من الله سبحانه وتعالى بله الإنسان .
يقول (ولابد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار وهل يصلحه أو يفسده) يريد الشيخ بهذا أن يضرب على عقيدة الجبرية الذين يزعمون بأن الإنسان مجبور وهذه العقيدة التي تسربت إلى بعض شبابنا بواسطة الدراسات الجامعية الأشعرية التي تتستر وراء كسب الأشعري وهي جبرية ، عقيدة الأشاعرة في العباد عقيدة جبرية لأنهم وإن لم يسلبوا العبد الإرادة والاختيار والقدرة لكن سلبوا الفعالية ، إرادة الإنسان غير فعالة وقدرته غير فعالة ولكن الله هو الذي يخلق عندما يعزم العبد على فعل شيء ويريد ذلك لذلك يقولون وهم ليسوا على يقين فيما يقولون الله وحده هو الفاعل والعبد ليس بفاعل فنسبة الأفعال إلى العباد نسبة مجازية ، هذا خطأ محض يقع فيه بعض المقلدة من الأساتذة الأشاعرة الذين يقررون هذه القاعدة وهم على جهل تام لو نوقش الإنسان هذا الذي يقرر هذه العقيدة وهل أنت جئت اليوم باختيارك إلى الكلية وألقيت الدرس بإرادتك واختيارك أو كنت مجبرا ؟ أحد جبرك ودفعك إلى أن دخلت الفصل وألقيت المحاضرة ؟ كل هذا وأنت لست بمختار ؟ لا يجد له جوابا أبدا ، لذلك هذه عقيدة تقليدية ولكن للأسف يوجد في بعض الأشرطة التي تسجل لبعض الدارسين والدارسات هذه العقيدة الآن بين بعض شبابنا فنسأل الله لهم الهداية والتوفيق .(21/24)
وبعد : قال شيخ الإسلام (وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم) كون الإنسان يتحرك إلى ما ينفعه أو إلى ما يضره أو إلى ما يصلحه أو يفسده يدرك بعض ذلك بالفطرة لأن الله فطر العباد على معرفة النافع والضار والمصلح والمفسد وكما قلت لكم حتى البهائم تدرك ذلك ، النملة تدرك تحمل الحبة الحبة أثقل منها تحاول أن تنقل من مكان إلى مكان لأنها تعلم أن هذه الحبة تنفعها ، تدسه في مكان ما لتستفيد في أيام المطر إذ لا تجد في أيام المطر حبوبا على وجه الأرض الله يلهم هذا الحيوان الصغير كيف يدخر طعامه في أيام الربيع وفي أيام الحصاد لوقت الحاجة ، فكيف الإنسان ، كيف يقال للإنسان إنه ليس بمختار ولا يعمل باختياره ومشيئته ؟ إذا كانت النملة تعمل هذا العمل وهذا شيء ملموس .
(كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب) يقول الشيخ (وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب) كل الناس يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب الأكل النافع والأكل الضار والشرب النافع والشرب الضار المقدار الذي ينفع والزيادة التي تضر يدركون ذلك (وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم) يعلم كل إنسان بفطرته العلم الضروري العلم الضروري العلم الذي لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك كونك تعلم أن ما فوقك سماء وتحتك أرض هذا علم ضروري وتعلم بالضرورة بأن لك خالق لأنك علمت بأنك مخلوق وجدت بعد أن لم تكن إذن لا بد لك من خالق موجد أوجدك ، علم ضروري وتعلم بالضرورة قدرة الله ، هذه كلها من العلوم الضرورية .(21/25)
(وبعضه يعرفونه بالإستدلال الذى يهتدون به بعقولهم) الاستدلال بالنسبة لوجود الرب سبحانه وتعالى هذه بالفطرة بالبديهة لكن إدراك العباد قدرة الله وحكمة الله وسمع الله وبصر الله بالاستدلال بالعقول ينظرون في هذا الكون البديع فيؤمنون بقدرة الله ويفكرون في التخصيص الله خصص العباد في قامتهم في ألوانهم في أرزاقهم في مواهبهم العلمية ، هذا التخصيص يدل على العلم والإرادة (وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم إياهم) وإن كان العباد يؤمنون بالله بالفطرة ويدركون بالاستدلالات العقلية وجود الله وكثيرا من صفاته لكن هل تقوم عليهم الحجة ؟(21/26)
لا ، لا تقوم الحجة إلا بإرسال الرسل وبيان الرسل أي تتعاون الفطرة والعقل مع بيان الرسل لأن بيان الرسل لا يدركونه إلا بعقولهم من ليس له عقل لا يفهم عن الأنبياء ولا يفهم كلام الله وخبر الله ولكن الشيء الذي يجب اعتقاده أن العباد مهما عرفوا ربهم بفطرهم وأدركوا كثيرا من صفاته بعقولهم لا تقوم الحجة عليهم إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإلا يكون ذلك عبثا ، لو كان الدليل الفطري والعقلي وما أخذ عليه في عالم الذر لو كان كل ذلك كافيا في إقامة الحجة على العباد لما بعث الله الرسل وأنزل الكتب إنما كل ذلك يعتبر تمهيد وإعداد لفهم ما أنزل الله وما جاءت به الرسل بذلك تقوم الحجة شريطة أن يتبينوا الهدى ، هكذا ، لكن بالنسبة لدخول الإسلام تكفي بلوغ الشريعة ، من بلغته الشريعة الإسلامية وأن محمد صلى الله عليه وسلم بعث لا يسعه إلا الإسلام كائنا من كان يهوديا أو نصرانيا وفي أي أرض كان طالما بلغته هذه الرسالة العامة الخاتمة ، والذين كنا نلتمس لهم الأعذار ليس هذا الصنف ليس للدخول في الإسلام ولكن في الذين دخلوا الإسلام واقتنعوا بالإسلام وأحبوا الإسلام بل أحبوا الله ورسوله ودينه لكن يخطئون أحيانا في بعض الجزئيات لأن الهدى لم يتبين لهم في تلك الجزئيات يجب أن نفرق بين الذين كنا نلتمس لهم الأعذار وبين الرسالة العامة ، الرسالة العامة الإيمان بالرسالة وبمحمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به واجب على كل من بلغه ولا عذر لهم إن لم يؤمنوا يجب أن يفهم هكذا لذلك يقول (وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم إياهم) لأن تفاصيل الشريعة لا تعلم إلا بهداية الرسل الرسول هو الذي يهدي والقرآن يهدي الله شهد لرسوله عليه الصلاة والسلام "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" هذه هداية الإرشاد والدلالة والبيان ، تفاصيل الشريعة تفاصيل الأسماء والصفات تفاصيل العبادة هذه التفاصيل لا تعرف إلا ببيان الرسل وهداية الرسل رحمة منه(21/27)
سبحانه وتعالى أنزل كتبه وأرسل رسله .
ثم قال الشيخ رحمه الله في مسألة معرفة الحسن ومعرفة القبح (هل يعرف حسنها وقبحها بالعقل أم ليس لها حسن وقبح يعرف بالعقل) مسألة علمية عظيمة قد يصعب على عوام الناس هضم هذه المسألة .
إذن فلنكتفي بهذا المقدار ، لنجيب على بعض الأسئلة ليشترك معنا المصلون بالاستفادة إن شاء الله .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
تتمة للقاعدة السابعة من الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجزل الله له المثوبة نلخص ما يأتي ، والقاعدة كتبت بأسلوب منطقي غامض مع ما يلاحظ من كثرة السقط في بعض الجمل مما يحول دون فهم المراد لذلك رأيت تلخيص القاعدة المذكورة بدءا من وسط صفحة 151 إلى نهاية الاعتراض في صفحة 164 ، والبحث الذي في الصفحات المشار إليها عبارة عن اعتراضات على إثبات صفات الله تعالى بالطرق العقلية التي منها أن يقال (لو لم يكن الله تعالى موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى المقابلة) فمثلا لو لم يوصف بالحياة المختصة به تعالى لوصف بالموت ، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز وهكذا دواليك وهي طريقة إثبات الصفات بنفي ما يناقضها ، وهناك طريقة أخرى وهي أن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى أن يوصف بها على الوجه الذي يليق به إذ معطي الكمال أولى بالكمال ، هذه هي طريقة إثبات صفات الله تعالى بالأدلة العقلية .(21/28)
الاعتراض : اعترضت طائفة من النفاة على هذه الطريقة طريقة الاستدلال بأن سلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه تعالى يستلزم ثبوت الأخرى وفي مقدمة من اعترض على هذه القاعدة سيف الدين الآمدي وهو من كبار مشايخ الأشاعرة وإن كانت القاعدة في الأصل للفلاسفة ولكنها انطلت على كثير من الجهمية والأشاعرة وهي في حقيقتها مناقشة لفظية سفسطائية لا نتيجة لها أو اصطلاحات فارغة عن العلم والمعرفة النافعة ، وخلاصة اعتراضهم أن المتقابلات سواء كان التقابل بالتضاد أو بالتناقض أو العدم والملكة أو بالتضايف إنما يتصور ذلك فيما من شأنه أن يقبل الاتصاف بالصفات كالإنسان مثلا وأما ما ليس من شأنه الاتصاف بشيء من ذلك كالجدار مثلا فلا يقال فيه بصير أو أعمى سميع أو أصم ويريد القوم أن يقولوا إن الله لا يوصف بالبصر ولا بضده لا بالعلم ولا بالجهل وقد فروا من التشبيه بما يقبل الاتصاف بالصفات وشبهوه بما لا يقبل الاتصاف في زعمهم بأية صفة من الصفات كالجمادات علما بأن الذي يقبل الاتصاف بالصفات أكمل من الذي لا يقبل الاتصاف ومع ذلك إنه ليس بمستحيل أن توصف الجمادات ببعض تلك الصفات كالحياة والكلام والسمع والعلم لأن الله قادر أن يخلق في الجمادات كل هذه الصفات كما جعل الله الحجر يتكلم ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام "إني لأعلم حجرا كان يسلم علي بمكة" بل قد أخبر الله تعالى أن جميع المخلوقات تسبح الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى "يسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وقوله تعالى "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" دليل أن ذلك التسبيح بلسان المقال لا بلسان الحال كما يحاول بعض الناس ذلك لأنه لو كان التسبيخ بلسان الحال لا حاجة إلى نفي الفهم والفقه منا لأن ذلك مجرد دلالة وقد جعل الله أيضا عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصي ، وإذا كانت هذه الصفات ثابتة للحيوانات(21/29)
والجمادات فنفيها عن الله تعالى تشبيه له سبحانه بالعدم الذي ليس بشيء إلا في الذهن ، هكذا يتضح أن تلك المناقشة السفسطائية إنما ترمي إلى نفي صفات الكمال عن الله تعالى وصفاته تعالى كلها كمال وذلك يعني وصفه تعالى بالعدم المحض كما تقدم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"
هذا آخر ما تيسر تلخيصه من وسط القاعدة السابعة إلى آخرها لننتقل إلى مبحث الأصل الثاني .
وبالله التوفيق .
نعم .
الشريط الخامس والعشرون :(21/30)
(وأما الاصل الثانى وهو التوحيد فى العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعا فنقول إنه لا بد من الإيمان بخلق الله وأمره فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء كما قال تعالى "ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السماء والأرض إن ذلك فى كتاب إن ذلك على الله يسير" وفى الصحيح عن النبى أنه قال (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن كمال الذل له والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته "ومن يطع الرسول فقد أطاع الله" وقد قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) وقال تعالى (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) وقال تعالى (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه) وقال تعالى (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وان هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه ولهذا قال النبى فى الحديث الصحيح (انا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء أخوة لعلات وان أولى الناس بابن مريم لأني ليس بينى وبينه نبى))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(21/31)
(الاصل الثانى) من الأصول التي يبحثها شيخ الإسلام في هذه الرسالة توحيد العبادة الواجب في شرع الله تعالى وقدره اعتقادا ، الأصل الأول كان البحث في توحيد الأسماء والصفات (وأما الأصل الثاني وهو التوحيد فى العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعا) يجب الإيمان بالقدر ويجب الإيمان بالشرع بحيث لا يعارض القدر بالشرع ولا الشرع بالقدر ، الشرع ما شرعه الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله وأنزل به كتبه وأمر العباد بالتزام هذا الشرع من الأوامر والنواهي هذا هو الشرع ، وهناك قدر هذا القدر يجب على العباد أن يؤمنوا بالقدر بالقضاء والقدر معا ، ولكن إيمانا إجماليا لا تفصيليا ، إيمانا لا خوض فيه لأن للقدر سرا وذلك السر لا يبحث عنه يجب أن يقف علم العباد ومعرفتهم دون سر القدر ، القضاء والقدر اختلف أهل العلم أيهما الأسبق هل القدر هو الأسبق أو القضاء هو الأسبق ؟ والاختلاف اختلاف لفظي يرى بعضهم القدر بمعنى التقدير القدر إما مصدر لقَدَر أو اسم مصدر لقدَّر ، الفعل قدّر مصدره تقدير ، قدر يقدر تقديرا ، هذا المصدر ، والقدر اسم مصدر لقدّر أو مصدر لقَدَر وعلى كل يشبه بعضهم أو يقرب بيان القدر بعمل الخياط عندما يقدر القماش ليعرف طوله وعرضه ثم إذا انتهى من هذا التقدير من معرفة طوله وعرضه قطع وهذا التقطيع وهذا التفصيل بمثابة القضاء فيقدر أولا ثم يقضي بعد معرفة القدر المطلوب ولله المثل الأعلى الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض علم ذلك وكتب عنده ثم شاء الله سبحانه وتعالى وقوع هذه الأمور المقدرة على ما قدر ثم فعل ذلك وخلق ونفذ ، وهل هذا التنفيذ هو القضاء ؟ والقدر ما تقدم من العلم والكتابة ؟ أو العكس ؟
بحث يقبل الاجتهاد لأنه بحث في معرفة معاني هذه الألفاظ ولكن الذي لا ينبغي الخوض فيه بعد معرفة مراتب القدر ، مراتب القدر أربع :(21/32)
العلم : يجب أن يؤمن العبد - انتبهوا – هذا العلم وهذا البحث ليس خاصا بطلاب العلم ، هذا علم وبحث كل مسلم ومسلمة لأن الإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الدين ومن أركان الإيمان إذا يجب أن نعرف ما معنى الإيمان بالقضاء والقدر ؟ أن يؤمن العبد بأن الله علم كل شيء كان وسيكون ولا يقع في مملكته إلا ما علم وذلك الذي علمه (كتبه) عنده في اللوح المحفوظ ، إذن كل شيء عند الله معلوم ومكتوب كل ما يقع في هذا الكون من إيمان وكفر وطاعة ومعصية وبلاء ونعمة ومرض وصحة وفقر وغنى كل ما يقع في هذا الكون علمه الله وكتبه عنده ، هاتان مرتبتان (العلم والكتابة) .
ثم لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ليس هناك أحد يُكرهه ويكلفه ليفعل بل يقع كل شيء بمشيئته العامة ، الذي يقع بمشيئته العامة يشمل الخير والشر ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ثم فعل ذلك (وخلق) على ما علم وكتب وقدر ، هذه هي المراتب بمعنى ان الأمور ليست مستأنفة من جديد وليس كما يزعم من يزعم من الفلاسفة بأن الله لا يعلم الأمور إلا بعد وجودها ، افتراء على الله ، من الذي أوجدها ؟ "ألا يعلم من خلق" علم وكتب وقضى وشاء وخلق وأوجد ، هذا معنى (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) (كان) هنا تامة أي تكتفي بمرفوعها ولا تتطلب منصوبا ، (ما شاء الله كان) أي وقع وحصل ووجد ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، كان الإمام الشافعي رحمه الله له أبيات يقال يترنم بها في وسط الليل أو في آخر الليل مخاطبا ربه سبحانه وتعالى ومراقبا له :
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
وهذا شقي وهذا سعيد ... وهذا قبيح وهذا حسن(21/33)
كل ذلك يجب الإيمان هكذا إيمانا عاما إجماليا ، الذي لا يجوز : التساؤل ، لماذا فعل كذا وكذا ؟ لما وسع على فلان وضيق على فلان ، لماذا أحيا ولماذا أمات ؟ يميت طفلا رضيعا والشائب الهرم يمشي على عكازته لماذا فعل هذا ؟ ليس لك أن تسأل هذا أبدا ، يقعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل ، فلتعلم بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يعطي ولا يمنع ولا يشرع تشريعا إلا لحكمة ، من أسمائه تعالى العليم الحكيم ، ونفي الحكمة من فعل الرب سبحانه وتعالى كما تورطت في ذلك الأشاعرة جريمة لأن ذلك اتهام الرب سبحانه وتعالى بالعبث ، الله عليم حكيم لا يفعل فعلا إلا لحكمة وليس بلازم أن يدرك العباد حكمة الرب في تشريعه في خلقه في عطائه في منعه في جميع أفعاله ليس بلازم ومن يحاول ذلك يحاول الإحاطة ولا يحيطون به علما وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، اقتنع بهذا لا تسأل ولا تخض في سر القدر وقد صح عن علي رضي الله عنه وغيره القول (القدر سر الله فلا نكشفه) أي لا نحاول كشفه ولو حاولت ما استطعت أن تكشف لكن لا تحاول لئلا تنزلق ، لا تحاول أن تكشف سر القدر ، قف عند حد علمك ، حدك أن تعلم بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما أصابك في علم الله لا يخطئك أبدا وما أخطأك في علم الله لن يصيبك أبدا ، هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر .(21/34)
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (الاصل الثانى وهو التوحيد فى العبادات المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعا) معا وعدم التفريق بينهما (فنقول إنه لا بد من الإيمان بخلق الله وأمره) الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر (فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء) وحده ورب كل شيء (ومليكه) لا أحد يشارك الله سبحانه وتعالى في خلقه ، هذا توحيد الربوبية في الأصل هو محل اتفاق بين الكفار والمؤمنين لأنه توحيد فطري ولكن قد يطرأ أحيانا على بعض من ساءت تربيته وتربى في أحضان المرتزقة من المتصوفة الذين يحاولون تسخير أتباعهم لأنفسهم حيث يوهمون بأن في إمكانهم أن يتصرفوا مع الله في هذا الكون بالعطاء والمنع حتى بحسن الخاتمة وسوء الخاتمة لذلك المريد والدرويش عندما يجلس أمام الشيخ يضع يده على قلبه لئلا يطلع الشيخ على ما في ضميره فيصاب بسوء الخاتمة أو بمصيبة ما ، أي يصل أتباع المتصوفة إلى اعتقاد بأن الشيخ يتصرف فيعطي ويمنع ويضر وينفع ، هذا شرك أكبر في توحيد الربويية جرهم إلى الشرك الأكبر في توحيد العبادة دعوتهم والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم ، ولا بد في كل مناسبة من التنبيه على هذه النقطة لأن هذا واقع جمهور عوام المسلمين في كثير من الأقطار الإسلامية ، الله المستعان .(21/35)
(وأنه على كل شيء قدير) حتى على أفعال العباد ردا على القدرية ، أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ليس كما تزعم القدرية بأن أفعال العباد الاختيارية غير داخلة تحت قدرة الله تعالى بل هو على كل شيء قدير (وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) كما قلنا (كان) هنا تامة فيجب التفريق بينهما لأنه لو كانت ناقصة تطلب منصوبا (كان زيد في الدار) لا يتم المعنى لو وقفت عند قولك (كان زيد) وأنت تخبر عن وجوده في الدار لأن المستمع ينتظر منك خبرا (كان زيد في الدار) لا بد أن تأتي بالخبر حتى يتم الكلام ، الخبر الجزء المتم للفائدة سواء كان خبر المبتدأ أو كان خبر كان الناقصة وأخواتها ، وفي مثل هذا لا تنتظر منصوبا وأن ما شاء الله كان أي وجد ووقع وحصل وما لم يشأ لم يكن (ولا حول ولا قوة إلا بالله) لا حول للعباد ولا حيلة لهم ليتركوا المعاصي ويهتدوا ولا قوة لهم إلا بتوفيق الله تعالى وإن كانت لديهم قدرة وإرادة واختيار لكن هناك التوفيق يوفق الله سبحانه وتعالى من شاء إلى طاعته ويحول بينه وبين معصيته .
(وقد علم) الله سبحانه وتعالى (ما سيكون قبل أن يكون) أي في هذا رد على القائلين بأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ، كلام فاسد .(21/36)
(وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء) ولعل هنا (حين) أنسب (وقدر المقادير وكتبها حين شاء كما قال تعالى "ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السماء والأرض إن ذلك فى كتاب") مكتوب ، جمع هنا أو أتى بدليل المرتبتين : العلم والكتابة ("إن ذلك فى كتاب إن ذلك على الله يسير" وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)) الأمر مفروغ منه ليس بأنف ليس بمستأنف ، ولما سمع الصحابة هذا النص وأمثاله قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب ؟ فيم العمل ؟ طالما الأمور كلها معلومة ومكتوبة ومقدرة فيم العمل ؟ أفلا نتكل على كتابنا ؟ قال لهم "لا ، اعملوا فكل ميسر لما خلق له" أنت لا تدري ما سبق في علم الله وما الذي كتب لك ، لا تعلم ولكن السعيد يعرف بأن يعرف لأعمال أهل السعادة فيعملها فيختم له بأعمال أهل السعادة لذلك الإنسان في أول حياته لا يدري عن مستقبله قد يعيش المرء في أول حياته يعمل بأعمال أهل الجنة ولكن قد سبق عليه الكتاب فينقلب وينتكس والعكس حاصل ، إذن لا معنى للاعتماد لأنك لا تعلم ولكن تسأل ربك التوفيق ، الدعاء مطلوب مع ذلك كله لابد من الدعاء لأن الله هو الذي يوفق ويجعلك سعيدا لتعمل بأعمال أهل السعادة ويختم لك بذلك ، وهو الذي إن شاء يخذل من يشاء ويوفق من يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، لا تعترض على الله ، سلم لتسلم .(21/37)
(ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له) هذا هو الشرع ، إذا علمت هذه المقادير ومراتب القدر يجب أن تؤمن بأن الله تعالى أمر بعيادته وحده لا شريك له أمر الجميع وأحب من الجميع ورضي من الجميع لكن هنا سر ، قد يأمر الجميع وأنت لا ترى أن الجميع يمتثل ، منهم من يمتثل ومنهم من لا يمتثل ، هذه هي الإرادة الشرعية الدينية أراد الله وأمر وأحب من الجميع الطاعة لكن يوفق من يشاء ليعمل بمرضاته ويمتثل أمره ويخذل من يشاء لا يمتثل ، العبد المؤمن الذي يمتثل تجتمع فيه الإرادة الكونية والإرادة الشرعية معا ، أراد الله أزلا وعلم وكتب أن زيدا من الناس يؤمن فيطيع فأنزل كتابه فأمره وأرسل رسوله فهداه وامتثل وعمل بأعمال أهل السعادة ، اجتمعت فيه الإرادة الكونية والإرادة الشرعية معا ، هذه هي السعادة من ختم له بهذا فهو السعيد .
فلنكتفي بهذا المقدار لنواصل إن شاء الله في جلستنا القادمة .
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(21/38)
(ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن كمال الذل له والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته "ومن يطع الرسول فقد أطاع الله" وقد قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) وقال تعالى (إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) وقال تعالى (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه) وقال تعالى (ياأيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وان هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه ولهذا قال النبى فى الحديث الصحيح (انا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء أخوة لعلات وان أولى الناس بابن مريم لأني ليس بينى وبينه نبى) وهذا الدين هو دين الإسلام الذى لا يقبل الله دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام قال الله تعالى عن نوح ( واتل عليهم نبأ نوح اذ قال لقومه يا قوم ان كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن اكون من المسلمين ) وقال عن إبراهيم (ومن يرغب عن ملة إبراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهين بينيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وقال عن موسى ( وقال موسى ياقوم إن كنتم(21/39)
آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) وقال فى خبر المسيح ( واذا أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولى قالوا أمنا وأشهد بأننا مسلمون ) وقال فيمن تقدم من الأنبياء (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) وقال عن بلقيس أنها قالت ( رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
ونحن في الأصل الثاني الذي هو توحيد في العبادات يقول شيخ الإسلام في هذا الأصل (ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له) أمر الجميع (بعبادته وحده لا شريك له) إذ لا يستحق العبادة إلا الله (كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه) أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالإسلام "إن الدين عند الله الإسلام" ولكن أخيرا أصبح اسم الإسلام علما بالغلبة على ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان في الأصل اسم لجميع ما أرسلت به الرسل وذلك هو أصل يتفق عليه الجميع ولكن إذا أطبق الآن الإسلام إنما ينصرف إلى ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام لأنها رسالة مهيمنة على جميع الأديان السابقة .(21/40)
(وعبادته تتضمن كمال الذل له والحب له) هذا تعريف دقيق جدا للعبادة حقيقة العبادة كمال الذل وكمال الحب مع التعظيم ، كمال الذل للخالق سبحانه وحده وكمال الحب له ، الذل بدون حب لا يكون عباده والذل بدون حب لا يكون عباده والعكس كذلك وأضف إلى ذلك التعظيم هذه حقيقة العبادة أن يكون في نفس العبد التذلل لربه سبحانه وتعالى وعدم التكبر عن عبادته ، يستسلم له وعند الاستسلام مع الحب والتقدير والتعظيم هذه حقيقة العبادة ، لذلك لو صرفت هذه المعاني التذلل والحب الكامل والتعظيم الكامل لغير الله تعالى يعتبر ذلك شركا أكبر ، ولا يشفع لمن وصل إلى هذه الدرجة صلاته وصيامه ، لو حصل لدى الإنسان تذلل كامل واستسلام وحب كامل وتعظيم لمخلوق ما كائنا ما كان وكائنا من كان عبده وبذلك أصبح متمردا على الله سبحانه وتعالى وغير مستسلم ، وأما إن عبد الله بتذلل وحب وتقدير وتعظيم وصرف ذلك لغير الله مع الله يعتبر هذا شركا أكبر وفي الصورة الأولى كفر أكبر أي إذا صرف كل ذلك لغير الله تعالى معرضا عن الله يعتبر كفرا وفي الصورة الثانية يعتبر شركا .
(وذلك يتضمن كمال طاعته) بم نعرف الحب والذل والتقدير والطاعة ؟ كمال الطاعة بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات هذه الأعمال دليل أن الحب والذل والتعظيم أعمال القلوب وهي أعمال عظيمة لكن أعمال القلوب بحاجة إلى الدليل ، الدليل الطاعة ، لذلك قال (وذلك يتضمن كمال طاعته ) الكمال البشري وليس معنى ذلك العصمة أن يكون لدى الإنسان كمال الطاعة ، يجتهد في طاعة الله تعالى بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات وإن هفا هفوة بادر بالتوبة لأن الله يحب التوابين الذين يكثرون من التوبة ، كلمة التوابين تدل على وقوع المعاصي بل على تكررها شريطة عدم الإصرار لأن المؤمن هو الذي إذا أحسن سرته حسنته وإذا أساء أساءته سيئته فبادر بالتوبة هذا هو المؤمن ليس من شرط الإيمان العصمة ، لا عصمة بعد الأنبياء .(21/41)
("ومن يطع الرسول فقد أطاع الله") الطاعة لله ولرسوله الطاعة المطلقة ، طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله بمعنى يجب على الإنسان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه ويصدق خبره دون أن يسأل فيم أمر هل هذا المأمور به موجود في الكتاب أم لا ، وإذا نهى دون أن يسأل هل هذا المنهي موجود في الكتاب أم لا إذ له الطاعة المطلقة عليه الصلاة والسلام الله منحه الطاعة المطلقة ، "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" نبهنا غير مرة نقلا من أهل العلم إعادة الفعل هنا يدل على الطاعة المطلقة "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" لذلك لم يعد مع طاعة أولى الأمر لأن أولي الأمر ليست لهم طاعة مطلقة طاعة مقيدة ما أطاعوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام .
(وقد قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)) ما هو هذا الإذن ؟(21/42)
الإذن الشرعي ، الإذن الشرعي الذي بمعنى التوفيق ((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)) ولو كان هذا الإذن إذنا كونيا ما بقي عاص على وجه الأرض ، أمر الله الناس جميعا بطاعة الرسل منهم من وفقه وامتثل أمر الله فأطاع أطاع الرسل بإذن الله الشرعي وبأمره وبتوفيقه ومن لم يسبق في علم الله تعالى بأنه يطيع لا يطيع لأن مضمون الإذن الشرعي وهو الإرادة الشرعية قد يتحقق وقد لا يتحقق ولكن مراد الإرادة الكونية لو أراد الله ذلك كونا لا يتخلف أبدا ، هذا الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية والإذن هنا بهذا المعنى بالإذن الشرعي ، سبق أن أشرنا للتفريق بين الإرادتين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية التفريق بينهما أمر مهم جدا ، قد تجتمعان – الإرادتان – في شخص تجتمع الإرادة الكونية والإرادة الشرعية في إيمان المؤمن وطاعة المطيع ، أراد الله أزلا أن أبا بكر يؤمن رضي الله عنه فأمره وأحب منه فآمن اجتمعت فيه الإرادة الكونية والإرادة الشرعية إيمانه مراد لله تعالى أزلا ، علم ذلك وكتب عنده فأمره ثم وفقه فآمن فأحب الله إيمانه فاجتمعت فيه الإرادة الشرعية والإرادة الكونية علم الله أزلا بأن أبا جهل لا يؤمن فيبقى على كفره فيموت كافرا انفردت الإرادة الكونية أي لم يقع منه ما وقع وهو الكفر والبقاء على الكفر والموت على الكفر إلا بإرادة الله الكونية وهو مأمور شرعا بأن يؤمن لكن تحققت فيه الإرادة الكونية وحدها هذا في كفر الكافر ومعصية العاصي ، فهل تنفرد الإرادة الدينية الشرعية ؟
قال بعضهم نعم في إيمان الكافر وطاعة العاصي لأن إيمان أبي جهل لو حصل إيمان مأمور به ومحبوب عند الله ولكنه لم يقع ، في هذه الصورة الفرضية تنفرد الإرادة الشرعية والله أعلم .(21/43)
(وقال سبحانه تعالى) البحث الآن في بيان العبادة وأنها الطاعة والإسلام ((إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) وقال تعالى (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)) لا ، استفهام إنكاري ، لم نجعل ذلك ، لا يستحقون العبادة – الرسل – وهم عبيد الله تعالى والعبد لا يعبد ، هم عبيد ورسل ، عبيد لا يعبدون ورسل يطاعون ولا يعصَون .
((وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)) جميع الرسل دعوا بهذه الدعوة دعوة واحدة .
((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى)) ما هو ذلك؟ ((أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)) كلهم أرسل بهذه الرسالة وبهذه الدعوة ، إقامة الدين وعدم التفرق في الدين ، إذن التفرق في الدين يخالف دين الرسل جميعا لأن دينهم واحد دينهم في الأصل واحد وإن كانت الشرائع قد تختلف ، إن الله سبحانه وتعالى حكمة منه جعل لكل نبي شرعة ومنهاجا ولكل أمة شرعة ومنهاج يسيرون عليها ، الشرائع الفروع تختلف حتى في شريعة واحدة ، كان التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة عبادة ودين وشرع نسخت هذه الشريعة بشريعة أخرى إذا كان في ملة واحدة وفي دين واحد قد تختلف الشرائع اختلافها بين الرسل أمر واضح لكن الأصل واحد ، بهذه المناسبة قوله تعالى ((ولا تتفرقوا فيه)) ينبغي الوقوف عند هذه الآية أن التفرق منهي عنه في جميع الملل في كل دين ، الوحدة مأمور بها في كل دين الوحدة والتوحيد وسلامة العقيدة والطاعة المطلقة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم التفرق لأن التفرق فتنة وضعف الاجتماع والوحدة قوة ورحمة .(21/44)
((كبر على المشركين ما تدعوهم اليه)(ياأيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وان هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)) أنا وحدي ربكم كلكم لا يوجد رب سواي يقول الله سبحانه وتعالى ((وأنا ربكم فاتقون)) هؤلاء كلهم مربوبون الأنبياء وأممهم رب العالمين المستحق للعبادة هو الله وحده .
(فأمر الرسل بإقامة الدين) دين الأنبياء واحد وهو الإسلام الاستسلام ، الاستسلام الذي يتنافى مع الاستكبار والاستسلام الذي يتنافى مع الإشراك من لم يستسلم كليا لله فهو مستكبر ومن استسلم استسلاما جزئيا بأن أشرك مع الله غير الله في هذا الاستسلام فهو مشرك إذن المسلم من هو ؟
المسلم من سلم من الاستكبار ومن الإشراك معا ، هذا هو المسلم .
(فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح (انا معاشر الأنبياء ديننا واحد) أصل الدين واحد لذلك الاختلاف المذموم في أصل الدين لا في الفروع ، اختلاف أهل العلم اختلاف وجهات نظرهم في المسائل الفرعية الفقهية التي هي مطرح الاجتهاد ليس بمذموم ولكن الاختلاف المذموم الاختلاف في أصل الدين ، ديننا واحد .
(والأنبياء أخوة لعلات وانا أولى الناس بابن مريم لأني ليس بينى وبينه نبى)) (والأنبياء أخوة لعلات) بمعنى شبههم بأبناء لضرات .. الأمهات مختلفة والأصل واحد الولد إنما ينتسب إلى الأب لا إلى الأم قد تكثر الأمهات والأب واحد أي أصل الدين واحد والفروع قد تختلف الاختلاف في الفروع غير ضار طالما الأصل الثابت محفوظ .
(وهذا الدين هو دين الإسلام الذى لا يقبل الله دينا غيره) لا يقبل الله إلا الاستسلام الكامل .(21/45)
(لا من الأولين ولا من الآخرين فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام) كما تقدم (قال تعالى عن نوح ( واتل عليهم نبأ نوح اذ قال لقومه يا قوم ان كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت) فعلى الله وحده توكلت (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم.. اقضوا إلي ولا تنظرون) تحد عظيم لأنه واثق في الله سبحانه وتعالى (ولا تنظرون) بدون انتظار وبدون مهلة افعلوا ما شئتم هكذا الإيمان وهكذا الثقة وهكذا التوكل على الله سبحانه .
(فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن اكون من المسلمين)) لتعرفوا مكانة الإسلام نوح يقول (وأمرت أن اكون من المسلمين) من المستسلمين استسلاما كاملا وبما أمرت به أمرتم أنتم أيضا ، آمركم بما أمرت به وهو الاستسلام .
((ومن يرغب عن ملة إبراهيم الا من سفه نفسه)) ملة إبراهيم هي التي عليها جميع الرسل .
(ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)) الإسلام والصلاح هذه صفات تلاحظون أن الله يصف الأنبياء بالإسلام والصلاح والتقوى صفات عظيمة لو كانت هناك صفات أعظم من هذه الصفات لوصف بها أنبياءه .
(اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) استسلمت له وانقدت انقيادا كاملا .
(ووصى بها إبراهين بينيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) وهو الدين الإسلامي لأن الدين عند الله الإسلام وقد تقدم أن قال فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام .(21/46)
(فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وقال موسى (وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا) دعوى الإيمان ليست بإيمان (إن كنتم آمنتم بالله) فعلا وحقا (فعليه توكلوا) قدم الفعل (فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين)) إن كنتم مسلمين حقل توكلوا على الله ، من صفات المؤمنين ومن صفات المسلمين التوكل على الله والاعتماد عليه اعتمادا كليا لا يقال (توكلت على الله ثم عليك) لا ، توكلت على الله وحده (ثم) هنا لا تأتي ، التوكل وهو الاعتماد القلبي لا يكون إلا على الله .
(وقال فى خبر المسيح (واذا أوحيت الى الحواريين) الأنصار ، أنصاره (أن آمنوا بى وبرسولى قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون) ) ترون الآيات كلها حول الإسلام لذلك يجب أن نفهم معنى الإسلام ونطبق الإسلام ولا نكتفي بالدعوى ، دعوى الإسلام شيء والإسلام شيء آخر ، الإسلام الموجود حاليا بين جمهور المسلمين إسلام رسمي والإسلام الذي يتحدث عنه الإسلام غير هذا الإسلام الرسمي ، الإسلام الرسمي تكفي فيه البطاقة والهوية لكن الإسلام الحقيقي لا ، ما تفيد هذه الهويات التي نحملها في جيوبنا ولكن الإسلام الحقيقي الاستسلام الكامل لله سبحانه وتعالى مع التوكل والاعتماد عليه والحب الصادق والتذلل الحقيقي لله تعالى وتعظيمه ، من تعظيم الله تعالى تعظيم شرعه هذا الشرع الذي أنزله الله فينا لنسير عليه إليه ، نسير على الشريعة إلى الله ، على ما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام وفهمه سلف هذه الأمة ، تعظيم هذه الشريعة وفهمها والسير عليه هذا هو الإسلام الحقيقي .
(وقال فيمن تقدم من الأنبياء (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) ) (الذين أسلموا) لاحظوا الإسلام كم تكرر هنا في هذه الآيات .
(وقال عن بلقيس أنها قالت (رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )) هكذا الإسلام ، يجب أن يفهم الإسلام بهذا المفهوم .(21/47)
((فالإسلام يتضمن الإستسلام لله وحده فمن إستسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والإستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده وهذا دين الإسلام الذى لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يطاع فى كل وقت بفعل ما أمر به فى ذلك الوقت فاذا أمر فى أول الأمر بإستقبال الصخرة ثم أمرنا ثانيا باستقبال الكعبة كان كل من الفعلين حين امر به داخلا فى دين الإسلام فالدين هو الطاعة والعبادة له فى الفعلين وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك فى شرعة الرسول الواحد))(21/48)
قال الشيخ رحمه الله موضحا ما تقدم وملخصا لذلك (معنى الإسلام) هذا عنوان لهذا المقطع الذي بين أيدينا ، معنى الإسلام (فالإسلام يتضمن الإستسلام لله وحده فمن إستسلم له) سبحانه وتعالى (ولغيره) معا (كان مشركا) يعبد الله ويعبد غير الله مع الله ، يعظم الله ويعظم غير الله مع الله ولو فسر ذلك التعظيم بأي تفسير إنما عظم فلانا لأنه من آل البيت إنما عظم فلانا لأنه من الصالحين ، تعظيم الصالحين من التوسل بهم ومن التبرك بهم ، كل هذه التفاصيل لا تجدي طالما استسلم لغير الله وعبد غير الله مع الله ، يجب أن نفهم معنى عبد غير الله مع الله ، ربما بعض الناس يحسبون يصلي لغير الله كما يصلي لله ، لا ، تقدم بيان معنى العبادة ، تذلل لغير الله وعظم غير الله وأحب غير الله مع الله هذه هي المشكلة الواقعة الآن عند جمهور المسلمين المنتسبين إلى الإسلام ، محبة غير الله مع الله لأن كثيرا من الناس لا يفرقون بين الحب في الله والحب مع الله ، بينهما فرق عظيم ، الحب في الله عبادة عظيمة وعمل عظيم عمل يتقرب به العبد إلى الله ويرجو أن يحشره الله مع من أحبه تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله ، الحب في الله ولله ، إذا أحب شخصا لله لما يظن فيه الخير والصلاح والتقوى أحبه لظنه بأن هذا الشخص يحب الله ترجع المحبة لله تعالى في هذه الصورة ، فرق بين هذا وبين من يحب شخصا كما يحب الله ويعظمه كما يعظم الله ويرجوه كما يرجو الله يرجوه في دنياه وفي آخرته يتوكل عليه في شفاعته أنه سوف يشفع له بل يرجوه في كل ملمة وفي كل مصيبة يدعوه يحبه ويعظمه ويتذلل له ربما وصل إلى درجة اعتقاد علم الغيب فيه خصوصا إذا كان تابعا له في طريقته لأن صاحب الطريقة يعتقد في شيخ الطريقة أنه يعلم الغيب ليس الغيب العام يعلم ما في صدور المريدين ولعل كثيرا من إخواننا الطيبين لا يعرفون المريدين ، من المريدون ؟ المريدون طلاب ، طلاب مشايخ الطرق الذين يعلمونهم كيف يعبدون المشايخ(21/49)
وكيف يتذللون لهم وكيف يتوكلون عليهم في شفاعتهم يوم القيامة هؤلاء يقال لهم المريدون ، إن كانوا طلاب صغار يقال لهم دراوشة درويش ، إن ترقى يصل إلى درجة المريد ثم الخليفة ثم يتخرج فيصير شيخا له أتباع كشيخه والتخرج عند الصوفية عزيز ليس بسهل .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (فمن إستسلم له) سبحانه (ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا) اكتفى من الإسلام بالنسبة لله تعالى بالهوية كما قلنا بالإسلام الرسمي لا يعبده بشيء لا يفعل شيئا لله تعالى ولكن العبادة كلها والرجاء والتوكل والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لغير الله ، ما الذي لله ؟
الانتساب إلى دينه مجرد انتساب .
يقول الشيخ رحمه الله تعالى (ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر) المشرك به الشرك الأكبر كما تقدم بالتذلل والتعظيم والذبح والنذر والاستغاثة وغير ذلك بخلاف الشرك الأصغر المشرك بالشرك الأصغر إذا أطلق الكفر لا يدخل فيه لأن كفره كفر عملي ليس اعتقادي وكفر دون كفر ، في مثل هذا المقام إذا قيل (ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر) المراد الشرك الأكبر انتبهوا لهذا ، الشرك الأصغر كيسير الرياء والحلف بغير الله ما لم تقترن بالحلف علامات ترفعه إلى درجة الشرك الأكبر هذه الأمور من الشرك الأصغر ، يجب دراسة كتاب التوحيد لتحقيق هذا المقام .
(والإستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده) هذا معنى الاسلام ومعنى الاستسلام ، الاستسلام لله تعالى واحده يتضمن عبادته وحده بجميع أنواعها وطاعته وحده إلا من أوجب الله طاعته وجعل طاعته من طاعته وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس هناك أحد طاعته من طاعة الله تعالى إلا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام .(21/50)
(وهذا دين الإسلام الذى لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يطاع) الرب سبحانه وتعالى (فى كل وقت بفعل ما أمر به فى ذلك الوقت) وإن كان ذلك الفعل ينتهي لكن قبل أن يتهي وقبل أن ينسخ يعبد العبد ربه بذلك الفعل في ذلك الوقت عبادة وإسلام .
(فاذا أمر فى أول الأمر بإستقبال الصخرة) استقبال بيت المقدس (ثم أمر ثانيا باستقبال الكعبة كان كل من الفعلين) كل من الاستقبالين (حين امر به داخلا فى دين الإسلام) لأنه إنما استقبل المسلمون بيت المقدس لأنه إسلام مستسلمين لله ولما حولهم إلى الكعبة استقبلوا مستسلمين لله ، إذن (فالدين هو الطاعة) والقوم مطيعون في الحالتين والمسلمون مطيعون في الحالتين .
(فالدين هو الطاعة والعبادة له فى الفعلين) في الوقتين في الاستقبالين في هذه الصورة مثلا .
(وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى) وإلا العمل هو هو لأنه الاستسلام (فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجهة والمنسك فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك فى شريعة الرسول الواحد) وهو محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام كما تقدمت الإشارة .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ...(21/51)
((والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال الله تعالى ( واذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين) قال ابن عباس لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمتة لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى ( وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وجعل الإيمان بهم متلازما وكفر من قال إنه أمن ببعض وكفر ببعض قال الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا ) وقال تعالى ( افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) وقد قال لنا ( قولوا أمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل الى إبراهيم وإسمعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن أمنوا بمثل ما آمنتم به فقد إهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )(21/52)
فأمرنا ان نقول أمنا بهذا كله ونحن له مسلمون فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا بل يكون كافرا وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين ) قالت اليهود والنصارى فنحن مسلمون فأنزل الله تعالى ( ولله على الناس حج البيت لمن إستطاع اليه سبيلا فقالوا لا نحج فقال تعالى ( ومن كفر فان الله غنى عن العالمين ) فإن الإستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بماله على عباده من حج البيت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ) ولهذا لما وقف النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به) هذا دين الرسل جعل الله دين الرسل هكذا لأنهم كما تقدم اخوة لعلات أصل دينهم واحد وإن اختلفت الفروع والشرائع لذلك جعل الرب سبحانه وتعالى من دين الرسل أول الرسل (يبشر بآخرهم ويؤمن به) لأنهم كلهم رسل الله ودين الله واحد (وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به) هكذا سلسلة متصلة من مصدر واحد .(21/53)
(قال تعالى ( واذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصرى) الإصر في الأصل الثقل والمراد هنا العهد لأن العهد ثقيل (قالوا أقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين)) يقول ابن عباس في تفسير الآية وهو قول من أقوال أهل العلم في الآية ، في الآية أقوال ومن أراد الإطلاع على أقوال أهل العلم عليه أن يرجع إلى التفاسير (لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق) أخذ عليه العهد والميثاق (لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه) ذلك النبي وهذا مما استدل به على موت الخضر على القول بأنه نبي ولعله هو الراجح لو كان حيا لما وسعه إلا أن يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويؤمن به ويتبعه .
(وأمره أن يأخذ الميثاق) أيضا (على أمتة لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) هكذا أخذ العهد عليهم على الأنبياء وعلى أتباع الأنبياء ليؤمنوا بهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وينصرونه ويتبعون شرعه .
(قال الله تعالى ( وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب) المراد بالكتاب الكتب لأنه (أل) للجنس (ومهيمنا عليه) الكتاب الذي أنزلناه إليك مهيمن على تلك الكتب (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)) هذا رحمة من الله بعد أن وحد الدين في أصله جعل لكل نبي ولكل أمة شرعة ومنهاجا ، منهاجا يناسب حياتهم وعصورهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم .
(وجعل الإيمان) هذا بحث آخر ، تلازم الإيمان بالرسل وهي مسألة مهمة (وجعل) الله (الإيمان بهم متلازما) أي لو كفر أحد من الناس بنبي واحد من الأنبياء لزم من ذلك كفره بالجميع لا ينفعه إيمانه بالرسل الآخرين لو كفر برسول واحد ، هذا معنى التلازم .(21/54)
(جعل الإيمان بهم متلازما وكفّر من قال إنه آمن ببعض وكفر ببعض) لا يجدي لا بد من الإيمان بالجميع (قال تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا)) تأكيد ليس بعده تأكيد (أولئك) فيه حصر (أولئك) مبتدأ والضمير الثاني هو المبتدأ الثاني أيضا على رأي (الكافرون) خبر للمبتدأ الثاني ، المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول ، هذا من أقوى أساليب الحصر والقصر أي تعريف جزأي الإسناد (أولئك) الموصوفون بما تقدم (هم الكافرون) كأنه يقول هم الكافرون وحدهم ، كفر غيرهم كلاشيء بالنسبة لكفرهم وأكد ذلك بقوله (حقا) (أولئك هم الكافرون حقا) (حقا) تأكيد للحصر والقصر المستفاد من تعريف جزأي الاسناد أي تعريف المبتدأ والخبر .. في قوله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) الكفر برسول واحد يعتبر الكفر بجميع الرسل ، يستفاد من الأسلوب هكذا ولذلك قال (أولئك هم الكافرون حقا) .(21/55)
ثم قال ((افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) من آمن بكتاب من آمن بالقرآن ولم يؤمن بكتاب من الكتب السماوية الأخرى ليس بمؤمن بالقرآن لا يفيده الإيمان بالقرآن ، الكتب السماوية المعروفة من التوراة والإنجيل والزبور يجب الإيمان بها وأنها من كلام الله تعالى ومنزلة من عند الله وإذا كانت هناك صحف غير معروفة يؤمن بها في الجملة أما كل ما عرف أنه منزل من عند الله تعالى يجب الإيمان به ، الفرق بين الإيمان بالقرآن وبين الإيمان بالكتب السابقة الإيمان بالقرآن لا يكفي مجرد التصديق وأنه من عند الله فقط ، لا ، لا بد من العمل به وتطبيق شرعه وتطبيق عقيدته واعتباره كتاب عقيدة وشريعة وأحكام وسياسة واقتصاد وأخلاق كتاب كل شيء ، بالنسبة للكتب السابقة يكفي أن تؤمن بأنها من عند الله ، ما وافق منها شرع الله في هذا الكتاب آمنا به وعملنا به لكونه موافقا لشرعنا الجديد المهيمن على تلك الشرائع وإلا فلا يجب البحث عنها للعمل بها – الكتب السماوية السابقة – وإن كانت كلها من عند الله لأنها نسخت هذا هو الفرق بين الإيمان بالقرآن وبين الإيمان بالكتب السابقة وكذلك الإيمان بالرسل ، الرسل يجب تصديقهم كلهم والإيمان بأنهم من رسل الله وأنهم بلغوا الرسالة وأنهم معصومون فيما يبلغون عن الله لكن هل يجب اتباعهم ؟
لا ، الاتباع لهذا النبي الكريم خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام هم أنفسهم لو أدركوا هذا النبي عليه الصلاة والسلام لا يسعهم إلا اتباعه " لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي" كل الرسل لو أدركوا هذا النبي الكريم لا يسعهم إلا اتباعه ، إذن لا يجب علينا اتباعهم بل يجب علينا تصديقهم وأنهم رسل الله ، لذلك يجب التفريق بين الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام وبين الإيمان بالرسل السابقين كذلك يجب التفريق بين الإيمان بالقرآن وبين الإيمان بالكتب السابقة بما أشرنا إليه .(21/56)
(افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى فى الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب) هذا الذي أصاب اليهود من الخزي لما كفروا بهذا الكتاب (وما الله بغافل عما تعملون)) ومثل هذا الإنذار إنذار فيه إبهام والإبهام يدل على التفخيم والتعظيم (وما الله بغافل عما تعملون) لم يقل أنه يجازيهم بكذا وكذا وهذا الإبهام أسلوب من أساليب تفخيم العذاب وتفخيم الجزاء وتعظيمه .
(وقد قال لنا ( قولوا أمنا بالله وما أنزل الينا) وهو القرآن (وما أنزل الى إبراهيم) أبي الأنبياء (وإسمعيل واسحق ويعقوب والأسباط) الأسباط أحفاد يعقوب (وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) مسلمون لله سبحانه وتعالى طالما أسلمنا لله واستسلمنا يجب أن نؤمن برسله جميعا ويجب أن نؤمن بكتبه جميعا (فإن أمنوا بمثل ما آمنتم به فقد إهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)) أنجز الله لنبيه عليه الصلاة والسلام هذا الوعد ، كفاهم شر بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع كفاه الله شر هؤلاء اليهود تنفيذا لهذا الوعد (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) .
(فأمرنا ان نقول أمنا بهذا كله ونحن له مسلمون) لله سبحانه وتعالى ، ثم هنا بحث آخر كفر من بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقر بها ، من بلغته رسالة محمد يهوديا كان أو نصرانيا أو مجوسيا أو على أي ملة كان فلم يتبعه لذلك قال (فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا بل يكون كافرا وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن) أي مجرد الانتساب لا يكفي لا بد من إقرار هذه الرسالة واتباعها وتجريد المتابعة لصاحبها بهذا يكون الإنسان مسلما ومؤمنا سيأتي التفصيل أو التفريق بين الإسلام والإيمان هل هما شيء واحد أم لا سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله .(21/57)
(كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى) إشارة إلى ذكر سبب نزول الآية ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين) ) (ومن يبتغ غير الإسلام) الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الاتباع لهذا الإسلام اتباع لجميع الإسلام الإسلام الذي جاءت به الرسل لأنه مهيمن على ذلك كله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين) لما نزلت هذه الآية (قالت اليهود والنصارى فنحن مسلمون فأنزل الله تعالى (ولله على الناس حج البيت لمن إستطاع اليه سبيلا)) هذه الآية اختلف أهل العلم في تاريخ نزولها هل هي في السنة السادسة أو في السنة التاسعة ، الذي يرجحه كثير من المحققين أنها نزلت في السنة التاسعة ولذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم من يحضر الحج وفدا إلى الحج ليطهروا المسجد الحرام والكعبة وليهيؤا جوا مناسبة لحجة الوداع فحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة (ولله على الناس حج البيت لمن إستطاع اليه سبيلا) لما نزلت الآية (فقالوا لا نحج) عنادا منهم (فقال تعالى (ومن كفر فان الله غنى عن العالمين)) إن كفرتم برفضكم الحج فإن الله غني عن العالمين ليس بحاجة إليكم وأنتم المحتاجون .. (فقالوا لا نحج تعالى (ومن كفر) برفضه وإنكاره للحج وإن كان اللفظ عاما لكن المراد بالكفر هنا كما يدل السبب رفضهم للحج ولكن يقال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أي من كفر أي كفر وبأي شيء أنزل الله وشرع (ومن كفر فان الله غنى عن العالمين) فإن الإستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بماله على عباده) وهو حقوق الله تعالى أي حق الله تعالى على عباده بما في ذلك من الحج وغير الحج والحج يدخل دخولا أوليا نظرا لسبب النزول (كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت)) هذا بناء الإسلام(21/58)
بني الإسلام على هذا ، ومن كفر بأي بنية من بنية الإسلام فهو كافر بجميع الإسلام أي من جحد وجوب الحج كفر ولو صلى وصام وهذه البنية كلها لم يرد نص صحيح أن مجرد تركه كفر بعد الشهادتين إلا الصلاة أي إن الصيام والزكاة والحج مجرد الترك لا يكون كفرا إذا كان الإنسان معترفا بالوجوب ، ولم يرد التصريح بأن تركه كفر من هذه الأعمال بعد الشهادتين إلا الصلاة ، أما الصلاة فقد قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" كثير من الناس يتساهلون بترك الصلاة وقد يفعلون فعلا لا يمكن أن يتصوره العاقل بأن مسلما يفعله في هذا الوقت كأن يضبط الشاب الموظف ساعته من الليل آخر الليل عندما يأتي للنوم بعد سهر طويل يضبطها على الساعة 7 بداية الدوام في كل يوم يتعمد ترك صلاة الصبح لا يقوم إلا الساعة السابعة فإذا قام الساعة السابعة فإلى العمل ، الدوام يدوم ويداوم على الدوام ولا يداوم على أداء الصلاة ، بم تحكمون على من وصل به الترف والجهل إلى هذه الدرجة ؟ شاب مسلم يضبط ساعته يوميا أو في كل ليلة على هذه الساعة الساعة السابعة ليحضر الدوام ولا يتخلف إذا قام من النوم إن شاء صلى وإن شاء ترك فذهب ليصلي مع الظهر فهل هذا مسلم ؟ فهل هذا العمل كفر أو إسلام ؟(21/59)
إذا أخذنا بظاهر الحديث فهو كفر ، كفر بواح ، لكن هنا مسألة ينبغي التنبيه عليها : إن بعض الفقهاء يرون أن ترك الصلاة بدون جحود كفر عملي كفر دون كفر وربما شاع هذا بين الناس بين العوام لأنه موافق لهواهم يعتقدون بأن ترك الصلاة لا يكون كفرا ما لم يجحد وجوبها ، إنما هو كبيرة من الكبائر وكفر عملي كفر دون كفر ، إن نفعته أو شفعت له هذه الشبهة التي استقرت عنده وإلا فهذا العمل كفر ، كفر بواح ، لأنه تعمد وتكرر منه ذلك ، لو حصل مرة واحدة الأمر أخف وأيسر ولكن كون الإنسان يتخذ هذه عادة يوميا هذا أمر خطير جدا على إيمان من يفعل ذلك ، وعلى كل ترك الصلاة ليس كترك الصيام ولا كترك الزكاة ولا كترك الحج بل أمر خطير جدا عند علماء الحديث يتفقون أن تركها كفر ولو لم يجحد وجوبها وإن كان الجمهور على أن الترك بهذه الصورة كفر عملي أي كفر دون كفر ولا يكون كفرا بواحا ، ولكن العقل هل يرضى لنفسه أن يكون إيمانه محل أخذ ورد بين أهل العلم ؟ : هل زيد من الناس كافر أو مسلم ؟ من الذي يرضى لنفسه هذا الموقف ؟ أن يختلف فيك الناس هل أنت مسلم أو كافر ، إذن ينبغي أن ينصح الإنسان لنفسه قبل كل شيء .
فلنكتفي بهذا المقدار، لنجيب على بعض الأسئلة المهمة .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
السؤال الذي وصفته بأنه مهم هو هذا والأسئلة الأخرى تابعة في آخر هذا الدرس فلنجب على بعض الأسئلة منها هذا السؤال ، يقول السائل : ما الفائدة من اصطلاح هذه المصطلحات إرادة شرعية ، إرادة كونية ؟(21/60)
يعني هكذا بكل سهولة يقال (من جهل شيئا عاداه) يرى أن هذا اصطلاح عادي سهل ولا يدرك : يتوقف على التفريق بين الإرادتين أن تفرق بين ما يرضاه الله ويحبه وبين ما يكرهه ويبغضه ، من لم يفرق بين الإرادتين كالأشاعرة يبقى في تخبط دائما في الباب الخطير ، لا يستطيع أن يفرق بين ما يحبه الله وبين ما يرضاه وما يكرهه ويبغضه ، كيف تفرق إن لم تفرق بين الإرادتين ؟ كيف تفهم الآيتين ؟ "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" ما معنى الإرادة في هذه الآية ؟ وهل الإرادة في هذه الآية كالإرادة في قوله تعالى "إن كان الله يريد أن يغويكم" وهل هذه الإرادة كهذه ؟ إن لم تفرق بين هاتين الإرادتين لست بطالب علم بل لست بطالب حق بل لست فاهما ..
الشريط السادس والعشرون :(21/61)
يعني هكذا بكل سهولة يقال (من جهل شيئا عاداه) يرى أن هذا اصطلاح عادي سهل ولا يدرك : يتوقف على التفريق بين الإرادتين أن تفرق بين ما يرضاه الله ويحبه وبين ما يكرهه ويبغضه ، من لم يفرق بين الإرادتين كالأشاعرة يبقى في تخبط دائما في الباب الخطير ، لا يستطيع أن يفرق بين ما يحبه الله وبين ما يرضاه وما يكرهه ويبغضه ، كيف تفرق إن لم تفرق بين الإرادتين ؟ كيف تفهم الآيتين ؟ "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" ما معنى الإرادة في هذه الآية ؟ وهل الإرادة في هذه الآية كالإرادة في قوله تعالى "إن كان الله يريد أن يغويكم" وهل هذه الإرادة كهذه ؟ إن لم تفرق بين هاتين الإرادتين لست بطالب علم بل لست بطالب حق بل لست فاهما بين ما يحبه الله كما قلنا وبين ما يكرهه ، في قوله تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" الإرادة هنا إرادة شرعية ، إذا أردت أن تفهم اجعل بدل الإرادة المحبة "يريد الله بكم" أي يحب الله لكم اليسر ولا يحب لكم العسر ، يحب لكم ذلك ، الإرادة الشرعية بمعنى المحبة أمر يحبه الله ويأمر به الله يحب الإيمان ويأمر بالإيمان ، يحب الطاعة ويأمر بالطاعة فإرادته للإيمان والعمل الصالح إرادة شرعية تستلزم الأمر والمحبة ، افهم هكذا جيدا ، أما الإرادة الكونية بمعنى المشيئة العامة ، يرد الله بالإرادة الكونية كل شيء أي يشاء ، يشاء الله الكفر ، لا يقع الكفر في مملكته إلا بمشيئته وهي معنى الإرادة الكونية والمعاصي تقع بمشيئته وهي بمعنى الإرادة الكونية "إن كان الله يريد أن يغويكم" هل تستطيع أن تقول إن كان الله يحب أن يغويكم ؟ لا ، لن تستطيع لأن الله لا يحب الإغواء ولا يحب الفحشاء ولا يحب المعاصي لا يحب الكفر والمعاصي ولكن يشاء ولكن يريد ذلك بمعنى يشاء ، أي وقع كل ما وقع وسيقع كل ما سيقع من كفر ومعصية وضلال بعلم الله السابق وكتابه السابق ومشيئته العامة ، لله حكمة في أنه سبحانه وتعالى قدر الكفر(21/62)
والمعاصي والمخالفات والضلال ، علم وقوع ذلك وكتب عنده وقدر وعلم من يقع منه كل ذلك وكيف يقع ومتى يقع وفي أي لحظة ومن يبقى على ذلك ومن يتوب ، كل ذلك معلوم عند الله تعالى ، هذه من مراتب القدر التي درسناها قبل أيام ، تفريقك بين الإرادتين يجعلك تفقه عن الله سبحانه وتعالى في هذا الباب العظيم وتفرق بين مرضاته وبين مشيئته أي بين ما يشاؤه كونا وأزلا ، ولا يلزم من المشيئة المحبة ، تكفي هذه الإشارة وأحيل – إن كان السائل طالب علم – على المصادر ممكن أن ترجع إلى شفاء العليل للعلامة ابن القيم ومجلد خاص في باب القضاء والقدر لشيخه شيخ الإسلام في المجموع ، ولعل أقرب من هذا كله شرح صغير لقصيدة شيخ الإسلام هذا الشرح صغير ومفيد جدا للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي ولعل الاسم الدرة البهية على قصيدة شيخ الإسلام ابن تيمية في القضاء والقدر ، هذا الباب يجب على طلاب العلم دراسته دراسة فاحصة لئلا يرتبكوا كما تورطت واضطربت الأشاعرة في هذا الباب ولا يزالون مضطربين لعدم تفريقهم بين الإرادتين ، إن كان هذا السائل من الذين تأثروا بكتب هؤلاء عليه أن ينتقل إلى كتب غيرهم ولو من باب المقارنة ليدرس كتبهم والكتب الأخرى التي ألفت على منهج السلف الصالح ليفرق بين الأمرين ويكون على يقين في دينه وفي عقيدته .
وبالله التوفيق .(21/63)
((وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا وهو نزاع لفظى فإن الإسلام الخاص الذى بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا من الأنبياء فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبى من الأنبياء ورأس الإسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل كما قال تعالى ( ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقال تعالى عن الخليل ( واذ قال إبراهيم لأبيه وقومه اننى براء مما تعبدون إلا الذى فطرنى فانه سيهدين وجعلها كلمة باقية فى عقبة لعلهم يرجعون ) وقال تعالى عنه ( قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين ) وقال تعالى ( قد كانت لكم أسوةحسنة فى ابراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله ) وقال تعالى ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) وذكر عن رسله كنوح وهود وصالح وغيرهم انهم قالوا لقومهم ( اعبدوا الله ما لكم من اله غيره ) وقال عن أهل الكهف ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم اذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه الها لقد قلنا اذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) وقد قال سبحانه وتعالى ( ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ذكر سبحانه ذلك فى موضعين من كتابه))(21/64)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (فإن الإستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بماله على عباده من حج البيت) إلى آخره ، إن الاستسلام لله تعالى لا يتم إلا بالإقرار بما لله تعالى على العباد ، لله على العباد حقوق لابد من الاستسلام والاستسلام يستلزم أولا عدم الإنكار والجحود وثانيا العمل والتطبيق .
(من حج بيت الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) (شهادة أن لا إله إلا الله) أولا من حيث النطق والتلفظ باللفظ العربي ولا بد من التلفظ بهذه الكلمة كلمة الإسلام كلمة الإيمان مفتاح الجنة لا بد من التلفظ بها باللغة العربية ولو كان المسلم غير عربي ولو كان لا يفهم معناها يجب أن تترجم له هذه الجملة أو هذه الكلمة ولا يكفي التلفظ بغير اللغة العربية وبعد التلفظ لا بد من معرفة معناها ، معناها الحقيقي الذي فهمه المسلمون الأولون والكلمة في توحيد العبادة وليست في توحيد الربوبية ولا يجوز تفسيرها بتوحيد الربوبية لا يجدي تفسير لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله لا رازق إلا الله لا مانع ولا معطي إلا الله هذه توحيد الربوبية وليس معنى لا إله إلا الله وهو توحيد لم يجحده أحد قط إلا من تعمد وعاند ، بعد هذا لا بد من التحفظ من الوقوع في نواقض لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله كما قلنا كلمة الإسلام للإسلام نواقض كنواقض الوضوء فإذا كان المسلم يجب عليه أن يعرف نواقض الوضوء لئلا ينتقض وضوؤه فيصلي بغير وضوء كذلك يجب عليه أن يعرف نواقض الإسلام ، للإسلام نواقض وقد تقدم دراسة هذه النواقض هذه الأيام مع الشباب ولعل شبابنا حفظوا تلك النواقض ، إذن لا بد من معرفة معناها والعمل بمقتضاها وعدم الإتيان بنواقضها ، هذه لا إله إلا الله .(21/65)
(وأن محمدا رسول الله) بعد التلفظ بهذه الكلمة أيضا لابد من معرفة معناها وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كرر الإنسان هاتين الجملتين وهما كجملة واحدة لا إله إلا الله محمد رسول الله لم يخلص العبادة لله تعالى ولم يجرد المتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام بل اعتقد أن هناك من يجب اتباعه وطاعته ، لا يوجد بشر تجب طاعته ومتابعته غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اعتقاد وجوب تقليد إمام من الأئمة أو اتباع مذهب من المذاهب يتنافى مع تجريد المتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام لذلك هذه جريمة يقع فيها كثير من المتعصبين إذ لم يوجب الرب سبحانه وتعالى طاعة أحد غير طاعة محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وما يقوله بعض الناس :
وواجب تقليد حبر منهمُ ... كذا حكى القول بلفظ يُفهَمُ
هذا كلام باطل لا يجوز اعتقاد وجوب تقليد أحد الأئمة الأربعة ولا غيرهم بل لا يجوز التعصب لمذهب معين بدعوى أن تقليد أحد منهم واجب وهذا يتنافى مع قولك أشهد أن محمدا رسول الله .
ثم بعد الشهادتين (إقام الصلاة) الصلاة الشرعية لا الصلاة التقليدية ، الصلاة الشرعية المحمدية التي يلاحظ فيها تطبيق صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام والصلاة التقليدية التي هي مجرد حركات وسكنات لا تجدي وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أوجب الله عليه الصلاة بين يدي الصحابة فقال لهم "صلوا كما رأيتموني أصلي" وحكم على من نقر صلاته أو على من نقر في صلاته حكم عليه بأنه لم يصلي من لم يطمئن في صلاته فإنه لم يصلي حكمه حكم تارك الصلاة إذن الصلاة التي بني عليها الإسلام الصلاة المحمدية التي تطبق فيها صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام .(21/66)
بعد ذلك (إيتاء الزكاة) لا بد من أدائها إلى أصحابها وقد بين الله أصحابها في كتابه فلم يترك الناس ليختلفوا من الذي يستحق الزكاة لذلك يجب على المزكي أن يتأكد بأنه أعطى زكاته للمستحقين ، ومن التساهل جدا صرف الزكاة أو صرف الصدقات في تلك الصناديق المنتشرة في الشوارع والمساجد وفي أماكن كثيرة صناديق مجهولة ولا يدري المنفق هل نفقته تصل إلى من يريد الإنفاق عليه أم لا ، من التساهل الذي لا ينبغي أن تضع مالك في تلك الصناديق وأنت لا تدري هل هي تصل إلى المستحقين أم لا يجب الحرص على إيصال صدقتك إلى أصحابها .
ثم (صوم رمضان) يلاحظ فيه معنيين اثنين عظيمين "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" لا يكون الصيام مجرد عادة وإمساك بدون إيمان واحتساب ، الأمر الثاني أن يتجنب القول الزور والكذب والغيبة لأن هذه الأشياء عند كثير من أهل العلم من مبطلات الصيام أنها تفطر وتبطل الصيام وإن كان ذلك على خلاف قول الجمهور .(21/67)
(وحج) بيت الله الحرام كما حج النبي صلى الله عليه وسلم وحث على ذلك وبين وقال "خذوا عني مناسككم" لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام إلا حجة واحدة وهي حجة الوادع بين في هذه الحجة جميع أعمال الحج وكان يقول في كل مناسبة "حذوا عني مناسككم" وبكثرة احتكاكنا بالحجاج أدركنا أن الحجاج بالمفهوم الصحيح عدد قليل جدا ما أكثر من يحج وما أقل الحجاج لذلك نصيحة منا للمسلمين فريضة الحج قد لا تؤدى عند كثير من المسلمين على الوجه المطلوب ، أولا من الإيمان برسول الله عليه الصلاة والسلام أن يتعلم الإنسان ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ليعمله ، أما كونك لا تتعلم صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ولا تتعلم الحج لا تعلم أركان الحج واجبات الحج شروط الحج وما يفسد الحج تأتي فقط إلى هذا البلد إذا جاء الموسم المعروف تأتي مع الناس وبعد أن يتخبط الحاج يمينا ويسارا يأتي يسأل بعد فراغ الحج إني فعلت كذا وكذا وما الحكم ولا تزال الأسئلة ترد إلى يومنا هذا أن فلانا من أصحابنا سافر إلى بلده ولم يطف طواف الإفاضة ، ما حكم طواف الإفاضة ؟ من حج جاء من قطر بعيد وحج في زعمه ثم ترك طواف الإفاضة ورجع إلى بلده ، هل حج ؟
لم يحج ، إن تداركه الله برحمته فلم يجامع إلى هذه اللحظة فبادر فرجع فطاف طواف الإفاضة تم حجة فإن جامع بطل حجه فوجبت عليه بدنة ووجب عليه القضاء وهذا كثير وكثير جدا هذه الأيام نسأل مثل هذه الأسئلة ولاحظتم كل من حج منكم ما يفعله الحجاج في عرفة في تلك الأمسية العظيمة التي يدنو فيها رب العالمين إلى حجاج بيته الواقفين في عرفة ، الواقفين بعرفة فقط كما يليق به دون أن يشمل ذلك الدنو الناس الموجودين بمزدلفة مثلا وفي مكة وما حول منى وما حول عرفة فقط يدنو رب العالمين كما يليق به إلى حجاج بيته الحرام عشية يوم عرفة فيباهي بهم ملائكته ، في هذه الأمسية أنتم تلاحظون جمهور الحجاج ماذا يفعلون ؟(21/68)
ينشطون في صعود الجبل والنزول من الجبل حتى تغرب الشمس قبل أن يقف الإنسان وقفة يستغفر فيها ويراجع فيها صفحات أعماله ويبكي على ذنوبه ويتضرع إلى الله فإذا هو يقضي أو كثير منهم يقضون تلك الأمسية في صعود الجبل الذي سمي أخيرا جبل الرحمة وهو اسمه جبل إلال على وزن هلال وهذا الاسم جبل الرحمة هو الذي خدع الناس والناس تحسب أن تلك الرحمة في تلك اللحظة وفي ذلك اليوم تنصب على ذلك الجبل فقط والجبل جزء من عرفة ليس له مزية على سائر البقاع ولكن أصبح اليوم صعود ذلك الجبل محنة للحجاج ومفسدة لحجهم في الغالب الكثير حيث يصعدون ويجدون هناك آثار قديمة للمحراب القديم والأعمدة القديمة يتمسحون بهذه الأعمدة ويصلون في تلك المحاريب ويقضون تلك الأمسية في أعمال مبتدعة وفي أعمال ما أنزل الله بها من سلطان ثم بعد ذلك ينزل فيبحث بعضهم عن الجمل وعن المصور فيركب الجمل وهو واقف تحت جبل الرحمة فيسلط المصور على نفسه فيصوره وهو راكب فوق الجمل فيأخذ صورة مكبرة فيحملها إلى بلده فيعلقها في المجلس مكتوب تحته الحاج غضنفر ، هذا الحج ، وهل هذا هو الحج هل هذا هو الحج المشروع ، إذن فنحن بحاجة إلى أن ننصح إخواننا المسلمين ليتعلموا دينهم ، تعلم الدين يتوقف على ذلك الاستسلام لدين الله ولشرع الله والعمل بشريعة الله تعالى هذا هو الإسلام.(21/69)
(ولهذا لما وقف النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى عليه ( اليوم أكملت لكم دينكم) الدين الذي أنزله الله الذي يبدأ من شهادة أن لا إله إلا الله ثم يشمل جميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام أكمله الله في ذلك اليوم (وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)) (رضيت لكم الإسلام دينا) الاستسلام لله في كل شيء رضي الله لنا ذلك دينا إذن لا بد من الاستسلام والاستسلام يتوقف على التعلم ، العلم قبل القول والعمل لا بد من تعلم هذه الكلمة العظيمة بمعرفة معناها بعد التلفظ بها والعمل بمقتضاها وتجنب نواقضها ثم تعلم أركان الإسلام على الوجه الذي أشرنا إليه وتطبيق ذلك هو الإسلام وهو الدين .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا) أتباع موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا ؟
يقول الشيخ رحمه الله (وهو نزاع لفظى فإن الإسلام الخاص الذى بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم) لذلك قلنا فيما تقدم إذا أطلق الإسلام ينصرف إلى هذا الدين حيث أصبح علما بالغلبة على هذا الدين الذي نحن عليه .
(والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا) فقط ، إذا أطلق الإسلام اليوم إنما يتناول الدين الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام المتضمن لشريعة القرآن .
(وأما الإسلام العام) إذن الإسلام إسلام خاص وإسلام عام ، الإسلام الخاص هو الإسلام الذي نحن عليه بتوفيق الله تعالى (وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا من الأنبياء فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبى من الأنبياء) حيث يجب عليهم الاتباع وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أما بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام لا يسعهم إلا اتباع محمد عليه الصلاة والسلام ولا يجوز اتباع أي دين وأي ملة بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام .(21/70)
ثم قال الشيخ رحمه الله (ورأس الإسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله) فإذا أطلقت هذه الشهادة وذكرت وحدها هكذا فهي متضمنة شهادة أن محمدا رسول الله ، ضرورة أن شهادة لا إله إلا الله وحدها ولا تنفع إلا بضميمة شهادة أن محمدا رسول الله ولو لم تذكر ، هذا معلوم من الدين بالضرورة إذا قيل رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله أي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بهذا تتم الشهادة هما كلمتان ككلمة واحدة شهادتان كشهادة واحدة كالروح والجسد لا يفترقان أبدا .
(وبها بعث جميع الرسل) جميع الرسل أرسلوا بلا إله إلا الله كما أخذ عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين يبعث وأن يحثوا قومهم أن يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام .
(قال تعالى (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) والآية كما ترون معنى لا إله إلا الله من الآيات التي تفسر لا إله إلا الله وإن كان يحصل هنا التقديم والتأخير من حيث الترتيب لأن لا إله إلا الله تبدأ بالنفي والكفر وتختم بالإيمان ، ما هي أشبه آية بلا إله إلا الله حتى من حيث اللفظ والترتيب ما هي ؟(21/71)
" فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" أشبه آية بلا إله إلا الله وأوضح تفسير للا إله إلا الله هذه الآية بدأت بالكفر وختمت بالإيمان كذلك لا إله إلا الله أولها كفر وآخرها إيمان كفر بكل ما يعبد ومن يعبد من دون الله وإيمان بالله لو آمن الإنسان بالله تعالى ولم يكفر بما يعبد وبمن يعبد من دونه ما نفعه ذلك الإيمان إذن لا بد من الكفر والإيمان معا بل لا بد من تقديم الكفر على الإيمان كما يقال التخلية قبل التحلية أولا تكفر بكل ما يعبد من دون الله ومن يعبد من دون الله وتؤمن بالله وتعبد الله مخلصا له الدين ، (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) الطاغوت مأخوذ من الطغيان ، الطغيان مجاوزة الحد ، الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، ليس في شعائر العبادة فقط ، في كل شيء في شعائر العبادة في توحيد الطاعة والمتابعة بل هذا الأخير هو الذي يقع كثيرا أي الاشراك بالله تعالى في توحيد الطاعة والمتابعة هو أكثر وقوعا اليوم ، إذا كان الاشراك بالله تعالى في شعائر العبادة يقع من الجهال وأمثال الجهال وأتباع المتصوفة المخدوعين فإن الاشراك بالله تعالى في توحيد الطاعة والمتابعة يقع من المثقفين من الدكاترة الذين يتخرجون من كليات الحقوق ، يوظفون ليشرعوا فيطلق عليهم رجال التشريع هل يجوز في الاسلام تسمية الشخص أنه رجل تشريع ؟ التشريع لله وحده لا يجوز أن تقول فلان من رجال التشريع ماذا يشرع ؟ في الاسلام لا يوجد هيئة تشريعية أو لجنة تشريعة أو سلطة تشريعية لا يجوز في الاسلام أبدا ، إيجاد سلطة تشريعية تشرع من الله أو تشرع من دون الله من دون شرع الله إشراك بالله تعالى وكفر به وكفر بشريعته لأن من آمن بتشريع غير تشريع الله تعالى لا بد إنه اعتقد في تشريع الله تعالى بأنه غير كاف وغير صالح أو اعتقد أنه صالح لكن غيره مثله أو اعتقد إنه صالح لكن(21/72)
غيره أنسب خصوصا في هذا الوقت كل هذه المعاني كفر بواح ، ورجال التشريع بمثابة الأحبار والرهبان تماما أرباب يعبدون من دون الله تعالى علموا ذلك أو لم يعلموا .
(وقال تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)) كلهم أرسلوا بهذه الكلمة .
(وقال تعالى عن الخليل (واذ قال إبراهيم لأبيه وقومه اننى براء مما تعبدون) هذا يساوي (لا إله) (إلا الذى فطرنى فانه سيهدين) يساوي (إلا الله) هذه كآية سورة البقرة تماما تفسير للا إله إلا الله على ترتيب لا إله إلا الله (اننى براء مما تعبدون إلا الذى فطرنى فانه سيهدين وجعلها كلمة باقية فى عقبة لعلهم يرجعون)) بقيت فينا هذه الكلمة ليرجع إليها كل أتباع نبي وجميع الدعاة والمصلحين يرجعون إلى هذه الكلمة ويدعون الناس إلى هذه الكلمة التي دعا إليها إبراهيم عليه السلام .
(وقال تعالى عنه (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين)) كالآية التي قبلها .
(وقال تعالى ( قد كانت لكم أسوةحسنة فى ابراهيم والذين معه إذ قالوا) جميعا (إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا) إلى متى ؟ (حتى تؤمنوا بالله)) وتعبدوه وحده .
((واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)) لا ، لم يحصل هذا قط كلهم عبيد ، عبيد لا يُعبَدون رسل يطاعون رسل تجب طاعتهم واتباعهم وعبيد يَعبدون ولا يُعبدون .
(وذكر عن رسله كنوح وهود وصالح وغيرهم انهم قالوا لقومهم) كلمة واحدة جميعا ((اعبدوا الله ما لكم من اله غيره)) جميع الرسل أرسلوا بهذه الكلمة ، إلى آخر تلكم الآيات
فلنكتفي بهذا المقدار لنجيب على بعض الأسئلة .
وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه(21/73)
((وكذلك ( النوع الثانى ) وهو قولهم لا شبيه له فى صفاته فإنه ليس فى الامم من أثبت قديما مماثلا له فى ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال أنه لا فعل له بل من شبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبهه به فى بعض الأمور وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل فى المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز او يمتنع فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك كإتفاقهما فى مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك وإن نفى ذلك يقتضى التعطيل المحض وانه لا بد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفى الصفات فى مسمى التوحيد فصار من قال ان لله علما أو قدرة أو أنه يرى فى الآخرة أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون أنه مشبه ليس بموحد وزاد عليهم غلاة الجهمية والفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى وقالوا من قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم فهو مشبه ليس بموحد وزاد غلاة الغلاة وقالوا لا يوصف بالنفى و لا الإثبات لأن فى كل منهما تشبيها له وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فرارا من تشبيهم بزعمهم له بالأحياء))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :(21/74)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تعداد أنواع التوحيد الذي أملته عقول المتكلمين والرد عليهم وبيان غلطهم في ذلك ، علماء الكلام قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام قالوا هو واحد في أفعاله لا شريك له في أفعاله ووجه الغلط أن مشركي العرب الذين بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام أول ما بعث لم ينازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الربوبية ، يؤمنون بأن الله وحده هو الخالق وهو الفعال لما يريد ولا داعي لتضييع الوقت وتأليف الكتب في تقرير توحيد لم ينكره مشركو العرب وهو توحيد الربوبية .(21/75)
النوع الثاني قولهم واحد في صفاته لا شبيه له يريدون بهذا نفي الصفات كلام ظاهره مقبول ولكن عند الشرح والتحليل يريدون بذلك نفي كثير من الصفات هذا وجه البطلان ويأتي النوع الثالث وهو قولهم واحد في ذاته لا قسيم له أو لا جزأ ولا بعض ، يريدون بهذا النوع أيضا نفي كثير من الصفات الذاتية كالوجه واليدين هذه الأنواع الثلاثة كلها غلط وهذا التقسيم ليس بصحيح ، وبالمناسبة إن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد العبادة ليس من هذا القبيل إن ذلك التقسيم بالاستقراء باستقراء الكتاب والسنة أي بتتبع نصوص الصفات ونصوص توحيد العبادة ونصوص توحيد الربوبية ثبت بالاستقراء أن الآيات القرآنية بالنسبة للمطالب الإلهية منها ما يتحدث عن إفراد الله تعالى بالعبادة وأنه لا شريك له وأنه لا يغفر لمن يشرك به وأنه الواحد الأحد وهناك قسم من الآيات تتحدث عن أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وهناك آيات تثبت بأن الله هو الخالق الرازق المعطي المانع إلى آخره هذا يسمى استقراء ، تقسيم التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة بهذا الاستقراء ليس ببدع بل مأخوذ من الكتاب والسنة وهو نوع من الاستنتاج والاستنباط وأما هذه الأنواع الثلاثة التي عندنا أنواع أملتها عقول علماء الكلام كما ستضح الآن ونحن في النوع الثاني .(21/76)
(وكذلك (النوع الثانى)) تقدم النوع الأول كما أشرنا وهو قولهم واحد في أفعاله (وهو قولهم) النوع الثاني (لا شبيه له فى صفاته فإنه ليس فى الامم من أثبت قديما مماثلا له فى ذاته) إذن الاشتغال بأنه لا شبيه له في صفاته إن لم يقصدوا معنى آخر الذي سيظهر فيما بعد لا طائل تحت هذا البحث إذ (ليس فى الامم من أثبت قديما مماثلا له فى ذاته) سبحانه وتعالى (سواء قال أنه مشاركه) في صفاته (أو قال أنه لا فعل له بل من شبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبهه به فى بعض الأمور) ليس في جميع الأمور إذن لا يوجد في الأمم من يشرك بالله سبحانه وتعالى في جميع الأمور ويثبت له شبيها يشبهه في جميع صفاته وفي جميع شؤونه ويثبت قديما كقدم الرب سبحانه وتعالى مماثلا له في ذاته ومماثلا له في صفاته ، من آمن بأنه لا مماثل له في ذاته قد آمن بأنه لا مماثل له في صفاته ، أي من وحد الله سبحانه وتعالى في ذاته وأثبت أنه لا شريك له ولا شبيه له في ذاته يجب أن يقول كذلك في الصفات بعد إثباتها أي يثبت الصفات ثم ينفي المماثلة .(21/77)
(وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل فى المخلوقات) أي في العقل السليم الصريح وفي الفطرة السليمة كما ثبت بالشرع (يشاركه فيما يجب) لله سبحانه وتعالى من الكمالات كالعلم والقدرة والسمع المختص به (أو) فيما (يجوز) على الله ، فيما يجوز لله تعالى من الإيجاد والإعدام هذا هو الجائز (او) فيما (يمتنع) وهو أضداد صفات الكمال لا يوجد (علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل فى المخلوقات يشاركه فيما يجب) لله سبحانه وتعالى من كمالاته ، وفيما يجوز له سبحانه وتعالى من الخلق والإيجاد والإعدام وفيما يمتنع عليه (فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين) بين النقيضين أي بين القديم والحديث وبين العدم والوجود (كما تقدم وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك) هذه النقطة الأخيرة هي التي ينبغي أن تفهم جيدا ما قبل ذلك معلوم (وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما) فلا يحتاج كل واحد منهما في وجوده إلى من يقوم به بل يقوم بنفسه حتى يتحقق وجوده (فلابد بينهما من قدر مشترك) جميع الذوات سواء كانت الذات العلية القديمة أو ذوات المخلوقات قائمة بنفسها وإنما الصفات هي التي تقوم بغيرها ، الذوات كلها تقوم بنفسها ، إذن لا بد من قدر مشترك بين هذه الذوات بما في ذلك الذات القديمة ذات الله لا بد من قدر مشترك بين وجود الله تعالى ووجود المخلوق (فى مسمى الوجود) الله موجود والمخلوق موجود هذا الوجود المطلق قبل أن تضيف وجود الله إلى الله ووجود المخلوق إلى المخلوق هذا هو القدر المشترك الوجود غير المختص قبل أن يختص وجود الله بالله بالإضافة وقبل أن يختص وجود المخلوق بالمخلوق بالإضافة أما إذا قلت وجود الله لا أحد يشارك الله في وجوده القديم الذي لم يسبق بعدم وليس له بداية ينزه الرب سبحانه وتعالى أن يشاركه أحد في هذا الوجود كما ينزه الرب تعالى أن يشارك المخلوق في وجوده أي في وجود المخلوق الخص به ذلك(21/78)
الوجود الذي وجد بعد أن لم يكن الوجود الناقص المسبوق بعدم الذي سوف يزول .
(كإتفاقهما فى مسمى الوجود) هذا ليس خاصا بالله بل الموجودات بينها اشتراك وافتراق يشترك كل من الفيل والنملة في الوجود لكن هل بعد إضافة وجود الفيل إلى الفيل ووجود النملة إلى النملة هل بين الوجودين اشتراك ؟
لا ، حتى في المخلوق الوجود المطلق يشترك فيه كل موجود لكن الوجود المختص بالإضافة مختص بذلك المضاف الذي أضفت إليه الذي هو صفة له أرجو أن يكون مفهوما .
(كإتفاقهما فى مسمى الوجود) ومسمى (والقيام بالنفس) الله موجود وهذا المخلوق موجود الله قائم بنفسه غني عن غيره وهذا المخلوق قائم بنفسه في وجوده لا يحتاج إلى شيء يقوم به الله أقامه هكذا بنفسه .
(والذات) لله ذات وللمخلوقات ذوات لا بد من الاشتراك في هذا المعنى العام وفي هذه الصفات قبل اختصاصها بالإضافة كما قلنا (ونحو ذلك وأن نفى ذلك) ذلك الاتفاق في القدر المشترك (يقتضى التعطيل المحض) إذ لا تتصور وجود الله ووجود المخلوق إلا إذا تصورت اشتراك الخالق مع المخلوق في هذا القدر المشترك قبل التخصيص بالإضافة .
(وانه لا بد من إثبات خصائص الربوبية) وبعد إثبات خصائص الربوبية لا اشتراك وجود الله علم الله قدرة الله سمع الله لا اشتراك ، كذلك أي لا أحد يشارك الله في خصائص الربوبية وفي خصائص الرب سبحانه وتعالى وكما تقدم كذلك الله منزه من أن يشارك المخلوق في خصائص المخلوق ز
(وقد تقدم الكلام على ذلك) راجع ما تقدم من صفحة 124 إلى 146 في هذه الصفحات تقدم البحث هناك مفصلا ولعل بعض طلاب العلم علق ما علق والقاعدة في التدريس عند المشايخ إذا قيل كما تقدم هذه مسؤولية الطالب وإذا قيل – المؤلف – كما سيأتي هذه مسؤولية المدرس والآن نحن في مسؤوليتكم (كما تقدم) ولكن المحقق جزاه الله خيرا أراحكم في الصفحات التي تقدمت فيها هذه البحوث (وقد تقدم الكلام على ذلك) راجع .(21/79)
ثم قال الشيخ (ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم) انتبهوا هنا في نقطة مهمة قال (إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم) أي المراد بالجهمية هنا ليس أتباع جهم بن صفوان فقط الجهمية في اصطلاح أتباع السلف بعد أن توسع علم الكلام وقاموا بالردود عليهم يطلقون الجهمية على كل معطل بل حتى على المؤولة لفظة الجهمية إذا أطلقت صحيح ترجع إلى أتباع جهم بن صفوان لكن بالقرينة ومن السياق قد تدل هذه العبارة على كل ناف لصفة من صفات الرب سبحانه وتعالى على نفاة الصفات دون الأسماء وهم المعتزلة وعلى نفاة الأسماء والصفات معا وهم الجهمية المحضة وعلى الذين يفرقون بين الصفات كالأشاعرة والماتوريدية كل هؤلاء يدخلون تحت الجهمية كما هنا ولذلك قال (ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم) المعتزلة عرفنا ، من غيرهم ؟
الأشاعرة والماتوريدية هم من الجهمية لأنهم يشاركون الجهمية بعض المشاركة كنفيهم لصفة العلو ونفيهم لاستواء الله تعالى على عرشه ونفيهم لكلام الله اللفظي وإن أثبتوا الكلام النفسي اصطلاحا من عند أنفسهم اثباتا لا يجديهم ور ينفعهم في شيء .
قال (ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفى الصفات فى مسمى التوحيد) هذا تناقض عجيب ، نفي الصفات يسمونه توحيدا ، من الأصول الخمسة عند المعتزلة التوحيد وإذا قرأت هذه الأصول قبل التفسير ، من أصولهم التوحيد تسلم لكن ما هو التوحيد ؟
نفي الصفات .(21/80)
(فصار من قال ان لله علما أو قدرة أو أنه يرى فى الآخرة أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق) أو بأن الله مستو على عرشه أو بأنه ينزل في آخر كل ليلة إلى سماء الدنيا أو أنه يأتي لفصل القضاء (يقولون أنه مشبه ليس بموحد) عند المعتزلة الموحد من ينفي الصفات مع إثبات الأسماء وعند الجهمية المحضة الموحد من ينفي جميع الأسماء والصفات وعند الأشاعرة من يثبت الصفات العقلية فقط ويؤول أو ينفي الصفات الخبرية وهكذا هكذا تعدد الموحدون عندهم بتعدد مذاهبهم ، والموحد عندنا من هو ؟
من وحد الله في ألوهيته ، في ربوبيته في أسمائه وصفاته بمعنى من وحد الله بالعبادة بشعائر العبادة في الحاكمية من وحد الله في ربوبيته ولم يعتقد في مخلوق بأنه ينفع أو يضر أو يعلم الغيب أو يعلم ما في الضمائر أو أن الشيخ يتصرف في الكون بعد موته كان متفرغا لعبادة الله وبعد وفاته تفرغ ليتصرف في هذا الكون لأتباعه هذا شرك في الربوبية إذن الموحد عندنا من لا يشرك بالله في عبادته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أي يثبت لله تعالى الصفات التي أثبتها لنفسه إذ لا يصف الله أعلم من الله ويثبت له الصفات التي أثبتها له رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام إذ لا يصف الله من خلقه أعلم من رسوله عليه الصلاة والسلام ثم ينفي المماثلة فيما أثبت ، استواء يليق نزولا يليق به مجيئا به وجها كريما يليق به يدان مبسوطتان ينفق بهما كيف يشاء "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"هذا الموحد عندنا وهل في نزاع في هذا ؟ لا عقلا ولا منطقا ولا فطرة لا نزاع في هذا إلا من خذله الله وجهل هذا التوحيد وجعل هذا الموحد ممثلا مشبها مجسما لأن التشبيه والتجسيم والتمثيل عندهم إثبات الصفات ، طالما تثبت صفة من صفات الرب تعالى فأنت مشبه عندهم ولست بموحد ، لا تبالي بهذا اللقب .(21/81)
(وزاد غلاة الجهمية) غلاة الجهمية الفلاسفة والقرامطة الباطنيون (فنفوا أسماءه الحسنى) الذين ينفون الأسماء الحسنى مع الصفات يسميهم الشيخ غلاة الجهمية وهم الذين سميناهم الجهمية المحضة سمهم غلاة الجهمية إذا نفوا الأسماء والصفات معا ولم يثبتوا لله تعالى إلا الوجود المطلق الذهني لا وجود له في خارج الذهن لأن الذي لا يوصف بصفات ولا يسمى بأسماء لا وجود له في الخارج إنما وجوده وجود ذهني هؤلاء الجهمية يسميهم الشيخ غلاة الجهمية .
(وقالوا من قال إن الله عليم) بأن أثبت الأسماء (قدير عزيز حكيم فهو مشبه ليس بموحد) إذن متى يكون الإنسان موحدا عند غلاة الجهمية ؟
إذا نفى الأسماء والصفات معا ، وإذا نفى الصفات ولو أثبت الأسماء فهو موحد عند المعتزلة فإذا نفى الأمرين الأسماء والصفات فهو موحد عند غلاة الجهمية على تعبير الشيخ الجديد .
(وزاد غلاة الغلاة) غلاة الغلاة الذين يجمعون بين النقيضين أو ينفون النقيضين معا (وقالوا لا يوصف بالنفى و لا بالإثبات) لا موجود ولا غير موجود لا عليم ولا غير عليم (لأن فى كل منهما تشبيها له) إن أثبت النفي فأنت مشبه وإن أثبت الإثبات فأنت مشبه إذن عند غلاة الغلاة ليكون المرء موحدا أن ينفي النفي والإثبات معا أي يتكلم كلاما كالهذيان لا معنى له تناقض .
(وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه) بدءا من الجهمية ومرورا على المعتزلة والأشاعرة وانتهاء إلى غلاة الغلاة (كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه) كلّ في بابه وفي مذهبه .(21/82)
(فإنهم) بهذه الحالة ، هذا راجع للبحث الأخير لغلاة الغلاة (فإنهم شبهوه بالممتنعات) الذي لا يوصف بالنفي ولا بالإثبات شيء ممتنع ومعدوم ، المعدوم هو الذي ليس بموجود ، المعدوم معدوم على اسمه (والجمادات) هذا راجع إلى من قبلهم (فرارا من تشبيهم بزعمهم له سبحانه وتعالى بالأحياء) فروا من التشبيه بالحي لو أثبتوا له علما شبهوه بالحي ، من أثبت له قدرة شبهه بالحي عند المعتزلة ومن أثبت له استواء شبهه بالحي عند الأشاعرة ومن أثبت له مجيئا ونزولا أيضا كذلك ثم تدرج القوم إلى أن انتهى بهم الأمر إلى أن شبهوا رب العالمين بالمعدومات والممتنعات والجمادات كل ذلك نتيجة الأعراض عما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستخفاف بالأدلة النقلية السمعية الخبرية والاعتماد على الأدلة العقلية ، لما اعتمد الجميع على الأدلة العقلية اختلفت عقولهم ، عقول الجهمية أوحت إليهم أن التوحيد نفي الأسماء والصفات معا ، وعقول المعتزلة أوحت إليهم أن التوحيد نفي الصفات مع إثبات الأسماء المجردة التي لا تدل على المعاني بمثابة الأعلام كزيد وعمرو إنما تدل هذه الأعلام على المسمى لا تدل على الصفات التي هي معاني الأسماء ، وعند الأشاعرة والماتوريدية الموحد عقولهم أملت عليهم إنما يكون الإنسان موحدا إذا أثبت الصفات العقلية التي تثبتها العقول اعتمادا على العقل لا اعتمادا على السمع كالقدرة والإرادة والسمع والبصر إلى آخر ما يسمى بصفات المعاني مع نفي الصفات الخبرية أو تأويلها نفي العلو ونفي الاستواء وتفسير وتحريف الاستواء بالاستيلاء أو بالملك أو بالسلطان أو بالهيمنة ونفي الكلام اللفظي لأن إثبات الكلام اللفظي يستلزم مخارج الحروف وذلك يؤدي إلى التشبيه وما يؤدي إلى التشبيه فهو مستحيل إثبات الكلام اللفظي إذن مستحيل ، هكذا دندنة الأشاعرة والماتوريدية إلى أن وصل بهم الأمر إلى هذا التفرق صارت الأمة الواحدة أمما الملة الواحدة مللا مع(21/83)
العلم أنهم جميعا ينتسبون في الفروع الفقهية إلى الأئمة الأربعة الذين هم متفقون على إثبات هذه الصفات كلها كما جاءت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، خالفوا أئمتهم الذين يعتزون بالانتماء إليهم في الفروع الفقهية خالفوهم في الأصول إذا كان الإمام مالك هو القائل في هذا المسجد (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة) تجد المالكية التي طبقت على نفي هذه الصفة وتأويلها بالاستيلاء والهيمنة والملك مخالفين ذلك الإمام الذي لو خالفت مذهبه في الفروع الفقهية لنبذوك وكرهوك وعادوك لأنك خالفت مذهبهم المالكي ، طيب وأنتم خالفتك إمامكم في عقيدته ، ما هذا التناقض ؟ هذا ما وقع فيه أتباع الأئمة الأربعة كما تقدم في الدرس الماضي وإن كان أتباع الإمام احمد أخف مخالفة له أي العدد الذي خالف إمامهم في باب العقيدة أقل عددا من الذين خالفوا الأئمة الثلاثة ، الله المستعان .
نعم .
((ومعلوم ان هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلا وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات فإذا لم يكن فى إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات لم يكن فى إثبات الصفات إثبات مماثلة له فى ذلك فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون نفوسهم الموحدين))(21/84)
يقول الشيخ رحمه الله تعالى ، هذه النقطة هي التي خفيت على الأشاعرة ، نحن نكرر الأشاعرة لوجود الأشاعرة الوجود الجماعي بين المسلمين اليوم ، انتبهوا ، ويليهم في الكثرة المعتزلة والجهمية المحضة لا وجود لهم اليوم (ومعلوم ان هذه الصفات الثابتة لله تعالى) الثابتة بالكتاب والسنة المصدر عندنا لإثبات صفات الله تعالى الكتاب والسنة وإن شئت الوحي ، مصدر التلقي عندنا واحد الوحي سواء كان في هذا الباب أو في باب العبادة أو في باب الأحكام يجب أن يكون الأمر كذلك .
(ان هذه الصفات الثابتة لله تعالى لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلا) لا يجوز لمسلم أن يعتقد أن صفات الله تعالى تثبت له على حد ما يثبت للمخلوق أبدا ، أي إذا أثبت له السمع والبصر لا يجوز أن تعتقد أنك أنك أثبت صفتين على حد سمع وبصر المخلوق وإذا أثبت له الاستواء لا يجوز أن تعتقد أنك أثبت له الاستواء على حد استواء المخلوق وهكذا في سائر الصفات ، يجب أن ننوع في التمثيل لأن الصفات الذاتية والصفات الفعلية كلها بمعنى واحد ، الصفات كلها تساق سوقا واحدا ذاتية أو فعلية خبرية أو عقلية .(21/85)
(وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا فى ذاته) جميع المسلمين في الغالب الكثير يتفقون على إثبات الذات العلية لله تعالى (لا في ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله) النزاع إنما هو في الصفات بعد إثبات الذات كان المفروض أن لا يوجد النزاع في الصفات لأن من أثبت الذات يثبت ذاتا تليق بالله تعالى ثم يقول الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه أي يقال في الصفات ما قيل في الذات ، إذا كان إثبات الذات إثبات إيمان وتسليم لله وليس إثبات تشبيه يجب أن يكون إثبات الصفات كذلك لذلك قال الشيخ (لا في ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات) من يثبت الذات مؤمنا بأن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات ثم ينفي الصفات أو يؤولها بدعوى التنزيه متناقض أيا كان مذهبه معتزليا أو أشعريا متناقض ، أو إنه لم يفهم كما قال والد إمام الحرمين لم يفهموا من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق ، هذه المسألة حيرته فترة طويلة إلى أن شرح الله صدره فرجع إلى منهج السلف ، لم يفهم شيوخ الأشاعرة كما قال والد إمام الحرمين من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق هذه هي النقطة المهمة التي أوقعتهم في هذا التناقض .
(ولا فى أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات فإذا لم يكن فى إثبات الذات إثبات مماثلة) ترون الشيخ يكرر هذه العبارة لأهمية هذه النقطة لأن الرسالة هذه حوار مع الأشاعرة كما تقدم .
(فإذا لم يكن فى إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات لم يكن فى إثبات الصفات إثبات مماثلة له فى ذلك) في الصفات إذ الكلام في الصفات كالكلام في الذات تماما كما تقدم .(21/86)
(فصار هؤلاء الجهمية المعطلة) بدءا من الجهمية من أتباع جهم بن صفوان وانتهاء إلى الأشاعرة (يجعلون هذا توحيدا) كلّ في بابه وفي مذهبه (ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون أنفسهم الموحدين) ويسمون غيرهم مشبها أو ممثلا أو مجسما ، بمجرد أن تثبت لله استواء يليق به كما أثبت لنفسه قال إنك مجسم ، وعند المعتزلة إذا أثبت له السمع والبصر أنت مجسم عندهم ومشبه ، عند الأشاعرة إن أثبت له مجيئا يليق به ونزولا يليق به واستواء يليق به ووجها كريما يليق به أنت مشبه ولست بموحد وهكذا .
نعم .
((وكذلك ( النوع الثالث ) وهو قولهم هو واحد لا قسيم له فى ذاته او لا جزء له او لا بعض له لفظ مجمل فان الله سبحانه وتعالى احد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد فيمتنع عليه ان يتفرق أو يتجزأ او يكون قد ركب من أجزاء لكنهم يدرجون فى هذا اللفظ نفى علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعانى المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد))
(وكذلك النوع الثالث) النوع الثالث كالنوع الثاني والأول في أنه توحيد أملته عقول المتكلمين (وهو قولهم هو واحد لا قسيم له) عبارة جافة تدل على قلة الحياء من رب العالمين(لا قسيم له فى ذاته او لا جزء له او لا بعض له) التفصيل في السلوب من أسلوب علماء الكلام ، والسلف يقدرون الله تعالى حق قدره يستبشعون مثل هذا الاسلوب أن يصفوا الرب سبحانه وتعالى بأنه (لا قسيم له ولا جزء له ولا بعض له) ولو قرأتم هذه السلوب في مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري كلام تقشعر منه جلود الموحدين : ليس بذي لحم ولا بذي دم ولا بذي طول ولا بذي قصر ، هل الإنسان الذي يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويقدره حق قدره يصف الله بمثل هذه الصفات ؟ لو وصفت عظيما من عظماء المخلوقين بمثل هذا لأدبك لو وقفت أمام سلطان فقلت له ..
الشريط السابع والعشرون :(21/87)
(وكذلك النوع الثالث) النوع الثالث كالنوع الثاني والأول في أنه توحيد أملته عقول المتكلمين (وهو قولهم هو واحد لا قسيم له) عبارة جافة تدل على قلة الحياء من رب العالمين(لا قسيم له فى ذاته او لا جزء له او لا بعض له) التفصيل في السلوب من أسلوب علماء الكلام ، والسلف يقدرون الله تعالى حق قدره يستبشعون مثل هذا الاسلوب أن يصفوا الرب سبحانه وتعالى بأنه (لا قسيم له ولا جزء له ولا بعض له) ولو قرأتم هذه السلوب في مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري كلام تقشعر منه جلود الموحدين : ليس بذي لحم ولا بذي دم ولا بذي طول ولا بذي قصر ، هل الإنسان الذي يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويقدره حق قدره يصف الله بمثل هذه الصفات ؟ لو وصفت عظيما من عظماء المخلوقين بمثل هذا لأدبك لو وقفت أمام سلطان فقلت له لست بزبال ولا سباك ولا كناس ولا ولا ، إما تتهم في عقلك أو تؤدب لأنك ما عندك أدب ولكن إذا أجملت في الوصف أجملت في الأدب إذا قلت له أنت لست كرعيتك أنت خير منهم كفى لذلك انظر أسلوب القرآن "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" تفصيل في الإثبات وإجمال في الغالب في النفي والسلوب أما مثل هذه العبارات عبارات سيئة ولكن الشيخ من باب (حاكي الكفر ليس بكافر) والباب باب التعليم ونفي الشبه ورد الشبه لذلك يورد مثل هذه العبارات من عباراتهم رحمه الله لذلك قال (لفظ مجمل) لا ينبغي استعمال الألفاظ المجملة (فان الله سبحانه وتعالى احد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد) هذه السلوب في القرآن تدل على الكمال "لم يلد ولم يولد" لكمال غناه لأنه الغني الذي لا يحتاج إلى صاحبة ولا ولد ولا شريك ولا معين ولا وزير لغناه ، إذن السلوب إذا جاءت في القرآن لها مغزى ولها معنى .(21/88)
(فيمتنع) هنا الشيخ استعمل للرد عليهم أسلوبهم فقال (فيمتنع ان يتفرق أو يتجزأ أو يتبعض او يكون قد ركب من أجزاء) .. أن يعتقد في الرب سبحانه وتعالى معنى التفرق ومعنى التجزأ ومعنى التبعض ومعنى التركيب ، القوم عندما يقولون هذا يهدفون إلى شيء وهو نفي الصفات الذاتية نفي كثير من الصفات الذاتية إذا قال لك الله سبحانه وتعالى لا يبعض ولا يجزأ وقلت له نعم وسلمت سوف يقول لك إذن لا يوصف بالوجه ولا باليد ولا بالأصابع لأن هذه أبعاض وأجزاء لذلك إذا قعد هذه القواعد لا تسلم للقاعدة أو للمقدمة من أول وهلة ، يجب أن تعرف إلى ما يهدف عندما يقول لا قسيم له ، لا جزء ولا بعض ، إنما يعني نفي كثير من الصفات الذاتية الثابتة بالكتاب والسنة ويسمون ذلك أبعاضا وأجزاء هي أبعاض وأجزاء وجوارح في حقنا أما وجه الرب سبحانه وتعالى بعد أن أضفته إليه ويد الرب سبحانه وتعالى وأصابعه هذه الصفات بعد إضافتها إلى الله تعالى صارت مختصة به كما لا تعلم حقيقة ذاته لا تعلم حقيقة وجهه وحقيقة يده وحقيقة أصابعه إذن لا توصف بأنها أبعاض وأجزاء ولا يوصف الرب سبحانه وتعالى بالتفرق حاشا ، سبحانه وتعالى عما يقول الملحدون .
قال الشيخ رحمه الله تعالى (لكنهم يدرجون فى هذا اللفظ نفى علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم) إدراج نفي الصفات أو نفي كثيرمن الصفات الذاتية أوضح من إدراج نفي العلو على العرش في هذا المقام كما هو واضح بل هذا منصوص عليه في كتبهم (لكنهم يدرجون فى هذا اللفظ نفى علوه على عرشه) ولعل ذلك من قولهم لو كان مستويا على عرشه لا يخلو إما أن يكون أصغر من العرش أو أكبر أو مساويا للعرش وإن كان في هذا الكلام تناقض الله سبحانه وتعالى أعظم وأكبر من جميع المخلوقات من العرش وغيره وهذه اللوازم التي يريدون إثباتها لاستواء الله تعالى هي لوازم استواء المخلوق لا تلزم استواء الخالق سبحانه .(21/89)
(ومباينته لخلقه) أي نفيهم لصفة العلو نفوا صفة العلو العلو الخاص بالعرش ونفوا صفة العلو العلو المطلق ، مباينته لخلقه وعدم اختلاطه بمخلوقاته (وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعانى المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد) بصراحة الجملة الأخيرة هذه ليست بواضحة عندي ربطها بالكلام السابق هو صحيح إنهم ينفون كل هذا ، نفيهم لهذه الصفات واقع (لكنهم يدرجون فى هذا اللفظ نفى علوه) إلى آخره هذا الإدراج غير واضح بالنسبة لما تقدم بل الواضح أنهم يدرجون في هذا نفي الصفات الذاتية كالوجه واليدين والأصابع وغير ذلك من الصفات الذاتية التي هم يسمونها أبعاضا وأجزاء فليراجع ، اجعل استفهام عند قوله (ويجعلون ذلك من التوحيد) هذه القطعة تراجع .
نعم ...
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(21/90)
فهرس المكتبة
شرح الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية
شرح الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
( مجالس ، إلى الشريط الثاني والثلاثون )
((فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل ولو كان جميعه حقا فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذى وصفهم به فى القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله وليس المراد بالاله هو القادر على الإختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلين حيث ظن أن الإلهية هى القدرة على الاختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الإختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه بل الإله الحق هو الذى يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه لا إله بمعنى أله والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر المنتسبون الى السنة إنما هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع انهم مشركون وكذلك طوائف من اهل التصوف والمنتسبين الى المعرفة والتحقيق والتوحيد غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا سيما اذا غاب العارف بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته ودخل فى فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل فهذا عندهم هو الغاية التى لا غاية وراءها ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء))
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :(22/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا) تبين أن النفاة على اختلاف مذاهبهم يسمون نفي الصفات أو نفي الأسماء والصفات معا أو نفي بعض الصفات يسمون ذلك توحيدا (تبين أن ما يسمونه توحيدا فيه ما هو حق وفيه ما هو باطل) وهكذا الإنصاف من الإنصاف مع الخصم إذا كان في كلامه حق يجب أن تعترف أنه الحق وهؤلاء النفاة يكادون يتفقون على أن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية ولا يعرفون غيره وكون توحيد الربوبية حق لا إشكال في أنه حق لكن هل هو توحيد بمعنى لا إله إلا الله أي توحيد العبادة ؟ لا ، الباطل الذي عندهم هو الخلط وعدم التفريق بين توحيد الربوبية الذي أقره جميع المشركين وبين توحيد العبادة الذي استكبر عنه المشركون مع اعترافهم بأن الله هو الحق وأنه الخالق وأنه الرازق وأنه فعال لما يريد ولو سئلوا من خلقهم ليقولن الله "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله" هذا التوحيد الذي أقره المشركون هو الذي يفسر به علماء الكلام كلمة التوحيد ، وكونهم يقررون توحيد الربوبية هذا حق وكونهم يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية ولم يفهموا حقيقة الإلهية هذا هو الباطل .(22/2)
(ولو كان جميعه حقا) جميع ما يقوله هؤلاء النظار (فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا فيه من الشرك الذى وصفهم به فى القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بل لا بد أن يعترفوا بأنه لا إله إلا هو) والعبارة فيها ركة لكن المعنى واضح ، لو كان ما يقرره علماء الكلام من توحيد الربوبية هو الحق لما حكم على مشركي العرب بأنهم كفار وقد حكم عليهم بأنهم كفار وهم يعترفون بتوحيد الربوبية فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم لكونهم لم يعترفوا بتوحيد العبادة لم يؤمنوا بعبادة الله وحده مع إيمانهم بتوحيد الربوبية فأولئك صاروا أفقه وأعلم بمعنى لا إله إلا الله لأنهم أدركوا أنهم لو قالوا لا إله إلا الله هذه الكلمة هدمت آلهتهم وقضت عليها لذلك أصروا على محاربتها وعدم التلفظ بها مع اعترافهم أن تلك الآلهة لا تخلق ولا ترزق ولكن في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى فهؤلاء لم يفهموا معنى لا إله إلا الله الذي فهمه مشركو العرب لم يفهموه لذلك أئمتهم في كتبهم إذا أرادوا أن يفسروا لا إله إلا الله أو يعربوه قالوا لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله ولا قادر على الاختراع إلا الله ، هذا غلط من يجهل هذا ؟ تعلمون من ؟ جميع المسلمين عربهم وعجمهم يفهمون هذا لكن محل المعركة لا معبود بحق إلا الله ، هذا معنى لا إله إلا الله ، هذا الذي أنكره القوم المشركون الأولون وهو الذي يقع فيه كثير من المنتسبين إلى الإسلام جهلا منهم بمعنى لا إله إلا الله وتقليدا منهم لهؤلاء الأئمة أئمة علماء الكلام ، لذلك يقول الشيخ رحمه الله(وليس المراد بالاله هو القادر على الإختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلين) والغريب أن الذين يفسرون لا إله إلا الله بأنه لا قادر على الاختراع إلا الله أئمة ليسوا بناس عاديين ، أئمة ، إذا هؤلاء هم الأئمة فكيف أتباعهم ؟
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريضُ(22/3)
أئمة ، أئمتهم لم يفهموا معنى لا إله إلا الله ويفسروا لا إله إلا الله بأنه لا قادر على الاختراع إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله ، لو سألت عاميا هل هناك خالق غير الله ؟ يقول لا ، إذا كان هؤلاء الأئمة هذا فهمهم فكيف أتباعهم ؟
(حيث ظن) هؤلاء ، أئمة المتكلمين (أن الإلهية هى القدرة على الاختراع) وهذا منصوص عليه في كتبهم عند تفسيرهم لا إله إلا الله وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع (وأن من أقر بأن الله هو القادر على الإختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله) إذن جاهل يدعو الناس إلى التوحيد ويسمى نفي الصفات توحيدا ويعتبر توحيد الربوبية هو التوحيد الذي جاءت به الرسل وليس الأمر كذلك ، معنى ذلك أن أئمة المتكلمين لم يفهموا التوحيد الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التوحيد هو محل الاتفاق بين جميع الأنبياء .
(فإن المشركين كانوا يقرون بهذا) التوحيد (وهم مشركون) بالإجماع لا نزاع في أنهم مشركون (كما تقدم بيانه) راجع الصفحات التي تقدمت 178 ، 180 .
(بل الإله الحق هو الذى يستحق أن يعبد) الإله الحق القادر على الاختراع المستحق للعبادة خالق السماوات والأرض أما من يُعبد وهو لا يخلق ولا يرزق ولا يعطي ولا يمنع وهو ليس بقديم ، حادث ، كائن ، لا يستحق العبادة ، المستحق للعبادة خالق السماوات والأرض قيوم السماوات والأرض هو المستحق للعبادة .(22/4)
وكلمة (إله) هكذا بدون تعريف تطلق على المعبود بالحق والمعبود بالباطل لذلك (لا إله) نفي لجميع الآلهة من الجمادات وغيرها الأضرحة والأشجار والدوحات التي تعبد في بعض الأقطار ، الشمس والقمر والجن كلها آلهة هذه الآلهة يجب نفيها ويجب الكفر بها لا يتم الإيمان بالله تعالى إلا بالكفر بهذه الآلهة هذا معنى لا إله إلا الله (الإله الحق هو الذى يستحق أن يعبد فهو إله بمعنى مألوه) ليس إله بمعنى القادر على الاختراع ولا بمعنى الخالق بل إله بمعنى مألوه معبود .
(لا إله بمعنى أله) ألِه يألَه تحير ، ألَه يأله عبد ، المادة تدل على العبادة إن كان الذي يعبد هو الخالق وهو الرازق وهو المعطي المانع وهو القادر على كل شيء عبادته حق ، إن كان الذي يعبد ليس بهذه الصفة عبادته باطلة ، الكل يطلق عليه إله لكن الله لفظ الجلالة هذه الكلمة لا تطلق إلا على المعبود بالحق .(22/5)
(والتوحيد) المفروض هنا يكون بالفاء (فالتوحيد) أي إذا تقرر ما تقدم – الفاء فاء الفصيحة – فالتوحيد (أن يعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن يجعل) المرء (مع الله إلها آخر) إله آخر شيخا ميتا حيا ضريحا دوحة حجرا أيا كان ، كيف يجعل الإنسان مع الله إله آخر ؟ هذا المعنى الذي لا يكاد يفهمه كثير من المسلمين اليوم ، لو قلت بين عوام المسلمين بعض الناس يجعل مع الله إلها آخر يستغرب وهو واقع فيه لكونه يجهل ، إذا كنت تعتقد في شيخ من المشايخ أو في ضريح من الأضرحة بأنه يستحق أن ينذر له نذر ويطاف بذلك الضريح وأن الشيخ يخاف خوفا سريا يؤثر فيمن خالفه وعصاه سرا لا يضربه ولا يطعنه ولكن يؤثر فيه سرا وربما يسبب له سوء الخاتمة هذه عبادة من وصل به الاعتقاد في مخلوق ما إلى هذه الدرجة أشرك بالله جعل مع الله إلها آخر معبودا آخر ومن اعتقد أيضا أن رجال التشريع لهم الحق في التحليل والتحريم جعلهم آلهة مع الله هذا الذي يسمونه توحيد الحاكمية تابع لتوحيد العبادة كل ذلك عبادة ، إذن الجعل مع الله إلها آخر أمر واقعي يعيشه كثير من المسلمين أدركوا ذلك أم لم يدركوا وذلك هو الشرك ، التوحيد أن لا تجعل مع الله إلها آخر في شعائر العبادة في التحكيم في الخوف في الرغبة والرهبة في التوكل في أي معنى من معاني العبادة .(22/6)
يقول الشيخ رحمه الله تعالى بعد هذا كله (وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار) من علماء الكلام (أهل الإثبات للقدر) مع إثباتهم للقدر وليسوا بقدرية ينفون القدر يثبتون القدر ولكنهم يقررون هذا التوحيد فقط ويجهلون توحيد العبادة (المنتسبون الى السنة) فيما يبدو للناس وبالدعوى (إنما هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء) وهذا شيء لا نزاع فيه قديما وحديثا إلا من انتكست فطرته بأن تربى في أحضان مشايخ الطرق فأوهموا أتباعهم بأنهم يعلمون ما في ضمائر التابعين لهم إذ يقول قائلهم تلبيسا على الناس ودعوة إلى الباطل إذا كنت بين يدي نحوي احفظ لسانك وإذا كنت بين يدي العارف ، العارف بالله احفظ ضميرك لئلا يطلع الشيخ على ما في ضميرك فتهلك ، أليست هذه دعوة إلى الشرك ؟ إلى إثبات علم الغيب لغير الله تعالى ؟ "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" مشايخ الطرق يدعون علم الغيب ويدعون الناس إلى الإيمان بعلم الغيب لغير الله .(22/7)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (فالمشركون كانوا مقرين بذلك) أي توحيد الربوبية (مع انهم مشركون) تعالوا بنا إلى توحيد الصوفية (وكذلك طوائف من اهل التصوف) من هؤلاء الصوفية من أين جاء التصوف ؟ يجب أن نعرف اشتقاق التصوف من أين اشتق وما هذه النسبة (الصوفي) أراد الصوفية أن يلبسوا على الناس وادعوا أن الصوفي منتسب إلى الصفاء صفاء القلب أو منتسب إلى الصف الأول ، الصف الأول في الصلاة ؟ لا ، الصف الأول في السير إلى الله هم في الصف الأول في سيرهم إلى الله ، أو إلى الصفة أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين كانوا في هذا المسجد أهل الصفة ، والغريب في الأمر بعض الناس يزعمون أن هذه الدكة دكة الأغوات محل الصفة ما أكذب هذا القول ، الدكة هذه كانت خارج المسجد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام والحجرة النبوية خارج المسجد لا تستطيع أن تجد لك مكان أصحاب الصفة إلا ما شاء الله المهم زعموا أن الصوفية نسبة إلى الصفاء أو إلى الصف الأول أو إلى الصفة ، اللغة أكذبتهم ، دعاة الحق الذين ردوا على الصوفية وعلى علماء الكلام والملاحدة ووحدة الوجود من توفيق الله تعالى كانوا متمكنين في اللغة قالوا لهم النسبة النسبة إلى الصفاء صفائي ليس صوفي لغة ، النسبة إلى الصفة صُفّي النسبة إلى الصف صَفّي إذن هذه النسبة إلى أي شيء ؟ إلى الصوف قماش صوف لأنهم في أول نشأتهم بدأوا كما قال شيخ الإسلام بالتقشف والزهد والانقطاع للعبادة مع الجهل الإنسان الذي ينقطع للعبادة مع الجهل عرضة لأن يقع فريسة للشيطان لأنه جاهل لذلك عبادة الجاهل غايتها الضرر إلا ما شاء الله ، العمل قبل القول والعمل ، قبل أن تبدأ في العبادة والانقطاع للعبادة وقبل أن تبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح تعلم ، ليس العلم أنك تلبس العمة وتأخذ العنزة وتخرج إلى الناس ، لا ، اجلس بين يدي العلماء ، تعلم ، ابدأ بعد ذلك في العبادة في الانقطاع إن شئت والتزهد(22/8)
إن شئت والدعوة إلا الله هؤلاء لما كانوا جهالا بدأوا بلبس الصوف فصار لبس الصوف شهرة ، من لباس الشهرة عندهم عرفوا بهذا ، كانوا في البصرة كلما يرون من يلبس الصوف ويقاطع القطن والكتان قالوا هذا صوفي من هنا بدأت الصوفية ، بعد أن بدأوا بهذه الطريقة دخل فيهم الزندقة والإلحاد ، راجع لتعرف حقيقة الصوفية المراجع الآتية : ابدأ بكتاب هذه هي الصوفية للشيخ عبد الرحمن الوكيل وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية في القاهرة رحمه الله الذي كان رئيس قسم العقيدة في جامعة أم القرى فترة من الزمن ثم توفي رحمه الله ، تنطلق من هذا الكتاب إلى المراجع منها مصرع التصوف للبقاعي من علماء القرن السابع الهجري ثم مجلد ضخم جدا لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن المجموع مجموع الفتاوي ، بهذه المراجع تعرف حقيقة الصوفية لئلا تنخدع وهم يخدعون الناس كثيرا ويستغلون جهل الناس وهم مرتزقة يعيشون على أكتاف العوام والجهال ويلبسون على الناس دينهم هؤلاء الصوفية ينتسبون إلى المعرفة لذلك يسمون شيوخهم الكبار العارفين بالله العارف بالله الواصل إلى الله إذا سمعت هذه العبارات اعرف أنها من ألفاظ الأضداد لم يعرف الله ولم يصل إلى الله هذا معناه ، الوصول إلى الله لا يتم أبدا إلا بطريق محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم يسمون أهل المعرفة وأهل التحقيق أي تركوا الشريعة وارتفعوا إلى الحقيقة إذ قسموا الدين الذي جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام من عندهم قسموه إلى الشريعة والحقيقة ، الشريعة للفقهاء يسمون الفقهاء الجامدين الذين ليسوا بمتصوفة ، المحدثون والمفسرون والفقهاء الذين يدرسون ما جاء به محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ينتقصون هؤلاء يقولون هؤلاء أصحاب الشريعة أصحاب الحقيقة انتقلوا إلى شيء آخر يأخذون عن الله مباشرة تجد عندهم تصرفات مصطنعة تجد الشيخ يطالع يوهم الناس أنه ينظر في اللوح المحفوظ فيأخذ التعليمات من هناك مباشرة يتلفت(22/9)
يمين ويسار ويرفع بصره فيطأطئ ثم يرفع والعوام يحسبون أنه في شأن آخر مع اللوح المحفوظ ويجلسون أمامه كأن على رؤوسهم الطير لا يتحركون هؤلاء قطاع الطريق وهم إذا وصلوا إلى هذه الطريقة أطلقوا على أنفسهم العارفين أهل التحقيق الواصلين إلى الله ولعل بعض الإخوة الذين هم على الفطرة عندما نحكي هذه العبارات يحسبونها تمثيلية لذلك أذكر لكم المراجع التي فيها هذه المشاكل وهذا البلاء منها فصوص الحكم لابن عربي راجعوا كتب ابن عربي والفتوحات المكية له أيضا راجعوا كتب ابن سبعين وكتب شاعرهم ابن الفارض تجدون هناك عجائب ، دينا آخر ليس هو بهذا الدين الذي نحن عليه دينا يجعل الدنيا كلها عينا واحدة لا إثنينية في الكون هؤلاء أهل التحقيق (المنتسبين الى المعرفة والتحقيق والتوحيد) أي توحيد هو ؟
توحيد الفناء كما سيأتي .
(غاية ما عندهم) عند الصوفية (من التوحيد هو شهوده هذا التوحيد) الحقيقة التي سوف يقررونها في البداية هو توحيد الربوبية الذي عليه علماء الكلام لكن القوم يأتون بأسلوب جديد وبلغة جديدة استمع له ، يقول (هو شهوده هذا التوحيد وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه) هذا هو توحيد الربوبية الذي قرره علماء الكلام ما هو الشيء الجديد ؟
كلمة الشهود (يشهد) (ولا سيما اذا غاب العارف بموجوده عن وجوده) من هنا تبدأ رطانتهم انتبه (ولا سيما اذا غاب العارف) الشيخ الكبير (بموجوده) وهو الله (عن وجوده) عن وجود نفسه ، لا يدري عن نفسه شيء غاب عن نفسه في زعمه أنه فني في الله وفي شهود الله حتى غاب عن نفسه لا يدري عن نفسه شيء ولو كان هذا المقام مقاما محمودا من الأولى بهذا المقام ؟
محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم الخلفاء الراشدون ، هذا جنون ، هؤلاء المجاذيب .(22/10)
(اذا غاب العارف بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده) (وبمشهوده) وهو الله (عن شهوده) عن شهود نفسه (وبمعروفه عن معرفته) لا يعرف نفسه يتكلم هذيان (ودخل فى فناء توحيد الربوبية) لفظة الفناء اصطلاح خاص عند المتصوفة قد يريدون به معنى صحيحا فنحن نقر ذلك المعنى ولكن لا نعترف ولا نسمي الفناء لفظا شرعيا أو فناء شرعيا لا بل اصطلاح صحيح المعنى ولكنه ليس بشرعي لعدم وروده في الشرع الفناء أنواع :
النوع الأول الذي نحن نقر معناه الفناء في الله وهو الإخلاص غاية الإخلاص وصدق المراقبة وصدق المحبة أن يصل الإنسان إلى درجة الإحسان ويسمون هذا فناء لا نعتبر هذا شرعا أو فناء شرعيا ولكن نقول معنى الفناء هنا إذا فسر بالإخلاص وصدق المراقبة والإحسان المعنى صحيح واللفظ مصطلح نقول لا مشاحة في الاصطلاح طالما المعنى صحيح ، مثل هذا كثير بمعنى أننا لا نحارب كل جديد لكونه جديدا ولا نحارب كل اصطلاح لكونه اصطلاحا ، الاصطلاحات كثيرة ولكن الاصطلاح الذي يحارب هو الاصطلاح الباطل كتسمية نفي الصفات توحيدا ونفي الأسماء والصفات توحيدا ونفي الصفات مع إثبات الأسماء توحيدا كما تقدم هذا الذي نحاربه لأنه مخالف لعقيدتنا وشريعتنا أما لو سمى طائفة من الناس الإخلاص وحسن المراقبة وشدة المراقبة سموا ذلك فناء نقول لهم هذا اصطلاح المعنى صحيح وهذا اللفظ أجنبي ليس بشرعي ، لذلك نظائر ونظائر كثيرة .(22/11)
الفناء الثاني بعد هذا هو الفناء في الله عن نفسه كأن يزعم أنه يفنى في الله تعالى ويجهل نفسه ولا يعرف عن نفسه شيء ولا يعرف غير الله شيئا هذا الفناء ليس بشرعي ولا هو بمحمود بل مذموم لأن من وصل إلى هذه الدرجة منهم قد يصل إلى المحرمات يرفع عنه قلم التكليف لأنه في حكم المجنون يسمونه مجاذيب مجذوب ولذلك تسمعون في أسمائهم المجذوب ، المجذوب كثير في أسماء الصوفية ، هؤلاء المجاذيب هم في حكم المجانين ولو ادعى بأنه إنما فني في الله إلى أن فقد عقله وشعوره نقول لو كان هذا المقام مقاما محمودا وشرعيا الأولى به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه وهذا نقص إنما أتوا من الجهل لما تمكن منهم الشيطان الذين يزين للناس البدع زين لهم البدع حتى اختلوا هؤلاء مختلون مجاذيب مجانين ، وأفظع من هذا الفناء الفناء في الله تعالى بحيث يقول لا موجود إلا الله وكل ما في هذا الكون وجود واحد ، لا رب ولا مربوب لا عابد ولا معبود ولا اثنينية في الكون ولا يكون الموحد عندهم موحدا حتى ينفي الإثنينية ويجعل الكون كله عينا واحدة هذا توحيد ودين ابن عربي المنكر لا ابن العربي ابن العربي عالم من أهل السنة إن شاء الله وإن كان فيه ما فيه من علماء المالكية ابن العربي ، أما ابن عربي الطائي المنكر هذا أتى بكفر لم يأت به كفار قريش حيث زعم أنه ليس في الجبة إلا الله أي أن الله اتحد معه فالعبد رب والرب عبد ليت شعري من المكلف ؟ هذا دين ابن عربي وعليه ابن الفارض شاعرهم وعليه التلمساني وعليه ابن سبعين وابن عجيبة ارجعوا إلى مراجعهم لتعرفوا الشر من باب : عرفت الشر لا للشر لكن لأتقيه ، من لم يعرف الشر وقع فيه .(22/12)
كثير من المتصوفة العاديين المعاصرين إنما وقعوا في هذا لجهلهم لأن المتصوفين لا يدرسون إن درسوا فيدرسون مناقب مشايخهم فيكتفون بذلك وهم جهال ، لذلك يقعون في هذا الكفر من حيث لا يشعرون بإيمانهم بابن عربي ، الغريب من علماء المكلمين المعاصرين قرأت في كتاب لدكتور معاصر أشعري يكفر المعتزلة ويعتذر عن تكفير ابن عربي يقول لا ينبغي تكفيره ويكفر المعتزلة وهو متفق معهم في كثير من العقيدة انظروا إلى هذا التناقض ، الأشاعرة يتفقون مع المعتزلة في القول بأن القرآن هذا اللفظي مخلوق بالإجماع وينفون العلو والاستواء يوافقونهم في كثير من العقائد ومع ذلك غفل الدكتور زيد فقال إن المعتزلة كفار وابن عربي لا ، لا يكفر ، هذا صاحب كبرى اليقينيات لترجعوا فتطلعوا ، كبرى اليقينيات طلاب العلم يعرفون مؤلف هذا الكتاب ، وهذا المؤلف هو الذي قال في مبحث الاستواء لا يسعنا اليوم أن نقول كما قال الإمام مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة لا يسعنا ذلك اليوم ، لماذا ؟ لأننا درسنا فروع اللغة العربية درسنا البلاغة وتمكنا من علوم البلاغة ، بمعنى أن مالكا ومن حوله من الأئمة من كبار أئمة المسلمين الذين كانوا يعيشون في عهد تابعي التابعين الذين قيل عنهم هم أئمة الدنيا مالك والليث والأوزاعي والثوري أنهم لا يعرفون اللغة العربية كما يعرف صاحب كبرى اليقينيات ، هو الذي يعرف اللغة أولئك لا يعرفون اللغة ، إذا قال اليوم قائل لا يسعنا أن نقول كما قال الأئمة الأربعة ومن في طبقتهم أليس هذا يساوي لا يسعنا أن نتبع سبيل المؤمنين الأولين ؟ ومن خالف سبيل المؤمنين الأولين يتبع سبيل من ؟ سبيل المجرمين سبيل علماء الكلام سبيل المتصوفة ليس هناك شيء آخر إما الهدى وإما الضلال ؟ أولئك على هدى أئمة شهدت الدنيا بإمامتهم .
هؤلاء هم المتصوفة وهذا دينهم دين ابن عربي وأمثاله ، وهذا هو الفناء الأخير ليس بعده شيء .(22/13)
فلنرجع إلى كلام الشيخ فيقول (ولا سيما اذا غاب العارف بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته) عساكم فهمتم هذه الرطانة (ودخل فى فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزُل) هذا من باب الإغراب ويحبون الإغراب دائما ليلفتوا أنظار الناس وإلا هذا الكلام واضح معناه يفني من لم يكن من لم يكن ثم كان هذه جميع المخلوقات ، تفنى ، ويبقى من لم يزُل وهو الله ، ما هو الشيء الجديد الذي أتى به ؟ أتى بأسلوب غريب هذا يسمى الإغراب وإلا هذا معنى الله هو الباقي ، ونحن نقول الله هو الأول الذي ليس قبله شيء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام "أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء" هذه لغة الرسول عليه الصلاة والسلام ، قارن بين هذه اللغة وبين لغة القوم .
(فهذا عندهم هو الغاية التى لا غاية وراءها) الفناء الغاية التي لا غاية وراءها بالأقسام الثلاثة .
(ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون) أي توحيد الربوبية (من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء) الإنسان الذي يقرر ويكرر ويؤمن بأن الله وحده هو الخالق الرازق المانع المعطي النافع الضار القادر على الاختراع ومع ذلك لم يعرف معنى لا إله إلا الله لم يعرف أن معنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله ولم يوحد الله في عبادته أشرك به في نوع من أنواع العبادة أيا كان ذلك النوع لا يكون مسلما فضلا من أن يكون وليا من أولياء الله ولو كان من يقرر توحيد الربوبية وحده مسلما لا يوجد مشرك ، أولئك المشركون بالإجماع الذين بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام أول ما بعث يقررون توحيد الربوبية ويشركون بالله تعالى في عبادته ، ما نوع إشراكهم ؟(22/14)
يتخذون آلهة من أصنامهم وأوثانهم وإذا أراد أحدهم أن يسافر جاء عندها وتمتم حولها همسات يستأذن ويتبرك فيسافر ، فإذا جاء عندها تمتم حولها ، بس ، ذبح ونذر وهذا التعلق ، هل كانوا يصلون لها ويصومون لها ؟
لا ، وهل كانوا يعتقدون بأنها تخلق أو ترزق أو تعطي أو تمنع ؟
لا ، إذن القوم يعرفون معنى توحيد العبادة فرفضوا علما منهم ، تعصبا لآلهتهم ، التعصب للآلهة وللآباء والأجداد هذه ميزة أولئك القوم لذلك أبو طالب ما منعه من الإيمان برسول الله عليه الصلاة والسلام بعد أن عرف دينه إلا خوف الملامة والمسبة من قومه لئلا يقال إنه غير دين عبد المطلب ، هذا أهم شيء عندهم ، عيب وعار جدا أن يغير الإنسان دين آبائه ويترك تقاليد آبائه وأجداده ، هذه هي العلة الوحيدة التي منعت أبا طالب من الإيمان برسول الله عليه الصلاة والسلام وهو الذي آزره ودافع عنه واستمات دونه وقال فيما قال :
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
عَرَف .
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذلك مبينا
لنعرف أن التوحيد الحق أن يعرف الإنسان معنى لا إله إلا الله وهذا المعنى هو الذي لم يعرف لدى المتكلمين والمتصوفة ومن تربى في أحضانهم وقلدهم إلى يومنا هذا ، المسلمون كثر فما أكثرهم ، الله المستعان .
نعم .
((وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات فيفنون فى توحيد الربوبية مع اثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته وآخرون يضمون هذا الى نفى الصفات فيدخلون فى التعطيل مع هذا وهذا شر من حال كثير من المشركين وكان جهم ينفى الصفات ويقول بالجبر فهذا تحقيق قول جهم لكنه اذا اثبت الأمر والنهى والثواب والعقاب فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهى والثواب والعقاب عنده))(22/15)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد) توحيد الربوبية (مع إثبات الصفات فيفنون فى توحيد الربوبية مع اثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته) هذه طائفة أحسن حالا ممن يأتي بعدهم ولكن الذي يؤخذ عليهم جهلهم لتوحيد العبادة ، ولكنهم يثبتون صفات الله تعالى لذلك كثيرا ما ينقل شيخ الإسلام من كبار أئمة الصوفية إثباتهم لصفات الله تعالى كالفضيل والجنيد هؤلاء يعتبرون علماء يثبتون صفات الله تعالى وإن كان قد توجد لديهم شطحات وشطحات كثيرة ولكن الحق ضالة المؤمن إذا وجدنا لدى صوفي يؤمن بتوحيد الربوبية ويثبت الصفات وجدنا لديه كلاما مناسبا يتفق مع عقيدتنا ومنهجنا ننقل كلام الفضيل وكلام المحاسبي وكلام جنيد والتستري وهؤلاء من كبار مشايخ الصوفية ، وهل سلموا في توحيد العبادة ؟
الله أعلم ، المحاسبي معروف أنه فيه التصوف وفيه نزعة علم الكلام وكان الإمام أحمد كان معاصرا له يحذر تلاميذه من مجالسته ومع ذلك اطلعنا على بعض كتبه وقبل أن نطلع نحن اطلع عليه شيخ الإسلام ونقل منه نقولات وبعض هذه النقول موجودة في الحموية ، فكيف يجمع بين نقل شيخ الإسلام كلام المحاسبي وبين نهي الإمام احمد بعض تلامذته من مجالسته ؟
الجمع سهل ، فرق بين أن تجالس المبتدع وبين أن تجد في بعض كتبه كلاما نافعا فتنقله لأن مجالسة الشيخ المبتدع تؤثر في الطالب فيفقد على الأقل الحب في الله والبغض في الله ومسألة الولاء والبراء تذهب من كثرة المخالطة وقد يؤثر فيه ببعض بدعته فيحسنها وربما يثني عليه فيمدحه وهذا يعتبر دعاية للمبتدعة ، إذن فرق بين هذا وبين أن تجد في بعض كتبهم كلاما طيبا فتنقله على أنه ضالة المؤمن أخذها حيث وجدها ، بهذا نوفق بين موقف الإمام أحمد وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(22/16)
((وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات فيفنون فى توحيد الربوبية مع اثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته وآخرون يضمون هذا الى نفى الصفات فيدخلون فى التعطيل مع هذا وهذا شر من حال كثير من المشركين وكان جهم ينفى الصفات ويقول بالجبر فهذا تحقيق قول جهم لكنه اذا اثبت الأمر والنهى والثواب والعقاب فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهى والثواب والعقاب عنده . والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم فى مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا فى نفى الصفات والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء فى باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية فى الجملة كما فصلت أقوالهم فى غير هذا الموضع وأما فى باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة والكلابية هم أتباع أبى محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذى سلك الأشعرى خلفه وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبى وأبى العباس القلانسى ونحوهما خير من الأشعرية فى هذا وهذا فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل والكرامية قولهم فى الإيمان قول منكر لم يسبقهم اليه أحد حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وان كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا لكنه يخلد فى النار فخالفوا الجماعة فى الإسم دون الحكم وأما فى الصفات والقدر والوعد والوعيد فهم اشبه من اكثر طوائف الكلام التى فى أقوالها مخالفة للسنة))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :(22/17)
فشيخ الإسلام في صدد الحديث عن المتصوفة وأقسامهم ثم في سرد بعض طوائف اهل الكلام بالاختصار ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات فيفنون فى توحيد الربوبية مع اثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته) هذه الطائفة تعتبر من أمثل طوائف المتصوفة أما دعوى المعرفة فهذا شيء عام عندهم وهم يفضلون صفة المعرفة على صفة العلم ولا يرون إطلاق المعرفة أو العارف إلا على طائفة مخصوصة منهم وغيرهم من أهل العلم لا يطلق عليهم أنهم من العارفين بل لا يطلق هذا اللقب إلا على من وصل إلى درجة معينة عندهم من أهل التصوف ، ومع ذلك كله يقرون هذا التوحيد الذي هو توحيد الربوبية ، التوحيد الذي لم ينكره حتى مشركو العرب كما تقدم مع إثباتهم الصفات ، يمتازون بهذا على غيرهم أنهم يثبتون الصفات مع ما يدعون من الفناء في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المباين أو المبائن لمخلوقاته المعنى واحد أي يثبتون العلو وهذه ميزة عظيمة عندهم وإن كان كثير من الذين ينتسبون إليهم في الجملة كالكلابية والأشاعرة الكلابية لا يثبتون صفة العلو ولكن يوجد في المتصوفة من يثبت الصفات مع دعوى الفناء في توحيد الربوبية وقد تقدم تفسير الفناء ثم إثبات الخالق للعالم المباين للمخلوقات أي لا يقولون إنه في كل مكان هذه هي الميزة ، هذه الطائفة لعله يمثل هذه الطائفة الجنيد والفضيل وعبدالله التستري والمحاسبي وأمثالهم من الذين نقل شيخ الإسلام كلامهم في الفتوى الحموية وغيرها هؤلاء يثبتون علو الله تعالى على مخلوقاته وأنه بائن لمخلوقاته ليس مختلطا بخلقه ولا يقولون كما تقول الأشعرية إنه في كل مكان ولا ينفون استواء الله تعالى على عرشه يثبتون بأن الله مستو على عرشه استواء يليق به ، ليفرق طلاب العلم بين صفة العلو وصفة الاستواء أن صفة الاستواء صفة فعلية أي لأن الله سبحانه وتعالى استوى على(22/18)
عرشه كما يليق به لحكمة اقتضت ذلك بعد أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء ، خص العرش بالاستواء الاستواء الذي نعقل معناه ولا نعقل كيفيته إذن الاستواء صفة فعل الاستواء والنزول والمجيء هذه صفات أفعال تتجدد حسب إرادة الرب سبحانه وتعالى وتتعلق بالمشيئة ولا توصف بأنها صفة قديمة أما العلو علو الله تعالى فوق جميع مخلوقاته صفة ذاتية قديمة قدم الذات كالقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات التي تثبتها حتى الأشاعرة وهذا من التناقض الذي تقع فيه الأشاعرة إذ يثبتون جملة من الصفات الذاتية وينفون غيرها أيضا وهي من الصفات الذاتية ، الصفة الذاتية الصفة القديمة الملازمة للذات كالوصف بإثبات الوجه لله تعالى كما يليق به وبإثبات اليدين والأصابع وإثبات العلو ، هذه صفات ذاتية فلتفهم ، هؤلاء هذه الطائفة من الصوفية يثبتون هذه الصفات وقد نقل شيخ الإسلام عنهم نقولا وصرح بأنه ليس كل من نقل كلامه أنه يقول بكل ما يقولونه ولا هم يقولون بكل ما يقول بمعنى إذا وجد عند الصوفية كلاما طيبا مناسبا لمنهج السلف نقله وهو يعلم أنهم ليسوا بسلفيين في سائر الأبواب ولكنهم وافقوا القوم وأثبتوا الحق فيؤخذ الحق لأن الحق ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها ، بهذا يجمع بين تصرف شيخ الإسلام رحمه الله بنقل كلام هؤلاء وبين تحذير الإمام الإمام أحمد تلاميذه من مجالسة المحاسبي ، المحاسبي خير من كثير من الأشاعرة وهو عالم جليل ولكن فيه شطحات الصوفية وتأثر بعلم الكلام خشية أن يتأثر تلاميذه به إما في شطحاته الصوفية أو في تأثره بعلم الكلام كان الإمام يحذر من مجالسته يحذر تلاميذه ، قلنا غير مرة لكون المقام مهم فرق بين أن تستقيد من كلام ومن كتاب عالم فيه ابتداع تستفيد من كتابه كلاما مفيدا وتترك ما عدا ذلك وبين أن تجالسه لأن مجالسة المبتدع تؤثر والاستفادة من كتابه لا تؤثر هذا هو الفرق بين الأمرين وبهذا يجمع(22/19)
بين موقف الإمام أحمد وموقف الإمام أحمد ابن تيمية رحمهما الله .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (وآخرون يضمون هذا الى نفى الصفات) يضمون إقرارهم بتوحيد الربوبية أي بعض المتصوفة يقرون توحيد الربوبية ويضمون إلى ذلك نفي الصفات (فيدخلون فى التعطيل مع هذا) إذن الصوفية ليسوا على منهج موحد وقد تقدم أن قرر الشيخ أن جميع أهل الكلام ليس لهم قاعدة مستقرة يلتزمونها لذلك هم مختلفون تجدون من الصوفية من يوافق منهج السلف ومنهم من يخالف ويوافق أهل الكلام وينفي الصفات مع إقراره لتوحيد الربوبية الذي ليس محل نزاع أو لم يكن محل نزاع قط .
(فيدخلون فى التعطيل) كل من ينفي صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى أو يؤوِّل تأويلا يؤوْل إلى نفي الصفات فهو معطل يقال له معطل ويقال له جهمي ويقال له نافي الصفات وهذه الألقاب تصدق على الأشاعرة يقال لهم جهمية ومعطلة ونفاة وفي القوت نفسه يقال لهم مثبتة باعتبار ليس هناك تناقض هم مثبتو باعتبار ومعطلة باعتبار ، مثبتة باعتبار إثباتهم للصفات العقلية التي سموها صفات المعاني والصفات المعنوية إلى غير ذلك بالنسبة للدارس لكتبهم ، وهم معطلة بالنسبة للصفات الخبرية الصفات الخبرية سواء كانت ذاتية أو فعلية فهم معطلون فيها معطلون أي نفاة بالنسبة لبعضها كنفيهم لصفة العلو ونفيهم لصفة الاستواء ونفيهم للكلام اللفظي فهم هنا نفاة نفيا محضا ، ومؤولة يؤول تأويلهم إلى نفي الصفات بالنسبة لبقية الصفات الخبرية ذاتية أو فعلية .
يقول الشيخ رحمه الله (وهذا شر من حال كثير من المشركين) لأن المشركين في الجملة لم يعلم عنهم نفي الصفات هؤلاء وافقوا المشركين في إقرارهم توحيد الربوبية مع عدم التعرض لتوحيد العبادة أي عدم إقرارهم لتوحيد العبادة أضافوا إلى ذلك التعطيل صاروا شرا من كثير من المشركين .(22/20)
(وكان جهم ينفى الصفات) ينفي الصفات والأسماء معا وهذا اختصار في التعبير (وكان جهم ينفى الصفات) والأسماء معا بل لا يثبت لله سبحانه وتعالى إلا الوجود المطلق (ويقول بالجبر) يقول بالجبر أي بأن العبد مجبور على ما يفعل ليست للعباد إرادة أو قدرة أو مشيئة بل كالشجرة التي تحركها الرياح وكاليد المرتعشة العبد فيما يفعل وفيما يترك ليست له إرادة أو قدرة أو مشيئة فهو مجبور . (فهذا تحقيق لقول جهم) بالاختصار ولم يتوسع في تحقيق قوله وقوله معروف أنه يقول بالجبر وأنه ينفي جميع الأسماء والصفات وأنه مرجئ أيضا كما سيأتي إرجاء أقبح من كل إرجاء كما سيأتي تفصيله في الكتاب نفسه .
(لكنه اذا اثبت الأمر والنهى) جهم مع كل ما فيه من البلاء (اذا اثبت الأمر والنهى والثواب والعقاب فارق المشركين) أي إذا آمن بشؤون المعاد بأن الأمر والنهي يترتب عليهما الثواب والعقاب آمن بالبعث وما يترتب على البعث من الثواب والعقاب (فارق المشركين) لن المشركين لا يؤمنون بالمعاد (فارق المشركين من هذا الوجه) انظروا إلى هذا الإنصاف هكذا ينصف شيخ الإسلام حتى جهما جهم بن صفوان (لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء) الإرجاء عندهم عنده هو ، الإيمان عند جهم هو المعرفة فقط معرفة بالقلب سواء كان هناك تصديق أو لم يكن أي لا يشترط التصديق ولا النطق مجرد المعرفة وعلى كلامه لا يوجد كافر لأن الكفر عنده الجهل إلا أنه قيل إن جهما حكم على نفسه بالكفر من حيث لا يشعر حيث قال إن الكفر هو الجهل ولا يوجد أجهل منه بالله ، لا يوجد أجهل بالله من جهم ، جهم بن صفوان إذن هو كافر بشهادته على نفسه هذا هو الإرجاء عنده أقبح من إرجاء الآخرين الذين سيأتي ذكرهم .
فيقول الشيخ رحمه الله تعالى (يقول بالإرجاء فيضعف الأمر والنهى والثواب والعقاب عنده) ما فائدة إيمانه بالأمر والنهي والثواب والعقاب إذا كان الإيمان عنده مجرد المعرفة والكفر هو الجهل .(22/21)
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم فى مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا فى نفى الصفات) ومن أراد أن يطلع على تفاصيل عقائد هؤلاء الذين أشار إليهم الشيخ هنا النجارية والضرارية وغيرهم عليه أن يدرس كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري هناك التفاصيل ، ونكتفي بهذا المقدار من الإيجاز .
(والكلابية والأشعرية) والعطف هنا المغايرة غير واضحة في هذا العطف ، والكلابية الأشعرية أو الأشعرية الكلابية ، الأصل الكلابية هي الطائفة المعروفة كانت موجودة عندما كان أبو الحسن معتزليا تابعا لشيخه أبي علي الجبائي ولما فارق شيخه بعد أن اختلف معه في مسألة الأصلح فالأصلح للعباد حيث يرى شيخه يجب على الله تعالى أن يفعل الأصلح فالأصلح للعباد ناظره تلميذه أبو الحسن في مسائل شتى منها هذه المسألة ..
الشريط الثامن والعشرون :(22/22)
أن يفعل الأصلح فالأصلح للعباد ناظره تلميذه أبو الحسن في مسائل شتى منها هذه المسألة ففارقه وانحاز إلى الكلابية إلى ابن كلاب فطار صيته في الكلابية وغلب على ابن كلاب أولا لسعة علمه لأنه يقال إنه عاش في الاعتزال نحوا من أربعين سنة ثم له شهرة في نسبه لأنه ينتسب إلى أبي موسى الأشعري يعني علو نسبه وظهوره وعلمه وصيته الطويل جعل يغلب على شيخه حتى قيل للعقيدة العقيدة الأشعرية بدلا من أن يقال العقيدة الكلابية وعلى هذا الكلابية والأشعرية شيء واحد وإن كانت الكلابية في الأصل عقيدة قائمة بنفسها إلا أن الأشعرية التي عليها المعاصرون اليوم هي نفس الكلابية هي الكلابية نفسها ، يقال للعقيدة الأشعرية الأشعريةُ الكلابية ، العقيدة الأشعرية الموجودة اليوم في كتبهم لأن أبا الحسن كما يعلم طلاب العلم وكما أثبت المؤرخون الثقات مرت عليه ثلاثة أطوار كان معتزليا عندما كان عند شيخه أبي علي الجبائي ثم كان كلابيا في هذا الطور الذي انتشر فيه مذهبه بين الناس ثم انتهى أمره إلى السلفية فأصبح سلفيا في نهاية مطافه ، أثبت هذه الأطوار عدد من المؤرخين المعتبرين في مقدمتهم الحافظ ابن كثير وابن خلكان راجعوا هذه المراجع لأن كثيرا من المنتسبين إلى الأشعرية ينكرون هذه الأطوار اليوم ولا مجال للإنكار وهذا أمر ثابت ، الأشعرية الموجودة اليوم بين الناس هي الأشعرية الكلابية التي رجع عنها الشيخ أبو الحسن وأعلن في رجوعه أنه رجع إلى منهج ومذهب إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل وأثنى عليه ثناء عاطرا يليق به في أول مقدمته في الإبانة ، هكذا يظهر رجوعه إلى منهج السلف ولا يعلم له منهج آخر بعد ذلك إذن ختم الله له بمنهج السلف كما يقول محب الدين الخطيب .(22/23)
(والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء فى باب الصفات) هذا أيضا إنصاف آخر على الأشاعرة أن يقبلوا هذه الشهادة بدلا من أن يبالغوا في أنفسهم فيصفوا أنفسهم أنهم أهل السنة والجماعة أو من أهل السنة والجماعة، ليسوا أهل السنة والجماعة ولا منهم ولكنهم قريبون منهم أقرب من غيرهم ، لكونهم أثبتوا بعض الصفات ولكونهم وافقوا أهل السنة في كثير من المواقف في موقفهم من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام موقفهم يوافق موقف أهل السنة والجماعة ولعله يظهر قريبا كتاب كتبه بعض طلبة العلم بين فيه ما اتفقت عليه الأشاعرة والمعتزلة وأهل السنة وما اختلفوا فيه جميعا نرجو أن يظهر قريبا إن شاء الله .(22/24)
يقول (فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية) في بعض النسخ الصفات الفعلية ، صححوا (فإنهم يثبتون لله تعالى الصفات العقلية) الصفات العقلية هي الصفة التي يشترك في إثباتها الدليل العقلي والنقلي معا يقابلها الصفات الخبرية وهم لا يثبتون الصفات الخبرية ولكن يثبتون الصفات العقلية أكرر هذه المسألة غير مرة ربما يظن بعض الناس أن هناك صفات عقلية محضة تثبت بالعقل فقط دون النقل وهذا أمر لا وجود له لأن مصدر إثبات الصفات الوحي ولكن بعض الصفات لوضوحها يشترك الدليل العقلي مع النقلي بحيث لو فرق عدم ورود الدليل النقلي أثبت الدليل العقلي تلك الصفة ، وجود الرب سبحانه وتعالى تدركه بعقلك وقدرته الباهره تدركها بعقلك وإرادته وسمعه وبصره هذه صفات عقلية يدرك المرء بعقله مع وجود النقل إلا أنه كما قلت لا توجد صفات عقليه محضة توجد صفات خبرية سمعية نقلية محضة هي التي لا يثبتها الأشاعرة إلا بعض أئمتهم كما أشار شيخ الإسلام يقول (فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية) ولعل هذا التعبير (وأئمتهم) أي بعض أئمتهم ليسوا كلهم ، بعض أئمة الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية فليكن منهم والد إمام الحرمين فليكن منهم إمام الحرمين نفسه في الرسالة النظامية وإن كانت الرسالة مضطربة ليست ككلام والده عنده اضطراب لكنه أثبت بعض الصفات ، فليكن منهم أيضا الغزالي في رسالته الصغيرة التي سماها إلجام العوام عن علم الكلام أي هؤلاء الأئمة قد يثبتون الصفات الخبرية وقد علمنا معنى الصفات الخبرية وهي التي تسمى الصفات النقلية والصفات السمعية وهي الصفات التي لا مجال لإثباتها إلا بالسمع والخبر والنقل .(22/25)
(وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية فى الجملة) هذا تعبير دقيق تحفظ من شيخ الإسلام أي لا يثبتون جميع الصفات الخبرية لكن في الجملة قد يفهم من كلامهم أنهم يثبتون ذلك ، فرق بين (في الجملة) و (بالجملة) (كما فصلت أقوالهم فى غير هذا الموضع) يرجع طلاب العلم إلى كلام الشيخ بدون تحديد للمرجع كما عودنا رحمه الله .
(وأما فى باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة) الكلابية والأشعرية ، في باب القدر وهم يثبتون القدر المعلوم منهم ، وفي باب الأسماء والأحكام قد يكون لديهم نوع من الاضطراب لأن وقوعهم في الجبر المتستر بالكسبية بكسب الأشعري ووقوعهم في الإرجاء قد يضعف هذا المعنى ، سيأتي تفصيل ذلك .
(والكلابية هم أتباع أبى محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذى سلك الأشعرى خلفه) وذهب مذهبه وتقدم البيان كيف ظهر اسمه واختفى اسم شيخه الذي انتمى إليه بعد أن سلك خلفه واتبع مذهبه .
(وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبى وأبى العباس القلانسى ونحوهما خير من الأشعرية فى هذا) الباب ، هذه شهادة أخرى وإنصاف آخر ، المحاسبي الذي كان يحذر الإمام أحمد من مجالسته وزميله أبو العباس القلانسي ومن في معناهما من أتباع ابن كلاب خير من الأشعرية في هذا الباب خير من الأشعرية الكلابية في هذا الباب ، هؤلاء أفراد أي أفراد هؤلاء خير من الأشعرية في الجملة ولا يلزم من هذا أن يكونوا خيرا من الأشعري نفسه بل من الأشعرية من المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري ... أسماء الأحكام كافر مؤمن فاسق ، والأحكام الكفر والنفاق والإيمان .
(وهذا فكلما كان الرجل) (هذا) الواو ليست بظاهرة عندي لو قال (هذا) بدون واو الأمر واضح ، (هذا) افهم هذا ، يكون الأمر هكذا ، لكن مع وجود الواو ليس بواضح عندي .(22/26)
(وهذا فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل) منهم الأشعرية والكلابية وأفراد من الكلابيين كما تقدم ، فلتراجع هذه العبارة اجعل عليها استفهام.
(والكرامية) هذه الطوائف كلها تعريفها والكلام عليها موجود عندكم في التعليق (والكرامية قولهم فى الإيمان قول منكر لم يسبقهم اليه أحد حيث جعلوا الإيمان قول اللسان) الإيمان عند الكرامية قول اللسان أن يقول الإنسان أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهو غير مصدق أي إن المنافق عند الكرامية مؤمن ولذلك يعتبر قولهم أسوأ وإرجاؤهم أسوأ وهذا نوع من الإرجاء .
(فيجعلون المنافق مؤمنا لكنه يخلد فى النار) المنافق يخلد في النار عندهم وهذا خبط وخلط منهم وعلى هذا كل الناس يخلدون إذا كان الإيمان هو قول اللسان وحكمتم على من اكتفى بقول اللسان بأنه مخلد يلزمكم أن تقولوا جميع الناس الذين اكتفوا بهذا الاكتفاء أنه مخلد في النار .
(فخالفوا الجماعة فى الإسم دون الحكم) الاسم مؤمن منافق كافر هذا تسمى أسماء والأحكام كونه الكفر والنفاق والإيمان وأحكام الآخرة مخلد وغير مخلد هذه هي الأحكام ، خالفوا الجماعة جماعة المسلمين في الاسم لأن جماعة المسلمين لا يطلقون على من يكتفي بقول اللسان بأنه مؤمن بل بأنه منافق ولكنهم حكموا عليه بالخلود إن المنافق إذا مات على نفاقه فهو مخلد عند الجماعة أيضا إذن وافقوا الجماعة في الحكم وخالفوا في الاسم ، المراد بالجماعة جماعة المسلمين الجماعة الأولى ومن سلك مسلكهم .
(وأما فى الصفات والقدر والوعد والوعيد فهم اشبه من اكثر طوائف الكلام التى فى أقوالها مخالفة للسنة) أحيلكم كما أحلتكم سابقا لدراسة هذه التفاصيل في مقالات الإسلاميين ، نعم .
والله أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .(22/27)
((وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات ويقاربون قول جهم لكنهم ينفون القدر فهم وإن عظموا الأمر والنهى والوعد والوعيد وغلو فيه فهم يكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب والإقرار بالأمر والنهى والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهى والوعد والوعيد ولهذا لم يكن فى زمن الصحابة والتابعين من ينفى الأمر والنهى والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخف وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة
فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع اعراضهم عن الأمر والنهى شر من القدرية المعتزلة ونحوهم أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) والمشركون شر من المجوس))
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في التدمرية (وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات) الصفات كلها (ويقاربون قول جهم) لأن جهما ينفي الأسماء والصفات معا والمعتزلة ينفون الصفات ويثبتون الأسماء والأسماء التي تثبتها المعتزلة عبارة عن الأعلام الجامدة التي لا تدل على المعاني كأنهم في واقع الأمر لم يثبتوا شيئا قاربوا الجهمية لم يكونوا منهم بالفعل لكنهم قاربوهم عندما نفوا الصفات وأثبتوا أسماء لا تدل على الصفات ، هذا معنى القرب .
(لكنهم ينفون القدر) المعتزلة جمعوا مع نفي الصفات نفي القدر والقدر القدرية ظهرت قبل المعتزلة إلا أن المعتزلة اعتنقت عقيدة القدرية فجمعت بين نفي القدر ونفي الصفات .
(فهم) المعتزلة (وإن عظموا الأمر والنهى) لم يكونوا كالمتصوفة المتساهلين بالأمر والنهي (والوعد والوعيد وغلو فيه) أي في الوعد والوعيد حيث أخرجوا من الإسلام مرتكب الكبيرة وهذا تشديدهم في الوعيد وغلوهم في الوعيد .(22/28)
(فهم يكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب) لأنهم يثبتون مع الله تعالى خالقين بلا حساب أي وقعوا في الشرك في الربوبية لأن العباد عندهم هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم الاختيارية ، العباد يشملون الملائكة والإنس والجن فأصبحوا مشركين من هذا الباب أي في باب توحيد الربوبية .
يقول شيخ الإسلام (والإقرار بالأمر والنهى والوعد والوعيد) وإن كان فيه نوع من الغلو (مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهى والوعد والوعيد) إذا كان الإنسان يقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد يؤمن لكنه ينكر القدر كما وقع ذلك من المعتزلة خير نوعا ما من الإقرار بالقدر مع إنكارالأمر والنهي والوعد والوعيد كما تقع في ذلك غلاة المتصوفة الذين لا يثبتون الأوامر والنواهي بل الشريعة كلها لأنهم يزعمون ينتقلون من الشريعة إلى الحقيقة قضوا على الأمر والنهي والوعد والوعيد بدعوى العمل بالحقيقة وهؤلاء شر من القدرية .(22/29)
(ولهذا) انتبهوا لهذه القاعدة وهي مهمة (لم يكن فى زمن الصحابة والتابعين من ينفى الأمر والنهى والوعد والوعيد) لأن الصوفية لم تظهر هؤلاء إنما ظهروا في أواخر المئة الثانية وأوائل المئة الثالثة في البصرة في عهد الصحابة لم يظهر من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد (وإن كان قد نبغ) – هل في نسخة عندكم بإثبات (إن) (وإن كان) أو كلكم (وكان) - (وإن كان قد نبغ فيهم القدرية) في زمن الصحابة ظهرت القدرية (كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية) وكذلك الشيعة ، يرى شيخ الإسلام أن الفرق الضالة ظهرت بالتدرج أول ما ظهر الخوارج الخوارج لم يعتنقوا في ذلك الوقت عقيدة الاعتزال بل يعتبرون حزبا سياسيا معارضا خارجا على السلطة بتأويل ولهم تأويل من هذا الباب أحسن حالا من الروافض لأنهم في خروجهم اعتمدوا على تأويل النصوص وإن كانوا مخطئين في تأويلهم كانتقادهم على علي رضي الله عنه لماذا يقاتل قوما لا يغنم ولا يسبي ولماذا يمحوا اسمه من أمير المؤمنين ولماذا يحكم الرجال في دين الله ، هذه النقاط الثلاث من أهم في زعمهم النقاط التي انتقدت الخوارج على علي فحاورهم عبدالله بن عباس وهم قد اجتمعوا في حروراء ليقاتلوا عليا ، يختلف المؤرخون في عددهم منهم من يقدر بستة آلاف مقاتل وعد حوار عبد الله بن عباس تاب منهم ألفا مقاتل فقاتل علي البقية الباقية يعتبرون حزبا سياسيا معارضا خارجا على السلطة بتأويل .
ثم ظهرت الشيعة وهم أسوأ لندرك التدرج الذي يشير إليه شيخ الإسلام وجه ذلك لأن الشيعة ألهوا عليا رضي الله عنه أي أشركوا بالله تعالى في توحيد العبادة وهم أسوأ حالا من الخوارج لذلك اضطر علي إلى أن يحرق رؤساءهم .(22/30)
ثم ظهرت القدرية قد نستأنس في هذا الترتيب بموقف عبدالله بن عباس لأنه عند خروج الخوارج كان قويا جهوري الصوت وله هيبة ولما خرج إليهم وقد لبس حلته الجميلة حاورهم وأثر فيهم ، وعندما خرجت القدرية قد كف بصره لذلك كان يتمنى لو وقعت رقبة قدري في يده حتى يلويها فيقطعها رضي الله عنه ، لعل شيخ الإسلام .. يشير إلى هذا التدرج في ظهور أهل البدع لذلك يقول (وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخف) كما أشرنا إن كانت إشارتنا وشرحنا موفقا إن شاء الله (وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة) وإذا ضعف الدعاة دعاة الحق من القيام بالرد على المبتدعة والدفاع عن العقيدة وجاملوا أو جبنوا ظهرت البدع وفشت وانتشرت كما هو الواقع ، في دراستنا في الليالي السابقة في الفتوى الحموية أدركنا موقف الأئمة من أهل الفرق لكل إمام من الأئمة الذين ذكر شيخ الإسلام في النقول التي مرت بنا من التابعين وتابعي التابعين لهم موقف حاسم ورد قوي ومناقشة مفحمة ولما ضعف الرد عليهم وربما جهل المنهج نفسه منهج السلف واختلط الأمر على كثير من الناس كثرت الجماعات ولا تزال تكثر ، الله المستعان .
فيقول شيخ الإسلام (فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية) في زعمهم (مع اعراضهم عن الأمر والنهى شر من القدرية المعتزلة) المعتزلة يحملون لقبين الآن بينما عند ظهورهم معتزلة لكن زادوا على الاعتزال نفي القدر فيقال لهم القدرية المعتزلة أو المعتزلة القدرية (ونحوهم) ممن يقرب منهم كالأشاعرة .(22/31)
(أولئك يشبهون بالمجوس) لحظة ، أولئك للغيبة (وهؤلاء) للحضور ، أيهما أبعد ذكرا ؟ المتصوفة أو القدرية ؟ .. إذن كيف يكون التفسير ؟ كان المفروض (هؤلاء يشبهون بالمجوس) هؤلاء الذي هم أقرب ذكرا القدرية (هؤلاء يشبهون بالمجوس وأولئك) المتصوفة (يشبهون بالمشركين) قد يكون هذا تصرف من النساخ لا تحسبوا أن هذا الترتيب كلما نقرأ من شيخ الإسلام ، لا ، الكتاب مر على أيدي كثيرة أيدي النساخ وإلا هذا شيء واضح (أولئك) للبعد و (هؤلاء) للقرب :
وبهنا أو ها هنا أشر إلى ... داني المكان وبه الكاف صلا
للبعد ..
هؤلاء القدرية المعتزلة يشبهون بالمجوس لإثباتهم خالقين غير الله وأولئك المتصوفة يشبهون بالمشركين لأنهم وقعوا في الإشراك بالله تعالى (بالمشركين الذين قالوا (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)) ويقول شيخ الإسلام بعد هذا كله (والمشركون شر من المجوس) ما وجه ذلك ؟
المشركون في باب العبادة في توحيد العبادة شر من المجوس وإن كان المجوس ومن شُبه بهم لم يسلموا من الشرك في توحيد الربوبية ولعل الشرك في العبادة أبلغ وأقبح لعل هذا وجه المقارنة .
والله أعلم .
((فهنا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذى يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وقد وقع كثير من الناس فى الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما مع ظنه أنه فى غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله ان لم يقترن به اقراره بأنه لا اله الا الله فلا يستحق العبادة أحد الا هو وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام فى هذين الأصلين))(22/32)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ليختم رسالته بأصل عظيم في الإسلام بعد تلك القواعد التي مرت بنا أصل الإسلام الشهادتان ، الشهاداتان اللتان لا بد من اللفظ بهما لكل من يريد أن يدخل في الإسلام ولو كان أعجميا ثم لا بد من معرفة معناهما ولا يكفي مجرد التلفظ بهما ثم لا بد من العمل بمقتضاهما حتى يتم الإيمان ويكون بذلك وضع لإسلامه أساسا وأصلا لذلك يقول الشيخ (فهنا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه) (على المسلم) (أل) للجنس على كل مسلم يشمل المسلمة لأن الخطاب في الشرع غالبا يوجه إلى الرجال والنساء يدخلن .
(أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذى يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي الفاصلة بين الكافر وبين المسلم وهي أعظم شعبة من شعب الإيمان لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الإيمان بضع وستون شعبة قال أعلاها لا إله إلا الله ، فإذا ذكرت لا إله إلا الله وفي بعض النصوص لم يأت ذكر محمد رسول الله لكنه ذكر هذا الجزء الأخير بالقوة أي في حكم المذكور لأن شهادة لا إله إلا الله وحدها لا تجدي ولا تنفع حتى تضم إليها شهادة أن محمدا رسول الله وكذلك العكس هما كلمتان ككلمة واحدة لا بد من التلفظ بهما معا ومعرفة معناهما معا والعمل بهما معا والدعوة إليهما معا هذا هو الإسلام .
(فإنه أصل الإسلام الذى يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة) الإيمان بوحدانية الله تعالى في عبادته بحيث لا يشرك به شيء لا في شعائر العبادة ولا في توحيد التحكيم ، والإيمان بالرسالة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بل تجريد المتابعة له كما تجب أو كما يجب إفراد الله تعالى بالعبادة كذلك يجب تجريد المتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام بذلك يتم أصل الإسلام .(22/33)
(وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة شهادة) إما بدل أو عطف بيان تقدر فتقول :وهو أي ذلك الإيمان (شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله) كما تقدم ليس الشأن كل الشأن التلفظ بهما فقط بل التلفظ بهما ومعرفة معناهما والعمل بمقتضاهما إلا في حالة واحدة لو أدرت أن تقتل كافرا قال أشهد أن لا إله إلا الله وجب عليك الكف بصرف النظر هل قال ذلك تقية أو قال من قلبه احتراما لكلمة الإسلام وجب الكف عن قتل من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله بعد ذلك يبقى تحت الاختبار إن رأيناه نشطا ومحبا للإسلام ونشطا في العبادة يبحث عن الصلاة يتعلم الصلاة فيصلي ويعمل الأعمال الإسلامية فهو أخونا يجب الكف عنه واحترامه وإثبات جميع حقوق المسلمين له فإن رأيناه يتهرب عن الصلاة وعن الالتزام أدركنا بأنه إنما قال ذلك تقية دعوناه من جديد إلى الإسلام فنصحناه فإن لم يقبل يقتل مرتدا لأننا اعتبرناه مسلما بتلفظه بالشهادتين ثم ظهر لنا منه خلاف ما ذكر خلاف ما نطق يقتل مرتدا في هذه الحالة تنفع هذه الكلمة وحدها نفعا مؤقتا والله أعلم .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وقد وقع كثير من الناس فى الإخلال بحقيقة هذين الأصلين) بدأ هذا الإخلال في عهده فما بالكم اليوم بل اليوم انتشر الجهل جهل هذين الأصلين حيث اكتفى كثير من الناس بمجرد التلفظ ثم يترك جميع أعمال الإسلام فيترك الصلاة فإذا قيل له في الصلاة قال الإيمان ها هنا الإيمان في القلب ، متى دخل الإيمان في قلبك ؟ ولو دخل الإيمان في قلبك لظهر أثره في جوارحك :
فإذا حلت العبادة قلبا ... نشطت في العبادة الأعضاء
الإسلام والإيمان والتقوى الأصل من القلب لكن هذا الأصل يحتاج إلى أصل آخر أو إلى شرط أو إلى شاهد ما الشاهد بأنك قلبك مؤمن ؟
أعمال الجوارح وقول اللسان الإيمان القلبي يحتاج إلى شهود إلى ما يشهد له .(22/34)
يقول شيخ الإسلام وهو يتحدث عن وقته (وقد وقع كثير من الناس فى الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما) إما الإخلال بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله معا أو القيام بحق شهادة أن لا إله إلا الله والإخلال في شهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الكثير (مع ظنه أنه فى غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة) الذين يتبجحون بهذه العناوين هم الصوفية الذين يلقبون أنفسهم بالعارفين بالله والواصلين إلى الله ومع ذلك يجهلون معنى لا إله إلا الله ومعنى أن محمدا رسول الله يجهلون تماما أو يتجاهلون .(22/35)
يقول شيخ الإسلام (فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله ان لم يقترن به اقراره بأنه لا اله الا الله فلا يستحق العبادة أحد الا هو وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر) هذا معنى الشهادتين لو أن إنسانا ما كما هو واقع كثير من الناس يعترف بأن الله وحده هو الخالق الرازق رب كل شيء وخالق كل شيء لا خالق إلا الله وربما فسر لا إله إلا الله لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله ولا معطي ولا مانع إلا الله ومع ذلك يعبد غير الله يدعو غير الله ويستغيث بغير الله ويحكم شرعا غير شرع الله لا تنفعه هذه الشهادة الجوفاء أي إقراره بتوحيد الربوبية وحده لا يجعله مسلما أصلا لأن الكفار المشركين الذين حاربهم النبي عليه الصلاة والسلام واستحل دماءهم وأموالهم يشهدون بأن الذي خلقهم هو الله وحده "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله" ومع ذلك مشركون بالإجماع استحلت أموالهم ودماؤهم لذلك ما عليه كثير من المتصوفة من دعوى التحقيق بل للأسف والاستخفاف بالشريعة ثم دعوى الفناء في توحيد الربوبية مع إعراضهم عن توحيد العبادة لا يجعلهم مسلمين فضلا من أن يكونوا من أولياء الله الصالحين ، إنما يكون الموحد موحدا إذا اعتقد بأنه لا يستحق العبادة أحد إلا هو بشرط أن يعرف معنى العبادة لا يظنن ظان أن العبادة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وكفى ، أصل العبادة غاية الذل مع غاية الحب ، إذا رأيت من يتذلل لغير الله تعالى ويخضع له ربما يكاد أن يسجد أو يسجد ويحبه محبة لا تليق إلا لله ، يحبه ويرغب فيه ويخاف منه ويحذر قد عبد هذا الشخص الذي وقف منه هذا الموقف اتخذه شريكا مع الله نقض قوله لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله لها نواقض كنواقض الوضوء ، دعوة غير الله الذبح لغير الله والنذر لغير الله والاستغاثة بغير الله وتحكيم قانون يخالف شرع الله يناقض قول لا إله إلا الله(22/36)
، ولو اتخذ من لا إله إلا الله وردا يعده على السبحة مئة حبة لا ينفعه ذلك حتى يحقق هذا المعنى ، ثم يشهد أن محمدا رسول الله يجب تصديقه في كل ما أخبر فرسول الله عليه الصلاة والسلام أخبر عن الغيب بالماضي مع الأمم السابقة مع أنبيائهم كأنه كان يعيش بينهم عليه الصلاة والسلام وأخبر عن الغيب المستقبل كثيرا لأن الله أطلعه على ذلك وأخبر وأمر فيما نحن فيه من أحوال العبادة والطاعة والتوحيد وغير ذلك ، يجب تصديقه في كل ذلك ولا يجوز عرض أحاديثه على العقول حتى تخضع للعقول او وافقت العقول على قبولها قبلت وإلا ردت كما يفعل العقلانيون اليوم أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا صحت بالطريقة المعروفة عند أهل الحديث وجب العمل بها في الأصول والفروع وذلك من معنى أشهد أن محمدا رسول الله .
(فلا بد من الكلام فى هذين الأصلين) يعني بالتفصيل .
تفضل .(22/37)
((الأصل الأول ( توحيد الإلهية ) فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون اذن الله قال تعالى ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤون الله بما لا يعلم فى السموات ولا فى الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) فاخبر ان هؤلاء الذين أتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون وقال تعالى عن مؤمن يسن ( ومالى لا اعبد الذى فطرنى واليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة ان يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون انى اذا لفى ضلال مبين انى آمنت بربكم فاسمعون ) وقال تعالى ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) فأخبر سبحانه عن شفعائهم انهم زعموا انهم فيهم شركاء وقال تعالى ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض ثم اليه ترجعون ) وقال تعالى ( ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع ) وقال تعالى ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع ) وقال تعالى ( من ذا الذى يشفع عنده الا بإذنه ) وقال تعالى ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) وقال تعالى ( وكم من ملك فى السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن شاء ويرضى ) وقال تعالى ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له ) وقال تعالى ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا(22/38)
تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )
قال طائفة من السلف كان قوم يدعون العزيز والمسيح والملائكة فأنزل الله تعالى هذه الآية يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون الى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه))
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (الأصل الأول) من الأصلين المذكورين (توحيد الإلهية) توحيد الإلهية مأخوذ من الآيات التي سردها الشيخ ، التوحيد إما توحيد الإلهية أو توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات وهذا التقسيم استقرائي أي بتتبع الآيات إذا تتبعت الآيات التي بين يديك تجد كلها تدعو إلى إفراد الله بالعبادة يسمى هذا القسم توحيد الإلهية ، ومرت بنا آيات وستأتي تخبر بأن الله وحده خالق كل شيء ويسمى هذا القسم توحيد الربوبية ومرت بنا آيات وآيات وأحاديث فيها تعداد أسماء الله تعالى وصفاته على ما يليق بالله ويسمى هذا القسم توحيد الأسماء والصفات ، الذين يتنكرون لهذا التقسيم يعلنون عن جهلهم بفقه الكتاب والسنة يصفون أهل التوحيد الذين يقسمون هذا التقسيم مثلثون ، أهل التثليث وهذا التشنيع لا ينبغي أن يلتفت إليه ودعاة الحق دائما وأبدا يشنع عليهم ، دعاة الباطل إذا لم يجدوا حجة ليغلبوا أهل الحق وأهل الحق لا يغلبون لأن الحق الحق أبلج والباطل لجلج الحق واضح وإذا عجزوا عنهم شنعوا يشتمونهم ويسيئون إليهم ويلقبونهم بألقاب هذه سنة قديمة من عهد الأنبياء إلى وقتنا هذا هكذا فعلوا مع الأنبياء لذلك لا ينبغي لصغار طلبة العلم إذا قرأوا في هذه الأيام من يشنعون هذا التوحيد وهذا التقسيم أن لا يلتفتوا إليهم عليهم أن يرجعوا إلى هذه النصوص ليستنبطوا منها التوحيد كما استنبط من كان قبلهم بل عليهم أن يتبعوا علماءهم وهم أهل الحق .(22/39)
(توحيد الإلهية فإنه سبحانه وتعالى أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى) المشركون الأولون صرحاء ويسمون ما يفعلونه مع آلهتهم عبادة ويسمون آلهتهم آلهة أما الذين يقعون في الشرك اليوم من المنتسبين إلى الإسلام ينقصهم ينقصهم الجهل بمعنى لا إله إلا الله أو لمعنى الإلهية أو لمعنى العبادة أو لمعنى الآلهة ، يسمون ما يعبدون ومن يعبدون ضريحا وقبرا ورجلا صالحا ووليا هكذا بهذه الألقاب ولكن يتخذونهم شفعاء ووسطاء بينهم وبين الله يصرح بعضهم بأنه ملوث ليس بمأهل لأن يدعو الله مباشرة ويعبده مباشرة لابد من أن يقدم الصالحين بين يديه يجعل الصالحين وسطاء بينه وبين الله هذا إساءة الظن برب العالمين ، الله يعلم منك أيها المسيء كما يعلم من غيرك ويسمع دعاءك ويستجيب دعوتك لا ينبغي أن تسيء الظن به وتجعله كالولاة والملوك والسلاطين الذين لا يعرفون من رعيتهم إلا بواسطة وسائط من الوزراء والمقربين الذين يخبرون عن حال الشعب وما يعانون حتى يقدمون لهم ما يجب عليهم ، فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أمثال هؤلاء .(22/40)
(بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون الله تعالى قال تعالى (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) هذا الوصف يصدق على الجمادات وعلى العقلاء لا فرق بين الذين يعبدون الملائكة والإنس والجن وبين الذين يعبدون الجمادات كلهم لا ينفعون ولا يضرون ((ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) أي لا يعتقدون فيهم النفع والضر ولكن شفعاء (قل أتنبؤون الله بما لا يعلم فى السموات ولا فى الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون)) هؤلاء الشفعاء هل يخبرون الله فيعلمونه ما لا يعلم رب العالمين في السماوات والأرض فيبلغون عنكم أليس هذا إساءة أدب وسوء ظن برب العالمين ؟ لكن هل تدركون الآن أنه يوجد من يعتقد فيمن يدعوه ويستغيث به أنه ينفع أو يضر ؟ يوجد هذا بينما أولئك لا يعتقدون في آلهتهم أنها تنفع أو تضر ولكن تشفع لكن للأسف يوجد في المريدين اعتقاد في شيخ الطريقة بأنه ينفع ويضر فيثبتون له علم الغيب فإذا جلس بين يديه جلس جلسة الكلب خائفا متذللا لئلا يطلع الشيخ على سره فيهلك ... إذا كان يعتقد شخص يقال له مريد – المريد يعني تلميذ – يعتقد في شيخه الجالس بين يديه أنه لو أساء الظن به علم ما في ضميره فانتقم منه اعتقد فيه النفع والضر ومشايخ الطرق يعلنون بأن العارفين بالله في حياتهم مشغولون بالخدمة – هذه عبارتهم – المراد بالخدمة العبادة أي مشغولون بعبادة الله تعالى فإذا ماتوا تفرغوا لنفع أتباعهم وخدمة أتباعهم يخدمونهم في كل شيء ، هذا أسوأ من شرك المشركين المشركون لم يعتقدوا في آلهتهم هذا الاعتقاد فقط إنهم شفعاء ويقربونهم إلى الله زلفى هذا كل ما اعتقد القوم لكن يوجد الآن فيمن يتربون في أحضان الصوفية من يقع في شرك أسوأ من شرك المشركين الأولين الذين هم مشركون بالإجماع .(22/41)
(فاخبر ان هؤلاء الذين أتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون) لكونهم اتخذوهم شفعاء وإن لم يعتقدوا فيهم النفع والضر .
(وقال تعالى عن مؤمن يس (ومالى لا اعبد الذى فطرنى واليه ترجعون) الذي فطره وخلقه هو الذي يستحق العبادة ، الذي لا يخلق ولا يرزق لا يستحق العبادة عبادتهم باطلة الإله الحق الذي يستحق العبادة الذي يخلق ويرزق (أأتخذ من دونه آلهة ان يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) لأنهم لا يشفعون إلا بإذن الله والله سبحانه وتعالى لا أحد يتقدم بين يديه بالشفاعة إلا بإذنه إذن شفاعتهم لا تنفع ولا تضر ولا تنقذهم مما هم فيه ، شفاعة ضارة غير نافعة ضرتهم لأنهم وقعوا في الإشراك بالله ولم تنفعهم لأن شفاعتهم لا تقبل عند الله ، الشفاعة ى تقبل إلا بإذنه سبحانه (انى اذا لفى ضلال مبين انى آمنت بربكم فاسمعون)) الذي يريد أن يتوب بعد أن يقع فيما وقع فيه التوبة مقبولة وباب التوبة مفتوح فليرجع إلى الله إذا علم وأردك أن ما يقع فيه المتصوفة إلى يومنا هذا المريدون والدراوشة بين يدي المشايخ شرك أكبر فعلى طلاب العلم أن يبينوا هذه الحقيقة ويدعوا الناس إلى التوبة فالتوبة مقبولة "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن إذا تاب إليه" من أي ذنب كان ولو من الشرك الأكبر .
((ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) هذا محل الشاهد من الآية (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون)) ما أفظع هذا الموقف ندم حيث لا ينفع الندم ، عندما يقال لهم يوم القيامة هذا القول ماذا ينفع الندم ؟ الندم ينفع الآن لذلك دراسة كتاب الله دراسة تدبر هي التي تجعل العبد يدرك ما أخطأ فيه كثير من الناس في باب العبادة والتوحيد في هذا الوقت .(22/42)
(فأخبر سبحانه عن شفعائهم انهم زعموا انهم فيهم شركاء) وجه الإشراك واضح لأنهم اعتقدوا أنهم ينفعونهم عند الله بالشفاعة وإن لم يكن النفع مستقلا .
(وقال تعالى (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) هذه صفة الجميع جميع الشفعاء (قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض) تدبر هذه الآية (قل لله الشفاعة جميعا) قدم المعمول على العامل ليفيد الحصر لله وحده دون غيره الشفاعة جميعا لو كان التعبير في غير القرآن (قل الشفاعة لله) لا يؤدي هذا المعنى ولكن تقديم المعمول على العامل الجار والمجرور (لله) يفيد الحصر والقصر قل لله وحده الشفاعة جميعا ثم أكد بـ (جميع) الشفاعة جميعا لا أحد يملك الشفاعة يؤكد هذا الآية الثانية التي بعدها أو آخر الآية (له ملك السموات والارض) له وحده ملك السماوات والأرض ، إذا كنتم تؤمنون جميعا بأنه له ملك السماوات والأرض والأسلوب واحد هذا أسلوب الحصر وهذا أسلوب الحصر إذن يجب أن تعتقدوا في الأسلوب الأول ما اعتقدتم في الأسلوب الثاني ، له وحد ملك السماوات والأرض وهذا كالذي قبله (قل لله الشفاعة جميعا) تدبر هذه الآية العظيمة ، إذا كانت الشفاعة له وحده إذن تطلب مِن مَن ؟ تطلب من مالكها ،الله ، فالنبي سيد الشفعاء لا يملك الشفاعة فطلب الشفاعة من النبي عليه الصلاة والسلام الآن قبل أن يؤذن له يوم القيامة تجلس الآن في بيتك تستشفع ، خلاص سيد الشفعاء يشفع لنا اشفع لنا يا رسول الله تتكل على هذا الطلب وهذه الشفاعة على أنك طلبتها من سيد الشفعاء ، صحيح هو سيد الشفعاء لكن كيف يشفع ومتى يشفع ؟ يشفع بعد أن يأذن بأسلوب لم يسبق له مثيل بعد أن يعتذر آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى في الشفاعة فيصل الدور إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول أنا لها ماذا يفعل ؟ فكر ، يذهب فيسوق الناس ؟ يختار منهم بنو هاشم ثم الأقرب فالأقرب ؟ لا ، الأمر أعظم قد قال الأنبياء كلهم من آدم(22/43)
إلى أن وصل الأمر إليه نفسي نفسي لست لها قد غضب الله اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله نفسي نفسي لست لها اذهبوا لإبراهيم اذهبوا لموسى اذهبوا لعيسى إلى أن جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قوله عليه الصلاة والسلام أنا لها لأن الله أخبره وعلمه لأن هذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون لكن بعد الاستئذان ، كيف ذلك الاستئذان ؟
يسجد لله سجدة طويلة ، يتركه الله ساجدا زمنا طويلا ويفتح عليه ما لا يعلم قبل ذلك من أساليب الثناء والحمد والتمجيد والتضرع وبعد ذلك يقال له يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ، فيقول النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام فيحد الله لي حدا ، لا يقول له اذهب اشفع يحد له حدا عددا محدودا فيسوقهم فيخرجهم من هول الموقف ثم يسجد سجدة أخرى ثم الثالثة وفي كل سجدة يحد له حدا لنعلم ونستيقن بأن الشفاعة لله جميعا وحده يجب أن تطلب من رب العالمين ففي ذلك اليوم يلهم الله العباد ليخاطبوا الأنبياء فيطلبوا منهم الدعاء ، الدعاء الشفاعة التوسل بمعنى واحد ، ليس معنى ذلك أنهم يملكون كل شيء ويملكون إدخال الناس الجنة ، لا ، لا أحد يملك شيئا من ذلك هذه من معاني أشهد أن لا إله إلا الله .
(قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والارض ثم اليه ترجعون)) (ثم إليه) إليه وحده لا إلى غيره ترجعون للجزاء فينبئكم بما كنتم تعملون ، ينبئكم لا يسألكم الله لا يسأل العباد هل أنت فعلت هل قلت هل فعلت هل تركت ؟ لا ، ينبئهم ، هو الذي ينبئك فيخبرك .
(وقال تعالى (ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع)) من دون الله .
(وقال تعالى (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع)) الأمر كله لله يوضح هذا ما يأتي .(22/44)
((من ذا الذى يشفع عنده الا بإذنه)) لا أحد ، لأن الأمر كله له هو الولي وهو الذي يملك الشفاعة له الملك كله وله الأمر كله تطلب الشفاعة منه ، لا أحد يشفع إلا بإذنه .
((وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) الملائكة عباد مكرمون (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) الشفاعة تتم بأمرين اثنين :
- الإذن .
- وأن يكون المشفوع له محل الرضا .
(وهم من خشيته مشفقون)(وكم من ملك فى السموات لا تغنى شفاعتهم..)
الشريط التاسع والعشرون :
((وكم من ملك فى السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا الا من بعد ان يأذن الله لمن شاء ويرضى)) الملائكة أنفسهم المقربون إلى الله لا تنفع شفاعتهم إلا بإذن الله وإلا بأن المشفوع له محل الرضا من الله سبحانه وتعالى .
((قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الارض وما لهم فيهما من شرك) أولا لا يملكون شيئا ، ثانيا ما لهم فيهما من شرك (وما له منهم من ظهير) ليس الله بحاجة إلى ظهير ومعين بل هو القوي المتين وهو الغني الغنى وصف ذاتي له سبحانه (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له)) والآيات كلها في معنى واحد لكن لخطورة هذا التوحيد انظروا هذه الآيات التي كلها تصب صبا واحدا على معنى واحد كيف تكررت وأنضجت هذا الموضوع ومع ذلك ما أكثر من يجهل هذا الموضوع لعدم تدبر كتاب الله .
((قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) لا الكشف ولا التحويل (أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم اقرب) الملائكة والأنبياء هم أنفسهم (ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا)) الملائكة والأنبياء أنفسهم يرجون رحمة الله ويخافون عذاب الله ولكن الذين يجهلون هذه الحقيقة يتعلقون بهم ويدعونهم ويستغيثون بهم ويرجونهم ويتخذونهم شفعاء دون الله .(22/45)
(قالت طائفة من السلف كان قوم يدعون عزيزا والمسيح والملائكة فأنزل الله تعالى هذه الآية بين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون الى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإن كانت الآية نزلت في هؤلاء ولكنها تشمل هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام الذين يخطئون خطأ لم يخطئه المشركون الأولون إذ اعتقدوا فيمن زعموهم أنهم من الصالحين ومن الأولياء أنهم ينفعون ويضرون .
ونسأل الله لنا ولكم الثبات .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
وإلى غد إن شاء الله .(22/46)
((ومن تحقيق التوحيد ان يعلم أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى كما قال تعالى ( لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ) وقال تعالى ( انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص) وقال تعالى ( قل انى امرت ان اعبد الله مخلصا له الدين ) وقال تعالى ( قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) وكل من الرسل يقول لقومه ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) وقد قال تعالى فى التوكل ( وعلى الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين ) ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) وقال تعالى ( قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون ) وقال تعالى ( ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا الى الله راغبون ) فقال فى الإتيان ( ما آتاهم الله ورسوله ) وقال فى التوكل ( وقالوا حسبنا الله ) ولم يقل ورسوله لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعى وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذى بلغه الرسول فإن الحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه قال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وأما الحسب فهو الكافى والله وحده كاف عبده كما قال تعالى ( الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) فهو وحده حسبهم كلهم وقال تعالى ( يا أيها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) أى حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم وليس المراد ان الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين اذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو واياه حسبا للرسول وهذا فى اللغة كقول الشاعر % فحسبك والضحاك سيف مهند % وتقول العرب حسبك وزيدا درهم أى يكفيك وزيدا جميعا درهم))(22/47)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
موضوع الدرس تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله إفراده تعالى بجميع أنواع العبادات وهذا التحقيق يتوقف على معرفة معنى العبادة ومعرفة أنواعها وكيف تحقيق معنى لا إله إلا الله ، يتبين ذلك من الآيات الكثيرة التي ساقها شيخ الإسلام ، ويقول رحمه الله تعالى (ومن تحقيق التوحيد ان يعلم أن الله سبحانه تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق) الله له حق ومن حقق هذا الحق وأداه جعل الله سبحانه وتعالى على نفسه له حقا ، حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، هذا حق واجب لازم عدم أدائه يعتبر ظلما أعظم الظلم ، فإذا قام العبد بهذا الحق جعل الله على نفسه تفضلا وإحسانا حقا لعباده أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا إما لا يعذبه أصلا كأن يكون من الذين لا يدخلون النار بل يكرمهم الله سبحانه وتعالى بدخول الجنة من أول وهلة للأسباب المعروفة في باب الشفاعة أو لا يعذبه عذاب المشركين أي لا يخلد في النار ولو دخل النار لأسباب أوجبت ذلك ، فتحقيق التوحيد كما قال الشيخ رحمه الله أن يعلم العبد (أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق) لا يشركه فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا عبد صالح هؤلاء كلهم عبيد لا يشاركون الله سبحانه وتعالى في حقوقه (كالعبادة) العبادة كما تقدم غير مرة حقيقتها غاية الذل مع غاية الحب ، لا أحد يستحق غاية الذل وغاية الحب غير الله سبحانه وتعالى ولا أحد يستحق المحبة استقلالا وإنما يحب غيره تبعا لمحبة الله إنما نحب الصالحين لله ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة شرعية لأنه رسول الله لذلك من أحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو تفانى في حبه محبة ذاتية شخصية لا تنفعه تلك المحبة حتى تكون المحبة لله لكونه رسول الله ونبيه وخليله فلم تنفع أبا طالب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه ومؤازرة دعوته(22/48)
لكونه أحبه محبة شخصية ذاتية قرابية لا محبة شرعة لأجل الرسالة والنبوة فليفهم هذا جيدا ، الذي يستحق المحبة استقلالا محبة كاملة هو الله وحدة ، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبة من شعب الإيمان لكن بالقيد الذي ذكرنا ، هذه هي العبادة .
(كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى) ثم جعل الشيخ يسرد آيات لهذه الأمثلة (قال تعالى (لا تجعل مع الله إلها آخر) معبودا آخر ((لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا)) وهذا الخطاب وإن كان موجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله قد عصمه المقصود أتباعه وأمته ، الفعل (جعل) يأتي بمعنى الخلق في حالة واحدة فقط إذا نصب مفعولا واحدا فإذا نصب أكثر من مفعول لا يتقيد بمعنى معين بل يفسر على حسب السياق والقرائن "وقد جعلتم الله عليكم كفيلا" لذلك يخطئ الزمخشري وأتباعه بل يتعمدون الخطأ في تفسير قوله تعالى "إنا جعلناه قرآنا عربيا" بأن معناه خلقنا ، هذا خطأ لغة قبل أن يكون خطأ شرعا إنما نبهت على هذا بمناسبة ذكر الجعل لأن هذه الآية التي استدل بها الزمخشري هي التي يستدل بها كل من يقول بخلق القرآن فلينتبه لهذا الخطأ الجسيم لغة قبل أن يكون خطأ شرعا .
(لا تجعلوا مع الله إلها آخر) لا تعتقدوا ذلك أي لا تعتقد ذلك .
((انا أنزلنا اليك الكتاب) الكتاب المعهود (أل) هنا للعهد الذهني ليست للجنس لأن الكتب السماوية ليست كلها منزلة على محمد صلى الله عليه وسلم ((انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص)) العبادة الخالصة والتقوى والخوف والخشية والتذلل والمحبة كل ذلك لله سبحانه وتعالى (ألا لله الدين الخالص) .
((قل انى امرت ان اعبد الله مخلصا له الدين)) كل هذا في تحقيق معنى لا إله إلا الله ، هذه الآيات تفسر لا إله إلا الله .(22/49)
((قل انى امرت ان اعبد الله مخلصا له الدين)(قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون) أفغير الله تأمرونني أعبد أيها الجاهلون ؟ تقترحون لنعبد حينا آلهتكم وحينا إلهنا الإله الحق معا ؟ لا ، (أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون) يقول الرب سبحانه وتعالى مرة أخرى (ولقد أوحي إليك) أيها النبي الكريم (وإلى الذين من قبلك) من الرسل (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فكما تقدم فهو معصوم من الوقوع في الشرك بل من الخطأ في كل ما يؤدي عن الله سبحانه وتعالى ويبلغ عصمة قطعية ، الأنبياء بالإجماع معصومون فيما يبلغون عن الله وإنما يختلف أهل العلم في عصمة الأنبياء فيما عدا ذلك إذن لا يقع منهم أي خطأ فضلا عن الإشراك بالله تعالى (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)) (بل الله فاعبد) لفظ الجلالة معمول للفعل الذي بعده وهذا التقديم له سر عجيب وعظيم وهو معنى من المعاني البلاغية في القرآن التي ينبغي أن يدرس طلاب العلم قسم المعاني من البلاغة يهتموا بدراسة قسم المعاني ويتحفظوا في دراسة قسم البيان لما فيه من التأويلات التي فيها التحريم ولكن دراسة قسم المعاني تجعلك تتذوق كلام الله لأن كلام الله بليغ ليس أبلغ منه افهم هنا هذه البلاغة (بل الله فاعبد) تقديم المعمول على العامل يفيد الحصر كأنه يقول له لا تعبد غيره بل الله وحده فاعبد (وكن من الشاكرين) بهذا التوحيد ، التوحيد من شكر الله تعالى ، من وحد الله شكر الله على أعظم النعم نعمة التوحيد ألا وهي نعمة التوحيد ، (بل الله فاعبد) دون غيره (وكن من الشاكرين) .(22/50)
(وكل من الرسل) من أولهم ، أول من أرسل إلى أهل الأرض بعد أن وقع الشرك في الأرض نوح عليه السلام إلى آخرهم وأختمهم وأفضلهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يقولون الجملة الآتية (وكل من الرسل يقول لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) (ما لكم من إله غيره) الإله الذي يستحق العبادة ، الآلهة الأخرى عبادتها باطلة ويطلق عليها إله لكن الإله الحق هو الله وحده .
(وقد قال تعالى فى التوكل (وعلى الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين)) وعلى الله وحده دون غيره (فتوكلوا ان كنتم مؤمنين) جواب الشرط محذوف يقدر من جنس ما قبله : إن كنتم مؤمنين توكلوا على الله فإن لم تتوكلوا على الله وحده لستم بمؤمنين ، التوكل لا يقبل الاشتراك ، لا يجوز أن تقول توكلت على الله ثم عليك أو توكلت عليك ثم على الله عكست قدمت وأخرت لا يجوز مطلقا ، التوكل والحسب لا يجوز إلا لله ، توكلت على الله وحده ، وثم هنا لا تجدي ولا تنفع ، (ما شاء الله ثم شئت) لا تقس على هذا كما فعل بعض الناس هذا خطأ لأن المشيئة ثابتة للمخلوق (ما شاء الله ثم شئت) المنهي عنه الممنوع أن تجمع بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق بحرف الواو التي تقتضي الجمع ونوعا من المساواة (ما شاء الله وشئت) هذا نوع من الشرك ذريعة إلى الشرك لكن لو قلت (ما شاء الله ثم شئت) لأن لك مشيئة تابعة لمشيئة الله تعالى لا شيء في ذلك هذا جائز لكن هل يجوز أن تقول (توكلت على الله ثم عليك) ؟ لا ، لا يجوز ، توكلت على الله وحده نأخذ من هذا الأسلوب وهذا الأسلوب متكرر في القرآن كثيرا سيمر بنا الآن (وعلى الله) وحده (فتوكلوا ان كنتم مؤمنين) إن لم تفردوا الله تعالى بالتوكل وأشركتم معه غيره في التوكل لستم بمؤمنين .
((وعلى الله فليتوكل المتوكلون)) كالتي قبلها تماما (وعلى الله) وحده (فليتوكل المتوكلون) لا يجوز للمتوكلين أن يتوكلوا على غير الله ولو مع الله .(22/51)