شرح أسماء الله الحسنى
الشيخ خالد السبت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الذي تفضل علينا بأن جعلنا ممن يلتقط الدرر التي ألقاها الشيخ خالد بن عثمان السبت –حفظه الله- في سلسلة مكونة من عشرة أشرطة , وهي عبارة عن شرح لأسماء الله الحسنى , وهي على الترتيب:
( المتكبر , الجبار , المصور , البارئ , البديع , الخالق , الحكيم , الحميد , الغفور , القدير )
ولأن العلم هو الخشية , ولأن الله سبحانه قال : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) , ولأن علم التوحيد هو أعظم العلوم وأجلها , ولأن أسماء الله وصفاته من أقسام التوحيد , يجب على المؤمن الصادق أن يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته , حتى إذا سمع آيات الخلق والقدرة والحكمة يكون ممن قال الله فيهم: (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ) , وحتى يكون أقرب من محبوبه , فالإنسان كلما عرف محبوبه زاد التعلق به وزاد الحب والشوق للقائه , وفكر المرات والمرات قبل أن يعصيه أو يخرج عن طاعته , فهذا الإنسان الضعيف إن علم أن هناك كاميرات مراقبة تراقب تحركاته , ما عمل شيئا يسوء من راقبه قط , ولله المثل الأعلى , فما بالك بمن هو السميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين بل ويعلم ما في الصدور , تباركت أسمائه وتقدست صفاته.
أسأل الله تعالى , أن ينفع بكلمات الشيخ خالد السبت , وأن يزيدكم بها خشوعا وهيبة من العزيز الجبار, وأن يحفظ الشيخ ويطيل عمره في طاعته , وأن يجعل هذا الكلام حجة لنا لا علينا , والحمدلله رب العالمين.
أخوكم الفقير إلى الله:
أبو الحسن الوائلي
2 جمادى الأولى 1428
19/5/2007
elwa2ly@gmail.com
1- المتكبر:
الكبر في كلام العرب: التعاظم والتعالي والترفع.
الكبر والتكبر في معنى واحد.
الكَبَر: نبت معروف ويقال أيضا للطبل الذي له وجل واحد.
الكِبْرُ: الشيخوخة أي ضد الصغر.(1/1)
معنى اسم الله المتكبر: هو الذي تكبر عن ظلم عباده , وهذا التعريف داخل بالمتنزه ومن تكبر عن كل ما لا يليق.
معنى الكبرياء: الإمتناع. ( قلة الإنقياد).
المتكبر في القرآن الكريم: جاءت في أواخر سورة الحشر في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
وجاء في معنى الكبرياء: جاءت في آخر سورة الجاثية في قوله تعالى: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
أما في الأحاديث النبوية: فجاءت في مواطن كثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( جنتان من فضه آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ).
وكذلك الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ومن حديث أبي هريرة أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العز إزاره والكبرياء رداءه فمن ينازعني عذبته ) , وفي لفظ عند أبي داوود ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ) .
المخلوق من أكثر وأنفع الأمور التي تكون سببا في سعادته واستقامته أن يعرف شيئيين:
قدر الرب الذي يعبده.
قدر النفس التي بين جنبيه.
المتعين في حق المخلوق التواضع لا التكبر , فكمال العبد في التواضع والعبودية.
كلما زاد الإنسان تواضع لله زاد رفعه عند الله.
إذا علم العبد أن ربه هو المتكبر فذلك يولد علما ويقينا راسخا أن الله عزوجل أعلى وأجل وأرفع من كل شيء.(1/2)
كلما زاد نقص العبد كلما كان الكبر في حقه أشنع , والدليل حديث الثلاثة وذكر منهم عائل مستكبر , وهكذا كلما قلت الدواعي إلى المعصية كان الذنب أعظم , كما أن المثبطات عن الطاعة كلما زادت كان فعل الطاعة أعظم وأجل , ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله شاب نشأ في طاعة الله لأن دواعي الشباب للانحراف أقوى , وكذلك في الرجل الذي دعته ذات ملك وجمال.
السلف وذم الكبر وحب التواضع:
قال الأحنف بن قيس: ( عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر ) .
قال محمد بن علي: ( ما دخل قلب امرئ من الكبر شيء إلا نقص من عقله مقدار ذلك ) .
كان يزيد بن المهلب وهو من الأمراء المشهورين كان ذي عجب وكبر , رآه إمام التابعين وهو مطرف بن الشخير رحمه الله يسحب حلته فقال له : إن هذه المشية يبغضها الله , فقال يزيد: أوما عرفتني ؟ , قال بلى أعرفك: أولك نطفة مذرة , وآخرك جيفة قذرة , وأنت بين ذلك تحمل العذرة.
يقول أبو وهب سألت ابن المبارك ما الكبر؟ فقال: أن تزدري الناس , فسألته عن العجب , قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك , ثم قال: لا أعلم في المصلين شرا من العجب.
قال بن عيينة: ( من كانت معصيته في الشهوة فأرجو له , ومن كانت معصيته في الكبر فاخش عليه , فإن آدم عصى الله مشتهيا فغفر الله له , وإبليس عصى الله متكبرا فلعن ).
قال عفان: قدمنا أنا وبهس بن حكيم إلى واسط فدخلنا على علي بن عاصم فقال من أين أنتما , قلنا من البصرة , قال كم بقي, فجعلنا نذكر حماد بن زيد والمشايخ , فلا نذكر له إنسانا إلا استصغره , يقول فلما خرجنا , قال بهس: ما أرى هذا يفلح.
يقول إبراهيم النخعي: ( تكلمت ولو وجدت بدا لم أتكلم , وإن زمانا أكون فيه فقيها لهو زمان سوء ).
يقول أيوب السختياني: ( إذا ذكر الصالحون كنت بمعزل عنهم ) .
يقول يونس بن عبيدالله: ( إني لأعد مئة خصلة من خصال البر ما فيّ منها خصلة واحدة).(1/3)
ويقول سفيان الثوري: ( أخاف أن يكون الله قد ضيع الأمة حيث احتاج الناس إلى مثلي ).
وهذا الشافعي يقول: ( وددت أن الناس قد تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إليّ منه شيء).
وقال الذهبي: ( إيثار الخمول والتواضع وكثرة الوجل من علامات التقوى والفلاح ).
2- الجبار:
هذا اللفظ مأخوذ من: الجبر ومعاني الجبر أربعة:
الإغناء من الفقر وتقوية الضعيف واصلاح المختل والفاسد وجبر الكسير , والمعنى الشامل هو الإصلاح.
الإكراه والقهر والقسر والإرغام , مثال: أجبرته على ......
العز والارتفاع والامتناع والطول والعلو والشموخ , مثال: هذا بناء جبار. , مثال آخر: قال تعالى (إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ) , مثال آخر: هذا عمل جبار ( أي لا يطاق ) .
المتكبر, مثال: تجبر الرجل , مثال آخر: قوله تعالى (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً).
اسم الله الجبار جاء في موضع واحد في آخر سورة الحشر , في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
أما ما جاء في السنة , فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة ).
أي: أن الله سبحانه يجعل الأرض خبزة فتكون نزلا ( وهو ما يعطى للضيف من الطعام ) لأهل الجنة.
ومن ذلك أيضا ما أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بين السجدتين فيقول: ( اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وعافني وارزقني ) فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يجبره وإنما يجبر الضعيف والمنكسر من كان جبارا.(1/4)
ومن ذلك حديث عوف بن مالك قال قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فلما ركع مكث قدر سورة البقرة يقول في ركوعه ( سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ). أخرجه أبو داوود والنسائي بإسناد صحيح.
ومن ذلك حديث أبي سعيد الخدري في الرؤية قال ( فيأتيهم الجبار بصورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة ). أخرجه البخاري.
معنى اسم الله الجبار: ممكن أن نقول بناء على ما سبق بناء على هذه اللفظة في اللغة , أن هذه الأمور والمعاني مجتمعة يمكن ظان تكون داخله في معنى اسم الله الجبار.
فيقال الجبار على المعنى الأول: (عائد إلى اسم الرؤوف).
المصلح أمور خلقه فهو الذي يدبر الضعيف وكل قلب منكسر لأجله , فيجبر الكسير ويغني الفقير وييسر على المعسر كل عسير , وهو الذي يجبر أصحاب المصيبات ويوفقهم على الثبات , ويعوضهم الأجر ويعوضهم في هذه الدنيا إن هم صبروا وثبتوا ولم يبد من أحد منهم جزعا ولا تسخط , كما أنه سبحانه يجبر قلوب الخاضعين لعظمته وجلاله وقلوب المحبين بما بفيض عليهم من أنواع كراماته وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية , وإذا دعا الداعي فقال اللهم اجبرني فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه.
ويقال على المعنى الثاني: (عائد إلى اسم القهار).
أنه القهار لكل شيء , الذي دان له كل شيء , وخضع له كل شيء , ولا يقع في هذا الكون تسكينة ولا تحريكة إلا بمشيئته سبحانه , فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , لا يستطيع أحد في هذا الكون مهما بلغت قوته وعظمته وإمكاناته أن يخرج عن إرادة الله عزوجل , فإرادته تبارك وتعالى فوق كل إرادة , ومشيئته فوق كل مشيئة , لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه , وهذا كله صادر من قوته وعزته وعظمته جل جلاله.
ويقال على المعنى الثالث: ( عائد إلى اسم الله العظيم).(1/5)
أنه العلي على كل شيء, العزيز العظيم الذي له العلو المطلق , الكامل من جميع الوجوه , فله علو الذات وعلو القدر وعلو القهر , فأنواع العلو كلها متحققة لله عزوجل , فهو الرحمان على عرشة استوى , وهو العظيم الأعظم.
ويقال على المعنى الرابع:
هو أنه تكبر بربوبيته عن كل سوء ونقص ,وعلى مماثلة شيء من خلقه , وعلى أن يكون له كفوا أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه.
هذا الاسم الكريم يتضمن هذه المعاني جميعا ولا مانع لذلك , فالله تعالى أسماءه تجمع أنواع الكمالات فتضمن لمعنى الرؤوف , وتضمن أيضا لمعنى القهار , وأيضا العلي العظيم , وقد جمع ابن القيم رحمه الله هذه المعاني في نونيته عند ذكر هذا الاسم الكريم فقال:
وكذلك الجبار من أوصافه ** والجبر في أوصافه قسمان
جبر الضعيف فكل قلب قد غدا ** ذا كسرة فالقلب منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي ** لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمى ثالث وهو العلو ** فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم جبارة للنخلة الـ ** عليا التي فاتت لكل بنان
فإذا كانت هذه المعاني مندرجة تحت اسم الله الجبار فإن القرينة قد تحدد بعضها في بعض المواضع , وذلك أن الله عزوجل قد ذكر هذا الاسم الكريم بين اسمين ( العزيز – المتكبر ) .
فلو قال قائل إن معنى هذا الاسم الكريم في سورة الحشر هو ما ذكر من المعاني الثلاثة الأخيرة سوى المعنى الأول ( المصلح) فيكون ذلك هو تفسيره في هذه السورة التي في كتاب الله عزوجل لأنه لم يرد إلا مرة واحدة , وعليه فيقال الجبار هنا يمكن أن يفسر بأنه الملك , القاهر , العالي على خلقه , العظيم , وما شابه ذلك من معاني لأنه جعله مقرونا بالعزيز المتكبر , وعلى كلٍ فكل اسم متضمن للآخر في المعنى , فالعزيز متضمن لما تضمنه معنى الجبار والمتكبر لأنه لا يكون عزيزا إلا إذا تحققت فيه هذه الأوصاف.(1/6)
يقول ابن القيم: هذه الأسماء الثلاثة ( يعني العزيز والجبار والمتكبر ) نظير الأسماء الثلاثة ( أي في الآية التي بعدها وهم الخالق والبارئ والمصور ) فالجبار المتكبر يجرينا مجرى التفصيل لمعنى العزيز , كما أن البارئ والمصور تفصيل لمعنى الخالق , فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك ولهذا كان من أسماءه الحسنى.
ما الذي يؤثره هذا الاسم في قلب المؤمن ؟
تعظيم الرب تعظيما يليق بجلاله وعظمته , وهذا بمقتضى أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , لأننا قلنا أنه لا معقب لحكمه .. الخ.
أن يعرف العبد قدره ومنزلته وأن لا يتعدى طوره وأن يتواضع لربه تبارك وتعالى ولا يخرج عن طاعته.
أن يستسلم لقضاء الله عزوجل فلا يجزع ويتذمر ولا يشكو الخالق لدى المخلوق.
أن يعلم ويستيقن أنه لا مشرع إلا الله عزوجل , فالجبار هو له الخلق والأمر فلا أحد يشرع في هذا الكون ويأمر وينهى على وجه التشريع إلا الله سبحانه , وهذا من معنى ربوبيته , فمن اجترأ على أن يشرع للناس ويضع لهم القوانين الوضعية بدلا من أحكام الله عزوجل فقد اجترأ على اسم الرب تعالى وعلى واجترأ أيضا على اسم الله الجبار.
إذا علم أن الله هو الجبار بمعنى العظيم الأعظم فإنه يتواضع ويترك التكبر والتجبر.
أن يثق العبد بربه الثقة الكاملة ويعلم أنه يركن إلى ركن شديد , وأنه يلجأ إلى رب تواصى الخلق بيده , وأنه لو اجتمعت عليه الأمة على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له , ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء , لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه , فلا يخاف من المخلوقين مهما انتفشوا ومهما تعاظموا , فإن الذي عظمهم قي قلبه إنما هو الشيطان يقول تبارك وتعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ).(1/7)
أن يحب الله عزوجل فتكون محبته أكبر من كل محبة , لأن القلوب جبلت على من أحسن عليها , والله هو الذي يصلح له شانه كله دقه وجله.
أن يرغب العبد لله في كل نقص وكل حاجة تعترضه , فلا يلجأ إلى المخلوقين , وإنما يلجأ إلى الله سبحانه فهو الذي يجبر الكسير ويغني الفقير وهو لا يسأم من سؤال العطايا.
كلما كان العبد أكثر افتقارا إلى الله عزوجل كلما كان أكثر عبودية له.
وكلما كان القلب ملتفتا إلى المخلوقين كلما نقصت العبودية.
ولذلك فإن هذه العبودية في كمالها على مراتب فمنها مراتب مستحبة عليا فنحن نقول:
تحقيق العبودية بفعل ما أمر الله عزوجل به وجوبا وترك ما نهى عنه تحريما , فإن ارتفعت درجة , فعلت المستحبات وتركت المكروهات , وإن أردت أن ترتقي درجات وهذا باب واسع , فينبغي أن يتخلص القلب من كل افتقار للمخلوقين ولذلك بايع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ولم يبايع كل أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا , فكان السوط يسقط من أحدهم فلا يقول لصاحبه ناولني.
3- المصور:
معناه وأصله في كلام العرب:
يقول ابن فارس: ( صورة كل مخلوق والجمع صور وهي هيئة خلقته والله تعالى البارئ المصور ويقال رجل صّير إذا كان جميل الصورة ).
فالصورة هي الهيئة والمصور هو الذي يشكل ويعطي كل مُصور هيئته التي تناسبه وتليق به.
التصوير يطلق على التخطيط والتشكيل فإذا قلت صوره أي جعل له صورة أو شكلا أو نقشا معينا.
فالتصوير إذن في كلام العرب هو صناعة الصورة.
سمى الله عزوجل نفسه بهذا الاسم الكريم في موضع واحد وهو في سورة الحشر في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )(1/8)
وأما ما ذكره الله عزوجل في كتابه في أنه يفعل التصوير ويصور ما شاء فقد ورد ذلك في مواضع من كتاب الله تعالى متعددة , وهي تدور على معنى واحد أو معنى مقارب.
فمن ذلك:
أن الله تبارك وتعالى قال في سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فهو يخبرنا جل وعلا عن كمال علمه وقدرته وإرادته حيث إن الله عز وجل رد في هذه الآية على النصارى الذين زعموا أن عيسى عليه السلام هو ابن الله و1لك أن عيسى أعطاه الله عزوجل من القُدر والإمكانات التي كانت من قبيل المعجزات فكان من ذلك أن عيسى صلى الله عليه وسلم يخلق من الطين هيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله عز وجل.
إذا كان الله عز وجل هو الذي يصور المخلوقين في الأرحام كيف يشاء ومعلوم أن عيسى عليه السلام هو من جملة المخلوقين فهو إذا من جملة المصّوَرين , فكيف يكون المصّوَر كيف يكون مصِّور , وكيف يكون المربوب المخّلق الذي خلقه الله عز وجل كيف يكون خالقا مبدعا موجدا للخلائق من عدم وهو مخلوق؟ .
جاء أيضا إضافة التصوير إلى الله تبارك وتعالى في آية أخرى من سورة الأعراف وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ ).
( ولقد خلقناكم ): متى كان هذا التصوير ومن هو المعني بذلك؟ هل هو آدم أم المراد بذلك الذرية ؟ هذا خلاف بين السلف , والحاصل أنها يمكن أن تفسر أنها خطاب لجميع المخلوقين.(1/9)
وجاء أيضا في قوله تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) وذلك في موضعين في كتاب الله عز وجل , والموضع الأول في سورة غافر , والثاني في سورة التغابن , ومعناها: أي أن الله خلقنا في أحسن صورة وأجمل هيئة وفضلنا في هذا الخلق على كثير ممن خلقت حلت قدرته وتعالت أسماؤه وصفاته , فجعل رأس الإنسان إلى أعلى ورأس البهائم إلى أسفل.
جمع الله لنا حسنا في التصوير الظاهر والباطن , فأما الظاهر فهذا التصوير الشكل الذي نراه في أحسن هيئة من جمال الوجه وحسن المنظر , ووضع كل عضو في مكان اللائق به فلم يقلب في شيء من هذه الأعضاء ولم ينكسها , وأما جمال الباطن فيما خص الله به هذا الإنسان وحباه من العقل الذي يفكر به , وميزه بالأدب والأخلاق.
جاء أيضا في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ) والخالق هو المقدر في هذه الآية , والبارئ هو الذي أوجد ما قدر على وفق تقديره فأبرزه في الخارج وأوجده , وأما التصوير فهو أن الله أعطاه هيئة مناسبة وشكلا لائقا به.
الآية الأخيرة هي قوله تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) في سورة الانفطار , والمعنى: أن الله تعالى يركب هذا المخلوق في أي صورة يختارها على حسب ما تقتضيه حكمته جل وعلا.
بهذا يتبين أن التصوير في هذه الآيات الست كلها يدور حول معنى واحد وهو التخطيط والتشكيل وإعطاء الإنسان هذه الصورة الظاهرة مع المعنى الحسن الباطن من الأخلاق الكريمة والمعاني الطيبة.
ورد في كتاب الله عز وجل إضافة التصوير إلى الله تبارك وتعالى بغير لفظه يعني بألفاظ أخرى ومن ذلك:
قوله عن النطفة التي يخلق منها الإنسان والعلقة والمضغة قال: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) يعني أن هذه المضغة التي هي قطعة من لحم بقدر ما يمضغه هذا الإنسان , (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) السلف لهم أقاويل كثيرة في معناها ومن أقاويلهم الشاهد هنا:(1/10)
( مخلقة ) أي مصورة واضحة المعالم , ( غير مخلقة ) أي التي لم يظهر فيها التصوير والتخطيط والتشكيل , ونحن نعلم أن هذه المضغة إذا مضى عليها ثمانون يوما أنه يبدأ بعد ذلك فيها التخطيط والتشكيل فالعيون تكون نقط واليد والرجل وما شابه ذلك هي عبارة عن خطوط ثم بعد ذلك يبدأ تميز أعضاء الإنسان أكثر وتنفصل هذه الأعضاء فتكون اليد منفردة كما ترون ثم بعد ذلك يكتمل خلقه على وفق ما أراد الله عز وجل.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) ومما قيل في معناها أي: فصورنا فنعم المصورون.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) فقد قال بعض السلف ( فقدر فهدى ) أي الذي صور صورا حسنه ثم هدى هذه المخلوقات المصورة إلى ما يصلحها وما يكون فيه بقاؤها وقوامها وما يكون سببا لمجانبتها للمضار.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) فكثير من السلف يقولون أي أنه خلق في أحسن صورة وفي أتم شكل.
وكذلك قوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) فبعض أهل العلم يقولون في معناه ( فإذا سويته ) أي صورته وجعلته على صورة البشر من الطين ثم بعد ذلك نفخت فيه فصار إنسانا فيه الروح , ومعلوم أن الله قد أخذ قبضة من طين الأرض ثم بُلّ هذا التراب بالماء فصار طينا , ثم ترك مدة فصار حمأَ ( يعني طينا متغيرا يميل إلى السواد وفيه رائحة متغيرة ) ثم بعد ذلك صوره الله عزوجل وشكله إلى هيئة إنسان ثم ترك فصار فخارا لما جف , هذه أطوار الإنسان التي أخبرنا الله عزوجل عنها في القرآن الكريم وبعد ذلك نفخ الله به الروح.
إذا عرفت يا عبدالله أن الله عز وجل هو المصور فإن ذلك يؤثر في سلوكك وفي قلبك وفي عملك آثارا لا تخفى , ومن هذه الآثار:(1/11)
أن العبد لا يجترئ على الله عزوجل فيضاهئ بخلقه فيصور الصور التي حرم الله عزوجل تصويرها , وقد أخرج الشيخان من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم ) , وجاء أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين قالت: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الستارة تلون وجهة وقال يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله , قالت: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين ) والسهوة هي الصفة تكون بين يدي البيت وثيل هي الطاق النافذ في الحائظ أي هي النافذة , ومعلوم أن الذي يكون على الستار شيئا من قبيل الرسم ولا يكون من قبيل التماثيل المجسمة, ومعلوم أن التمثال يطلق على الصورة المجسمة والغير مجسمة وهذا الدليل صريح في أن التصاوير المحرمة لا يشترط أن تكون من المجسمات وإنما يكفي أن تكون من المصورات سواء كان ذلك تطريزا في الثياب أو كان رسما على الورق أو غير ذلك مما يدخل في اسم التصوير فإن كان من المجسمات فهذا أشنع وأشد.
فدل هذا الحديث على تحريم التصوير وأنه من الكبائر بل من أعظم الكبائر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أصحابه من أشد الناس عذابا يوم القيامة ثم أن هذا لا يقتصر على الذي صورها وإنما يلحق هذا الحكم من اتخذها أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة رضي الله عنها هذا الإنكار وتغير هذا التغير.(1/12)
وأخرج الشيخان أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل مصور في النار يجعل له في كل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم ) , وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث لرجل سأله عن صنعة وعن مهنة امتهنها وأنه يرتزق من التصوير , فقال له ابن عباس لا أحدثك إلا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث , فتغير وجه هذا الرجل وربى ربوة ( يعني انتفخ وكأنه تنفس بقوة مما ينبئ عن ضيقه ومضجره بما سمع ) , فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: ويحك إن كنت فاعلا لا محالة فعليك بهذا الشجر والحجر مما لا روح له , أو كمال قال رضي الله عنه.
وأيضا أخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صور صورة في الدنيا كُلّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ).
وأخرج الشيخان أيضا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ).
وأيضا أخرجا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أن الله تعالى قال: ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي..) الحديث. وهذا الاستفهام مضمنا لمعنى الإنكار والنفي كما لا يخفى , وهو بمعنى لا أحد أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله عزوجل.
وأخرجا أيضا عن طريق أبي طلحة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة ).(1/13)
وفي الحديث المشهور عندما تأخر جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض زياراته له كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل أن يأتيه فراث عليه ( أي تأخر جبريل ) حتى اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فلقيه جبريل عليه السلام فشكا إليه فقال جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
وأخرج مسلم أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فجاءت تلك الساعة فلم يأته , قالت: وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول ما يخلف الله وعده ولا رسله , ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره فقال: متى دخل هذا الكلب , فقلت: والله ما دريت به , فأمر به فأخرج , فجاءه جبريل عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعدتني فجلست لك ولم تأتني , فقال جبريل: منعني الكلب الذي كان في بيتك , إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ) فهذا كلب صغير دخل من غير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علام أهل بيته مع ذلك امتنع جبريل عليه السلام عن الدخول , مع أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم هو أشرف البيوت على الإطلاق , فكيف بالبيوت التي تعج بأنواع المنكرات وبألوان التصاوير المعلقة على الحيطان , ولربما كانت تصاوير أفجر الخلق من المغنيين والممثلين والماجنين وما إلى ذلك من السفلة في المجتمعات , فكيف تدخل الملائكة مثل هذه البيوت؟!.
وأيضا أخرج الإمام مسلم من حديث أبي الرياح حيان بن حصين قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( ألا أبعثك على ما جعلني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته )(1/14)
فدلت هذه الأحاديث على تحريم التصاوير وعلى تحريم اتخاذها وعلى تحريم تعليقها وعلى تحريم أن يقوم العبد بتصوير شيء منها والمقصود بذلك أي من ذوات الأرواح.
التصاوير: هذا اللفظ يشمل كل ما يصدق عليه أنه تصوير في كلام العرب , والأصل في حمل ألفاظ الكتاب والسنة على أن تحمل على ظاهرها , العام منها يحمل على عمومه ولا يخصص إلا بدليل يدل على تخصيصه , والأحاديث التي وردت في هذا المعنى من تأمل فيها ونظر فيها وجد أن التصاوير إنما حرمت لعلل وأعظم هذه العلل وأكبرها هما علتان:
1- مضاهاة خلق الله عز وجل.
2- أنها مظنة لأن تعبد من دون الله عز وجل.
ومعلوم أن أول كفر وقع في العالم هو كفر قوم نوح عليه السلام حيث أنهم صوروا التصاوير لقوم صالحين ثم تطاول بهم الزمان فزين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم من دون الله عز وجل , وبقي فيهم نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاما وهم يصرون على كفرهم , وهذا يدل على خطر هذه التصاوير وأنها باب واسع وذريعة عظيمة من ذرائع الشرك.
ولذلك يقال هذه التصاوير بجميع أنواعها محرمة لأنها مضاهاة لخلق الله سواء كانت رسما باليد أو تماثيل مجسمة أو كان تصوير بالكاميرا بجميع أنواعها حتى ما يقال له كاميرة الفيديو , فكل ذلك يقال له تصاوير لغة , واللفظ يصدق عليها جميعا , ومن قال أنها ليست تصاوير فعليه بالدليل , لأنه لا يجوز إخراج شيء من العام أو مما دخل تحت العموم إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ومن قال بأن هذه التصاوير ليس فيها مضاهاة لخلق الله عز وجل , لو سلمنا جدلا أن ليس فيها مضاهاة لخلق الله عز وجل على سبيل التنزل لبقيت العلة الأخرى ظاهرة.
2- ومما يؤثر هذا الاسم الكريم في العبد أنه إذا عرف هذا فإنه لا يغتر مما أعطاه الله من حسن الخلق وكماله ووفور الجمال والخصائص التي تميزه عن سائر الناس وإنما يتواضع لله عز وجل ويزداد شكرا له ويحمده على هذا الإنعام والأفضال الذي حباه الله عز وجل به.(1/15)
ومعلوم أن الإنسان لا يشكر بحال من الأحوال على الأوصاف التي لا يد له فيها أو على الأمور التي لا يد له فيها , وإنما يشكر على ذلك هو من أسداها وأعطاها فالإنسان لا يُشكر على بياضه أو على طوله أو على حسن هيئته ونحو ذلك لأن هذا أمر ليس له يد فيه لا من قريب ولا من بعيد , وإنما يُشكر الإنسان على الأوصاف الاختيارية إن هو اتصف بها بطوعه واختياره وجاهد نفسه وحملها على هذه الأمور , فالإنسان يشكر على صبره وكرمه وتحمله وغير ذلك , وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول إذا سجد في سجود التلاوة ( سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين ) أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح.
3- ينبغي على العبد أن يشتغل بإصلاح الباطن , فإن حسن الظاهر إن كان من غير صلاح في الباطن فإن ذلك صورة لا معنى لها , وإنما يكمل هذا الحسن ويتم إذا سعى العبد في تصحيح باطنه وفي تقويم نفسه وتهذيبها على طاعة الله عز وجل ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم كما أحسنت خَلقي فأحسن خُلقِي )
4- أن العبد إذا عرف أن التصوير من خصائص الله عز وجل فلا يشتغل في عيب أحد في خلقته , لأن عيب الصنعة إنما هو عيب لصانعها , فالإنسان لم يتدخل في هيئته الظاهرة , وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث الشريد رضي الله عنه في خبر الرجل الذي قد أسبل إزاره فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر إزاره قال له ارفع إزارك واتق الله , فقال: إني أحنث تصطك ركبتاي , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفع إزارك فإن كل خلق الله عز وجل حسن ) والحنث هو ميل في الساقين.
وإنما يُذم الإنسان في الأمور التي اختارها كأن يكون جبانا أو بخيلا أو كذابا.(1/16)
5-أن يرضى العبد بما قسم الله عز وجل له فلا يتدخل في تغيير خلق الله لا في قليل ولا في كثير , والله عز وجل أخبرنا عن الشيطان حينما توعد وتوعد فقال الله عز وجل عنه: (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ) فتغيير خلق الله عزوجل وتبتك آذان الأنعام كل ذلك تعد على اسم الله عزوجل المصور.
ومن هنا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الشيخان : (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المتغيرات خلق الله ).
والواشمة: هي التي تصنع الوشم لغيرها , والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل فيها ذلك , والوشم هو أن يؤتى بإبرة أو نحوها فيدق بها الجلد ثم بعد ذلك يوضع في مكانه كجل أو نحو ذلك من لون من الألوان , فيبقى هذا اللون لا يفارقه أبدا , وهذا لا يجوز سواء كان رسما أو كتابة أم غير ذلك.
والواصلة: هي التي تعمد إلى شعر فتصل فيه شعرها , لأنه قصير أو لأنه ممزق أو غير ذلك , ولربما دخل فيه ولا شك أنه داخل في تغيير خلق الله اللاتي يزرعن الشعر الصناعي , أما التي تزرع البصيلات فهذا لا إشكال فيه , فهو من باب الطب والعلاج المباح.
والمتنمصة :وهي التي تزيل شعر الحاجب أو هي التي تزيل شعر الوجه وذلك طلبا للحسن فيبدو الحاجب دقيقا بعد أن كان عريضا مثلا , أو أنها تعمد إلى شعر وجهها فتزيل هذا الشعر بملقط أو غير ذلك عبر الليزر أو غير ذلك من الأشياء الحديثة التي يزال به الشعر في هذا العصر.(1/17)
وإذا كان هذا الحكم فيما يتعلق بالمرأة , فما باله إذا كان صادرا من الرجل؟ , إذا حلق الرجل لحيته فكيف يكون الشأن في حقه إذا كانت المرأة ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أزالت شيئا من شعر وجهها مع أن من طبيعة المرأة الحسن والرقة والنعومة , وهي تبحث عن الجمال؟ , قال تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) فإذا عمد الرجل وأزال شعر لحيته التي أمر الله بإبقائها فهو مذموم من باب أولى , كيف إذا فعل الرجل عمليات التجميل وإزالة الشعر , وإذا قام بالنمص لحاجبه؟ , وما كنا نظن أنه يأتي يوم يعمد الرجل إلى مثل هذا الفعل ولا يكاد الإنسان يصدق لولا أن بعض الإخوان يؤكدون ذلك.
ثم يدخل بذلك كل من تشبه من الرجال بالنساء سواء إما بحلق لحيته أو بالنمص أو بغير ذلك , وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ( لعن صلى الله عليه وسلم المشتبهين من الرجال بالنساء والمشتبهات من النساء بالرجال ) فهؤلاء لم يرضوا بما أعطاهم الله عز وجل من الخلق فهم غيروا خلق الله , فيدخل في ذلك أيضا الذين يقومون بعمليات جراحية ليتحول إلى امرأة والمراة التي تريد أن تتحول إلى رجل , طبعا هذا غير الحالات التي يجوز فيها ذلك , كأن يكون الرجل أصلا هو رجل لكن لم يظهر ذلك إلا بعد مدة فلا بأس , ولكن أتحدث عن أقوام قد مُسخت فطرهم وأراد أن يتحول إلى امرأة , وكذلك الذين يأكلون هرمونات فيظهر لهم ثدي أو غير ذلك , وغير ذلك من الأمور التي يفعلها من لا خلاق له.(1/18)
والمتفلجة : هي التي تقوم بمبرد أو غير ذلك فتفرق بين الأسنان , بين الرباعيات مثلا وبين الثنايا , فتفرق بينهما فيبقى كل سن بمفرده , ويدخل فيه عمليات تقويم الأسنان إلا الحالات الطبية فقط التي تقتضي تدخل الطبيب , أما الذين يفعلون ذلك لمجرد الزينة ولتنظيم الأسنان بشكل جميل ونحو ذلك فهم داخلون في هذا المعنى ولا شك.
ومما يدخل أيضا في تغير خلق الله عز وجل مما أبدعه الطب الحديث اليوم تطويل القامة أو تقصيرها , فبعض الناس يطولون أنفسهم بعمل عملية فيطيل الفخذ أو الساق أو اليد أو نحو ذلك لأمر من الأمور , وكذلك يدخل فيما يسمى بالهندسة الوراثية الذين يتدخلون في تكوين الإنسان في أول خلقته ونشأته , ويدخل فيها أشياء كثيرة جدا من عمليات التجميل كتكبير الثديين وتصغيرهما , وكذلك شد الوجه وشد الترهلات التي في الجسم بطريقة أو أخرى , إما بعمليات جراحية أو بدهونات أو أمور غير ذلك , فتبدو المرأة الهرمة التي قد أثر الزمن والدهر في وجهها , تبدو مشدودة الوجه كأنها فتاة!! وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر!! فتبدوا قبيحة وإن ظنت أنها جملية.
ومما يدخل فيه تكبير الأنف أو تصغيره وهو الغالب , وتكبير الشَفَه أو تصغيرها , وكذلك ما يسمى بالرموش الصناعية , وغير ذلك أمور كثيرة جدا مما يقال له عمليات التجميل كتدوير الفخذين وغيرها من الأمور التي يفعلها كثير من الناس في هذا العصر.
فأقول إذا عرفت وآمنت أن الله هو المصور فينبغي ألا تتدخل في هذه الأمور , وأن ترضى بما قسم الله عز وجل لك , وأن تتذكر أن خلق الله حسن , فلا تعمد إلى تغيير شيء من خلقه.
أسأل الله عز وجل أن يجمل لنا بين حسن الخَلق وحسن الخُلق.
4- البارئ:
أصل هذه الكلمة أصل الباء والراء والهمزة برء أصلها يدور على معنيين :
بمعنى الخلق: كما يقال برئ الله عزوجل الخلق , فالله تبارك وتعالى هو البارئ بمعنى هو الخالق.(1/19)
التباعد من الشيء: ومن ذلك قيل للشفاء من المرض البُرء بمعنى تخلصت منه , فهذا المعنى الثاني يدل على مزايلة الشيء والخلوص منه.
والمعنى الثاني قال بعض العلماء أنه لا علاقة له باسم الله البارئ بمعنى أنه يزايل بين الخلق ويفصل خلقا , كل مخلوق عن المخلوق الآخر , ولكن هذا المعنى فيه نظر والأقرب والله أعلم أن البارئ يعود إلى المعنى الأول.
وأما ما يذكر من معاني أخرى للبارئ فإن عامتها يرجع إلى مادة مثل برو وبريا فإن هذه تختلف عن برئ ولهذا فإن كتب اللغة أحيانا تخلط بين هذا وبين الآخر.
ورد هذا الاسم ثلاثا مرات في كتاب الله عزوجل في آيتين , التي في أواخر سورة الحشر وهي قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ) , والثانية وهي الآية في سورة البقرة وهي قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ).
الغالب في استعمال هذه اللفظة ( البارئ ) أنها تستعمل في خلق الحيوان وما كان فيه الروح , فيقال برئ الله عزوجل النسمة بمعنى أوجدها وخلقها , ولا يكاد الناس يقولون برئ الله السماوات , برئ الله الجبال , برئ الله الشجر , وإن كان هذا المعنى صحيحا , ولكن الغالب في هذه الأمور , خلق الله السماوات وخلق الله الجبال , وبرئ الله الخلق , وخلق الله الخلق , فصار هذا فرق بالاستعمال من حيث الغالب والله أعلم.
يقول الحافظ ابن كثير: الخلق هو التقدير , والبرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود , وليس كل من قدر شيء ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزوجل.
كما قال الشاعر مادحا لملك من الملوك:(1/20)
وَلأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي.
5- البديع:
ومعناه يقرب إلى معنى البارئ والخالق.
وأصل هذه الكلمة الباء والدال والعين وأصلها يدور على معنيين:
الأول: هو ابتداء الشيء وصنعه لا على مثال سابق , ابتدع الشيء بمعنى ابتكره , تقول أبدعت الشيء أي اخترعته.
الثاني: الانقطاع والكلال وليس له علاقة باسم الله عزوجل البديع , فتقول أبُدعت الراحلة بمعنى أن الدابة من طول السفر قد تبرك فلا تتحرك ولا تقوم مهما ضربت ومهما أوذيت بل ولو أحرقت بالنار لربما لا تقوم.
ونقول بدْعٌ بمعنى مُبْتَدَعٌ وفلان بِدعٌ في هذا الأمر أي أنه بديع.
جاء هذا الاسم مضافا إلى الله عزوجل في كتابه في آيتين:
في سورة البقرة: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ).
في سورة الأنعام: (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).
ومعنى كون الله عزوجل هو البديع أي أن الله تبارك وعلا المبدع المنشئ والمحدث للخلق على غير مثال سابق جل جلاله.
6- الخالق:
(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ....) الآية , هذه الأسماء الثلاثة مترابطة في المعنى.
هذا الاسم من أشهر الأسماء , وهو بهذا اللفظ والإطلاق لا يسمى به سوى الله تبارك وتعالى , وإن كان المخلوق بوصف بأنه يخلق كما قال عزوجل عن عيسى عليه السلام: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي... ) الآية , وسيأتي بيانه.
لله سبحانه أسماء خاصة لا يسمى بها غيره كـ:
( الله - الرحمن - الحكم ( إذا روعي في المعنى) - الخالق - الرب )
في كلام العرب: مادة خَلَقَ تدور على ثلاثة معاني:(1/21)
ملاسة في الشيء ( أن يكون الشيء أملس ) , فهذا يقال عنه خلق هذا الشيء بمعنى صار أملسا , ومن ذلك يقال للثياب القديمة ( خَلَقْ ) أي هذا الثوب القديم ذهب ما فيه من أثر النسيج الجديد وما فيه من النتوءات , وهكذا الفرش.
تطلق ويراد بها الإيجاد , إما أن يكون هذا الإيجاد على غير مثال سابق , وهذا في خلق الله عزوجل ولا يكون إلا لله تبارك وعلا كخلق السماوات والأرض على غير مثال سابق , وإما أن يكون قد أوجد شيئا على مثال سابق , وكذلك يكون هذا الإيجاد من غير شيء , وإما أن يكون هذا الشيء قد خُلّق من شيء آخر , كما خُلق الإنسان من نطفة , وآدم من التراب.
التقدير فالعرب تقول خلق بمعنى قدّر , ولا شك أن الشيء لا يكون إلا بعد أن قُدّر , فالتقدير يكون أولا ثم بعد ذلك الإيجاد قم يكون التشكيل والتصوير , كما قال زهير بمدحه لملك من الملوك:
لأنت تفري ما خلقت ** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وهو المراد بالآية التي جاءت في أواخر سورة الحشر , فيصبح الخالق هو المقدر في الآية.
الذي يصلح أن يقال اسم الله الخالق من أي اُخذ هو المعنى الثاني والثالث أي الإيجاد أو التقدير , وأما الملاسة فلا علاقة له.
بعض الآيات التي تدل على معنى الإيجاد:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) خلقنا هنا بمعنى أوجدنا وليس بمعنى قدرنا.
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) بمعنى أوجدناه بقدر , ولو قلنا أنه بمعنى التقدير لصار ( قدرناه بقدر ) وهذا تكرار لا معنى له.
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) بمعنى أوجد كل شيء فقدره تقديرا.
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) بمعنى الإيجاد الأول , والإنشاء الأول , حيث خلق الله عزوجل الناس ابتداءا وأوجدهم ثم بعد ذلك يعيدهم مرة أخرى في اليوم الآخر.(1/22)
(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي هذا الذي أوجده الله عزوجل وأنشأه على عير مثال سابق.
(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ ) ليس معناه لما قدّرت بيدي , لأن الله أوجد آدم ثم أمر إبليس بالسجود له , وإنما معناه لماذا لا تسجد لما خلقت بيدي.
فكما ترون أن الآيات تدل على معنى الإيجاد قطعا.
وهكذا بعض الآيات تدل على معنى التقدير خاصة ولا تدل على معنى الإيجاد , وهناك آيات أخرى تحتمل الأمرين كقوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) أي أحسن الموجدين المبدعين المنشئين ويحتمل معنى آخر قال به طائفة من السلف وهو بمعنى أحسن المقدرين , ولقائل يقول أنها تدل على معنى ثالث وهو أحسن المصورين الذي أعطى كل مخلوق شكله.
فإذا تبين من خلال معرفتنا لمعنى الخالق والبارئ والمصور أن في الآية التي في أواخر سورة الحشر أن الخالق هو المقدر , والبارئ هو الموجد بعد أن قدر , ثم بعد ذلك أعطى كل شيء هيئة تخصه وصورة فهذا هو المصور.
وقد أحسن من جمع بين هذه الأسماء فقال:
خلق الأشياء بقدرته ** وبنور الحكمة صورها
وبراها وفق مشيئته ** وبغير مثال قدرها
وقال الآخر:
يا خالق النطفة الأولى وبارئها ** بلا مثال تعالى الخالق البارئ
مصور كل شيء وفق حكمته ** فالماء والطين غير النور والنار
وقال ثالث:
لا شيء مثلك في وصف ولا ذات ** يا خالق الأرض بدعا والسماوات
وليس قبلك شيء كي نسميه ** وليس بعدك شيء في النهايات
والكون مبتدع إذ أنت موجده ** بلا مثال شبيه في البدايات
بقدرة مالها حد تنظمه ** على الحقيقة في ماض ولا آت
وقفة تأمل في خلق الله عزوجل:
وقفة تأمل في النطفة:(1/23)
النطفة التي تخرج من الإنسان ويخرج منها الملايين من هذه الحيوانات التي يكون الواحد منها ملقحا للبويضة , والعجيب أن هذا الحيوان أو هذه الخلية التي تخرج من هذا الرجل تحمل نصف الخصائص الوراثية , وما يكون عند المرأة في البويضة يحمل النصف الآخر! , ثم بعد ذلك يحصل الازدواج ويحصل التكامل ويحصل هذا الإنسان الذي كونه الله هذا التكوين في أحسن تقويم , من جهة المعنى فجعله الله على الفطرة السوية الصحيحة , ومن جهة المبنى فجعله الله بهذا الخلق العجيب المتناسق , ووضع فيه كل شيء في محله .
فهذه الخلية حينما تخرج من الإنسان لتلقح هذه البويضة تمشي مسافة طويلة بالنسبة لحجمها الصغير , فهي تقطع مثل طولها مائة ألف مرة , وذلك كما لو أن الإنسان الذي لا يتجاوز طوله في كثير من الأحيان عن متر ونصف المتر , كما لو قطع خمسين ومائة كيلو من المترات , ومن غير أن يتوقف لحظه , ومن غير أن يستريح.
وهذه الخلية تبدأ بالانقسام ولا يحصل هناك خلط ولا خلل البتة , فهي تسير سيرا دقيقا وتنقسم انقساما عجيبا لا تفاوت فيه ولا اختلال بوجه من الوجوه , فكل خلية منشعبة تذهب إلى مكانها الصحيح الذي قدر الله عزوجل أن تكون فيه , فهذه تكون كبدا , وهذه تكون كُلى , وأخرى تكون قلبا , وأخرى تكون عينا , فلماذا لا تجتمع هذه الخلايا فتكون أكبادا كثيرة؟ , ولا نشاهد للإنسان إلا قلبا واحدا , (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ).(1/24)
إذا تأمل العبد هذه القطرة الصغيرة المهينة التي هي مستقذرة التي هي أصل خلق الإنسان والتي لو مر عليها ساعة من الزمان لأنتنت وتغيرت , كيف استخرجها الله عزوجل من صلب الرجل ؟ ومن تراب المرأة! , خلق الله هذا الإنسان من أخلاط من أمشاج وجعله في أطوار, كيف استله في هذا الموضع من الرجل والمرأة ثم جمع بين هذين المائين من طرق ضيقة وخفية , ثم تجري وتستقر في الرحم , من غير الحاجة إلى عملية جراحية , فالله عزوجل ينظم في بطن الأم مئات بل آلاف العمليات الجراحية في كل لحظة في كل ساعة من غير حاجة إلى إدخالها في مستشفى ومن غير حاجة إلى شق البطن أو إضاءة في ظلمات ثلاث , يخلق الله عزوجل الإنسان خلقا من بعد خلق في هذه الظلمات من غير حاجة إلى شق أو إضاءة أو أشعة أو إلى غير ذلك , من الذي يقلبنا في الأرحام كيف يشاء؟ , هو الله الخالق البارئ الذي عرفناه بهذه الأسماء الكريمة من أجل أن نتعبده بها , ومن أجل أن يقوم في القلوب مقتضى هذه الأسماء من الإقرار بوحدانيته سبحانه , لأن الإقرار بربوبيته وأنه هو الخالق وأنه هو البارئ , إن ذلك يستلزم أن يكون هو المعبود وحده لا شريك له.
ثم انظر كيف قدر الله عزوجل اجتماع هذين المائين مع بعد كل منهما عن صاحبه , فكيف ساقهما من أعماق العروق والأعضاء فجمعها في موضع واحد!؟ , فالله يقلب هذه النطفة البيضاء المشرقة يقلبها كيف يشاء , فتصير بعد ذلك علقة حمراء تضرب إلى السواد , ثم بعد ذلك يجعلها في أطوار أخرى وقسمها فيكون لها سمع وبصر وقلب وعقل وأسنان ويد ورجل وما إلى ذلك ولو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا لها شيء من ذلك ما استطاعوا , بل لو اجتمعوا على أن يخلقوا لها شعرة واحدة لعجزوا عن ذلك , فمن هذا صنعه في قطرة ماء فكيف صنعه في ملكوت السماوات وعلوها وسعتها واستدارتها وعظم خلقها وحسن بناءها ؟ ..(1/25)
والعلماء من أهل الطب قد درسوا هذه الخلية التي يتكون منها الجنين , وحاولوا أن يتعرفوا سر خلقها , فاكتشفوا أن مركزية هذه الخلية هي ما يسمى بالنواة , بحيث إن غياب هذه النواة يجعل استمرار هذه الحياة مستحيلا إلا في حالات استثنائية كما يقولون , ومن هنا ظن العلماء أن سر الحياة يكمن في النواة فانطلقوا ينقبون ليكشفوا أسرار هذه النواة وعجائبها ثم فوجئوا بأنهم أمام أشكال عجيبة غريبة ضمن هذه النواة , تحب وتتعطش للألوان بشكل غريب , هذه الأشكال الغريبة التي هي أشبه ما يكون بالمقصات هي ما يسمى بالكروموسومات , عثر فيها على سر خطير هو سر الوراثة بالنسبة لخلق الإنسان , فهي ملخص للإنسان في جزء صغير جدا , فكل ما بالإنسان من أخلاط ومزاج وعروق ودم وعروق وسمات ومزايا وأذواق وأشكال ولحم وعظام ولون وقامة كل ذلك قد تلخص بمقدار يسير هو واحد من المليون! جعلت فيه كل هذه الخصائص فانظر إلى دقة صنع الله عزوجل.
البشر لو استطاعوا أن يصنعوا جهازا مسجلا صغيرا أو استطاعوا أن يصنعوا كاميرا صغيرى أو نحو ذلك عُدّ ذلك إنجازا عظيما! , ثم أيضا بعدما يحصل هذا اللقاح لهذه البويضة فإن نمو الإنسان لا يمشي على وتيرة واحدة وتسلسل واحد , فهو يمشي بأحوال وأطوار متعددة , مرة في زيادة الخلايا فتصبح هذه رجل وهذه يد , وفي آخر المراحل يزيد وزن الجنين ليخرج بأحسن صورة , فمن الذي قدر له هذا التقدير؟ فإذا صار الإنسان عمره ثمانين يوما فإنه يبدو على هيئة إنسان صغير , ثم بعد ذلك تتخلق العين والأحشاء والأطراف وما إلى ذلك.
وقفة تأمل في الفم:(1/26)
انظر إلى فمك هذا الذي تأكل به الطعام , فحينما تتأمل في هذه الأسنان فإنك تجد ثلاثة أنواع منها: القواطع , والأنياب , والأضراس , وهذه الأخيرة أي الأضراس على نوعين: أضراس أمامية , وأضراس خلفية, وأما القواطع والأنياب فلكل منها جذر واحد , وأما الأضراس الأمامية فلها جذران , والأضراس الخلفية لها ثلاثة جذور نظرا لسعته وضخامته وامتلاءه , فمن الذي دبر هذا التدبير ؟
ثم انظر إلى هذه الملائمة بين هذه الأسنان وبين هذه الأضراس , لماذا لا يخرج لبعض الناس أضراس في مقدمة الفم ؟ وتكون الأسنان في آخر الفم! , هل رأيتم شيئا من ذلك ؟
لماذا لا يكون بعض الناس بهذه المثابة؟ , ثم إذا كان الأمر متحدا في جميع الخلق , فلماذا كانت هذه في الأمام وهذه متوسطة وهذه متأخرة ؟ ويكون بعض الأضراس بعد ذلك ؟ ... أقول كل ذلك قسمه الله عزوجل وقدره ورتبه ترتيبا عجيبا ليتحقق من ذلك الغرض الذي خلق من أجله.
فهذه القواطع يقطع بها الإنسان الخبز ونحوه , ثم هو بعد ذلك بهذه الأنياب التي تنتهي برأس مدبب يناسب لتمزيق اللحوم وما شابهها , وأما الأضراس الأمامية والخلفية فإن نهايتها مسطحة وعليها رؤوس صغيرة مدببة , وذلك من أجل أن تعمل عملها في طحن هذا الطعام الذي قطعته ابتداءا في أول الفم , ثم بعد ذلك يوجهه اللسان يحركه يمنة ويسره ليتوزع على هذه الأضراس , ولولا وجود هذا اللسان لكان الطعام يتكتل في وسط الفم ثم يتعين الإنسان في توجيهه للأضراس , ويحتاج بعد ذلك إلى إعمال الأصابع لتوجيه الطعام للأضراس لتقوم بدورها المطلوب.
ثم انظر إلى هذا اللعاب الذي لو كان مستمرا لتعب الإنسان من كثرة التفل , ولو كان منقطعا قليلا لا يكفي لتعب الإنسان من مضغ الطعام ولغص بأدنى الأشياء , فالله عزوجل جعله يفرز إفرازا مقدرا مرتبا محددا يليق بالحال المطلوبة.(1/27)
معرفة هذه الأمور ينمي معرفة الرب تبارك وتعالى , ويملأ نفس الإنسان وقلبه تعظيما للخالق جل جلاله , ويقوده قودا إلى الإقرار بوحدانيته.
فأقول في هذا الفم الذي نأكل به الطعام , أقول تأملوا كيف شقه الله عزوجل في أحسن موضع وفي أليق موضع , تصور لو كان هذا الفم في رجل الإنسان ؟ أو في يده ؟ أو كان خلف رأسه ! كيف يكون حاله ؟ وقد أودع الله فيه من المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول , وجعل الله عزوجل وسط هذا الفم جعل فيه اللسان وجعل فيه ترجمانا للملك أعني القلب , فهو يترجم عن منونات الإنسان ويخبر عما في فؤاده , فهو كالبريد عن القلب وكالرسول له, وجعل هذا البريد في حسن منيع فجعله مصونا محفوظا مستورا غير بارز ولا مكشوف , فالأذن مكشوفة والأنف مكشوف , وكذلك العين مكشوفة , لأن الإنسان يحتاج أن يسمع بإذنه فهي بحاجة إلى أن تكون ظاهرة , والعين الإنسان بحاجة أن يبصر الأشياء بها فلا بد أن تكون ظاهرة , والأنف يحتاج الإنسان أن يتنفس منه فلا بد أن يكون ظاهرا إلى الخارج , وأما اللسان فله شأن آخر فهو مؤد عن القلب ومعبر عنه وليس مستقبلا للقلب , وإنما هو ترجمان له , فجعله الله مستورا لعدم الحاجة لإبرازه , وأيضا جعله الله عزوجل من ألطف الأعضاء ومن ألينها , وجعلها من أشدها رطوبة , وهو لا يتصرف إلا بواسطة هذه الرطوبة المحيطة به , فلو كان بارزا للخارج لكان عرض للحرارة واليبوسة وصار ناشفا , فمنعه ذلك من التصرف وسهولة الحركة , والإنسان إذا أصابه العطس لربما وجد أثر ذلك في لسانه , فهو أحيانا يعجز عن التعبير لشدة الجفاف الذي أصابه , وفيه سبعة عشر عضلة تحركه إلى كافة الإتجاهات , وفيه ثلاثة أعصاب لتنظيم نقل الحس.(1/28)
وعلى سطح هذا اللسان يوجد تسعة آلاف نتوء ذوقي , وإذا حرك الإنسان لسانه بطريقة معينة صدر منه صوت معين , وإذا حركات باتجاه آخر صدر منه صوت آخر , والإنسان لا يجد كلفة بالكلام فيتكلم بكل يسر وسهولة وطلاقة , من الذي يسر له ذلك؟ , وإذا بدأ الإنسان يأكل الطعام بدأت هذه الغدد بالإفراز وهي محيطة بهذا اللسان عن يمينه وعن شماله ومن أمامه أعني تحته.
فأقول تأمل هذا العجب في صنع الله عزوجل , وكيف أن هذا اللسان نستخدمه في كثير من الأحيان في القيل والقال , نستخدم هذا اللسان فيما لا يرضي الله , بالغيبة والنميمة والسب والشتم والوقوع في أعراض المسلمين وما إلى ذلك.
ثم إن الله عزوجل زين هذا الفم أيضا بالأسنان , فرصها فيه رصا عجيبا , فصارت بطريقة بديعة جميلة , تُحسن الإنسان بحيث لو سقط شيء منها لبدا القبح ظاهرا فيحتاج الإنسان إلى معالجة هذا الأثر فيركب أسنانا أو ضرسا أو يرقع ضرسا مكسورا أو نحو ذلك ليتدارك النقص الذي ظهر فيه , فالإنسان لا يعرف قدر النعمة إلا إذا فقدها.
ثم أيضا جعله الله عزوجل قوام الإنسان لأنه يأكل عن طريقه , وتصور حال الناس الذين لا يتمكنون من ذلك – نسأل الله لنا ولكم العافية – ممن يصابون بأمراض بالبلعوم أو في المريء أو نحو ذلك , أين يرسل إليهم الطعام؟ من أين يصلهم هذا الطعام ؟ , يصلهم إما عن طريق فتحة في أعلى الصدر , أو عن طريق الأنف بليات وعذاب وشقاء ومما يشبه ذلك.
ثم انظر كيف زينه الله من الخارج بالشفتين , فصار زينة له وحلية , وصار ذلك أيضا سببا في فصاحته , لأن الشفتين تشتركان في عملية التصويت وعملية إبراز الكلام وفصاحته , ثم هي أيضا جعلها الله لحما لا عظم فيه من أجل أن يتمكن الإنسان من الحركة بها في كل يسر وسهولة.(1/29)
فهو يكشر عن أسنانه ويبتسم ويبدي مشاعره بهذه الشفاه بطريقة عجيبة , ثم أيضا هو يحتاج إلى هذه الشفاه أن تكون بهذه الحالة العجيبة من غير عظام ليتمكن من مص الشراب , ولو كان في الشفتين شيء من العظام لما تمكن من ذلك بيسر وسهولة , ثم جعلها الله عزوجل طبقا وغطاءا , فلولا وجود الشفتين لصار الفم مكشوفا ولصار عرضة للغبار , ولصار شكله في حال من القبح , ولذلك أخبرنا الله عزوجل عن أهل النار أن وجوههم باسرة , ومعنى باسرة في قول طائفة من السلف أنه إذا احترق الوجه فإنها تبدو الأسنان , تتقلص الشفتان فإذا انقلصت ظهرت الأسنان.
وقفة تأمل في اليد:
إذا تأمل الإنسان في حاله وفي صنع الله عزوجل العجيب في بدنه رأى من ذلك عجائب وغرائب , ومن ذلك اليد التي يبطش بها الإنسان فجعلت عريضة وجعل لها خمسة أصابع , وهذه الأصابع قد جعل لكل واحد منها ثلاثة أعظم سوى الإبهام فله عظمين , ثم انظر كيف جعله الله عزوجل في طرفها , بحيث أن الإنسان يستطيع أن يقبض ويبسط ويستطيع هذا الإبهام أن يلتف عليها جميعا.
الذين يحاولون صنع ما يسمى بالرجل الآلي يقولون أنهم لو استطاعوا أن يصلوا إلى أن هذه اليد لهذا الإنسان الآلي تستطيع أن تربط الخيوط التي تكون في الحذاء يكونون بذلك أنجزوا انجازا كبيرا عظيما!.
ثم انظر كيف شد الله أطراف هذه الأصابع بالأظفار , زينة لها وكي يستطيع الإنسان أن يأخذ بها الأشياء الدقيقة التي لا يستطيع أخذها بمجرد أطراف الأصابع , وجعلها الله سبحانه حماية لأطراف اليد , وأيضا لغير الإنسان سلاحا يقاتل بها أعني المخالب , وأيضا يحتاجها الإنسان ليحك بها , ثم انظر كيف تمتد هذه اليد في كل يسر وسهولة إلى ما احتاج إليه من بدنه فيحك الإنسان جلده ويصلح شؤونه ويفعل ما يريد , حيث طولها الله عزوجل , تأمل لو كانت هذه اليد قصير بقدر شبر كيف يكون حال الإنسان وما مدى انتفاعه بها ؟(1/30)
ثم انظر إلى أطراف هذه الأصابع كيف جعل الله بها هذه الخطوط الدقيقة التي يقال لها البصمات , ولا يمكن أن يتشابه اثنان في العالم في هذه الخيوط ا, وبذلك استطاع الناس أن يعرفوا بذلك المجرمين , واستطاعوا أن يميزوا الأشخاص بعضهم عن بعض.
وقفة تأمل في العظام:
وتأمل أيضا فيما جعل الله عزوجل في خلقك من هذه العظام فلو خلا منها الإنسان لصار كتلة من اللحم لا يستطيع أن ينهض ولا يستطيع أن يقوم ولا يستطيع أن يتحرك الحركة المطلوب , ولا يتنقل في شؤونه , ولا يأخذ ويعطي ويقاتل ويدفع ولا غير ذلك , إنما هو قطعة من اللحم تتلبط في مكانها.
فجعل الله عزوجل هذه العظام قواما لهذا البدن , وخلقها الله عزوجل وقدرها تقديرا عجيبا , وفاوت بينها بالخلق , فمنها الصغار ومنها الكبار ومنها الدقاق ومنها الغلاظ ومنها الطويل والقصير والمنحني والمستدير والمجوف والمصمت ومنها ما يكون خشنا ومنها ما يكون أملسا , فالذي يكون في أطرافها وعند نهاياتها يكون أملسا في غاية الملاسة من أجل أن لا يحتك بغيره ومن أجل أن تسهل الحركة , ولو كان خشنا لحصل بذلك احتكاك وفساد لهذه العظام وآلام لا يحصيها إلا الله عزوجل , ثم جعل الله بين هذه المفاصل جعل بينها سائلا , كالزيوت والشحوم التي توضع في مواضع الاحتكاك في الآلات لتسهل الحركة , ثم انظر كيف جعل الله عزوجل هذه العظام على هيئات مختلفة , فحينما تكون الحاجة للاستدارة والحركة في النواحي مختلفة يركبها الله تركيبا يتناسب مع ذلك , انظر إلى رقبة الإنسان تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف واليمين والشمال , ويستطيع الإنسان أن يتلفت بكل يسر وسهولة , وانظر إلى نهاية الفخذ مع الورك , كيف أن العظم جعله الله مستديرا , بحيث إن الإنسان يمكن أن يتحرك حركة مرنة بهذا التكوين والتصريف العجيب.(1/31)
وأما المفصل الذي يكون في الركبة , فإن الله دبره تدبيرا يتناسب مع الحاجة , حيث أنه بحاجة إلى تحريكه إلى الأمام والخلف , ولو كان يتحرك إلى اليمين والشمال لكان هذا سببا في تعثر الإنسان , ثم انظر أيضا كيف جعل الله عزوجل هذه العظام التي في الفم جعلها بهذه الهيئات التي وصفنا في بعض المرات الماضية لتكون آلة للطحن أو القطع أو غير ذلك من الأغراض التي جعلها الله عزوجل لها.
ثم انظر أيضا كيف أن الله فصلك هذا التفصيل , ولو جعلك عظما واحدا لكان ذلك سببا لمشكلات , فأنت لا تستطيع أن تقوم وتنهض وتجلس وتركع وتسجد , ثم لما كان ظهر الإنسان بحاجة إلى حركة في غاية المرونة لم يجعله من عظم واحد أو عظمين , وإنما جعله من هذه الفقار الكثيرة ليتمكن من التحرك بكل يسر وسهولة , ثم أن الله عزوجل شد أطراف هذه العظام بأوتار شدها بعضلات وشدها بعصب وجعلها بمنزلة الأربطة التي تشد طرفا إلى طرف , ثم جعل الله عزوجل في أطراف كل واحد من هذه العظام جعل فيها زوائد وجعل في الطرف الآخر ثغورا ومداخل لأطراف هذا العظم فيدخل هذا في هذا ثم بعد ذلك يتكون منه هذا التركيب البديع, من الذي صنعه ومن الذي أبدعه ومن الذي جعله في هذه الهيئة وفي هذا الموضع وجعله في هيئة أخرى في موضع آخر , فإذا أراد الإنسان أن يتحرك صار ذلك عليه يسيرا سهلا.
ثم انظر كيف جعل الله عزوجل العظام التي بأسفل البدن جعلها قوية ومتينة , لأن البدن يقوم عليها ويعتمد , وأما العظام التي لا يقوم عليها الإنسان في قيامه وقعوده بجعله الله عزوجل دقيقة لا تحتاج إلى هذه الضخامة وهذه القوة.
وقفة تأمل في الأذن:(1/32)
ثم انظر إلى هذه الأذن كيف جعلها الله عزوجل ظاهرة لتستقبل الأصوات , فإن الحكمة من خلقها هي أن يستقبل بها الإنسان المسموعات , ثم انظر كيف جعل الله بها هذه الدوائر والغضاريف وذلك لحكم عظيمة , جعل الله عزوجل هذه الإذن كالصدفة لتجمع الصوت ثم تؤديه بعد ذلك إلى داخلها , وجعل هذه التجاويف والتعوجات جعلها لتمسك الهواء والصوت إلى الداخل ثم تنكسر حدته قبل أن يضرب في داخل الإذن فتتأذى منه , ومن حكمة ذلك أيضا أن الله عزوجل يطول بذلك على كل ما أراد أن يدخل بهذه الأذن من النمل والحشرات فهو يحتاج إلى عمل ووقت ومعالجة من أجل الوصول إلى ثقبها ثم يتنبه الإنسان بعد ذلك ثم يخرجه , فلو كانت الأذن مجرد ثقب لكان سهلا أن تدخل عليها الذر وما إلى ذلك فيتأذى بها الإنسان , ثم أيضا جعل الله عزوجل سائلا في هذه الأذن مر الطعم من أجل أنه لا يتمكن شيئا من هذه الحشرات إلى الوصول داخل هذه الأذن , فإذا بلغ هذا الموطن بدأ يبحث على حيلة ليخرج وينجو بنفسه لأن لا يموت , فلا يستطيع أن يتجاوز هذا الموضع داخلا إلى بطن الأذن فهذا من حكمة الرب جل جلاله.
وقفة تأمل في الرأس:(1/33)
وأما الرأس فقد جعله الله عزوجل عاليا , وجعل فيه هذه العظام القوية التي تحيط بما حواه من كل جانب , حتى أن بعض العلماء المتقدمين يقولون إن هذه العظام التي ركب الله عزوجل بعضها في بعض بالرأس يقولون أنها تبلغ خمسة وخمسين عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع فجعلها الله عزوجل بهذا التداخل والتشابك حتى صارت كأنها لُحمة واحدة , فإذا أصيب واحد منها سلم الآخر , ثم جعلها الله عزوجل محكمة مشدودة لا يدخل إليها الهواء , وذلك لحماية الدماغ وحماية الحواس التي جعلها الله عزوجل في هذا الرأس , فهذا الرأس هو أكرم شيء في الإنسان فيه الوجه وفيه الحواس السمع والبصر والذوق والشم , وفيه فوق ذلك أيضا فيه الدماغ الذي فيه اتصال بالقلب , وهذا القلب هو موضع العقل , فجعله الله عزوجل مرتبطا بهذا الدماغ وأحاطه بهذه الحماية العجيبة كل ذلك صنع هذا الخالق البديع في صنعه وفي فعله وفي خلقه تبارك وتعالى , وجعله الله عزوجل في الأعلى لأن فيه أغلى الأشياء , ولأن فيه البصر والسمع والإنسان يحتاج في بصره إلى أن يكون في مكان مرتفع , تصور لو كان بصر الإنسان في رجله أو في ركبته! , كيف يكون عرضة لكل لطمة ولكل آفة! , كيف تكون الحماية لهذا البصر لو كان في رجل الإنسان؟ ثم كيف يستطيع أن يبصر الأشياء وبصره في رجله أو بطنه وإنما جعله الله عزوجل في هذا المكان المرتفع كالبرج يبصر به الأشياء من بعيد , وكذلك السمع فهو بحاجة إلى أن يسمع الأصوات من بعيد , فجعله الله عزوجل في هذا الموضع المرتفع في الإنسان , فصار البصر في مقدم الرأس كالطليعة له وكالحارس الكاشف للبدن .
وقفة تأمل في الشعر:(1/34)
وقد زين الله هذا الرأس بهذا الشعر الذي صار حسنه به وجعله لباسا له , كل ذلك لحكمة عظيمة , ويعرف الإنسان قدر هذه النعمة إذا فقد شيئا من ذلك , وأنتم ترون الناس يبحثون عن العيادات التي تزرع لهم شعرا اصطناعيا أو تقول أنها تستطيع أن تصنع لهم بصيلات ينبت بها شعر طبيعي لهؤلاء الناس , ما شأن الإنسان حينما يسقط شعره أو يصاب بالصلع؟ , لاسيما إذا كانت امرأة , كثيرا من الناس لربما رفضوا بعض العلاج الضروري كالذين يصابون بالسرطان – أجارنا الله وإياكم من ذلك – بعضهم يرفض هذا العلاج ومن أسباب رفضه أنه يشوه صورته كما يقولون , حيث أن شعره يتساقط , مع أن هذا الشعر لا يتساقط إلى الأبد ولكن يرجع إليه ثانية.
وقفة تأمل في العين:(1/35)
ثم انظر بعد ذلك إلى هذه العين التي جعلها الله عزوجل في هذا الرأس , وابن القيم يقول إن الله عزوجل ركب كل عين من سبع طبقات , لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة , لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أو زالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار بالكلية , ثم إن الله عزوجل جعل في وسط هذه الطبقات السبع جعل خلقا دقيقا عجيبا , وهو ما يسمى بإنسان العين وهو صغير جدا بقدر العدسة يبصر به الإنسان , وجعله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء فهو ملكها , وتلك الطبقات التي جعلها الله عزوجل بمنزلة الحراس لهذه العين أعني بذلك الأجفان , التي تكون بمنزلة الآلة الماسحة –مثل مساحة السيارة- تمسح عن هذه العين ما يعلق بها من الغبار والأشياء العالقة بالجو , ثم إنها أيضا حماية لها فإذا شعرت العين بالخطر تحرك هذا الجفن بشكل تلقائي , لا يحتاج منك إلى أمر أن تأمره من أجل أن يتحرك ليحمي هذه العين , ثم إنه يريح هذه العين في بعض الأحوال كالنوم ونحوه , فجعله الله عزوجل غطاءا للعين وسترا لها وحفظا وزينة وهما أيضا أعني الجفنين يلقيان الأذى عن هذه العين ويلقيان القذى والغبار ويحميانها من الحر ومن البرد , ثم إن الله عزوجل غرس في أطراف هذه الأجفان غرس فيها الشعر , زينة وحفظا أيضا لهذه العين , ثم إن الله أودع هذه العين هذا البصر الذي يبصر به الأشياء , وإذا انطفأ هذا البصر والنور الذي في هذه العين لم ينتفع الإنسان بها , ثم إن الله عزوجل أجرى في هذه العين عينا ملحا , من أجل أن لا تنتن هذه العين , فهي تحتاج إلى رطوبة , وهي أيضا لو كانت هذه الرطوبة حملة لكان ذلك سببا في تلف شحم العين وتلفا لبعض أعضائها فتضرر من ذلك فتتعفن , فجعل الله عزوجل هذا السائل جعله ملحا , من أجل أن يعقمها وينظفها ويحافظ على رطوبتها من غير أضرار ومن غير آفات يورثها ذلك , والله تعالى أعلم , ثم إذا وقع في هذه العين شيء من القذى أو الأذى(1/36)
فإن هذا الدمع يدر بطريقة تلقائية ليغسل هذه العين ويزيل ما علق عليها من أذى وقذى وغبار ومن آفات , كل هذا أبدعه الله عزوجل وصنعه وركبه في جسمك أيها الإنسان وأنت ساهٍ لاهٍ لا تدري عن شيء من هذه الأمور , وإنما إذا فقد الإنسان شيء منها , أو أصابه الضرر , صار عنده ثقافة واسعة بهذا العضو , وآثار هذا العضو , والحاجة إليه , وما يترتب على فقده , وما هي الأدواء والأمراض التي تصيبه , حينما يصاب الإنسان في مرض في عينه أو في أذنه لربما أخذ ثقافة واسعة عن الأدوية والأسباب والنتائج والآثار الجانبية وما يتعلق بذلك , وصار يحدث الناس , كل من زاره أعطاه تصورا عن هذا العضو الذي لربما كان قبل هذا المرض لم يعرف كيف يعمل هذا العضو , وما هي الآفات التي تصيبه , ولم يخطر بباله شيء من ذلك , وإنما ركب الله ذلك فيه من غير جهد منه ولا كسب ولا عمل فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقفة تأمل في الأنف:(1/37)
ثم انظر إلى هذا الأنف كيف جعله الله عزوجل على هذه الهيئة , وجعل طرفه الأعلى قصبة دقيقة , ليتحقق الغرض , وهو أن يدخل الهواء دون سائر الأشياء , فهو لا يحتاج أن يكون في طرفه الأعلى عريضا فيدخل معه كل شيء , وإنما هو بحاجة إلى هذه الدقة ليمنع دخول الغبار والقذى والأذى والحشرات وما إلى ذلك , ثم إن الله جعل فيه شعرا ليمنع دخول الغبار ليكون بمنزلة المصفاة ولأن لا يدخل فيه شيئا فيصل إلى الرأس , ثم إن جعل الله عزوجل له منخرين مع أنه عضو واحد أعني الأنف , وذلك أن الإنسان بالنسبة للعين والأذن , كل واحد منها يعد حاسة مستقلة , إذا فقد هذا عوض بالآخر , حتى إن العلماء يقولون إن الإنسان إذا فقد واحدة من أعينه فإن نورها ينتقل إلى الأخرى فيتضاعف نورها , الحاصل أن الأنف لما كان حاسة واحدة جعل الله عزوجل له منخرين , فإذا تأذى هذا أو تضرر أو تعطل بزكام أو بغيره من الآفات , فإن الآخر ينتفع به ويعوض عن الآخر , وجعل طرفه الأسفل جعله عريضا مقارنة بطرفه الأعلى , وذلك ليتحقق الغرض ليدخل الماء فيغسل , ثم ليدخل أكبر قدر من الهواء فيتنفس الإنسان بطريقة سهلة , فيصل ذلك إلى قلبه من غير شعور بالحرج والضيق وانحباس النفس , فالله تبارك وتعالى صنعه هذا الصنع , وأبدعه بهذه الطريقة , كل ذلك لحكم عظيمة بالغة , قد لا نتصورها ولا تخطر لنا على بال.
وقفة تأمل في القلب:(1/38)
فهذا القلب الذي هو ملك الجوارح وزنه يقرب من واحدا وعشرين وثلاثمائة غرام , وحجمه بقدر قبضة اليد , تبلغ ضربات الرجل ما يقرب من ستين إلى ثمانين ضربة في الدقيقة الواحدة , وينبض في العام أربعين مليون مرة , وفي كل ضخة يدخل إلى القلب حوالي ربع رطل من الدم , ويضخ في يوم واحد ألفين ومائتين من الجوالين من الدم , وحوالي ست وخمسين مليون جالون على مدى الحياة يعني من الدم , فلو أن الإنسان قيل له تكفل بهذا القلب لمدة ساعة واحدة , فهو كما قلنا في الدقيقة الواحدة تبلغ الضربات ما بين ستين إلى ثمانين ضربة , فلو قيل له أنت موكل بهذا القلب في ساعة واحدة فقط , كيف يكون شانه؟ , لا يستطيع أن يلتفت إلى شيء إطلاقا , لا يستطيع أن يأكل ولا يتكلم مع الناس ولا يناقش ولا ينتفع بأي وجه من وجوه الانتفاع , في شغله في عمله في نومه .. لا يستطيع أن ينام لأن هذا القلب سيتعطل , فانظر كيف تعمل هذه الأشياء دون أن يشعر الإنسان , ولو وكلت إليه لضاع وضيعها , وهذا القلب يستطيع لو أنه استعمل آلة تحرك الأشياء أو رافعة صغيره يستطيع بكل نبضة من هذه النبضات هي بقدر قوة رافعة ترفع شيئا أو ثقلا بمقدار أو على زنة رطلي , ترفعه على مقدار قدمين , بكل نبضة يمكن أن يرفع هذا المقدار من الموزونات على هذا الارتفاع , وذلك بنبضة واحدة! .(1/39)
أما الدم الذي يمر عبر هذا القلب , فإن الدفعة الواحدة التي تمر من خلال القلب بوقت لا يتجاوز نصف الثانية , وأما الطريق من القلب إلى الرئة ثم إلى القلب مرة أخرى , فإن ذلك يستغرق ست ثواني فقط , وأما الدم الذاهب إلى الدماغ فإنه يعود إلى القلب مرة ثانية في ثماني ثواني , بينما يعود الدم الذاهب إلى أصابع القدم في ثماني عشرة ثانية , وهذا الدم فيه تركيب عجيب , فهو يحوي خمسة ملايين من كريات الدم الحمراء , في كل متر مكعب واحد منه , الملي متر فيه خمسة ملايين كرية حمراء من كريات الدم ومجموع ما في الدم من الكريات الحمراء خمس وعشرين مليون كرية حمراء , ولو فرشناها كبساط تفرش سطحا مقداره ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسين مترا مربعا , وإذا صفت واحدة بعد الآخر على هيئة الخيط فإنها من دم الإنسان الواحد , فإن مجموع أقطار هذه الكريات يقولون إنه ينشئ طولا يغلف الكرة الأرضية ست إلى سبع مرات .
وقفة تأمل في النَفس:
وأما النفس الذي يتنفسه الإنسان , فإنه يتنفس في كل يوم خمسا وعشرين ألف مرة , تصور! لو أعطيت هذه الرئة للإنسان وقيل له تنفس أنت لمدة يوم واحد , ينفه في هذه الرئة ثم يعصرها , ما الذي سيحدث؟ هو سيتعب , لو الإنسان طلب منه أن ينفخ بالونة واحدة لتعب ومل , فالإنسان يتنفس ما يقرب من خمس وعشرين ألف مرة يسحب فيها مائة وثمانين مترا مكعبا من الهواء , وفي مجموع دم الإنسان كما ذكرنا خمس وعشرين مليون كرية دم حمراء تنقل الأكسجين , وخمس وعشرين مليار كرية بيضاء لمقاومة الجراثيم , ولمناعة البدن , ومليون مليون صفيحة دموية لحفظ الدم ضد النزيف , ولإيجاد التخثر عندما تحصل الجروح , والكرية الواحدة من كريات الدم متوسط العمر الذي تعيشه مائة وعشرين يوما , وفي هذه المدة تقطع في العروق مسافة طويل تنقل بها الأكسجين , وقدر هذه الرحلة ما يقرب من خمسين ومائة وألف كيلومتر عبر عروق البدن .
وقفة تامل في البدن عامة:(1/40)
وجسم الإنسان يحوي أكثر من ستمائة عضلة , وأكثر من مائتين عظم , وتحوي العضلة المتوسطة الحجم على عشرة ملايين ليف عضلي , وتحوي عظمة الفخذ بمفردها أكثر من ثلاثين ألف عمود من الكلف , أما عضلات الإنسان مجتمعا فإن عملها لو أردنا أن نقدره فإنه يساوي ما حمولته ( في يوم واحد طبعا ) عشرين طنا , وأما المعدة ففيها من غدد الإفراز ما يقارب خمسة وثلاثين مليون غدة , وأما الدماغ ففيه من الخلايا العصبية ثلاث عشرة مليار خلية عصبية , ومائة مليار خلية دبغية استنادية تحرس الخلايا العصبية , وفي العين مائة وأربعين مليون مستقبلا للضوء , وتحت جلد الإنسان من المكيفات التي يقال لها الغدد العرقية لتلطيف البدن فيه ما يقرب من خمسة إلى خمسة عشر مليون مكيف يعني غدة عرقية , وفي كبد الإنسان ما يقرب من ثلاث مائة مليار خلية يمكن أن تتجدد كليا كل أربعة أشهر , وأما الكلى فإن الكلية الواحدة للإنسان تزن خمسين ومائة جرام فقط , هي صغيرة كما تعلمون , وفيها مليون وحدة وظيفية لتصفية الدم , ويرد إلى الكلية الواحدة خلال أربع وعشرين ساعة ألف وثمنمائة لتر من الدم , ويعاد امتصاص معظم ذلك , ويطرح منه حوالي لتر ونصف وهو المعروف بالبول , وكل شيء في هذا الإنسان يتجدد من الخلايا والكريات وغير ذلك ويتغير إلا شيئا واحدا إلا الخلايا العصبية كما يقول الأطباء.
هذه الخلايا العصبية تبقى وتستمر ولا تتلف ولا تتجدد ولا تزداد , والأطباء يقولون لو كانت تتلف وتتجدد فذلك يعني أن الإنسان يفقد ذاكرته تماما كل ستة أشهر , فهو يحتاج إلى أن يتعلم حتى مبادئ اللغة والنطق والحروف من جديد , فانظر إلى رحمة الله وبديع صنعه.(1/41)
وأنت أيها الإنسان فانظر إلى صنيعك في اليوم الواحد , الإنسان يأكل في اليوم الواحد ما يقرب من ثلاثة إلى أربعة أرطال من الطعام , ويشرب في اليوم الواحد لترا ونصف اللتر من السوائل أو أكثر , ويتنفس ثلاث وعشرين ألف مرة , ويدق قلبه مائة ألف مرة في اليوم , ويختزن في ذاكرته من الصور التي شاهدها نصف مليون صورة جديدة كل يوم! , ويتخلص الإنسان في كل يوم من قدر أوقيه من الأملاح المعدنية , ويفرز لترا ونصف من اللعاب يوميا تقريبا , ويفز أيضا مثل هذا المقدار من العرق , وأما الكريات البيضاء في الدم فإنها تمثل محطات الدفاع الأولى للبدن , فهي بمثابة الفرق والدوريات المتجولة , فتقوم بحراسة هذا البدن من الجراثيم وتهاجمها , وأما الغدد اللمفاوية فهي تصطاد الجراثيم حينما لا تنجح مقاومة الكريات البيضاء لهذه الجراثيم , فهي خط الدفاع الثاني وهي أقوى من الكريات البيضاء , وحينما يحصل هذا العراك بين هذه الغدد اللمفاوية وبين الجراثيم تتضخم هذه الغدد ويزيد حجمها من جراء هذا القتال الدائر مع هذه الجراثيم الغازية , فهذه من الجنود التي خلقها الله عزوجل في بدنك وأنت لا تشعر وأنت ساهٍ لاهٍ , ثم في فترات هذه المعارك الضارية تحصل أشياء وتفاعلات وتعلن حالة الطوارئ فالبدن ليس له شهية إلى أن يأكل , والعرق يتصبب , والحرارة ترتفع , والوجه يتغير , ويشعر الإنسان بشيء من الإرهاق والتعب العام والخمول والضعف ونبضات القلب تتسارع والنشاط العام يحصل فيه شيء من الفتور , كل لك بمقاومة هذا العدو الصائل وأنت لا تدري شيئا عن ذلك كله , فالله عزوجل هو الذي قدر هذا الشيء وقضاه وصنعه وخلقه وبرئه وتبارك الله أحسن الخالقين , وقد أحسن من قال:
يا مدرك الأبصار والأبصار لا ** تدري له ولكنه إدراكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني ** في كل شيء أستبين علاكا
وقفة تأمل في الأفلاك:(1/42)
هذه النجوم التي نشاهدها ليلا , يقول أهل الفلك أنها تبتعد في كل ثانية بسرعة فائقة عن مكانها وتتحرك حركة مدهشة سريعة طبقا لنظام محدد وقواعد محكمة , بحيث إنها مع هذه السرعة والانتقال العجيب لا تصطدم مع بعضها , ولا يحصل اختلال في سرعتها , فهي تسرع سرعة منضبطة محددة لا تزيد ولا تنقص.
وهذه الأرض التي نعيش عليها فيها من العجائب والغرائب التي أودعها الله عزوجل فيها شيئا يبعث إلى العجب , فهي تتحرك حول الشمس بحركة منضبطة تمام الانضباط , ولا يمكن أن يحدث أدنى تغيير في سرعتها في هذه الحركة عندما تدور حول الشمس حتى بعد مرور مئات السنين , فإنها تبقى بهذه الحركة لا تزيد ولا تنقص , ولا تضطرب ولا تختل.
وهذا القمر الذي نشاهده ليلا , فهو يتبع حركة الأرض ويدور في فلك مقرب منضبط , مع تفاوت يسير جدا , ويتكرر ذلك بعد كل ثمانية عشر عاما ونصف العام بدقة فائقة , وتلك هي حال جميع الأجرام السماوية.
ويقول أهل الفلك بأن مجرات النجوم يتداخل بعضها في بعض , فتدخل مجرة في مجرة , والمجرة الواحدة يقولون إنها تشتمل على البلايين من السيارات المتحركة فتتداخل مع مجرة أخرى تحمل مثل ذلك أو قريبا من هذا العدد الهائل , وتتحرك سياراتها مع الأخرى , ثم تخرج منها بعد هذا التداخل بسياراتها جميعا , دون أن يحدث أي تصادم بين سيارات المجرتين , فهذا كله يجري بدقة عجيبة من غير اضطراب ولا اختلال ولا تفاوت في هذا الخلق العجيب الذي أبدعه الله تبارك وتعالى.(1/43)
وقشرة هذه الأرض التي نعيش عليها , يقول العلماء بأن هذه القشرة لو كانت أكثر سمكا بمقدار عشرة أقدام من سمكها الحالي لما وجد الأكسجين , وبدون الأكسجين كما هو معلوم تستحيل الحياة حياة ذوات الأرواح , ولو كان الغلاف الهوائي ألطف مما هو عليه الآن يقولون لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الأرض الخارجي , ولرأيناها مضيئة في الليل , ولسقطت على كل بقعة في الأرض وأحرقتها , فهذه النيازك التي تنهال على هذا الكوكب ثم هي تتلاشى في هذا الفضاء يقولون إنها تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلا في الثانية , ونتيجة لهذه السرعة العظيمة , فلو كان هذا الغلاف أضعف مما هو عليه الآن , لخرقت كل شيء يمكن اختراقه على الأرض , حتى تصبح الأرض خضرا بعد عين , وعجائب الله عزوجل لا يمكن عدها وحصرها.(1/44)
وهذا رجل من علماء الغرب قد تخصص في هذه العلوم الفلكية حصل له موقف عجيب مع أحد علماء المسلمين الذين لهم اشتغال بالعلوم الطبيعية والرياضية , يقول هذا العالم المسلم وهو من علماء الهند وهو ( عناية الله المشرقي ) يقول كان في يوم الأحد من أيام سنة تسعة وتسعمائة بعد الألف , يعني من تاريخ النصارى , يقول كانت السماء تمطر بغزارة وخرجت من بيتي لقضاء حاجة ما , فإذا بي أرى الفلكي المشهور ( السير جمس جنس ) الأستاذ بجامعة كيمبوردج , ذاهبا إلى الكنيسة والإنجيل والشمسية تحت إبطه , فدنوت منه وسلمت عليه فلم يرد علي , فسلمت عليه مرة أخرى , فسألني ماذا تريد مني ؟ فقلت له أمرين: الأول أن شمسيتك تحت إبطك رغم شدة المطر , فابتسم وفتح شمسيته على الفور , يقول فقلت له وأما الأمر الآخر: ما الذي يدفع رجلا ذائع الصيت في العالم أن يتوجه إلى الكنسية ؟ وأما هذا السؤال توقف لحظة ثم قال عليك أن تأخذ شاي المساء عندي , يقول وعندما وصلت إلى داره في المساء في تمام الساعة الرابعة بالضبط , وجدته ينتظرني وعندما دخلت عليه في غرفته , وجدت عليه منضدة صغيرة موضوع عليها أدوات الشاي , وكان البروفيسور منهمكا في أفكاره , وعندما شعر بوجودي سألني ماذا كان سؤالك؟ ودون أن ينتظر الرد بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية ونظامها المدهش وأبعادها وفواصلها اللامتناهية وطرقها ومداراتها وجاذبيتها حتى أنني شعرت بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله , وأما هو فوجدت شعر رأسه قائما والدموع تنهمر من عينيه ويداه ترتعدان من خشية الله , وتوقف فجأة ثم بدأ يقول يا عناية الله عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي , وعندما أركع أمام الله وأقول له إنك لعظيم أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء وأشعر بسكون وسعادة عظيمين ( هذا كافر!! ) يقول وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة! , أفهمت يا عناية الله لماذا أذهب(1/45)
إلى الكنيسة! يقول عناية الله فأحدثت هذه المحاضرة طوفانا في عقلي , وقلت له لقد تأثرت جدا من التفاصيل العلمية التي رويتها لي , وتذكرت في هذه المناسبة آية من آي كتابي ( يعني القرآن ) فلو سمحت لي قرأتها عليك , فهز رأسه قائلا بكل سرور اقرأ , فقرأت عليه الآية التالية: (وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فصرخ هذا الرجل وقال ماذا قلت! إنما يخشى الله من عباده العلماء , مدهش وغريب وعجيب جدا إن الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة , من أنبأ محمدا به ؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة , لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أن القرآن كتابا موحى من عند الله , ( طبعا نحن نعرف أن القرآن هو كتاب موحى من عند الله ولسنا بحاجة إلى شهادته ولسنا بشك من كتابنا , ثم إن هذه الآية: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) إنما هي في علماء الشريعة وليس في علماء الطبيعة , لكن على كل حال هؤلاء قد تقودهم علومهم إلى معرفة الله عزوجل أحيانا كما في مثل هذا الموقف , وقد تقودهم علومهم إلى مزيد من الإلحاد كما هو الغالب ) ثم يقول هذا الرجل لقد كان محمدا أميا ولا يمكنه أن يكشف بهذا السر عن نفسه ولكن الله أخبره بهذا السر , مدهش وغريب وعجيب جدا!.(1/46)
وهذا طبيب اشترك مع بعض الأطباء في تصنيع قلب اصطناعي , بهره عجيب صنع الله عزوجل في خلق الإنسان فما وسعه إلا أن يقول إن جسمنا هو الكمال ذاته وهو غاية ما تصل إليه التقنية , ومهما يكن نوع الآلة التي يمكن أن تصنع ومهما بلغت من التعقيد والكمال فإننا نجد في تركيب جسمنا ما هو أفضل منها , ونظرة واحدة نلقيها على تكون الطفل في رحم أمه تقنعنا بأعجوبة المراحل التي يمر بها , كما تقنعنا بأنه لا بد من هذه الصنعة المركبة العجيبة من صانع ماهر , وكلما تعمق الإنسان في تشريح جسمه وأدرك دقائقه ازداد إيمانا بوجود الخالق , يقول إن عملية الأكل والبلع والهضم وتحويل الطعام إلى دم وسكر وأحماض والاحتفاظ بالنافع منه وطرح الفضلات كل أولئك يدعو بلسان الواقع إلى الإقرار بوجود الخالق , فهذا رجل ليس من المسلمين بهره دقة صنع الله تبارك وتعالى فيك أيها الإنسان فما وسعه إلا أن يقر بهذا الإقرار , وصدق الله عزوجل حيث يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فالله تبارك وتعالى يذكر بعجيب خلقه ,(1/47)
سواء كان ذلك في خلق الإنسان أم الأفلاك أم في خلق الحيوان , والله تبارك وتعالى يقول: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) ويقول الله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(1/48)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) والله تبارك وتعالى يذكرنا ويأمرنا بأن ننظر ونتبصر فيما حولنا من المخلوقات التي نعايشها التي توجد في بيئتنا الله جل وعلا يقول: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ).
وقفة تأمل مع خلق الجمل:(1/49)
وهذه المخلوقات التي ذكرها الله تعالى , لو تأملنا واحدا منها فقط عن هذا الجمل الذي أمرنا أن ننظر كيف خلق فإننا نجد هذا الجمل في هيئته الظاهرة قد ركب تركيبا عجيبا , فهو ينقل الناس في الصحراء , فجعل الله عزوجل له من الآلات ومن الخلق ما يتناسب مع هذه البيئة ومع هذا الأمر الذي خلقه من أجله ,فلما كان البعير يقطع المسافات كما قال الله عزوجل حينما ذكر أحكام الفيء : (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) في سورة الحشر , ومعلوم أن الإيجاف بالركاب أي الإسراع بالركاب أي بالإبل يستخدم في المسافات الطويلة البعيدة , وأما الخيل فإنها تستعمل لغارة على العدو , فالله عزوجل يقول : (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) لم تغيروا فيه على عدو ولم تسيروا عليه وتقطعوا شقة بعيدة على الإبل التي يسافر عليها , ولما كان انكسار المسلمين في وقعة أحد , أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يتتبع المشركين وأن ينظر إليهم , ووجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر يعرف به قصدهم , فذكر لهم إنهم إن جنبوا الخيل فهم يريدون مكة , يعني إن ركبوا على الإبل فهم يريدون مكة لأن الإبل تستعمل للسفر , وإن ركبوا الخيل فهم يريدون المدينة.
فالحاصل أن هذا الجمل ركبه الله تركيبا عجيبا , فجعل في عينيه في الجفن الأعلى وفي الجفن الأسفل جعل فيه من الشعر الكثيف بحيث أنه يمنع وصول الرمال إلى عينيه , وجعل الله عزوجل في أذنه شعرا كثيفا , بحيث أنه يمنع دخول الرمال إلى داخل الأذن , كما جعل له الله عزوجل شفة مشقوقة , وذلك أن الجمل حينما يسير في وقت الحر وفي وقت الريح , فإنه يستطيع أن يسد أنفه بهذه الشفة المشقوقة , فهو يتفادى بذلك آثار الريح من دخول الأتربة بأنفه , ويتفادى أيضا بذلك آثار دخول الريح من تسبيب العطش له.(1/50)
وجعل الله عزوجل لهذا الجمل جعل لها سناما , وبعض الجمال تكون من ذوات السنامين , فهذا السنام يكون كالمخزن للغذاء , فيجتمع فيه الدهن والودك فيستطيع الجمل أن يبقى مدة طويلة ولا يأكل ولا يشرب , يستطيع الجمل أن يجلس خمسة عشر يوما لا يشرب , وأيضا فقد جعل الله عزوجل لهذا الجمل قوائم طويلة بحيث أنه يستطيع أن يسرع وأن يقطع المسافات وليكون ذلك متناسبا مع جسمه , فهو مع ضخامته إلا أنه يتحرك بكل خفة , ومعلوم أن الرجل إذا طالت كان ذلك أسرع في المشي , وأنت تشاهد ذلك حينما يمشي الإنسان الكبير مع الطفل الصغير , وكلاهما يمشي على سجيته , وتجد أن هذا الطفل الصغير يبطئ في المشي عن الكبير , وذلك لأن الرجل الطويلة تقطع من المسافة في الخطوة الواحدة أكثر مما تقطعه الرجل الصغيرة , فجعل الله عزوجل قوائم هذا الجمل جعلها طويلة , وجعل في أسفلها هذا الخف الذي هو لين الملمس من أسفله , وذلك في هيئة مفلطحة عريضة بحيث أنه يستطيع أن يطأ على الرمال دون أن يغوص فيها مع ضخامة بدنه ومع ثقل وزنه.
فلماذا ركّبه الله عزوجل هذا التركيب وصنعه بهذه الطريقة العجيبة البديعة , كل ذلك عن علم وحكمة فتبارك الله أحسن الخالقين.(1/51)
وأما إذا نظرنا في الأحوال الداخلية في هذا الجمل فإننا نجد عجبا قد حير العلماء , ففي جسم الجمل تركيبات لم يصل العلماء إلى سرها حتى الآن , لكنهم عرفوا بعض عملها وبعض أثرها , وهذه التركيبات تعمل على خفض درجة حرارة الجمل , فكلما اشتد الحرارة وارتفعت درجة الحرارة برد داخل الجمل , فلا يعرق ولا يبول فيفقد الماء , كما يتجنب الجمل فقدان الماء عن طريق التنفس بالمحافظة على كمية بخار الماء الموجود بهواء الزفير بفضل الأغشية المخاطية الأنفية والمتصفة بقابليتها لامتصاص الماء الذي يكون في هذا الهواء الخارج من جوف الجمل في عملية التنفس , فهو لا يخسر شيئا من السوائل البتة , حيث إن هذا الهواء حينما يخرج من جوفه فإن الله عزوجل قد ركب في هذا الجمل أشياء تمتص الرطوبة التي تكون في هذا الهواء , فهو لا يتعب مع التنفس ولا يعطش في عملية التنفس الطبيعية.
ويستطيع الجمل أن يفقد قريبا من ثلث السوائل التي في جسده , أو يستطيع أن يفقد من السوائل مقدار ثلث الوزن الذي يزنه هذا الجمل , ومن يستطيع ذلك سوى الجمل , فإذا كان وزن الجمل مثلا ثلاثمائة كيلو فإنه يستطيع أن يفقد من السوائل ما مقدار مائة كيلوا من غير أن يتضرر , ويستطيع أن يعوض هذه السوائل في مدة عشر دقائق , فهو يستطيع أن يشرب في هذه المدة مائة لتر من الماء , ثم هو أيضا يحتاج إلى ساعتين لتصل هذه السوائل إلى جميع أجزاء الجسد وخلاياه.(1/52)
وأما هذا الوبر الذي يتوهم الإنسان لأول وهلة أنه لربما كان سببا لعنائه في وقت الحر , وأنه سببا لتكالب الحرارة على جسم الجمل وبالتالي زيادة العرق , فإن ذلك على خلاف ما نتوهمه , فهذا الوبر له دور كبير في الموازنة بين حرارة الجسم وبين حرارة الجسد , فهو يجعل جسد الجمل على حد من الحرارة بحيث إنه لا يحتاج إلى فقد مزيد من السوائل عبر الغدد العرقية الموجودة على سطح جلده , وكلما ازدادت كثافة الوبر على جسم الجمل كانت عملية العزل أكبر وأعلى.
أما كيف يحول الجمل الغذاء المدخر إلى دهون ثم يرفعها من أمعائه إلى سنامه ليكون مخزنا له , فهذا شيئا حير العلماء ولا يعرفون له جوابا إلى هذه الساعة!.
فوجود هذا الخلق العظيم المحيط بنا من كل ناحية , دليل أكيد على قدرة الله تبارك وتعالى وعلى عظمته وعلى كماله , والإنسان في كثير من الأحيان يبقى عاجزا منكسرا أمام هذا الخلق فيبهره ولا يستطيع أن يتعرف على كثير مما يحيط به فضلا على أن يصل إلى الإحاطة به من كل جانب , أو إلى الإحاطة في المخلوقات البعيدة عنه التي لا يشاهدها.
وقفة تأمل في التربة:(1/53)
فالتربة التي يقف عليها الإنسان فيها من المخلوقات العجيبة الدقيقة التي لا يراها الإنسان الشيء الكثير , حيث أن بعض العلماء يقولون إن ما يقرب من عشرين بالمائة مما في هذه التربة إنما هي مخلوقات وكائنات دقيقة حية , لا نشاهدها وهي تتحرك وتعيش! , ويخبرني بعض الإخوان أنه نظر إلى بعض الكائنات الدقيقة في مكبر , فيقول فرأيت عجبا , يقول رأيت أشياء لها خراطيم , ورأيت أشياء مما لا نشاهده في العين المجردة , يقول رأيتها تتحرك وتمشي وقد خلقها الله عزوجل على خلق عجيب , فهي عندما كبرت في هذا المكبر , صارت في هيئة مرعبة , فيقول لو أن الإنسان يشاهد هذه الأشياء على وسادته وفي فراشه ولربما في الإناء الذي يأكل منه لعافت نفسه هذا الطعام , ولم يستطع أن ينام على هذا الفراش مع أنه مليء من هذه الكائنات الدقيقة , وأنتم تعرفون أن الأطباء يقولون إن هذه الفرض هي بحاجة إلى أن توضع في الشمس بين حين وآخر ليطرد ذلك عنها هذه المخلوقات الدقيقة التي يعج بها هذا الفراش , ولربما رأيتم في الصحف صور بعض الكائنات الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة حينما تكبر , ويقولون أنها تكون مع الغبار أو أنها من مسببات الربو , فهذه الأشياء يعج بها هذا الكون , ونحن لا نشاهدها ولا نراها , فأقول هذا كله يدل على عظمة الخالق تبارك وتعالى.
ما يؤثره هذا الاسم الكريم في المؤمن:
والله عزوجل أخبرنا في كتابه أنه هو الخالق وحده لا شريك له , وأن كل ما سواه فهو مخلوق مربوب عاجز وضعيف , فليس في هذا الكون سوى خالق واحد , يقول الله عزوجل: (قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) , ويقول سبحانه : (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ) , فالله عزوجل هو الخالق وحده وكل ما سواه فهو محدث كائن بعد أن لم يكن , مخلوق مربوب لربه وخالقه جلت قدرته وتعالى شانه.(1/54)
فأنت أيها الإنسان الضعيف مسبوق بالعدم , كنت بعد أن لم تكن , والله عزوجل يقول: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) , فينبغي للعبد أن يستحضر هذا المعنى , وأن يعظم الرب الخالق البارئ التعظيم اللائق بجلاله وعظمته , وأن لا يترفع الإنسان ويغتر ويتعالى عن عبادة الله تبارك وتعالى , ثم أيضا إذا عرف العبد أن ربه هو الخالق البارئ , ينبغي أن يثبت أن الله عزوجل لا يزال يتصف بهذه الصفة , فالله يخلق خلقا بعد خلق , فلا زال ربنا تبارك وتعالى يكون ويخلق ويوجد خلقا جديدا , والله عزوجل يقول: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) ويقول: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) ومعلوم أن التعبير بالفعل المضارع , أن الفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار , وإذا كان الله عزوجل يخلق ما يشاء فمعنى ذلك أنه يوجد خلقا لم يكن موجودا , فلا يزال الله تعالى كذلك.
ثم إن الله تبارك وتعالى لم يستفد اسم الخالق أو البارئ بعد أن خلق الخلق , ولم يستفد هذا الاسم بعد أن براهم , كما أنه لم يستفد اسم البديع بعد أن أبدع الكائنات , فالله عزوجل موصوف بجميع أوصاف الكمال قبل أن يخلق الخلق , فله الكمال المطلق , ولم يكن تبارك وتعالى معطلا عن أوصاف الكمالات في وقت من الأوقات , والله عزوجل يقول: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) , فالذي يخلق يكون كاملا , والله عزوجل له الكمال المطلق منذ الأزل , فالله تبارك وتعالى هو الخالق قبل أن يخلق الخلق.(1/55)
ثم إن الله تبارك وتعالى إذا كان هو الخالق , فإن معنى ذلك أنه خلق كل شيء ومن ذلك أنه خلق هذا الإنسان وخلق أيضا عمل الإنسان , كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله يصنع كل صانع وصنعته ) يقول الإمام البخاري معلقا عليه: فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة.
وإذا عرف العبد هذه الحقيقة , فإنه لا يقول كما يقول بعض أهل البدع والضلال بأن أحدا في هذا الكون لربما يخلق , أو أن العبد يخلق أفعاله , فالله خلقنا وخلق أفعالنا , كما قال عزوجل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) .
ثم إذا كان الله عزوجل هو الخلق , وكان ما سوى الله عزوجل هو المخلوق المربوب , فإن هذا يقتضي أن يعبد وحده لا شريك له , وأن يوحد دون أن يجعل له شريك من هؤلاء العاجزين المربوبين المخلوقين , كيف يجعل لله الخالق تبارك وتعالى شريكا من خلقه ؟ , والله عزوجل يقول : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فهم ذاهبون عن الحق حيث جعلوا له من هؤلاء المخلوقين المربوبين شركاء , وقد أثبت الله عزوجل عجزهم وضعفهم عن خلق أضعف الأشياء فقال الله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ).(1/56)
وقد زعم بعض الملاحدة أنه يخلق , وحينما طولب بإثبات ذلك , أخذ قطعة من اللحم فشرحها , ثم جعل بين هذه التقاطيع والشرائح من اللحم , جعل بينها روثا , ثم جعل ذلك جميعا في علبة أو في كوز ثم أغلقه وأحكم إغلاقه , ثم أخذه بعد ثلاثة أيام وفتحه فإذا هو يعج بالدود , فزعم أنه هو الذي خلق ذلك , فقال له بعض من حضر على البديهة , هب أنك خلقته فكم عدد هذا الدود؟ فلم يدري ولم يستطع الإجابة , ثم سأله سؤالا آخر فقال كم منه الذكور والإناث ؟ وهل تقوم أنت برزقه , فلم يستطع أن يجيب بشيء.
فالله عزوجل هو الذي خلق جميع الخلق وأحصاهم عددا ,وهو الذي يقوم برزقهم تبارك وتعالى , كما قال جل وعلا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ).
ثم أيضا إذا عرف العبد أن ربه هو الخالق , فينبغي أن يتفكر في معنى عظيم , وهو أن هذا الخلق الذي أوجده الله عزوجل أنه لم يكن عبثا , وأن الله سبحانه لم يرد به لعبا أو لهوا تعالى ربنا وتقدس عن ذلك علوا كبيرا , كما قال الله عزوجل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) فالله ينكر عليهم هذا الظن الفاسد أنه خلقهم جل وعلا لا إلى حكمة وإنما خلقهم عبثا من غير قصد عظيم وحكمة كبرى , وقد أبان الله عزوجل هذه الحكمة العظيمة في الخلق فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ) فمن تفكر في هذا المعنى هداه بإذن الله عزوجل إلى سلوك الطريق الذي ينبغي أن يسلكه , وهو المعنى الذي خلقه الله عزوجل لأجله , وهو العبودية لله جل جلاله.(1/57)
أما الذي يشاهد هذه المخلوقات وهذه الأفلاك دون أن يوصله هذا النظر إلى هذا المعنى , فهذا نظر لا خير فيه ولا يورثه نفعا وإنما يكون حجة عليه.
7- الحكيم:
أصل هذه المادة في كلام العرب(حكم) أصلها يدور على معنى واحد في جميع استعمالاتها وهذا المعنى الواحد هو: المنع.
فإذا رأيت هذه اللفظة مهما تصرفت ومهما تقلبت على أنحاء شتى من معاني العرب فإنها تدور على هذا المعنى (المنع).
الحكيم هو الذي امتنع بما تحلى به من العلم , والقدرة على وضع الأشياء في مواقعها , وامتنع أن يدخل رأيه خطأ أو أن يدخل تصرفه زلل.
فهذا هو الحكيم الذي يبدي الكلام والرأي والفعل عن علم فيوقع ذلك في أحسن موقع.
الحاكم:هو الذي يمنع أحد الخصمين على التعدي على حق الآخر.
الحَكَمَة: هي الحديدة التي توضع في فم الدابة فتمنعها من الانفلات.
الحِكْمة: هي صفة راسخة , توجب لمن اتصف بها صوابا في الرأي وسدادا في العمل , وهي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.
الحُكم: قيل له ذلك لأنه يمنع أحد الخصمين من التسلط على حق الآخر وهكذا..
الحاصل أن الحكيم على وزن فعيل , ومعلوم أن فعيل في كلام العرب يأتي بمعنى فاعل ويأتي بمعنى مُفعل , فإذا كان بمعنى فاعل فالحكيم بمعنى: الحاكم , وإذا كان بمعنى مُفعل فهو بمعنى: المحُكم يعني الذي يحكم الأشياء ويتقنها.
سمى الله عزوجل به نفسه بهذا الاسم ( الحكيم ) , وقد ورد في كتاب الله عزوجل في أكثر من 90 موضعا , وغالبا ما يرد هذا الاسم مقترنا باسم الله العليم , وكذا العزيز , وذلك يخبر عن معنى وهو أن حكمة الله عزوجل صادرة عن علم , وصادرة عن عزة.
فمن اقترانه باسم الله العليم قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
ومن اقترانه باسم الله العزيز قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).
ومن اقترانه باسم الله الخبير قوله تعالى: (الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ).(1/58)
ومن اقترانه باسم الله التواب قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ).
ومن اقترانه باسم الله العلي قوله تعالى: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )
ومن اقترانه باسم الله الواسع قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ).
الحاصل أن اقتران اسم الله عزوجل الحكيم بأسماء أخرى له دلالة وله معنى , وذلك أن حكمة الله صادرة عن علم هذا عندما يقترن بالعليم , وحينما يقترن بالخبير مثلا فهذا يدل على أن حكمة الله عزوجل صادرة عن خبرة وهي معرفة بواطن الأشياء وهذه الخبرة , وحينما يقترن باسم الله عزوجل التواب فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى حينما يوفق بعض العباد للتوبة فإنما ذلك عن علم وحكمة , وهكذا في سائر المواضع.
التلازم بين الحكم واسم الله الحكيم :
وقد قال بعض أهل العلم في هذا المعنى كلاما حسنا وهو قوله وقد تضمن هذا الاسم يعني الحكم جميع الصفات العلى والأسماء الحسنى إذ لا يكون حكما إلا سميعا بصيرا عالما خبير إلى غير ذلك.
فهو سبحانه الحكم بين العباد في الدنيا والآخرة في الظاهر والباطن وفيما شرع من شرعه وحكم من حكمه وفي كل القضايا التي قضاها على خلقه قولا وفعلا , وليس ذلك لغير الله تعالى , ولذلك قال: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) وقال: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) , فلم يزل حكيما قبل أن يحكم , ولا ينبغي ذلك لغيره.
الحَكم والحكام , أيهما أبلغ ؟؟(1/59)
الله عزوجل سمى نفسه بالحكم , والذي يظهر والله أعلم , أن الحَكم أبلغ من الحاكم والعلم عند الله عزوجل أنه لا يستحق التسمية بالحَكم إلا من كان حاكما مقسطا عادلا على قول طائفة من العلماء , فيرون أن الحَكم من صفات التعظيم والمدح , وأما الحاكم فهي جارية على الفعل بحيث إن ذلك يقال لكل من حَكم فيقال له حاكم , أما الحَكم فذلك يقال لمن صار ذلك صفة له مع قسط وعدل , وقال بعض أهل العلم أيضا أنه لا يقال الحَكم إلا من تخصص في ذلك , يعني من حكم مرة قيل له حاكما , وأما من تخصص في الحكم فإنه يقال له حَكما كما قال الله عزوجل: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ).
ومما يدل والله أعلم على أن الحَكم أبلغ من الحاكم , أنه لا يصح للإنسان أن يكني نفسه بأبي الحكم كما دل عليه حديث هاني بن يزيد رضي الله عنه بإسناد صحيح , وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حينما وفد قومه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعهم النبي يدعونه بأبي الحكم , فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن علة ذلك , فأخبره أن قومه كانوا إذا اختصموا وتشاجروا جاءوا إليه فحكم بينهم فرضوا بحكمه , فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة ولكن بين أمرا آخر فقال: إن الله هو الحَكم وإليه الحُكم , ثم سأله عن أولاده فذكر له عددا من الأولاد فقال من أكبرهم فذكر له شريحا , فقال أنت أبو شريح , فغير النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكنية.(1/60)
فبعض العلماء أخذ من هذا أنه لا يجوز التكني بأبي الحكم , وقالوا إن ذلك من الأسماء المختصة بالله عزوجل , وبعضهم توسط في هذا الباب ولعله أقرب , وهو أن الإنسان إذا تسمى بذلك أو تكنى به مراعاة للمعنى فذلك لا يجوز , يعني إذا قيل له ذلك بناءا على صفة فيه وهو أن يحكم بين الناس حكما عادلا أو يرتضونه فكني بذلك أو لقب به فذلك لا يجوز لأن فيه مضاهاة لاسم الله عزوجل فالله هو الحكم وإليه الحكم , وأما من سمي به بمجرد التسمية فإن ذلك لا إشكال فيه والله تعالى أعلم , وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن علة ذلك ولم يغيره ابتداءا.
جمع ابن القيم رحمه الله هذه المعاني في الحَكم والحكيم وذكر ذلك في نونيته ونظمه في بعض الأبيات فقال:
وهو الحكيم وذاك من أوصافه ** نوعان أيضا ما هما عدمان
حكم وإحكام فكل منهما ** نوعان أيضا ثابت البرهان
يعني أن الحكيم يتضمن الحكم , ويتضمن أيضا الإحكام , وحكم الله عزوجل نوعان كما قال ابن القيم رحمه الله فذكر أولا أنواع الحكم فقال:
والحكم شرعي وكوني ولا ** يتلازمان وما هما سيان
يعني أن أحكام الله عزوجل على قسمين:
أحكام شرعية: وهي الشرائع التي شرعها , الحلال والحرام , فهذه أحكامه في غاية الإتقان , وليس فيها خلل بوجه من الوجوه , وهي أحكام صحيحة لا غلط فيها ولا تضارب ولا تناقض , وهي مبنية على حكم عظيمة وعلى غايات سديدة , فالله عزوجل عندما يأمر وينهى إنما ذلك لحكمة كبرى.(1/61)
أحكام كونية: وهي أحكامه الكونية القدرية , (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) , فهذه أحكام الله الكونية حيث أن الله عزوجل يدبر أمور هذا الكون جميعا بقوله كن , وأحكام الله الكونية أيضا هي في غاية الإتقان , وليس فيها خلل بوجه من الوجوه , وما أراده الله عزوجل كان وما لم يرده لم يكن , مهما حاول الناس منعه أو إيجاده , فالله عزوجل هو الذي يدبر ويقدر المقادير لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه , جلت قدرته وتعالت أسماءه وصفاته , فهو يتصرف بهذا الكون بمقتضى الحكمة , فإذا أمرض أحدا فإن ذلك لحكمة يعلمها , وإذا أفقر أقواما وأغنى أخرين فذلك لحكمة يعلمها.
معنى قول ابن القيم رحمه الله ( لا يتلازمان ) أي لا تلازم بينهما , يعني مثلا الله حينما يأمر بالصلاة , قد يوجد أناس لا يصلون , فوجد بحقهم الحكم الشرعي , ولم يوجد الحكم الكوني , وهو فعل الصلاة من قبل المؤمن , فالمؤمن اجتمع فيه الحكم الكوني والحكم الشرعي , فالله أمر الصلاة تعلق به الحكم الشرعي , صلى تعلق به الحكم الكوني , وأما الكافر فإنه وجد فيه الحكم الشرعي وهو الأمر بالصلاة تعلق به لأنه مكلف , ولا يوجد في حقه الحكم الكوني لأنه لو وجد لصلى هذا الكافر.
وهكذا الأمر بالإيمان , أبو بكر رضي الله عنه حينما آمن , وجد فيه الحكم الكوني لأن إيمانه لم يقع إلا بإرادة الله عزوجل الكونية , ووجد فيه الحكم الشرعي حيث أنه امتثل أمر الله تبارك وتعالى , وأما أبو جهل مثلا فإنه وجد فيه الحكم الشرعي , وهو أنه مخاطب بالإيمان , ولو يوجد فيه الحكم الكوني حيث أنه لم يؤمن , لو أن الله قدر إيمانه لآمن , ولكنه وجد فيه حكم كوني آخر وهو أن الله كتب عليه الخزي والصغار والضلال فكفره فإنما هو بإرادة الله الكونية.(1/62)
فلا تلازم بين هذه الإرادات , فقد توجد الإرادة الكونية ولا توجد الإرادة الشرعية , فالكافر حينما يكفر هنا هذه ليس إرادة لله شرعية وإنما إرادة كونية , وحينما يتعلق بالكافر الأمر بالإيمان ثم لا يؤمن تكون قد وجدت فيه الإرادة الشرعية دون الكونية وهي وقوع الإيمان فعلا منه , والمؤمن الذي يؤمن بالله عزوجل يكون قد وجد فيه مقتضى الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.
ثم قال ابن القيم رحمه الله:
بل ذاك يوجد دون هذا مفردا ** والعكس أيضا ثم يجتمعان
أي يجتمعان بالصورة التي ذكرت وهي إيمان المؤمن.
لن يخلو المربوب من إحداهما ** أو منهما بل ليس ينتفيان
ثم بعد ذلك بدأ يفرق بين هذه الإرادة وهذه الإرادة , وأن الأحكام الشرعية هي التي يحبها الله , وأن الأحكام الكونية لا تستلزم محبة الله لهذا الأمر.
ثم قال:
والحكمة العليا على نوعين ** أيضا حصلا بقواطع البرهان
إحداهما في خلقه سبحانه ** نوعان أيضا ليس يفترقان
إحكام هذا الخلق إذ إيجاده ** في غاية الإحكام والإتقان
وصدوره من أجل غايات له ** وله عليها حمد كل لسان
والحكمة الأخرى فحكمة شرعه ** أيضا وفيها ذانك الوصفان
غاياتها اللاتي حمدن وكونها ** في غاية الإتقان والإحسان(1/63)
فإذا علم العبد أن عبده تبارك وتعالى حكيم في شرعه فإنه يستسلم لهذا الشرع ولأمر الله عزوجل , فلا يعترض ولا يتردد في قبول أحكامه وفي التحاكم إلى دينه وشرعه , ثم أنه يرفض بعد ذلك كل شرع يخالف شرع الله عزوجل حكما وتحاكما , ويؤمن إيمانا جازما أن من شرع دينا ونظاما لم يأذن به الله تعالى وادعى أنه أصلح لحياة الناس ومعاشهم , أو ساواه بشرع الله , أو جوز الحكم به , فإنه قد أشرك بالله عزوجل , ومن أطاعه في ذلك على علم فقد أشرك بالله أيضا , ذلك في أن في ذلك الصنيع كفرا بأسماء الله عزوجل وصفاته ومنها اسمه الحكيم , فوق ما فيه من كفر لتوحيد الألوهية وتوحيد الطاعة والإتباع , والله عزوجل يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) , ويقول تبارك وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) , ويقول سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) , فهذه الآيات تقرر أن كل من تحاكم لغير شرع الله عزوجل فهو مشرك به تبارك وتعالى.(1/64)
يقول العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في التعليق على قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) يقول: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك فيه , جاء مبينا في آيات أخر , كقوله تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) , وقوله تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ.. ) الآية , وقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ..) الآية , وقوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) , وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) , وقوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) , وقوله (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) , وقوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) إلى غير ذلك من الآيات , ويفهم من ذلك كقوله ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله , أنهم مشركون بالله , وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخرى كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله كما قال المشركون قال للمسلمين محتجين عليهم تقولون ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال , وما ذبحه الله بيده بسكين من ذهب فهو حرام , فأنتم إذا أحسن من الله , فالله عزوجل رد على هذه الفرية والشبهة من المشركين فقال: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ(1/65)
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) , فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم , وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) , وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً ) , وقوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً ) , أي ما يعبدون إلا شيطانا وذلك بإتباع تشريعه , ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ .. ) الآية , ومن أصلح الأدلة في هذا أن الله جل وعلى في سورة النساء أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله , يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون , وما ذلك إلا أن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب , وذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) , وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلى على لسنة رسله صلى الله عليهم وسلم , أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم. ا.هـ(1/66)
يقول ابن القيم رحمه الله في ضمن ما ذكره من الفوائد المستنبطة من هذه الآية: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) يقول: ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه , فإذا انتفى هذا الرد انتفى هذا الإيمان , ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه , ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين , فإنه من الطرفين , وكلا منهما ينتفي بانتفاء الآخر , ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم , وأن عاقبته أحسن عاقبة , ثم أخبر سبحانه أنه من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه , والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبعوع أو مطاع فهو طاغوت , يقول ابن القيم رحمه الله: فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , أو يعبدونه من دون الله , أو يتبعون على غير بصيرة من الله , أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله , فهذه طواغيت العالم , إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت , وعن التحاكم إلى الله والرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت , وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته , وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة من تبعهم , ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معا , ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم لو قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ولم يستجيبوا للداعي ورضوا بحكم غيره , ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحيكم غيره والتحاكم غيره كما قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) , اعتذروا(1/67)
بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق , أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما , كما يفعله من يروم التوفيق بينما جاء به الرسول وبينما خالفه , ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق , والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسية ورأي , فمحص الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق وبالله التوفيق , ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم من الدقيق والجليل , ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه , ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما وينقادوا إنقيادا , وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) , فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله , ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا , وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) , أي لا تقولوا حتى يقول ولا تأمروا حتى يأمر , ولا تفتوا حتى يفتي , ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه , روى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ( يعني في معنى الآية ) : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة , إلى أن قال رحمه الله ( أعني ابن القيم ) والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل , وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) , فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا(1/68)
لحبوط أعمالهم , فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه , أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم؟ , وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) , يقول ابن القيم: فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب إلا بعد استئذانه وإذنه معروف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه. انتهى كلامه رحمه الله.
فهذا هو الحكيم لأن الحكمة كما عرفنا هي العلم الصحيح مع الحكم الصحيح , فهي الصواب في القول والصواب في الرأي والصواب في العمل , فمن كان مصيبا في حكمه وفي علمه وفي كلامه فهو الحكيم.
يقول العلامة المفسر الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله: وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله , والحرام هو ما حرمه الله ,والدين هو ما شرعه الله , فكل تشريع من غيره باطل , والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه...(1/69)
إلى أن قال رحمه الله في صفة من يستحق أن يكون مشرعا يقول: اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يحكون الحكم له , فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن إن شاء الله , ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية , فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع , سبحان الله وتعالى عن ذلك , فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون ليتبع تشريعهم , يقول: وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك فليقف بهم عند حدهم , ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية , سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه , فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) ثم قال مبينا صفات من له الحكم: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه هو الرب الذي تفوض إليه الأمور , ويتوكل عليه , وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما على غير مثال سابق , وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا , وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ...) الآية , وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , وأنه له مقاليد السماوات والأرض , وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , أي يضيقه على من يشاء وهو بكل شيء عليم , فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن(1/70)
يشرع ويحلل ويحرم , ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل , ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) فقوله فيها: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ) كقوله في هذه: (فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) , ومن الآيات الدالة على ذلك: (لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض , وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات , وبصره بكل المبصرات , وأنه ليس لأحد دونه من ولي , سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا , ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) , فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد , وأن كل شيء هالك إلا وجهه , وأن الخلائق يرجعون إليه , تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته , ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) , فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير , سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك , ومن الآيات الدالة على ذلك: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ(1/71)
اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) فهل في مشرع القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة؟ , وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته وعظمة إنعامه على خلقه؟ سبحان خالق السماوات والأرض جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكه , ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون ) فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده وأن عبادته وحده هي الدين القيم. ( انتهى كلامه رحمه الله مع شيء من الاختصار ).
هذا الذي صدر عنه هذا الشرع أيضا , حكيم يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها , فيطمئن العبد كل الاطمئنان إلى هذا التشريع الذي صدر من هذا المالك المعبود جل جلاله , حيث أن شرعه تبارك وتعالى كله حكمه , وإنما وضعه لمصالح عظيمة , تقوم بها حياتهم وتقول بها آخرتهم.(1/72)
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في الكلام على هذا المعنى: فإنه تعالى شرّع الشرائع وأنزل الكتب , فهل هناك كرم أعظم من هذا؟ , فإن معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له , وإخلاص العمل له , وحمده وشكره والثناء عليه , أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق , وأجل الفضائل لمن يمن الله عليه بها , وأكمل سعادة وسرور للقلب وللأرواح , كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية , والنعيم الدائم , فلو لم يكن في شرعه وأمره إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات وأكمل اللذات ولأجلها خلقت الخليقة وحق الجزاء , وخلقت الجنة والنار , لكانت كافية شافية.(1/73)
يقول: هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير , فأخباره تملأ القلوب علما ويقينا وإيمانا وعقائد صحيحة , وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها , وتثمر كل خلق جميل وعمل صالح وهدى ورشد , وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا , فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة , ولا ينهى إلا عن ما مضرته خالصة أو راجحة , ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما أنه الغاية لصلاح القلوب والأخلاق والأعمال وللاستقامة على الصراط المستقيم , فهو الغاية لصلاح الدنيا , فلا تصلح أمور الدنيا صلاحا حقيقيا إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا مشاهد ومحسوس لكل عاقل , فإن أمة محمد لمّا كانوا قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع ما يهدي ويرشد إليه , كانت أحوالهم في غاية الاستقامة والصلاح , ولمّا انحرفوا عنه وتركوا كثيرا من هداه ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم , وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة والحضارة والمدنية مبلغا هائلا , لكن لما كانت خالية من روح الدين ورحمته وعدله كان ضررها أعظم من نفعها , وشرها أكبر من خيرها , وعجز علماؤها وحكماؤها وساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها , ولن يقدروا على ذلك ما داموا على حالهم , ولهذا كان من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه.
أقول للمهزومين من أبناء المسلمين الذين لا يرونه حقا إلا ما أحقه أصحاب العيون الزرقاء , أقول لهم اسمعوا كلام حكماء الغرب , ونحن لسنا بحاجة إلى كلامهم والحمد لله , وليس يصح بالأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل , فنحن لسنا في شك ولله الحمد من شريعة الله عزوجل ومن عدالة حكمه , لكن أقول للمفتونين من أبناء المسلمين الذين يغترون بهؤلاء ويرون أن الصواب عندهم دائما أقول اسمعوا ما يقوله حكماؤهم!:(1/74)
يقول ادوار لمبير , وكان ناظرا لمدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة سنة 1906 في تاريخ النصارى , يقول: إن في الشرعية الإسلامية كنزا لا يفنى ومنبعا لا ينضب , وأنه خير ما يلجأ إليه المصريون في الوقت الحاضر في البحوث العلمية حتى يعيدوا لمصر ولبلاد العرب هذا المجد العلمي.
ويقول آخر واسمه استيلانا في بعض مؤلفاته: إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل فيه ما يكفي الإنسانية كلها!.
ويقول ثالث اسمه هولكوم وهو استاذ للفلسفة بجامعة هالفارد : الشريعة الإسلامية تحتوي على جميع المبادئ اللازمة للنهوض.
ويقول آخر يقال له جبتون وهو من علماء التاريخ المعاصرين : وجاءت الشريعة الإسلامية عامة في أحكامها , يخضع لها أعظم ملك وأقل صعلوك , فهي شريعة حيكت بأحكم منوال شرعي , وليس لها مثيل في العالم.(1/75)
فهؤلاء كما قيل: الحق ما شهدت به الأعداء! , ولست بحاجة أن أورد هذا الكلام على مسامعكم أيها الإخوان , وأعتذر إليكم من إيراده , ولكن ماذا نقول بمن فتنوا بهؤلاء؟ , وأن من يرون بأن الميزان بين الحق والباطل ما يقرره هؤلاء وما يحقونه أو يبطلونه , فهؤلاء نقول لهم , هذا ما قاله حكماؤهم , فكيف بنا نستحي من أن نتلقى أحكام الله عزوجل , وأن نظهرها , وأن ندعو الناس إليها , وأن ننشرها في العالمين , كيف بنا نتردد في تطبيق ذلك في أنفسنا وفي أسرنا , كيف بنا أن نتحرج أحيانا أن نذكر الحكم الشرعي أمام هؤلاء الكفار , وكأننا نستحي كأن في الشريعة عارا أو نقصا نستحي أن ننتسب إليها أمام هؤلاء العمي البكم الصم الذين هانوا على الله عزوجل فأهانهم وأذلهم ولم ينعم عليهم بمعرفة هذا الحق المبين الواضح , ولم ينعم عليهم ويتفضل بهدايتهم له , فنحمد الله عزوجل حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى على أن هدانا إلى هذه الملة وهذه الشريعة بعد أن أضل عنها أكثر الخلق , ونحمده تبارك وتعالى أن علمنا من أحكامها وبصرنا فيها بأمور تشرح الصدر وتجلب السعادة وتحقق العدالة , وبها يرتفع كل سوء ومكروه عن مجتمعات المسلمين.
ذكرنا لكم قبل أن أحكام الله عزوجل على قسمين:
الأحكام الشرعية: وهي الحلال والحرام والأمر والنهي الدين والشريعة.
الأحكام الكونية والقدرية: وهي قسمان:(1/76)
القسم الأول: ما للعبد طريق إلى مدافعته , فهذا ينبغي على العبد أن يدافعه , فيدافع أقدار الله بأقدار الله عزوجل , وتوضيح ذلك : أن العبد إذا نزل به المرض فما الذي يصنع؟ هل يستسلم للقدر ؟ عليه أن يرضى ويسلم وعليه أن يصبر , ولكن عليه أن يدافع القدر بالقدر , فيبحث عن العلاج ويتداوى وهذا كله من مدافعة القدر بالقدر فهذا لا إشكال فيه , إذا جاع الإنسان هذا الجوع أليس بقدر الله عزوجل؟ فكيف يدفعه العبد؟ يدفعه العبد أن يأكل , وهذا أمر مشروع , ونحن نعرف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قصد الشام فبلغه أن الطاعون قد نزل بها , ماذا فعل؟ أراد أن يرجع بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم , فاعترض عليه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وهو أحد أمراء الأجناد , فقال: يا عمر أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله , ثم ذكر له مثالا وقال: لو عندك إبل أو غنم , وعندك أرض معشبة , وأرض أخرى قاحلة , في أي الأرضين ترعى ؟ , قال: في الأرض المعشبة , قال: أفرارا من قدر الله ؟ ألزمه هذا الإلزام , فنحن عندما نفعل هذه الأشياء فإنما نفعله من باب مدافة القدر بالقدر.(1/77)
القسم الثاني: وهو الذي لا يمكن للعبد أن يدافعه , وحكم الله عزوجل به ولم يجد العبد المخرج والخلاص من ذلك فعليه أن يستسلم لأقدار الله تبارك وتعالى , فهذا غير القسم الأول , يعني القسم الأول المسلمون مثلا اليوم في ضعف والأعداء قد تسلطوا عليهم , وأخذوا كثيرا من بلادهم , ويذبحونهم ذبح النعاج , هذا بقدر الله عزوجل , لكن هل نستسلم لهذا القدر ؟ الجواب: لا! , علينا أن دافع هذا القدر بقدر آخر , فنبحث عن أسباب القوة وأسباب الضعف لنتخلص من هذه الورطة التي نزلت بنا , فصارت أعراض المسلمات كلأً مباحا , وصارت دماؤهم هدرا , نبحث عن قدر الله عزوجل الذي نخرج به من هذه الورطة , أما القسم الآخر من القدر وهو الذي لا يمكن للعبد أن يدافعه , إذا نزل به الموت , أو مات له حبيب , أو نزل به علة , قال الأطباء لا سبيل للخلاص منها ولا يوجد علاج ولا يوجد شيء , فهنا على العبد أن يستسلم لقدر الله عزوجل وأن يتصبر ويرضى بما قسمه الله عزوجل له , غرقت تجارته , احترق متجره , وقع له حادث , ونحو ذلك , هذا كله بقدر الله عزوجل , ماذا يصنع؟ هل يلطم خده وينتف شعره ويولول على هذه المصيبة التي نزلت به ؟ الجواب: لا , عليه أن يستسلم لقدر الله عزوجل , ويرضى ويعلم أنه ما نزلت مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب , والله عزوجل يقول: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ).
فالقسم الأول من الأقدار التي يمكن مدافعتها على العبد أن يرضى ولكن هذا الرضى لا يعني المدافعة , نزل بك المرض ترضى بما قدر الله لك , وتصبر على هذا المرض , لكن تدافع هذه العلة بقدر آخر.(1/78)
وأما القسم الثاني وهو ما لا سبيل إلى مدافعته , فهنا التسليم التام الكامل , والرضى بحكم الله عزوجل , والانقياد بذلك , فلا يظهر من اللسان التسخط , ولا يظهر من جوارح العبد ما يدل على الاعتراض على حكم الله تبارك وتعالى , وإنما ينقاد لحكم ربه جل وعلا , لأنه يعلم أن ربه حكيم , وأنه كما قال صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير , إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له , وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ) .
هذه الأقدار التي يقدرها الله عزوجل إنما قدرها لحكم عظيمة قد تخفى علينا وقد يظهر بعضها وقد يظهر بعضها بعد حين , فتمنى هذا الإنسان أن هذه البنت ما طُلقت , ثم يتبين بعد ذلك أن هذا الطلاق هو عين الخيار لها , قد يتمنى هذا الإنسان أن رجله لم تنكسر , ويحزن لانكسارها ثم يعلم أن ثمة أمر آخر من الشر العظيم الذي حال دونه انكسار هذه الرجل , قد تفوت الإنسان الطائرة وهذا بقدر الله عزوجل , ثم يحزن ويولول ولربما شكى وذم أهله لأنهم لم يوقظوه ثم تسقط هذه الطائرة فيكون هذا القدر الذي وقع وهو فوات هذه الرحلة على هذا الإنسان إنما هو لخير أراده الله عزوجل له.
يقول ابن القيم عن هذا النوع الأخير من أحكام الله عزوجل الكونية التي تجري على العبد من غير اختيار له ولا طاقة له بدفعها ولا حيلة له في منازعتها يقول:(1/79)
فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة , وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل , وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة , فهنا يحسن الاستسلام والمسالمة , مع أنه عليه في هذا الحكم عبوديات أخرى سوى التسلم والمسالمة , يعني هو مع تسليمه عليه أن يشهد عزة الحاكم في حكمه وهو الله عزوجل وهو في هذا المقام وعدله في قضائه وحكمته في جريانه عليه , وأنما أصابه لم يكن ليخطئه , وما أخطئه لم يكن ليصيبه , وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة , فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد , فمن رضي فله الرضى , ومن سخط فله السخط , ويشهد أيضا أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الله الحكيم جل جلاله , وصفته الحكمة وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي أن ينزل به , وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل فهو موجب أسماءه الحسنى وصفاته العلى , فله عليه أكمل حمد وأتمه , كما أن له الحمد على جميع أفعاله وأوامره.
مما يؤثره أيضا الإيمان بأن الله عزوجل حكيم: أن يقر في قلب العبد بمعرفة الله عزوجل وذلك بأن هذه الحكمة تقتضي ثبوت أوصاف الكمالات لله تبارك وتعالى .
حينما يقال إن الله حكيم فهذا يقتضي أنه يرسل الرسل , وأيضا يقتضي أنه يجازي المحسنين على إحسانهم والمسيئين على إساءتهم , وأيضا يقتضي الثواب لأهل الإيمان , والعقاب لأهل الكفر , ويقتضي إيجاد الجنة , ويقتضي إيجاد النار.
يقول ابن القيم رحمه الله: كل هذا العلم من اسمه الحكيم , كما هي طريقة القرآن في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة , والإنكار على من يزعم أنه خلق الخلق عبثا وسدا وباطلا , فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقدر والثواب والعقاب , ولهذا كان أصح القولين أن المعاد يعلم بالعقل , وأن السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على إثباته.(1/80)
ومعنى هذا الكلام: أي أن العقل يقتضي أن المظلوم لابد له من قصاص من هذا الظالم.
قال ابن الحصار رحمه الله: وقد تضمن هذا الاسم ( يعني الحكم ) جميع الصفات العلى (تذكير: الحكم والحكيم يتفقان في أصل هذه اللفظة ) إذ لا يكون حكما إلا سميعا بصيرا عالما خبيرا إلى غير ذلك , فهو سبحانه الحكم بين العباد في الدنيا والآخرة , في الظاهر والباطن , وفيما شرع من شرعه وحكم من حكمه , وقضاياه على خلقه قولا وفعلا , وليس ذلك لغير الله تعالى وذلك قال وقوله الحق: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) وقال: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) , فلم يزل حكيما قبل أن يحكم , ولا ينبغي ذلك لغيره.
مما يؤثر فينا أيضا إذا كان الرب الذي نعبده ونتقرب إليه تعرف إلينا بأنه حكيم :
أن يعلم العبد ويتقين ويطمئن قلبه , أن هذا الرب الذي اتصف بهذه الصفة الكاملة , أنه لا يسوي بحال من الأحوال بين الأمور المختلفة المتضادة , وكذلك لا يفرق بين الأمور المتماثلة , فالذين يعملون الخير والحسنات لا يحشرهم في زمرة المجرمين , ولا يجعل مصيرهم متحدا مع مصير الظالمين , كما أن هؤلاء الظلمة من المجرمين العتاة , لا يجعل مصيرهم مصير أهل الإيمان الذين يراقبونه ويخافونه ويتقربون إليه بألوان القربات , فالله جل وعلا لا يفعل ذلك لأن هذا مخالف للحكمة , والله يقول وهو أصدق من يقول وأعدل من حكم: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ) , ينكر هذا الأمر وأنه لا يتصور ولا يفع منه بحال من الأحوال , (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) حيث إن هذا الحكم من أبطل الأحكام , وإن هذه الدعوة من الدعاوى الكاذبة المجردة عن الحقيقة , لأن من فعل ذلك فهو أبعد ما يكون عن الحكمة.(1/81)
ويقول أيضا: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) , فالله عزوجل يفرق بين حال هؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة , فالذين يكونون من جملة أوليائه يجعل لهم العاقبة في الدنيا بالنصر والتمكين , ويجعل لهم أيضا من انشراح الصدر والقبول في الأرض والسعادة التي لا يدانيها سعادة بمعرفة الله عزوجل واتساع الصدر وانشراحه بهذه المعرفة , فيوفقهم وينقلهم من هدى إلى هدى , كل ذلك لأنهم من أوليائه , وفي الآخرة يجعل منازلهم الجنة , وأما الذين يعادونه ويحاربونه , فإن الله عزوجل يجعل لهم من النكد والحسرة في الحياة الدنيا والخزي والذل ما لا يوصف وما لا يقادر قدره , ويجعل لهم في العذاب في الآخرة والنكال والجحيم مالا يخطر على بال , والله ربنا يقول: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) , ويقول عزوجل: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ) , وإذا نفى الله عزوجل المساواة في مثل هذا السياق فإن هذا يدل على نفيه من كل وجه من الوجوه , فلا مقاربة ولا استواء في حال من الأحوال , لا يستوون في الدنيا ولا يستوون في البرزخ ولا في أرض المحشر ولا في المستقر في الجنة أو في النار , بل إن الله عزوجل ينكر على من توهم أن الله يدخل الجنة أحدا من عباده من غير ابتلاء ولا امتحان , ومن غير تمييز للطيب من الخبيث , وللصادق من الكاذب , فإن حكمته تقتضي خلاف ذلك , فالله جل وعلا يقرر هذا المعنى بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) , العلم الذي يترتب عليه الحكم(1/82)
العلم الذي يترتب عليه الجزاء , فإن الله لا يحاسبنا بمقتضى علمه قبل أن يعمل العبد عمله في الخارج , ويقول جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) , ولذلك فهم المؤمنون هذا المعنى فهما جيدا صحيحا , فلما كان يوم الأحزاب واجتمع الأعداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من كل جانب وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم , تذكر أهل الإيمان هذه الحقيقة واستحضروها تمام الاستحضار : (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ) فالعبد المؤمن يتذكر هذا المعنى دائما إذا نزل به المرض , إذا نزلت به الشدائد , يتذكر وعد الله عزوجل له بالابتلاء , ويتذكر دائما ( أم حسبتم ) وأن هذه الدار هي دار ابتلاء , يتمحص فيها الطيب من الخبيث , فلا بد أن يمر عليه أمور تمحصه وتميز معدنه , فيظهر بذلك الصادق من الكاذب , ويقول الله عزوجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) فأنكر عليهم هذه الظنون الكاذبة والأوهام الزائفة .(1/83)
وأما كون الله عزوجل لا يفرق بين المتماثلين فإن الله قرر هذا المعنى تماما بمثل قوله: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ) , كما أن المجرمين يحشرون مع نظرائهم وأشباههم , وكذلك أهل الإيمان الذين يطيعون الله ويطيعون رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء يكونون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , فإن الله لا يفرق بين المتماثلات , ويقول الله عزوجل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) وبالمقابل: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) , ويقول أيضا في بيان هذا المعنى عن يوسف صلى الله عليه وسلم وما وقع له من العواقب الحميدة (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ) وليس ذلك ليوسف فحسب وإنما قال الله مبينا للحكم العام (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) , ويقول الله عزوجل للكافرين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ ) يعني الذين أهلكهم الله عزوجل , فإن هؤلاء متماثلون في الكفر , فأحكام الله جارية عليهم ولهذا قال: (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) ويبين هذا من سننه التي لا تتبدل ولا تتغير كما قال الله عزوجل: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) , فسنة الله لا تتبدل ولا تتغير , وهذا كله من مقتضيات حكمته.(1/84)
قد يسأل بعضكم فيقول: إذا قلتم بأنه ليس في أفعال الله عزوجل شر , فما معنى خلق إبليس , وما معنى وجود الكفر , وما معنى وجود الأمراض والأسقام والعلل والمصائب والكوارث التي تحل بالناس؟
فيقال: هذه الأمور إنما هي واقعة في مفعولات الله وليست في أفعاله , فأفعاله كلها خير وكلها صواب وكلها حكمة , ولا معقب لحكم الله عزوجل ولا مستدرك عليه , ففعله تبارك وتعالى كله حق وكله هدى وكله صواب وهو في غاية الحكمة , ولكن المفعولات هي التي قد يوجد فيها بعض الشر , هي التي يكون منها ما يكون منها مكروها لكثير من الناس , والفرق بين الأفعال وبين المفعولات , الفعل هو صفة الرب , والمفعول هو الشيء الموجد المخلوق , فحينما نقول الخلق صفة الله عزوجل أنه يخلق هذا فعله , وحينما نقول المخلوق هذا هو المفعول , فالخلق أي أن الله يخلق هذه أفعاله كلها خير وأحكامها كلها خير , وأما المخلوقين الموجودين الذين يوجدهم الله عزوجل , فهؤلاء قد يكون في بعض مخلوقات الله بعض الأضرار وبعض الشرور ونحو ذلك , لا في صفته التي هي الفعل والتخليق , إنما يكون ذلك في نفس المخلوق.
وهذا الشر الذي يوجد في هذه المخلوقات , إنما يوجد لحكم كبار عظيمة , يحصل فيها نفع لكثير من المخلوقين وتتبين كثر من أسماء الله عزوجل , انظروا:(1/85)
الله عزوجل خلق هذا الكون , خلق الموت وخلق الحياة , واقتضت حكمته وإرادته جلت قدرته , أن يخلق بعض المخلوقات منقادة مستسلمة لربها وخالقها , قال الله عزوجل للسماوات والأرض: (اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) , والله عزوجل عندما خلق الملائكة خلقهم خلقا منقادا (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) على ضخامة خلقهم وعظمهم ومع ذلك هم منقادون كل الانقياد , وهكذا الأشجار والأحجار , فكل ما في هذا الكون يسبح بحمد الله عزوجل ويقدس له , واقتضت حكمته أن يخلق صنفين من الخلق هما محل الابتلاء والاختبار الجن والإنس , فخلقهم وجعلهم يتناسلون بهذه الطريقة العجيبة الغريبة , لا ينقضي جيل بكامله فجأة ثم يحل محله جيل جديد يخرج إلى الساحة من الجديد , لا وإنما يكون تواجدهم وذهاب آخرين بطريقة لا تشعر أحدا بنقص في الحياة , فيولد أقوام ويموت آخرون بقدر الله عزوجل الذي قدره لهم , فإذا نظرت إلى الحياة رأيتها متسقة , تسير على وتيرة واجدة , لا تشعر فيها بخلل واضطراب أن جيل قد انصرم فجأة ثم جاء جيل فجأة بساعة واحدة أو بأقل من ذلك ! , ثم إن هذا الجيل يحتاج ليتعود على هذه الحياة من جديد ويعيش فيها , لا هؤلاء يوجدون ففي كل مرة تجد أطفال وشباب وتجد شيوخ , هؤلاء يذهبون ويأتي أناس مكانهم بطريقة عجيبة فريدة تنبئ عن حكمة الرب تبارك وتعالى في الخلق , ثم هم هؤلاء يشبون ويشيبون ويترعرعون , ويقلبهم الله عزوجل بين يديه , يقلبهم بين البأساء والضراء , يقلبهم بين الأمراض وبين الأحزان وبين الأفراح وبين الأتراح , يقلبهم بين فتن الشهوات وبين فتن الشبهات , يتقلبون بين يديه فيمحصهم تمحيصا , يتبين المؤمن المحتسب الصادق الثابت القوي في إيمانه , ويتبين الآخر المتضعضع المتردد الذي إذا أصابه خير اطمئن به , وإذا أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة , لم يتركهم سدى(1/86)
وهملا , أرسل إليهم الرسل وهم أفضل البشر وأطهر البشر نفسا وروحا وأفعالا وأعمالا , يدعونهم إلى الله ويذكرونهم من غفلتهم , ويوجد أيضا الشياطين يرسلهم إبليس فيدعونهم إلى الشر إلى الهلكة إلى الردى إلى المصائب إلى معصية الله عزوجل , تارة بالشبهة التي يعمون بها بصيرتهم , وتارة بالشهوة التي يعمون بها أبصارهم , فهؤلاء يدعونهم للخير وهؤلاء يدعونهم للشر , فوجود إبليس ووجود أعوانه من الشياطين ليس شرا محضا , فإنما بذلك يتبين المؤمن الثابت ومن ينقاد لله عزوجل لرسله عليهم الصلوات والسلام ومن يتنكب هذا الطريق وينحرف.
حينما يرسل إليهم هذه الأوجاع والأمراض والخسارات في التجارات وما شابه ذلك , إنما يكون ذلك ليتبين من هو الثابت من الذي يقول الحمدلله رضينا بما قسم الله عزوجل , ومن الذي يضجر ويسخط ويتشكى , فالله ينظر إليهم ويطلع على كل قليل وكثير في قلوبهم وأعمالهم وأقوالهم ينظر كيف يعملون : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .(1/87)
فهذه الأمور إذا تفكر فيها العبد يرى ما يحصل فيها من المصالح والخير , ولهذا يقال هذه الأشياء التي تحصل من خسارة من موت لقريب من مرض من مصيبة تنزل بالإنسان , هذه الأشياء جميعا إنما يتمحص فيها الإنسان وترفع درجاته , وقد تكون له منازل بالجنة ما يبلغه بصلاته ولا صيامه , وإنما يبلغها بهذا الأمر الذي قدره الله عزوجل له , فصبر واحتسب فيرفع , وتجد العبد لربما يحزن بسبب هذا الأمر الذي وقع له , ولو علم ما له عند الله عزوجل وماذا يريد الله به من الألطاف لفرح بهذه المصيبة , ولذلك كان بعض السلف يفرحون بالمصائب , كان معاذ رضي الله عنه عندما ظهرت في كفه بثرة الطاعون , والطاعون مرض قاتل , كان يقف على المنبر وهو يخطب أمام الناس ويقبلها أمامهم فرحا بها , أين نحن من هؤلاء! , وعبدالله بن مسعود رضي الله عنه دخل عليه بعض أصحابه فرأوا عنده غلمانا في غاية الحسن كأنهم ذهب فجعلوا ينظرون إليهم , فقال أتعجبون من حسنهم ؟ والله إني لأتمنى موتهم ! , لماذا قال هذا الكلام؟ لما يعلم ماله عند الله إذا احتسب حبيبه إذا فقده من أهل الدنيا , وكذلك عمر بن عبدالعزيز كان يقول لابنه عبدالملك ( مات ابنه وعمره 19 سنة ) كان يقول له: يا بني إني أشتهي موتك قبلي كي أحتسبك , قال والله يا أبي لا أكره ما تشتهي , هذا عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد الخامس من الخلفاء الراشدين , يقول لولده فلذة كبدة أكبر أولادة يقول له إني لأشتهي موتك قبلي ! , وسفيان الثوي يقول ما من أحد أحب إلي من سعيد ( يعني أباه ) والله إن موته أحب إلي من كذا وكذا !! , طبعا هذه قضايا قد لا تبلغها عقولنا لا نتصورها لكن هؤلاء عرفوا ما يكون للإنسان من أجر إذا نزل به من مصاب فاحتسب , فهنا الله عزوجل يرفعه رفعا في الدرجات العالية , ويحط عنه من السيئات ما الله به عليم , فيقدم على ربه تبارك وتعالى ليس عليه ذنب , كما قاله صلى الله عليه وسلم بأن الهم والحزن حتى(1/88)
الشوكة يشاكها المؤمن كل ذلك يكفر الله به من خطاياه , ثم يقدم العبد على ربه تبارك وتعالى حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة , ولا يفهم من ذلك أن أحدا يسوغ له أن يتمنى الابتلاء ولكن العبد إذا نزل به البلاء فعليه أن يصبر , فإن ارتقى مرتبة فعليه أن يرضى , فإن ارتقى مرتبة ثالثة فعليه أن يشكر الله عزوجل على هذه البلوى التي نزلت به لأن الله عزوجل ما ساقها إليه ليهلكه , وإنما ساقها إليها ليمحصه وليرفع درجته ومنزلته , وهكذا يحسن المسلم الظن بربه جل جلاله .(1/89)
وابن القيم رحمه الله له كلام مفيد نافع في هذا الموضوع حيث يقول رحمه الله في تعليل ذلك وبيان وجهه يقول : وهو الله سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده. فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه. بل يشبهه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات، ويرزقه ويعافيه، ويمكَّ له من لأسباب ما يتلذذ به من أصناف النعم، ويجيب دعاءه، ويكشف عنه السوء، ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته، فلله كم في ذلك من حكمة وحمد. ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته. كما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم ) وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ( شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك , وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك , وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد , وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ) أخرجه البخاري , وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب، ويعافيه، ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدله بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله، ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به , إلى أن قال رحمه الله: فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر فيهم أحكامها وآثارها. فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه. ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله بل يكون يحب أمانه وإمهاله ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته. ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان. فلولا خلق(1/90)
من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها , فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعم السابقة. الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات وما ذكرناه إنما هو قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه.
لا يظهر معنى العزيز إلا بأن يقهر الظالمين وأن ينزل بهم ألوان العقوبات , ولا يظهر معنى اسمه الحليم إلا إذا أمهل الظالمين المجرمين وصبر الله تبارك وتعالى على ظلمهم , ولا يظهر من معاني أسمائه الأخرى كالكريم والجواد إلا ذا أغدق النعم على خلقه , وهكذا له في كل فعل من أفعاله وقدر من أقداره له حكم بالغة.
إذا أيقن العبد أن ربع حكيم استراح قلبه , فقد تخفى عليه بعض الأمور في بعض الأقدار , وفي بعض أعمال الرب تبارك وتعالى , فيرجع إلى هذا الأصل الكبير وهو أن الله حكيم , فلا يشرع إلا لحكمه ولا يقدر إلا لحكمه , فعليه إذا أن ينشرح قلبه ولا يتردد ولا يتشكك ولا يتذمر ولا يتحير وإنما يبقى في غاية الطمأنينة والانقياد والتسليم , فالذين يظنون أن هذا الخلق إنما هو للهو وللعبث هؤلاء الذين ساءت ظنونهم بالله عزوجل , الله يقول: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) .
ومما يؤثره أيضا أنه لا يسوغ لأحد أن يتكنى بأبي الحكم , كما ذكرنا في أول اسم الله الحكيم .
التوازن العجيب في المخلوقات:(1/91)
هذه الأفلاك في حركة الشمس وما إلى ذلك من الأفلاك التي تؤثر حركاتها في وجود الفصول الأربعة , وفي وجود الليل والنهار , فالشمس حينما تدور حول نفسها وحينما تدور حول الأرض , فمن هذه التحركات توجد هذه الفصول , فصيف وشتاء وربيع وخريف , وفي كل فصل من هذه الفصول تخرج بعض أنواع النباتات التي ينتفع بها الناس وتنتفع بها دوابهم , وفي هذه الفصول يتغير الهواء ويحصل في ذلك من المنافع ما الله به عليم , ويكون فيه أيضا من طرد الملل عن الناس , فإذا طال الشتاء على الناس سئموا وكذلك في الصيف , ولو أن هذه الأمور كانت تبعا لأهواء الناس لفسدت السماوات والأرض , هب أن الليل بقي علينا سرمدا علينا إلى يوم القيامة كيف تكون حياة الناس ؟ ولو أن النهار بقي مستمرا سرمدا إلى يوم القيامة من يأتيهم بليل يسكنون فيه , أنتم تلاحظون أن الليل فطر الله عزوجل فطرة لا تتبدل ولا تتغير أنه محل للهدوء وللسكون ويصلح للراحة من الهموم والتعب , فتكون نفوسهم متهيئة وأجسامهم مسترخية تطلب النوم , ولو أن الرجل نام ساعة واحدة في الليل فإنه تغنيه عن ساعات من النهار , ولذلك نلاحظ في الناس الذين يألفون البقاء في الليل فإن حياتهم لا تكون مستقرة , كما أن نفوسهم أيضا تكون فيها شيء من الاضطراب وعدم الاستقرار , يعرف ذلك من جربه , فهذه حكم لله تبارك وتعالى في هذا الخلق.
ثم انظر إلى هذا الغلاف الذي يغطي هذه الأرض , كما يقول أهل الفلك إنه ممتد امتداد طويل إلى نحو 500 ميل في السماء , ثم أيضا هذا الغلاف يغلف الأرض فهو بمنزلة الحماية والوقاية , فكثير من السواقط والأجرام والشهب التي تسقط من النجوم تتحلل في هذا السياج قبل أن تصل إلى الأرض وإلا دمرتها أو أنها لربما أحرقتها , ثم هو أيضا يحفظ هذا التوازن في درجات الحرارة , كل هذا بتقدير الله عزوجل , ثم أيضا له أثر فيما يتعلق في تكوين السحب ونقلها وما شابه ذلك.(1/92)
ثم انظر أيضا إلى هذا الهواء الذي تتنفسه ومما يتركب ؟ فالأكسجين الذي لا تستقيم الحياة إلا به , موجود بنسبة محددة مقدرة , وهي تمثل قرابة 21% من الهواء , لو زادت هذه النسبة إلى 40% مثلا لاحترقت كل المواد القابلة للاحتراق , ولو هبطت إلى 10% مثلا لانتهت الحياة على سطح الأرض.
إذا سرحت طرفك ونظرت في عالم الحشرات مثلا , فهي تبقى أحجامها صغيرة مهما تضخمت , فهذه الحشرات لو كانت تنمو وتكبر ولم يقدر لها الله عزوجل حدا معينا , لصارت البعوضة بمقدار الفيل , وصارت الجعلان بمقادير الجمال , ولما استطاع الناس أن يعيشوا على وجه هذه الأرض , ولكن الله عزوجل قدر لها حدا لا تتجاوزه , فهي ليست من ذوات الرئة مثلا , فلها قصبات معينة يجري عن طريقها التنفس , فهذه القصبات لا يمكن أن تزداد ولا يمكن أن تتسع , فهي باقية إذا بهذا الحجم لا يمكن أن تنمو ولا تتضخم , مع أنك لو وضعت المجهر على بعض الكائنات التي لا ترى بالعين المجردة لرأى عجبا , فلو رآها الناس في هذا الهواء وفي ثيابهم وفي فرشهم لما قر لهم قرار , ولما استطاعوا أن يأكلوا طعاما , ولربما كنت الآية تعج بمثل هذه الكائنات ويلتهما الإنسان , ولربما كان في التهامها بعض الأحيان بعض المصالح.(1/93)
وانظر أيضا إلى أمثلة أخرى تدل على التوازن في هذا الخلق , هذا النبات الذي يقال له الصبار , جرب زراعته كسياج على بعض المناطق في استراليا , وهو ينتشر انتشارا كثيرا كما هو معروف , فصار ينتشر انتشارا هائلا فأفسد المزارع وأفسد الأراضي وعم وطم وما استطاع الناس أن يتخلصوا منه , فذهب علماء الحشرات يبحثون عن حشرات تتغذى على هذا الصبار , فوجدوا حشرة لا تأكل إلا مثل هذا النوع من النباتات , فجاءوا بها وكثروها , فتكاثروا بشكل عجيب لكثرة هذا النبات , فقضت عليه ولم يبقى منه إلا أقل القليل , فخافوا من كثرة هذه الحشرة , فلما قل الصبار تهالكت واضمحلت وتراجعت , ولم يبقى منها إلا قليل يكفي لأكل ما تبقى من هذا النبات , فانظر إلى هذا التوازن!.
هذا حيوان نوع من أنواع الأيل الجبلي , هذا النوع من الحيوانات يعيش في أمريكا الجنوبية , فالحاصل أن هذا النوع من الحيوانات يعيش على نوع من الأزهار , ويوجد على قدر معين , والأزهار هذه أيضا محدودة , ويوجد نوع من الأسود يتغذى على هذا النوع من الحيوانات , وهذه الأسود تتواجد في هذه الأماكن التي تتواجد فيها هذه الحيوانات , فقامت الحكومة وقامت وقتلت هذه الأسود في الجبال من أجل أن يتكاثر هذا النوع من الحيوانات , فتكاثرت كثرة هائلة , ثم أتت على جميع هذه الزهور ثم صارت تأكل النباتات الصغيرة فقضت عليها جميعا , ثم لم تجد شيء تأكله فماتت بأعداد هائلة , فانظر إلى هذا التوازن , هذه الأعداد التي ماتت كانت تأكلها الأسود التي ماتت , فالله عزوجل يخلق كل شيء بمقدار.
السباع الموجودة المنتشرة في العالم , لو كانت أكثر من ذلك ما الذي يحصل ؟؟؟
القطة التي نشاهدها هذه , لو عدمت ؟ أو قلت عما كانت عليه , لكثرت الفئران والحشرات وتأذى الناس من ذلك , ولو كثرت هذه القطط لربما ماتت من الجوع , والأمثلة على هذا كثيرة.(1/94)
انظر إلى الحيوانات بطبيعتها فيما تأكله وفيما تتغذى عليه , السباع لها أنياب وفمها ليس بالواسع جدا , والحيوانات الأخرى التي تأكل الأعشاب لها قواطع , ثم هذه السباع لما كانت تأكل اللحوم صارت مكونة تكوينا في أجوافها تستطيع هضم هذه اللحوم , والإفرازات التي تفرز في أجوافها غير الإفرازات التي تفرز في اجواف آكلة العشب , ثم آكلة العشب هذه انظر إليها , البقر والغنم والجمال وما شابه ذلك تلتهم ألوان العشب التهاما , ثم إذا كانت في فترة الاستراحة اجتمعت هذه الكميات من العشب في الكرش ولم يتهضم ولم يتحلل فهي تستخرجه في وقت الراحة ثم تبتدأ تجتر فترس هذا الطعام جيدا وتفتته تفتيتا جيدا حتى يكون صالحا للهضم .
انظر إلى الحيوانات وأشكالها وما خلق الله عزوجل فيها , الحيوانات التي تحتاج للجري قوائمها دقيقة , الحيوانات التي تجر الأثقال أو تحرث الزرع تجد أنها ذات قوائم قصيرة وقوية وممكنة , انظر إلى الجمل لما كان يقطع المسافات على التراب ويمكن أن يغوص على ضخامة جسمه في التراب كان له هذا الخف الواسع الذي يكون لينا كالإسفنجة من أسفل من أجل لا يغوص , هذا الخف لماذا لم يكن للبقرة! لأنها لا تحتاج إليه .
الفيل كم يجلس ؟ أربعين سنة وهو قائم على رجليه لا يجلس!!! , ولذلك هيئه الله عزوجل ليكون قادرا على هذا الوقوف الطويل , لو أن الفيل كان مما يبرك كان لربما تمزقت أطرافه .
8- الحميد:
هذا الاسم الكريم " الحميد " مأخوذ من الحمد , والحمد يقابل الذم , وحقيقة الحمد هو وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم , لأنه لو لم يكن مع المحبة والتعظيم فإنه حينئذ يكون نفاقا وتزلفا.
الحمد لا يكون شيئا في القلب وإنما يكون باللسان مع مواطئة الحب ومع المحبة والتعظيم لهذه الأوصاف التي حمدته بها.(1/95)
تفسير العلماء للحمد بأنه الثناء على المحمود بأوصاف الكمال , وهذا فيه نظر لأن الثناء هو إخبار عن كمية الحمد , فهو تكراره ثانيا , ولهذا يقال إذا كررت الحمد ثانية سمي ذلك ثناءا , وإذا كررته أكثر من ذلك فإن هذا هو التمجيد , والدليل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة المشهور من قول الله تبارك وتعالى ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين , فنصفها لي ونصفها لعبدي ) إلى أن قال ( فإذا قال العبد الحمدلله رب العالمين قال الله حمدني عبدي ) الآن أثنيت على الله بالأوصاف الكاملة ( وإذا قال العبد الرحمان الرحيم قال الله أثنى علي عبدي ) وعليه إذا فلا يقال أن الحمد هو الثناء على المحمود بصفات الكمال.
الحمد اسم جنس , والجنس له كمية وكيفية , فكميته هي التي يقال لها الثناء , والتمجيد كيفيته وتعظيمه.
هذا الحمد الذي نحمد الله عزوجل هو على نوعين:
نحمده على إحسانه وإفضاله وإنعامه على عباده , وهذا يكون من قبيل الشكر.
حمد لما يستحقه بنفسه سبحانه وتعالى من نعوت الكمال , وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد حقيقة , وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال , وعلى قدر كمالاته يكون حمده مكملا.
قد يسأل البعض ما الفرق بين الحمد والشكر ؟
بعض أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله والمبرد وطائفة ذهبوا إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ولا فرق بينهما , وهذا فيه نظر ومعلوم أن الترادف لا يوجد في اللغة أو في القرآن إلا نادرا إن وجد.
ولهذا ذهب ابن كثير رحمه الله إلى الفرق بين الحمد والشكر , وقال بهذا التفريق طائفة من أهل العلم.
فالذين فرقوا قالوا الحمد كالمدح , ونقيضه الذم , وأما الشكر فإن الذي يقابله هو الكفران , تقول فلان شكر النعمة وفلان كفر النعمة , فالحمد لا يقابله الكفر.(1/96)
وفرقوا أيضا من وجه آخر وقالوا إن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية , اللازمة مثل العظمة والمتعدية مثل الكرم والرزق والإنعام وما شابه ذلك يعني أنها تتعدى إلى المخلوقين , وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية , تشكره على إحسانه وإنعامه وأنه أنقذك من مكروه أو كربة أو مصيبة , وهكذا بالنسبة للناس , فأنت تشكر إنسان لأنه تفضل عليك أو أحسن إليك , فتقول أشكرك لما قدمت إلي من معروف , وأما الحمد فإنك تحمد هذا الإنسان على حسنه وعلى جمال وجهه وعلى طوله وعلى قوة شخصيته وعلى حيائه وكرمه, الشكر يكون باللسان والقلب والجوارح , باللسان بأن تذكر محاسنه , وفي قلبك بأن يكون فيه محبة المنعم واستحضار هذا الإنعام , ويكون بالجوارح بأن تشتغل هذه الجوارح بالتقرب إليه , وأصل الشكر مأخوذ من الظهور , ولذلك يقال للعسلوج وهو فرع الشجرة التي قطعت يظهر منها فرع أخضر صغير يقال له شكير لأن هذا الغصن الصغير ظهر بعد أن لم يكن , ولهذا يقال شكرت هذه الدابة أي يظهر عليها أثر السمنة.
ولهذا قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجب
بمعنى أن إنعامكم ظهر أثره علي في ثلاثة أشياء , يدي فصارت جوارحي تعمل في التقرب إليكم بمقابل إحسانكم , ولساني بالثناء عليكم , والضمير المحجب بمعنى قامت هذه المعاني واستحضار النعمة في قلبي فلم أعرض عنها ولم أغفل عنها.
بعض العلماء يقول الشكر هو ثناء على الله بأفعاله وأنعامه , والحمد ثناء بأوصافه.
وبعض العلماء يقول لا يكون الشكر إلا على جزاء النعمة , وبينما الحمد يكون جزاءا كالشكر ويكون ابتداءا من غير سابق نعمة
أيهما أعم الحمد أو الشكر ؟(1/97)
ذهب ابن كثير رحمه الله إلى أن بينهما عموما وخصوصا , يعني أن أحدهما أعم من جهة وأخص من جهة , والآخر أعم من جهة وأخص من جهة , فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية , وهو أخص من الشكر من حيث الأداة التي يقع بها لأن الحمد لا يكون إلا بالقول لكن مع مواطئة القلب.
وأما الشكر فهو أعم من الحمد من جهة الأداة التي يقع بها لأن الشكر يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح , وأخص من الحمد لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية فقط.
قال ابن عطية رحمه الله: الحمد أعم من الشكر , لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر وشكره نوع من الحمد , والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئا.
والخلاصة: أن الحمد أخص من الشكر موردا , وأعم منه متعلقا , فمورد الحمد اللسان فقط ومتعلقه النعمة وغير النعمة , ومورد الشكر اللسان والقلب والجوارح , ومتعلق الشكر هو النعمة فقط.
الله عزوجل حميد , وإذا تأملت هذا الاسم الكريم , وتأملت صياغته وبناؤه وتركيبه , فإنه من فعيل بمعنى مفعول , وفعيلا تأتي بمعنى مفعول وبمعنى فاعل , فالحميد يمكن أن يراد به من حيث هو بغض النظر عن تسمية الله عزوجه به يمكن أن يراد به الحامد ويمكن أن يراد به المحمود , هذا من حيث بناء الاسم , وأكثر ما يأتي هذا الوزن الفعيل في أسماء الله تعالى بمعنى فاعل كالسميع ليس بمعنى المسموع وإنما بمعنى السامع وكالبصير بمعنى المبصر وكالعليم بمعنى العالم وكالقدير بمعنى القادر وكذلك الحليم والحكيم والعلي وما إلى ذلك , وقد يأتي الفعيل بالنسبة لأسماء الله عزوجل بمعنى المفعول , وعلى كل حال قد يأتي من أسماء الله عزوجل ما هو على زنة مفعول أيضا ويراد به الفاعل , مثل الغفور بمعنى الغافر , والشكور بمعنى الشاكر , والصبور بمعنى الصابر.(1/98)
أما الحمد فلم يأتي إلا بمعنى المحمود , هذا بالنسبة لتسمية الله عزوجل به , ولا شك أن هذا البناء الحميد أبلغ من المحمود , ولا شك أن العدول من المحمود إلى الحميد مع أنه بمعنى المحمود لا شك أن هذا العدول يزيد في معناه من جهة المدح وقوة المعنى بلا ريب , وذلك أن هذا البناء الفعيل الحميد الذي هو بمعنى محمود لما عدل به هذا العدول صار يعطي معنى زائدا بحيث يكون هذا الوصف الذي تضمنه هذا الاسم كأنه صار سجية ملازمة لهذا المسمى وكأنه صار شيئا غريزيا وخلقا لازما لهذا المسمى كما تقول فلان ظريف أو شريف أو كريم وهكذا , فهذه الأبنية كلها يقال لها أبنية الغرائز والسجايا اللازمة .
معنى الحميد بالنسبة لله عزوجل: هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودا وإن لم يحمده غيره , فهو حميد في نفسه , والمحمود من تعلق به حمد الحامدين , وهكذا المجيد والممجد والكبير والمكبر والعظيم والمعظم كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) وذلك لأن أوصاف الكمال والجلال والعظمة التي اتصف الله عزوجل بها لا يحيط بها إلا الله سبحانه تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله:
وهو الحميد فكل حمد واقع ** أو كان مفروضا مدى الأزمان
ملأ الوجود جميعه ونظيره ** من غير ما عد ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده ** كل المحامد وصف ذي الإحسان
عبارات العلماء في معنى هذا الاسم الكريم متقاربة تدور حول معنى واحد أو متقارب فالحميد عندهم: هو المحمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه , وبسط لهم من فضله , وهو الذي استوجب عليهم الحمد بصنائعه الحميدة إليهم , وآلائه الجميلة لديهم.
فهذه العبارات عبارات متقاربة يمكن أن يجمعها قول ابن كثير رحمه الله : هو المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/99)
وكما قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في التفسير: الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله , فله من الأسماء أحسنها , ومن الصفات أكملها وأحسنها , فغن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل.
الله سبحانه وتعالى حميد من وجهين:
أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده , فهو حميد من هذه الناحية , فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم والآخرين , وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة , وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضا ومقدرا حيث ما تسلسلت الأزمان , واتصلت الأوقات , حمدا يملأ الوجود كله , العالم العلوي والسفلي , ويملأ نظير الوجود من غير عد ولا إحصاء , فإن الله تعالى مستحقه من وجوه كثيرة منها أن الله هو الذي خلقهم ورزقهم وأسدى عليهم النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية , وصرف عنهم النغم والمكاره , فما بالعباد من نعمة فمن الله , ولا يدفع الشرور إلا هو , فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات , وأن يثنوا عليه ويشكروه بعدد اللحظات.
أنه يحمد على ماله من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العلى , والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة , فله كل صفة كمال , وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها , فكل صفة من صفاته يستحق عليها الحمد والثناء , فكيف بجميع الأوصاف المقدسة , فله الحمد لذاته وله الحمد لصفاته وله الحمد لأفعاله لأنها دائرة ببين أفعال الفضل والإحسان , وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد , وله الحمد على خلقه وعلى شرعه , وعلى أحكامه القدرية والشرعية , وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة , وتفاصيل حمده وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام , كما قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في كتابه الحق الواضح المبين.(1/100)
هذا الحمد الذي نضيفه إلى الله تبارك وتعالى ظرفه الزماني بينه الله عزوجل وهو الدنيا والآخرة , كما قال الله عزوجل (لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ) وأما ظرف هذا الحمد المكاني فهو السماوات والأرض كما قال الله عزوجل (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ) فذكر في هذه الآية الظرف المكاني والظرف الزماني.
جاء هذا الاسم في كتاب الله عزوجل سبعة عشر مرة , تارة يأتي هذا الاسم بمفرده غير مقترن باسم آخر من أسماء الله الحسنى , وتارة يأتي مقترنا مع غيره .
وقد جاء بمفردة مرة واحدة في كتاب الله عزوجل في سورة الحج وذلك في قوله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ).(1/101)
وجاء مقترنا باسم الله الغني عشر مرات مثل قوله تعالى: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) , وكقوله في سورة إبراهيم : (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) , وكقوله في سورة لقمان: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) , وكقوله في سورة فاطر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) , وإلى غير ذلك من المواضع , ويمكن أن يقال في سر هذا الاقتران والله أعلم , أن الغنى يكون مظنة للطغيان , وكما قال الله عزوجل: (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) إلا من عصمه الله عزوجل وهدى قلبه ووقاه , فأدى حق الله عزوجل وأخذ هذا المال من حله وصرفه في وجوهه المشروعة , ولكن الغالب أن الغنى يحمل على البطر والطغيان وما إلى ذلك من الأمور التي لا تليق , أما الله عزوجل فهو مع غناه الواسع الكامل محمود مع هذا الغنى لا يلحقه بسببه نقص بوجه من الوجوه فله الكمال المطلق وله الحمد المطلق مع غناه الواسع الكامل الذي لا افتقار معه بوجه من الوجوه إلى شيء من الأشياء أو إلى أحد من المخلوقين.(1/102)
كما جاء هذا الاسم مقترنا مع اسم الله الحكيم مرة واحدة , وذلك في قوله تبارك وتعالى في سورة فصلت عن هذا القرآن : (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) , فهو محمود في حكمته جل وعلا , حيث يوضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها , فلا يصدر منه تصرف على غير وجه الحكمة , فهو محمود سبحانه في أقواله فهي صواب , وفي أفعاله فهي حق كلها , لا شطط فيها ولا خلل ولا خروج عن وجه الحق والصواب بحال من الأحوال.
وجاء مقترنا مع اسم الله العزيز ثلاث مرات في القرآن , وذلك في مثل قوله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) , ويمكن أن يقال في وجه هذا الاقتران , أن العزة تحمل على العسف والقهر والظلم في كثير من الحالات هذا بالنسبة للمخلوقين , فإن المخلوق إذا عز كما قيل: من عز بز , ومن غلب استلب , أما الله عزوجل فهو مع عزته الكاملة , إلا أنه محمود في هذه العزة فلا تحمله هذه العزة على ظلم لأحد من خلقه فالله ليس بظلام للعبيد , على كثرتهم وتفرقهم , إلا أنه لا يصدر منه ظلم بوجه من الوجوه لأحد من المخلوقين البتى.(1/103)
وجاء مقترنا مع اسم الله المجيد مرة واحدة وذلك في سورة هود في قوله تبارك وتعالى: (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) , وأما وجه هذا الاقتران فقد علق عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض مصنفاته حيث قال : والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله , فغن الحمد يستلزم المحبة والثناء للمحمود فمن أحببته ولم تثني عليه لم تكن حامدا عليه , وكذا من أثنيت عليه لغرض ما ولم تحبه لم تكن حامدا له حتى تكون مثني عليه محبا , وهذا الثناء والحب تبعا للأسباب المقتضية عليه , وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير , فإن هذه هي أسباب المحبة , وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل , كان الحمد والحب أتم وأعظم , والله سبحانه له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما , والإحسان كله له ومنه , فهو أحق بكل حمد وبكل حب من كل جهة , فهو أهل أن يحب لذاته ولصفاته ولأفعاله ولأسمائه ولإحسانه ولكل ما صدر منه سبحانه.(1/104)
وأما المجد فهو مستلزم للعظمة والسعة والجلال , كما يدل عليه موضوعه في اللغة , فهو دال على صفات العظمة والجلال , والحمد يدل على صفات الإكرام , والله سبحانه ذو الجلال والإكرام , وهذا معنى قول العبد ( لا إله إلا الله والله أكبر ) فلا إله إلا الله دال على ألوهيته وتفرده فيها , فألوهيته تستلزم محبته التامة , والله أكبر دالة على مجده وعظمته وذلك يستلزم تمجيده وتعظيمه وتكبيره , ولهذا يقرن سبحانه بين هذين النوعين في القرآن كثير كقوله: (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) , وكقوله: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) فأمره بحمده وتكبيره , وقال تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) , وقال: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) , وفي المسند وصحيح أبي حاتم وغيره من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) وإسناده صحيح , يعني إلزموها وتعلقوا بها , فالجلال والإكرام هو الحمد والمجد ....(1/105)
إلى أن قال: فذكر هذين الاسمين الحميد المجيد عقيب الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مطابق لقوله: (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) , (يعني لماذا نقول في آخر التشهد إنك حميد مجيد ) ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه والتنويه به ورفع ذكره وزيادة حبه وتقريبه , كانت مشتملة على الحمد والمجد , وكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده , فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد ( يعني على النبي صلى الله عليه وسلم ) هذه حقيقتها , فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له وهما اسما الحميد والمجيد ..... إلى أن قال: فلما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمد ومجد بصلاة الله عليه ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد ( يعني إنك حميد ومجيد ) وأيضا فإنه لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمد ومجد , وكان ذلك حاصل له , ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت ذينك الوصفين للرب بطريق الأولى , فهو أولى إذا بالحمد والمجد لأنه مسدي هذه الأوصاف لرسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن القيم رحمه الله في موضع آخر: أحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد , كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السلام (رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) , وكما شرع لنا في آخر الصلاة أن نثني على الرب تعالى أنه حميد مجيد , وشرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول ( ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد ) فالحمد والمجد على الإطلاق لله الحميد المجيد , فالحميد الحبيب المستحق لجميع صفات الكمال , والمجيد العظيم الواسع القادر الغني ذو الجلال والإكرام.(1/106)
إذا عرفت أن الله عزوجل هو الحميد , وأن الحمد يضاف إلى الله تبارك وتعالى فاعلم أن هذا الحمد من أوسع الأوصاف وذلك لكثرة الأمول التي تستوجب حمده جل جلاله , فالله تبارك وتعالى محمود من كل وجه , محمود في ذاته وفي أسماءه وفي أوصافه وأفعاله , وكلما كان بصر العبد نافذا في الأمور التي تستوجب الحمد لله عزجل , كلما كان أعرف بكثرة وجوه حمده سبحانه وتعالى , وأنه يستحق أعظم الحمد.
نوع الله سبحانه حمده وأسباب حمده وجمعها تارة وفرقها أخرى , ليتعرف إلى عباده ويعرفهم كيف يحمدونه , وكيف يثنون عليه , وليتحبب إليهم بذلك ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه , قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) , فحمد نفسه على ربوبيته للعالمين , وحمد نفسه على رحمته , وحمد نفسه على ملكه سبحانه وتعالى.
وقال عزوجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) فحمد نفسه على خلق السماوات والأرض وهي من أكبر الأجرام المخلوقة , وحمد نفسه سبحانه على خلق الظلمات والنور , وعاب على هؤلاء الكفرة الذين يعدلون به ويوازون به المعبودات الباطلة التي لم تخلق شيئا من ذلك.
وقال سبحانه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ) فحمد نفسه على إنزاله للكتاب الذي هذه صفته .(1/107)
وحمد نفسه كما قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) فحمد نفسه على ملكه التام المطلق الكامل , وحمد نفسه على ما يستوجبه من المحامد في الآخرة , وحمد نفسه أيضا على حكمته وعلى خبرته لأنه يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها , وهو يعلم بواطن الأمور فهو الخبير جل جلاله.
وقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فله الحمد على ابتداء خلق السماوات والأرض , وعلى خلق الملائكة وجعلهم بهذه الأوصاف من التفاوت في الخلق , فبعضهم له جناحان وبعضهم له أكثر من ذلك , وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض قد سد ما بين الأفق له ستمائة جناح.
وأخبر تبارك تعالى عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته , والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته , كما قال: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).(1/108)
وأخبر عن حمد أهل الجنة له وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده , كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده , فقال عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) , وقال: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) , وقال عن أهل النار : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) , وقال الحق تبارك وتعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) , فشهد هؤلاء الكفار من أهل النار على أنفسهم بالكفر والظلم , وعلموا أنهم كانوا كاذبين في الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلاهيته مفترين عليه , وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم , وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم لهم , وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده , وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه , لا كما تقوله الجبرية.
وتفصيل هذه الحكمة مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا للتعبير عنه , ولكن بالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل وكل مدح وحمد وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عزوجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها , وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس , فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناءا عليه , بل هو كما أثنى على نفسه , وفوق ما يثني به عليه خلقه , فله الحمد أولا وآخرا , حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه , كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده.(1/109)
حمد النعم والآلاء مشهود للخليقة برها وفاجرها , مؤمنها وكافرها , من جزيل مواهبه سبحانه وسعة عطاياه , وكريم أياديه , وجميل صنائعه , وحسن معاملته لعباده , وسعة رحمته لهم , وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين , وكشف كربات المكروبين , وإغاثة الملهوفين , ورحمته للعالمين , وابتداءه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق , بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه , ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها , وصرفها بعد وقوعها , ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف , وتبليغه من ذلك إلى مالا تبلغه الآمال , وهدايته خاصته وعباده إلى سبيل دار السلام , ومدافعته عنهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام , وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم , وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين , وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه , وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم , وذكرهم قبل أن يذكروه , وأعطاهم قبل أن يسألوه , وتحبب إليهم بنعمه مع غناه , وفقّرهم إليه , ومع هذا كله فاتخذ لهم دارا وأعد لهم فيها من كل ما تشتهي الأنفس , وتلذ الأعين , وملأها من جميع الخيرات , وأودعها من النعيم والسرور والبهجة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها , ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها , ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصير جدا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم , وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرا , وإن أساءوا واستغفروه أن يغفر لهم , ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات , وذكرهم بآلائه , وتعّرف إليهم بأسمائه , وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانا , لا حاجة منه إليهم , ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم , لا بخلا منه عليهم , وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه , ونصحهم بأحسن النصائح , ووصاهم بأكمل الوصايا ,(1/110)
وأمرهم بأشرف الخصال , ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال , وصرّف لهم الآيات , وضرب لهم الأمثال , ووسع لهم طرق العمل به ومعرفته , وفتح لهم أبواب الهداية , وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه , وتبعدهم عن غضبه , ويخاطبهم بألطف الخطاب , ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) , (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) , (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) , (قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا ) , (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ) , فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) , (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) , (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) , (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى(1/111)
شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) , (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(1/112)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) , (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) , فتحت هذا الخطاب إني عاديت إبليس وطردته من سمائي وباعدته من قربي إذ لم يسجد لأبيكم آدم , ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداء لكم , فليتأمل اللبيب مواقع هذا الخطاب , وشدة لصوقه بالقلوب , والتباسه بالأرواح , وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة , وأعلم عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل , وأفضل المنازل , وأجل العلوم والمعارف , قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) , وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ) , فكل هذا التلطف والإنعام والإكرام والتودد لعباده والتفضل عليهم بمثل هذه التوجيهات الكريمة , والنعم الظاهرة والباطنة , كل ذلك يوجب مزيد حمد له تبارك وتعالى لمن كان له قلب , أو ألقى السمع وهو شهيد , هذا مع أن الله عزوجل ليس محتاجا إلى خلقه لا في قليل ولا في كثير , وإنما هم الفقراء إليه الفقر التام الذي لا يستغني عن ربه طرفة عين في جميع أحواله في قيامه وقعوده وحركته وسكونه فهو مفتقر إلى الله عزوجل كل الإفقتار.(1/113)
الدنيا التي نعيش فيها كما قال ابن القيم في مفتاح السعادة بمثابة القرية , والمؤمن رئيسها , والكل مشغول به , ساع في مصلحته , والكل قد أقيم في خدمته وحوائجه , فالملائكة الذين هم حملة العرش ومن حوله يستغفرون له , والملائكة الموكلون به يحفظونه , والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه , والأفلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه , والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته , والعالم الجوي مسخر له برياحه وهواءه وسحابه وطيره , وما أودع فيه , والعالم السفلي كله مسخر له مخلوق لمصالحه , أرضه وجباله وبحاره وأنهار , وأشجاره وثماره ونباته وحيوانه , كل ذلك مسخر له , والله سبحانه يقول: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ).(1/114)
المؤمن يحمد ربه كما علمه الله عزوجل , ويحمد ربه على انفراد هذا الرب المعبود بالملك , وعلى انفراده بكل ألوان المحامد , كما قال عزوجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) , ويحمد ربه تبارك وتعالى أن سواه ونفخ فيه من روحه , وأسجد له ملائكته , وأمده بكل النعم التي تصلحه وتسعده في الدنيا , وهداه إلى ما يسعده في الآخرة في جنات النعيم , كما قال أهل الإيمان في ما حكى الله عزوجل عنهم: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) , ويحمد ربه على النعم الظاهرة والباطنة التي أمده ويمده بها في كل لحظة من لحظات حياته , فهو الذي جعل لك السمع والبصر والفؤاد , وهو الذي ركب فيك هذه اليد وهذه الرجل , وجعل لك هذا الخلق العجيب بهذا التفصيل الغريب , وهو الذي سخر لك الليل والنهار , والفلك والدواب , وجعل لك الماء الذي تشربه عذبا , والطعام الذي تأكله طيبا نضيجا , (وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) , (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) , (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ(1/115)
تَشْكُرُونَ ) , ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) .
الحمد من أوله إلى آخره مستحق لربنا جل جلاله , كما قال الله عزوجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) , فالألف واللام في الحمد تدل على الاستغراق , أي هو الذي له جميع المحامد بأسرها , ولا يكون ذلك لأحد إلا لله تبارك وتعالى , ولهذا فإننا لا نحصي ثناءا عليه كما أثنى على نفسه جل جلاله , فهو حميد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله , وفي كل شأن من شؤونه , فله الحمد على كل حال , وفي كل زمان وفي كل مكان , وفي الشدة وفي الرخاء , في العسر واليسر , وفيما نحبه وفيما نكرهه , لأنه المستحق لذلك جميعا , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: ( اللهم أنت الحمد أنت نور السماوات والأرض , ولك الحمد أن قيام السماوات والأرض , ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن , وأنت الحق ووعدك الحق ) , وكان يصلي بأصحابه عليه الصلاة والسلام مرة فرفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده , فقال رجل وراءه ( ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ) , فلما انصرف قال: من المتكلم؟ , قال رجل: أنا يا رسول الله , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولا.(1/116)
وهذا يدل على عظمة الحمد , وقولنا بأن الحمد لله جميعا , يقول ابن القيم في بيان هذا المعنى: والحمد كله لله رب العالمين , فإنه المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه , فهو المحمود على طاعات العبد ومعاصيهم , وإيمانهم وكفرهم , وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين , وعلى خلق الرسل وأعدائهم , وهو المحمود على عدله في أعدائه , كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه , فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده , ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده , وكان في قول النبي صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع ( ربنا ولك الحمد ملئ السماء وملئ الأرض وملئ ما بينهما وملئ ما شئت من شيء بعد ) فله سبحانه الحمد , حمدا يملأ المخلوقات والفضاء الذي بين السماوات والأرض , ويملأ ما يقدر بعد ذلك مما يشاء الله أن يملأ بحمده , وذلك يحتمل أمرين , الأول : أن يملأ ما يخلقه الله مبدع السماوات والأرض والمعنى أن الحمد ملئ ما خلقته وملئ ما تخلقه بعد ذلك , الثاني: أن يكون المعنى ملئ ما شئت من شيء بعده يملؤه حمدك , أي يقدر مملوءا بحمدك وإن لم يكن موجودا , والمعنى الأول أقوى وأرجح.(1/117)
ويقول ابن القيم في بيان قولنا " الحمد كله لله " : هذا له معنيان , أحدهما أنه محمود على كل شيء , وهو ما يحمد به رسله أنبياؤه وأتباعهم , فذلك من حمده تبارك وتعالى ( يعني ما يحمدون به من الأوصاف الكاملة الله أولى به , بل هو المحمود في القصد الأول ) وهذا كما أنه بكل شيء عليم , وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه , وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه وله الحمد , وقد آتى من الحمد ما شاء , وكما أن ملك المخلوق داخل في ملكه , فحمده أيضا داخل في حمده , فما من محمود يحمد على شيء دق أو جل إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية أيضا , وإذا قال ( اللهم لك الحمد ) فالمراد به أنت المستحق لكل حمد , ليس المراد به الحمد الخارجي فقط.
المعنى الثاني: أن يقال " لك الحمد كله " أي التام الكامل , هذا مختص بالله ليس لغيره فيه شركة , والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جميعا , فله عموم الحمد وكماله , وهذا من خصائصه سبحانه , فهو المحمود على كل حال.
يقول: وعلى كل شيء أكمل حمد وأعظمه , كما أن له الملك التام العام , فلا يملك كل شيء إلا هو , وليس الملك التام الكامل إلا له , وأتباع الرسل يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد , فإنهم يقولون إنه خالق كل شيء وربه ومليكه , لا يخرجوا عن خلقه وقدرته ومشيئته البتة , فله الملك كله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومعلوم أن كل ما يحمد، فإنما يحمد على ماله من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب .(1/118)
ومما يؤثره الإيمان بأن الله عزوجل هو الحميد: أن لا يضاف الشر إليه بحال من الأحوال , لا في أوصافه ولا في أفعاله , فالله عزوجل حميد أي أن الحمد له جميعا , فكل حمد على كمال مطلق إنما يستحقه الله عزوجل كما سبق , فكمال حمده يوجب ألا ينسب إليه شر ولا سوء ولا نقص , لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته , فأسمائه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه , مع أنه سبحانه الخالق لكل شيء , فهو الذي خلق الخير والشر , ولكن الشر في مفعولاته كما بينا في الكلام على بعض الأسماء الحسنى كما سبق , ولكن ليس في أفعاله شر , فالله هو الخالق للعباد ولأفعالهم ولحركاتهم وأقوالهم , والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه , كان قد فعل الشر والسوء , والرب جل وعلا هو الذي جعله فاعلا لذلك , وهذا الجعل من الرب تبارك وتعالى للعبد كذلك عدل وحكمة وصواب , فجعله العبد فاعلا هذا خير منه تبارك وتعالى , وهو خير في أفعاله , وأما هذه المفعولات التي تصدر من المخلوقين أحيانا مما لا يليق كالكفر والمعصية فهذه شر , ولكن الله عزوجل قدرها لحكمة يعلمها, فهو سبحانه في هذا الجعل قد وضع الشيء موضعه.
وهذا أمر معقول مشاهد , فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء , والحجر المكسور, واللبنة الناقصة , ووضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه , كان ذلك منه عدلا وصوابا يمدح به , وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل , ومن وضع الخبائث في موضعها , ومحلها اللائق بها كان ذلك حكمة وعدلا وصوابا , وإنما السفه والظلم أن يضعها بغير موضعها.
فمن وضع العمامة على الرأس , والنعل في الرجل , والكحل في العين , والزبالة في الكناسة , فقد وضع الشيء موضعه , ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلها , كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى.(1/119)
ومما يؤثره أيضا معرفة أن الله حميد: أن تثني على ربك تبارك وتعالى بأوصاف الكمال , ويكون هذا الثناء صادرا منك عن تحقق ومعرفة بكمال هذا المحمود , وأنه مستحق لهذا الحمد الذي حمدته به , وهذا يعني أن تحاول معرفة معاني هذه الأمور التي تثني بها على الله عزوجل , فلا يكون ذلك جاريا على لسانك من غير معرفة بمعناه , ومن غير استحضار القلب لهذه الأشياء , فإذا كان العبد متحققا من هذه القضية كان متذوقا لهذا الحمد , وشتان من يجري الحمد على لسانه من غير مواطئة القلب ومن غير معرفة بحقائق هذه الأمور التي يضيفها إلى الله عزوجل شتان بينه وبين من يعرف حقيقة ما يتكلم به بلسانه.
ومن آداب من عرف أنه الحميد سبحانه: أن يحبه وأن يمتلئ قلبه إجلالا لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال والأسماء الحسنى , ومعلوم أن الخلق قد جبلوا على محبة الكمال , وعلى محبة الأوصاف الحميدة , هذا بالنسبة للمخلوقين مع بعضهم , فكيف بالخالق الذي له الكمال من كل وجه!.
فأنت إذا رأيت أحدا من المخلوقين قد كمل نفسه واتصف بأوصاف حسنة , فإن قلبك يميل إليه ويحبه , وكلما كان كماله أكثر كلما تعلقت به القلوب ومالت إليه أكثر من غيره , فالله عزوجل له أوصاف الكمال فينبغي أن يكون هو أعظم محمود.
ومن آداب من عرف أنه الحميد سبحانه: ألا يلتفت عند حمده سبحانه والثناء عليه إلى شهود النعم والعطايا منه سبحانه , واستعظامها والوقوف عندها , بل يلزم قلبه عظمة المنعم ورحمته ولطفه وبره وإحسانه وحكمته.(1/120)
ومن الأمور التي يؤثرها الإيمان بأن الله عزوجل هو الحميد: أن نعرف أن الله عزوجل هو الذي يستحق الحمد والمدح حقيقة , إذا عرفت ذلك أيضا , فإن العبد يستحي من الله تبارك وتعالى حينما يسمع المخلوقين يلهجون بحمده بحمد المخلوق! , حينما يثني عليك الناس ويمدحونك ويحمدونك على بعض أوصاف الكمال فإنك تستحي من الله عزوجل , وتعرف أن هذا الحمد من المخلوقين إنما هو نتيجة لستر الله عزوجل عليك العيوب , ولهذا لما ذكر رجل الإمام أحمد ببعض الأوصاف الحميدة , قال إنما نعيش في ستر الله عزوجل , ولو شاء لفتضحنا , فإذا أرخى الله عزوجل على العبد ستره فإنه تخفى عيوبه على المخلوقين ولربما ظهرت بعض أوصافه الجميلة لهم , وهم لا يعرفون حاله على الحقيقة , فينبغي أن تعرف بان ثناء المخلوقين إنما هو بحسب الظاهر , وأن ذلك عائد إلى أن الله عزوجل سترك فتزداد حمدا لله تبارك وتعالى , ولهذا قال بعضهم: من مدحك إنما مدح ستر الله فيك , فالشكر لمن سترك وليس الشكر لمن مدحك وشكرك.
الحمد هو أول ما افتتح به القرآن بحسب هذا الترتيب الموجود في المصحف , وهو الذي افتتحت به أعظم سورة في كتاب الله عزوجل وهي سورة الفاتحة , وهو الذي نلهج به في الصلاة وبعد الصلاة , وفي الصباح وفي المساء , وبعد الأكل والشرب , وإذا قمنا من النوم , وعند العطاس , وعند كل نجاح وتوفيق , وعند الفراغ من الأعمال, ويقوله المؤمنون عندما يدخلون الجنة فهم يحمدون الله عزوجل على ما أولاهم وأعطاهم من النعيم المقيم.
9 – الغفور:
أصل الغفر في اللغة يجمع بين معنيين اثنين:
الأول: الوقاية.
الثاني: الستر , ومنه قيل للمغفر وهو ما يضعه المقاتل فوق رأسه ليتقي منه ضرب السيوف والحديد.
وهذا المغفر يفيد المقاتل بشيئين اثنين:
الشيء الأول: أنه يستر رأسه , والشي الثاني: أنه يقيه الضربات.(1/121)
فالغفر يجمع بين الوقاية ويجمع بين الستر , فأنت إذا قلت ربي اغفر لي فأنت تسأل ربك أن يستر عليك الذنب والعيب , فلا تفتضح في الدنيا ولا في الآخرة , والأمر الثاني هو أنه يقيك شؤم هذه الذنوب والمعاصي فلا تؤاخذ فيها في الدنيا ولا في الآخرة.
وكلام العلماء في تفسير العلماء لا يكاد يخرج عما ذكر والله أعلم.
فإذا غفر الله عزوجل ذنوب عبد , فهذا يعني أنه يستر وأنه تجاوز عنه فلم يؤاخذه بهذه الجرائر وبهذه الجرائم والذنوب والمعاصي .
فالله عزوجل هو الغفور الذي أظهر الجميل وستر القبيح في الدنيا , وتجاوز عن عقوبته في الآخرة , وستر عبده في ذلك الموقف العظيم , فلم يفضحه بين الخلائق.
فهو الذي يغفر الذنوب وإن كانت كبارا , ويسترها وإن كانت كثيرة , فالله عزوجل ربنا غفور يستر عباده ويتجاوز عن ذنوبهم وسيئاتهم.
هذا الاسم الكريم الغفور فيه معنى المبالغة , أي أنه كثير الغفران.
الأسماء التي ترجع لمعناه: الغافر والغفار.
وقد وردت هذه الأسماء الكريمة مضافة إلى الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم:
فالغفور جاء في أكثر من تسعين موضعا في كتاب الله عزوجل , وهذا له معنى نقف عنده إن شاء لله في الكلام على الآثار المترتبة على الإيمان بهذا الاسم الكريم.
أما الغفار فقد جاء في خمس آيات , جاء مفردا مرتين , وجاء مقترنا بالعزيز ثلاث مرات.
وأما الغافر فلم يرد إلا في موضع واحد ,في قوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ).
جاء اسم الله الغفور مفردا في موضعين في كتاب الله تبارك وتعالى.
الملازمة بين اسم الله الغفور والرحيم:(1/122)
اسم الله الغفور الذي ورد هذا الورود الكثير في كتاب الله عزوجل إذا تأملت في كتابه وجدت أنه يقترن غالبا باسم الله الرحيم , فيقرن الله عزوجل بين هذين الاسمين , والغالب أن الله يقدم الغفور على الرحيم , وقد ورد في موضع واحد تقديم الرحيم على الغفور لمعنى أشار إليه ابن القيم رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد وذلك في سورة سبأ , فقد جاء في اثنتين وسبعين مرة الاقتران بين الغفور والرحيم , ولا شك أن الملازمة شديدة بين هذين الاسمين , ولذلك كثر الاقتران بينهما , لأن الله عزوجل من رحمته أنه يغفر ذنوب المذنبين , فيتجاوز عنها ويستر على أصحابها فلا يفتضحون , فالمغفرة أمر لازم للرحمة لأن المغفرة إنما تكون بسبب رحمة الله تبارك وتعالى بخلقه وعباه.
فهو حينما يوفقهم للتوبة , فهذا من رحمته بهم , وحينما يتقبل منهم هذه التوبة فهذه من رحمته بهم , وحينما يغفر لهم هذه الذنوب التي تابوا منها فهذه من رحمته بهم , وحينما يغفر لهم ابتداءا من غير توبة تابوا بها عن سيئاتهم فإن ذلك من رحمته جل جلاله.
وفي موضع واحد قرن الله عزوجل بين اسمه الغفور وبين صفة الرحمة حيث قال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) , فلم يقل الغفور الرحيم.
الاقتران بين اسم الله الغفور واسم الله الحليم:(1/123)
جاء اسم الله الغفور مقترنا باسم الله الحليم ست مرات , ووجه هذا الاقتران لا يخفى إذ أن معنى الحليم أي أنه لا يعاجل بالعقوبة , فمع كثرة ذنوب المذنبين , فالله عزوجل يمهلهم علهم أن يتوبوا , ويرجعوا عما هم فيه من غي وباطل وكفر ومعصية لله تبارك وتعالى , ثم إن الله عزوجل من حلمه أنه أيضا يغفر لهم فلا يؤاخذهم بهذه الذنوب إذا شاء واقتضت حكمته ذلك , لأن الله تبارك وتعالى أخبر أنه يغفر الذنوب جميعا بعد الإشراك بالله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) , فالله لا يعاجلنا بالعقوبة على كثرة الإساءة والتقصير , ومع ذلك الله عزوجل يغفر لنا تقصيرنا ويغفر لنا ذنوبنا , ومن هنا جاء الاقتران بين الغفور والحليم.
الاقتران بين اسم الله الغفور واسم الله العفو:
ووجه هذا الاقتران ظاهر , وذلك أن العفو في احسن المعاني التي فسر بها والله تعالى أعلم هو الذي يمحو أثر الذنب فلا يبقى له أثر , كما تقول محت الريح الأثر أي لم تبقي له شيئا البتة , فلا يجد العبد هذه الذنوب في صحيفته في الآخرة فيستحي من ربه , وإنما يذهب ذلك جميعا ويمحوه من صحائف أعماله , هذا العفو , والغفور هو الذي يقيه شؤمها وتبعتها والمؤاخذة بها ويستر ذلك عليه جميعا .
الاقتران بين اسم الله الغفور واسم الله العزيز:(1/124)
جاء اسم الله الغفور مقترنا باسم الله العزيز في موضعين اثنين , وجه المناسبة بين العزيز وبين الغفور , أن الله صدرت عنه هذه المغفرة لهذه الذنوب عن عزة , وليس عن ضعف ولا عن خوف ولا عن عجز من المؤاخذة , وإنما الخلق نواصيهم بيده , فهو قادر على أخذهم في أي ساعة شاء من ليلة أو نهار , لا يخرجون عن إرادته سبحانه وعن سلطانه , فالله تبارك وتعالى حينما يغفر لنا الذنوب يغفر عن عزة , وليس عن ضعف وعجز , والمخلوق قد يغفر ويتجاوز عن ضعف وعن عجز عن أخذ ثأره والاقتصاص ممن أساء إليه , أما الله عزوجل فإنه يغفر مع عزته وقدرته على الأخذ لهذا العبد الذي أجرم في حقه.
وكذلك يقال في وجه الاقتران بين اسم الله الغفار والعزيز مثل ما قيل بين الغفور والعزيز.
الاقتران بين اسم الله الغفور واسم الله الشكور:(1/125)
جاء اسم الله الغفور مقترنا باسم الله الشكور في ثلاثة مواضع , ووجه هذا الاقتران والله تعالى أعلم , أن الغفور كما عرفنا هو الذي يقي العبد شؤم الذنب فلا يؤاخذه به , كما أنه يستره , أما الشكور فهو الذي يجازي عن الحسنات إحسانا , فيجازي هذا العبد بإيمانه وبعمله الصالح وبتوبته يجازيه الحسنات , وهو أحد الوجوه المشهورة أيضا في تفسير قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) , فعلى أحد الأوجه المشهورة في معناها أن هذه السيئات تقلب إلى حسنات فتتحول في ميزان العبد وفي صحيفته إلى حسنات تكون في رصيد عمله الصالح , فعلى هذا المعنى يكون هذا داخلا في معنى الشكور , لأن الشكور هو الذي يجازي عن الإحسان إحسانا , وهو الذي يكافئ العبد ويرد له عمله الصالح بالثواب الجزيل , قم إنه يضاعف ذلك , ولذلك يقول الله عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) , فدل هذا على أن جزاء الإيمان غفران الذنوب وإدخال الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
الاقتران بين اسم الله الغفور واسم الله الودود:(1/126)
جاء اسم الله الغفور مقترنا باسم الله الودود مرة واحدة , والودود هو الذي يحب عباده المؤمنين , وهو الذي يُحب أيضا فهو دال على المعنيين , والمودة هي خالص المحبة , فهي محبة خاصة , فالودود والغفور وجه الاقتران بينهما ما عبر عنه ابن القيم بقوله: وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور , فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه , ولذلك قد يرحم من لا يحب , والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب عليه ويرحمه ويحبه مع ذلك , فإنه يحب التوابين , وإذا تاب إليه عبده أحبه ولو كان منه ما كان , فإذا الله غفور ودود يغفر لنا ويحبنا أيضا مع غفره وعفوه وتجاوزه عن سيئاتنا , فهو غفر مع المحبة للعبد.
يقول الخطابي رحمه الله: الغفار الستار لذنوب عباده , والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته .. الخ.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: العفور الغفور الغفار الذي لم يزل ولم يزال بالعفور معروفا , وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا , كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته , كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه , وقد وعد بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها , قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) .
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهو الغفور فلو أتى بقرابها ** من غير شرك بل من العصيان
لأتاه بالغفران من أقرابها ** سبحانه هو واسع الغفران
يعني لو أن العبد جاء بقراب الأرض من الخطايا دون الشكر , فإن الله عزوجل ياتيه ب قرابها من المغفرة.
اسم الله عزوجل العفو:
وهو مما يقرب من اسم الله الغفور من جهة المعنى , والعفو صيغة مبالغة أي كثير العفو , تقول عفوت عن الشيء أعفو عنه إذا تركته , وأعفى عن ذنبه إذا ترك العقوبة عليه.(1/127)
وأصل العفو أنه يدل على المحو , ومنه يقال عفت آثار القوم أي محت وانطمست , وعفت آثار الأقدام والخطى بمعنى انمحت إذا محتها الريح , ويقال عفا على هؤلاء الزمن أي أنه محى آثارهم ول يبق لهم ذكرا فصاروا نسيا منسيا.
هذا الاسم الكريم الذي يعني بالنسبة لله عزوجل أنه كثير العفو , كما قال ابن جرير رحمه الله بقوله: إن الله لم يزل عفوا عن ذنوب عباده , وتركه العقوبة على كثر منها ما لم يشركوا به , وكما قال الخطابي فيما معناه: هو من العفور وهو بناء المبالغة والعفو الصفح عن الذنوب وترك مجازاة المسيء .
ويقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهو العفو فعفوه وسع الورى ** لولاه غار الأرض بالسكان
أي لخسف بهم ودخلوا في جوفها.
الفرق بين العفو والغفور:
ذكر العلماء فيه وجوها وأقربها فيما أحسب والله أعلم , أن يقال بأن العفو هو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي , وهو أبلغ بهذا الاعتبار من الغفور , لأن الغفران يدل على الستر , وعلى عدم المؤاخذة بهذا الذنب , وأما العفو فهو يعني أن يمحى الذنب بالكلية , بحيث إن العبد لا يجده أصلا في سيئات أعماله , ولا يعرض عليه في حال الحساب حينما يحاسبه الله تبارك وتعالى , فلا يجد ذلك ضمن الذنوب التي غفر الله عزوجل لها كما يقول: ( سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) , فهذا فيما غفره الله تبارك وتعالى من ذنوب العباد , وأما ما عفي عنه فقد محي بالكلية , ولهذا قلنا بأن الغفور هو الذي يستر ذنوب العباد ولا يؤاخذهم بهذه الجرائم , أي لا يعاقبهم عليها.
ورد هذا الاسم الكريم العفو في خمس آيات في القرآن الكريم كما قال عزوجل:
(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ) سورة النساء , في ذكر التيمم , وقرنه هنا كما في سائر المواضع إلا في موضع واحد قرنه مع الغفور , لتقاربهما فالله يمحو أثر الذنب ويقي العبد شؤمه فلا يؤاخذ العبد عليه.(1/128)
(فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ).
(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ).
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنْ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) , وقد استنبط من ذلك ابن القيم رحمه الله أن الظهار شيء محرم , لأن الله عقبه بتعقيبات منها هذا التعقيب , أي أن العفو والغفر يكون عن الذنب.
(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً )
وجه الارتباط بين العفو والقدير:
ذلك أن عفو الله عزوجل ليس من عجز وضعف وخوف من المخلوق , وإنما الله تبارك وتعالى له تمام القدرة أن يأخذ العبد بجنايته , وأن يعاقبه بما يشاء ويهتك ستره , إلا أن الله يمحو أثر الذنب بالكلية مع قدرته ولهذا قال: (كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ) , فهو عفو مع قدرته , وهذا هو غابة الكمال , لأن العفو من غير قدرة لا يكون كمالا , إنما يكون عجزا , ولا يمدح فيه الإنسان إطلاقا , وإنما العفو مع القدرة هو الكمال الذي يزداد العبد به عزا , أما حينما يكون العبد عاجزا عن الانتقام والاقتصاص من ظلمه ثم يقول عفوت عنك , فهذا لا يرتفع به العبد ولا يمدح به , وإنما يدل على ضعفه وعجزه وخوَره , كما قال الشاعر:
يهجو قبيلته قُبيلة لا يقدرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة خردل
فهو في ظاهره كأنه يمدحهم , والواقع أنه يذمهم بالعجز , لأن العزة عندهم في جاهليتهم , أن من لم يظلم ظلم , وأن لم يعتدي اعتدي عليه , ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهّدم , ومن لا يظلم الناس يُظلم.
إذا عرف المسلم أن ربه تبارك وتعالى من أسمائه الغفور والغفار والغافر والعفو فينبغي:(1/129)
أن يعلم أن هذه الأسماء تتضمن أوصافا , فالغفور والغفار والغافر كل ذلك يتضمن صفة المغفرة , فنحن نثبتها لله عزوجل على ما يليق بجلاله وعظمته , ومغفرة الله مغفرة واسعة عظيمة على كثرة الخلق وعلى كثرة ذنوبهم وتفاوتها , ومع ذلك فغن مغفرته تبارك وتعالى واسعة , يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه وأناب إليه , وقد يغفر الله تبارك وتعالى ابتداءا من غير توبة , تفضلا منه جل جلاله , واسم الله تبارك وتعالى الغفور والغفار كل ذلك مبني على المبالغة أي لكثرة مغفرته سبحانه وتعالى , دل على ذلك قوله تبارك وتعالى في سورة الزمر: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) , وقوله في النساء: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ) , فمهما عظمت ذنوب الإنسان فإن ذلك لا يتعاظم على الله عزوجل أن يغفر له هذه الذنوب كما قال تبارك وتعالى: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) , وقد تكفل لمن آمن به وتاب إليه وأناب أن يغفر له الذنوب وإن كانت غاية في العظم كما قال عزوجل: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) , بل أعظم من ذلك وعد التائبين أن يبدل هذه السيئات التي اقترفوها أن يبدلها حسنات وذلك في قوله عن التائبين: (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) , ومما يدل على سعة مغفرته أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج الترمذي وأبو داوود بإسناد صحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قال استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف ) , ومما يدل(1/130)
على سعة مغفرته أيضا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله عزوجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد , ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها أو أغفر , ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا , ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا , ومن أتاني يمشي أتيته هرولة , ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشكر بي شيئا , لقيته بمثله مغفرة ) , ومعنى قراب الأرض أي ما يقارب ملأها , ومما يدل أيضا على هذا المعنى ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عني النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه تعالى قال: ( أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي , فقال الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب , ثم عاد فأذنب فقال أي ربي اغفر لي ذنبي , فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب , ثم عاد فأذنب فقال أي ربي اغفر لي ذنبي , فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب , قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء ) أخرجه البخاري ومسلم.(1/131)
ومعنى ذلك أن هذا الإنسان يذنب الذنوب ثم يتوب توبة صحيحة بشروطها , ثم بعد ذلك يرجع إلى الذنب ولا يقصد الإصرار , وحينما تاب إلى الله عزوجل , لم يكن يتوب إلى الله جل وعلا بلسانه فقط , بل تاب مع عزمه على أن لا يعود مع وقوع الندم في قلبه , فغفر الله له , ومن تاب مستجمعا لهذه الشروط فإن الله يقبل توبته وهي توبة صحيحة , فإن غلبه نفسه أو شيطانه أو هواه فعمل الذنب ثانية ثم تاب هذه التوبة غفر الله له , ولهذا فإن الشيطان يأتي لكثير من الجهلة الذين يفعلون الذنب ثم يتوبون توبة صحيحة , ثم يفعلونه ثانية وثالثة ورابعة ولم يقصدوا الإصرار , يأتيهم فيقول أنتم تستهزئون بالله عزوجل حينما تتوبون هذه التوبة , فيأيسهم من رحمة الله عزوجل ومن ثم يغريهم بترك التوبة , والاستمرار على هذه الذنوب , ولو كان ناصحا لنصحهم بترك ذلك أجمع , وأن لا يعودا إليه ثانية , ولكنه ينصحه بترك التوبة ويغريهم بالاستمرار على الذنب , ولا شك أن هذا جهل من العبد.(1/132)
وأيضا مما يدل على ذلك ما رواه أبو هريرة في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم , وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم ) وذلك تحقيقا لمقتضى هذه الصفة وهي المغفرة , وأيضا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب الأنصاري انه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) , ومما يدل على ذلك أيضا حديث ابن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه فيقول أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول ربي أعرف , قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم , فيعطى صحيفة حسناته ) أخرجه البخاري ومسلم , وكذلك حديث أنس بن مالك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي , يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك , يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا , ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) أخرجه الترمذي وهو حديث صحيح.
أن يعلم أن التوبة أمر لا بد منه , وأنه تبارك وتعالى أخبرنا عن مغفرته وعفوه للأوابين كما قال: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ) , وهم الذين يكثرون التوبة والرجوع إلى الله تبارك وتعالى بعد الزلة , ويقول جل وعلا: (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) , ويقول جل وعلا: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ) .(1/133)
كما أن العبد لا ييأس من رحمة الله عزوجل ومغفرته كما قال: (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ) , فكذلك هو أيضا لا يأمن من مكر الله عزوجل كما قال: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) , وقد أخبرنا الله عزوجل في مواضع من كتابه جمع فيها بين العذاب وبين المغفرة الواسعة كما قال: ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) , وقال: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) , وقال: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) , وقال: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ) , فالآيات التي تجمع بين الخوف والرجاء كثيرة في كتاب الله عزوجل , ومما يدل على هذا المعنى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد , ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته ) , وأخرج البخاري من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله , والنار مثل ذلك ) , فالجنة قريبة المنال والنار أيضا قريبة المنال نسأل الله لنا ولكم منها العافية , فينبغي للعبد أن يشمر في طاعة الله , وإذا حصلت له الزلة يستشعر سعة مغفرته تبارك وتعالى , فينيب إليه ولا ييأس من رحمته ولا يقنط , وإنما يبادر إلى التوبة الصادقة النصوح , ولا تحمله هذه النصوص الدالة على سعة عفو الله ومغفرته على الأمن من مكر الله جل جلاله.(1/134)
ومما تؤثره هذه الأسماء أيضا أن تعلم أن الله تبارك وتعالى متفضل على عباده بهذا العفو وبهذه المغفرة , لأن الله عزوجل غني عن العبادة كل الغنى , فهو ليس بمفتقر إليهم بأي لون من ألوان الافتقار , كما أنه ليس بعاجز عن مؤاخذتهم ومعاقبتهم , فإنما هو يعفو عنهم ويغفر لهم فضلا منه تبارك وتعالى وإحسانا , ولهذا جمع الله بين العزيز وبين الغفور.
إذا كان أشرف الخلق وأطوع الخلق لله تبارك وتعالى هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وهم أقرب الخلق إلى ربهم ومليكهم ومولاهم , إذا كانوا هم أقرب الخلق هم مع ذلك يستغفرون الله عزوجل , فهذا آدم عليه الصلاة والسلام حينما أكل من الشجرة وأكلت زوجه حواء : (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) .
وهذا نوح عليه الصلاة والسلام حينما سأل ربه نجاة ابنه فعاتبه الله عزوجل على ذلك وقال له: (فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ) أناب إلى ربه تبارك وتعالى واستغفره فقال: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِين) , ويقول نوح عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) .(1/135)
وهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) , وهذا موسى صلى الله عليه وسلم يقول: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) , ويقول بعدما قتل القبطي: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) , وهذا داوود عليه الصلاة والسلام قال الله عنه: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) , وهذا سليمان عليه الصلاة والسلام آتاه الله الملك والنبوة: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ).(1/136)
وخاتم الرسل وأفضل الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله له: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ) , فأمره بالاستغفار فكان يلهج به دائما امتثالا لأمر الله تبارك وتعالى , كما أخرج الشيخان عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري , وما أنت أعلم به مني , اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي , اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت , وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني , أنت إلهي لا إله إلا أنت ) , وكذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا ويقول: ( سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) , وأيضا أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث ألغر المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) , وجاء أيضا من حديث أبي هريرة المخرج في الصحيح أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) , وأخرج أبو داوود والترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنها أنه قال: ( إن كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ) .(1/137)
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أعطاه الله عزوجل مع ما تقدم من ذنبه وما تأخر يكثر من هذا الاستغفار , فنحن من باب أولى أن نتقرب إلى الله بذلك , وأن نطلب من الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا الذنوب والخطايا , وقد أثنى الله عزوجل على المستغفرين فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) , وسيد الاستغفار هو ما أرشدنا عليه صلى الله عليه وسلم كما في حديث شداد بن أوس المخرج في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: ( سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت , خلقتني وأنا عبدك , وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت , أعوذ بك من شر ما صنعت , أبو لك بنعمتك علي , وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلى أنت ) يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة , ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة ) .(1/138)
ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه بعد حادثة الإفك , وكان ممن خاض فيها مصطح وهو قريب إلى أبو بكر رضي الله عنه وكان رجلا من المهاجرين قليل ذات اليد فكان أبو بكر ينفق عليه , فلما خاض في الإفك ووقع في عرض عائشة رضي الله عنها , أقسم أبو بكر رضي الله عنه ألا يصله , فأنزل الله عزوجل : (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يأتلِ بمعنى يحلف , وهناك قول آخر مشهور وهو ولا يأتل أي لا يمتنع , وهما قولان متلازمان والآية تحمل عليهما , وأولوا الفضل المراد به هنا أصحاب المنازل والشرف والرفعة عن الدنايا , يعني أشراف الناس وفضلاء الناس وخيار الناس , لأنه سبحانه ذكر بعده السعة وهي السعة في الغنى والمال , فإذا غفرت لإخوانك غفر الله لك , ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه بعدما سمع هذه الآية : بلا والله إني لأحب أن يغفر الله لي , ثم أجرى عليه النفقة وكفر عن يمينه , والله يقول: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) , ويقول سبحانه: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) , ويقول مخاطبا للنبي صلى الله عليه وسلم: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) , ويقول: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ) , وكذا قال: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري في كتابه الأدب المفرد أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ارحموا ترحموا , واغفروا يغفر لكم ) , ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله(1/139)
عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نقصت صدقة من مال , وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا , وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ).
- ينبغي على العبد كما أنه يسأل ربه المغفرة , أن يسأله العفو دائما , وقد جاء عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أنه أمر رجلا إذا أخذ مضجعه قال: ( اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها , لك مماتها ومحياها , إن أحييتها فاحفظها , وإن أمتها فاغفر لها , اللهم إني أسألك العافية ) , فقال له رجل: اسمعت هذا من عمر؟ , فقال: من خير من عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم , أخرجه مسلم في صحيحه , وجاء أيضا من حديث عبدالله بن عمر ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هذه الدعوات حين يصبح ويمسي: اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي , اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي , وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي , وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ) , وكان يستعيذ بعفو الله تعالى من عقوبته وعذابه , كما جاء ذلك في دعائه في صلاة الليل: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) أخرجه مسلم في صحيحه , وسأله رجل فقال يا رسول الله كيف أقول حينما أسأل ربي؟ , قال: ( اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك ) أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه.
10- القدير:
هذا الاسم يقرب منه في المعنى بل يتفق معه في أصل المعنى اسمان كريمان وهما: القادر والمقتدر وكلها من أسماء الله عزوجل.
أصل هذه الأسماء الثلاثة ( القدير – القادر – المقتدر ) يدور على معنى القوة.
القدر والقدرة والمقدار كل ذلك يقال للقوة.
الفرق بين هذه الأسماء الثلاثة:(1/140)
قال بعض أهل العلم إن القدير أبلغ في الوصف بالقدرة من القادر , لأن القدير على زنة فعيل وهي من صيغ المبالغة , والمقتدر أبلغ من القادر لأن هذا البناء فيه زيادة , ومعلوم أن الزيادة في بناء الكلمة تدل على الزيادة في المعنى , فالمقتدر يدل على مزيد من القدرة , والله أعلم.
وردت هذه الأسماء الثلاثة جميعا في كتاب الله عزوجل.
أما القادر فقد ورد في اثنتي عشرة مرة , خمس منها بصيغة الجمع , فمن ذلك قوله تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) , وكما جاء أيضا في قوله: (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) , بصيغة الجمع وهذا الجمع إنما هو للتعظيم كما هو معلوم , وفي قوله أيضا: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) , وفي قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ).(1/141)
أما اسم الله القدير فقد ورد نحوا من خمس وأربعين مرة في القرآن , فمن ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , وكما في قوله: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , وفي قوله سبحانه: (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ) , وكما في قوله: (وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , وقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
أما المقتدر فقد ورد أربع مرات في كتاب الله عزوجل ,. وذلك في قوله في سورة الكهف : (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) , وكما قال في سورة الزخرف: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) , وكما في قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) , وكما في قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ).
مما يدل على عظم هذه القدرة وأنها كاملة وأن الله عزوجل لا يتعاصى عليه شيء ما ذكره الله في كتابه من آيات كثيرة مما يلفت الأنظار إلى عظم قدرة الله تبارك وتعالى , بالإضافة إلى ما نشاهده في هذا الكون العريض الواسع من المخلوقات والتقلبات والأمور الكائنة الكثيرة التي تدل على قدرة شاملة وعلى قدرة كاملة لا يتعاصى على صاحبها شيء من الأشياء.(1/142)
فمن كمالها أن الله تبارك وتعالى يستوي عنده هذا الإيجاد العجيب , الذي فاوت فيه بين هذه الصور وهذه المخلوقات هذا التفاوت الكبير , يستوي عنده إيجاد هذا الخلق بهذا التفاوت مع إعادته مرة ثانية بعد ما يبلى ويتحلل ويصير ترابا! , كل ذلك يستوي عند الله تبارك وتعالى كما قال سبحانه: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) , ولهذا يقول الله عزوجل مبديا هذه القدرة العجيبة: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) أي أن الإعادة هينة سهلة عليه , ومعلوم أن الله عزوجل يستوي في حقه هذا وهذا , فليست الإعادة أسهل بالنسبة لله عزوجل من الابتداء لأن هذا كله سهل على الله عزوجل , ولكن المقصود أن ذلك جميعا هين عليه تبارك وتعالى .
ومن آثار هذه القدرة العجيبة , أنك ترى الأرض هامدة ميتة لا نبات فيها ولا حياة , فإذا أنزل الله عزوجل عليها الماء كما أخبر , فإنها تحيى وتربوا , ثم بعد ذلك تظهر زينتها وتكتسي حلتها بألوان النباتات , والزهور تخرج الأشجار ذوت الثمار من ذوات الطعوم المتفاوتة والألوان المختلفة , مع أن ذلك يسقى جميعا بماء واحد , فكيف تفاوتت هذه المخرجات؟ , وإذا كان الإنسان يضع البذور المختلفة , فكيف تفاوتت هذه النباتات التي تخرج في البرية من غير وضع الإنسان , ومن غير عمله كما لا يخفى! , هذا التفاوت يدل على قدرة رهيبة عجيبة , يقلب الله عزوجل فيها الخلق كما يشاء وكما يريد.(1/143)
ومن آثار هذه القدرة العجيبة ما أوقعه بالظالمين المجرمين , الذين كذبوا الرسل عليهم الصلاة والسلام , وحاربوا أولياءه وناصبوهم العداوة , فهم مع ما هم فيه من التمكين والقوى والملكات مع ذلك فإن الله عزوجل دمرهم تدميرا , فصاروا خبرا بعد عين , فلم تغني عنهم قوتهم ولا صناعاتهم ولا إمكانياتهم ولا احتياطاتهم الأمنية , ولا غير ذلك مما يسعون فيه لحفظ بقائهم ووجودهم ومكتسباتهم , فقوم دمرهم بالكلية لم يبق منهم شيء , وقوم أبقى الله عزوجل منهم بقايا , وقوم أبقاهم الله تبارك وتعالى وأخذ طرفا منهم , ليروا خلقهم أن الخلق مهما تعاظمت قوتهم , ومهما امتدت إمكاناتهم , ومهما تطاولوا , ومهما أوهموا البشر أنهم يسيطرون ويقدرون أعلمهم الله عزوجل أن يده فوق أيديهم , وأنه تبارك وتعالى آخذ بنواصيهم , وأنهم لا يخرجون عن قدرته وعن إرادته شيئا , فإذا جاء أمر الله عزوجل فلا تنفع الاحتياطات ولا تنفع الإمكانات ولا تنفع القوى ولا تنفع البارجات ولا تنفع الطائرات ولا تنفع القواعد العسكرية , ولا ينفع شيء من هذه الأشياء , إذا جاء أمر الله عزوجل فلا راد له , والله عزوجل يلفت أنظارنا إلى هذا المعنى بقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً).
ومن آثار هذه القدرة التي نشاهدها , أن الله ينصر أولياءه وإن كانوا قلة , وعلى أعدائه وإن كانوا كثرة ممكنين في الأرض , كما قال الله عزوجل: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ).
ومن آثار هذه القدرة ما يحدثه الله عزوجل لأهل الجنة من ألوان النعيم الذي يتقلبون فيه ولا انقطاع له ولا زوال.(1/144)
ومن آثارها ما يوجده الله عزوجل للمكذبين من ألوان النكال والجحيم في الآخرة , والعذاب في النار الذي لا ينقطع ولا يزول بحال من الأحوال.
ومن آثار قدرة الله عزوجل , في سورة سبح اسم ربك الأعلى حيث قال الله عزوجل: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ).
وكذلك في قوله في سورة الغاشية: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ )
ومن ذلك ما قاله في سورة الأنعام: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ).(1/145)
ومن ذلك أيضا ما ذكره في هذه السورة العظيمة : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ).(1/146)
ومن هذه القدرة الباهرة العجيبة أنه تبارك وتعالى يحي الأموات بعد أن صاروا ترابا كما قال الله عزوجل: (أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , والآيات الدالة على هذا المعنى في كتاب الله عزوجل كثيرة , وقد قص الله عزوجل علينا خبر ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قد بلت واندفنت وانمحت آثارها ومات أهلها فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ), فطعامه وشرابه لم يتغير مع طول هذه المدة , أما بدنه فقد صار ترابا , وكذلك حماره , فأراه الله عزوجل كيف يكون هذه الأشياء وكيف أعادها مرة ثانية إلى حالها الأول , فلما رأى ذلك قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , بل إن الله عزوجل قد ذكر لهذا الإنسان الذي لربما يكذب بالبعث أو يتشكك به قال: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) , فالبنان آية من آيات الله عزوجل , وقد جعله الله عزوجل مشدودا بالأظفار , وجعله في هذا الإحكام الذي نراه ونشاهده , فهو من أدق الأشياء التي في بدن الإنسان , فيستطيع الإنسان أن يأخذ به الأشياء الدقيقة , وأن يصنع الصناعات الدقيقة بهذا البنان , ثم إن الله عزوجل قد جعل في رؤوس هذه الأصابع قد جعل فيها خطوط دقيقة , يتميز فيها كل إنسان عن الآخر , فلا يشتبه في ذلك(1/147)
بصمتان البتة , وقد أحسن من قال:
وأعجب شيء بهن الخطوط ** فما اتحدت في الورى بصمتان
وطبقة إبهامنا ختمنا ** يميزنا ما توالى الزمان
أناملنا من بديع الفنون ** يقصر عن وصفهن البيان
ومما ذكره الله عزوجل لنا في قدرة على إحياء الموتى , ما قصه عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) فقال الله عزوجل له: (الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) , فإبراهيم عليه السلام كان كامل الإيمان , ولكنه أراد أن يرتقي من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين , فيشاهد إحياء الموتى بعينه , فقال له الله : (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).(1/148)
الإنسان عنده قدرة كما قال الله عزوجل: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) في المحاربين , فالمخلوق يوصف بالقدرة , ولكن قدرة المخلوق شتان بينها وبين قدرة الخالق , فهي مسبوقة بالعجز , انظر إلى الإنسان حينما يخرج من بطن أمه , هو قطعة من اللحم تتحرك , لا يدفع عن نفسه قليلا ولا كثيرا , لو تُرك هلك , ثم إن الله عزوجل ينقله من طور إلى طور حتى يقوى ويشتد , ثم يظن في نفسه أنه يملك قوة وقدرة هائلة , والواقع أن الله عزوجل هو الذي أقدره على ذلك , فقدرة المخلوق إنما هي بما أعطاه الله عزوجل , وليست قدرة مستقلة عن إرادة الله تبارك وتعالى , إنما قدرته لأن الله أقدره , وأما القادر فهو على كشيء قدير , فقدرته وصف ذاتي له لم يكتسب ذلك من أحد , وليس هو ليكون قادرا ليس بحاجة إلى أحد , أما المخلوق فهو مهما عظم قدره وملكه وسلطانه , فإنه لا يستطيع أن ينفذ كثيرا مما أراد أن ينفذه إلا بالأعوان والمستشارين والخبراء والمنفذين وما شابه ذلك , أما الله عزوجل فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون , ثم إن قدرة هذا المخلوق الضعيف أنا وأنت , قدرتنا محدودة , نقدر على بعض الأشياء بعض القدرة , ونعجز عن كثير من الأشياء , ولو أن الواحد منا وكل إليه بعض المهمات في جسده , لو قيل له فقط عليك أن تنفخ في هذه الرئة فهي موكولة إليك , لنفخ فيها ساعة أو ساعتين ثم أعياه التعب والعجز وصار في حالة يرثى له , ثم ترك ذلك كله وهلك , لا يستطيع فكيف ينام وقد وكل إليه نفسه , هذه الرئة فقط , كيف لو كل إليه شيء آخر كجريان الدم أو هضم الطعام أو نحو ذلك مما يجريه الله عزوجل في بدنك أيها الإنسان .(1/149)
ثم أيضا هذه القدرة التي توجد عندك في بعض الأحيان تنزع منك فلا تستطيع أحيانا أن تحرك يدك إلى شيء بجانبك , فأنت بحاجة إلى من يعطيك هذا الشيء وإلى من يناول إليك هذا المطلوب وهذا شيء مشاهد , فالإنسان ضعيف مسكين عاجز فقير ينبغي أن يعرف قدر نفسه , فقدرته إنما هي بإقدار الله عزوجل , وهي قدرة محدودة ثم تنزع منه بعد ذلك , (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).
جاءني أحد الإخوان ونحسبه من أهل الخير والصلاح , سمع الكلام مرة على بعض الأسماء الحسنى , قال كنت أقرأ في تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله , في قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) , يقول فقلت في نفسي وتكلمت به , اللهم إن كنت تسمعني في هذه الساعة فاكسر يدي هذه يقول ونظرت إلى مكان فيها , يقول وما مضى سوى وقت يسير حتى كسرت , وأراني مكانها قد خيط ذلك أجمع , ولولا ثقتي بهذا الرجل ومعرفتي به ما حدثتكم بهذا , مع أن الله على كل شيء قدير , ولكن هذا مما يظهره الله عزوجل لخلقه وعباده من قدرته جل جلاله , فقلت له هلا قلت إن كنت تسمعني فاغفر لي وأصلح لي شأني كله .(1/150)
من عرف أن الله عزوجل على كل شيء قدير , فإنه يتوكل عليه ويفوض أموره جميعا إليه , فيركن إلى جنابه ولا يلتفت يمنة ولا يسره , لأن مقاليد الأمور بيده ولا يتعاصى عليه شيء , ولهذا لما ألقي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار قال حسبي الله ونعم الوكيل , فأنجاه الله عزوجل من النار وقلبها بردا وسلاما عليه , وكذلك هود عليه الصلاة والسلام حينما دعا قومه إلى الله تبارك وتعالى , وكذبوه وردوا دعوته , وقالوا له (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) , فلما قال له ذلك بين لهم كفره بآلهتهم ومعبوداتهم وأنه متوكل على الله عزوجل , الذي هو ربه وربهم , الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , ثم قال لهم متحديا: (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) قال لهم هذا القول لعظم ثقته بالله تبارك وتعالى , وأنه قادر على كل شيء , فماذا كانت النتيجة , كانت أن أهلكهم الله عزوجل الهلاك المستأصل وأنجى الله عزوجل هودا والذين آمنوا معه , وهكذا وقع لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام الذين أنجاهم الله عزوجل من عذاب أحدق بهؤلاء الكافرين المكذبين , وهكذا وقع لموسى صلى الله عليه وسلم حينما أراد فرعون أن يقتله , ففرعون يقول: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) وأبدى له تخوفه على دين الناس ومبادئهم وأخلاقياتهم , فموسى عليه السلام في نظر فرعون هو المفسد , فقال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) , وموسى صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله عزوجل من كيده ومن مكره ومن كفره , وقد قص الله عزوجل علينا خبر ذلك المؤمن الذي جاء ينصح فرعون وقومه , ويقول(1/151)
لهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) , إلى أن قال : (لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) , ( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب ِ ) إلى أن قال الله عزوجل: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) , فالله عزوجل كما قال عن نفسه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ) , وقال: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) .(1/152)
ومن كان بهذه المثابة فإذا عرفه العبد معرفة صحيحة , فإنه لا ييئس من رحمته فيرفع ما به من ضر , فيكشف عنه المصاب , ويرفع عنه البأس , وكثير من الناس إذا نزلت بهم بعض الأوجاع التي لا يرجون لها برءا يئسوا من رحمة الله عزوجل وقنطوا , فالله عزوجل قادر على أن يبدل هذا المرض بالعافية , وهذا الألم بالراحة , وهذا السهر بأن ينام العبد قرير العين , ولربما ابتلي العبد بولد عاق لا يخاف الله عزوجل فيه ولا يراقبه في هذا الوالد , قم ييئس من هداية هذا الولد , وما علم أن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء , فكيف ييئس العبد أيها الإخوان وربه على كل شيء قدير , فإذا نزل به الضر فينبغي أن يلجأ إليه , وإذا ابتلي بولده فينبغي أن يلجأ إليه , وإذا ابتلي بتسلط عدوه عليه فإن الله قادر على تحويل هذه الهزيمة إلى نصر , وإلى تحويل قوة هذا العدو الضاربة إلى ضعف وانكسار وهزيمة , فالله عزوجل أخبرنا عن أمم مكنه في الأرض على مر التاريخ أهلكها وأبادها وصارت خبرا بعد عين , الله عزوجل يخبرنا عن قوم سبأ وما كان لهم من التمكين في الأرض وما كان لهم من الجنان وطيبة الهواء وكثرة المياة ووفرة الثمار , قال عزوجل: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) , فلما أعرضوا وكفروا بالله عزوجل بدلهم من هذا الإنعام إلى بلدة غبراء ليس فيها سوى الإثل والأكل الخمط وهو الشجر الذي يكون ثمره مرا وله شوك , ثم بعد ذلك سدر قليل لأن هذا السدر إن كان مما يؤكل وهو السدر الذي ينبت على المياه , فهذا شيء يأكلون منه ثمرة قليلة من شجرة ذات شوك , وإن كان من السدر الذي ينبت في البراري فهو لا ينتفع به وليس له ثمر يأكله الآدميون.(1/153)
ومما يؤثره في نفس العبد الإيمان بهذا الاسم الكريم , أن يعتبر العبد في نفسه وأن يكون شديد الوجل من الله تبارك وتعالى , وأن يعظمه التعظيم اللائق بجلاله وعظمته , فقد يعجب العبد ويغتر بما أعطاه الله من الصحة , وهذه الصحة تتبدل وتتغير حينما يعرض له المرض , ولربما دام مرضه وعلته وبقي طريح الفراش يشفق عليه عدوه , ونحن نشاهد الناس في أيام شبابهم وفتوتهم تمتلئ أجسامهم وتنتعش قوة وحيوية , ثم إذا نظرت إلى حال الرجل بعد هرمه وبعد شيخوخته , فإنك تشفق عليه وقد حنى الدهر ظهره وصار ينوء بنفسه إذا رام القيام ويُحمل , ولربما سأم الحياة , ولربما لم يتلذذ بما كان يتلذذ به من الطيبات , فانطفأت شهواته وصار لا يجد شهوة للطعام وإن وجد المال , فهو واجد لكن لا يجد له مساغا ولذة , فأضعفه الدهر , فالله يقلب الناس من حال إلى حال.
وأيضا إذا ولاك الله عزوجل على أحد من المسليمن , فتذكر أن يد الله فوق يدك , وأن الله قادر عليك كما أقدرك على هؤلاء , إن كنت معلما وتحتك الطلاب فإياك أن تظلمهم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة , والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة , وإذا التبس عليك الأمر فغلب جانب العفو تسلم , وكذلك من ابتلي بأن كنت له نوع رئاسة وتحت سلطته أناس من الموظفين , فاجعل نفسك في مكان هؤلاء , هم ضعفة تحت سلطتك اليوم , ولكن الله عزوجل قادر على أن يبدل حالا وأحوالا ثم بعد ذلك تكون في موقف أنت أحوج ما تكون فيه إلى ألطاف الله عزوجل فتحرم هذه الألطاف لأنك لم تلطف بعبيد الله تبارك وتعالى , فلا تظلم من تحت يدك من خدم وضعفة وأجراء وعمال وموظفين وما شابه ذلك.
وإن من يد إلا يد الله فوقها ** ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
وكما قال الله عزوجل: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).(1/154)
ومن عرف قدرة الله عزوجل , فإنه لا يتعاظم عليه أن يسأل ربه أن يغفر ذنوبه , وإن عظمت هذه الذنوب وصارت كثيرة كالجبال , فالله على كل شيء قدير , قادر على أن يبدل هذه الذنوب إلى حسنات , فلا تيأس من رحمة الله عزوجل , فما عليك إلا أن تصدق في التوبة مع الله , والله عزوجل وعد بقبول توبة التائبين ويغفر لهم جرمهم ويبدل لهم هذه السيئات إلى حسنات , كما أخبر الله عزوجل بقوله: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) , وهو يقول لنا في غاية التلطف : (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) , فما علينا إلا الإنابة لله تبارك وتعالى.
والله أعلم وصلى الله على أشرف خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1/155)