شَرْحِ أصُولِ السُّنَّةِ لإمامِ أهْلِ السُّنَّةِ أبي عبدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ مُحمَّد بن حَنبل رحمه الله تعالى
164ـ241 هـ
لِسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العلاّمةِ
عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْن
ـ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالحُسْنَى ـ
صححه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه :
أبو أنس عليّ بن حسَين أبو لوز
ـ أثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ
تقديم الطَّبعة الثَّانية لفضيلة الشَّيخ العلاّمة عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن جبرين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعزِّ جلاله. نحمده ونشكره ونثني عليه ونستغفره، ونتوب إليه، ونشهد أنه إله العالمين الإله الحق لا إله غيره، ولا رب سواه، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بشيرًا ونذيرًا، وهاديًا ومبيِّنًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتدى بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/1)
فإن سلفنا الصالح ـ رحمهم الله تعالى ـ قد حفظوا الدين، واهتموا ببيان العقيدة، وتناقلوا مسائل التوحيد والإيمان والسُّنَّة والشريعة، فحفظ الله تعالى بواسطتهم على الأمة الإسلامية دينها، وصانه بهم عن التلوُّث بالبدع والخرافات، وما ذاك إلا أن هناك بعض الأعداء الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله، وأن يغيِّروا شرعه، من أولئك الذين غاظهم انتشار هذا الدين وتمكن أهله من التغلب على سائر الأديان، حتى قضى على دياناتهم، وفضح أكاذيبهم وترّهاتهم، فدخلوا في الإسلام تستُّرًا وقلوبهم تغلي من الحنق والغيظ، فكان من حِيَلهم أن حرصوا على الطعن في الدين، وإلقاء الشُّبَه والشكوك والتمويهات فيما بين أبناء المسلمين، ولقد انخدع لشبهاتهم خلق كثير من أبناء المسلمين، وأفراد أهل الإيمان، فولَّدوا أدلّة على بدعهم ونِحَلهم، وأكثروا من الطعن في تعاليم الإسلام، ومعتقد أهل السُّنّة، وكثرت المخالفات والانحرافات التي اعتنقها فئام من أهل هذا الدين.
ولقد حذَّر الله ـ تعالى ـ من ذلك التفرق كما في قوله ـ تعالى ـ: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ }[ سورة آل عمرآن الآية 105 ] وكما قال ـ تعالى ـ : { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ سورة الرّوم : 31 ـ 32 ] .
ولما ظهرت تلك النِّحَل والمخالفات، حرص السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ على نقل السُّنّة وإظهار العقيدة الصحيحة، وإثباتها ونشرها بين الناس، حتى يحذر المسلم الانخداع بتلك البدع والمُحْدَثات، ومن ذلك أن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ كتب رسالة سمّاها(1/2)
( أصول السُّنّة )، ضمَّنها معتقد أهل السُّنّة والجماعة، الذي هو مستوحى من الكتاب الكريم، والسُّنّة المطهَّرة؛ وخص من ذلك الأمور الغيبية، ومسائل الإيمان، وما حصل فيه خلاف مع بعض المبتدعة، فكانت رسالة قيمة مفيدة في بابها، يعرف بها حرص الأئمة ـ رحمهم الله تعالى ـ على إنقاذ الأمة من المحدثات والضلالات، وتحذيرهم من مخالفة الكتاب والسُّنّة، وبيان القول الصحيح السليم في تلك المسائل.
فلا جرم اهتم العلماء بتلك الرسالة ونحوها، واحتفظوا بها، حتى قال القاضي أبو يعلى ـ رحمه الله تعالى ـ لو رُحل إلى الصين في طلبها لكان قليلًا.
وقد عرضها عليَّ بعض الطلاب مصوَّرة من الطبقات أو غيرها، وطلب مني شرحها، فأجبته إلى ذلك، وشرحتها ارتجالًا وإلقاءً على الطلاب، وقد سجَّلوا الشرح، ثم فرَّغه بعضهم، ورغب في نشره فأجبته إلى ذلك.
وقد طُبع الشرح لأول مرة دون تعليق، ثم إن الشيخ أبا أنس عليّ بن حسين أبو لوز جزاه الله خيرًا، خدمه بتخريج الأحاديث، وترقيم الآيات، وزيادة الإيضاحات لبعض المسائل، وها هو الآن يُطبع للمرة الثانية طبعة مزيدة منقَّحة على ما فيها من خلل ونقص، وسوء تعبير، حمل عليه القصور في المعلومات، وعدم التفرغ للمراجعة والتصحيح،
والله المسئول أن ينفع بالشرح كما نفع بالأصل، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تقديم الطَّبعة الأولى لفضيلة الشَّيخ العلاّمة عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن بن جبرين
الحمد لله ذي العزة والجلال، المنزَّه عن الأشباه والأمثال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتوحِّد بكمال الجمال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي فضله الله بالنبوة والإرسال، صلى الله عليه وآله وصحبه خير صحب وآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد:(1/3)
فهذه رسالة للإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ تتعلق بالعقيدة وبعض ما يلحق بها من الفروع، وكأنها نصيحة كتبها في بعض مجالسه، أو أرسلها إلى بعض من يريد نصيحته.
وقد شرحتها بشرح متوسط ارتجالي في محاضرة أو فصل دراسي، يوضح الشرحُ معانيها ويذكر ما يؤيدها من الأدلة والتوجيهات، وقد صححت بعض الكلمات أو العبارات غير الفصيحة، وأبقيت أكثرها وإن كان في الأسلوب ركاكة، حتى لا يكثر التغيير.
ولظهور المعنى المراد بهذه الرسالة ونحوها يعرف اهتمام الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وكذا السلف الصالح بعدهم، بأمر الدين، وأنهم بلَّغوا ما تحملوه لمن بعدهم، ونصحوا لأولادهم وتلاميذهم، وأوضحوا سُبُل النجاة، وحذَّروا من البدع والمخالفات التي ظهرت أو بدا بعض مقدماتها، ثم تَمكَّنَتْ بعد ذلك، ووقع فيها الكثير الذين التبس عليهم الحق بالباطل، وانخدعوا بالتمويهات والضلالات، التي يشبه بها أولئك المبتدعة ليوهموا السُّذَّج وضعفاء البصائر أن الصواب في جانبهم.
فلا جرم اهتم السلف رحمهم الله ـ تعالى ـ ببيان السُّنّة وإيضاح الحق لمن يراه، فنوصي بقراءة كتب السلف الصالح ونصائحهم، والسير على نهجهم، والله الموفق للصواب، وصلَّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
« مقدّمة المحقّق »
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه رسالة في أصول السُّنّة لإمام أهل السُّنّة أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وهي بحق أصول وقواعد لأهل السُّنّة.
وقد قام بشرحها فضيلة شيخنا العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين ـ حفظه الله ورعاه ـ؛ لأهميتها وحاجة طلاب العلم وعامة الناس إليها.(1/4)
وقد تشرفت بطبع هذا الشرح دار الصميعي وفَّقها الله؛ وحيث إنه لم يُعتنَ بتخريج الآيات والأحاديث وضبط المتن على مخطوطات ونحو ذلك، فقد عزمتُ على الاعتناء بها وخدمتها عَلَّ الله أن ينفع بها، والله الموفق.
وكان عملي في الكتاب على النحو التالي:
1- اعتمدتُ في المتن على النسخة التي قام بتحقيقها الأخ المفضال الوليد بن محمد نبيه بن سيف النصر والتي قدم لها الشيخ محمد عيد عباسي .
2- اعتمدت في الشرح على النسخة التي نشرتها دار الصميعي، وقد طلبت من الشيخ الشارح أن يشرح بعض الجمل التي لم تشرح في النسخة المطبوعة.
3- عزوتُ الآيات إلى مواضعها في القرآن الكريم، كما خرَّجت الأحاديث من مصادرها قدر الإمكان.
4- قدمت للكتاب بترجمة مختصرة للإمام أحمد بن حنبل وقد اختصرتها من رسالة بعنوان (إمام الصابرين أحمد بن حنبل ) للشيخ عبد العزيز المسند ؛ ورسالة بعنوان: (نماذج من الدعاة الصالحين) للشيخ أبي بكر الجزائري .
5- صنعتُ مجموعة من الفهارس تخدم الكتاب، كفهرس للمراجع، وفهرس للآيات، وفهرس للأحاديث، وفهرس تفصيلي للموضوعات.
6- بعد الانتهاء من العمل في هذا الكتاب، قمتُ بعرضه على فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين (الشارح)، فقام وفَّقه الله بمراجعته وتصحيحه والتقديم له، وقد شرح الشيخ بعض الجمل التي لم تشرح في الطبعة السابقة.
هذا، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكتبه في موازين حسناتنا إنه جواد كريم، وأن يجزي شيخنا خير الجزاء على ما قدَّم ويقدم، وأن ينفع بعلمه إنه سميع مجيب، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
« ترجمة موجزة لصاحب "المتن" إمام أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل ـ رحمه اللَّهُ ـ »
نسبه ومولده :
هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال العربي العدناني الشيباني إمام الفقه والحديث، يكنى بأبي عبد الله قدِم به أبوه من مرو حملًا في بطن أمه فهو مروزي.(1/5)
وولد ببغداد ونشأ فيها فهو بغدادي.
وقد ولد الإمام في شهر ربيع الأول عام 164 هـ.
عِلمه :
طلب العلم طلبًا عاديًّا فلم يطلب الحديث، ولم يجلس بين يدي رجاله إلا بعد أن بلغ السادسة عشرة من عمره، كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين له، غير أنه فارق دياره ورحل في طلب الحديث والفقه فيه، فجاب البلاد طولًا وعرضًا، ورحل إلى اليمن ماشيًا على قدميه، لقلة ذات يديه، وأقام بها زهاء العامين يطلب الحديث من رجالها كعبد الرزاق صاحب المصنف، ونالته في ذلك مشقة كبيرة ظهرت على جسمه وصحته العامة.
ولمّا وصل مكة وقيل له: أجهدت نفسك يا أبا عبد الله قال ـ رحمه الله ـ ما أهون المشقة فيما استفدنا من عبد الرزاق كتبنا عنه حديث الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .
كما روى الحديث عن يحيى بن معين وإسحاق بن راهويه والشافعي ـ رحمهم الله تعالى ـ وقد دعاه إلى زيارة مصر فلم يقدر لعجزه المادي، ولما التقى به في رحلته الثانية إلى بغداد قال له: يا أبا عبد الله إذا صح الحديث عندك فأعلمني به أذهب إليه حجازيًّا كان أو شاميًّا، أو عراقيًّا، أو يمنيًّا، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ إن في قول الشافعي هذا لأحمد لإجلالًا كثيرًا وشهادة في العلم عظيمة.
وحسب الإمام شهادة مسنده الذي خرَّجه من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفًا، وجمع فيه من الحديث ما كاد يحوي الكتب الستة إلا قليلا، وقال ولده عبد الله كان أبي يحفظ ألف ألف حديث، أي: مليون حديث.
شهادات العلماء بسعة علمه :
وها هي ذي شهادات العلماء بالعلم والسعة فيه، والفضل والكمال لديه.
قال الإمام الشافعي خرجت من العراق فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل .
وقال البخاري لما ضُرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني إسرائيل لكان أُحدوثة.(1/6)
وقال أبو عمر النحاس وقد ذكر أحمد يومًا: في الدين ما كان أبصره! وعن الدنيا ما كان أصبره! وفي الزهد ما كان أخيره! وبالصالحين ما كان ألحقه! وبالماضين ما كان أشبهه! عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها!
وقال علي بن المديني إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد لم أُبَالِ إذا لقيت ربي كيف كان؟
وقال يحيى بن معين كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط، كان محدثًا وكان حافظًا، وكان زاهدًا وكان عاقلًا.
وقال أبو زرعة الرازي ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه، يعني أحمد بن حنبل ـ رحمهم الله تعالى ـ أجمعين.
قوة حجته في علمه :
فحسبنا للكشف عنها وإثباتها أن نورد بعض ما كان يرد به على أسئلة المبتدعة المبطلين من المعتزلة المارقين في مجلس الامتحان أيام المحنة.
قال المعتصم ناظره يا عبد الرحمن كَلِّمْه، فقال عبد الرحمن : ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيب ويسأل عبد الرحمن قائلًا : ما تقول في علم الله؟ فلم يجب عبد الرحمن المعتزلي فيقول أحمد : إن القرآن من عِلم الله فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن علم الله مخلوق، ومن قال بذلك فقد كفر.
فقال المعتزلي : إن الله كان في الأزل ولم يكن معه القرآن.
فيقول الإمام أحمد : لقد قلت: إن القرآن من علم الله، فإذا قال قائل: كان الله ولا قرآن معه فكأنه قال: كان الله ولا علم له.
المعتزلي : هو ضال مبتدع يا أمير المؤمنين.
الإمام أحمد : يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو بسنَّة من سنن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أجيبهم إليها.
المعتزلي : فأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله وسنَّة رسوله؟
الإمام أحمد : وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
المعتزلي : إن الله يقول : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ سورة الأنعام الآية 102 ] والقرآن شيء فهو إذًا مخلوق!(1/7)
الإمام أحمد : إن هذه الآية عامة أريد بها الخصوص لا العموم، كقوله ـ تعالى ـ عن الريح التي أهلك بها قوم هود : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ سورة الأحقاف الآية 25 ] فهل دمرت كل شيء حقًّا، أو أنها لم تدمر إلا ما أراد الله؟
المعتزلي : إن الله ـ تعالى ـ يقول : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ سورة الأنبياء الآية 2 ] فهل يكون مُحْدَثًا إلا المخلوق؟
الإمام أحمد : إن الذكر هو في القرآن جاء في قوله ـ تعالى ـ :{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ }
[ سورة ص الآية 1 ] فهو هنا معرف بالألف واللام، وفي الآية الأولى بدون الألف واللام فهذه غير تلك.
المعتزلي : إن عمران بن حصين يروي عن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قوله : إن الله خلق الذِّكر وفي ذلك تقرير من النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بأن القرآن مخلوق.
الإمام أحمد : أخطأت، فالرواية التي رويناها عن عمران وغيره من ثقات أهل الحديث هي: إن الله كتب الذكر .
المعتزلي : أليس رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: تقرَّب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء هو أحب إليه من كلامه .
الإمام أحمد : بلى، رُوي ذلك عن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
المعتزلي : إن فيه دليلا على أن القرآن مخلوق!
الإمام أحمد : لست أجد فيه هذا الدليل!
المعتزلي : إذا قرأت القرآن لتتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ أليست كلمات مؤلفة من حروف وأصوات، وهل يتألف من حروف وأصوات إلا الكلام المخلوق ؟ فهل نجد لك مفرًّا بعد إذ أمرنا الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أن نتقرب إلى الله بتلك الألفاظ إلا أن تسلم بأن القرآن مخلوق!(1/8)
الإمام أحمد : القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، وأما أفعالنا فيه إذا كتبناه أو تلفظنا به فهي مخلوقة، ورسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول : « زَيِّنوا القرآن بأصواتكم » فالقرآن إذًا غير أصواتنا المخلوقة التي نُزَيِّنه بها، الكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ .
المعتزلي : إن تشك بأن القرآن كلام الله غير مخلوق معناه أنك تنسب إلى الله ـ تعالى ـ جوارح يتكلم بها كالمخلوقين وتشبيه الخالق بالمخلوقات كُفر!.
الإمام أحمد : هو أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، لا عدل له ولا شبيه، وهو كما وصف نفسه. حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال : إن الله كلَّم موسى بمائة ألف كلمة وعشرين ألف كلمة وثلاثمائة كلمة، وثلاث عشرة كلمة، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى فقال موسى أي ربِّ، أنت الذي تكلمني أم غيرك؟ قال الله ـ تعالى ـ يا موسى أنا أكلمك لا رسول بيني وبينك فهذا ما يخبر به رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عن ربه، وأنا ما أقول إلا ما يقول رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
المعتزلي : كذبت على رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
الإمام أحمد : إن يك هذا كذبًا مني على رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فقد قال الله ـ تعالى ـ { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [ سورة النّساء الآية 164 ] .
وقال : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ سورة السّجدة الآية 13 ] فهو قول منه، وليس خلقًا.
من خلال هذا الحوار الذي دار بين الإمام وبين المعتزلة الخصوم، تتجلى لنا حقيقة أن أحمد بن حنبل كان قوي الحجة وذلك ما رُمناه من عرض هذا الجزء من المناظرة التي دامت أيامًا بين الإمام وخصومه وانتصر فيها حقه على باطلهم.(1/9)
تلامذته :
وخلَّف الإمام عددًا من العلماء أخذوا عنه الحديث والفقه وكانوا جهابذة محققين، خدموا السُّنّة وحققوا مذهب أحمد وكان لهم مؤلفات وتلاميذ إلى يومنا هذا. وهذه نتيجة حمل العلم والعمل به، ومن تلاميذه عدد من شيوخه كان يأخذ عنهم العلم مثل يزيد بن هارون وعبد الرزاق وابن مهدي .
ومن تلاميذه: البخاري ومسلم وأبو داود وعلي بن المديني وابناه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق وأبو زُرعة الرازي وأبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي وأبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وعثمان بن سعيد الدارمي .
مؤلفاته :
أهم مؤلفات الإمام أحمد المسند الذي ارتبط باسمه فلا يُذكر الإمام إلا ويذكر المسند. وهو كتاب عظيم القدر كبير الفائدة. قال عنه الإمام: إن هذا الكتاب قد جمعته، وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفًا فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلا ليس بحجة.
وقد التزم بألا يجعل فيه سوى الحديث الصحيح المتن والإسناد، حيث انتقى ما بين الثلاثين والأربعين ألف حديث، وجعلها في مسنده، وشملت هذه الأحاديث الرواية عن سبعمائة صحابي ـ رضي الله عنهم ـ .
وكان الإمام يحفظ السبعمائة والخمسين ألف حديث وغيرها. والمسند الموجود بين أيدي الناس مأخوذ عما دوَّنه الإمام بيده ونقله عنه ابنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد وقد أمضى الإمام سنين طويلة في تأليفه، وشملت أحاديثه جميع أبواب الحديث التي نظمها المحدِّثون، لكن كان جُلّ هدف أحمد من جمع المسند هو انتقاؤه وتخليصه من الشوائب. وقد قرأه بنفسه على ابنيه صالح وعبد الله وعلى عمه إسحاق بن حنبل إكمالًا لضبطه، وصدقًا في روايته.(1/10)
ومن المناسب هنا أن نثبت السبب في عدم انتشار المسند بين أيدي المسلمين جميعًا انتشارًا متداولًا كصحيحي البخاري ومسلم لأنه ـ رحمه الله ـ رتَّبه على أسانيد الصحابة، ولم يجعله على الترتيب الذي اصطلح عليه المحدِّثون والفقهاء، فكان ذلك عائقًا للبعض عن اتخاذه مرجعه الأول، وكذلك طوله وعدم قيام أحد بترتيبه في الزمن الأول...!
أما ما عدا المسند فلم يهتم الإمام أحمد بالتأليف بعد هذا وانشغل بالتدريس؛ لاعتقاده أن العلم يؤخذ من أفواه الرجال..
وله بعض رسائل صغيرة كتبها في مناسبات، منها :
1- الرد على الجهمية..
2- كتاب الصلاة..
3- كتاب السُّنَّة..
4- كتاب الورع ـ الإيمان..
5- كتاب الزهد..
6- كتاب فضائل الصحابة..
زهده وورعه :
إن الزهد لتقليل الدنيا وهي قليلة، واحتقارها وهي حقيرة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها جرعة ماء، والرغبة عنها إلى الآخرة إيمانًا بها وبخيراتها ودوامها والآخرة خير وأبقى، كما أن الورع هو الكف عن شهواتها وترك محرماتها والتقلل من مباحاتها، والبعد عن متشابهاتها طلبًا للسلامة منها حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس.
وبناءً على هذا، فإن الزهد والورع كل منهما صفة كمال في الإنسان المسلم، وهما سلم إلى درجات الفضل والكمال والتفاوت بينهما عظيم جدًّا، ومن هنا لم يكن أهل الورع والزهد في درجة واحدة بل بينهما من التفاضل ما الله به عليم، وهذا الإمام أحمد بين أهل الزهد والورع، يعتبر مثالًا عاليًا، وقدوة صالحة فلم يسبقه في هذا المجال أحد، ولم يلحقه آخر، والروايات التالية، وهي صحيحة السند إلى الإمام أحمد أخرجها البيهقي ورواها عنه ابن كثير في بدايته تثبت الحقيقة وتؤكدها.
ولنكتفِ في باب الورع بروايتين منها فقط :(1/11)
الأولى: قال يومًا الشافعي لهارون الرشيد يا أمير المؤمنين، إن اليمن يحتاج إلى قاض، فقال له الرشيد اختر رجلًا نُوَلِّه إياه، فقال الشافعي لأحمد وكان يتردد عليه لطلب العلم: ألا تقبل قضاء اليمن يا أحمد ؟ فقال أحمد إنما أختلف إليك لطلب العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن آتي القضاء، ولولا العلم لما كلمتك بعد اليوم!!
فاستحى منه الشافعي وسكت.
إن رغبة أحمد عن الولاية وهي مما يتسابق الناس إليه ويتنافسون في الوصول عليه، بل مما يتقاتلون على طلبه والظفر به لم تكن إلا ورعًا منه؛ إذ طلب الولاية مباح، ولكن تركها أحمد وهي لا بأس بها خشية الوقوع فيما به بأس.
والثانية: أنه جاع ثلاثة أيام؛ لقلة ذات يده فاستقرض دقيقًا من أحد إخوانه ولمَّا وصل إلى أهله عرفوا حاجته إليه فأسرعوا في خبزه وإنضاجه ووجدوا تنورًا لولده صالح مسجورًا فأنضجوا قرص الخبز فيه، فلما قُدِّم إلى أحمد وكأنه لاحظ سرعة تقديم الخبز له فسألهم فأخبروه أنهم طبخوه في تنور صالح ولده وكان صالح يتقاضى راتبًا من الدولة فامتنع من أكله وواصل جوعه من ورعه.
فأي ورع أعظم من هذا الورع، أمن أجل أن ولده يأخذ الجوائز المالية من السلطان يمتنع من أكل خبز يطبخ في تنّوره المسجور، وهو ولده والولد وماله لوالده؟ فضرب أحمد بهذا رقمًا قياسيًّا في الورع لا يمكن أن يناله أحد سواه.
أما عن زهده ـ رحمه الله تعالى ـ فحدِّثْ ولا حرج، قال أبو داود ـ رحمه الله تعالى ـ كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد ذكر الدنيا قط.
ولم يكن هذا منه ـ رحمه الله تعالى ـ إلا احتقارًا للدنيا وعدم التفات إليها؛ وذلك لقلتها وسرعة زوالها وهذا هو الزهد في الدنيا.(1/12)
وحكى ولده عبد الله ـ رحمهما الله تعالى ـ معًا فقال: كنا في زمن الواثق الخليفة العباسي في ضيق شديد فكتب أحد الصالحين إلى أبي ـ لا شك أنه سمع بحاجة أحمد وما هو فيه من ضيق ـ كتب إليه: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي، وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها أبعثها إليك. فامتنع أحمد من قبولها، فكرَّر عليه الرجل قبولها فأبى أن يقبلها ورضي بحاجته وما به من خصاصة.
وعرض عليه أحد التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها، ورد عليه قائلًا: نحن في كفاية، وأنت جزاك الله عن قصدك خيرًا، كما عرض عليه شيخه عبد الرزاق باليمن يومًا ملء كفه دنانير وهو في أَمَسِّ الحاجة إليها لنفاد ماله وانقطاعه عن بلده فلم يقبلها.
وأعظم من هذه وسابقتها أنه سرقت ثيابه باليمن فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبًا فلم يقبله، ولم يأخذ منهم إلا دينارًا واحدًا، ليكتب لهم به، فكتب لهم مقابله فكان أخذه منهم بأجرة عمل، ولم يكن بإحسان.
صبره على المكاره وثباته على المبدأ :(1/13)
إن كان الصبر هو حبس النفس على الطاعة بحيث لا تتركها في سراء ولا ضراء، وحبسها عن المعصية فلا تغريها في يسر ولا في عسر، وحبسها على البلاء فلا تضجر ولا تجزع، فإن الإمام أحمد كان بذلك إمام الصابرين، وقدوتهم بحق. فقد صبر في مواطن الصبر كلها فلم يضعف ولم يهن بحال من الأحوال حتى غدا صبره في محنته مضرب الأمثال، وأغنى بمحنته تلك التي امتحن فيها ببدعة القول بخلق القرآن حيث أن الخليفة المأمون العباسي كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق ـ كما قال ابن كثير ـ وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله ـ عز وجل ـ واتفق أن خرج إلى غزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى هذه البدعة، فلما وصل الكتاب إليه قام فاستدعى أئمة الحديث ودعاهم إلى هذا الباطل فامتنعوا فهددهم بالضرب وقطع الرواتب والأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع أحمد بن حنبل وآخر يقال له: محمد بن نوح فحملهما على بعير وسُيِّرَا إلى الخليفة، حيث أمر بهما، وكان ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب يقال له: جابر بن عامر فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت عليه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقْتَل، وإنك إن لم تُقتل تَمُتْ، وإن عِشْتَ عِشْتَ حميدًا، قال أحمد وكان كلامه مما قوَّى عزمي.(1/14)
ولمَّا اقتربا من جيش الخليفة ونزلا بمرحلة دونه جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز عَلَيَّ أن أقول لك يا أبا عبد الله المأمون قد سَلَّ سيفه، وهو يقسم بقرابته من رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنّك بسيفه، فجثى أحمد على ركبته، ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهمَّ فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مئونته، فلما كان آخر الليل خرج الصريخ ينعي موت المأمون ولم تكد تنفرج حتى ولي الخلافة المعتصم والتف حوله غلاة المعتزلة وشحنوه بالباطل، وكان أشد على أهل السُّنّة من المأمون فرُدّ إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ومات ابن نوح في الطريق، وأودع أحمد السجن مدة ثمانية وعشرين شهرًا، قضاها والقيد في رجليه لم ينزع عنهما، فكان يصلي إمامًا بأهل السجن، والقيد في رجليه ـ رحمه الله تعالى ـ ولما تمت هذه المدة أُحْضِرَ أحمد أمام الخليفة ليُسأل ويُضرب ويُطلب إليه القول بالبدعة، فيرفض ويعذب، حتى ملّ سائلوه ومعذبوه.
وضجَّ من هول العذاب من حوله من السامعين والمتفرجين، والإمام صابر ثابت يقرع الحجة بالحجة، ويدفع ضجة الباطل بلجة الحق، فيضمحل الباطل ويعلو الحق، حتى كتب الله له النصر وفاز بلقب بطل المحنة وإمام الثبات والصبر.
وهكذا صبر أحمد وثبت على مبدأ الحق فلم يبدل ولم يغير فكان مثال الكمال في الصبر والثبات على المبدأ، فرحمه الله رحمة واسعة وخَلَّدَ ذِكْرَاه، وجعل الجنة مثواه.
ربّانيته :(1/15)
إن ربانية أحمد وهي قوة صلته بربه ـ تعالى ـ ونسبته إليه، ولصوقه بجنابه ـ عز وجل ـ حتى ما كان يعرف إلا به ـ تعالى ـ فمبلغ القول فيها: إنها كانت ربانية قائمة على التوحيد الخالص، والعلم اليقين الكامل، والزهد إلا فيما عند الله، والفقر إلا إلى الله، ولتجلي هذه الربانية القوية نورد طرفًا من موجز كلامه وآخر من مظاهر كماله فنقول: لما حمل أحمد من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم أتوه بسويق ليفطر من الضعف الذي أصابه فامتنع واستمر في صومه، وحين حضرت الصلاة صلى معهم فقيل له: صليت في دمك، فقال: صلى عمر وجرحه ينضب دمًا، ولما أقيم ليضرب بالسياط انقطعت تكة سراويله فخشي أن تنكشف عورته فحرك شفتيه بالدعاء، فعادت سراويله كما كانت، وما حرك به شفتيه هو قوله: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.
وقيل له يومًا: ادع الله ـ تعالى ـ لنا، فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائمًا وسكت، فقيل له: زدنا، فقال: اللهمَّ إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا فقالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تُقِلَّ علينا فنسيء، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغًا لنا في دنيانا، وغنى من فضلك.
وقال صالح ولده: كان أبي لا يدع أحدًا يسقي له الماء ليتوضأ، فرمى بالدلو فخرج ملآن فقال: الحمد لله، فقلت له: يا أبت، ما الفائدة بذلك؟ فقال: يا بني، أما سمعت قول الله ـ تعالى ـ : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }[ سورة الملك الآية 30 ] .(1/16)
وعن مظاهر كماله نقول: لما انكشفت الغمة، وزالت المحنة، وولي أمر المسلمين المتوكِّل على الله وكان سلفيًّا يحب أهل السُّنّة والجماعة، بعث بصلة للإمام أحمد فلم يقبلها، فأصر الخليفة إلا أن يقبلها، وأصر أحمد على عدم قبولها، جعلها الخليفة في ولده وأهله، فقال أحمد لولده وأهله يلومهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا وقد نزل بنا الموت، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء!!!
فاحتجوا عليه بقول الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لعمر: « ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه » رواه البخاري وابن عمر وابن عباس قَبِلَا جوائز السلطان، فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبالِ.
ولمَّا علم المتوكل ببراءة أحمد مما نُسِبَ إليه حيث وَشَى به الواشون، فحُوصِرَ بيته ليلًا، وفتشه تفتيشًا دقيقًا عما يثبت ولاءَه للعلويين، وتواطؤه معهم، بعث إليه الخليفة مع أحد أصحابه بعشرة آلاف درهم، وقال: هو يقرئك السلام ويقول لك: استنفق هذه، فامتنع من قبولها، فقال الحاجب: يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن تقع وحشة بينك وبين الخليفة، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد أهله وبني عمه وعياله، وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ولما أصبحوا فرقوها كلها حتى الكيس الذي كانت به تصدَّقَ به، ولم يعطِ منها أهله وأولاده وعياله شيئًا وهم في غاية الجهد والفاقة والفقر، وهكذا تجلت ربانية أحمد وصدقه فيها فكان بذلك إمامًا وقدوة فيها وفي غيرها من سائر الكمالات النفسية.
وفاته :(1/17)
مرض أحمد متى صح ذلك الجسم الذي أضناه الصيام، وأقعده القيام، مرض مرضه الذي توفي فيه أوائل شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، قال ابنه صالح دخلت على والدي يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم، يتنفس الصعداء وهو ضعيف فقلت له: يا أبت ما كان غذاؤك قال: ماء الباقلاء، وأقبل الناس الأفاضل على عيادته، وتوافد الأكارم على بيته، فكتب -رحمه الله تعالى- وصيته، وكان يئن في مرضه، ولما بلغه عن طاوس كراهة الأنين تركه، حتى كانت ليلة وفاته أنَّ، وهي ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول، ومن غريب ما حدث له في تلك الليلة أنه سمع وهو يقول: لا، بعد، لا، بعد، فقال له ابنه صالح ما هذه اللفظة التي تلهج بها؟ فقال: إن الشيطان واقف بزاوية البيت وهو عاضٌّ على إصبعه ويقول: فُتَّنِي يا أحمد فأقول: لا، بعد، لا، بعد، ولما دنا الأجل قال لأهله: وضئوني وخللوا أصابعي. فوضئوه، ولما فرغوا من وضوئه فاضت روحه وهو يذكر الله ـ تعالى ـ.
فإلى رحمة الله يا أسوة الصالحين وقدوة الزهاد والورعين.
والسلام عليك في الآخرين والأولين.
وصيته :
ولما قرُبت وفاته أمر ابنه أن يحضر وصيّته التي سبق أن كتبها ويقرأها عليه، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، ويحمدوه في الحامدين. وأن ينصحوا لجماعة المسلمين.(1/18)
وأوصي أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نبيًّا، وأوصي أن ( لعبد الله بن محمد المعروف ببوران ) عليَّ نحوًا من خمسين دينارًا، وهو مصدَّق فيما يقول، فيقضى ما له عليَّ من غلَّة الدار إن شاء الله فإذا استوفى أعطي ولد صالح وعبد الله ابنا أحمد بن حنبل كل ذكر وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء مال أبي محمد شهد أبو يوسف وصالح وعبد الله أبناء أحمد بن محمد بن حنبل .
ولما توفي أطبقت بغداد كلها لشهود جنازته التي جهزت بعد الظهر بما فيهم الحاكم والعلماء وسلالة الهاشميين والصحابة والتابعين.. فقيل إن من شهد الصلاة وتبع الجنازة يقدر بألفي ألف وخمسمائة ألف.. وقيل: حضر مع ذلك ستون ألف امرأة وأسلم يوم وفاته عشرون ألفًا من ديانات مختلفة. وفتحت البيوت كلها للوضوء والانتظار، ودُفن في مقبرة (باب حرب ببغداد )، وما زال قبره معروفًا إلى أوائل القرن التاسع الهجري. فرحمه الله ورضي عنه وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
رثاء الإمام :
نكتفي بذكر قصيدة واحدة من مراثيه قالها جعفر السراج
سقى الله قبرًا حل فيه ابن حنبل * * * من الغيث وسميًّا على أثره ولي
على أن دمعي فيه روى عظامه * * * إذا فاض ما لم يبل منه وما بلي
فلله رب الناس مذهب أحمد * * * فإن عليه ما حييت معولي
دعوه إلى خلق القرآن كما دعوا * * * سواه, فلم يتبع ولم يتأولِ
ولا رده ضرب السياط وسجنه * * * عن السُّنّة الغراء والمذهب الجلي
ولما يزدهم - والسياط تنوشه * * * فَشُلَّت يمين الضارب المتقتلِ
على قوله: القرآن -وليشهد الورى- * * *كلامك يا رب الورى كيفما تلي
فمن مبلغ أصحابه أنني به * * * أفاخر أهل العلم في كل محفل
وألقى به الزهاد في كل مطلق * * * من الخوف دنياه طلاق التبتل
مناقبه إن لم تكن عالمًا بها * * * فكشف طروس القوم عنهن واسأل
لقد عاش في الدنيا حميدًا موفقًا * * * وصار إلى الآخرى إلى خير منزلِ(1/19)
وإني لراج أن ينور الله قلب من * * * إذا سألوا عن أصله قال: حنبلي
« أصُولُ السُّنَّةِ »
قال الشيخُ الإمامُ أبو المظفر عبد الملك بن عليِّ بن محمد الهَمْداني .
حدثنا الشيخُ أبو عبد اللهِ يحيى بن الحسنِ بن البنَّا قال: أخبرنا والِدِي أبو عليّ الحسنُ بنُ أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ البنَّا قال: أخبرنا أبو الحسينِ عليّ بن محمدِ بن عبدِ اللهِ بنِ بشرانَ المُعَدَّل قال: أنا عثمانُ بنُ أحمدَ بنِ السَّمَّاكِ قثنا: أبو محمدٍ الحسنِ بن عبدِ الوهَّابِ بنِ أبي العَنْبَرِ قراءةً عليهِ مِنْ كِتَابِهِ في شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ مِنْ سَنَةِ ثلاث وتسعين ومائتين (293هـ)، قثنا: أبو جعفر محمد بن سليمان المنقري البصري بـ (تِنِّيس) قال: حدثني عبدوسُ بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -رضي الله عنه- يقول:
أصول السُّنَّة عندنا:
1 ـ التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم (1) .
__________
(1) لا شك أن التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ والاقتداء بهم هو من أصول أهل السنة المهمة، والأدلة على ذلك كثيرة، فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [سورة النساء الآية 115 ]. وقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسُنّة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ. » أخرجه الترمذي برقم (2676) بنحوه، وأبو داود برقم (4607)، وابن ماجه برقم (42) بنحوه من حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ.
انظر: صحيح أبي داود (3851).
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ( من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد، فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
أخرجه ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم (1810).(1/20)
« الشَّرْحُ » :
هذه رسالة للإمام أحمد في أصول السُّنّة، ومعلوم أن الأصل هو ما يُبنى عليه غيره، أو ما يتفرع عنه غيره، كأساس الحيطان، وأصول الشجر، والمعنى: أن السُّنّة لها أصول تتفرع عنها، فأصل الأصول هو كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما نقل عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فإذا حقق الناس هذه الأصول، يعني : تمسكوا بالكتاب والسُّنّة، وتمسكوا بما كان عليه الصحابة، فإنهم بذلك سيكملون ما يتفرع عن هذه الأصول.
2ـ وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة.
« الشَّرْحُ » :
البدعة هي المحدثة في الدين أي ما أضيف إلى الشريعة الإسلامية وألصق بها وهو ليس منها، سواء كان ذلك في العقائد أو في الأعمال البدنية أو في الأقوال، ولقد أكمل الله ـ تعالى ـ هذا الدين، وأنزل على نبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ آخر حياته قوله ـ تعالى ـ :{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [ سورة المائدة الآية 3 ] ولقد بلَّغ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ما أنزل إليه من ربه، وعلم أصحابه كل شيء يحتاجون إليه حتى آداب التخلي، ونحو ذلك مما قد يستحيى منه، وتوفي وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لهم منه علمًا (1) وكل ذلك يغني أهل السُّنّة عن الابتداع في الدين.
__________
(1) يشير الشَّيخ ـ حفظه اللَّهُ ـ إلى حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: ( لقد تركنا محمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وما يحرِّك طائر جناحيه في السماء، إلا أذكرنا منه علمًا ).
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/153، 163). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 263، 264).(1/21)
ولقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن أمته سوف تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، يعني الأهواء والنحل، وأن كلها في النار إلا واحدة (1)
__________
(1) يشير الشارح ـ وفّقه اللَّهُ ـ إلى حديث : « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة ». وفي رواية : « ما أنا عليه وأصحابي ».
أخرجه ابن ماجه برقم (3992)، وابن أبي عاصم في السنّة 1/ 32 رقم 63)، والطبراني في الكبير (18/ 70)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السُّنّة (1/ 101)، والحاكم في المستدرك (1/ 47) عن عوف بن مالك.
قال الألباني في تحقيق السُّنّة لابن أبي عاصم : إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات معروفون غير عباد بن يوسف، وهو ثقة إن شاء الله.
وصحح إسناده أيضًا في السِّلسلة الصَّحيحة برقم (203) ورقم (1492)، وظلال الجنة (63). =
= وأخرجه أبو داود برقم (4597)، وأحمد في المسند (4/102)، والحاكم في المستدرك (1/ 128)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 7).. وغيرهم عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه الترمذي برقم (2641)، والحاكم في المستدرك (1/ 208)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السُّنّة (1/ 99)، والآجري في الشريعة (5/ 16)، والمروزي في السُّنّة (18)، وابن وضّاح في البدع والنهي عنها (85) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ.
قال الترمذي : حديث مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وللحديث شواهد ترفعه لمرتبة الحسن. انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم (203) ورقم(1492)، وظلال الجنة (63).(1/22)
وما أخبر به ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يصدقه الواقع، فقد ظهرت بدع عقائدية، عرفها السلف بأسماء مناسبة كبدعة الخوارج، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والمشبهة، والمعطلة، والمتصوفة، والجبرية، والمرجئة، والعلمانية، والبعثية، والقبورية، والأشعرية، ونحوهم ممن تفرّع عنهم كالتيجانية، والنقشبندية، والشيعة، والجاحظية، والبهشمية وغيرهم، وإن كان هؤلاء يختلفون في الحكم عليهم، فمنهم من يكفر ببدعته، ومنهم من يفسق بها، وقد ناقشهم العلماء وأهل السُّنّة، وحذروا منهم، ونهوا عن الإصغاء إليهم، وسماع كلامهم، وعن مجالستهم ومجادلتهم، ونصحوا بالبعد عنهم، كما نقل ذلك الحافظ ابن بطة ـ رحمه الله تعالى ـ في الإبانة الكبرى عن جماعة من السلف والأئمة.
وهكذا يقال في البدع العملية التي دعا إليها الخرافيون والمقلِّدون كبدع الموالد، والرغائب، والعبادات التي لم ترد في الشرع، مما يتعلق بالصلوات، أو الجنائز أو القبور ونحوها، وكذا في بدع الأقوال التي لا دليل عليها، وقد رد على جميع ذلك الأئمة المقتدى بهم، وبينوا بطلانها، واستدلوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة، كقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (1)
__________
(1) جزء من حديث أخرجه أبو داود برقم (4607)، والترمذي برقم (2678)، وأحمد (4/ 126، 127)، والدارمي (1/ 44، 45)، وابن ماجه برقم (32،43)، والطبراني في الكبير (18- برقم 617، 624)، والحاكم في المستدرك (1/ 95)، وابن حبان (102- موارد)، والآجري في الشريعة (46)، من حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ وصحَّحه الحاكم.
وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 346)، وفي السُّنّة لابن أبي عاصم (17/20، 29، 30).(1/23)
وكقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) ونحو ذلك من الأدلة.
3 ـ وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء.
« الشَّرْحُ » :
كان النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ينهى عن الاختلاف في أمور الدين، وعن الخصومات والجدال في القرآن، فقد روى الإمام أحمد برقم (6702) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: « لقد جلست أنا وأخي مجلسًا ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَةً (2) إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُغْضَبًا قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه » (3) .
وفي رواية لأحمد قال : « خرج رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذات يوم والناس يتكلمون في القَدَر، وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم » (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) قوله: فجلسنا حَجْرَةً: بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم، أي ناحية منفردَيْن.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 181)، وأورده الهندي في كنز العمّال (978).
قال أحمد شاكر (6702). إسناده صحيح.
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 179)، وابن ماجه برقم (85) .
قال المحقق في زوائد البوصيري: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وقال أحمد شاكر (6668): إسناده صحيح.(1/24)
ورواه البخاري في خلق أفعال العباد (1) وابن ماجه (2) وغيرهم.
وهو يدل على ترك الخصومات، والبعد عن أهلها، والنهي عن الاختلاف والرجوع إلى الحق، والحرص على جمع الكلمة، والتقارب بين المسلمين، فإن مرجعهم هو كتاب الله ـ تعالى ـ وسُنَّة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
ومعلومٌ أن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فمن عرف منه شيئًا وظهر له معناه فليقل به، ومن خفي عليه شيء من معناه فَلْيَكِلْهُ إلى عالمه، وأما أهل الأهواء، فهم المبتدعة ودعاة الضلال، فإنهم غالبًا يموهون على من جالسهم وهم على باطل، فيوهمون الجاهل بأنهم على صواب، فكم انخدع بزخرف قولهم من العوام الخلق الكثير، فلذلك ورد النهي عن مجالستهم حال خوضهم وجدلهم، كما قال الله ـ تعالى ـ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ سورة النساء الآية 140 ] وقال ـ تعالى ـ : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ سورة الأنعام الآية 68 ] وكل ذلك من أجل هجران أهل المعاصي والبدع واحتقارهم والابتعاد عنهم حتى لا تتمكن بدعتهم من المسلمين، وحتى يشعروا بالهوان والصغار.
4 ـ وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.
« الشَّرْحُ » :
هذه الثلاثة تدل على معنى واحد أو متقارب، فالمراء مشتق من المرية.
__________
(1) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (ص 70 رقم 218)، وأحمد في مسنده (2/ 185)، والآجري في الشريعة (ص68)، والبيهقي في المدخل (ق 53/ 2).
قال الأرناؤوط في شرح السُّنّة (1/ 260): إسناده حسن، وقال أحمد شاكر(6741): إسناده صحيح.
(2) أخرجه ابن ماجه برقم (85) وانظر الهوامش السابقة .(1/25)
قال في لسان العرب مادة (مرا) : والامتراء في الشيء الشك فيه، وكذلك التماري، والمراء المماراة والجدل، والمراء أيضًا من الامتراء والشك، وفي التنزيل العزيز: { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا } [ سورة الكهف الآية 22 ] وأصله في اللغة الجدال، وأن يستخرج الرجل من مناظره كلامًا ومعاني الخصومة.. وقد مارَاه مماراة ومراء وامترى فيه وتمارى: شك. اهـ.
وفي حديث السائب بن عبد الله المخزومي عند أحمد في المسند « أنه كان شريك النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قبل الإسلام، قال: فكان لا يُدَاري ولا يماري » (1) .
وقد ورد عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال: « المراء في القرآن كفر » (2) أي: المجادلة والنزاع فيه بما يوجب الشك، ويوقع في المرية.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4836)، وابن ماجه برقم (2287)، وأحمد في المسند (3/425) عن السائب بن عبد الله قال: أتيت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فجعلوا يُثْنُونَ عليَّ ويذكروني، فقال رسول الله = =ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « أنا أعلمكم »ـ يعني: به ـ، قلت: صدقت، بأبي أنت وأمي كنت شريكي فنِعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري. وهذا لفظ أبي داود.
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/ 286، 300، 424، 475، 503، 528)، وأبو داود برقم (4603)، وابن حبان برقم (73)، والحاكم (2232).
وصححه ابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي.
قال أحمد شاكر (7835): إسناده صحيح، وقال الأرناؤوط في شرح السُّنّة (1/ 261): إسناده حسن.
وفي الباب عن عمرو بن العاص عند أحمد (4/ 204، 205)، وعن أبي جهيم عنده أيضًا (4/ 170).(1/26)
ولكن المراء المذكور هنا يعم المراء في أمور الدين كلها كالجدال في القدر، وأفعال العباد، والمراء في أسماء الله وصفاته في معانيها وما تدل عليه، وكذا في الأمور الغيبية من عذاب القبر، وصفته وما بعده، وغير ذلك، فإن أهل السُّنّة يتوقفون عن ما لا يظهر لهم، ولا يجادلون أهل البدع، ولا يتنازعون في أمور الغيب التي ما أطلعهم الله عليها، وذلك من جملة عقيدتهم، حتى يجدوا دليلا يقولون به، والله أعلم.
5 ـ والسُّنّةُ عندنا آثارُ رسولِ الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
6 ـ والسُّنّةُ تفسيرُ القرآن وهي دلائل القرآن.
7 ـ وليس في السُّنَّةِ قياسٌ.
« الشَّرْحُ » :
السُّنّة يعني: سنة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهي الآثار المأثورة عنه وهي تفسر القرآن، وذلك لأن الله أمره بالبيان بقوله ـ عز وجل ـ :{ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [سورة النَّحل الآية 44 ] .
والسُّنّة المأمور باتِّباعها هي أقوال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأفعاله وتقريراته التي نُقلت عنه، فهي شرح لمعاني القرآن وإيضاح له، يُقتصر عليها ولا يلحق بها غيرها مما لا يساويها، وهو معنى كونه لا يقاس عليها، ولكن إذا اتضح الحكم عُمِّم في كل ما يدخل فيه.
فالمراد بالقياس هنا، أن لا نلحق بالسُّنَّة شيئًا ليس منها ونجعله من السُّنّة ونقول: إنه منصوص عليه. ولكن قد يدخل في ذلك القياس الذي يُراد به إلحاق المسائل بما يشابهها عند عدم النص فيها.
وإذا اقتصر الإنسان على السُّنّة في العقيدة واكتفى بها ففيها الكفاية، ومَن زاد عليها أو أضاف إليها شيئًا فهو مبتدع، وتقدم قوله: كل مبتدع بدعة فهي ضلالة، يعني أن المبتدع ضال يعني تائه مخطئ، والسني المتمسك بالسُّنّة هو المصيب وهو الذي على هدى ونور من الله.
8 ـ ولا تُضْرَبُ لها الأمثال.
9 ـ ولا تُدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هو الاتِّباع وترك الهوى.(1/27)
« الشَّرْحُ » :
لا تضرب لها الأمثال كردٍّ عليها أو انتقاد لما ثبت بالسُّنَّة، وقد قال ـ تعالى ـ { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }[ سورة النَّحل الآية 74 ].
وهو رد على المشركين الذين يقيسون الرب ـ تعالى ـ بآلهتهم كما في قولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ سورة الزّمر الآية 3 ].
وقولهم: { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ سورة يونس الآية 18 ] .
فهكذا لا تُضرب الأمثال لسُنَّة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كقول المشركين: { أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } [ سورة ص الآية 8 ].
وكقوله : { لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ سورة الزّخرف الآية 31].
فعلينا أن نصدق هذا النبي ونعمل بالسُّنّة التي ثبتت عنه ولا نردها ولا نسلط عليها التأويلات والتقديرات، كحديث النزول (1)
__________
(1) حديث النزول هو قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له».
أخرجه البخاري برقم (1145)، ومسلم برقم (758) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه مسلم برقم (758، 172) من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ. =
= قال الشَّيخ ابنُ جبرين : تقبَّل أهل السُّنّة هذا الحديث الصحيح، وآمنوا بما فيه من إثبات نزوله وتودده إلى عباده، وحثهم على الدعاء والذكر والتوبة في آخر الليل. وتوقفوا عن تكييف هذا النزول؛ بل أجروه على ما يليق بجلال الله ـ تعالى ـ.
وقد كبُر هذا الحديث على المعطلة من الجهمية ونحوهم، واضطربوا فيه، فردَّه بعضهم وقالوا: هو من أخبار الآحاد، وهي لا تفيد إلا الظن بزعمهم، فلا يدخل في العقائد.
وتأوله آخرون بأن المراد: نزول رحمته أو أمره.. ونحو ذلك.
والحديث مروي في الصحاح والسنن وسائر دواوين أهل السُّنّة، عن جمع من الصحابة فهو يفيد اليقين الجازم.
وكذلك ما صح من أخبار الآحاد مما عُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ، وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يفيد اليقين على الصحيح.
وأما تأويله بنزول الرحمة والأمر فباطل؛ لأن أمره ـ تعالى ـ ينزل كل وقت، ولا يختص بثلث الليل الآخر.
وأيضًا لا يصح أن أمره يقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد ص 73، 74.(1/28)
كالذين قالوا: إما أن يخلو منه العرش وإما أن لا يخلو،
وأحاديث الرؤية (1)
__________
(1) أحاديث الرؤية كثيرة جدًّا، منها: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إنكم سَتَرَوْن ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته».
أخرجه البخاري برقم (544)، ومسلم برقم (633) من حديث جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ.
ومنها قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟. قالوا: لا. قال: هل تضارون في رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم كذلك».
أخرجه البخاري برقم (7437)، ومسلم برقم (182) من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.
قال الشَّيخ ابنُ جبرين : اتفق السلف وأهل السُّنّة من الخلف على إثبات رؤية الله ـ تعالى ـ رؤية حقيقية عيانًا بالأبصار، مع تنزيه الرب ـ تعالى ـ عن مشابهة الخلق في شيء من خصائصهم وصفاتهم.
وهذه الرؤية تكون في يوم القيامة، وفي الجنة كما يشاء الرب سبحانه. وتكون في الموقف للمؤمنين ومن معهم ممن يظهر الإيمان. وتكون الرؤية في الجنة خاصة بالمؤمنين، فمنهم من ينظر إلى الله ـ تعالى ـ بُكرةً وعشيًّا، ومنهم من يزوره ويراه في مثل يوم الجمعة، ويسمى يوم المزيد. فالرؤية من أعلى نعيم أهل الجنة، فلهذا عوقب الكفار بالحجاب عن ربهم.
ثم هي رؤية بالأبصار حقيقية، كما نطقت بذلك السُّنّة، وأوضحه القرآن.
والمنكرون للرؤية هم الجهمية، ومن قلدهم كالمعتزلة وبعض المرجئة، قالوا : إن إثباتها يستلزم التشبيه، وإثبات الجهة، وذلك من شأن المحدثات والمركبات، ثم تكلفوا في رد دلالة النصوص بما يشهد العقل ببطلانه، فأهل السنة يثبتون جهة العلو لله ـ كما سبق ـ، ولا يلزم منها الحدوث والتجدد لشيء من =صفات الله ـ تعالى ـ أما أدلتهم النقلية فأقواها قوله ـ تعالى ـ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [ سورة الأنعام الآية 103 ]. يجاب عنها بأن الرؤية أخص من الإدراك.
فالمعنى لا تحيط به إذا رأته لعجزها عن إدراك كنهه، فتكون الآية دليلا على الإثبات.
واستدلوا بقوله ـ تعالى ـ لموسى: { لَنْ تَرَانِي لمّا قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } [ سورة الأعراف الآية 143 ]. فيقال: إنه لا يظن بموسى عليه السلام أن يسأل ما لا يجوز على الله. فهو لما سأل الرؤية منعه لضعف البشر في الدنيا عن الثبوت لذلك؛ ولهذا لما تجلى الله ـ تعالى ـ للجبل انْدَكّ، وروي أنه غار في الأرض. ففي الآخرة يمد الله عباده بقوة يقدرون معها على رؤية ربهم. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد ص 110/113.
وسيأتي الكلام على الرؤية في هذا الكتاب ص (32).(1/29)
بأن يقال: إن الرؤية تستلزم كذا وكذا ونحو ذلك.
وأما كونها لا تُدرك بالعقول والأهواء، فالمراد أن عقول البشر قاصرة عن إدراك كيفية الأمور الغيبية، وكذا معرفة الحِكَم والمصالح التي شُرعت لأجلها الأحكام، فإن هناك من اعترض على بعض الفرائض والمحرمات وأوردوا شبهات في التشكيك في شرعيتها كالحكمة في الطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجِمار، والحكمة في تحريم الربا وهي تحصل مع التراضي، وكذا الزنا برضى الطرفين، وشرب الخمر الذي هو لذيذ تطرب له النفس ونحو ذلك.
ولقد تكلم العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ بما فتح الله عليهم فبيَّنوا الحِكم والمصالح في أمور الشريعة، وإن كانوا قد توقفوا في بعضها مع اعتقادهم أنها عين المصلحة، وقالوا: لا قدرة لنا على إدراك الأمور الغيبية كعذاب القبر ونعيمه وصفة الروح واتصالها بصاحبها في الدنيا وفي البرزخ، وكذا كيفية البعث والحشر وما بعده، فليس علينا سوى القبول والاتّباع وترك الهوى وترك الاعتراض عليها بمجرد الظن والنظر وذلك غاية الرضى والتسليم، والله أعلم.
10 ـ ومن السُّنّةِ اللازمة التي مَنْ ترك منها خَصْلة، ولم يقبلها ويؤمن بها لم يكُنْ من أهلها: الإيمانُ بالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والتصديقُ بالأحاديثِ فيه، والإيمان بها لا يُقالُ: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق والإيمان بها.
11 ـ ومَنْ لم يعرف تفسير الحديث، ويبلغه عقله، فقد كُفِيَ ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به والتسليم له.(1/30)
12 ـ مثل حديث الصادق المصدوق (1) ومثل ما كان مثله في القدر (2) .
« الشَّرْحُ » :
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة (3)
__________
(1) حديث الصّادق المصدوق هو حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، الذي ذكره الشّيخ في الشّرح ويأتي تخريجه في موضعه.
(2) الآيات والأحاديث في الإيمان بالقدر كثيرة، منها ما ذكره شيخنا ابن جبرين في الشرح، ومنها أيضًا حديث عبد الله بن عمر الطويل وهو: عن يحيى بن يعمر قال: ( كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله فسألناه عما يقول هؤلاء في القَدَر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلًا المسجد فاكتنفتُه أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكِل الكلامَ إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، قد ظهر قِبَلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدَرَ، وأن الأمر أُنُف. قال: فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أُحد ذهبًا فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر.... )
ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب وفيه : أن جبريل سأل النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عن الإيمان، فقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « أن تؤمن بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخر؛ وتؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه ». أخرجه مسلم برقم (8).
(3) لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في حديث جبريل الطويل عندما سأله عن الإيمان فقال : « أن تؤمن بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخر؛ وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه».
أخرجه مسلم برقم (8) من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.
وسبق تخريجه في الهامش السابق.(1/31)
وهو أن يؤمن العبد بأن الله علم ما سوف يكون، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، ويؤمن بأنه لا يكون في الوجود شيء إلا بعد إرادة الله، لا يكون إلا ما يريد، ويؤمن بأن الله خالق كل شيء وأنه ليس شيء موجود إلا الله خالقه، من المخلوقات ومن الأفعال ومن الأحكام، وعندئذ يؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ كما قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفّت الصحف» (1) . رواه أحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس.
وكذلك حديث ابن مسعود الذي يقول فيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» (2) .متفق عليه يكتب ذلك وهو في بطن أمه.
ولما سأل الصحابة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وقالوا : ألَا ندع العمل ونَتَّكِلُ على كتابنا قال: « اعملوا فكل مُيَسّر لما خلق له » (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2516). في صفة القيامة، باب: 59. وأحمد في المسند (1/ 293). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد شاكر (2669): إسناده صحيح.
(2) أخرجه البخاري برقم (3332)، ومسلم برقم (2643). من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ. وهو حديث الصَّادق المصدوق المشار إليه في المتن.
(3) أخرجه البخاري برقم (4945) من حديث علي ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه مسلم برقم (2649) من حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ.(1/32)
فنحن مأمورون بأن نعمل، والله هو الذي ييسر الإنسان ويعينه لما خلقه له، فمن خلقه شقيًّا خذله حتى يعمل عمل أهل الشقاء، ومن خلقه سعيدًا يسر له أسباب السعادة، هذا الإيمان بالقدر، وفيه تفاصيل كثيرة.
13 ـ ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نَبَتْ عن الأسماع واستوحش منها المستمع. وإنما عليه الإيمان بها، وأن لا يرد منها حرفًا واحدًا. وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثِّقات.
14 ـ وأن لا يخاصم أحدًا، ولا يناظره، ولا يتعلَّم الجدال، فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه، ومنهي عنه، لا يكون صاحبه ـ وإن أصاب بكلامه السُّنّةـ من أهل السُّنّة حتى يدع الجدال ويُسلِّم، ويؤمن بالآثارِ.
« الشَّرْحُ » :
وأما الإيمان بالرؤية بأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة فهذا أيضًا ثابت وردت به الأحاديث (1) وأنكر ذلك الإباضية وغيرهم من المعتزلة، فلا يُعْتَدُّ بإنكارهم.
__________
(1) الآيات والأحاديث في إثبات الرؤية للمؤمنين في الجنة كثيرة ومن ذلك :
(أ) قوله ـ تعالى ـ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ سورة يونس الآية 26 ].
وقد فسر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الزيادة المذكورة في الآية، بأنها رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة. كما في حديث صهيب ـ رضي الله عنه ـ، أخرجه مسلم برقم (181).
(ب) وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ سورة القيامة : 22 ـ 23 ].
(ج) وقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : « إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ». أخرجه البخاري برقم (554)، ومسلم برقم (633). من حديث جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ.
وغير ذلك من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وقد سبق الكلام عن الرؤية ص 27 ـ28.(1/33)
كذلك يتجنب الجدل (1) الذي هو الخصومات والمنازعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل على المؤمن أن يستسلم لما يعرفه ولا يرد شيئًا إذا لم يعرفه مع ثبوته، ولا يسأل عن الأشياء الغيبية، فلا يقول لماذا خلق الله كذا؟ ولماذا أمر الله بكذا؟ بل يقول: سمعنا وأطعنا، دون أن يسأل عن الكيفية في أسماء الله وصفاته، ولا عن العلل في أفعال الله وأحكامه، ما عرف منها قَبِلَه، وما لم يعرف استسلم له.
15 ـ والقرآن كلام الله وليس بمخلوق ولا يضعف أن يقول: ليس بمخلوق، قال: فإن كلام الله ليس ببائن منه، وليس منه شيء مخلوق، وإياك ومناظرة من أحدث فيه (2) ومن قال باللفظ وغيره، ومن وقف فيه فقال: لا أدري، مخلوق أو ليس بمخلوق، وإنما هو كلام الله، فهذا صاحب بدعة مثل من قال: هو مخلوق. وإنما هو كلام الله ليس بمخلوق .
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) لقد نهى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عن الجدال الذي يؤدي إلى الخصومات والنزاعات، ومن ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ: « ما ضلّ قوم بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل». أخرجه الترمذي برقم (3253)، وابن ماجه برقم (48)، وأحمد في المسند(5/ 252، 256). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وانظر: صحيح الجامع (5633).
(2) لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال : « المِراء في القرآن كفر». أخرجه أبو داود برقم (4603) ولم يخرجه أحد غيره من أصحاب الكتب الستة، وأخرجه الإمام أحمد (2/ 300) عنه بلفظ : « نزل القرآن على سبعة أحرف، المراء في القرآن كفر ـ ثلاث مرات ـ فما عرفتم منه فاعملوا، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه». قال أحمد شاكر (7976): إسناده صحيح. وقد سبق تخريجه ص (23).(1/34)
من المسائل التي تكلم فيها الأولون والآخرون أيضًا القرآن، فأهل السُّنّة على أنه كلام الله (1) أنزله الله على قلب نبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تكلم الله به حقيقة، وأمر بكتابته في اللوح المحفوظ، وكذلك أمر بكتابته في الصحف وفي المصاحف، فهو لا يخرج عن كونه كلام الله.
وأنكر ذلك المعتزلة والإباضية الذين في عُمان وغيرهم، وقالوا: إنه مخلوق، وجعلوه كسائر المخلوقات.
ورد عليهم أهل السُّنّة، وبَيَّنُوا أن الله ـ تعالى ـ متكلم ويتكلم إذا شاء، وأن كلامه قديم النوع متجدد الآحاد، وأن من جملة كلامه هذا القرآن، وردوا على مَن قال: إنه مخلوق، وكذلك على مَن توقفوا وقالوا: لا ندري أمخلوقٌ أو غير مخلوق، بل أمروا بالجزم أنه عين كلام الله، وقالوا: إنه منه بدأ وإليه يعود، فلا يجوز أن يجعل شيء منه مخلوقًا لا لفظه ولا معناه، بل كله كلام الله تكلم به حقيقة، ويثبتون صفة الكلام أن الله ـ تعالى ـ متكلم كما يشاء، ويتوقفون عن كيفية كلامه، أو التدخل في الأشياء الغيبية التي لا تبلغها الأفهام، ويقولون: نَكِلُ علم ذلك إلى الله ـ تعالى ـ.
16 ـ والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روي عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من الأحاديث الصحاح.
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) من الأدلة على أن القرآن كلام الله قوله -تعالى-: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [ سورة التوبة الآية 6 ]. قال ابن كثير (2/ 337) : (حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه أَيْ : الْقُرْآن تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ). والأدلة في ذلك كثيرة لا يتسع المقام إلى ذكرها.(1/35)
كذلك أيضًا من أصول السُّنّة والإيمان أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، ويرونه في الجنة كما يشاء، والأحاديث في ذلك صحيحة ثابتة، ولا عبرة بمن أنكر الرؤية ورد أحاديثها مع ثبوتها، وكيفيتها لا نعلمها، إلا أننا نتحقق أن المؤمنين يرون ربهم عيانًا جهرةً بأبصارهم، وأن هذه الرؤية هي أعظم نعيم الجنة، وفُسِّرَت بها الزيادة؛ لأنها زيادة في قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ سورة يونس الآية 26 ] (1) .
وفُسر بها المزيد في قوله: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ سورة ق الآية 35 ].
والأدلة عليها واضحة مذكورة في كتب أهل السُّنّة (2) .
17 ـ وأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قد رأى ربه، فإنه مأثور عن رسول الله
__________
(1) وقد فسر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الزيادة بأنها رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة؛ كما في حديث صهيب ـ رضي الله عنه ـ، الذي أخرجه مسلم برقم (181).
(2) سبق الإشارة إلى بعض الأدلة التي تثبت رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة وفي الجنة، انظر صفحة (30).(1/36)
ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صحيح. رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس (1) .
والحديث عندنا على ظاهره، كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره، ولا نناظر فيه أحدًا.
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (3279)، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ( رأى محمد ربه، قلت: أليس الله يقول: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [ سورة الأنعام الآية 103 ]. قال: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقال: أُريه مرتين). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال ابن كثير (4/ 250) : رواه الترمذي في جامعه وابن أبي عاصم في كتاب السُّنّة له (1/ 188، 192)، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن مردويه أيضًا والحاكم في مستدركه. ثم قال: قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 285) عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « رأيت ربي تبارك و ـ تعالى ـ ».
قال عبد الله بن أحمد: وقد سمعت هذا الحديث من أبي، وأملى علي في موضع آخر.
قال أحمد شاكر (2580): إسناده صحيح. وهو في مجمع الزوائد (1/78)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.(1/37)
هذه مسألة خلافية، هل رأى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ربه؟ أثبت ذلك ابن عباس في هذه الأحاديث، وأنكرت ذلك عائشة وأنكرت على مَن يقول: إنه رأى ربه (1) وورد في ذلك أحاديث فيها عدم الرؤية كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم قال: « سألت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هل رأيت ربك؟ فقال : نُور أنَّى أراه » (2) وفي رواية أخرى : « رأيت نورًا» (3) وهذا دليل على أنه إنما رأى نورًا .
وقد أخبر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بأن الله : « حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » (4) .
__________
(1) لحديث مسروق قال: قلت لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : يا أمتاه، هل رأى محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ربه ؟ فقالت : لقد قفّ شعري مما قلت، أين أنت مِن ثلاث مَن حدَّثكهنّ فقد كذب، مَن حدّثك أن محمدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[ سورة الأنعام الآية 103 ] الحديث.
أخرجه البخاري برقم (4855). ومسلم برقم (177).
(2) أخرجه مسلم برقم (178) في الإيمان، باب: في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « نور أنّى أراه »، وفي قوله: « رأيت نورًا ».
(3) أخرجه مسلم برقم (178/ 292).
(4) أخرجه مسلم برقم (179) في الإيمان، باب: في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « إن الله لا ينام... »، من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ، وفي رواية أبي بكر: « حجابه النار».(1/38)
وفي الصحيح : أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رأى ربه رؤية قلبية (1) لا رؤية بصرية، وبذلك فسرت الرواية عن ابن عباس (2) .
والدليل أن الله قد منع ذلك موسى لما قال: { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } [ سورة الأعراف الآية 143 ] طلب موسى أن ينظر إلى ربه، فقال الله : { لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [ سورة الأعراف الآية 143 ] إلى آخره.
فرؤية النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مكاشفات قلبية، لا رؤية بصرية، وذلك لضعف الإنسان في هذه الدنيا عن أن يَثبُت لعظمة الله وجلاله.
أما في الآخرة فإن الله يُمِدُّ أهل الجنة بقوة يتمكنون من رؤيته ويثبتون أمام رؤيته (3) وليس خِلقتهم في الجنة كخلقتهم في الدنيا.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (176) في الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [ سورة النّجم الآية 13 ]، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ( رآه بقلبه).
(2) قال ابن حجر في الفتح (8/ 474) : جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها. ثم قال: وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب. اهـ.
(3) الأدلة على إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة كثيرة وقد سبق الإشارة إلى بعضها صفحة (27)، وصفحة (30).(1/39)
18 ـ والإيمان بالميزان يوم القيامة، كما جاء: يوزن العبد يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة (1) . وتوزن أعمال العباد كما جاء في الأثر (2) والإيمان به والتصديق به، والإعراض عن مَن رد ذلك وتركُ مجادلته.
« الشَّرْحُ » :
من أصول أهل السُّنّة الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بما أخبر الله به في اليوم الآخر، ومن ذلك أنه أخبر بالميزان، قال الله ـ تعالى ـ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا }[ سورة الأنبياء الآية 47 ] .
قيل: إن العبد نفسه يُوزن، والدليل قوله ـ تعالى ـ : { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }
[ سورة الكهف الآية 105 ].
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (4729) في التفسير، باب: { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا بلفظ : « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وقال: اقرءوا: { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ سورة الكهف الآية 105 ] ».
(2) والأدلة على إثبات أن أعمال العباد توزن كثيرة ومنها حديث البطاقة والسجلات المشهور الطويل.
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/213)، والترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وابن حبان (2524)، والحاكم (1/ 529).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ ووافقه الذهبي.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وصحَّحه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (135).
وقال أحمد شاكر في المسند (6994): إسناده صحيح.(1/40)
وفي الحديث : « يؤتى بالرجل السَّمين الأكول الشَّرُوب فلا يزن عند الله جناح بعوضة » (1) .
وقيل: إن الأعمال تجسد وتوزن، والله قادر على أن يجعلها أجسادًا ولو كانت أعراضًا، فتجعل الصلاة جسدًا وتوزن، وكذلك الذِّكر، وكذلك الصوم وما أشبه ذلك، وتُوزن أيضًا السيئات فتجعل هذه في كِفَّة وهذه في كِفَّة.
وقيل : إن الذي يُوزن هو الصحف التي تكتب فيها الأعمال والسجلات التي سجلت فيها الأعمال سيئات وحسنات هي التي توضع في كِفَّتي الميزان، وبكل حال يؤمن العباد بذلك : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [ سورة الأعراف : 8 ـ 9 ].
فهذه أدلة واضحة على ثبوت الميزان (2) ولا عبرة بمن أنكره كالفلاسفة ونحوهم، وقالوا:
إنما يحتاج إلى الميزان البقّالون والباعة ونحوهم، نقول: إن هذا من إظهار العدل من الله ـ تعالى ـ.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (4729) في التفسير، باب: { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا بلفظ : « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وقال: اقرءوا: { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ سورة الكهف الآية 105 ] ».
(2) وهناك أدلة أخرى لإثبات الميزان توجب الإيمان والتصديق به ومن ذلك:
قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم » .
أخرجه البخاري برقم (7563)، ومسلم برقم (2694).
* وقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق... » أخرجه الترمذي برقم (2003) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.(1/41)
19 ـ وأن الله ـ تعالى ـ يكلم العباد يوم القيامة ليس بينهم وبينه ترجمان والإيمان به والتصديق به .
« الشَّرْحُ » :
من جملة ما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، وبالبعث بعد الموت، وبالجمع في يوم القيامة، أن الله يكلم العباد، يقول في الحديث : « ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه تُرجمان» (1) .
أي: مترجم ينقل الكلام من لغة إلى لغة، بل يكلمه بكلام يفهمه ويعرفه ويتحققه، فهذا واضح في أنه لا بد أن يكلم الله عباده كما يشاء (2) .
20 ـ والإيمان بالحوض وأن لرسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حوضًا يوم القيامة تَرِدُ عليه أمته عرضه مثل طوله مسيرة شهر، آنيته كعدد نجوم السماء، على ما صحت به الأخبار من غير وجه.
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6539) في الرقاق، باب: مَن نُوقش الحساب عُذِّب. ومسلم برقم (1016) ـ (67)، في الزكاة، باب: الحث على الصدقة...، من حديث عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ.
(2) قال الشَّيْخُ ابنُ جِبْرِيْن : مسألة إنكار الكلام من أقدم ما أحدثه المبتدعة، وقد بالغ السلف في إثبات صفة الكلام لله، وبيَّنوا بطلان أقوال النُّفاة من الجهمية ونحوهم، وأثبتوا أن الله ـ تعالى ـ متكلم ويتكلم إذا شاء بكلام يسمعه من شاء، وبيَّنوا أن صفة الكلام صفة مدح، وأن سلبها نقص وعيب وهو الخرس، وقد عاب الله عِجْلَ بني إسرائيل بقوله : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ } [ سورة الأعراف الآية 148 ].
وعند أهل السُّنّة أن كلام الله قديم النوع، متجدد الآحاد، ومعنى كونه قديم النوع: أن جنسه قديم، فالله ـ تعالى ـ متصف في الأزل بكونه متكلمًا، فإن الله بجميع صفاته ليس بحادث، ولكنه لا يزال يتجدد ويحدث له كلام إذا شاء، وصفة الكلام من الصفات الفعلية الملازمة للذات متى شاء. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد، صفحة 88، 89.(1/42)
وهذا من جملة الإيمان باليوم الآخر، وردت أحاديث كثيرة قد تبلغ الثلاثين أو الأربعين حديثا (1)
__________
(1) ذكر منها جملةً البخاريُّ في صحيحه في كتاب الرقاق، باب: في الحوض، ومسلم في كتاب الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وصفاته ومن ذلك : =
=عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورِق، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا».
أخرجه البخاري برقم (6579)، ومسلم برقم (2292).
وعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: « قلت: يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل».
أخرجه مسلم برقم (2300).
وعن جندب ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: « أنا فرطكم على الحوض».
أخرجه البخاري برقم (6589)، ومسلم برقم (2289).
وعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: « أنا فرطكم على الحوض، من وَرَدَ شَرِب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم».
أخرجه البخاري برقم (6583)، ومسلم برقم (2290).
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « أنا فَرَطكم على الحوض، ولأنازعن أقوامًا ثم لأُغلبن عليهم، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
أخرجه البخاري برقم (6576)، ومسلم برقم (2297).
والأحاديث في إثبات الحوض وصفته كثيرة، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله.(1/43)
أخبر فيها بأن له حوضًا يوم القيامة، ترد عليه أمته، وأن هناك من يُذادُ ممن لم يكن متمسكًا بالسُّنّة عاملًا بها، مع كونهم من أمته، عليهم علامة الأمة، وكونهم غرًّا مُحجّلين يعرفهم بذلك.
وهذا الحوض ورد أن طوله مسيرة شهر، وعرضه مسيرة شهر، وفي بعض الروايات أنه ما بين عدن إلى أبين ( عدن بأرض حضرموت وأبين بأرض الشام يعني طوله كذا وعرضه كذا) وآنيته عدد نجوم السماء، ويصب فيه ميزابان من الجنة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، مَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، يرده المؤمنون، ويُذاد عنه المنافقون والكافرون، وورد تحديده أنه ما بين عدن إلى أبين فدل على أنه شهر في المسيرة المعتادة التي كانوا يعرفونها (1) .
21 ـ والإيمان بعذاب القبر. وأن هذه الأمة تُفْتَنُ في قبورها وتُسْأَل عن الإيمان والإسلام، ومَن ربه؟ ومن نبيه؟ ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله ـ عز وجل ـ وكيف أراد، والإيمان به والتصديق به.
« الشَّرْحُ » :
وهذا أيضًا مما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، فكل ما بعد الموت فهو من اليوم الآخر من حين تخرج الروح من الجسد، يقال : مَن مات فقد قامت قيامته، وقد دخل فيما يكون بعد الموت.
ومما يكون بعد الموت الإيمان بعذاب القبر، وبنعيمه نؤمن بذلك كما وردت بها الأحاديث الصحيحة (2)
__________
(1) ورد ذكر جملة من هذه الصفات في الأحاديث السابقة.
(2) الآيات والأحاديث في عذاب القبر ونعيمه كثيرة جدًّا، فمن ذلك :
قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « استجيروا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق »
أورده الهندي في كنز العمّال (41510).
وقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إن القبر أول منازل الآخرة، فإن مَن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج فما بعده أشد منه».
أخرجه الترمذي برقم (2308)، وابن ماجه برقم (4267)، وحسَّنه الألباني في المشكاة (232)، وصحيح الجامع (5499)، وحسنه الأرناؤط في جامع الأصول (11/ 165).
وقد مَرَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بقبرين فقال : « إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.... »
أخرجه البخاري برقم (1378)، عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ.
وقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسْمِعكم من عذاب القبر الذي أسمع».
أخرجه مسلم برقم (2867)، عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ.
وقوله: إنه أوحي إلي أنكم تُفتنون في القبور.
أخرجه البخاري برقم (86)، ومسلم برقم (903)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
والأحاديث في ذلك كثيرة، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله.(1/44)
وكما ذكر ذلك، واستنبطه العلماء من القرآن من بعض الآيات والأدلة، وأنه يأتيه ملكان وردت تسميتهما منكر ونكير في بعض الروايات، وإنهما يسألانه مَن ربك؟ مَن نبيك؟ ما دينك؟ وأنه يفسح له في قبره إذا كان من المؤمنين، ويُضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، أو حُفرة من حُفَر النار ونحو ذلك كما هو معروف (1) .
ويعمّ ذلك كل ميت، سواء قُبِرَ أو لم يُقْبَر، حتى ولو لم يُدفَن ـ مثلًاـ أو أكلته السباع، أو أحرق وذُرِّيَتْ جثته في الرياح، أو في البر والبحر، فالله قادر على أن يوصل إليه ما يستحقه من عذاب أو نعيم.
__________
(1) لقد ورد ذكر منكر ونكير اللذين يسألان الميت في قبره في حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ، وهو حديث طويل، وقد ورد فيه عذاب الكافر ونعيم المؤمن وأنه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك.
وحديث البراء أخرجه أبو داود برقم (4753)، والنسائي برقم (2058) بلفظ مختصر، وابن ماجه (4269) بلفظ مختصر، وأحمد في المسند (4/287، 288، 295، 296، 297)، والطيالسي (753)، والآجري في الشريعة (303/370)، وابن أبي شيبة (3/ 380/ 382)، وعبد الرزاق (6737)، والحاكم (1/ 37/ 40) وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي، ووافقهما الألباني. انظر أحكام الجنائز (202).
وصحَّحه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 214). وفي الحديث: إذا قُبِرَ الميتُ أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل .
أخرجه الترمذي برقم (1071)، وابن أبي عاصم في السُّنّة (864)، قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وصحَّحه ابن حبان (78) مطولا.
وقال الألباني في السّلسلة الصّحيحة (1391/ 3/ 379،380): إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.
وقال الأرناؤوط في شرح السّنّة (5/ 417): إسناده حسن.(1/45)
والأحكام بعد الموت وفي البرزخ على الأرواح، والأرواح باقية بعد مفارقتها للأجساد، ولكن لا بد أن يصل شيء من الألم أو النعيم إلى الأجساد، ولو كانت فانية. وبكل حال يؤمن المؤمن بما يكون بعد الموت مما ورد في هذه الأحاديث، ويحمله الإيمان على أن يستعد لذلك، وأن يعمل العمل الذي يكون سببًا في نجاته من تلك الأهوال.
22 ـ والإيمان بشفاعة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وبقوم يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحمًا، فيؤمر بهم إلى نَهَرٍ على باب الجنة ـ كما جاء في الأثر (1) ـ كيف شاء الله وكما شاء. إنما هو الإيمان به والتصديق به.
« الشَّرْحُ » :
هذا أيضًا من الإيمان باليوم الآخر، ومن فضائل وميزة النبي مُحمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، ما ورد عنه أنه هو الشفيع المشفَّع في المحشر.
وقد وردت أدلة كثيرة على أنه يشفع لأمته، ويشفع للخلق كلهم (2)
__________
(1) يشير المؤلف رحمه الله إلى حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال : « إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، يقول الله: من كان في قلبه مثقال حبة من = =خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امْتُحِشُوا وعادوا حممًا، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، أو قال: حميَّة السيل». وقال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ألم تروا أنها تنبت صفراء ملتوية؟ ».
أخرجه البخاري برقم (6560)، ومسلم برقم (184).
(2) أحاديث الشفاعة متواترة وهي كثيرة منها ما ذُكر أعلاه، ومنها حديث الشفاعة الطويل الذي أشار إليه الشيخ ابن جبرين في الشرح.
وقد أخرجه البخاري برقم (7510)، ومسلم برقم (193) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194)، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه مسلم برقم (195)، عن أبي هريرة وحذيفة ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه الترمذي برقم (3147)، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وقال: هذا حديث حسن.
وأخرجه أحمد في المسند (1/281، 282، 295، 296)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال أحمد شاكر (2546) و (2692): إسناده صحيح.
وهو حديث طويل متواتر فيه : أن الأنبياء يعتذرون عن الشفاعة، ثم يشفع نبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ويقول: « أنا لها، أنا لها».
وفيه أيضًا: « أنه يأتي باب الجنة فيقرع بابها فيفتح له... » إلى آخر الحديث.
قال الشَّيْخُ ابنُ جِبْرِيْن : وعند أهل السُّنّة أن الله يأذن لنبينا مُحَمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في الشفاعة ليظهر فضله وينال المقام المحمود.
وفد أُحصيت شفاعاته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من الأحاديث المتواترة فبلغت ست شفاعات. منها خمس شفاعات خاصة بالنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وهي :
1- الشفاعة العظمى لفصل القضاء والإراحة من الموقف يطلبها الناس من أولي العزم حتى تنتهي إليه.
2- شفاعته في فتح أبواب الجنة لدخول أهلها.
3- شفاعته لبعض أهل الجنة في رفع درجاتهم.
4- شفاعته في أناس استحقوا النار أن لا يدخلوها.
5- شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب. =
= أما الشفاعة السادسة فهي عامة، وهي: شفاعته وشفاعة الأنبياء والصالحين والملائكة في أناس دخلوا النار من الموحّدين أن يخرجوا منها، فيخرجون بعد احتراقهم وصيرورتهم فحمًا وحِممًا، أي سودًا، فيلقون في نهر الحياة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل.
ولا تكون الشفاعة للمشركين كما قال ـ تعالى ـ : { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [ سورة المدثر الآية 48 ].
وقد أنكرت المعتزلة والخوارج إخراج أهل الكبائر من النار وردوا أحاديث الشفاعة بناءً على مذهبهم في تغليب جانب الوعيد. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد، صفحة 154، 155.(1/46)
فيشفع الشفاعة الأولى لمجيء الله ـ تعالى ـ لفصل القضاء، حتى يفصل بين عباده عندما يطول الموقف، وبعدما يطلبون الشفاعة من أولي العزم من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكل منهم يعتذر، فيقول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « أنا لها ».
وكذلك أيضًا يشفع لهم أن يدخلوا الجنة، ويكون هو أول من يستفتح باب الجنة.
كذلك يشفع لقومٍ أن تُرفع درجاتهم ومنازلهم من أهل الجنة.
وأما الشفاعة التي يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة فهي شفاعته لأهل الكبائر من أهل التوحيد، أن يخرجوا من النار، بعدما صاروا فحمًا واحترقوا، يخرجون من النار بعد مدة طويلة، قد تكون ألوف السنين أو نحو ذلك، ثم يلقون في نهر في الجنة، ويقال له: نهر الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم بعد ذلك يتنعمون بما يتنعم به أهل الجنة؛ وذلك لأنهم من أهل التوحيد ومن أهل العقيدة.
23 ـ والإيمانُ أن المسيح الدجال خارجٌ، مكتوب بين عينيه كافر (1) والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن.
24 ـ وأن عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ ينزل فيقتله بباب لُدٍّ .
« الشَّرْحُ » :
هذا من الإيمان بالغيب، أخبر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بمثل هذه الأمور المستقبلة الغيبية، فلا بد أن نؤمن بها ونصدق بها؛ وذلك لثبوتها بالسُّنّة من طرق متواترة في أحاديث صحيحة.
__________
(1) لحديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال، قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربّكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر».
أخرجه البخاري برقم (7408)، ومسلم برقم (2933).(1/47)
ووصف الدجال بأوصاف تميز أنه إنسان، وأنه أعور العين اليمنى، وأنه فتنة يفتتن بها خلق كثير، ويثبت الله مَن كان على الحق فلا يفتتنون به، ويعلمون أنه كذاب، ولذلك سُمِّي دجالا يعني: كثير الكذب وعظيم الدجل (1) .
والأحاديث التي في نزول عيسى متواترة أيضًا (2)
__________
(1) والأحاديث في ذكر الدجال وأنه من أشراط الساعة كثيرة وثابتة. وقد سردها ابن كثير في الجزء الأول من النهاية. وقد أمر المسلم بالتعوذ منه في كل صلاة بعد التشهد وقبل السلام؛ لأنه فتنة عظيمة. نسأل الله أن يعيذنا من شر فتنة المسيح الدجال.
قال الشَّيْخُ ابنُ جِبْرِيْن : وهو الكذاب الأشِر الذي يدّعي أنه الرب، فيجري الله على يديه أمورًا من الخوارق فتنةً وابتلاءً وقد تواترت الأحاديث في شأنه بما يوجب القطع بما تضمنه مجموعها... إلخ. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد ص 139، 140.
(2) قال الشَّيْخُ ابنُ جِبْرِيْن : وأما نزول عيسى ابن مريم ـ عليه السَّلام ـ ، فقد ذكر في أحاديث كثيرة توجب القطع استوفاها ابن كثير في التفسير في آخر سورة النساء، على قوله ـ تعالى ـ : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [سورة النساء الآية 159 ]. وفُسِّرَت الآية بأن أهل الكتاب سوف يصدقون به عند نزوله في آخر الزمان قبل موته، وهذا هو الأشهر.
وقد تضمنت الأحاديث نزول عيسى ـ عليه السَّلام ـ على المنارة البيضاء بمسجد دمشق، وأنه يقتل المسيح الدجال بباب لُدٍّ. ووصف بأنه حَكمٌ مُقسطٌ، يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتخرج الأرض بركتها، ويمكث في الأرض سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، وقد ذكر الله أنه رفعه في قوله ـ تعالى ـ : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا *بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [ سورة النساء : 157 ـ 158 ]. فيكون نزوله من السماء. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد، صفحة 140.(1/48)
وأنه يقتله بباب لدّ في الشام وأن عيسى يقيم في المسلمين فيما بعدُ، فيكسر الصليب الذي للنصارى، ويقتل الخنزير الذي يأكلونه، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، وينتشر الإسلام كما يشاء الله، وذلك في الوقت المستقبل، والله أعلم متى يكون ذلك.
25 ـ والإيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص؛ كما جاء في الخبر:« أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا » (1) .
« الشَّرْحُ » :
مسألة الإيمان (2) من المسائل التي اختلف فيها أهل السُّنّة مع المرجئة ونحوهم.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4682)، وأحمد في المسند (2/ 250، 472، 527)، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. قال أحمد شاكر (7396): إسناده صحيح، وقد حسّنه الألباني في السّلسلة الصّحيحة (751).
(2) قال الشَّيْخُ ابنُ جِبْرِيْن: الإيمان لغة: التصديق الجازم بالشيء ودليله قوله ـ تعالى ـ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } [ سورة يوسف الآية 17 ]. أي: بمصدق.
وشرعًا: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان.
قول باللسان: يراد به الكلام: كالشهادتين والذكر والدعاء والتلاوة وسائر الأقوال الخيرية.
والعمل بالأركان: وهي الجوارح وهو: كالصلاة والصوم والحج والجهاد وتغيير المنكر باليد ونحوها.
والعقد بالجنان: أي بالقلب يراد به التصديق والإخلاص والتوكل والمحبة ونحوها. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد، صفحة 130، 131.(1/49)
قال أهل السُّنّة: إن الإيمان قول وعمل، وأنه تدخل فيه العقائد، وتدخل فيه الأقوال والأعمال، فهو قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فالأقوال الأذكار ونحوها تكون من الإيمان، والعقائد، وأذكار القلب تكون من الإيمان، والأعمال البدنية داخلة في مسمى الإيمان، ودليل ذلك قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (1) .
فكلمة لا إله إلا الله من الإيمان ، وهي قول باللسان، وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وهي عمل بالبدن، والحياء من الإيمان، وهو عمل قلبي، وكذلك بقية شُعَب الإيمان.
لذلك أيضًا نقول: إن من الإيمان جميع الأعمال التي هي قُربة، ويزيد بها الإيمان، وينقص بالمعاصي فالإيمان عند أهل السُّنّة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (2) .
وقد أخبر الله بأنه يزيد في قوله ـ تعالى ـ : { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ }[ سورة الفتح الآية 4 ] ،{ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[ سورة التّوبة الآية 124 ] ونحو ذلك. وكل شيء قَبِلَ الزيادة فهو قابل للنقصان، فالإنسان إذا ذكر الله وحمده وشكره زاد إيمانه، وإذا تكلم بسوء أو شتمٍ أو سِباب أو معصية نقص إيمانه، وهكذا.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (9) في الإيمان، باب: أمور الإيمان، ومسلم برقم (35) ـ 85 في الإيمان، باب: بيان عدد شُعب الإيمان، من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) قال الشَّيْخُ ابنُ جِبْرِيْن : المراد بالزيادة والنقص: تفاضل الناس في الدين، بحسب كثرة العمل، وما يقوم بالقلب.
فإذا عَمِلَ خيرًا: كذكر وصدقة وجهاد زاد إيمانه.
وإذا عمل معصية: كسَبٍّ ونهبٍ وكِبر وحسد، نقص إيمانه. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد، صفحة 132.(1/50)
26 ـ ومن ترك الصلاة فقد كفر (1) .
وليس من الأعمال شيء تَرْكُه كفر إلا الصلاة (2) من تركها فهو كافر، وقد أحل الله قتله.
« الشَّرْحُ » :
ومن الأعمال التي هي من جملة الإيمان الصلاة، فإنها من الإيمان، قال الله ـ تعالى ـ :{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ سورة البقرة الآية 143 ] يعني: صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة، ما كان الله ليضيع ذلك، فسمّاه إيمانًا؛ لأنه من ثمرة الإيمان.
وهذه الصلاة لا شك في أهميتها وعِظَم شأنها، ولأجل ذلك أكَّد الله ذِكْرها في القرآن، وأكثر من ذِكرها، وورد أيضًا في السنة الاهتمام بها.
__________
(1) الأحاديث في إطلاق الكفر على تارك الصلاة كثيرة ومتواردة وصحيحة، فمن ذلك:
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: « إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة». أخرجه مسلم برقم (82).
وعن بريدة بن الحصيب ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».
أخرجه الترمذي برقم (2621)، والنسائي برقم (462)، (1/232)، وابن ماجه برقم (1079)، وأحمد في مسنده (5/ 346).
(2) قال عبد الله بن شقيق: ( كان أصحاب مُحَمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ).
أخرجه الترمذي برقم (2624). ووصله الحاكم (1/ 7)، عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة، وقال: صحيح على شرطهما. وقال الذهبي: إسناده صالح.
قال الأرناؤوط في تحقيق شرح السنة (1/ 180): وسنده صحيح.(1/51)
وقد سمعنا بعض الأحاديث في أن تركها كفر، يعني: الإصرار على تركها يعتبر كفرًا، وأنه يستحق أن يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، وإذا أصر على تركها حتى يُقتل قُتل مرتدًّا يُعامل معاملة المرتد (1)
__________
(1) قال البغوي في شرح السُّنّة (1/ 179) :اختلف أهل العلم في تكفير تارك الصلاة المفروضة عمدًا، فذهب إبراهيم النخعي، وابن المبارك، وأحمد وإسحاق إلى تكفيره، قال عمر:(لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة). = قال ابن مسعود: ( تركُها كُفْر). قال عبد الله بن شقيق: ( كان أصحاب مُحَمَّد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كُفر غير الصلاة). أخرجه الترمذي برقم (2624). ووصله الحاكم (1/ 7)، عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة، وقال: صحيح على شرطهما. وقال الذهبي: إسناده صالح.
وذهب الآخرون إلى أنه لا يكفر وحملوا الحديث على ترك الجحود، وعلى الزجر والوعيد.
وقال حماد بن زيد ومكحول ومالك والشافعي: تارك الصلاة يُقتل كالمرتد ولا يخرج به عن الدين.
وقال الزهري، وبه قال أصحاب الرأي: لا يقتل، بل يحبس ويضرب حتى يصلي، كما لا يقتل تارك الصوم والزكاة والحج .
وقد سئل فضيلة الشَّيخ عبد اللَّه بن جبرين السؤال التالي: من حجّ ولم يصل، هل يحسب له حج أم لا؟ فأجاب:إذا كان قصد السائل أن يحج وهو تارك لصلاة الفريضة التي فرضها الله في اليوم والليلة خمس صلوات، وهذا يقع كثيرًا من بعض المنتمين إلى الإسلام في البلاد الإسلامية، وكثير من الناس يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن ما معهم إلا مجرد التسمي، فتجد أحدهم لا يصلي طوال عمره مثلا؛ وبعضهم يصلي فقط الجمع والأعياد، وأما بقية أوقاتهم فلا يعرفون الصلوات، لا فروضها ولا نوافلها، وهؤلاء بلا شك متهاونون بهذا الركن العظيم، الذي هو عمود الدين، وهو أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
وقد ورد في الأحاديث إطلاق الكفر على تارك الصلاة، وقال العلماء: إن المراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وعلى كل حال فإن الذي يحج وهو مُصِرٌّ على ترك الصلاة قبل حجه أو بعده يعتبر قد أتى بعمل، ولكن أخل بعمل آخر عظيم.
وقد اختلف العلماء في تكفير تارك الصلاة وفصَّلوا ذلك:
فإن من تركها جاحدًا لوجوبها فهو كافر، ولا ينفعه حجه، ولا يصح، ولا يسقط فرضه، وكذلك لا تصح بقية أعماله.
وأما من تركها متكاسلا ومتثاقلًا عنها، فإنه باق على دين الإسلام وينسب إلى المسلمين، ولكنه على خطر كبير حيث أنه أخَلَّ بهذا الركن العظيم، ويعتبر قد أذنب ذنبًا كبيرًا، ولكن حجه صحيح ويسقط عنه حجة الإسلام.
وذهب كثير من العلماء والمحققين إلى القول بكفره، وبطلان حجه وسائر أعماله لإطلاق الأحاديث في كفر تارك الصلاة (نقلًا من كتاب السراج الوهاج للمعتمر والحاج للشّيخ ابنِ جبرين صفحة 124، 125).(1/52)
وذلك لأنها أعظم شعائر الدين، ولا شك
أن ما كان بهذه العظمة لا يجوز التهاون به.
27 ـ وخير هذه الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان نُقدم هؤلاء الثلاثة كما قدَّمهم أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يختلفوا في ذلك.
28- ثم بعد هؤلاء الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام، ونذهب في ذلك إلى حديث ابن عمر: « كنا نعد ورسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حي وأصحابه متوافرون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت» (1) .
29- ثم من بعد أصحاب الشورى أهل بدر من المهاجرين، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على قدر الهجرة والسابقة أولًا فأولًا.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3655) في فضائل الصحابة، باب: فضل أبي بكر بعد النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بلفظ : « كنا نُخيَّر في زمن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فنخيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم».
وهذا اللفظ أخرجه المصنف (الإمام أحمد) في مسنده (2/ 14)، وابن أبي عاصم في السنة (552). وقد نقل ابن كثير في البداية (7/206)، (12/ 345) نحوه من رواية البزار، ثم قال: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد صحح إسناده الألباني.
انظر: السنة لابن أبي عاصم (1195).
وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (4626): إسناده صحيح.
قال شيخ الإسْلامُ ابنُ تيميَّةَ ـ رحمه اللَّهُ ـ : ومَن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حِمار أهله. (مجموع الفتاوى 3/ 153).
انظر: شرح الطحاوية صفحة 467-489.(1/53)
30- ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ القرن الذي بُعِثَ فيهم (1) كل مَن صَحِبَه سَنَة أو شهرًا أو يومًا أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدْر ما صَحِبَه، وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه نظرة، فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يَرَوْه، ولو لقوا الله بجميع الأعمال؛ كان هؤلاء الذين صحبوا النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ورأوه وسمعوا منه، ومن رآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل ـ لصحبته ـ من التابعين ولو عملوا كل أعمال الخير (2) .
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) لحديث عمران بن الحصين ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. ».
أخرجه البخاري برقم (3650)، ومسلم برقم (2535).
(2) قال ـ تعالى ـ : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [ سورة التّوبة الآية 100 ].
وقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».
أخرجه البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2541)، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ. والأدلة في فضل الصحابة وأنهم خير هذه الأمة كثيرة وثابتة.(1/54)
تكلم العلماء في العقائد على الصحابة، وذلك ردًّا على الرافضة الذين يُكفرون أكثر الصحابة، وسبب ذلك أن الرافضة لما اعتقدوا في علي ـ رضي الله عنه ـ اعتقدوا فيه هذه العقيدة السيئة، وهو أنه أولى بالخلافة من الصحابة الذين قبله، وهم أبو بكر وعمر وعثمان ورووا أحاديث مكذوبة في أنه وصيّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وأنه الذي أوصى إليه، عند ذلك لما عرفوا أن الواقع يخالف ما ذهبوا إليه؛ اعتقدوا أن أبا بكر وعمر وعثمان كلهم مغتصب، اغتصبوا ما ليس لهم من هذه الولاية وهذه الخلافة، وخطّئوا الصحابة الذين بايعوهم، واعتقدوا أن عليًّا مظلوم؛ حيث أُخذ منه الأمر، وهو أولى بالإمامة وأولى بالخلافة.
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل اعتقدوا كفر هؤلاء الصحابة، واعتقدوا أنهم ارتدوا، وطبق عليهم الحديث الذي فيه : « إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (1) .
__________
(1) هذا الحديث ورد في أناس يُطردون عن حوض النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فيقول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « أصحابي أصحابي». فيُقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
أخرجه البخاري برقم (6576)، ومسلم برقم (2297)، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ، وقد سبق تخريجه صفحة (38).
ولا شك أن الذين يطردون عن حوضه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هم الذين لم يتمسكوا بالسنة ولم يعملوا بها، وابتدعوا بدعًا في الدين، ونحو ذلك ممن انحرفوا عن الشريعة.
أما أصحابه الذين بقوا على السنة وتمسكوا بها وجاهدوا ونصروا هذا الدين فلا شك أنهم على الحق والصواب، وأنهم سيردون الحوض ويشربون منه ولن يطردوا عنه. =
= ولكن الرافضة ـ قاتلهم الله ـ يفسِّرون الأحاديث على أهوائهم وطريقتهم ومعتقدهم ليموهوا على الناس ويبينوا لهم أنهم على الحق ولكنهم في الحقيقة هم البعيدون عن الحق كما بين السماء والأرض.(1/55)
وأخذوا يجمعون أو يلفقون من الأكاذيب عليهم ، فاحتاج أهل السُّنّة إلى أن يردوا هذه الأكاذيب، فاعتنوا بالأحاديث التي في فضائل الصحابة، وبينوا أن ترتيب الصحابة في الخلافة هو ما وقع أن أحقهم بالخلافة حقًّا هو أبو بكر الذي سموه خليفة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأجمعوا على ذلك دون أي اختلاف، وبايعه الصحابة كلهم؛ وذلك لأنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رضي به خليفة في حياته في الصلاة لمّا مرض، قال: « مُروا أبا بكر فليصل بالناس » (1) هكذا قال : « مُروا أبا بكر» مرارًا، ولما أن بعض نسائه ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ قلن له : لو أمرت عمر ؟ قالته عائشة ثم حفصة فقال : « مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف » فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام التي كان فيها ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مريضًا، واستمر ذلك.
ولما توفي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اتفقوا على بيعته كإمام وخليفة عليهم، وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لديننا، أي أنه لما استخلفه للصلاة، فإنه أحق بأن يكون خليفة في الولاية العامة، فاتفقوا عليه ولم يختلفوا.
والأحاديث التي في فضله ـ رضي الله عنه ـ كثيرة، ذكر أكثرها الإمام أحمد في كتابه الذي سماه: (فضائل الصحابة) وكذلك الأحاديث التي في فضل عمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (664) في الأذان، باب: حدّ المريض أن يشهد الجماعة، من حديث عائشة ـ رضي الله عنهاـ.(1/56)
فأهل السُّنّة يترضَّون عن الصحابة جميعًا ويعتقدون أنهم أفضل هذه الأمة التي هي أفضل الأمم، وأفضل قرونها القرن الذي بعث فيه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأفضل أولئك القرن الصحابة، وأفضل الصحابة الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر فهو أفضل الأمة بعد نبيها، هكذا اتفق على ذلك أئمة السلف، وأئمة أهل السُّنّة، وفيه الحديث عن عبد الله بن عمر قال : ( كنا نقول ورسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان) (1)
فيبلغ ذلك النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فلا ينكره (2) لا ينكر هذا الترتيب الذي هو ترتيبهم في الفضل.
وقد تواتر عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يخطب ويقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر . مشهور ذلك عنه من طرق متعددة.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3655) في فضائل الصحابة، باب: فضل أبي بكر بعد النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بلفظ : ( كنا نُخيَّر في زمن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فنخيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم). =
= وهذا اللفظ أخرجه المصنف (الإمام أحمد) في مسنده (2/ 14)، وابن أبي عاصم في السنة (552). وقد نقل ابن كثير في البداية (7/206)،(12/ 345) نحوه من رواية البزار، ثم قال: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد صحَّح إسناده الألباني.
انظر: السنة لابن أبي عاصم (1195).
وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (4626): إسناده صحيح.
قال شيخ الإسْلامُ ابنُ تيميَّةَ ـ رحمه اللَّهُ ـ : ومَن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حِمار أهله. (مجموع الفتاوى 3/ 153).
انظر: شرح الطحاوية صفحة 467 ـ 489.
(2) هذه الزيادة ثابتة من طرق كثيرة عند أبي عاصم في السنة (2/ 568، 569) برقم (1194 ـ 1197)، والطبراني في الكبير.(1/57)
ولكن الرافضة قوم بُهْتٌ، لا يقبلون من كلامه ما يخالف معتقدهم، مع أنهم يعتقدون فيه الولاية والصدق، ولكن لما خالف ذلك معتقدهم، ردوا هذا الدليل الواضح الذي هو من كلامه ـ رضي الله عنه ـ.
وعهد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في آخر حياته وعند موته بالخلافة لعمر وقَبِل ذلك الصحابة وبايعه الصحابة ـ رضي الله عنه ـ فأجمعوا على بيعة عمر وكونه هو الخليفة الثاني، وهو أول من سُمِّي بـ (أمير المؤمنين)، وبقي في الخلافة عشر سنين إلى أن قتله أبو لؤلؤة أصيب المسلمون بقتله، كأنه لم يحصل لهم مصيبة مثلها بعد موت النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ واستمر ـ رضي الله عنه ـ بالخلافة هذه المدة وهو متقن لهذه الولاية، وعادل بين الأمة، وسائر فيهم أتم السيرة وأحسنها.
ثم بعده بيعة عثمان وأنه هو الخليفة بعده، ولم يزل كذلك إلى أن قتله الثُّوَّار الذين ثاروا عليه، ولما قُتِلَ لم يكن هناك أولى من علي ـ رضي الله عنه ـ فتمت له البيعة، إلا أن أهل الشام توقفوا عن البيعة حتى يُمَكِّنَهُم من قَتَلَة عثمان وانفصلوا، وحصل القتال بين أهل الشام وبين أهل العراق وتمت الخلافة لعلي في العراق والحجاز وفي اليمن وفي خراسان وانفصل الشام ثم مصر وصار في ولاية معاوية إلى أن قُتِلَ علي ـ رضي الله عنه ـ.
ولمَّا قُتِلَ تولى بعده ابنه الحسن نصف سنة، ثم تنازل عن الخلافة وسلَّمها لمعاوية .(1/58)
وبكل حال، فالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هم خير قرون هذه الأمة، وهم أولى بأن يُترحم ويُترضَّى عنهم؛ وذلك لسبقهم إلى الإسلام، ولفضلهم وفضائلهم التي لا يدركها غيرهم، وقد ثبت أنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: « لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه » (1) إذا كان الذي ينفق مثل جبل أحد من الذهب مع كثرته وكونه بهذا القدر من المال لا يبلغ نفقة أحدهم إذا أنفق مدا وهو ربع الصاع أو نصف المُد، دلّ على أن نفقاتهم وأعمالهم لا يدركها من بعدهم.
وبلا شك أن كل من رأى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مؤمنًا به واستمر على إيمانه إلى أن مات وهو على ذلك أن له فضل الصحبة، فضل كونه قد صحب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وشهد له بالرسالة، وبايعه، أو رآه فهو من أصحابه، فله هذه الميزة، وله هذه الفضيلة، ولا يدركهم غيرهم.
ثم بعدهم التابعون، نؤمن بأن أفضل الأمة بعد نبيها أهل القرن الأول، والذين هم الصحابة، ثم بعدهم تلامذتهم وأبناؤهم، الذين تعلَّمُوا منهم، والذين أسلموا على أيديهم.
ثم بعد التابعين تابع التابعين، ودليله قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، وسكت عن الباقي، هذا دليل على أن القرون الثلاثة هي أفضل قرون هذه الأمة؛
ولأجل ذلك كان الحق فيها ظاهرًا والسُّنّة فيها ظاهرة، وأهل السُّنّة ظاهرون والمبتدعة أذلة.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2541)، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ. والأدلة في فضل الصحابة وأنهم خير هذه الأمة كثيرة وثابتة.(1/59)
ولم يتمكنوا ـ أي المبتدعة ـ إلا في القرن الرابع وما بعده، فإنهم تمكنوا، وكثر الذين أنكروا كثيرًا من السُّنّة، وتمكن المعتزلة والجهمية وأتباعهم، وكذلك القدرية والجبرية وسائر المبتدعة والشيعة ونحوهم، تمكنوا في تلك القرون وصار لهم ولاية في العراق كدولة بني بويه، وفي الشام كدولة من سموا أنفسهم فاطميين، وهم بنو عبيد ونحوهم، لم يزالوا كذلك إلى أن أراح الله منهم العباد، ولكن تأثيرهم في تلك البلاد وبقايا سننهم لا تزال إلى الآن، وأبقى الله ـ تعالى ـ من أهل السُّنّة مَن يردُّ عليهم، ويُبين باطلهم.
فيعتقد المسلمون فضل الصحابة، ويعتقدون أنهم خير قرون هذه الأمة، وأن هذه الأمة أفضل القرون.
أمَّا ما يُلَفِّقه الرافضة على الصحابة، من أنهم فعلوا كذا وأنهم فعلوا كذا، وأن أبا بكر فعل، وأن عمر فعل، يطعنون في أبي بكر ـ مثلا ـ بأنه أقرَّ خالدًا وأنه يُسمِّي خالدًا سيف الله، وأن خالدًا يطعنون فيه أنه قتل مالك بن نويرة وأنه تزوج امرأته في تلك الليلة التي قتل فيها دون عدة، وأن أبا بكر أقرَّه، وقال: عجزت النساء أن تلد مثل خالد يقولون هذا من الطعن في أبي بكر وهذا كذبٌ صريحٌ.
خالد ـ رضي الله عنه ـ أنزَه وأفضل من أن يتزوج امرأة في عدتها، أو يقتل رجلاً مسلمًا لأجل امرأته، هذا كله من أكاذيب الرافضة على هؤلاء الصحابة.
وأما كذبهم على عمر بأنه تخلف عن جيش أسامة .
فنقول: أبو بكر هو الذي منعه؛ وذلك لأنه اعتبره وزيرا لا يستغني عنه، وأرسل جيش أسامة وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه،ورجعوا سالمين غانمين.
وكذلك أيضًا طعنهم في الصحابة بأنهم تولَّوا عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في غزوة حنين في قوله ـ عز وجل ـ : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ سورة التّوبة الآية 25 ].(1/60)
نقول: الله ـ عز وجل ـ عذرهم، والنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَذَرَهُم، وذلك لما أن المشركين نفحوهم بكثرة النبل انهزموا بقوة، ثم لما دعاهم رجعوا إليه، ولم يذكروا مَن الذين بقوا معه، ولم يَرِد أن عليًّا ـ رضي الله عنه ـ من الذين ثبتوا معه، فلا شك أنه ثبت معه العباس والحارث بن عبد المطلب وأمّا أن الذين انهزموا كلهم ضلال وكفار ومنافقون، فهذا بلا شك كذب على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
ويطعنون في الصحابة بأنهم تركوا النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قائمًا يوم الجمعة، في قوله عز وجل: { انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }[ سورة الجمعة الآية 11 ].
نقول: وهذا أيضًا ليس بطعن، فإننا نتحقق أنهم رجعوا، وليس عندنا يقين أن عليًّا من الذين بقوا، حتى يمدحوه، حيث إنهم يمدحون عليًّا فقد يكون داخلا في الذين خرجوا، ونتحقق أنهم خرجوا، ثم رجعوا وأكملوا الصلاة معه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وذكَّرهم الله بقوله: { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ }[ سورة الجمعة الآية 11 ] .
وبكل حال فتلفيقاتهم وأكاذيبهم كل ذلك مما يُمَوِّهُون به على الناس، وهم في الحقيقة أبعد عن أن يكونوا أهل حق وصواب.
31 ـ والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومَن وَلِيَ الخلافة، واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن عَلِيَهم (1) بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّيَ أمير المؤمنين (2) .
__________
(1) أي غلبهم وقهرهم بالسيف.
(2) لحديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بايعنا رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على السمع والطاعة في العُسر واليسر، والمَنْشَط والمَكْرَه، وأن لا ننازع الأمر أهله، وإن بَغَوْا علينا، وأن نقول بالحق حيثما كان، لا نخاف في الله لومة لائم ).
أخرجه البخاري برقم (7199)، ومسلم برقم (1709) .(1/61)
32 ـ والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة ـ البر والفاجر ـ لا يترك.
33 ـ وقسمة الفيء، وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض، ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم.
34 ـ ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه بَرًّا كان أو فاجرًا (1) .
35 ـ وصلاة الجمعة خلفه، وخلف مَن ولاه؛ جائزة باقية تامة ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع، تارك للآثار، مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شيء؛ إذا لم يَرَ الصلاة خلف الأئمة ـ من كانوا ـ برهم وفاجرهم، فالسُّنّة بأن يصلي معهم ركعتين ويدين بأنها تامة، لا يكن في صدرك من ذلك شك (2) .
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) قال شارح الطحاوية : وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفُرْقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية. اهـ. (الطحاوية صفحة 376).
(2) قال شارح الطحاوية : اعلم أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف مَن لم يعلم منه بدعة ولا فسقًا باتفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما = = كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف وكذلك أنس ـ رضي الله عنه ـ. اهـ. (الطحاوية صفحة 374).(1/62)
هذا الكلام قاله ردًّا على الخوارج الذين يخرجون على الأئمة، وردًّا أيضًا على المعتزلة الذين يبيحون الخروج على الأئمة، ويجعلون ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأئمة هم الذين تتم لهم الولاية، ويستولون على الأمة الإسلامية؛ سواء بعهد ذلك الوالي بأن عَهِدَ إليه من قِبَلِهِ، أو بالقوة من ذلك الوالي بأن أخذ الولاية بالقوة، وتولى عليهم بالغلبة، كل هذا بلا شك إذا تمت له الولاية وجبت الطاعة له، والسمع له، وحرم الخروج عليه.
وذلك لأن الخروج على الأئمة يسبب فتنًا وضررًا على المسلمين.
وكم حصل بسببه من القتل؟!
وكم حصل بسببه من السجن، وإضرار المسلمين، واضرار علماء المسلمين؟!
فلأجل ذلك قالوا: يجب السمع والطاعة لولاة الأمور، واستدلوا بقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « أوصيكم بالسمع والطاعة ـ يعني لولاة الأمور ـ وإن تأمّر عليكم عبدٌ حبشي، مجدَّع الأطراف، كأن رأسه زبيبة » (1) أمر بأن يُسمع له ويطاع إلا أنهم لا يطاعون في معصية؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » (2) ولكن لا يجوز أن يُخرج عليهم بالسيف، ولا تنزع الطاعة من أيديهم.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1298)، من حديث أم الحصين رضي الله عنها.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/131) بلفظ : « لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل ».
وأخرجه ابن أبي شيبة (12/ 546)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/ 145) و(10/ 22).
وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 177)، عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.
قال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1095): إسناده صحيح.(1/63)
أما الأعمال التي تُعمل معهم، فهي أن الإمام غالبًا هو الذي يتولى الغزو، ويتولى الحج، فيقول العلماء: الحج والجهاد ماضيان مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا، فإن هذا من خير أعمالهم، فإذا تولى على الجيش الذي يغزو والٍ؛ وكان معه شيء من الفسق كشرب الخمر أو سماع الغناء أو نحو ذلك، لم يكن ذلك مسببًا لنزع اليد من طاعته، وكذلك لو أقام الحج أحد الولاة والأمراء المعروفين بشيء من الفسق، فإن ذلك أيضًا من حسناتهم، ولا يجوز نزع الطاعة، ولا الخروج عليهم.
وكذلك أيضًا يقسمون الأموال، وأن قسمة الفيء وقسمة الغنائم وقسمة الأموال تكون إليهم، يضعونها كما أمر الله، ويفرقونها على مستحقيها، وتقبل منهم.
وكذلك أيضًا دفع الصدقات والزكوات إليهم وما أشبهها، ومن دفعها إليهم فإنه تبرأ ذمته، ولا يلزمه أن يخرجها مرة أخرى.
وبكل حال ولاة الأمور الذين لهم الولاية العامة تجب طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية، ويحرم الخروج عليهم، ونبذ طاعتهم لما يترتب على ذلك من المفاسد والفتن.
وكذلك تصح الصلاة خلفهم، وكان الولاة هم الذين يصلون بهم الجُمع والأعياد، فالوالي هو الذي يتولى صلاة الجمعة والعيد، ولو كان معهم شيء من الفسق أو من المعاصي.
وذهب بعض المبتدعة إلى أنه لا تجوز الصلاة خلفهم، ولو كان الإمام أميرًا أو واليًا، وصاروا يعيدون إذا صلوا خلفه، وهذا من التشدد والتنطع، وقد كان الصحابة يصلون خلف الأئمة أو الأمراء الذين معهم شيء من الفسق، كالحجاج وابن زياد والوليد بن عقبة ونحوهم، ولا يعيدون الصلاة.(1/64)
36 ـ ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأيِّ وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية (1) .
37 ـ ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السُّنّة والطريق (2) .
« الشَّرْحُ » :
الخروج على الأئمة يحصل به مفاسد كثيرة، فيحصل به فتن وقتل واضطهاد لأهل الخير، ويحصل به إذلال لأهل الدين، ولأهل الإيمان، ولأهل العلم، ولأهل العمل الصالح، ويحصل بذلك مفاسد، وقد جرب ذلك في العصور الأولى، كالذين مثلا خرجوا على الحجاج في ولايته، كابن الأشعث لما خلع بيعة أمير المؤمنين عبد الملك وخلع طاعة والي العراق الذي هو الحجاج واجتمع معه خلق كثير، حتى أن منهم كثير من علماء التابعين في ذلك الوقت، فحصل أنهم لما انتصر عليهم الحجاج فُرِّقوا وقُتلوا، وقتل بذلك خلقًا كثيرًا، وكان من آخرهم سعيد بن جبير ـرحمه الله ـ.
__________
(1) لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتته جاهلية ».
أخرجه البخاري برقم (7054)، ومسلم برقم (1849).
(2) قال شارح الطحاوية : وأما لزوم طاعتهم، وإن جاروا؛ فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جَوْرهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور، فإن الله ما سلَّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. (الطحاوية صفحة 381).(1/65)
كذلك أيضًا الفارس أو المقاتل الفاتح العظيم الذي هو قتيبة بن مسلم لما خلع طاعة سليمان بن عبد الملك حصل أنه قوتل حتى قتل، وقال ابن كثير إنه ينطبق عليه الحديث أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ولكن ترحّم عليه؛ لأنه كان له جهد في الجهاد، وفتح الكثير من البلاد، بلاد السند وما وراء النهر.
وهكذا ابن المهلب لما خلع أيضًا الطاعة، وحاول أن يستبد بالأمر، حصلت فتنة.
وهكذا في آخر عهد بني أمية خرج زيد بن علي بن الحسين وحاول أن يتم له الأمر، فقتل وقتل من معه واضطهدوا.
وكذلك في خلافة المنصور خرج اثنان من العلويين، وهما محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه العباس وكل منهما بايعه خلق كثير، ثم قُتلوا.
وبكل حال، فلا يجوز الخروج على الأئمة، لما يحصل بذلك من الإذلال والإهانة لأهل الخير، ومعلوم أن الأئمة في أيديهم الولاية فتجب طاعتهم إلا في المعصية، ويحرم الخروج عليهم إلا لما قاله النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان » (1) . وقال، لما قيل: ألا نقاتلهم؟ قال : « لا ما أقاموا فيكم الصلاة » (2) .
فمتى كانوا يقيمون الصلاة ويُظهرون شعائر الإسلام؛ ولو حصل منهم خلل أو نقص، أو لوحظ على بعضهم شيء من المعاصي والتقصير، فإن ذلك لا يسبب الخروج عليهم.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7056) في الفتن، باب: قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « سترون بعدي أمورًا تنكرونها ». ومسلم برقم (1841)، في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء من غير.. عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم برقم (1480)، عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ.(1/66)
38 ـ وقتال اللصوص والخوارج جائز إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله، فله أن يقاتل عن نفسه وماله، ويدفع عنها بكل ما يقدر، وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم، ولا يتَّبع آثارهم، ليس لأحد إلا الإمام أو ولاة المسلمين، إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه ذلك، وينوي بجهده أن لا يقتل أحدًا، فإن مات على يديه فيدفعه عن نفسه في المعركة فأبعد الله المقتول، وإن قُتِل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجوت له الشهادة، كما جاء في الأحاديث. وجميع الآثار في هذا إنما أمر بقتاله (1) . ولم يؤمر بقتله ولا اتباعه، ولا يُجيز عليه إن صرع أو كان جريحًا. وإن أخذه أسيرًا فليس له أن يقتله، ولا يقيم عليه الحد، ولكن يرفع أمره إلى مَن ولاه الله فيحكم فيه.
« الشَّرْحُ » :
اللصوص هم الذين يعتدون على الأموال، ومثلهم أيضًا المحاربون وقُطاع الطريق ونحوهم، وهؤلاء بلا شك ـ فيما يظهرـ من المسلمين، فإذا شهروا سلاحهم فإنهم يقاتلون بما يندفعون به، وقد ذكر الله أنهم يرد أمرهم، إلى قوله ـ تعالى ـ : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } [ سورة المائدة الآية 33 ].
فإذا دخل اللصوص في بيت من البيوت لأخذ مال فإن صاحب البيت يدفعهم بالتي هي أحسن ، ولا يبدؤهم بالقتال رأسًا، إذا لم يبلغوا أن يقاتلوا بل إنما دخلوا مثلا لأخذ مال أو اختلاس أو نحو ذلك، ولكن إذا رأى منهم القوة ورأى منهم الجد قاتلهم.
__________
(1) لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، قال: « جاء رجل إلى رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطِه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتِلْه، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار».
أخرجه مسلم برقم (140).(1/67)
وقد روي عن ابن عمر أنه دخل عليه مرة لص فأصلت السيف في وجهه ولولا أن أبناءه قبضوه لقتل ذلك اللص، وكأنه عرف منه أنه معتدٍ، وأنه جاء لأجل الفساد، أو أنه ليس من أهل العصمة.
ولكن حين وردت الأدلة بمنع القتل فإنهم يدفعون بالتي هي أحسن، وأنه إذا جرح أحد منهم فلا يجاز عليه، يعني لا يتمم قتله ولا يتبع مدبرهم المنهزم منهم، بل يُترك، فقد دل ذلك على أنهم لم يخرجوا من الإسلام.
فيهددهم ويخوفهم بعدما يذّكرهم، فإذا لم ينفع فيهم التذكير ولا التخويف ولا التهديد أظهر لهم أن عنده من القوة ما يدفعهم وما يردهم، فإذا لم يندفعوا استعمل القوة بأدنى مراتبها.
فإن كانوا يكتفون بضربهم بالعِصِيِّ اكتفى بذلك، ولم يستعمل السلاح، فإذا لم يُكَفُّوا استعمل السكين مثلا دون السيف، وإذا لم يُكَفُّوا استعمل السيف أو ما يُقتلون به أو ما يقاتل به في هذه الأزمنة كالرصاص ونحوه استعمل ذلك لدفع كيدهم ولدفع شرهم؛ وسواء كان اعتداؤهم لأجل قتله، أو لأجل ماله، أو لأجل محارمه، أو ما أشبه ذلك، كل هؤلاء من اللصوص المعتدين، يدفعون بما يندفع به شرهم، أو يرفع بأمرهم إلى من يأخذ على أيديهم.
39 ـ ولا نشهد على أحد من أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار، نرجو للصالح، ونخاف عليه، ونخاف على المسيء المذنب، ونرجو له رحمةَ الله.
« الشَّرْحُ » :
هذا من عقيدة أهل السُّنّة، أنهم لا يجزمون لأحدٍ بجنة ولا نار ولو انطبقت عليه بعض الأحاديث، فهناك أحاديث في الوعيد، وهناك أحاديث في الوعد، فيقولون: إن أمره إلى الله ـ تعالى ـ.
مثلا قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :« إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (657) في المساجد ومواضع الصلاة، باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر. عن عتبان بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في حديثه الطويل.(1/68)
هذا من أحاديث الوعد فليس كل من رأيناه يقولها نقول: هذا من أهل الجنة، هذا محرم على النار؟ بل نقول: هذا أمره إلى الله؛ لأن الإخلاص غيبي؛ كذلك أيضًا قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :« لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر » (1) .
وقوله : « لا يدخل الجنة قَتَّات أو نمّام » (2) .
هل نقول: إن هؤلاء من أهل النار؟ لا. فإن أمرهم إلى الله، وما في قلوبهم خَفِيٌّ، فلا نجزم لأحد بجنة ولا نار؛ بل نقول هؤلاء من العصاة الذين وردت فيهم هذه الأدلة، أمرهم إلى الله، إن شاء عذَّبهم، وإن شاء غفر لهم.
وهؤلاء وُعِدُوا بالثواب ووُعِدُوا بالمغفرة، وأمرهم إلى الله إن شاء كمل ذلك وأثابهم، بأن رحمهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عاقبهم على ما عملوه، والله أعلم بكيفية ذلك.
هذا معنى كون أهل السُّنّة لا يجزمون لمُعين بجنة ولا نار،
إلا مَن جزم له النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كالعشرة ونحوهم من الذين ورد تسميتهم أنهم من أهل الجنة (3)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (91) ـ 148، 149، في الإيمان، باب: تحريم الكِبْر. عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري برقم (6056) في الأدب، باب: ما يكره من النميمة، ومسلم برقم (105) ـ 169، 170، في الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ، بلفظ : « لا يدخل الجنة قتّاتٌ ».
وأخرجه مسلم برقم (105) ـ 168، بلفظ: لا يدخل الجنة نمام.
(3) ونشهد بالجنة لكل من شهد له رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كالعشرة المبشَّرين بالجنة وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد.
وغير العشرة كالحسن والحسين والشهادة لثابت بن قيس وعكاشة بن محصن وعبد الله بن سلام وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة الذين شهد لهم الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بالجنة.(1/69)
وكالذين ورد عنهم أنهم من أهل النار كأبي لهب في قوله ـ عز وجل ـ : { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } [ سورة المسد الآية 3 ] ونحوهم ممن وردت النصوص في أنهم من أهل العذاب (1) .
40 ـ ومن لقي الله بذنب يجب له به النار ـ تائبًا غيرَ مُصِرٍّ عليه ـ فإن الله يتوب عليه، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات (2) .
41 ـ ومن لقيه وقد أُقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا فهو كفارته، كما جاء في الخبر عن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ (3) .
__________
(1) والقول في الجنة هو القول في النار، فلا نشهد لأحد بالنار إلا من شهد له الله ورسوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بالنار كأبي لهب وأبي جهل والشهادة عن أبيه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه في النار، وعمه أبي طالب وغيرهم. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
(2) قال ـ تعالى ـ : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } [سورة الشورى الآية 25].
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « مَن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ». أخرجه مسلم برقم (2703). وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال : « إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ».
أخرجه الترمذي برقم (3537)، وابن ماجه برقم (4253)، وأحمد في مسنده (2/132). قال الترمذي: حسن غريب. وحسّنه الألباني كما في صحيح الجامع برقم (1903). وغير ذلك من الأدلة التي فيها أن الله ـ عز وجل ـ يعفو عن السيئات لمن تاب وحسنت توبته.
(3) لحديث خزيمة بن ثابت عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « من أصاب ذنبًا فأقيم عليه حد ذلك الذنب، فهو كفارته ».
أخرجه أحمد (5/ 215)، وقد حسَّن إسناده ابن حجر في الفتح (1/ 86)، والألباني في الصحيحة (1755).
ولحديث عبادة بن الصامت : « بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا... فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه ». أخرجه البخاري برقم (3892)، ومسلم برقم (1709).(1/70)
42 ـ ومن لقيه مُصِرًّا غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها العقوبة؛ فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (1) .
« الشَّرْحُ » :
وأمر الآخرة إلى الله -تعالى- فقد أخبر الله بأنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وذلك إليه سبحانه وتعالى.
فمن لقيه وهو من أهل التوحيد فهو أهلٌ أن يُغفر له، ورد في حديث ابن مسعود : « مَن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار» (2) ولكن مع ذلك فإننا لا نجزم لهذا بالجنة، ولهذا بالنار؛ بل هذا ورد وعيده، وهذا ورد وعده، وكلهم تحت مشيئة الله ـ تعالى ـ إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم؛ وذلك لأن أعمالهم مهما كثرت لا تقابل نعمة الله عليهم ورحمته بهم، حتى قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل » (3) .
__________
(1) قال ـ تعالى ـ : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ سورة النساء الآية 116 ].
(2) أخرجه البخاري برقم (1238) في الجنائز، باب: في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ. =
= وأخرجه مسلم برقم (93)- 152، في الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئًا..، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، واللفظ الذي ذكره الشارح هو لفظ جابر بن عبد الله عند مسلم وليس لفظ عبد الله بن مسعود كما ذكر الشارح.
(3) أخرجه البخاري برقم (6463) في الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل، ومسلم برقم (2816) ـ 71، 76، في صفات المنافقين، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله ...، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه البخاري برقم (6464) في الرقاق، باب: القصد والمداومة على العمل. ومسلم برقم (2818)- 78، 79، في صفات المنافقين، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله...، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه مسلم برقم (2817) في صفات المنافقين، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله.. ، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ.(1/71)
فنحن محتاجون إلى رحمة الله، وأعمالنا تقصر عن أن تكون سببًا مستقلا بنجاتنا، ولكن الله ـ تعالى ـ أمر بالعمل الصالح، وأمر بالإكثار من الحسنات، ونهى عن السيئات، وجعل ذلك من أسباب رحمته ودخول جنته، ونهى عن السيئات والمخالفات التي تكون أيضًا سببًا لغضبه وعقابه.
أما إذا لقي الله ـ تعالى ـ وقد أقيم عليه الحد: فإذا كان تائبًا من ذلك الذنب فإن الحد كفارة. وإذا أقيم عليه الحد، ولكنه لم يعترف ولم يتب، فلا ينفعه، إنما يكون الحد زاجرًا له حتى لا يعود مرة أخرى إلى هذا الذنب، أو زاجرًا لغيره.
وقد بيَّن العلماء أن الحدود لا تكون كفارة إلا لمن تاب فمن زنا مثلا وجاء معترفًا وقال: أقيموا عليَّ الحد، كما فعل ماعز والغامدية (1) فإن ذلك كفارة، وأما من أنكر وشهد عليه الشهود بأنه زنا ورجم بذلك، وهو منكر غير تائب فالحد لا يُطَهِّره، وإنما يمنع غيره من أن يفعلوا كفعله، وهكذا بقية الحدود التي تقام في الدنيا، لا تكون مُكَفِّرَةً إلا لمن تاب من ذلك الذنب، وحسنت توبته.
43 ـ ومن لقيه ـ من كافرـ عذَّبه ولم يغفر له.
« الشَّرْحُ » :
الكفر يطلق على جَحْد الربوبية، أو الإشراك في الألوهية، وقد يطلق على إنكار الشريعة أو شيء من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، كقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة » (2)
__________
(1) قصة رجم ماعز والغامدية رواها مسلم برقم (1693، 1694، 1695) عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وبريدة ـ رضي الله عنهم ـ.
(2) الأحاديث في إطلاق الكفر على تارك الصلاة كثيرة ومتواردة وصحيحة، فمن ذلك:
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: « إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ». أخرجه مسلم برقم (82).
وعن بريدة بن الحصيب ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول:
« العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».
أخرجه الترمذي برقم (2621)، والنسائي برقم (462)، (1/232)، وابن ماجه برقم (1079)، وأحمد في مسنده (5/ 346).(1/72)
وغيره.
فالكافر إذا مات مصرًّا على الكفر كالشرك والطعن في الرسالة أو في القرآن، أو أنكر البعث والنشور أو نحو ذلك، فإنه محكوم له بالخلود في النار والعذاب في الآخرة، قال الله ـ تعالى ـ : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ سورة آل عمران الآية 91 ] فدل على أن من مات مؤمنًا غفر له كفره، فقد قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لأبي طالب : « قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله » (1) وقال ـ تعالى ـ : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ سورة محمّد الآية 34 ] وذلك لأنهم ماتوا على كفرهم فكيف يغفر لهم وهم على كفرهم؟!.
وقد أخبر الله -تعالى- أنه لا يغفر الشرك عمومًا في قوله ـ تعالى ـ : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ سورة النِّساء الآية 48 ] وهو يَعُم الشرك كله صغيره وكبيره.
وقال ـ تعالى ـ : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [ سورة المائدة الآية 72 ] ولعل هذا في الشرك الأكبر، وكل ذلك دليل على عِظَم ذنب الكفر والشرك، والله أعلم.
44 ـ والرجم حق على من زنا وقد أُحصن إذا اعترف أو قامت عليه بينة (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3884) من حديث المسيب ـ رضي الله عنه ـ.
(2) الأدلة في رجم الزاني المحصن كثيرة، منها :
عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ». أخرجه مسلم برقم (1690).
وعن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم .... »
أخرجه النسائي برقم (4068)، (7/103)، وأحمد في المسند (1/ 63). قال أحمد شاكر (452): إسناده صحيح.
وغير ذلك من الأدلة الصحيحة الثابتة.(1/73)
45 ـ وقد رجم رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وقد رجمت الأئمة الراشدون (1) .
« الشَّرْحُ » :
يعني رجم الزاني المحصن الذي قد تزوج، ثم زنا بعدما تزوج زواجًا شرعيًّا ودخل بامرأته، رجمه ثابت في السُّنّة، متواترة به الأحاديث، فمن أنكره فقد أنكر سُنة معلومة ظاهرة.
وقد أنكرت ذلك الخوارج الذين يقولون إنهم لا يعملون إلا بما في القرآن، وقالوا: ليس في القرآن رجم، وقد بيَّن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن من جملة ما نزل آية الرجم، يقول: فكتبناها وقرأناها على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثم كانت مما نسخ لفظه وبقي معناه.
فنعتقد أن رجم المحصن من السُّنّة، بأن يرجم حتى يموت، إذا قامت عليه البينة، أو اعترف بالزنا أربع مرات، وبقي على اعترافه إلى أن يقام عليه الحد.
__________
(1) والأدلة في أن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رجم والخلفاء الراشدون بعده رجموا ثابتة ومتواترة في الصحيحين وغيرهما ومن ذلك:
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله : ( إن الله قد بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها، ووعيناها، وعقلناها، فرجم رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحَبَلُ، أو الاعتراف).
أخرجه البخاري برقم (7323)، ومسلم برقم (1691).
وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال ـ حين رجم المرأة يوم الجمعة ـ: ( قد رجمتها بسُنّة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ).
أخرجه البخاري برقم (6812)، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا .(1/74)
مسألة : قد يقول قائل: لماذا جاء الإمام أحمد بالرجم وقتال اللصوص، في رسالة تتكلم عن العقيدة، ولم يتكلم عن الأسماء والصفات مثلا؟ فنقول :
اكتفى في أولها بالتمسك بالكتاب والسُّنّة، فإن ذلك عام يدخل فيه الإيمان بالأسماء والصفات وما أشبهها، وكأنه وضع هذه الرسالة فيما يظهر للأمور الظاهرة، التي هي أقرب إلى أنها من الأعمال، فجاء فيها بما يدخل في هذه الأمور، وألحق بها هذه الأشياء، ولو كانت من الفروع؛ لكون الخلاف فيها مع هؤلاء الذين ابتلي بهم الناس في زمانه وبعد زمانه؛ ولأجل ذلك اهتم بهذه الأمور الواقعية، والغالب أن من كتب رسالة يهتم بالذي يكثر فيه الخلاف مع أهل زمانه.
46 ـ ومن انتقص أحدًا من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أو أبغضه بحدث كان منه أو ذَكَر مساوِئَه كان مبتدعًا حتى يترحم عليهم جميعًا، ويكون قلبه لهم سليمًا (1) .
__________
(1) الأدلة في فضل الصحابة وأنهم أفضل البشر بعد الأنبياء كثيرة، نذكر منها قوله ـ تعالى ـ : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } [ سورة التوبة الآية 117 ] ، وقال ـ تعالى ـ : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [سورة الحشر الآية 10 ].
وقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» .
أخرجه البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2541) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.
ومن هذه الآيات والحديث يتبين لنا فضل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فلذا وجب علينا أن نذكر محاسنهم، وأن نترحّم عليهم وأن نستغفر لهم وأن نكف عن مساوئهم وما شجر بينهم وأن نعتقد فضلهم ومعرفة سابقتهم.(1/75)
« الشَّرْحُ » :
يقول: من تنقَّص أحدًا من الصحابة يعني: عابه، أو ذكر مثالبهم أو مساوئهم، أو نحو ذلك؛ فإنه يعتبر بذلك قد ابتدع وتعدَّى على حرمة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
ولا شك أنه قد وقع من بعضهم أمور اجتهادية أنكرتها عليهم الرافضة، وعَدُّوها من المثالب، وقد يكون بعضها من المحاسن، وبعضها من محاسن الدين، ومن محاسن الشريعة، ولا شك أنها من فضائلهم، ولو عدوها من مثالبهم (1) .
__________
(1) قال الشَّيْخُ ابْنُ جِبْرِيْن : اشتهر عن الرافضة لعنهم الله، سَبُّ الصحابة وشتمهم وتكفيرهم، وبالأخص أكابرهم، كالعشرة ما عدا عليًّا، وقد ولَّدوا أكاذيب وتُرَّهَات لفَّقوها، وألصقوها بهم، وجحدوا فضلهم وأنكروا جميع ميزاتهم، واتهموهم بإخفاء شيء من القرآن ونحوه، وأضافوا إلى ذلك الغلو والإفراط في علي وأهل بيته، حتى عبدوهم من دون الله.
فلأجل الرد عليهم، وإظهار بُهْتَانهم أظهر أهل السُّنّة فضل الصحابة وسبقهم، وجعلوه في معتقداتهم.
فنحن نحب جميع الصحابة، ونترضَّى عنهم، ونعترف بفضلهم، ونشهد لهم بالصلاح، وندعو لهم مع أنفسنا، فنقول: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } [ سورة الحشر الآية 10 ].
وما ذاك إلا أنهم آمنوا وصدقوا الرسول حتى في وقت القلة والذلة، ثم هاجروا وتركوا البلاد والأهل والمال، ثم بذلوا نفوسهم وما يملكونه رخيصة في سبيل الله، وإعلاء كلمته ونُصرة رسوله، هذا مع العبادة والتهجد، والمسابقة إلى الخيرات، كما تشهد بذلك الآثار المستفيضة. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد للشَّيْخِ ابْنِ جِبْرِيْن، صفحة: 175، 176.(1/76)
وقد بيَّن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في العقيدة الواسطية، أن ما يروى عن الصحابة: إما أن يكون كذبًا لا أصل له مما افتراه عليهم أعداؤهم، وإما أن يكون قد زِيدَ فيه أو حُرِّفَ أو غُيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وقد أخبر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بأن من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر (1) .
47 ـ والنفاق هو الكفر: أن يكفر بالله ويعبد غيره، ويُظهر الإسلام في العلانية (2) مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ .
وقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « ثلاث من كن فيه فهو منافق » (3)
__________
(1) لحديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ، قال، قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ».
أخرجه البخاري برقم (7352)، ومسلم برقم (1716).
(2) الأدلة في ذكر المنافقين والنفاق كثيرة، منها ما ذكره الشيخ في الشرح، ومنها قوله ـ تعالى ـ : { يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ } [ سورة آل عمران الآية 154 ]. وقال ـ تعالى ـ : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ سورة النساء الآية 145 ].
وغير ذلك من الأدلة التي تُبين أن النفاق هو: إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وهذا هو النفاق الاعتقادي.
(3) أخرجه البخاري برقم (33) في الإيمان، باب: علامة المنافق، ومسلم برقم (59) في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ بلفظ : « آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ».
وأخرجه البخاري برقم (34) في الإيمان، باب: علامة النفاق، ومسلم برقم (58) في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ : « أربعٌ مَن كُنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق ... » الحديث، وهذا هو النفاق العملي.(1/77)
هذا على التغليظ نرويها كما جاءت، ولا نفسرها.
« الشَّرْحُ » :
المنافق هو الذي في الأصل يُظهر الإسلام ويخُفي الكفر، وهم الذين إذا { لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ سورة البقرة الآية 14 ] والذين { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [ سورة الفتح الآية 11 ].
هؤلاء هم المنافقون، ولو فعلوا ذلك تَستُّرًا أو سترًا لعقائدهم، والأصل أنهم يريدون بذلك أن يأمنوا مع هؤلاء ومع هؤلاء، يقول الله ـ تعالى ـ : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } أعطونا من الغنيمة نحن معكم { وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } يعني: نصرٌ { قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[ سورة النِّساء الآية 141 ] .
فهم مع المؤمنين في الظاهر، ومع المنافقين في الباطن، هذا أصل النفاق، وهذا يُقال له النفاق الاعتقادي.
وأما النفاق العملي : فهو المذكور في حديث : « أربع مَن كُنّ فيه كان منافقًا » (1) وحديث : « آية المنافق ثلاث » (2) .
هذه الخصال تسمى نفاقًا عمليًّا، ولكنه من علامات النفاق الاعتقادي.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (34) في الإيمان، باب: علامة النفاق، ومسلم برقم (58) في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه البخاري برقم (33) في الإيمان، باب: علامة المنافق، ومسلم برقم (59) في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ بلفظ: « آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان » .(1/78)
48 ـ وقوله: « لا ترجعوا بعدي كفارًا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض » (1) ومثل: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار » (2) ومثل: « سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر » (3) ومثل: « من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما » (4) ومثل: « كُفْرٌ بالله تَبَرُّؤٌ من نسب وإن دقّ » (5) .
ونحو هذه الأحاديث مما قد صح وحُفظ، فإنا نُسلم له، وإن لم نعلم تفسيرها ولا نتكلم فيها، ولا نجادل فيها، ولا نُفسر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت لا نَردها إلا بأحق منها.
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (121) في العلم، باب: الإنصات للعلماء، ومسلم برقم (1679) في القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، عن أبي الغادية ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري برقم (31) في الإيمان، باب: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، ومسلم برقم (2888) ـ 15، في الفتن، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه البخاري برقم (48) في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ومسلم برقم (64) في الإيمان، باب: بيان قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(4) أخرجه البخاري برقم (6104) في الأدب، باب: من كفَّر أخاه من غير تأويل فهو كما قال، ومسلم برقم (60) في الإيمان، باب: بيان حال إيمان من قال لأخيه يا كافر، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(5) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 215). قال أحمد شاكر (7019): إسناده حسن. وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع (4485).(1/79)
هذه الأحاديث استدل بها الخوارج على تكفير العصاة ويقولون : إن المعصية الكبيرة تُخرج من الملة وتُدخل في الكفر، ويحكمون على أهل المعاصي وأهل الذنوب والكبائر بأنهم مخلدون في النار، يستدلون بهذه الأحاديث :« سباب المسلم فسوق وقتاله كُفر» (1) « لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (2) أو كذلك أحاديث النفاق، وعلامات النفاق: « أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر » (3) .
معلوم أن هذه الخصال لا تُخرج من الملة، فمثلا ليس خلف الوعد مخرجًا من المِلّة، وليس نفاقًا صريحًا، يعني: اعتقاديًّا، وكذلك الخيانة وما أشبهها، ولكنها من الذنوب ومن كبار المعاصي .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (64) في الإيمان، باب: بيان قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري برقم (121) في العلم، باب: الإنصات للعلماء، ومسلم برقم (1679) في القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، عن أبي الغادية ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه البخاري برقم (34) في الإيمان، باب: علامة النفاق، ومسلم برقم (58) في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ : « أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَلَّة منهن كان فيه خَلَّة من النفاق ... » الحديث، وهذا هو النفاق العملي.(1/80)
فالعبد الذي يسمع مثل هذه الأدلة يعرضها على الكتاب والسُّنّة، فيقول: نقبلها، ولكن لا نقول: إنها مُخرجة من الإسلام، وأن من عمل بها فإنه ليس بمسلم؛ بل أمره إلى الله ـ تعالى ـ ومثله: « بريء من الإسلام من تبرأ من نسب وإن دق » (1) ومثله : « إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما » (2) كل ذلك من أحاديث الوعيد.
يقول أهل السُّنّة: إن أحاديث الوعيد تُجْرَى على ظاهرها، ليكون أبلغ في الزجر، مع الاعتقاد بأنها لا تصل إلى الخروج من الملة، لا نقول: مثلا إن هذا قد كفر وخرج من الإسلام بهذا الذنب، بل نقول: عمله عمل كفر، وأما هو فلا يكون كافرًا، ففرق بين العمل وبين العامل، فالعمل يكون من أعمال الكفار أو من أعمال المنافقين، ولا يلزم أن كل من عمل هذا العمل يخرج من الإسلام، ويدخل في الكفر؛ بل أمرهم إلى الله ـ تعالى ـ ونحثهم على التوبة والرجوع إلى الله (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 215). قال أحمد شاكر (7019): إسناده حسن. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4485).
(2) أخرجه البخاري برقم (6104) في الأدب، باب: من كفَّر أخاه من غير تأويل فهو كما قال، ومسلم برقم (60) في الإيمان، باب: بيان حال إيمان من قال لأخيه يا كافر، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) فائدة:
قال الشَّيْخُ ابْنُ جِبْرِيْن : وأما التكفير بالذنوب لأهل القبلة -أي: أهل الإسلام، واستقبال القبلة في الصلاة والحج ونحوها- فلا يجوز تكفيرهم بمجرد عمل ذنب كبير ونحوه، وما ورد من نصوص الوعيد فإنا نُجريها على ظاهرها، ليكون أبلغ في الزجر عن تلك المآثم، مع اعتقادنا أنه لا يخرج بها من الدين، ولا يُخَلًّد في النار، ونقول في جنس أهل الكبائر: إنهم مؤمنون ناقصو الإيمان، أو فاسقون بكبائرهم، وهم في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذَّبهم بقدر ذنوبهم، ثم مآلهم إلى دخول الجنة، خلافًا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ويستحلون دماء أهل الكبائر، وأموالهم، وللمعتزلة الذين يخرجون العاصي من الإسلام، ولا يُدخلونه في الكفر، وهو في الآخرة عند الخوارج والمعتزلة مخلد في النار، أنكروا أحاديث الوعد والشفاعة ونحو ذلك. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد للشيخ ابن جبرين، صفحة 172.(1/81)
49 ـ والجنة والنار مخلوقتان قد خُلِقَتَا ، كما جاء عن رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « دخلت الجنة فرأيت قصرًا » ،« ورأيت الكوثر » ،« واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها ... كذا» ،« واطلعت في النار فرأيت ... كذا وكذا » (1)
__________
(1) وردت بعض هذه الألفاظ في حديث الإسراء الطويل، وحديث خسوف الشمس، وغيرها من الأحاديث :
(أ) حديث الإسراء، عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال:«... ثم أُدخلت الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك ».أخرجه البخاري برقم (349)، ومسلم برقم (163).
(ب) حديث خسوف الشمس، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : «... ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضًا حيث رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها عمرو بن لحي وهو الذي سيب السوائب ». أخرجه البخاري برقم (1212).
حديث خسوف الشمس أيضًا، عن عبد الله بن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «.. إني رأيت الجنة، أو أريت الجنة، فتناولت عنقودًا.. ورأيت النار فلم أَرَ كاليوم منظرًا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء ». أخرجه البخاري برقم (5197).
(د) وعن عمران ـ رضي الله عنه ـ، عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: « اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ». أخرجه البخاري برقم (5198). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تثبت أن الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رأى الجنة ورأى النار، ولا شك أن كونه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رآهما يعني أنهما مخلوقتان وموجودتان وإلا فكيف يرى = = ويطلع على شيء لم يُخلق بعد؟! وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة بأن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن.(1/82)
فمن زعم أنهما لم تُخلقا فهو مكذِّبٌ بالقرآن (1) وأحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ (2) ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار (3) .
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) من الآيات التي تثبت أن الجنة والنار مخلوقتان، قوله ـ تعالى ـ عن الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ سورة آل عمران الآية 133 ] ، وقوله عن النار: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ سورة البقرة الآية 24 ].
(2) وقد سبق الإشارة إلى شيء من هذه الأحاديث.
(3) قال الشَّيْخُ ابْنُ جِبْرِيْن : نعتقد أن الجنة حق، وأن النار حق، فالجنة دار كرامته ـ تعالى ـ يُنعم بها أولياءه، والنار دار إهانته يُعذب بها أعداءه، ولكل منهما ملؤها، والقرآن مملوء من ذكر الجنة والنار وما فيهما من النعيم والجحيم.
وهما موجودتان الآن، كما قال ـ تعالى ـ عن الجنة: { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[ سورة آل عمران الآية 133 ] ، وعن النار: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ سورة البقرة الآية 24 ] ، أي هُيِّئت وأوجدت، وقال في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا }[ سورة غافر الآية 46 ] وأخبر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه رآهما وهو في صلاة الكسوف وغيرها، ورأى من فيهما، ووصفهما بما يوجب القطع بوجودهما الآن.
وتكاثرت الأدلة على أبدية الجنة والنار، وأنهما لا تفنيان، ولا ينقطع ما فيهما أبدًا وسرمدًا، قال ـ تعالى ـ : { لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [ سورة التوبة الآية 21، 22 ] ، وقال: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [ سورة المائدة الآية 37 ]. اهـ من كتاب التعليقات على متن لمعة الاعتقاد للشيخ ابن جبرين، صفحة 156، 157.(1/83)
هذا أيضًا من الإيمان باليوم الآخر، أي: الإيمان بأن الجنة موجودة الآن مخلوقة، وكذلك النار خلافًا لبعض الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم، الذين يقولون: إنما يُنْشِئهما الله في يوم القيامة، وأما الآن فليستا بموجودتين، فإذا كانت الأحاديث صريحة بأنه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قد أخبر بأنه دخل الجنة، ورأى فيها كذا وكذا، وأُري النار، ورأى فيها كذا وكذا، فهذا دليل على أنهما موجودتان ومخلوقتان، وإنما يوم القيامة يخرجان في قول الله ـ تعالى ـ : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ *وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ سورة الشعراء : 90 ـ 91 ] يعني: أظهرت وبرزت الجحيم للغاوين، ففي يوم القيامة تبرز،
ويقول في الحديث : « يُجاء يوم القيامة بجهنم » (1) يعني: تفسيرًا لقوله ـ عز وجل ـ :
{ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } [ سورة الفجر الآية 23 ] يُجاء بها يجرها الملائكة، كما أخبر في الحديث.
50 ـ ومن مات من أهل القبلة مُوَحِّدًا يُصلى عليه، ويُستغفر له، ولا يُحجب عنه الاستغفار، ولا تترك الصلاة عليه لذنب أذنبه ـ صغيرًا كان أو كبيرًا ـ أمره إلى الله ـ تعالى ـ.
والحمد لله وحده وصلواته على مُحَمَّدٍ وآله وسلم تسليمًا.
« الشَّرْحُ » :
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2842) في الجنة، باب: في شدة حر نار جهنم... عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : « يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ».(1/84)
ورد في الحديث : « صلوا على مَن قال لا إله إلا الله » (1) . فالذين دخلوا في الإسلام، وأظهروا الإسلام، هم من أهل الإسلام، ومن أهل التوحيد، فنصلي على من مات منهم، ولو علمنا منه شيئًا من الذنوب غير المكفرة، أي: الذنوب التي تخرج من الملة كترك الصلاة مع الاستمرار عليها (2) وكذلك النفاق.
قال الله ـ تعالى ـ في المنافقين: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }
[ سورة التوبة الآية 84 ] فهؤلاء بلا شك منافقون ممن اتضح نفاقهم وعُرف.
وكان الصحابة لا يصلون على من يشكون في أمره حتى يصلي عليه مثل حذيفة الذي أطلعه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على بعض أسماء المنافقين، أما بقية المسلمين ولو كان فيهم معاصٍ وتقصير فإنه يُصلى عليهم، ويوكل أمرهم إلى الله ـ تعالى ـ ونعتقد أن ذنوبهم لم تخرجهم من الإسلام.
وبلا شك أن العاصي أحق بأن يُدعى له؛ لأنه هو الذي وقع منه الذنب، فهو أحق بأن يُدعى له ويُصلى عليه ويُترحم عليه، حتى يَغفر الله له.
أما المبتدعة فلا تجوز الصلاة عليهم، أعني الذين بِدَعهم تكفرهم، فأصحاب البدع المكفرة لا يجوز أن يُصلى عليهم.
__________
(1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 67)، والطبراني في الكبير (12/ 447)، والمتقي الهندي في كنز العمال (42264)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/ 305، 3/ 177).
(2) سبق الكلام على مسألة الصلاة وذكرنا أن من تركها جحودًا فهو كافر كفرًا أكبر مخرج من الملة، وهذا باتفاق العلماء. أما من تركها تهاونًا وكسلًا ففيه خلاف بين العلماء. انظر صفحة ( 45 ـ 46 ) من هذا الكتاب.(1/85)
وقد كفّر السلف الدعاة إلى البدع، مثل الجهمية ونحوهم، وبلا شك أيضًا أن الرافضة كفار، نعتقد ذلك؛ لأنهم يطعنون في الكتاب والسُّنّة، ويطعنون في الصحابة، ولا يُصلى عليهم؛ لكونهم بلغوا وسيلة يكفرون بها، سيما الذين يشركون ويدعون أهل البيت في الملمات وفي الأزمات، ونحو ذلك.
فالمشرك الذي يُرى منه الشرك؛ سواء كان قبوريًّا أو صوفيًّا؛ فإنه يعتبر بذلك ليس بمسلم وليس بموحد، فلا يصلى عليه.
وما ورد أيضًا أن الإمام يترك الصلاة على بعض العصاة فإن ذلك لأجل الزجر عن فعله، لا يصلي الإمام على من قتل نفسه، ولا يصلي على الغال الذي يغل من الغنيمة زجرًا عن مثل هذا الذنب، ولكن يأذن لهم بأن يصلوا عليه، حتى ولو كان في هذه الحالة، يعني: قاتل نفسه ونحوه، فهم من المسلمين لا يخرج أحدهم من الإسلام .
وهذا آخر الشرح الذي أُلقي ارتجالًا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة وسلم.
« فهرس الموضوعات »
كلمة حق
تقديم الطَّبعة الثَّانية لفضيلة الشَّيخ العلاّمة عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجبرين
تقديم الطَّبعة الأولى لفضيلة الشَّيخ العلاّمة عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجبرين
مقدّمة المحقّق
ترجمة موجزة لصاحب 'المتن' إمام أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل رحمه اللَّه
أصول السُّنَّة
ترك البدع
ترك الخصومات
ترك المراء والجدال
تعريف السُّنَّة
لا تُضْرَبُ للسُّنَّة الأمثال
القدر خيره وشره
رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة
القرآن كلام الله وليس بمخلوق
الإيمان بالرؤية يوم القيامة
رؤية النَّبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ربه
الإيمان بالميزان يوم القيامة
الإيمان بأن الله يكلم العباد يوم القيامة
الإيمان بالحوض
الإيمان بعذاب القبر
الإيمان بشفاعة النَّبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
المسيح الدَّجال ونزول عيسى عليه السَّلام
الإيمان قولٌ وعمل يزيد وينقص
ترك الصَّلاة
فضل الصَّحابة(1/86)
السَّمع والطاعة لولاة الأمور
الخروج على الأئمة
قتال اللّصوص والخوارج
الشَّهادة بالجنة أو النَّار لمعين
مصير أهل الذُّنوب في الآخرة
مصير الكافر في الآخرة
الرَّجم لمن زنا
انتقاص الصَّحابة
تعريف النِّفاق
تكفير العصاة
الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن
من مات من أهل القبلة موحّدا يُصلى عليه(1/87)