فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن [لا] تقربوهم. اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينَّهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة. فإذا رجل مزَمَّل بين ظهرانيهم. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك. فلما جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وقد دفّت دافّة من قومكم، [فإذا هم] يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يّدّيْ أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر. والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتى سَكَت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا. فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أُقَدَّم فتُضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسوِّل لي نفسي عند الموت شيئاّ لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيْلها المُحَكَّك وعُذَيْقها المرجَّب. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فَرِقْتُ من الاختلاف. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل [منهم]: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنَّا والله ما وجدنا فيما(2/196)
حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر؛ خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعةً، أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرّه أن يفتلا". قال مالك: وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما: عويمر بن ساعدة ومعن بن عديّ - وهما ممن شهد بدراً - قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب: الحُبَابُ بن المنذر.(2/197)
وفي صحيح البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنْح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال عمر: والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك - وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر = رضي الله عنه - فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقبّله]، فقال: بأبي وأمي، طبت حيًّا وميتاً، والذي نفسي بيده: لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رِسْلِك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [سورة الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}[سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عُبادة في سقيفة بني ساعدة. فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيّأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يّبْلُغُه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حُباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنّا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعُوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس. فقال قائل:(2/198)
قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتله الله".
وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت: "ما كان من خطبتهما من خطبة إلاَّ نفع الله بها، لقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً، فردّهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدَى، وعرَّفهم الحق الذي عليهم".
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرَنَا، يريد بذلك أن يكون أخرهم؛ فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، به هدى الله محمداً، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، وإنه أَوْلى المسلمين بأموركم، فقوموا فبايِعُوه. وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر".
وعنه: "قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد [المنبر]، فبايعه الناس عامة".
وفي طريق أخرى لهذه الخطبة: "أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله، فخذوا به تهتدوا، لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم".
فصل
قال الرافضي: "وقال أبو بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق؛ وهذا يدل على أنه في شكٍ من إمامته ولم تقع صواباً".
والجواب : أن هذا كذب على أبي بكر - رضي الله عنه -، وهو لم يذكر له إسناداً. ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل، فلا بد أن يذكر إسناداً تقوم به الحجة. فكيف بمن يطعن في السابقين الأوَّلين بمجرد حكاية لا إسناد لها؟
ثم يقال: هذا يقدح فيما تدّعونه من النص على عليٍّ؛ فإنه لو كان قد نصّ على عليّ لم يكن للأنصار فيه حق، ولم يكن في ذلك شك.
فصل(2/199)
قال الرافضي: "وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم [قد] نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار".
والجواب: أن تكلّمه بهذا عند الموت غير معروف، بل هو باطل بلا ريب. بل الثابت عنه أنه لم احتُضر، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر:-
لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدرُ
فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [سورة ق: 19] .
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته: ليت أمي لم تلدني! ونحو هذا قاله خوفاً - إن صح النقل عنه. ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفاً وهيبة من أهوال يوم القيامة، حتى قال بعضهم: لو خُيِّرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة، وبين أن أصير تراباً، لاخترت أن أصير تراباً. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: والله لوددت أني شجرة يعضد. وقد روى أبو نُعيم في "حلية الأولياء" قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن علي الصائغ، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا السرى بن يحيى. قال: قال عبد الله بن مسعود: "لو وقفت بين الجنة والنار، فقيل لي: اختر في أيهما تكون، أو تكون رماداً؛ لاخترت أن أكون رماداً".
وروى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن سعيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق. قال: قال رجل عند عبد الله بن مسعود: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقرَّبين أحبُّ إلىّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن ها هنا رجل ودَّ أنه إذا مات لم يُبعث، يعني نفسه.(2/200)
والكلام في مثل هذا: هل هو مشروع أم لا؟ له موضع آخر. لكن الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله، وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر، مع أنه لم يعمل خيراً قط. وقال: والله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذّبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه. وقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر له. أخرجاه في الصحيحين.
فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد، إذا فعل ذلك غُفر له بخوفه من الله، عُلم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية، إذا قُدِّر أنها ذنوب.
فصل
قال الرافضي: "وقال أبو بكر: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير وكنت الوزير". قال: "وهو يدل على أنه لم يكن صالحاً يرتضي لنفسه الإمامة".
والجواب: أن هذا إن كان قاله فهو أدلّ دليل على أن عليًّا لم يكن هو الإمام؛ وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفاً من الله أن يضيع حق الولاية، وأنه وَلَّى غيرَه، وكان وزيراً له، كان أبرأ لذمته. فلو كان عليّ هو الإمام، لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضًا، وكان يكون وزيراً لظالم غيره، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره. وهذا لا يفعله من يخاف الله، ويطلب براءة ذمته.
وهذا كما لو كان الميت قد وصَّى بديون، فاعتقد الوارث أن المستحقّ لها شخص، فأرسلها إليه مع رسوله، ثم قال: يا ليتني أرسلتها مع من هو أَدْيَنُ منه؛ خوفاً أن يكون الرسول الأول مقصِّرًا في الوفاء، تفريطاً أو خيانة. وهناك شخص حاضر يدَّعي أنه المستحق للدَّيْن دون ذلك الغائب، فلو علم الوارث أنه المستحق، لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب.
فصل(2/201)
قال الرافضي: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، مرة بعد أخرى، مكرراً لذلك: أنفذوا جيش أسامة، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة. وكان الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك".
والجواب : أن هذامن الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة. وإنما رُوي ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة، وقد استخلفه يصلِّي بالمسلمين مدة مرضه، وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين، اثني عشر يومًا، ولم يقدِّم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر، ولم تكن الصلاة التي صلاَّها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً ولا صلاتين، ولا صلاة يوم ولا يومين، حتى يُظَنّ ما تدعيه الرافضة من التلبيس، وأن عائشة قدّمته بغير أمره، بل كان يصلِّي بهم مدة مرضه؛ فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِ بهم في مرض موته إلا أبو بكر، وعلى أنه صلّى بهم عدة أيام. وأقل ما قيل: إنه صلّى بهم سبع عشرة صلاة؛ صلَّى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة، وخطب بهم يوم الجمعة. هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة، ولم يزل يصلّي بهم إلى فجر يوم الاثنين: صلّى بهم صلاة الفجر، وكشف النبي صلّى الله عليه وسلم الستارة، فرآهم يصلّون خلف أبي بكر، فلما رأوه كادوا يفتتنون في صلاتهم، ثُم أرخى الستارة. وكان ذلك آخر عهدهم به، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريباً من الزوال.(2/202)
وقد قيل: إنه صلّى بهم أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل؛ فيكون قد صلّى بهم مدة مرضه كلها، لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفةً في نفسه، فتقدَّم وجعل أبا بكر عن يمينه، فكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، والناس يأتمُّون بأبي بكر، وقد كَشَف الستارة يوم الاثنين، صلاة الفجر، وهم يصلّون خلف أبي بكر، ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف، فَسُرَّ بذلك لمّا رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر، ولم يَرَوْه بعدها.
وقد قيل: إن آخر صلاة صلاَّها كانت خلف أبي بكر. وقيل: صلَّى خلفه غيرها.
فكيف يُتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس؟!
وأيضاً فإنه جهَّز جيش أسامة قبل أن يمرض؛ فإنه أمَّره على جيش عامتهم المهاجرون؛ منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف، وَأَمَرَه أن يغير على أهل مُؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أصيب أبوه، وجعفر وابن رواحة. فتجهّز أسامة بن زيد للغزو، وخرج في ثقله إلى الجرف، وأقام بها أياماً لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال: "اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أَغِر حيث أمرتك أن تغير". قال أسامة: يا رسول الله قد أصبحتَ ضعيفاً، وأرجو أن يكون الله قد عافاك، فَأْذَنْ لي فَأَمْكُث حتى يشفِيَك الله، فإني إن خرجت وأنت على هذه خرجت وفي نفسي منك قرحة، وأكره أن أسأل عنك الناس" فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام، فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش، غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة؛ لأنه ذو رأي ناصح للإسلام، فأَذِن له، وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة، وغَنِم هو وأصحابه، وقتل قاتل أبيه، وردّهم الله سالمين إلى المدينة.(2/203)
وإنما أنفذ جيش أسامة أبو بكر الصدّيق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أُحِلُّ رايةً عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشار عليه غير واحد أن يردَّ الجيش خوفاً عليهم؛ فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو بكر من ردّ الجيش وأمر بإنفاذه. فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، كان ذلك مما أيَّد الله به الدين، وشدَّ به قلوب المؤمنين، وأذلَّ به الكفار والمنافقين، وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصدِّيق وإيمانه ويقينه وتدبيره [ورأيه].
فصل
قال الرافضي: "وأيضاً لم يُوَلِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر البتة عملاً في وقته، بل ولَّى عليه عمرو ابن العاص تارة وأسامة أخرى. ولما أنفذه بسورة "براءة" ردّه بعد ثلاثة أيام بوحي من الله، وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من "براءة؟!".(2/204)
والجواب: أن هذا من أَبْيَن الكذب؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية من مكة؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان، وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد، الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، ثم أمّر أبا بكر سنة تسع للحج، بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وفيها أَمَر أبا بكر بالمناداة في الموسم: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان. ولم يؤمِّر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية؛ فولاية أبي بكر كانت من خصائصه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على الحج أحداً كتأمير أبي بكر، ولم يستخلف على الصلاة أحداً كاستخلاف أبي بكر، وكان عليٌّ من رعيته في هذه الحجة؛ فإنه لحقه فقال: أمير أو مأمور؟ فقال عليّ: بل مأمور. وكان عليّ يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، ونادى عليٌّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر.
وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره، كولاية عليّ وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولاية إلا ولغيره مثلها، بخلاف ولاية أبي بكر، فإنها من خصائصه، ولم يولِّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص.
فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه.(2/205)
وأما قصة عمرو بن العاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عَمْراً في سرية، وهي غزوة ذات السلاسل، وكانت إلى بني عذرة، وهم أخوال عمرو، فأمَّر عمراً ليكون ذلك سبباً لإسلامهم، للقرابة التي له منهم. ثم أردفه بأبي عبيدة، ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين. وقال: "تطاوعا ولا تختلفا" فلما لحق عَمْراً قال: أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك. قال: بل أنا أصلّي بكم؛ فإنما أنت مدد لي. فقال له أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك، فإن عصيتني أطعتك. قال: فإني أعصيك. فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل. ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر، فكانوا يصلّون خلف عمرو، مع علم كل أحدٍ أن أبا بكر وعُمَر وأبا عبيدة أفضل من عمرو.
وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم؛ لأن عمراً كانت إمارته قد تقدّمت لأجل ما في ذلك من تألّف قومه الذين أُرسل إليهم لكونهم أقاربه. ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة، كما أُمِّر أسامة بن زيد، ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة، لما قُتل في غزوة مؤته. فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على أبي بكر أحداً في شيء من الأمور؟!
بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به، ولا أكثر اجتماعاً به ليلاً ونهارًا، سرًّا وعلانية، من أبي بكر، ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله، فيأمر وينهي، ويخطب ويفتي، ويقرُّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضياً بما يفعل.
ولم يكن ذلك تقدماً بين يديه، بل بإذن منه قد عَلِمَه، وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبليغاً عنه، وتنفيذاً لأمره؛ لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له.(2/206)
وأما قول الرافضي: إنه لما أنفذه ببراءة ردّه بعد ثلاثة أيام؛ فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَّر أبا بكر على الحج، ذهب كما أمره، وأقام الحج في ذلك العام، عام تسع، للناس، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج، وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المشركين كانوا يحجون البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام، وكان عليّ بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود.
قالوا: وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فَبَعث عليًّا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة، لم يبعثه لشيء آخر؛ ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أبي بكر، ويدفع بدفعه في الحج، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم.
وكان هذا بعد غزوة تبوك، واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة، وقوله له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟
ثم بعد هذا أمّر أبا بكر على الموسم، وأردفه بعليّ مأموراً عليه لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه. وكان هذا مما دلّ على أن عليُّا لم يكن خليفة له، إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط. ثم أمَّر أبا بكر عليه عام تسع. ثم إنه بعد هذا بعث عليًّا وأبا موسى الأشعري ومُعاذًا إلى اليمن، فرجع عليّ وأبو موسى إليه، وهو بمكة في حجة الوداع، وكل منهما قد أهلٌ بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -.
فصل(2/207)
قال الرافضي: " وقطع يسار سارق، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى".
والجواب : أن قول القائل: إن أبا بكر يجهلُ هذا، من أظهر الكذب. ولو قُدِّر أن أبا بكر كان يجيز ذلك، لكان ذلك قولاً سائغاً؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيِّن اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: " فاقطعوا أيمانهما" وبذلك مضت السنة. ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قطع اليسرى؟ وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولاً، مع تعظيمهم لأبي بكر - رضي الله عنه -.
فصل
قال الرافضي: "وأحرق الفجاءة السلمي بالنار، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار".
الجواب : أن الإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر. [وأنه قد ثبت] في الصحيح أن عليًّا أُتِيَ بقوم زنادقة من غلاة الشيعة، فحرَّقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرّقهم بالنار، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَذَّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدَّل دينه فاقتلوه".
فبلغ ذلك عليًّا، فقال: ويح ابن أم الفضل ما أسقطه عَلَى الهنات.
فعليّ حرق جماعة بالنار. فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً، ففعل عليّ أنكر منه، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أَوْلى أن لا يُنكر عليه.
فصل
قال الرافضي: " وخَفِيَ عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يكُ خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية. وهو يدل على قصوره في العلم".(2/208)
والجواب : أن هذا من أعظم البهتان. كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة، ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويُفتي إلا هو؟! ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحدٍ من أصحابه منه له ولعمر. ولم يكن أحدٌ أعظم اختصاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر.
وقد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبّار السمعاني وغيره، إجماع أهل العلم على أن الصدِّيق أعلم الأمة. وهذا بيِّنٌ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصَّلها هو بعلم يبيِّنه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة. كما بيَّن لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية، ثم بيَّن لهم موضع دفنه، وبيَّن لهم قتال مانعي الزكاة [لما استراب فيه عمر]، وبيَّن لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة، لمّا ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.
وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وعِلْمُ المناسك أدقّ ما في العبادات، ولولا سعة علمه بها لم يستعمله. وكذلك الصلاة استخلفه فيها، ولولا علمه بها لم يستخلفه. ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر. وهو أصح ما رُوي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء.
وفي الجملة لا يُعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها، وقد عُرف لغيره مسائل كثيرة، كما بسط في موضعه.
وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل: مثل الجد والإخوة، ومثل العمريتين، ومثل العَوْل، وغير ذلك من مسائل الفرائض. وتنازعوا في مسألة الحرام، والطلاق الثلاث بكلمة، والخلية، والبرية، والبتّة، وغير ذلك من مسائل الطلاق.
وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم. وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض: كل منهم يقرُّ صاحبه على اجتهاده، كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين.(2/209)
وأما في خلافة عثمان فقوي النزاع في بعض الأمور، حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض. ولكن لم يقاتل بعضهم بعضاً باليد ولا بسيف ولا غيره.
وأما في خلافة عليّ فتغلّظ النزاع، حتى تقاتلوا بالسيوف.
وأما في خلافة أبي بكر فلم يُعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين. وذلك لكمال علم الصدِّيق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع، فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع. وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصدِّيق ابتداءً، وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره، فيقرُّه أبو بكر الصديق.
وهذا مما يدلّ على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته، وعثمان ورعيته، وعليّ ورعيته؛ فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم الأقوال التي خُولف فيها الصدِّيق بعد موته، قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته. وطَرْدُ ذلك الجد والإخوة؛ فإن قول الصدِّيق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنّه يُسقط الإخوة، وهو قول طوائف من العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي العباس بن سُرَيْج من الشافعية، وأبي حفص البرمكي من الحنابلة، ويُذكر ذلك رواية عن أحمد.
والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد، كعليّ وزيد وابن مسعود، اختلفوا اختلافاً معروفاً، وكل منهم قال قولاً خالفه فيه الآخر، وانفرد بقوله عن سائر الصحابة. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع في مصنّف مفرد، وبيّنا أن قول الصدِّيق وجمهور الصحابة هو الصواب، وهو القول الراجح الذي تدلّ عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة، [ليس هذا موضع بسطها].(2/210)
وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صدّيق الأمة - رضي الله عنه - من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع، وأن من طلَّق ثلاثاً بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح، دون من يحرِّم الفسخ ويُلزم بالثلاث؛ فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر، دون القول المخالف لذلك.
ومما يدل على كمال حال الصدِّيق، وأنه أفضل من كل من وَلِيَ الأمة، بل وممن وَلِيَ غيرها من الأمم بعد الأنبياء، أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأوَّلين والآخرين، وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين.
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيّ خلفه نبيّ، وإنه لا نبيّ بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون". قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: "فوا بيعة الأول فالأول".
ومن المعلوم أنَّه من تولَّى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن سياسة الأول، ظهر ذلك النقص ظهوراً بيّناً. وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولّى ملِك بعد ملك، أو قاضٍ بعد قاضٍ بعد قاض، أو شيخ بعد شيخ، أو غير ذلك؛ فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصاً بيِّناً ظهر ذلك فيه، وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظَّمها وألّفها. ثم الصدِّيق تولَّى بعد أكمل الخلق سياسة، فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه، بل قاتل المرتدّين حتى عاد الأمر إلى ما كان [عليه]، وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه، ثم شرع في قتال الكفّار من أهل الكتاب، وعلَّم الأمة ما خفِيَ عليهم، وقوّاهم لمّا ضعفوا، وشجّعهم لما جبنوا، وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم، فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم، وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها، وهذا مما يحقق أنه أحقّ الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قول الرافضي: " لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه".(2/211)
فالجواب: أن هذا من أعظم علمه. فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده؛ فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر، وهو من لا ولد له ولا واحد، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران، كرأي الصدِّيق، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد.
وقد قال قيس بن عُبَاد لعليّ: أرأيت مسيرك هذا: ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأي رأيته؟ فقال: بل رأي رأيته. رواه أبي داود وغيره.
فإذا كان مثل هذا الرأي الذي حصله به من سفك الدماء ما حصل، لا يمنع صاحبه أن يكون إماماً، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه.
وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية، فهذا كذب. وليس هو قول أبي بكر، ولا نُقل هذا عن [أبي بكر]، بل نَقْلُ هذا عن أبي بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم، ولكن نَقَل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية، ومع هذا هو باطل عن عمر؛ فإنه لم يمت في خلافته سبعون جداً كلٌّ منهم كان لابن ابنه إخوة، وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولاً مختلفة، بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم، فعُلم أن هذا كذب.
وأما مذهب أبي بكر في الجد؛ فإنه جعله أبُّا، وهو قول بضعة عشر من الصحابة، وهو مذهب كثير من الفقهاء [كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كأبي حفص البرمكي، ويُذكر رواية عن أحمد] كما تقدم، وهو أظهر القولين في الدليل.(2/212)
ولهذا يُقال: لا يُعرف لأبي بكر خطأ في الفُتيا، بخلاف غيره من الصحابة؛ فإن قوله في الجد أظهر القولين. والذين ورَّثوا الإخوة مع الجد، وهم عليّ وزيد وابن مسعود وعمر، في إحدى الروايتين عنه، تفرَّقوا في ذلك. وجمهور الفقهاء على قول زيد، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، فالفُقَهَاءُ في الجَدِّ: إما على قول أبي بكر، وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر. ولم يذهب أحد من أئمة الفُتيا إلى قول عليّ في الجد. وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر؛ فإن زيداً قاضِى عمر، مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد.
وعمر كان متوقفاً في الجد، وقال: "ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّنهنَّ لنا: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا".
وذلك لأن الله تعالى سمَّى الجد أبًّا في غير موضع من كتابه، كما قال تعالى: {أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} [سورة الأعراف: 27]، وقوله: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [سورة الحج: 78]. وقد قال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، { يَا بَنِي آدَمَ} في غير موضع.
وإذا كان ابن الابن ابناً، كان أبو الأب أبًّا، ولأن الجدّ يقوم مَقَام الأَبِ في غير مورد النزاع، فإنه يسقط ولد الأم كالأب، ويقدّم على جميع العصبات سوى البنين كالأب، ويأخذ مع الولد السدس كالأب، ويُجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب.
وأمَّا في العُمَرِيَّتَين زوج وأبوين، وزوجة وأبوين؛ فإن الأم تأخذ الثلث الباقي، والباقي للأب، ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء، إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد، وإنما الجدّة نظير الجد، والأم تأخذ مع الأب الثلث، والجدّة لا تأخذ مع الجد إلا السدس، وهذا مما يقوى به الجد، ولأن الإخوة مع الجد الأدنى، كالأعمام مع الجد الأعلى.(2/213)
وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدّم على الأعمام، فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة، لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى، كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى، ولأن الإخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد، لكان بنو الإخوة كذلك، كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم. ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد، كان آباؤهم الإخوة كذلك، وعكسه البنون: لما كان الجد يفرض له مع البنين، فُرض له مع بني البنين.
وأما الحجة التي تُورى عن عليٍّ وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد، حيث شبَّهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع، خرج منه غصنان، فأحد الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل، وبنهرٍ خرج منه نهر آخر، ومنه جدولان، فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول.
فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد.
ومن تدبّر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة؛ فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أَوْلى من الجد، ولكان العم أَوْلى من جد الأب. فإن نسبة الإخوة من الأب إلى الجد أبي الأب، كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد الأعلى أَوْلى من الأعمام، كان الجد الأدنى أَوْلى من الإخوة.
وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة.
وأيضاً فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة، لا دليل على شيء منها، كما يَعْرف ذلك من يعرف الفرائض، فعُلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال، كما أن قوله دائماً أصح الأقوال.
فصل(2/214)
قال الرافضي: "فأي نسبة له بمن قال: سًلُوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض، قال أبو البحتري: رأيت عليًّا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلدًا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، متعمماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على المنبر، وكشف عن بطنه، فقال: سلوني [من] قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما زقَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقًّا من غير وحيٍ إليّ، فوالله! لو ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل فتقول: صدق عليّ، قد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون".
والجواب : أما قول عليّ: "سلوني" فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين؛ فإن غالبهم كانوا جُهَّالاًً لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين، فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأَدْيَنها. وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين، وكان كثير منهم من شرار التابعين. ولهذا كان عليّ - رضي الله عنه - يذمّهم ويدعو عليهم، وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرًا منهم.
وقد جمع الناس الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وُجد نصٌّ يخالفها عن عمر أقل مما وُجد عن علي، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم، ولم يكن يُعرف منهم اختلاف على عهده. وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر.(2/215)
والحديث المذكور عن علي كذب ظاهر لا تجوز نسبه مثله إلى علي؛ فإن علياً أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن. وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ( إلى قوله: ) فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( إلى قوله: ) فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً( إلى قوله: ) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }(2/216)
وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع، أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد، سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه، كان من نسب علياً إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى، أو يفتيهم بذلك، ويمدحه بذلك: إما أن يكون من أجهل الناس بالدين، وبما يُمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقاً ملحداً أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب، دون المدح والثواب.
(فصل)
قال الرافضي: " وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بي أبي طالب، فأثبت له ما تفرَّق فيهم".
والجواب : أن يقال: أولاً: أين إسناد هذا الحديث؟ والبيهقي يروى في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم.
ويقال : ثانياً: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث، وإن كانوا حراصاً على جمع فضائل علي، كالنسائي؛ فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه "الخصائص"، والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع، ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه.
(فصل)
قال الرافضي: " قال أبو عمر الزاهد: قال أبو العباس: لا نعلم أحداً قال بعد نبيه: "سلوني" من شيث إلى محمدٍ إلا علي، فسأله الأكابر: أبو بكر وعمر وأشباههما، حتى انقطع السؤال. ثم قال بعد هذا: يا كُمَيْل ابن زياد، إن ههنا لعلم جما لو أصبت له حملة".(2/217)
والجواب: أن هذا النقل إن صح عن ثعلب؛ فثعلب لم يذكر له إسناداً حتى يُحتج به. وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه، حتى يُقال: قد صح عنده. كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى ابن معين أو البخاري ونحوهم. بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها، فكيف ثعلب؟! وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد.
وعلى رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة، لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة، ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه. وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم، وكان علي رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال .
وحديث كميل بن زياد يدل على هذا؛ فإن كميلاً من النابعين لم يصحبه إلا بالكوفة، فدل على أنه كان يرى تقصيراً من أولئك عن كونهم حملة للعلم، ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار، بل كان عظيم الثناء عليهم.
وأما أبو بكر فلم يسأل علياً قط عن شيء. وأما عمر فكان يشاور الصحابة: عثمان وعلياً وعبدالرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم. فكان علي من أهل الشورى، كعثمان وابن مسعود وغيرهما، ولم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان علياً بسؤال ، والمعروف أن علياً أخذ العلم عن أبي بكر، كما في السنن عن علي، قال: كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره حديثاً استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مؤمن يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له".
(فصل)
قال الرافضي: "وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حدَّه حيث قتل مالك بن نويرة، وكان مسلماً، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها. وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل".(2/218)
والجواب: أن يقال: أولاً: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما يُنكر على الأئمة، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي؛ فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة، وهو خليفة المسلمين، وقد قُتل مظلوماً شهيداً بلا تأويل مسوِّغ لقتله. وعلي لم يقتل قتلته، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي، فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان.
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة، وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم.
وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عُبيد الله بن عمر بالهرمزان، هو من هذا الباب.
وإذا قال القائل: علي كان معذوراً في ترك قتل قتلة عثمان، لأن شروط الاستيفاء لم توجد: إما لعدم العلم بأعيان القتلة، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة، ونحو ذلك.
قيل" فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة، وقتل قاتل الهرمزان، لوجود الشبهة في ذلك. والحدود تدرأ بالشبهات.
وإذا قالوا: عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد، وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر.
قيل: وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان، مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود، أقام عليهم حجة سلّموا لها: إما لظهور الحق معه، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.
وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد عُلم. وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ، ففي ذلك أولى.
وإن قالوا: عثمان كان مباح الدم.(2/219)
قيل لهم: فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان، بل مالك بن نويرة لا يُعرف أنه كان معصوم الدم، ولم يثبت ذلك عندنا. وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم. وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى.
ومن قال: إن عثمان كان مباح الدم، لم يمكنه أن يجعل علياً معصوم الدم، ولا الحسين؛ فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين، وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين. وشُبهة قَتَلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قَتَلَة علي والحسين؛ فإن عثمان لم يقتل مسلما، ولا قاتل أحداً على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلاً؛ فإن وجب أن يُقال: من قتل خلقاً من المسلمين على ولايته إنه معصوم الدم، وإنه مجتهد فيما فعله، فلأن يُقال: عثمان معصوم الدم، وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى.
ثم يُقال: غاية ما يُقال في قصة مالك ابن نويرة: إنه كان معصوم الدم، وإن خالداً قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد، كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟" فأنكر عليه قتله، ولم يوجب عليه قَوَداً ولا دية ولا كفارة.(2/220)
وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية: قوله تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} الآية نزلت في شأن مرداس، رجل من غطفان، بعث النبيصلى الله عليه وسلم جيشاً إلى قومه، عليهم غالب الليثي، ففر أصحابه ولم يفر. قال: إني مؤمن، فصبّحته الخيل، فسلّم عليهم، فقتلوه وأخذوا غنمه، فأنزل الله هذه الآية، وأمر رسول اللهصلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولاً، ورفع النبيصلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". ومع هذا فلم يقتله النبيصلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولاً.
فإذا كان النبيصلى الله عليه وسلم لم يقتله مع قتله غير واحد من المسلمين من بني جذيمة للتأويل، فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى.
وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة، وهو يعلم أن النبيصلى الله عليه وسلم لم يقتله، فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله ؟! لكن من كان متبعاً لهواه أعماه عن اتباع الهدى.
وقوله: إن عمر أشار بقتله.
فيقال: غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد، كان رأى أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر: لا عند السنة ولا عند الشيعة، ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح، فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيباً لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علماً ودينا ؟
وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يُوجب قتل خالد.(2/221)
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله؛ فهذا مما لم يُعرف ثبوته. ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم. والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة: هل تجب للكافر؟ على قولين. وكذلك تنازعوا: هل يجب على الذمية عدة وفاة؟ على قولين مشهورين للمسلمين. بخلاف عدة الطلاق؛ فإن تلك سببها الوطء، فلابد من براءة الرحم. وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا؟ فيه نزاع. وكذلك إن كان دخل بها، وقد حاضت بعد الدخول حيضة.
هذا إذا كان الكافر أصلياً وأما المرتد إذا قتل، أو مات على ردته، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة، لأن النكاح بطل بردّة الزوج. وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد، وهي طلاق عند مالك وأبى حنيفة، ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة، بل عدة فرقة بائنة، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها، كما ليس عليها عدة من الطلاق.
ومعلوم أن خالداً قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتداً، فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم، وفي الآخر بثلاث حيض. وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم. وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت. ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراءً لدلالته على براءة الرحم.
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجهٍ لا يسوغ فيها الاجتهاد ، والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرَّمه الله ورسوله.
(فصل)
قال الرافضي: "وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في توريث بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومنعها فدكاً، وسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يستخلفه".(2/222)
والجواب: أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك، ما خلا بعض الشيعة، وقد تقدّم الكلام في ذلك، وبيَّنا أن هذا من العلم الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن قول الرافضة باطل قطعا.
وكذلك ما ذكر من فدك، والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول. وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئاً. وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك.
ثم لو احتجّ محتج بأن علياً كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم، حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب له، لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق، لا يُتهم في ذلك، وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى، وأبو بكر أعظم محبة لفاطمة ومراعاة لها من علي لابن عباس، وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر؛ فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل علي على ابن عباس.
وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظن والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر؛ فإن أبا بكر إمام لا يتصرف لنفسه بل للمسلمين، والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين، وفاطمة تطلب لنفسها، وبالضرورة نعلم أن بُعْد الحاكم عن اتباع الهوى أعظم من بُعد الخصم الطالب لنفسه؛ فإن علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضية لكثرة مباشرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من علم فاطمة.
وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك، وأولى بالعدل، فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل، كان من أجهل الناس، لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة، فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورِّثون مالاً، وكلهم يحب فاطمة ويعظِّم قدرها رضي الله عنها، لكن لا يترك ما علموه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد الناس، ولم يأمرهم الله ورسوله أن يأخذوا دينهم من غير محمد صلى الله عليه وسلم: لا عن أقاربه، ولا عن غير أقاربه، وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول واتباعه.(2/223)
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "لا أفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة" فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يُحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث، تظن أنها ترث.
(فصل)
وأما تسميته بخليفة رسول الله؛ فإن المسلمين سمّوه بذلك، فإن كان الخليفة هو المستخلف، كما ادّعاه هذا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل السنّة، وإن كان الخليفة هو الذي خَلَفَ غيره -وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور- لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف.
والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خلف غيره: سواء استخلفه أو لم يستخلفه، كقوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ } الآية وقال: { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } وقوله: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } ( وفي القصة الأخرى: { خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } فهذا استخلاف .(2/224)
وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} وقال: { إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ( أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، فهما يتعاقبان. وقال موسى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وقال للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وقال: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ }.
فغالب هذه المواضع ليكون الثاني خليفة عن الأول، وإن كان الأول لم يستخلفه.
وسُمِّي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله، والله تعالى جعله يخلفه، كما جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل. ليس المراد أنه خليفة عن الله، كما ظنه بعض الناس، كما قد بسطناه في موضع آخر.
والناس يسمُّون ولاة أمور المسلمين الخلفاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
ومعلوم أن عثمان لم يستخلف علياً، وعمر لم يستخلف واحداً معيناً، كان يقول: "إن أستخلف فإن أبا بكر استخلف، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف".
وكان مع هذا يقول لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس، كثير منهم لم يستخلفه من قبله، فعُلم أن الاسم عام فيمن خَلَف غيره.
وفي الحديث -إن صح- "وددت أني رأيت" أو قال: "رحمة الله على خلفائي". قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال: "الذين يُحْيون سنتي ويعلّمونها الناس".(2/225)
وهذا إن صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة في المسألة، وإن لم يكن من قوله فهو يدل على أن الذي وضعه كان عادتهم استعمال لفظ "الخليفة" فيمن خلف غيره وإن لم يستخلفه، فإذا قام مقامه وسدَّ مسدّه في بعض الأمور فهو خليفة عنه في ذلك الأمر.
( المرجع : منهاج السنة ؛ 5 / 461-526).
الشبهة (31) : طعوناتهم في معاوية - رضي الله عنه -
1- شبهة طلبه - رضي الله عنه - للخلافة :
قد شاع بين الناس قديماً و حديثاً أن الخلاف بين علي و معاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة ، و أن خروج معاوية على علي و امتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام .
و قد جاء في كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة الدينوري رواية تذكر أن معاوية ادّعى الخلافة ،
و ذلك من خلال الرواية التي ورد فيها ما قاله ابن الكواء لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه : اعلم أن معاوية طليق الإسلام و أن أباه رأس الأحزاب ، و أنه ادعى الخلافة من غير مشورة فإن صدقك فقد حلّ خلعه و إن كذبك فقد حرم عليك كلامه . الإمامة و السياسة (1/113) .
لكن الصحيح أن الخلاف بين علي و معاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية و أصحابه لعلي قبل إيقاع القصاص على قتلة عثمان أو بعده ، و ليس هذا من أمر الخلافة في شيء . فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه و من حوله من أهل الشام أن يقتص علي رضي الله عنه من قتلة عثمان ثم يدخلوا بعد ذلك في البيعة .
يقول إمام الحرمين الجويني في لمع الأدلة : إن معاوية و إن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته و لا يدعيها لنفسه ، و إنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب ، و كان مخطئاً . لمع الأدلة في عقائد أهل السنة للجويني (ص 115) .
أما شيخ الإسلام فيقول : بأن معاوية لم يدّع الخلافة و لم يبايع له بها حتى قتل علي ، فلم يقاتل على أنه
خليفة ، و لا أنه يستحقها ، و كان يقر بذلك لمن يسأله . مجموع الفتاوى ( 35/72) .(2/226)
و يورد ابن كثير في البداية و النهاية (7/360) ، عن ابن ديزيل - هو إبراهيم بن الحسين بن علي الهمداني المعروف بابن ديزيل الإمام الحافظ (ت 281 هـ) انظر : تاريخ دمشق (6/387) و سير أعلام النبلاء (13/184-192) و لسان الميزان لابن حجر (1/48) - ، بإسناد إلى أبي الدرداء و أبي أمامة رضي الله عنهما ، أنهما دخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية ! علام تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك و من أبيك إسلاماً ، و أقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحق بهذا الأمر منك . فقال : أقاتله على دم عثمان ، و أنه آوى قتلة عثمان، فاذهبا إليه فقولا : فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام .
و يقول ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة ( ص 325) : و من اعتقاد أهل السنة و الجماعة أن ما جرى بين معاوية و علي رضي الله عنهما من الحرب ، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي .. فلم تهج الفتنة بسببها ، و إنما هاجت بسبب أن معاوية و من معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه ، فامتنع علي .
و هكذا تتضافر الروايات و تشير إلى أن معاوية رضي الله عنه خرج للمطالبة بدم عثمان ، و أنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنه إذا أقيم الحد على قتلة عثمان . و لو افترض أنه اتخذ قضية القصاص و الثأر لعثمان ذريعة لقتال علي طمعاً في السلطة ، فماذا سيحدث لو تمكن علي من إقامة الحد على قتلة عثمان ؟
حتماً ستكون النتيجة خضوع معاوية لعلي و مبايعته له ، لأنه التزم بذلك في موقفه من تلك الفتنة ، كما أن كل من حارب معه كانوا يقاتلون على أساس إقامة الحد على قتلة عثمان ، على أن معاوية إذا كان يخفي في نفسه شيئاً آخر لم يعلن عنه ، سيكون هذا الموقف بالتالي مغامرة ، و لا يمكن أن يقدم عليه إذا كان ذا أطماع .(2/227)
إن معاوية رضي الله عنه كان من كتاب الوحي ، و من أفاضل الصحابة ، و أصدقهم لهجة ، و أكثرهم حلماً فكيف يعتقد أن يقاتل الخليفة الشرعي و يريق دماء المسلمين من أجل ملك زائل ، و هو القائل : والله لا أخير بين أمرين ، بين الله و بين غيره إلا اخترت الله على ما سواه . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/151) .
أما وجه الخطأ في موقفه من مقتل عثمان رضي الله عنه فيظهر في رفضه أن يبايع لعلي رضي الله عنه قبل مبادرته إلى القصاص من قتلة عثمان ، بل و يلتمس منه أن يمكنه منهم ، مع العلم أن الطالب للدم لا يصح أن يحكم ، بل يدخل في الطاعة و يرفع دعواه إلى الحاكم و يطلب الحق عنده.
و يمكن أن نقول إن معاوية رضي الله عنه كان مجتهداً متأولاً يغلب على ظنه أن الحق معه ، فقد قام خطيباً في أهل الشام بعد أن جمعهم و ذكّرهم أنه ولي عثمان -ابن عمه - و قد قتل مظلوماً و قرأ عليهم الآية الكريمة {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}[الاسراء: من الآية33]
ثم قال : أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان ، فقام أهل الشام جميعهم و أجابوا إلى الطلب بدم عثمان ، و بايعوه على ذلك و أعطوه العهود و المواثيق على أن يبذلوا أنفسهم و أموالهم حتى يدركوا ثأرهم أو يفني الله أرواحهم . انظر : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/150-152) .
2- زعمهم أنه سمّ الحسن بن علي - رضي الله عنهم - !!
كانت وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه سنة ( 51هـ ) ، وصلى عليه سعيد بن العاص رضي الله عنه والي المدينة من قبل معاوية من سنة ( 49 - 54هـ ) . انظر : طبقات ابن سعد ( القسم المفقود ) تحقيق محمد بن صامل ( 1 / 341 - 344 ) .
ولم يرد في خبر وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه بالسم خبر صحيح أو رواية ذات أسانيد صحيحة .. وفي ما يلي أقوال أهل العلم في هذه المسألة :-(2/228)
- قال ابن العربي رحمه الله في العواصم ( ص 220 - 221 ) : فإن قيل : دس - أي معاوية - على الحسن من سمه ، قلنا هذا محال من وجهين :-
أحدهما : أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلّم الأمر .
الثاني : أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله ، فكيف تحملونه بغير بينة على أحد من خلقه ، في زمن متباعد ، لم نثق فيه بنقل ناقل ، بين أيدي قوم ذوي أهواء ، وفي حال فتنة وعصبية ، ينسب كل واحد إلى صاحبه مالا ينبغي ، فلا يقبل منها إلا الصافي ، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم .
- قال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة ( 4 / 469 ) : وأما قوله : إن معاوية سم الحسن ، فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به ، وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم .
- قال الذهبي رحمه الله في تاريخ الإسلام ( عهد معاوية ) ( ص 40 ) : قلت : هذا شيء لا يصح فمن الذي اطلع عليه .
- قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ( 8 / 43 ) : وروى بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث أن سُمّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال : إنا والله لم نرضك للحسن أفنرضاك لأنفسنا ؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح ، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى .
- قال ابن خلدون في تاريخه ( 2 / 649 ) : وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث ، فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية من ذلك .
وقد علق الدكتور جميل المصري على هذه القضية في كتابه : أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري ( ص 482 ) بقوله : .. ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد .. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك ؛ لأننا لا نلمس لها أثراً في قضية قيام الحسين ، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية .(2/229)
قلت : ثم إن الناس في تلك المرحلة في حالة فتنة تتصارعهم الأهواء ، وكل فرقة تنسب للأخرى مايذمها وإذا نقل لنا خبر كهذا فإنه يجب علينا ألا نقبله إلا إذا نقل عن عدل ثقة ضابط .. وقد حاول البعض من الإخباريين والرواة أن يوجدوا علاقة بين البيعة ليزيد وبين وفاة الحسن بالسم .
ثم إن الذي نُقِلَ لنا عن حادثة سم الحسن بن علي رضي الله عنه روايات متضاربة ضعيفة ، بعضها يقول أن الذي دس السم له هي زوجته ، وبعضها يقول أن أباها الأشعث بن قيس هو الذي أمرها بذلك ، وبعضها يتهم معاوية رضي الله عنه بأن أوعز إلى بعض خدمه فسمه ، وبعضها يتهم ابنه يزيد .. وهذا التضارب في حادثة كهذه ، يضعف هذه النقول ؛ لأنه يعزوها النقل الثابت بذلك ، والرافضة خيبهم الله ، لم يعجبهم من هؤلاء إلا الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه يلصقون به التهمة ، مع أنه أبعد هؤلاء عنها ..
وقلت أيضاً : إن هذه الحادثة - قصة دس السم من قبل معاوية للحسن - تستسيغها العقول في حالة واحدة فقط ؛ وهي كون الحسن بن علي رضي الله عنه رفض الصلح مع معاوية وأصر على القتال ، ولكن الذي حدث أن الحسن رضي الله عنه صالح معاوية وسلم له بالخلافة طواعية وبايعه عليها ، فعلى أي شيء يقدم معاوية رضي الله عنه على سم الحسن ؟!
وإن من الدلالة على ضعف تلك الاتهامات وعدم استنادها إلى معقول أو محسوس ، ما ذكر حول علاقة جعدة بنت قيس بمعاوية ويزيد ، حيث زعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن سمي حسناً فإني سأتزوجك ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء ، فقال : إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا .
ولعل الناقد لمتن هذه الرواية يتجلى له عدة أمور :-
1- هل معاوية رضي الله عنه أو ولده يزيد بهذه السذاجة ليأمرا امرأة الحسن بهذا الأمر الخطير ، الذي فيه وضع حد لحياة الحسن بن علي غيلة ، و ما هو موقف معاوية أو ولده أمام المسلمين لو أن جعدة كشفت أمرهما ؟!(2/230)
2- هل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد ، وبالتالي تكون زوجة له ، أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس ، ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شرفاً ورفعة بلا منازعة ، إن أمه فاطمة وجده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً ، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ، إذاً ما هو الشيء الذي تسعى إليه جعدة وستحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير ؟!
3- لقد وردت الروايات التي تفيد أن الحسن قال : لقد سقيت السم مرتين ، وفي رواية ثلاث مرات ، وفي رواية سقيت السم مراراً ، هل بإمكان الحسن أن يفلت من السم مراراً إذا كان مدبر العملية هو معاوية أو يزيد ؟! نعم إن عناية الله وقدرته فوق كل شيء ، ولكن كان باستطاعة معاوية أن يركز السم في المرة الأولى ولا داعي لهذا التسامح مع الحسن المرة تلو المرة !!
4- و إذا كان معاوية رضي الله عنه يريد أن يصفي الساحة من المعارضين حتى يتمكن من مبايعة يزيد بدون معارضة ، فإنه سيضطر إلى تصفية الكثير من أبناء الصحابة ، ولن تقتصر التصفية على الحسن فقط .
5- وإن بقاء الحسن من صالح معاوية في بيعة يزيد ، فإن الحسن كان كارهاً للنزاع وفرقة المسلمين ، فربما ضمن معاوية رضاه ، وبالتالي يكون له الأثر الأكبر في موافقة بقية أبناء الصحابة .
6- ثم إن هناك الكثير من أعداء الحسن بن علي رضي الله عنه ، قبل أن يكون معاوية هو المتهم الأول ، فهناك السبئية الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية وجعل حداً لصراع المسلمين ، وهناك الخوارج الذين قاتلهم أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النهراون وهم الذين طعنوه في فخذه ، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها .(2/231)
ولمزيد فائدة راجع كتاب : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري للدكتور محمد نور ولي ( ص 367 - 368 ) لتقف على الكم الهائل من الروايات المكذوبة على معاوية رضي الله عنه من قبل الشيعة في قضية سم الحسن .. وكتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 120- 125 ) .
ويكفي أن خبركم أن أحد مؤرخيهم وهو ابن رستم في كتابه : دلائل الإمامة ( ص 61 ) قد بالغ في اتهام معاوية رضي الله عنه ، وادعى أنه سم الحسن سبعين مرة فلم يفعل فيه السم ، ثم ساق خبراً طويلاً ضمنه ما بذله معاوية لجعدة من الأموال والضياع لتسم الحسن ، وغير ذلك من الأمور الباطلة .
مناقشة الجانب الطبي في روايات السم
بعدما تبينت براءة معاوية رضي الله عنه وابنه يزيد من تهمة سم الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فيما سبق من أقوال العلماء ، وما سردناه من تحليلات ، فإنه مما يناسب المقام مناقشة الجانب الطبي في المرويات التي تحدثت عن وفاة الحسن رضي الله عنه بالسم ، ويمكنك مراجعة هذه المرويات الضعيفة في طبقات ابن سعد القسم المفقود بتحقيق الدكتور محمد بن صامل ( 1 / 334 - 339 ) .
وفيما يلي النصوص الخاصة بالجانب الطبي في هذه المسألة :-
1- أخرج ابن سعد بإسناده ، أن الحسن رضي الله عنه دخل كنيفاً له ، ثم خرج فقال : .. والله لقد لفظت الساعة طائفة من كبدي قبل ، قلبتها بعود كان معي ، وإني سقيت السم مراراً فلم أسق مثل هذا . طبقات ابن سعد ( 1 / 336 ) .
2- أخرج ابن سعد بإسناده ، أن الحسن رضي الله عنه قال : إني قد سقيت السم غير مرة ، وإني لم أسق مثل هذه ، إني لأضع كبدي . المصدر السابق ( 1 / 338 ) .
3- أخرج ابن سعد بإسناده ، قال : كان الحسن بن علي سقي السم مراراً ، كل ذلك يفلت منه ، حتى كان المرة الأخيرة التي مات فيها ، فإنه كان يختلف كبده . المصدر السابق ( 1 / 339 ) .(2/232)
هذا ؛ وبعرض النصوص المتعلقة بالجانب الطبي في هذه المسألة على أ.د. كمال الدين حسين الطاهر أستاذ علم الأدوية ، كلية الصيدلة جامعة الملك سعود بالرياض ، أجاب بقوله :
( لم يشتك المريض - أي الحسن بن علي رضي الله عنه - من أي نزف دموي سائل ، مما يرجح عدم إعطائه أي مادة كيميائية أوسم ذات قدرة على إحداث تثبيط لعوامل تخثر الدم ، فمن المعروف أن بعض الكيميائيات والسموم ، تؤدي إلى النزف الدموي ؛ وذلك لقدرتها على تثبيط التصنيع الكبدي لبعض العوامل المساعدة على تخثر الدم ، أو لمضادات تأثيراتها في عملية التخثر ؛ ولذلك فإن تعاطي هذه المواد سيؤدي إلى ظهور نزف دموي في مناطق متعددة من أعضاء الجسم مثل العين والأنف والفم والجهاز المعدي - المعوي - وعند حدوث النزف الدموي في الجهاز المعدي - المعوي - يخرج الدم بشكل نزف دبري سائل ، منفرداً أو مخلوطاً مع البراز ، ولا يظهر في شكل جمادات أو قطع دموية صلبة كانت أو إسفنجية ، أو في شكل ( قطع من الكبد) ، ولذلك يستبعد إعطاء ذلك المريض أحد المواد الكيميائية، أو السموم ذات القدرة على إحداث نزف دموي)
وعن طبيعة قطع الدم المتجمدة التي أشارت الروايات إلى أنها قطع من الكبد ، يقول أ.د. كمال الدين حسين الطاهر :
( هناك بعض أنواع سرطانات أو أورام الجهاز المعدي - المعوي - الثابتة أو المتنقلة عبر الأمعاء ، أو بعض السرطانات المخاطية التي تؤدي إلى النزف الدموي المتجمد ، المخلوط مع الخلايا ، و بطانات الجهاز المعدي - المعوي - وقد تخرج بشكل جمادات ( قطع من الكبد كما في الروايات ) ، ولذلك فإني أرجح أن ذلك المريض قد يكون مصاباً بأحد سرطانات ، أو أورام الأمعاء ) . راجع كتاب : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 395 - 397 ) .
وإن ثبت موت الحسن رضي الله عنه بالسم ، فهذه شهادة له وكرامة في حقه كما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 4/ 42 ) .(2/233)
3- شبهة لعن علي على المنابر بأمر من معاوية - رضي الله عنهما - :
والجواب : إن هذه الفرية من الأشياء المكذوبة في حق معاوية رضي الله عنه بل من الأباطيل التي روج لها الرافضة ودخلت على كتب أهل السنة كأنها حقيقة لا شك فيها .. وبل وظلم العهد الأموي بها .. ولقد تبين لي بعد النظر في الأسباب الداعية لذلك أن أبرز تلك الأسباب التي دعت بعض الناس ،أو الطوائف لتشويه هذا العهد هو التعصب للمذهب والآراء ومحاولة التشهير بالآخرين ..
وهذه دعوى تحتاج إلى دليل ، وهي مفتقرة إلى صحة النقل ، وأغلب الرافضة ومن أشرب قلبه ببغض معاوية رضي الله عنه ، لا يتثبتون فيما ينقلون ، وإنما يكتفون بقولهم : ( كما ذكر ذلك المؤرخون ) أو ( وكتب التواريخ طافحة بذلك ) إلى غيرها من الترهات .. ولا يحيلون إلى أي مصدر موثوق ، وكما هو معلوم مدى أهمية الإحالة والتوثيق لمثل هذه الدعاوى عند المحققين والباحثين ..
ومعاوية رضي الله عنه منزه عن مثل هذه التهم ، بما ثبت من فضله في الدين ، كما أن معاوية رضي الله عنه كان محمود السيرة في الأمة ، أثنى عليه الصحابة وامتدحه خيار التابعين ، وشهدوا له بالدين والعلم والفقه والعدل والحلم وسائر خصال الخير .. وقد تقدم معنا في حلقات مضت الكثير من فضائل هذا الصحابي الجليل العامة والخاصة فلتراجع للأهمية ..
ونقول بعد مراجعة تلك الفضائل وأقوال أهل العلم في معاوية رضي الله عنه : إذا ثبت هذا في حق معاوية ، فإنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل ، و هذا يعني أن أولئك السلف وأهل العلم من بعدهم الذين أثنوا عليه ذلك الثناء البالغ ، قد مالؤوه على الظلم والبغي واتفقوا على الضلال !! وهذا مما نزهت الأمة عنه بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة ) السنة لابن أبي عاصم برقم ( 82 - 84 ) .(2/234)
ومن علم سيرة معاوية رضي الله عنه في الملك وما اشتهر به من الحلم والصفح وحسن السياسة للرعية ، ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه .
ولا شك أن هذه الحكاية لا تتفق أبداً مع منطق الحوادث ، ولا طبيعة المتخاصمين ، و إن الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية لم تذكر شيئاً من ذلك أبداً ، و إنما هي من كتب المتأخرين ، مثل :
1- كتاب تاريخ الطبري (5/71 ) عن أبي مخنف .
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص285) .
3- الكامل لابن الأثير (2/397) . وغيرهم ممن كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس ..
وهذا العمل إنما كان بقصد - من بعضهم - أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية ، و يعلنوا للعلويين أن اضطهاد العباسيين للعلويين لم يبلغ القدر الذي ارتكبه الأمويون من قبل .
ثم كيف يسمح معاوية رضي الله عنه بذلك ؟! و هو الذي لم يصح عنه أبداً أنه سبّ علياً أو لعنه مرة واحدة ، فضلاً عن التشهير به على المنابر !! ..
وقد علق ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/284) على قصة لعن علي رضي الله عنه على المنابر بعد القنوت ، بقوله : ولا يصح هذا ..
ثم لنا أن نتساءل أيضاً لماذا يُعن بنو أمية بسب علي رضي الله عنه و هم الغالبون المنتصرون ؟
و ما يمكن أن يقال في إجماع المسلمين على أنه لا يجوز لعن المسلم على التعيين ؟
و هل يكون هذا الحكم غائباً عن معاوية رضي الله عنه و من أتى بعده من بني أمية ؟
و كيف نفسر ما نقله صاحب العقد الفريد من أن معاوية أخذ بيد الحسن بن علي في مجلس له ، ثم قال لجلسائه : من أكرم الناس أباً و أماً و جداً و جدة ؟ فقالوا : أمير المؤمنين أعلم .. فأخذ بيد الحسن و قال : هذا أبوه علي بن أبي طالب ، و أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، و جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و جدته خديجة رضي الله عنها .(2/235)
و أما ما قيل من أن علياً كان يلعن في قنوته معاوية و أصحابه ، و أن معاوية إذا قنت لعن علياً و ابن عباس و الحسن والحسين ، فهو غير صحيح لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيّد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم و لعنه .
و قد قال صلى الله عليه وسلم : من لعن مؤمناً فهو كقتله . صحيح البخاري مع الفتح (10/479) .
و قوله صلى الله عليه وسلم : لا يكون اللعانون شفعاء و لا شهداء يوم القيامة . صحيح الجامع (2/1283) .
ثم إن هذا الأثر - قصة لعن علي على منابر بني أمية - مروي من طريق علي بن محمد وهو شيخ ابن سعد وهو المدائني فيه ضعف . و شيخه لوط بن يحي ( أبو مخنف ) ليس بثقة متروك الحديث وإخباري تالف لا يوثق به وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى و المجاهيل . انظر : السير (7/302 ) والميزان (3/419 ) . وفي سندها أيضاً أبو جناب الكلبي ، ضعيف ، راجع هذه الرواية الطويلة الملفقة في تاريخ الطبري ( 5 / 71 ) .
ثم إن هذا الأثر ، و هو الوحيد الذي ورد فيه التصريح المباشر بقصة اللعن وهو المشهور ، وهو الذي يتمسك به عامة أهل البدع والجهل .. يشير إلى أن علياً رضي الله عنه كان يلعن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهم !! فماذا لم يتحدثوا عن هذه ؟!!
وأما ما سوى هذه الرواية ، فهي شبهات واهية ، ليس فيها أي دليل على ما يتشدق به أهل البدع والأهواء ، و سيتم الرد عليها بعد قليل إن شاء الله ..(2/236)
الشبهة الأولى : ما جاء في صحيح مسلم ( برقم 2404 ) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : أما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : خلفه في مغازيه فقال له علي : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبوة بعدي ، وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية { قل تعالوا ندعُ أبناءكم .. } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
الجواب: هذا الحديث لا يفيد أن معاوية أمر سعداً بسب علي ، ولكنه كما هو ظاهر فإن معاوية أراد أن يستفسر عن المانع من سب علي ، فأجابه سعداً عن السبب ، ولم نعلم أن معاوية عندما سمع رد سعد غضب منه ولا عاقبه ..
كما أن سكوت معاوية هنا ، تصويب لرأي سعد ، ولو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب علي كما يدعون ، لما سكت عن سعد ولأجبره على سبه ، ولكن لم يحدث من ذلك شيء ، فعُلم أنه لم يأمر بسبه ولا رضي بذلك ..(2/237)
يقول النووي رحمه الله في ذلك : قول معاوية هذا ، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه ، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب ، كأنه يقول : هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك . فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب ، فأنت مصيب محسن ، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر ، ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون ، فلم يسب معهم ، وعجز عن الإنكار ، أو أنكر عليهم ، فسأله هذا السؤال ، قالوا : ويحتمل تأويلاً آخر أن معناه : ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده ، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ . شرح صحيح مسلم ( 15 / 175 ) .
وقال القرطبي في المفهم ( 6 / 278 ) : ( وهذا ليس بتصريح بالسب ، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك ، أو من نقيضه ، كما قد ظهر من جوابه ، ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن ، وعرف الحق لمستحقه ) .
والذي يظهر لي في هذا والله أعلم : أن معاوية رضي الله عنه إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد ، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي رضي الله عنه ، فإن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً فطناً ذكياً يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم ، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي رضي الله عنهما ، فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير ..
وهذا مثل قوله رضي الله عنه لابن عباس : أنت على ملة علي ؟ فقال له ابن عباس : ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم . انظر الإبانة الكبرى لابن بطة ( 1 / 355).
وظاهر قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة ، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب ، وأما ما ادعى الرافضة من الأمر بالسب ، فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك ، والمانع من هذا عدة أمور :-
الأول : أن معاوية نفسه ما كان يسب علياً رضي الله عنه ، فكيف يأمر غيره بسبه ؟ بل كان معظماً له معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام ، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه .(2/238)
قال ابن كثير : وقد ورد من غير وجه أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له : هل تنازع علياً أم أنت مثله ؟ فقال : والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل ، وأحق بالأمر مني .. البداية والنهاية ( 8 / 132 ) .
ونقل ابن كثير أيضاً عن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال : لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي ، فقالت له امرأته : أتبكيه وقد قاتلته ؟ فقال : ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم . نفس المصدر ( 8 / 133 ) .
الثاني : أنه لا يعرف بنقل صحيح أن معاوية رضي الله عنه تعرض لعلي رضي الله عنه بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته ، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته ، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه .
الثالث : أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً ، مشهور بالعقل والدهاء ، فلو أراد حمل الناس على سب علي وحاشاه من ذلك ، أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص ، وهو من هو في الفضل والورع ، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً !! فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً ، فكيف بمعاوية ؟!!
الرابع : أن معاوية رضي الله عنه انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ، ودانت له الأمصار بالملك ، فأي نفع له في سب علي ؟! بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك ، لما فيه من تهدئة النفوس وتسكين الأمور ، ومثل هذا لا يخفى على معاوية رضي الله عنه الذي شهدت له الأمة بحسن السياسة والتدبير .
الخامس : أنه كان بين معاوية رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وابناء علي من الألفة والتقارب ما هو مشهور وفي كتب السير والتاريخ ..
ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمائتي ألف ، وقال لهما : ما أجاز بهما أحد قبلي ، فقال له الحسن : ولم تعط أحد أفضل منا . البداية والنهاية ( 8 / 139 ) .(2/239)
ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له : مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر له بثلاثمائة ألف . المصدر نفسه ( 8 / 140 ) .
وهذا مما يقطع بكذب ما ادعي في حق معاوية رضي الله عنه من حمله الناس على سب علي رضي الله عنه ، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم ..
الشبهة الثانية : ما جاء في صحيح مسلم ( برقم 2409 ) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : استُعمل على المدينة رجل من آل مروان قال : فدعا سهل بن سعد فأمر أن يشتم علياً رضي الله عنه ، فأبى سهل ، فقال له : أما إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب ، فقال سهل : ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب .. ثم ذكر الحديث وسبب تسميته بذلك .
الجواب : هذا الادعاء لا أساس له من الصحة ، بل إن استشهاد هؤلاء وأمثالهم بهذا الحديث لا حجة فيه ، فأين التصريح باسم معاوية فيه ؟؟ ثم إن الرجل من آل مروان ، ومن المعروف لدى الجاهل قبل العالم أن معاوية رضي الله عنه سفياني وليس مرواني ..
ومن الغرائب أن هؤلاء المبتدعة ينكرون سب علي ، ولم يتورعوا عن سب خير البرية بعد الأنبياء أبي بكر وعمر وعثمان !! وكتبهم طافحة بذلك ..(2/240)
ولنستمع إلى ما رواه أبو نعيم في الحلية ( 1/ 84 - 85 ) عن أبي صالح قال : دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية فقال له معاوية : صف لي علياً ، فقال ضرار : أو تعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال معاوية : لا أعفيك ، قال ضرار : أما إذ لابدّ ، فإنه كان و الله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً و يحكم عدلاً ، و يتفجر العلم من جوانبه ، و تنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا و زهرتها ، و يستأنس بالليل و ظلمته ، كان و الله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، و يخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، و من الطعام ما جشب - غليظ ، أو بلا إدام - ، كان و الله كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، و يجيبنا إذا سألناه ، و كان مع تقربه إلينا و قربه منا لا نكلمه هيبة له ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، و يحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، و قد أرخى الليل سدوله ، و غارت نجومه ، يميل في محرابه قابضاً على لحيته ، يتململ تململ السليم - اللديغ - ، و يبكي بكاء الحزين ، فكأني أسمعه الآن و هو يقول : يا ربنا ، يا ربنا ، يتضرع إليه ، ثم يقول للدنيا : إلىّ تغررت ؟ إلىّ تشوفت ؟ هيهات ، هيهات ، غري غيري ، قد بَتَتّكِ ثلاثاً ، فعمرك قصير ، و مجلسك حقير ، و خطرك كبير ، آهٍ آه من قلة الزاد ، و بعد السفر و وحشة الطريق . فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها ، و جعل ينشفها بكمه ، و قد اختنق القوم بالبكاء ، فقال - أي معاوية - : كذا كان أبو الحسن رحمه الله ، كيف وَجْدُكَ عليه يا ضرار ؟ قال ضرار : وَجْدُ من ذبح واحِدُها في حِجْرِها ، لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها ، ثم قام فخرج .(2/241)
قال القرطبي معلقاً على وصف ضرار لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية ، وبكاء معاوية من ذلك ، وتصديقه لضرار فيما قال : ( وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته ، وعظم حقه ومكانته ، وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه ، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين والحلم وكرم الأخلاق وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح .. ) المفهم للقرطبي ( 6 / 278 ) .
و بعد هذا الموقف ، هل يتصور من معاوية رضي الله عنه ، أن يصرح بلعن علي رضي الله عنه على المنابر ؟!
وهل يعقل أن يسع حلم معاوية رضي الله عنه الذي بلغ مضرب الأمثال ، سفهاء الناس وعامتهم وهو أمير المؤمنين ، ثم يأمر بعد ذلك بلعن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب على المنابر ، ويأمر ولاته بذلك في سائر الأمصار والبلدان ؟؟!! والحكم في هذا لكل صاحب عقل وفهم ودين ..
و أما ما قيل من أن بني أمية كانوا يسبون علي بن أبي طالب في الخطب ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبطله و كتب إلى نوابه بإبطاله . انظر خبر أمر عمر بن عبد العزيز بترك سب علي على المنابر في الكامل لابن الأثير (3/255-256) و سير أعلام النبلاء للذهبي (5/147 ) .
قلت : إن من أحب شخصاً لا ينبغي أن ينسب كل عمل خير له ؛ صحيح أن عمر بن عبد العزيز من أئمة الهدى ومن المجددين ، و اعتبر خامس الخلفاء الراشدين ، لأنه سار على نهجهم في سيرتهم مع الرعية و الخلافة و طريقة العيش وغيرها من الأمور ، لكن لا يعني أن نفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية رضي الله عنه ، فمعاوية صحابي جليل القدر و المنزلة ، و هو خال المؤمنين ، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم و صافحت يده يد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولاشك أن مثل هذه الفضيلة و المكانة لا تجعل من معاوية رضي الله عنه يصرح بلعن علي رضي الله عنه على المنابر ..(2/242)
سئل عبد الله بن المبارك ، أيهما أفضل : معاوية بن أبي سفيان ، أم عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : و الله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة ، صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية : ربنا ولك الحمد . فما بعد هذا ؟ . وفيات الأعيان ، لابن خلكان (3 /33) ، و بلفظ قريب منه عند الآجري في كتابه الشريعة (5/2466) .
و أخرج الآجري بسنده إلى الجراح الموصلي قال : سمعت رجلاً يسأل المعافى بن عمران فقال : يا أبا مسعود ؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان ؟! فرأيته غضب غضباً شديداً و قال : لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد ، معاوية رضي الله عنه كاتبه و صاحبه و صهره و أمينه على وحيه عز وجل . كتاب الشريعة للآجري ( 5/2466-2467) شرح السنة لللالكائي ، برقم (2785) . بسند صحيح .
وسئل المعافى بن عمران ، معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز . السنة للخلال ( 2/ 435 ) .
و كذلك أخرج الآجري بسنده إلى أبو أسامة ، قيل له: أيهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟
فقال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاس بهم أحد . كتاب الشريعة (5/2465-2466) بسند صحيح ، و كذلك أخرج نحوه الخلال في السنة ، برقم (666) .
وروى الخلال في السنة بسند صحيح ( 660 ) أخبرنا أبو بكر المروذي قال : قلت لأبي عبد الله أيهما أفضل : معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال : معاوية أفضل ، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : خير الناس قرني الذي بعثت فيهم .
وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله ، فقال : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : يا أبا محمد يعني في حلمه ؟ قال : لا والله بل في عدله . السنة للخلال ( 1 / 437 ) .(2/243)
وإن الجمع الذي بايع معاوية رضي الله عنه بالخلافة خير من الجمع الذي بايع عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فقد بايع لمعاوية جم غفير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي ذلك يقول ابن حزم رحمه الله كما في الفصل ( 5 / 6 ) : فبويع الحسن ، ثم سلم الأمر إلى معاوية ، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بخلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل ، فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته .
و لاشك أن الصحابة رضوان الله عليهم يتورعون عن مثل هذه الأعمال و الأقوال ، و هم يعلمون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن سب المسلم أو لعنه بعينه ، و هو يعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان . انظر تخريجه في : كتاب السنة لابن أبي عاصم (2/487) و الصحيحة (1/634) و مشكاة المصابيح (4847) ..
إلى غيرها من الأحاديث التي تزجر عن هذه الفعلة القبيحة ، و التي يتورع منها عوام الناس لعلمهم بحرمة دم و عرض المسلم ، فما بالك بالصحابة الكرام و من شهد بدر و بيعة الرضوان ، و هو يعلم علم يقين أن الله رضي عنهم .
4- شبهة أن الحسن البصري رحمه الله طعن في معاوية رضي الله عنه !!
ذكر الطبري في تاريخه ( 3/ 232 ) ضمن حوادث سنة ( 51هـ ) و ابن الأثير في الكامل ( 3/ 487 ) نقلاً عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحد لكانت موبقة له :
(1) أخذه الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة ونور الفضيلة .
(2) استخلافه بعد ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير .
(3) ادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر .
(4) قتله حِجْراً وأصحاب حِجْر ، فيا ويلاً له من حِجْر ويا ويلاً له من حِجْر وأصحاب حِجْر .
وأما الجواب عن هذه الشبهة فهو كالتالي :
أولاً : من ناحية السند :(2/244)
هذه الرواية مدارها على أبي مخنف ، وأبو مخنف هذا هو لوط بن يحيى الأزدي الكوفي ، قال عنه الذهبي كما في الميزان ( 3 / 419 ) وابن حجر كما في اللسان ( 4 / 492 ) : أخباري تالف لا يوثق به . كما تركه أبو حاتم وغيره ، وقال عنه الدارقطني : ضعيف ، وقال ابن معين : ليس بثقة ، وقال مرة ليس بشيء ، وقال ابن عدي شيعي محترق . ميزان الاعتدال ( 3 / 419 ) ، وعده العقيلي من الضعفاء . انظر الضعفاء للعقيلي ( 4 / 18 - 19 ) . و للمزيد من حال هذا الرجل راجع رسالة مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى ( ص 43 - 45 ) ففيها مزيد بيان وتفصيل عن حال هذا الرجل .
وعلى ذلك فالخبر ساقط ولا حجة فيه بسبب ضعف سنده ، هذا بالنسبة لرواية الطبري . أما رواية ابن الأثير فقد أوردها ابن الأثير بغير إسناد . إذ كيف نسلم بصحة خبر مثل هذا في ذم صحابي لمجرد وروده في كتاب لم يذكر فيه صاحبه إسناد صحيح ، والمعروف أن المغازي والسير والفضائل من الأبواب التي لم تسلم من الأخبار الضعيفة والموضوعة.
5- وقولهم على لسان الحسن البصري في ما روي عنه : أن معاوية أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة يُعد شبهة خامسة .
وجوابها : هذا الادعاء باطل من أساسه .. لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قد تنازل لمعاوية رضي بالخلافة ، وقد بايعه جيمع الناس ولم نعلم أن أحداً من الصحابة امتنع عن مبايعته .. ولست هنا بصدد الحديث عن صلح الحسن مع معاوية أو أسباب ذلك ، وإنما الحديث ينصب في رد الشبهة التي أثيرت حول معاوية من كونه أخذ الأمر من غير مشورة ..
وتفصيل ذلك :-(2/245)
ذكر ابن سعد في الطبقات في القسم المفقود الذي حققه الدكتور محمد السلمي ( 1 / 316 - 317 ) رواية من طريق ميمون بن مهران قال : إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين ، بايعهم على الإمارة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ، ويرضوا بما رضي به . قال المحقق إسناده حسن .
ورواية أخرى أخرجها ابن سعد أيضاً وهي من طريق خالد بن مُضرّب قال : سمعت الحسن بن علي يقول : والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم ، قالوا : ما هو ؟ قال : تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت . طبقات ابن سعد ( 1 / 286 ، 287 ) . وقال المحقق : إسناده صحيح .
هذا ويستفاد من هاتين الروايتين ابتداء الحسن رضي الله عنه في التمهيد للصلح فور استخلافه ، وذلك تحقيقاً منه لنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
أخرج البخاري في صحيحه ( 5 / 361 ) من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) .
وقد علق ابن حجر الهيتمي على هذا الحديث بقوله : وبعد نزول الحسن لمعاوية اجتمع الناس عليه ، وسمي ذلك العام عام الجماعة ، ثم لم ينازعه أحد من أنه الخليفة الحق يومئذ . انظر : تطهير الجنان ( ص 19 ، 21 - 22 ، 49 ) .(2/246)
وأخرج الطبراني رواية عن الشعبي قال : شهدت الحسن بن علي رضي الله عنه بالنخيلة حين صالح معاوية رضي الله عنه ، فقال معاوية : إذا كان ذا فقم فتكلم وأخبر الناس أنك قد سلمت هذا الأمر لي ، وربما قال سفيان - وهو سفيان بن عيينة أحد رجال السند - : أخبر الناس بهذا الأمر الذي تركته لي ، فقام فخطب على المنبر فحمد الله وأثنى عليه - قال الشعبي : وأنا أسمع - ثم قال : أما بعد فإن أكيس الكيس - أي الأعقل - التقي ، وإن أحمق الحمق الفجور ، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما كان حقاً لي تركته لمعاوية إرداة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم ، أو يكون حقاً كان لامرئ أحق به مني ففعلت ذلك {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء/111] . المعجم الكبير ( 3 / 26 ) بإسناد حسن . وقد أخرج هذه الرواية كل من ابن سعد في الطبقات ( 1 / 329 ) و الحاكم في المستدرك ( 3 / 175 ) و أبو نعيم في الحلية ( 2 / 37 ) والبيهقي في الدلائل ( 6 / 444 ) وابن عبد البر في الاستيعاب ( 1 / 388 - 389 ) .
و هذا الفعل من الحسن رضي الله عنه - وهو الصلح مع معاوية وحقنه لدماء المسلمين - ، كان كعثمان بن عفان رضي الله عنه في نسخه للقرآن و كموقف أبي بكر في الردة .
وبعد أن تم الصلح بينه و بين الحسن جاء معاوية إلى الكوفة فاستقبله الحسن و الحسين على رؤوس الناس ، فدخل معاوية المسجد و بايعه الحسن رضي الله عنه و أخذ الناس يبايعون معاوية فتمت له البيعة في خمس و عشرين من ربيع الأول من سنة واحد و أربعين من الهجرة ، و سمي ذلك العام بعام الجماعة .
أخرج يعقوب بن سفيان و من طريقه أيضاً البيهقي في الدلائل من طريق الزهري ، فذكر قصة الصلح ،(2/247)
و فيها : فخطب معاوية ثم قال : قم يا حسن فكلم الناس ، فتشهد ثم قال : أيها الناس إن الله هداكم بأولنا و حقن دماءكم بآخرنا و إن لهذا الأمر مدة و الدنيا دول . المعرفة و التاريخ (3/412) و دلائل النبوة (6/444-445) و ذكر بقية الحديث .
أخرج البخاري عن أبي موسى قال : سمعت الحسن - أي البصري - يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية - و كان خير الرجلين - : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء ، هؤلاء و هؤلاء ، هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الله بن سمرة و عبد الله بن عامر بن كريز - فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما و قالا له و طلبا إليه . فقال لهما الحسن بن علي : إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال و إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا : فإنه يعرض عليك كذا و كذا و يطلب إليك و يسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به ، فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه ، فقال الحسن - أي البصري - : و لقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - و الحسن بن علي إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى و يقول - : إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . صحيح البخاري مع الفتح (5/361) و الطبري (5/158) .
و في هذه القصة فوائد كثيرة أفادها الحافظ في الفتح منها :-
1- عَلَمٌ من أعلام النبوة .
2- فيها منقبة للحسن بن علي رضي الله عنهما ، فإنه ترك الملك لا لقلة و لا لذلة و لا لعلة ، بل لرغبته فيما عند الله ، و لما رآه من حقن دماء المسلمين ، فراعى أمر الدين و مصلحة الأمة .(2/248)
3- فيها ردّ على الخوارج الذين كانوا يكفرون علياً و من معه و معاوية و من معه ، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين .
4- فيها دلالة على فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيما في حقن دماء المسلمين .
5- فيها دلاله على رأفة معاوية بالرعية و شفقته على المسلمين ، و قوة نظره في تدبير الملك و نظره في العواقب .
6- فيها جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين .
7- و فيه جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل ، لأن الحسن و معاوية ولي كل منهما الخلافة و سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ) و سعيد بن زيد (ت51هـ) في الحياة و هما بدريان . فتح الباري (13/71-72) .
و بهذا التنازل ، انتهت مرحلة من الصراع و عادة الأمة إلى الجماعة بعد أن مرت بتجارب جديدة قاسية تركت آثارها عميقة في المخيلة لأجيالها المتلاحقة حتى الوقت الحاضر .
وللمزيد حول تفاصيل الصلح و خطوات ذلك ، راجع كتاب : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 126 - 167 ) ، و كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للدكتور محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 110 - 120 ) فقد أجاد كل منهما في طرح الموضوع ومناقشته ..
6- شبهة توليته يزيد من بعده :
عمل معاوية رضي الله عنه جهده من البداية في سبيل إعداد ولده يزيد ، و تنشئته التنشئة الصحيحة ، ليشب عليها عندما يكبر ، فسمح لمطلقته ميسون بنت بحدل الكلبية ، و كانت من الأعراب ، و كانت من نسب حسيب ، و منها رزق بابنه يزيد - انظر ترجمتها في : تاريخ دمشق لابن عساكر - تراجم النساء - (ص397 - 401) - من أن تتولى تربيته في فترة طفولته ، وكان رحمه الله وحيد أبيه ، فأحب معاوية رضي الله عنه أن يشب يزيد على حياة الشدة و الفصاحة فألحقه بأهل أمه ليتربى على فنون الفروسية ، و يتحلى بشمائل النخوة و الشهامة والكرم و المروءة ، إذ كان البدو أشد تعلقاً بهذه التقاليد .(2/249)
كما أجبر معاوية ولده يزيد على الإقامة في البادية ، و ذلك لكي يكتسب قدراً من الفصاحة في اللغة ، كما هو حال العرب في ذلك الوقت .
وعندما رجع يزيد من البادية ، نشأ و تربى تحت إشراف والده ، و نحن نعلم أن معاوية رضي الله عنه كان من رواة الحديث - تهذيب التهذيب لابن حجر(10/207)-، فروى يزيد بعد ذلك عن والده هذه الأحاديث و بعض أخبار أهل العلم . مثل حديث : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وحديث آخر في الوضوء، و روى عنه ابنه خالد و عبد الملك بن مروان ، و قد عده أبوزرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة، و هي الطبقة العليا . البداية و النهاية لابن كثير(8/226-227) .
و قد اختار معاوية دَغْفَل بن حنظلة السدوسي الشيباني (ت65هـ) انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب لابن حجر (3/210) ، مؤدباً لولده يزيد ، و كان دغفل علامة بأنساب العرب ، و خاصة نسب قريش ، و كذلك عارفاً بآداب اللغة العربية .
هذا مختصر لسيرة يزيد بن معاوية قبل توليه الخلافة ..
أما عن فكرة ولاية العهد .. فقد بدأ معاوية رضي الله عنه يفكر فيمن يكون الخليفة من بعده ، ففكر معاوية في هذا الأمر و رأى أنه إن لم يستخلف و مات ترجع الفتنة مرة أخرى .
فقام معاوية رضي الله عنه باستشارة أهل الشام في الأمر ، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية ، فرشح ابنه يزيد ، فجاءت الموافقة من مصر و باقي البلاد و أرسل إلى المدينة يستشيرها و إذ به يجد المعارضة من الحسين و ابن الزبير ، و ابن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر ، و ابن عباس . انظر : تاريخ الإسلام للذهبي - عهد الخلفاء الراشدين - (ص147-152) و سير أعلام النبلاء (3/186) و الطبري (5/303) و تاريخ خليفة (ص213) . إلا أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قد بايعا فيما بعد طوعاً ليزيد .
و كان اعتراض هؤلاء النفر حول تطبيق الفكرة نفسها ، لا على يزيد بعينه .(2/250)
ثم كانت سنة واحد وخمسين هجرية فحج معاوية في الناس و قرأ كتاب الإستخلاف ليزيد على الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : لقد علمتم سيرتي فيكم ، و صلتي لأرحامكم ، و صفحي عنكم و حلمي لما يكون منكم ، و يزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم و ابن عمكم و أحسن الناس لكم رأياً ، و إنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة و تكونوا أنتم الذين تنزعون و تؤمرون ، و تجيبون و تقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك . راجع العواصم من القواصم (ص226-228) ، و الكامل في التاريخ (2/512) .
واعتبر معاوية أن معارضة هؤلاء ليست لها أثر ، و أن البيعة قد تمت ، حيث أجمعت الأمة على هذه البيعة . راجع : الفصل في الملل و النحل لابن حزم (4/149-151) و قد ذكر كيفية انعقاد البيعة و شروطها فعرضها عرضاً دقيقاً .
وكانت لتولية معاوية ابنه يزيد ولاية العهد من بعده أسباب كثيرة ، فهناك سبب سياسي ؛ وهو الحفاظ على وحدة الأمة ، خاصة بعد الفتن التي تلاحقت يتلوا بعضها بعضاً ، و كان من الصعوبة أن يلتقي المسلمون على خليفة واحد ، خاصة و القيادات المتكافئة في الإمكانيات قد تضرب بعضها بعضاً فتقع الفتن و الملاحم بين المسلمين مرة ثانية ، ولا يعلم مدى ذلك إلا الله تعالى .
وهناك سبب اجتماعي ؛ وهو قوة العصبية القبلية خاصة في بلاد الشام الذين كانوا أشد طاعة لمعاوية ومحبة لبني أمية ، وليس أدل على ذلك من مبايعتهم ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه دون أن يتخلف منهم أحد .(2/251)
وهناك أسباب شخصية في يزيد نفسه ، وليس معاوية بذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم ، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة ، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره وهو يسوس الناس ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء ، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته ، وقد توفرت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام والقدرة على القيادة ، وكل هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير ..
وقد سأل معاوية رضي الله عنه ولده يزيد يوماً حينما أنس منه الحرص على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين ، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة بعد توليه الخلافة ، فيرد عليه يزيد بقوله : ( كنت والله يا أبةِ عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب ) . ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ( 1 / 375 ) بسند حسن .
لمزيد من التفصيل و الأسباب التي أدت بمعاوية لأخذ البيعة ليزيد ، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأستاذ : محمد بن عبد الهادي الشيباني ( ص 126- 136 ) . فقد أجاد الباحث في طرح الموضوع وأفاد ..
و تجدر الإشارة هنا إلى أن المؤرخين والمفكرين المسلمين قد وقفوا حيال هذه الفكرة مواقف شتى ، ففيهم المعارض ، و منهم المؤيد ، و كانت حجة الفريق المعارض تعتمد على ما أوردته بعض الروايات التاريخية من أن يزيد بن معاوية كان شاباً لاهياً عابثاً ، مغرماً بالصيد و شرب الخمر ، و تربية الفهود والقرود ، و الكلاب ... الخ . نسب قريش لمصعب الزبيري (ص127) و كتاب الإمامة والسياسة المنحول لابن قتيبة (1/163) و تاريخ اليعقوبي (2/220) و كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (5/17) و مروج الذهب للمسعودي (3/77) و انظر حول هذه الافتراءات كتاب : صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية فريال بنت عبد الله (ص86-122) .(2/252)
ولكننا نرى أن مثل هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية ، فإضافة إلى ما سبق أن أوردناه عن الجهود التي بذلها معاوية في تنشئة وتأديب يزيد ، نجد رواية في مصادرنا التاريخية قد تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء .
فيروي البلاذري أن محمد بن علي بن أبي طالب - المعروف بابن الحنفية - دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت ، فقال له يزيد ، و كان له مكرماً : يا أبا القاسم ، إن كنت رأيت مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه ، و أتيت الذي تُشير به علي ؟ فقال : والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه ، وأخبرك بالحق لله فيه ، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، وما رأيت منك إلاّ خيراً . أنساب الأشراف للبلاذري (5/17) .(2/253)
كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه والخروج معهم ضده ، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو و أصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون ، قد حضرته و أقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة ، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال : و ما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق و إن لم نكن رأيناه ، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء .. الخ . البداية و النهاية (8/233) و تاريخ الإسلام - حوادث سنة 61-80هـ - (ص274) و حسن محمد الشيباني إسناده ، انظر مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص384) .
وقد شهد له ابن عباس رضي الله عنه بالفضيلة وبايعه ، كما في أنساب الأشراف ( 4 / 289 - 290 ) بسند حسن .
كما أن مجرد موافقة عدد من كبار الشخصيات الإسلامية ، من أمثال عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عباس و أبو أيوب الأنصاري ، على مصاحبة جيش يزيد في سيره نحو القسطنطينية ، فيها خير دليل على أن يزيد كان يتميز بالاستقامة ، و تتوفر فيه كثير من الصفات الحميدة ، و يتمتع بالكفاءة والمقدرة لتأدية ما يوكل إليه من مهمات .(2/254)
أخرج البخاري عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت و هو نازل في ساحة حمص و هو في بناء له و معه أم حرام ، قال عمير : فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ، فقالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ، فقلت : أنا فيهم قال : لا . البخاري مع الفتح (6/120) .
وأخرج البخاري عن محمود بن الربيع في قصة عتبان بن مالك قال محمود : فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها ، و يزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم . البخاري مع الفتح (3/73) .
وفي هذا الحديث منقبة ليزيد رحمه الله حيث كان في أول جيش يغزوا أرض الروم .
ولنستمع إلى وجهة النظر التي أبداها الأستاذ محب الدين الخطيب - حول مسألة ولاية العهد ليزيد - وهي جديرة بالأخذ بها للرد على ما سبق ، فهو يقول : إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر و عمر في مجموع سجاياهما ، فهذا ما لم يبلغه في تاريخ الإسلام ، ولا عمر بن عبد العزيز ، و إن طمعنا بالمستحيل و قدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر و عمر آخر ، فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر و عمر ، وإن كان مقياس الأهلية ، الاستقامة في السيرة ، والقيام بحرمة الشريعة ، والعمل بأحكامها ، و العدل في الناس ، و النظر في مصالحهم ، والجهاد في عدوهم ، و توسيع الآفاق لدعوتهم ، والرفق بأفرادهم و جماعاتهم ، فإن يزيد يوم تُمحّص أخباره ، و يقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته ، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم ، و أجزل الثناء عليهم . العواصم من القواصم لابن العربي (ص221) .(2/255)
ونجد أيضاً في كلمات معاوية نفسه ما يدل على أن دافعه في اتخاذ مثل هذه الخطوة هو النفع للصالح العام و ليس الخاص ، فقد ورد على لسانه قوله : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله ، فبلغه ما أملت و أعنه ، و إن كانت إنما حملني حبّ الوالد لولده ، وأنه ليس لما صنعت به أهلاً ، فاقبضه قبل أن يبلغ ذلك . تاريخ الإسلام للذهبي - عهد معاوية بن أبي سفيان - (ص169) و خطط الشام لمحمد كرد علي (1/137) .
ويتبين من خلال دراسة هذه الفكرة - وهي ولاية العهد من بعده لابن يزيد - ، أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان محقاً فيما ذهب إليه ، إذ أنه باختياره لابنه يزيد لولاية العهد من بعده ، قد ضمن للأمة الإسلامية وحدتها ، و حفظ لها استقرارها ، و جنبها حدوث أية صراعات على مثل هذا المنصب .
قلت : و قد رأى معاوية رضي الله عنه في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام من بعده و هو أعلم الناس بخفاياه و لو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره . وحول مبايعة يزيد بن معاوية رحمه الله بولاية العهد ، و حول نشوء هذه الفكرة ، و حول كون يزيد أهلاً و كفئ لتوليه الخلافة بعد والده ، انظر : مقال بعنوان : مبايعة يزيد بن معاوية بولاية العهد ، دراسة تاريخية ، للدكتور : عمر سليمان العقيلي ، في مجلة كلية الآداب ، جامعة الملك سعود المجلد (12) ج (2) .
والغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية و عابه في تولية يزيد و أنه ورثّه توريثاً هم الشيعة الروافض ، مع أنهم يرون هذا الأمر في علي بن أبي طالب و سلالته إلى اثني عشر خليفة منهم .
نعم إنا نستطيع أن نقول بأن يزيد بن معاوية هو أول من عهد إليه أبوه بالخلافة ؛ ولكن لنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية :-
1- ترك الناس بدون خليفة من بعده ، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد .
2- نادى في كل مصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائباً ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة.(2/256)
3- جعل يزيد هو المرشح ، وبايعه الناس كما فعل .
ولنأخذ الأمر الأول :-
كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع ، وتركه ولم يرشح أحداً لخلافة المسلمين حتى توفي .
أعتقد أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة ، وترك الناس في هرج ومرج ، حتى استقرت الخلافة أخيراً لعبد الملك بن مروان بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات .
ثم لنتصور الأمر الثاني :-
نادى مناد في كل مصر بأن يرشحوا نائباً عنهم ، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها ، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية .
سيختار أهل الشام ، رجل من بني أمية بلا شك ، بل وربما أنه يزيد ، وربما غيره .
وسيختار أهل العراق في الغالب الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وسيختار أهل الحجاز : إما ابن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر ، أو ابن الزبير رضي الله عن الجميع .
وسيختار أهل مصر : عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
والسؤال الآن : هل سيرضى كل مصر بولاية واحد من هؤلاء ، ويسلموا له ، أم ستكون المعارضة واردة ؟!
الجواب : أعتقد أن المعارضة ستظهر .
ولنسأل سؤالاً آخر : في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قبل الأمصار ، هل يستطيع معاوية أن يلزم كل مصر بما اختاره أهل المصر الآخر ؟!
الجواب : ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية ، وسيعمد أدعياء الشر الذي قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية ، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية .
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات ، وربما حصل ما أشرنا إليه ، وربما حدث العكس من ذلك ، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحياناً يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك .(2/257)
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة ، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له ..
ويبقى الأمر الثالث : وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد ولياً للعهد من بعده ..
وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه ، كل من ابن العربي في العواصم من القواصم (ص228-229 ) ، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة ، إذ يقول : والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه ، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس ، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه - و حينئذ من بني أمية - ثم يضيف قائلاً : و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا ، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك ، و حضور أكابر الصحابة لذلك ، وسكوتهم عنه ، دليل على انتفاء الريب منه ، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة ، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق ، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك ، و عدالتهم مانعة منه . المقدمة لابن خلدون (ص210-211) .(2/258)
ويقول في موضع آخر : عهد معاوية إلى يزيد ، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم ، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه ، مع أن ظنهم كان به صالحاً ، ولا يرتاب أحد في ذلك ، ولا يظن بمعاوية غيره ، فلم يكن ليعهد إليه ، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق ، حاشا لله لمعاوية من ذلك . المقدمة (ص206) . وانظر أقوالاً أخرى لمؤرخين وباحثين يثنون على هذه الخطوة ، من أمثال : محمد علي كرد في كتابه : الإسلام والحضارة الغربية ( 2 / 395 ) ، و إبراهيم شعوط في : أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ( ص 334 ) ، و يوسف العش في : الدولة الأموية ( ص 164 ) ، و مقال للدكتور : عمارة نجيب في مجلة الجندي المسلم ( ص 58 ) . لمزيد تفصيل في هذا الموضوع ، راجع كتاب : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية ( ص 141 - 153 ) .
وليس أفضل - قبل أن ننتقل إلى شبهة أخرى - من أن نشير إلى ما أورده ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم ( ص 231 ) من رأي لأحد أفاضل الصحابة في هذا الموضوع ، إذ يقول : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية ، فقال : أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد ، لا أفقه فيها فقهاً ، ولا أعظمها فيها شرفاً ؟ قلنا : نعم ، قال : و أنا أقول ذلك ، و لكن و الله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق.
7- شبهة ادعائه زياد بن أبيه أخًا له :
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الولد للفراش وللعاهر الحجر ).
والجواب : المراد بزياد هنا ؛ هو زياد بن سمية ، وهي أمه كانت أمة للحارث بن كلدة ، زوجها لمولاه عبيد ، فأتت بزياد على فراشه وهم بالطائف قبل أن يسلم أهل الطائف . انظر ترجمته في الإصابة (2 / 527 - 528 ) ، والاستيعاب ترجمة رقم ( 829 ) وطبقات ابن سعد ( 7 / 99 ) وغيرها .(2/259)
إن قضية نسب زياد بن أبيه تعد من القضايا الشائكة في التاريخ الإسلامي ؛ لأنها تثير عدداً من الأسئلة يصعب الإجابة عليها ، مثل :-
- لماذا لم تثر هذه القضية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثلما أثيرت قضايا مشابهة لها عند فتح مكة ؟
مثل قضية : نسب ابن أمة زمعة بن قيس الذي ادعاه عتبة بن أبي وقاص ، انظر القصة في صحيح البخاري مع الفتح ( 12 / 32 - 33 ) .
- لماذا لم تثر هذه القضية في حياة أبي سفيان رضي الله عنه ؟
- لماذا لم تثر هذه القضية في أثناء خلافة علي رضي الله عنه ، خاصة عندما كان زياد من ولاة علي ؛ لأن في إثارتها في تلك الفترة مكسباً سياسياً لمعاوية رضي الله عنه ؛ إذ قد يترتب على ذلك انتقال زياد من معسكر علي إلى معسكر معاوية ؟
- لماذا أثيرت هذه القضية في سنة ( 44 هـ ) وبعد أن آلت الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه ؟
ومهما يكن من أمر فإن قضية نسب زياد تعد من متعلقات أنكحة الجاهلية ، ومن أنواع تلك الأنكحة ما أخرجه البخاري في صحيحه من طريق عائشة رضي الله عنها : ( إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء - بمعنى : أنواع - : فنكاح منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها - أي يعين صداقها - ثم ينكحها .
ونكاح آخر ، كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها - حيضها - : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه - أي اطلبي منه الجماع - ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد - النجيب : الكريم الحسب - ، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .(2/260)
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، فتسمي من أحبت باسمه ، فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل .
والنكاح الرابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً ، فمن أردهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها و دعوا لها القافة - جمع قائف ، وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية - ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه به - أي استلحقه به - ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك .
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق ، هدم نكاح الجاهلية كله ، إلا نكاح الناس اليوم . الفتح مع الصحيح ( 9 / 88 - 89 ) .
وقد أقر الإسلام ما نتج عن تلك الأنكحة من أنساب ، وفي ذلك يقول ابن الأثير : فلما جاء الإسلام .. أقر كل ولد ينسب إلى أب من أي نكاح من أنكحتهم على نسبه ، ولم يفرق بين شيء منها . الكامل في التاريخ ( 3/ 445 ) .
وأما الذراري الذين جاء الإسلام وهم غير منسوبين إلى آبائهم - كأولاد الزنى - فقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود بإسناده قال : قام رجل فقال : يا رسول الله إن فلاناً ابني ، عاهرت - أي زنيت - بأمه في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا دعوة في الإسلام ، ذهب أمر الجاهلية ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر . صحيح سنن أبي داود ( 2 / 430 ) .
أما القول إن سبب سكوت أبي سفيان رضي الله عنه من ادعاء زياد هو خوفه من شماتة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . انظر القصة في الاستيعاب لابن عبد البر ( 2 / 525 ) . فهذا القول مردود بما يلي :-(2/261)
1- إن قضية نسب ولد الزنا قد ورد فيها نص شرعي ولم تترك لاجتهادات البشر .
2 - إن الإسلام يجب ما قبله .
3- إن عمر رضي الله عنه توفي قبل أبي سفيان رضي الله عنه ، فلماذا لم يدّع أبو سفيان زياداً بعد وفاة عمر ؟ .
4 - إن في إسناد هذا الخبر محمد بن السائب الكلبي ، وقد قال عنه ابن حجر : ( متهم بالكذب ورمي بالرفض ) التقريب ( 479 ) .
وأما اتهام معاوية رضي الله عنه باستلحاق نسب زياد فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك ، هذا فضلاً عن أن صحبة معاوية رضي الله عنه وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) الفتح ( 12 / 39 ) .
وبعد أن اتضحت براءة معاوية رضي الله عنه من هذا البهتان فإن التهمة تتجه إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان ، وهذا ما ترجح لدي من خلال الرواية التي أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أبي عثمان قال : لما ادعى زياد ، لقيت أبا بكرة فقلت : ما هذا الذي صنعتم ؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه ، يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) ، فقال أبو بكرة : وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح مسلم بشرح النووي ( 2/ 51 - 52 ) والبخاري مع الفتح ( 12 / 54 ) .
قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الخبر : ( .. فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة ، وذلك أن زياداً هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان ، ويقال فيه : زياد بن أبيه ، ويقال : زياد بن أمه ، وهو أخو أبي بكرة لأمه .. فلهذا قال أبو عثمان لأبي بكرة : ما هذا الذي صنعتم ؟(2/262)
وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زياداً وحلف أن لا يكلمه أبداً ، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حين قال له هذا الكلام ، أو يكون مراده بقوله : ما هذا الذي صنعتم ؟ أي ما هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة ) . شرح صحيح مسلم ( 2 / 52 ) .
وقال أيضاً : قوله : (ادُّعِي ) ضبطناه بضم الدال وكسر العين مبني لما لم يسم فاعله ، أي ادعاه معاوية ، ووجد بخط الحافظ أبي عامر العبدري - وهو إمام من أعيان الحفاظ من فقهاء الظاهرية ( ت 524هـ ) ، انظر ترجمته في : تذكرة الحفاظ للذهبي ( 4 / 1272 ) - ( ادَّعَى ) بفتح الدال والعين ، على أن زياداً هو الفاعل ، وهذا له وجه من حيث إن معاوية ادعاه ، وصدقه زياد فصار زياد مدعياً أنه ابن أبي سفيان ، والله أعلم . شرح مسلم ( 2 / 52 - 53 ) .
وقد تبينت براءة معاوية رضي الله عنه من هذه التهمة فيما تقدم من القول ، وبذلك ينتفي الوجه الذي ذهب إليه النووي في كلامه عن ضبط الحافظ أبي عامر العبدري لكلمة ( ادَّعَى ) .
ويزيد هذا الأمر تأكيداً ما أورده الحافظ أبو نعيم في ترجمة زياد بن أبيه حيث قال : ( زياد بن سمية : ادَّعَى أبا سفيان فنسب إليه ) معرفة الصحابة ( 3 / 1217 ) .
وبذلك يكون زياد هو المدعي ، ولذلك هجره أخوه أبو بكرة رضي الله عنه . والله تعالى أعلم . مقتبس من كتاب : مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري للدكتور خالد الغيث ( ص 372 - 379 ) .(2/263)
وقد أجاب الإمام ابن العربي رحمه الله عن هذه الشبهة بجواب آخر له وجه من الصحة أيضاً ، فقال فيما معناه : أما ادعاؤه زياداً فهو بخلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لعبد بن زمعة : ( هو لك الولد للفراش وللعاهر الحجر ) باعتبار أنه قضى بكونه للفراش وبإثبات النسب فباطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت النسب ، لأن عبداً ادعى سببين ، أحدهما : الأخوة ، والثاني : ولادة الفراش ، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم هو أخوك ، الولد للفراش لكان إثباتاً للحكم وذكراً للعلة ، بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها وأعرض عن النسب ولم يصرح به ، وإنما هو في الصحيح في لفظ ( هو أخوك ) وفي آخر ( هو لك ) معناه أنت أعلم به بخلاف زياد ، فإن الحارث بن كلدة الذي ولد زياد على فراشه ، لم يدعيه لنفسه ولا كان ينسب إليه ، فكل من ادعاه فهو له ، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه ، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز بل فعل فيه الحق على مذهب الإمام مالك . انظر تفصيل ذلك في كتاب العواصم من القواصم ( ص 248 - 255 ) بتخريج محمود مهدي الاستانبولي و تعليق الشيخ محب الدين الخطيب وهو من منشورات مكتبة السنة بالقاهرة .
8- قتله حِجْربن عدي وأصحابه :
والجواب : تحدثت معظم المصادر التاريخية عن مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه بين مختصر في هذا الأمر ومطول كل بحسب ميله ، وكان للروايات الشيعية النصيب الأوفر في تضخيم هذا الحدث ووضع الروايات في ذلك ؛ وكأنه ليس في أحداث التاريخ الإسلامي حدث غير قصة مقتل حجر بن عدي .. هذا ونظراً لقلة الروايات الصحيحة عن حركة حجر بن عدي ، ولكون هذه الروايات لا تقدم صورة متكاملة عن هذه القضية .. لذا فلن أتطرق للحديث عنها بقدر ما سيكون الحديث منصباً على السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يقدم على قتل حجر بن عدي والدوافع التي حملته على ذلك ..(2/264)
كان حجر بن عدي من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وممن شهد الجمل وصفين معه . وحجر هذا مختلف في صحبته ، وأكثر العلماء على أنه تابعي ، وإلى هذا ذهب كل من البخاري وابن أبي حاتم عن أبيه وخليفة بن خياط وابن حبان وغيرهم ، ذكروه في التابعين وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة . انظر ترجمته في الإصابة ( 2/ 31- 34 ) .
ذكر ابن العربي في العواصم بأن الأصل في قتل الإمام ، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل ، و لكن حجراً فيما يقال : رأى من زياد أموراً منكرة ، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي والياً من ولاته ، و كان حجر بن عدي من أولياء زياد و أنصاره ، و لم يكن ينكر عليه شيئاً ، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعاً بعاطفة التحزب و التشيع ، و كان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد ، فقام حجر و حصب زياد و هو يخطب على المنبر ، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر و نادى : الصلاة ! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر و حصبه آخرون معه و أراد أن يقيم الخلق للفتنة ، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله ، وعدّ ذلك من الفساد في الأرض ، فلمعاوية العذر ، و قد كلمته عائشة في أمره حين حج ، فقال لها : دعيني و حجراً حتى نلتقي عند الله ، و أنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين . انظر هذا الخبر بالتفصيل في العواصم من القواصم لابن العربي (ص 219-220) بتحقيق محب الدين الخطيب و تخريج محمود الإستانبولي مع توثيق مركز السنة .(2/265)
وأما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه ، فإنه لم يقتلهم على الفور ، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات الشيعية ، انظر : تاريخ الطبري (5/256- 257 و 275 ) . بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم ، واستشار أهل مشورته ، ثم كان حكمه فيهم ..
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسناد حسن ، قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو المغيرة - ثقة - قال : حدثنا ابن عياش - صدوق - قال : حدثني شرحبيل بن مسلم - صدوق - قال : لما بُعِث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان ، استشار الناس في قتلهم ، فمنهم المشير ، ومنهم الساكت ، فدخل معاوية منزله ، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم جلس على منبره ، فقام المنادي فنادى : أين عمرو بن الأسود العنسي ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه ، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ، ألا وأنت أعلمنا بدائهم ، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول:{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[ البقرة/285]
فقال معاوية : أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم ، ورمى بها ما بين عيني معاوية . ثم قام المنادي فنادى : أين أبو مسلم الخولاني ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك ، ولا عصيناك منذ أطعناك ، ولا فارقناك منذ جامعناك ، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك ، سيوفنا على عواتقنا ، إن أمرتنا أطعناك ، وإن دعوتنا أجبناك وإن سبقناك نظرناك ، ثم جلس .
ثم قام المنادي فقال : أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق ، إن تعاقبهم فقد أصبت ، وإن تعفو فقد أحسنت .(2/266)
فقام المنادي فنادى : أين عبد الله بن أسد القسري ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك ، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة ، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى ، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً بالليل نؤوماً ، عن عمل الآخرة سؤوماً . يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعت أوتارها ، ومالت بها عمادها وأحبها أصحابها ، واقترب منها ميعادها ثم جلس . فقلت - القائل هو : اسماعيل بن عياش - لشرحبيل : فكيف صنع ؟ قال : قتل بعضاً واستحيى بعضاً ، وكان فيمن قتل حجر بن عدي بن الأدبر . انظر الرواية في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 328 - 331 ) .
ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته على الأقوال فقط ولم ينتقل إلى الأفعال .. حيث أنه ألّب على عامله بالعراق ، وحصبه وهو على المنبر ، وخلع البيعة لمعاوية وهو آنذاك أمير المؤمنين .. ولكن حجراً رضي الله عنه زين له شيعة الكوفة هذه المعارضة ، فأوردوه حياض الموت بخذلانهم إياه .. ولا ننسى موقف شيعة الكوفة مع الحسين رضي الله عنه ، حين زينوا له الخروج ثم خذلوه كما خذلوا حجراً من قبله ، فآنا لله وآنا إليه راجعون ..
وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه هذا بقتل حجر بن عدي ، على قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) . صحيح مسلم بشرح النووي (12 / 242 ) .
وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم : ( إنه ستكون هنات - أي فتن - وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع ، فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان ) . صحيح مسلم بشرح النووي ( 12 / 241 ) .(2/267)
ولو سلمنا أن معاوية أخطأ في قتل حجر ؛ فإن هذا لا مطعن فيه عليه ، كيف وقد سبق هذا الخطأ في القتل من اثنين من خيار الصحابة ؛ هما : خالد بن الوليد وأسامة بن زيد رضي الله عنهما .
أما قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع بني جذيمة ، وقولهم صبأنا بدلاً من أسلمنا ، فرواها البخاري في صحيحه برقم ( 4339 ) من حديث عبد الله بن عمر .. وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) ..
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13 / 194 ) : وقال الخطابي : الحكمة من تَبرُّئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهداً ، أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه ، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله .. ثم قال : والذي يظهر أن التبرأ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة ، فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود .
وقصة أسامة بن زيد رضي الله عنه مع الرجل الذي نطق بالشهادتين ، وقتل أسامه له بعد نطقها ، في الصحيحين البخاري برقم ( 4269 ، 6872 ) ومسلم برقم ( 96 ) .. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ) .. الحديث
وكل ما جرى من أسامة وخالد ناتج عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم .
( كتب البحث : الشيخ أبو عبدالله الذهبي - وفقه الله - )
شبهات القبورية
الشبهة( 1 ): حول تقسيم التوحيد والردود عليها
رغم ظهور هذه القضية فقد خالف فيها من خالف، وتشبثوا بشبه عديدة يحاولون بها إنكار تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وقالوا بترادف الألوهية والربوبية، وهم فئتان:
أ - المتكلمون من الماتريدية والأشعرية، فقد زعموا: أن الألوهية بعينها هي الربوبية.
ب - القبورية المتصوفة: حيث قالوا: إن الألوهية بعينها هي الربوبية دون فرق وتمييز بينهما، فهما متحدان لا متغايران.(2/268)
وسأذكر فيما يلي مجمل شبهاتهم مع الردود عليها:
الشبهة الأولى: الإله هو الرب، والرب هو الإله، فيكون توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود والاعتقاد.
الرد : سبق أن ذكرنا معنى الإله والرب في اللغة والشرع، واتضح لنا أن لفظ الإله ومعناه غير الرب ومعناه, في اللغة والشرع, وهو المعروف عند السلف أسماء الله أعلام وأوصاف، فهي باعتبار دلالتها على الذات أعلام، وباعتبار دلالتها على المعنى أوصاف، وهي بالاعتبار الأول مترادفة لدلالتها على مسمى واحد وهو الله عز وجل، وبالاعتبار الثاني متباينة؛ لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فمن قال بترادفها بالاعتبار الثاني فهو جاهل؛ إذ لم يميز بين معنى الإله ومعنى الرب، ولم يعن نفسه بمطالعة كتب اللغة وكلام أهل العلم ليظهر له الفرق.
الشبهة الثانية : إذا كان كفار مكة مقرين بتوحيد الربوبية فهل يكون توحيدهم هذا صحيحًا؟ وهل للكفار توحيد صحيح؟ وإذا لم يكن توحيدهم صحيحًا معناه أنهم ما كانوا مقرين بالتوحيد، فلا عبرة بهذا التقسيم.
الرد : لم يصف أحد من أهل العلم من جاء بتوحيد الربوبية بأنه موحد هكذا على الإطلاق، وإنما يوصف الموحد عندهم من جاء بالتوحيد بأقسامه (أجزائه) الثلاثة، وإنما يأتي في كلام أهل العلم عمن أثبت ربوبية الله، وأنه وحده هو الخالق الرازق المالك المدبر لا شريك له، ثم لم يفرده بالعبادة بأنه مقر بتوحيد الربوبية أو معترف بتوحيد الربوبية أو نحو ذلك، ولا يرون أن هذا ينجيه من عذاب الله أو يخرجه من وصف الكفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما توحيد الربوبية الذي أقرَّ به الخلق وقرره أهل الكلام فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم).
وقال ابن القيم: (وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم كما بيّن ذلك سبحانه في كتابه في عدة مواضع).(2/269)
وقال الصنعاني: (الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد).
ثم إن إطلاق أهل العلم لمن أثبت ربوبية الله وأنه الخالق الرازق... إلخ، بأنه مقر بتوحيد الربوبية وإن كان مشركًا في العبادة, قول مطابق لما جاء في القرآن الكريم، قال تعالى: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
قال ابن عباس: (أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق). وقال قتادة: (أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض ثم تجعلون له أندادًا).
وقال ابن جرير: (... ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها (أي عن العرب) أنها كانت تقر بالوحدانية غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }.. ( وقد سبق إيراد أقوال السلف في تفسير هذه الآية التي تدل على أنهم كانوا يطلقون على من اعترف بالله خالقًا وعَبدَ معه غيره بأنه اعترف بتوحيد الربوبية إلا وهو مشرك في عبادته غيره؛ ولهذا قال الصنعاني: ( ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى).
ثم هنا أمر لابد من تقريره وإيضاحه وهو أن قول أهل العلم عن المشركين بأنهم يعترفون بتوحيد الربوبية ليس المراد به أنهم اعترفوا بهذا القسم من التوحيد على التمام والكمال، فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم، وإنما مرادهم تقرير ما ثبت في القرآن عن المشركين من اعترافهم ببعض صفات الربوبية وخصائصها.(2/270)
ثم إن هذا ليس حكمًا عامًّا مطردًا على جميع المشركين، بل وهم كما قال شيخ الإسلام: (إن كثيرًا من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات أو حدوث بعض الحوادث إلى غير الله، وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب، وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكًا مساويًا له في أفعاله ولا في صفاته).
فعلمنا بذلك أنه لم يقل أحد من أهل السنة أن من أشرك في الألوهية وأقر بالربوبية يكون توحيده صحيحًا، ويوجب له دخول الجنة، كيف وقد قال الله تعالى: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ }، فالآية فيها الإطلاق، أي من يشرك بالله شركًا أكبر في الألوهية أو الربوبية يدخل النار.
وأما فهم أن من أقر بالله بالربوبية يكون توحيده صحيحًا، فهذا على أصل الأشاعرة والماتريدية وزملائهم الصوفية، فإن توحيد الربوبية هي الغاية العظمى عندهم، وليس عندنا.
الشبهة الثالثة : هل سمع المسلمون في الأحاديث والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب: ليسلموا على يده يفصِّل لهم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟ ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم الإسلام؟.
الرد على هذه الشبهة: من وجهين:
الأول : يقال من باب المعارضة: وهل قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن الوحدانية تكون في الذات والصفات والأفعال كما نصّ عليه الأشاعرة على أن هذه هي أنواع التوحيد؟ وكما نصّ عليه أئمة القبورية؟
الثاني : إن الشبهة - كما يفهم من السؤال الاستنكاري - بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يفصل لأجلاف العرب نوعي التوحيد؛ لا تخلو من أحد احتمالين:(2/271)
الاحتمال الأول : إما أن يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم معنى التوحيد فهذا باطل - يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، ويمكن أن يعلم بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للتوحيد بنهيه عن الشرك وتحذيره منه، وبيان خطره وقبحه - كما سيأتي بيانه في مبحث آخر - وبإقامة البراهين والحجج على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة بأنواع من الأدلة كبيان ربوبية الله وإنعامه وتقرير المشركين بذلك، وبيان ضعف وعجز من يعبد من دون الله، وبيان وسائل الشرك وذرائعه ونهيه وتحذيره منها، فكيف يقال بعد هذا كله: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين نوعي التوحيد معنى؟!
الاحتمال الثاني: أو يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص لفظًا على أن التوحيد ينقسم إلى الربوبية والألوهية، فهذا حق، ولكن لا يلزم منه ألا يكون قد بيّن معنى التوحيد، فهذه أمور لو كانت أمورًا اصطلاحية فقط كما اصطلح الأشاعرة على تقسيمهم القاصر للتوحيد لما كان هناك أي حجة لهم في إنكارها، فضلاً عن كون هذه الأمور (التقسيم) من الحقائق الشرعية المستمدة من كتاب الله تعالى، وليس أمرًا اصطلاحيًا أنشأه بعض العلماء، والأدلة دالة على شمول تقسيم أهل السنة للتوحيد.
الشبهة الرابعة : أن القول بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات شر بدعة أحدثها السلفية، بل أي دين سوى دين النصرانية ذلك الدين الذي يثبت لله تعالى أقانيم ثلاثة، فتثليثهم أشبه بتثليث النصارى.
الرد :(2/272)
1- أن التثليث عقيدة نصرانية تقوم على أساس جعل الآلهة ثلاثة، وهم: الأب والابن وروح القدس، وقد كفَّرهم الله بها في محكم تنزيله، أما تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات, أو إلى قسمين: توحيد معرفة وإثبات، توحيد إرادة وطلب، فهذه عقيدة المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سوى المبتدعة الضلال، وقد سبق أن أوردنا أدلة القرآن والسنة على إثبات هذه الأنواع بما لا مزيد عليه.
2- ثم يقال لهم: ألستم تقولون: (هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك)، فقد أثبتم ثلاثة أقانيم ما فررتم منها ورميتمونا بها، فما جوابكم فهو عين جوابنا.
3- هذه الأقسام الثلاثة هي أقسام حقوق الله تعالى، وليست أقسام الآلهة كما في عقيدة النصارى.
الشبهة الخامسة : إن هذا التقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، بل هو الذي اخترعه.
الرد عليها : هذه الشبهة تدل على قصور علمهم وقلة خبرتهم ومعرفتهم بكتب السلف الصالح؛ إذ هي مليئة بالتصريح تارةً وبالإشارة تارةً إلى هذه الأقسام، ولو ذهبت أنقل كل ما في ذلك لطال المقام، ولكن حسبي ما أوردت بعض النقول من النصوص المشتملة على ذكر أقسام التوحيد الثلاثة لبعض الأئمة الذين كانوا قبل شيخ الإسلام ابن تيمية ليظهر كذب من يتهم شيخ الإسلام بهذه التهمة حيث أوردت قول كل من الإمام ابن بطة، وابن منده، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، وابن جرير الطبري وغيرهم ـ رحمهم الله ـ.
إشكال :(2/273)
فإن قيل: إن كثيرًا من العلماء - الذين صنفوا في علم الكلام (من المتكلمين) قد أعرضوا عن بيان هذه الأقسام للتوحيد، بل أغلبهم بذلوا جهودهم في إثبات الجزء الأول من التوحيد، ولم يتعرضوا للأجزاء الأخرى، فهل هناك سبب معين في إعراضهم عن ذكر توحيد الألوهية؟ وهل هذا ناتج عن عدم فهمهم للآيات القرآنية والسنة الصحيحة، وهل كان الجميع - متقدموهم ومتأخروهم - بمعزل تام عن معرفة هذا الجزء من التوحيد؟
دفع الإشكال : لا، بالتأكيد، بل لعل المتقدمين كانوا يعرفون هذا الجزء - وإنما لم يصنفوا تصانيف مستقلة بالبحث عن حقيقة توحيد الألوهية وما يضاده من الشرك ومظاهره وذرائعه ووسائله؛ لأنه لم يظهر ما ظهر عن المتأخرين من جماهير الطوائف.
والذي يؤكد هذه الحقيقة - أن علماء أهل السنة والجماعة الذين تصدوا للرد على الأشعرية وغيرهم لم يذكروا - فيما أعلم - مسائل توحيد الألوهية فيما خالف فيه أولئك، فلو كان عندهم شيء مخالف لذكروه ولردوا عليه.
وبالجملة : فهذا يؤكد أن المتقدمين من الطوائف وقدماء الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا ينازعون في أن الاستعاذة بغير الله لا تجوز، وكذلك الدعاء والاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله والحلف وغير ذلك، كما ينازع المتأخرون منهم والمتصوفة المنبثقة من المتكلمين، ويفهم هذا من وجهين:
الأول : تنصيص بعض المتقدمين من الأشاعرة على توحيد الألوهية، ومن ذلك :
أ- ما قاله الباقلاني: والتوحيد له هو (الإقرار بأنه ثابت موجود وإله واحد فرد معبود ليس كمثله شيء)، وقال أيضًا: (إنه ليس معه إله سواه ولا من يستحق العبادة إلا إياه).
وممن صرح به من المتأخرين: الباجوري حيث قال معرفًا للتوحيد: (هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته والتصديق بها ذاتًا، وصفاتًا، وأفعالاً)، فهذا التعريف - مع ملاحظة الإجمال فيه في الأسماء والصفات- شامل لجميع مدلولات التوحيد.(2/274)
ب - وأيضًا مما يؤكد أن المتقدمين منهم كانوا يعرفون ما يجهله كثير من متأخريهم في هذا الزمان من أن الدعاء والرغبة والرهبة والخوف لا يكون إلا لله ومن الله، ما ورد من أقوالهم في ذلك وتحذيرهم عن بعض صور الشرك وذرائعه، منها:
1- ما قال الحليمي: (والدعاء [في] الجملة من جملة التخشع والتذلل؛ لأن كل من سأل ودعا فقد أظهر الحاجة وباح واعترف بالذلة والفقر والفاقة لمن يدعوه ويسأله، فكان ذلك في العبد نظير العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز اسمه؛ ولذلك قال الله عز وجل: }ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{، فأبان [أن] الدعاء عبادة، والخائف فيما وصفنا كالراجي؛ لأنه إذا خاف خشع وذلَّ لمن يخافه وتضرع إليه في طلب التجاوز عنه).
وقال أيضًا: (إنه لا ينبغي أن يكون الرجاء إلا لله جل جلاله، إذ كان المنفرد بالملك والدين، ولا يملك أحدًا من دونه نفعًا ولا ضرًا).
2- قال الرازي: (قال الجمهور الأعظم من العقلاء: إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل...) فذكرها.
وقال أيضًا: إنه عليه السلام قال: "الدعاء هو العبادة " ... فقوله: " الدعاء هو العبادة " معناه: معظم العبادة وأفضل العبادة).
وقال أيضًا: (كل من اتخذ لله شريكًا فإنه لا بد وأن يكون مقدمًا على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه إما طلبًا لنفعه أو هربًا من ضرره، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله، فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله؛ فلهذا قالوا: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قائمًا مقام: لا إله إلا الله).(2/275)
فهذه الأقوال فيها رد على زعم كثير من المتأخرين الذين يجيزون دعاء غير الله مطلقًا، وعلى قولهم: إن ذلك لا يكون شركًا إلا إذا اعتقد الداعي التأثير في المدعو من غير الله.
الوجه الثاني : الذي يدل أيضًا على أن أمر توحيد الألوهية كان معروفًا لدى بعض منهم، أنه لما حدثت بعض ذرائع الشرك ومظاهره في توحيد الألوهية عند بعض المسلمين أنكر بعض أئمة المتكلمين ذلك، ومن هؤلاء:
1- الرازي : في تفسير قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } نقل في بيان كيفية اتخاذ المشركين آلهتهم شفعاء اختلاف العلماء في ذلك: ستة أقوال، فذكر بعد الثلاثة الأولى قوله: ( ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان: اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء عند الله).
2- قول أبي شامة: ( قد عمَّ الابتلاء - أي النبذ للشريعة - من تزيين الشيطان العامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك: أنه رأي في منامه بها أحدًا ممن اشتهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسنته، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمون بها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر... فما أشبهها بذات أنواط الوارد في الحديث ) .
( انتهت الإجابة عن الشبهات نقلا عن رسالة " الشرك في القديم والحديث " للشيخ أبوبكر محمد زكريا ، 1 / 101-112) .
الشبهة(2) : الأحاديث التي يستشهد بها القبوريون
الحديث الأول :(2/276)
وهو ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (فتح: 2 /494):
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، قال:
سمعت ابن عمر يتمثل يشعر أبي طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال عمر بن حمزة : حدثنا سالم، عن أبيه :
ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب :
وأبيض يُستسقي الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب.
قال المؤلف ( (ص: 116):
(وهو نص صريح في توسل ابن عمر رضي الله عنهما بذاته ).
قلت : هذه مجازفة، فليس في الخبر ما يدل على ذلك البتة، والشعر في نفسه لا يدل على أنهم كانوا يستسقون بوجه وذات عبد المطلب، وإنما كان يخرج هو بنفسه فيستسقي لهم، ويدعو الله لهم وهو ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية عمر بن حمزة، فإنه قد ورد فيها: "ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستقي".
فدلت هذه العبارة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي، وهذا مقتضاه الدعاء، فلا أدري أين التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم ؟! فإن كان يقصد المؤلف أنه قد وقع من ابن عمر، فمحال؛ لأنه إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، وهم يؤمنون على دعائه، ويبعد كل البعد، أن يفارق ابن عمر التأمين على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لكي يدعو منفرداً، ويتوسل بجاهه، هذا أمر.
وأمر آخر فهذا الشعر لا يدل على التوسل بالجاه، وإنما ذُكر فيه الوجه، وهو كناية على الاستقبال بالدعاء، لا التوسل بالجاه، فتنبه إلى هذا المعنى.
الحديث الثاني
وهو ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (فتح: 2/494) من طريق: ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس:
أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:(2/277)
اللهم! إنا كنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون.
قال المؤلف :
(وهو صريح في التوسل بالصالحين، لاسيما إذا كانوا من أهل البيت النبوي عليهم السلام، قال الحافظ في "الفتح" (2/497): "ويُستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس، وفضل عمر لتواضعه للعباس، ومعرفته بحقه").
قلت: هذا الكلام منتقض بأن الأثر وإن كان صريحاً في التوسل بالصالحين، إلا أن توسلهم كان على غير الهيئة المبتدعة التي يروِّج لها المؤلف، من التوسل بالجاه، وإنما كانت بالتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر جداً من مجموع الأحاديث الواردة في الاستسقاء.
وقد أخرج البخاري في "الصحيح" (1/295)، ومسلم (2/614)، والنسائي (3/166) من طريق: الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة، قام أعرابي، فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده! ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي - أو قال: غيره - فقال: يا رسول الله! تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، فقال: "اللهم! حوالينا ولا علينا"... الحديث.
فدلَّ هذا الحديث دلالة قوية ظاهرة على أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم كان توسلاً بدعائه، لا بجاهه، وهذا ظاهر من قوله: "فادع الله لنا"، ولو كان التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم مشروعاً لما تأخروا في ذلك لاسيما مع عظم المصيبة أولاً بالقحط، وأخراً بالهدم والغرق.(2/278)
فكان توسل الصحابة بعده عليه السلام في حادثة القحط بدعاء العباس، لا بجاهه، كما سوف يأتي تقريره بدليله.
وأما استدلال المؤلف بقول الحافظ ابن حجر السابق ذكره فهو من باب التدليس، فإن الحافظ لم يستدل بهذا الحديث على جواز التوسل بالجاه، وإنما استدل به على جواز الاستشفاع بأهل الخير، والاستشفاع لا يأتي بمعنى التوسل بالجاه، وإنما يأتي بمعنى التوسل بالدعاء كما سوف يأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى.
ثم إن قصة عمر في توسله بالعباس - رضي الله عنهما - لا تدل بحال أنه كان توسلاً بجاهه، بل هو على اليقين توسلاً بدعائه جرياً على ما كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من التوسل بدعائه.
وقد نقل الحافظ في الفتح ما يدل على ذلك، فقال (2/577):
" وقد بيَّن الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر، قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس ".
قلت : فهذا دليل ظاهر على ما ذكرنا وتؤيد هذه الرواية ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3/92) من حديث ابن عباس: أن عمر استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق، فقام العباس، فقال: - فذكر فيه دعاءً آخر.
إلا أن سنده ضعيف جداً، فهو من رواية إبراهيم الأسلمي، وهو واهٍ.
وقد حمل البيهقي هذا الأثر على ما حملناه عليه، فبوَّب له في " السنن الكبرى" (3/52):
[ باب: الاستسقاء بمن تُرجى بركة دعائه ].
وكذا فعل الموفق المقدسي - رحمه الله - فقال في "المغني" (2/439):(2/279)
" ويُستحب أن يُستسقى بمن ظهر صلاحه، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، فإن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم! إن هذا عم نبيك صلى الله عليه وسلم، نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل، وروي أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فقام يزيد، فدعاه معاوية، فأجلسه عند رجليه، ثم قال: اللهم! إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد! ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الله تعالى، فثارت إلى الغرب سحابة مثل الترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم، واستسقي به الضحاك مرة أخرى " .
قلت : أثر معاوية مع يزيد الجرشي، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/2/155): أخبرت عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الخبائزي، أن السماء قحطت مخرج معاوية... فذكره بنحوه.
قلت : وهذا سند صحيح لولا ما فيه من الانقطاع بين ابن سعد وبين أبي اليمان الحكم ابن نافع.
وهذا يدل على أن المستقر عند أهل العلم في فهم هذا الأثر وأشباهه التوسل بالدعاء، لا التوسل بالجاه.
وإن كان توسلاً بجاه، فما كان عمر في حاجة إلى تقديم العباس للدعاء، وإنما كان يكفيه أن يدعو هو متوسلاً بجاه العباس، ولا اعتبار حينئذ بوجوده أو عدم وجوده، وإن كان الأمر كذلك فقد كان حريًّا بعمر - رضي الله عنه - أن يتوسل بجاه النبي × لأفضليته، فلما لم يقع ذلك، ثبت القول بأنه كان توسلاً بالدعاء، لا بالجاه.
ودلَّ أثر معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - في توسله بيزيد بن الأسود الجرشي أنه توسل بدعائه، لا بجاهه، هذا مع تقدم معاوية في الفضل على يزيد، لكونه من الصحابة، من جهة، ومن جهة أخرى فهو خال المؤمنين، ومن كُتَّاب الوحي.(2/280)
وقد وقعت رواية واهية لهذا الأثر عند الطبراني في "الدعاء" (221)، والحاكم في "المستدرك" (3/334) من طريق:
الزبير بن بكار، حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء المدني، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، أنه قال:
استسقى عمر عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم! هذا عم نبيك العباس، نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، قال: فخطب عمر الناس، فقال: أيها الناس! إن رسول الله × كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، يعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله × في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله عز وجل فيما نزل بكم.
قال الذهبي في " تلخيص المستدرك " :
"هو في جزء البانياسي بعلو، وصح نحوه من حديث أنس، فأما داود فمتروك".
قلت: قد وهاه الأئمة، فقال البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال أحمد: "ليس بشيء"، وقال الدارقطني: "متروك".
وأما المؤلف، فقد أورد هذا الأثر، وهوَّن من ضعفه لكي يسوغ له الاحتجاج به بمجموع الطرق، فقال (ص: 119):
(فيه داود بن عطاء المدني، ضعيف، وقد ضعّفه به الذهبي في تلخيص المستدرك، وأما الحاكم فلم يتكلم عليه).
قلت : هكذا لتكن الأمانة في النقل والوصف!! فإنه لم ينقل عبارة الذهبي - رحمه الله - لئلا تنكشف حيلته في تقوية هذه الرواية برواية أخرى هي عنده من قبيل الضعف المحتمل، وفي حقيقة أمرها هي مضطربة، وفيها نكارة.
وهذه الرواية الثانية هي التي أشار إليها ابن حجر في "الفتح" (2/577)، وعزاها إلى البلاذري، من طريق: هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فقال: عن أبيه، بدلاً عن "ابن عمر".
قال الحافظ: "فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان".
وقد تلقَّف المؤلف هذه العبارة من الحافظ، فقال (ص: 120): (واحتمال الحافظ قوي وله نظائر).(2/281)
قلت : يا للعجب! من هذه المغالطات، بل قول الحافظ لا يُعرَّج عليه بحال، ولا يُشتغل به إلا على وجه التعجب، فكيف يكون لزيد فيه شيخان، والأثر الأول لا يصح عن زيد من أصله، ومثله الأثر الثاني، فإن هشام بن سعد هذا ضعيف، عامة أهل العلم على تضعيفه، بل قال ابن معين: "ليس بشيء".
إلا أنه دون داود بن عطاء في الضعف، فإن داود بن عطاء شديد الضعف، ولا تنفعه المتابعة بحال، فإنه منكر الحديث متروكة.
وعليه فالأصح رواية هشام بن سعد، وهي مردودة أيضاً، فمرد الخبر إلى وجه واحد بهذا اللفظ.
ثم وجدت ما يدل على تناقض المؤلف، فإنه قال عقب ما نقلناه عنه:
(والعجب أن الألباني لم يذكر هذا الاحتمال القوي في توسله! ولذلك وجه آخر: وهو أن هشام بن سعد من رجال مسلم، فالقول قوله).
فدلَّ ذلك على أنه نقض تقويته لكلام الحافظ، بترجيحه لرواية هشام بن سعد، ورواية هشام بن سعد هذه لم يورد الحافظ متنها حتى يُتبين إن كان منها محل الشاهد.
وعلى التسليم له بصحة هذه الرواية، فلا مجال للاستدلال بها على جواز التوسل بالجاه، وذلك لأن الخبر صريح في أنه توسل به لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا محمول على تقديم التوسل به حيًّ لا ميتاً، إذ لو كان ميتاً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم منه لعلو منزلته، وسمو مكانته عند الله تعالى على سائر الأنبياء، فكيف بمقارنته بسائر البشر؟!
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا مجال للقول بأن التوسل به حيًّا هو توسل بجاهه؛ لأنه إذا كان كذلك، فيجب تقديم التوسل بجاه النبي × وإن كان ميتاً، فإن جاهه عظيم عند الله تعالى حيًّا وميتاً، وما كان الله تعالى يقدِّم عليه أحداً من البشر في التفضيل والمكانة حيًّا أو ميتاً، في حياته أو في موته، فإذا تقرر ذلك، فلا مجال إلا القول بتوسلهم بدعائه - رضي الله عنه -.(2/282)
وبذلك يتبين لك وهاء ما احتج به المؤلف على جواز التوسل بالجاه من حيث السند تارة، ومن حيث وجه الدلالة تارة أخرى.
وأما ما ختم به المؤلف بحثه في هذا الحديث من كلامه الساقط (ص: 121):
(وفيه أيضاً أن التوسل كان بالعباس، وليس بدعائه، بدليل قول عمر: واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم، فالضمير يعود على شخص العباس قولاً واحداً، إلا عند أهل التحريف).
فهذا من باب الشغب والتهويل، فإن الضمير وإن كان عائداً على العباس - رضي الله عنه-، إلا أن تقدير الكلام يكون:
" واتخذوه وسيلة إلى الله بدعائه "، كما أيدته بعض الروايات التي سبق ذكرها، وكما استقر عند الصحابة في هذا المعنى، وكما رجحه أهل العلم كالبيهقي والموفق- رحمهما الله - من أن التوسل بالدعاء لا بالجاه، ولما ذكرناه من أن على القائل بأن التوسل الذي توسل به عمر بالعباس إذا كان توسل بالجاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى به وإن كان ميتاً، مما يدل على أن التوسل لم يكن بالجاه إلا في عقول أهل التخريف.
الحديث الثالث
وهو حديث عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -:
أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم! إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم! فشفعه فيَّ.
وهذا الحديث أخرجه أحمد (4/138)، والترمذي (3578)، والنسائي في "اليوم والليلة" (663و 664)، وابن ماجة (1385) بسند صحيح، وإن كان في طرقه بعض الاختلاف.
إلا أن هذا الحديث حجة عليه فيما ادعاه من جواز التوسل بالجاه وهذا ظاهر جداً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، ومن جواب الرجل عليه: " فادعه ".(2/283)
فإن التوسل هنا مختص بالدعاء، ويؤيده قول الرجل في دعائه: "اللهم! فشفعه فيَّ"، وهذا مقتضاه حصول الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه لأجل هذا الرجل في محنته.
لأن مقتضى الشفاعة ومعناها: الدعاء والطلب للغير.
قال ابن منظور في "لسان العرب" (4/2289):
" وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } قالا: الشفاعة: الدعاء ها هنا، والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه: في معنى طلب إليه... ".
قلت : وهذا يؤيده:
ما رواه الشيخان (البخاري: 4/385، ومسلم: 1/180) من طريق: قتادة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك... ".
فهذا ظاهر جداً على أن الاستشفاع لا يكون توسلاً بالجاه، وإنما هو بالدعاء، فلو كان بالجاه لكفاهم أن يتوسلوا بجاه أحد الأنبياء دون الحاجة إلى التردد بين الأنبياء جميعاً، كما ورد في متن الحديث، وهذا لم يقع منهم، ومن ثَمَّ فلا شفاعة بغير دعاء أو طلب أو سؤال.
ولكن احتج المؤلف على أن الاستشفاع المذكور هنا والتوسل مختص بالجاه بما أخرجه الطبراني في "الصغير" (الروض الداني: 508).
حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الله بن وهب، وعن شبيب بن سعيد المكي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف:(2/284)
أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أسألك، وأتوجه إليك بنبينا نبي الرحمة، يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربك ربي جل وعز، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له عثمان، ثم أتى باب عثمان، فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك، فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله! ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير..... فذكر الحديث المرفوع.
قال الطبراني:
" لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي، وهو ثقة، وهو الذي يحدِّث عنه ابن أحمد بن شبيب، عن أبيه، عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس، عن شعبة، والحديث صحيح، وروى هذا الحديث عون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، وهم فيه عون بن عمارة، والصواب حديث شبيب بن سعيد".
قلت : لا معارضة فيما حكم به الطبراني رحمه الله بالصحة على الحديث، إلا أن تلك القصة الموقوفة هي محل النظر، فقد تفرد بها شيخ الطبراني، طاهر بن عيسى بن قيرس، وهو في عداد المجاهيل، فقد تفرد الطبراني بالرواية عنه، ولم يتعرض له أحد بجرح أو تعديل، وإنما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" (وفيات: 291 - 300هـ) (ص:169).(2/285)
وأما المؤلف، فقال (ص: 127):
(من علل الحديث بجهالة شيخ الطبراني أبعد جداً عن معرفة الحديث، وغاير قواعده، فإن القصة الموقوفة تفرّد بها شبيب، ثم رواها عن شبيب ثلاثة، ورواها عن الثلاثة المذكورين ثلاثة آخرون، وعنهم آخرون، فلم يتفرد أحد برواية القصة إلا شبيب، فلا مدخل لشيخ الطبراني هنا فتأمل.
قد صحح الطبراني الحديث، وتصحيحه يعني توثيق رجال إسناده، ومنهم شيخه طاهر بن عيسى المصري وهو أعلم به من غيره).
قلت : وهذا الكلام فيه مغالطات من وجوه :
الأول : أن هذه القصة الموقوفة قد تفرد بها شيخ الطبراني طاهر بن عيسى، ولم يتابعه عليها إلا من هو في مثل حاله.
وإنما رواه ثلاثة عن شبيب، أحدهم ابن وهب من طريق طاهر بن عيسى، والآخران هما:
1- أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه.
أخرجه الحاكم (1/526)، وابن السني في "اليوم والليلة" (628)، باللفظ المرفوع فقط دون الموقوف، وثمة رواية أخرى زعم المؤلف أنها موقوفة، وسوف يرد الرد عليه فيها.
2- إسماعيل بن شبيب، عن أبيه.
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة " (6/167) من طريق:
محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال، قال: أنبأنا أبو عروبة، حدثنا العباس بن الفرج، حدثنا إسماعيل بن شبيب بالحديث المرفوع، والقصة الموقوفة أيضاً.
قلت : وإسماعيل هذا ليس له ذكر في كتب التراجم، ولا ذُكر ضمن الرواة عن شبيب ابن سعيد، ولم يذكر المترجمون لشبيب أن له ابناً اسمه إسماعيل.
وفي هذا السند محمد بن علي بن إسماعيل، الشاشي القفال، وهو من كبار الشافعية وأئمتهم، إلا أن من ترجمه لم يذكر فيه ما يدل على ضبطه، وجل عنايته كانت بالفقه، وهو مبرَّز فيه، فلعله وقع منه الوهم في هذا السند.
ثم تبين لي بعد ذلك أنه قد وهم فيها ولا ريب، فقد خالفه في هذه الرواية ابن السني في "اليوم والليلة" (628)، وهو حافظ كبير، فرواه عن أبي عروبة به، وقال: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، باللفظ المرفوع فقط، هذا من جهة.(2/286)
ومن جهة أخرى فالرواية بالقصة الموقوفة معلولة من كل وجه.
فأما رواية ابن وهب التي عند الطبراني في الصغير، فقد خولف فيها شيخ الطبراني طاهر بن عيسى بن قيرس.
خالفه عبد المتعال بن طالب، حدثنا ابن وهب، عن أبي سعيد، عن روح بسنده، دون القصة الموقوفة.
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/3/210).
وعبد المتعال بن طالب هذا من الثقات، وترجمته في "التهذيب" مبسوطة.
وكذلك فرواية أحمد بن شبيب تؤيد القول بالوقف، لأنه على فرض التسليم بأن ابن وهب قد رواه باللفظ الزائد، فأحمد بن شبيب أوثق من ابن وهب في أبيه، يدل على ذلك ما ذكره ابن عدي في ترجمته من "الكامل" (4/1346)، قال:
" حدَّث عنه ابن وهب بالمناكير ".
وإنما كان يحدِّث ابنه أحمد من نسخة صحيحة من كتب أخيه.
قال ابن المديني - رحمه الله - كما في "الكامل":
" شبيب بن سعيد بصري، ثقة كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه كتاب صحيح، قال علي: وقد كتبها عنه - في المطبوعة: عن وهو تصحيف - ابنه أحمد بن شبيب".
الثاني : أن تصحيح الطبراني للحديث لا يقتضي توثيق رجاله، لأنه إنما حكم بالصحة على الحديث، وهذا حكم عام، لا على هذا السند خاصة، وفرق بين الحكم بالصحة على الحديث، وبين الحكم بالصحة على السند، فكل حديث صحيح لا يقتضي أن يكون رواته في عموم الأسانيد والمتابعات ثقات، بل ربما ورد من بعض الطرق الضعيفة أو الواهية، فهذا الوصف (حديث صحيح) مختص بالمتن، أي أنه ثابت، وهذه مسألة بديهية عند أهل العلم بالحديث، وقد أشار إليها العلماء في مصنفاتهم، وعلى رأسهم الإمام مسلم - رحمه الله - حينما أنكر عليه أبو زرعة الرازي - رحمه الله - إخراج حديث جماعة من الضعفاء في "جامعه الصحيح"، فأجاب عن ذلك كما في " تاريخ بغداد " (4/274) بسند صحيح، قال:(2/287)
" إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات ".
فبيَّن أن وصف الحديث بالصحة لا يقتضي أن يكون السند المروي به رواته من الثقات، لأن هذا حكم متعلق بالمتن.
وانظر ما علَّقه ابن الصلاح في "علومه" (ص:38)، وما أورده الحافظ في "النكت" (1/474) على هذه المسالة.
الثالث : أن الطبراني إنما قال: "والحديث صحيح"، وهذا ينصرف إلى تصحيح المتن المرفوع وحده دون القصة الموقوفة، لأنه لا يُقال للموقوف: حديث، بل يُقال فيه: أثر، وربما يُطلق عليه خبر، وأما الحديث فهو مختص بالمرفوع.
وتبقى مغالطة أخرى وقع فيها المؤلف، وهي جعله الاختلاف في الحديث على أحمد ابن شبيب من باب تحديث الراوي الحديث على وجهين، فقال (ص: 139):
( وجواب هذا الاختلاف الذي ارتآه الألباني فقط: أن أحمد بن شبيب كان يحدِّث الحديث بطوله، وفيه قصة مجيء الرجل لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - حدَّث بذلك الحافظ الثقة المتقن يعقوب بن سفيان الفسوي كما في دلائل النبوة للبيهقي (6/168).
وكان أحمد أحياناً أخرى لا ينشط، فيقتصر على أصل الحديث فقط، أخرج ذلك ابن السني والحاكم، فكان ماذا؟ والرجل، أي أحمد ثقة، اللهم إلا التعنت والتعصب).
قلت : وهذا الكلام ظاهر الفساد على مذهب المحققين من أهل الحديث، فإنهم يرجحون في مثل هذه الحالات من الاختلاف بالحفظ والكثرة.
وهذه الرواية التي أشار إليها المؤلف هي ما أخرجه البيهقي عقب رواية إسماعيل بن شبيب، فقال:
أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد... فذكره بطوله، وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع وأربعين.(2/288)
ولو تدبر القارئ الكريم قول البيهقي: "وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع وأربعين" لظهر له أن إيراد هذه الزيادة من هذا الوجه إنما هو من تصرف البيهقي - رحمه الله -، لا أن هذه الزيادة من أصل الحديث، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فعلى تسليم الأمر بأن الزيادة من أصل هذا الطريق، فلا بد من الترجيح بالقرائن.
فممن رواه عن أحمد بن شبيب بغير هذه الزيادة:
1- محمد بن علي بن زيد الصائغ.
عند الحاكم (1/526).
2- العباس بن فرج الرياشي، والحسين بن يحيى الثوري.
عند ابن السني (628).
وهؤلاء الثلاثة اثنان منهم من الثقات، والثالث لم أقف له على ترجمة، وقد خالفهم يعقوب بن سفيان - على فرض التسليم للمؤلف بهذا -، وقد رجح المؤلف رواية يعقوب على رواية الجماعة، وقال (ص:140) :
(1 ـ هؤلاء الثلاثة الذين قال عنهم: ثقات إذا أضيف إليهم مثلهم لم يرجحوا على الإمام الحافظ العلم يعقوب بن سفيان الفسوي، فهو ثقة، وفوق الثقة، وقد قال أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما وأرجلهما يعقوب بن سفيان، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلاً.
ومن المعروف أن الشيوخ إذا خالفهم حافظ، يرجح قول الحافظ على الشيوخ، فالقول قول الحافظ، وإن اجتمع الشيوخ عليه، ويعقوب الفسوي إمام حافظ، وفوق الحافظ).
قلت : وهذه محاولة عجيبة في ترجيح رواية يعقوب بن سفيان علي رواية الأكثر، وهذا مخالف للقواعد الحديثية.
وكون الراوي من الحفاظ، أو وصف بعضهم له بالحفظ فهذا لا يقتضي الإتقان والضبط، وكم من راوٍ وصف أنه من الحفاظ وكان متكلماً في حفظه، وربما في عدالته، كسليمان الشاذكوني، وعثمان بن مقسم البري، وعثمان بن أبي شيبة، ونحوهم.
وليست هذه محاولة للطعن في الإمام الحافظ يعقوب الفسوي، وإنما هذا تقرير لبعض ما تغاضى عنه المؤلف.(2/289)
وأما أن رواية الحافظ تُقدَّم على رواية الشيوخ، فهذا على وجه الانفراد، أما على وجه الاجتماع، فرواية الشيوخ الثقات تؤيد بعضها بعضاً، وترجح على رواية الحافظ بالكثرة؛ لأنه إنما وصف بالحفظ لكثرة روايته وسعتها، وأما الضبط فهم جميعاً مشتركون فيه، لاسيما وأن الحديث من جميع طرقه ورد بالرواية الناقصة المرفوعة، دون الرواية الموقوفة.
ثم قال المؤلف (ص: 141):
(2- العباس بن فرج روى الوجهين، فقد أسند القصة عن إسماعيل بن شبيب، عن أبيه، أخرجها البيهقي في "دلائل النبوة"، فوافق الحجة العلم يعقوب بن سفيان الفسوي).
قلت: قد تقدَّم إعلال هذه الرواية بالمخالفة، وهي رواية منكرة بذكر إسماعيل هذا، والحمل فيها على الفقيه الشاشي، وقد خالف ابن السني الحافظ الكبير، كما تقدَّم ذكره وبيانه.
ويبقى الآن الكلام على رواية شاذة أخرى، نافح عنها المؤلف منافحة المستميت لإثبات صحتها، وهي:
ما أخرجه ابن أبي خيثمة في " تاريخه ":
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة ابن خزيمة، عن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -: أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني أُصبت في بصري، فادع الله لي، قال :
"اذهب فتوضأ، وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني استشفع بك على ربي في ردِّ بصري، اللهم! فشفعني في نفسي، وشفِّع نبيي في ردِّ بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك".
وهذه الرواية كان قد أعلها العلاَّمة الألباني - حفظه الله - في "التوسل" (ص:83) تبعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "التوسل والوسيلة" (ص:102) بتفرد حماد بن سلمة بزيادة:
" وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك ".
وهي محل الشاهد الذي احتج به المؤلف على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حشد المؤلف كل ما يملك في إبطال هذا الإعلال.(2/290)
والصواب : أن الحمل في هذا الحديث ليس على حماد بن سلمة - رحمه الله -، وإنما هو على من رواه عنه، وهو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو وإن كان من الثقات، إلا أنه قد خالفه من هو أوثق منه في الضبط، وهو حبان بن هلال الباهلي البصري، فرواه عن حماد بن سلمة بسنده ومتنه، دون هذه الزيادة.
أخرجه النسائي في " اليوم والليلة " (663).
وحبان بن هلال وثقة ابن معين، والترمذي والنسائي، وقال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة"، وقال البزار: "ثقة مأمون على ما يحدث به"، وقال الخطيب: "كان ثقةً ثبتاً".
ويؤيد هذه الرواية رواية شعبة لهذا الحديث دون هذه الزيادة.
ثم وجدت متابعة لحبان بن هلال عند البخاري في "التاريخ الكبير" (2/3/209) من رواية: شهاب بن عباد العبدين، عن حماد به دون الزيادة.
وشهاب بن عباد من شيوخ الشيخين، وهو ثقة رضي.
فهذا يدل على شذوذ الزيادة.
ولا يُقعقع بما قعقع به المؤلف، من أن الزيادة من الثقة مقبولة، فهذا المذهب مذهب جماعة الفقهاء، وأما المحققين من أهل الحديث لاسيما المتقدمين فلا يقبلون الزيادة إلا من الثقة الحافظ الثبت، بل منهم من لا يقبل الزيادة من الحافظ إن كانت تفيد حكماً زائداً، حتى يتابع عليها، كما توقف الإمام أحمد في زيادة: "من المسلمين" في حديث صدقة الفطر الذي يرويه الإمام مالك من حديث ابن عمر، حتى تابعه عليها العمريان، والمسألة فيها تفصيل كبير محله كتب المصطلح.
الحديث الرابع
وهو ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/352) قال: حدثنا أحمد بن حماد ابن زغبة، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال:
" رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة ".(2/291)
ثم أمر أن تُغسّل ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور، سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وأبا أيوب الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيهن ثم قال:
" الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين".
وكبَّر عليها أربعاً، وأدخلوها اللحد، هو والعباس، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.
ومن طريقة أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/121)، وقال:
"غريب من حديث عاصم والثوري لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح، تفرد به".
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/269).
قال المؤلف (ص: 148):
(وهو حديث حسن).
قلت : هذا الحكم فيه مجازفة كبيرة، فقد تفرد روح بن صلاح بهذا الحديث عن سفيان الثوري، ولم يشاركه أحد من أصحاب سفيان الثقات الحفاظ فيه، وعلى التسليم للمؤلف أن روح هذا صدوق حسن الحديث فلا يُقبل منه مثل هذا التفرد عن الثوري، بل عد مسلم مثل هذا التفرد منكراً، فقال في مقدمة "الصحيح" (1/7):
" فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه، وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس".(2/292)
فهذا على فرض التسليم للمؤلف بأن روح هذا صدوق، وأما على التحقيق، فهو ضعيف الحديث، لا يقوم بما تفرد به حجة، لاسيما إن كان فيه مثل هذه النكارة اللائحة على السند والمتن.
وروح هذا ضعّفه ابن عدي في "الكامل" (3/1005) وأورد له حديثين منكرين، وقال: "في بعض حديثه نكرة".
وقال الدارقطني: "ضعيف في الحديث"، وقال ابن ماكولا: "ضعفوه"، وقال ابن يونس: "رويت عنه مناكير".
وأما ابن حبان فأورده في الثقات جرياً على قاعدته، وقال الحاكم: "ثقة مأمون".
وقد تمسك المؤلف بقول الحاكم، وبذكر ابن حبان له في "الثقات"، وبرواية يعقوب بن سفيان الفسوي عنه استدلالاً على ثقته وضبطه، بل اعتبر ما ورد فيه من جرح مبهماً، ولا يعتد بالجرح المبهم إذا خالفه التوثيق.
وهذه مغالطات مجتمعة، وتدليسات مجموعة لا تنطلي على من اشتغل بعلم الحديث الشريف.
بل أقول : إن طريقته هذه في تقوية المناكير ليس فيها شيء من النزاهة التي يجب على طالب العلم - فضلاً عن طالب الحديث - أن يتحلى بها، والإنصاف من أهم ما يجب على طالب الحديث أن يترسمه في خطاه في التصحيح والتضعيف، فإن الأمر صعب، ويُخشى على مثل هذا أن يندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
فمن هذه المغالطات :
اعتداده بذكر ابن حبان له في الثقات، وابن حبان من المشهورين بالتساهل، إلا أن يرد في عبارته ما يدل على أنه قد سبر حال الراوي، وهذا منتف في ترجمته لروح بن صلاح، فقد قال في "الثقات" (8/244):
"روح بن صلاح: من أهل مصر، يروي عن يحيى بن أيوب، وأهل بلده، روى عنه محمد بن إبراهيم البوشنجي، وأهل مصر".
فهذا لا يدل بحال على أنه قد سبر حاله، بل في هذه الترجمة ما يدل على أن حديثه هذا من جملة مناكيره، وهو أنه قد روى عن أهل مصر، وروى عنه أهل مصر، وهذا الحديث إنما يرويه عن الثوري، وفي هذا غرابة ظاهرة، وقد أشار إلى ذلك أبو نعيم في "الحلية" كما تقدَّم.(2/293)
وأما الحاكم فهو أشد تساهلاً من ابن حبان.
وقد نقل السيوطي في "التدريب" (1/108) عن الحافظ العراقي قوله: "الحاكم أشد تساهلاً منه".
وقد عقد الحافظ ابن حجر - رحمه الله - فصلاً في مقدمة "اللسان" (1/25) في بيان تساهل ابن حبان في مذهبه في التعديل، وأن ذلك قائم عنده بمجرد ارتفاع جهالة العين، وقال الحافظ:
" والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه".
إلا أن المؤلف قد حاول جاهداً على إعمال توثيق ابن حبان ومثله توثيق الحاكم، فقال (ص: 151):
(فتوثيق ابن حبان على قسمين نصَّ عليهما في مقدمة ثقاته:
فالأول: من اختلف فيه علماء الجرح والتعديل، فإذا ثبت عنده أنه ثقة أدخله في ثقاته، وإلا فأودعه كتابه الآخر.
الثاني: من لم يُعرف بجرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه، والراوي عنه ثقة، ولم يأتِ بحديث منكر، فهو ثقة عنده، ولم ينفرد ابن حبان بذلك المذهب، ولكن هذا النوع من الرواة عند الجمهور يكون مجهول الحال.
وأما نسبة التساهل إليه فبالنظر للنوع الثاني فقط، فإهدار توثيق ابن حبان مطلقاً خطأ، ولا تصح نسبة التساهل إليه مطلقاً..
إذا علم ذلك، فإن رد توثيق ابن حبان لروح بن صلاح بدعوى تساهله فيه نظر، فروح بن صلاح روى عنه يعقوب بن سفيان الحافظ، ومحمد بن إبراهيم البوشنجي الفقيه الحافظ، وأحمد بن حماد بن زغبة صاحب النسائي الثقة، وأحمد بن رشدين، وابنه عبد الرحمن، وعيسى بن صالح المؤذن، وفيه جرح وتعديل، وبعضهم سبق ابن حبان في الكلام عليه، كابن يونس).
قلت : وهذا الكلام المذكور منتقض في حق روح بن صلاح، فكون أن ابن يونس أن ابن عدي قد تقدَّما ابن حبان بجرحه، فليس بالضرورة أنه قد وقف على جرحهما له، ولم يرد ما يدل على ذلك البتة، ولو صح أنه قد وقف على جرحهما له، فلا يمنع هذا أن جرحهما مقدَّم على توثيقه، ولا يدفع عنه الوصف بالتساهل في التعديل، وجَعْلُ ما تقدَّم نقله عن المؤلف قاعدة مطردة فيه نظر كبير.(2/294)
وأما توثيق الحاكم، فقال المؤلف (ص:153):
(تساهل الحاكم خاص بالحكم على الأحاديث في المستدرك... أما كلامه في غير المستدرك فكغيره من الأئمة النقاد).
قلت : وهذا أيضاً منازع فيه، وهي دعوى مجردة، ويدرؤها قول الحازمي: "ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم".
وهذا على العموم، لا على خصوص كتابيهما في الحديث.
وبتتبع سؤالات مسعود بن علي السجزي للحاكم، والتي ورد فيها توثيق روح بن صلاح يظهر تساهل الحاكم - رحمه الله -.
وأنا أضرب على ذلك بعض الأمثلة:
1- أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال الحاكم (20):
"كثير السماع والطلب، متقن فيه، من بيت الحديث والزهد والتصوف".
قلت: هو متكلم فيه، قال محمد بن يوسف القطان: "كان يضع الحديث للصوفية"، وقال الذهبي: " ليس بعمدة ".
2- محمد بن ثابت البناني، قال الحاكم (33):
" لا بأس به، فإنه لم يأتِ بحديث منكر، لكن الشيخين لم يخرجاه، وهو عزيز الحديث، أسند خمسة عشر حديثاً ".
قلت : عامة أهل العلم على ضعفه، بل قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو حاتم: "منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به"، وقال البخاري: "فيه نظر".
3- عبد العزيز بن يحيى المدني، قال الحاكم (127):
" صدوق لم يُتهم في رواياته عن مالك ".
وقد أنكر عليه الذهبي - رحمه الله - هذا القول ، فقال في "الميزان" (2/636):
" كذا قال بسلامة باطن ".
قلت : قد كذبه إبراهيم بن المنذر الحزامي، وقال أبو حاتم: "ضعيف"، وقال البخاري: "يضع الحديث".
4- حسين بن قيس الرحبي، قال الحاكم (187):
" بصري ثقة ".
قلت : هو متفق على وهائه وسقوطه، وانظر ترجمته من "التهذيب" (2/313-314).
وبعد؛ فهذه الأمثلة تدل ولا شك على تساهل الحاكم - رحمه الله - في التوثيق، ومخالفته للجمهور في مواضع كثيرة.(2/295)
وعلى فرض التسليم للمؤلف بأن ما وقع للحاكم من التساهل إنما هو في "المستدرك" وحده، فهذا لا يمنع من تأخير قوله بتوثيق روح بن صلاح، لكونه خالف الأكثر ممن جرحوه، بل هذا الحديث الذي هو قيد البحث لأدل دليل على قلة ضبط روح لاسيما وقد تفرد به عن الثوري دون باقي أصحابه، وتفرد بمتن فيه نكارة ظاهرة.
وأما احتجاج المؤلف على توثيق روح بن صلاح برواية الفسوي عنه فهذا من باب المجازفة، والحشد بغير تحقيق.
قال المؤلف (ص: 148):
(وروى عنه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ، فهو ثقة عنده، قال الفسوي: كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات).
قلت: هذا التنصيص فيه نظر، لأن الرواية في ذلك منكرة.
وقد أوردها الحافظ المزي - رحمه الله - في "تهذيب الكمال" (32/324) من رواية:
عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهيثم الأصبهاني، حدثنا أبو بكر الحافظ، قال: سمعت أبا عبد الرحمن النهاوندي الحافظ يقول: سمعت يعقوب بن سفيان، يقول: كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات.
وقد استنكر الحافظ الذهبي هذه القصة، فقال في "السير" (13/181):
" قلت : ليس في مشيخته إلا نحو من ثلاثمائة شيخ، فأين الباقي، ثم في المذكورين جماعة قد ضُعِّفوا " .
قلت : الحمل فيها على عبد الله بن عمر الأصبهاني، فإنه في عداد مجهولي الحال، وقد ترجمه الذهبي في "السير" (20/576)، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً، فلا يصح الاحتجاج برواية الفسوي عن روح بن صلاح على توثيقه له.
وبهذا يظهر للقارئ الكريم ما يغالط به المؤلف القراء حتى يتسنى له إثبات مذهبه في هذه المسألة.
الحديث الخامس
وهو ما أخرجه البزار (كشف الأستار: 845):
حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله، عن النبي ×، قال:
" إن لله ملائكة سياحيين يبلغوني عن أمتي السلام ".
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/296)
" حياتي خير لكم، تُحدثون، ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، يُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم".
قال البزار :
" لا نعلمه يُروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد".
قلت : قد أورد المؤلف هذا الحديث في كتابه، مدافعاً عن صحته، وابتدأ كلامه عليه ببتر الجزء الأول من الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحيين يبلغوني عن أمتي السلام".
وذلك ليروج على القراء الكرام بأن هذا حديث مستقل بذاته، ومن ثم فلا يجوز إعلاله بالمخالفة.
فهذا الحديث قد أخرجه النسائي في "اليوم والليلة " (66) من طريق: عبد الله بن المبارك، عن الثوري، بسنده بالشطر الأول فقط دون الشطر الثاني من الحديث، الذي هو محل الشاهد عند المؤلف.
وتابع ابن المبارك وكيع وعبد الرزاق ومعاذ بن معاذ عند النسائي في "المجتبى" (3/43) باللفظ الناقص.
وتابعهم أبو إسحاق الفزاري عنده في "الكبرى" كما في "التحفة" (7/21).
وهؤلاء من الحفاظ الأثبات الثقات، ومن كبار أصحاب الثوري، وقد خالفهم عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو وإن كان ثقة إلا أنه قد روى بعض الأحاديث التي غلط فيها، وخالف الثقات، منها الحديث الفرد المعروف الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات..".
وهو لا يُقارن بهؤلاء في الحفظ والتثبت والتقدم في الثوري، فهذا يدل دلالة قوية على شذوذ هذا الحرف.
إلا أن المؤلف قد ساغ له اعتبار أن هذا المتن حديث آخر، لا زيادة من زيادات الحديث، والجواب عن ذلك:(2/297)
بأن عبد المجيد وسائر أصحاب الثوري لا يروون عنه صحيفة، فيقال: إن بعضهم قد روى هذا الحديث، ولم يرو الآخر، ورواهما عبد المجيد معاً، كما هو الحال مثلاً في صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وإنما هذا الحديث مما تعلقوه عنه سماعاً، وهمم الأصحاب متوافرة على رواية حديث الشيخ، ولا يظن بأن عبد المجيد بن أبي رواد تعلو همته فيروي هذا الحديث بهذا اللفظ الزائد، وتفتر همم أصحاب الثوري في روايته.
وحتى على تسليم الأمر للمؤلف بأن هذه الزيادة حديث مستقل، فهو أيضاً معلول بتفرد عبد المجيد به دون باقي أصحاب الثوري، وقد تقدَّم النقل عن الإمام مسلم - رحمه الله - ما يدل على هذه القاعدة.
وكذلك فالحديث من هذا الوجه بهذه الزيادة قد تفرد بها البزار - رحمه الله -، وهو وإن كان من الحفاظ العارفين بالعلل والرجال، إلا أنه متكلم في حفظه وضبطه بما لا يجوز رده، وقد حدَّث بالمسند بمصر من حفظه فأخطأ في أحاديث كثيرة.
قال أبو أحمد الحاكم: "يخطئ في الإسناد والمتن"، وقال الدارقطني: "يخطئ في الإسناد والمتن، حدَّث بالمسند بمصر حفظاً، ينظر في كتب الناس، ويحدِّث من حفظه، ولم يكن معه كتب، فأخطأ في أحاديث كثيرة، جرحه النسائي، وهو ثقة يخطئ كثيراً".
وللحديث شواهد ثلاثة ذكرها المؤلف، وهي:
الأول : مرسل بكر بن عبد الله المزني.
أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" (ص: 38 و39) بسند صحيح.
الثاني : عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
أخرجه المخلص في "الفوائد" بسند ساقط عن مالك بن دينار، عنه به.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/945) من وجه آخر من طريق: أبي سعيد العدوي، عن خراش بن عبد الله، عن أنس به.
وقد أغفل المؤلف الكلام على علة ضعف هذا السند، وهو وهاء خراش هذا، قال الذهبي:
" ساقط عدم، ما أتى به غير أبي سعيد العدوي الكذاب ".
الثالث : عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، بنحوه.(2/298)
وقد عزاه المؤلف إلى أبي جعفر الطوسي في أماليه تبعاً لشيخه أحمد بن الصديق الغماري في " الاكتفاء في تخريج أحاديث الشفاء"، وأعلّه بوهاء أحد رواته.
فمما سبق يتبين أن الحديث لا يصح من أي وجه من الوجوه، كما لا يصح تقوية طرقه بعضها ببعض، وإن كان مرسل بكر المزني صحيحاً لأن باقي الطرق ما بين ساقطة، أو ملفقة، أو شاذة.
إلا أن المؤلف قد خالف القواعد الحديثية، وأبعد القول بإلزام الشيخ الألباني - حفظه الله - بتقوية مرسل بكر المزني بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال (ص: 168):
(قد تقرر أن الحديث المرسل يتقوى بأمور، منها إذا ورد هذا المرسل من طريق آخر موصول ضعيف تقوى المرسل به، وصار من باب الحسن لغيره، وبه تقوم الحجة، ويلزم العمل به، وإذا كان الموصول الذي فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد من قسم الضعيف كما ارتآه الألباني - دفعاً بالصدر! - فإن المرسل الصحيح إذا ضُمَّ إليه صار من قسم الحسن المقبول الذي يجب العمل به اتفاقاً.
ولم أجد مبرراً عند الألباني يبعده عن إتباع القواعد الحديثية هنا إلا التعنت، وإتباع الهوى في رد مثل هذه الأحاديث).
قلت : هذه مغالطة بيِّنة أراد بها المؤلف النيل من العلاَّمة الألباني - حفظه الله -، فإن خبر ابن مسعود من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ضعفه غير محتمل، بل ضعفه شديد، لأنه شاذ، ومن شروط التقوية التي وضعها الترمذي وتبعه عليها أكثر أهل العلم أن لا يكون الحديث شاذًّا ولا معللاً.
ومن ثم فهذا يُظهر دقة نظر الألباني - حفظه الله - في عدم تقوية المرسل بخبر ابن أبي رواد من رواية ابن مسعود، والله أعلم.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فليس ثمة دلالة من هذا الحديث على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما غايته إثبات فضل حياته صلى الله عليه وسلم، وفضل مماته على المسلمين.
الحديث السادس(2/299)
وهو ما أخرجه أحمد (3/21)، وابن ماجه (778)، وابن خزيمة في "التوحيد" (1/42)، والطبراني في "الدعاء" (421) من طريق: فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم! إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك".
وقد حسَّن المؤلف إسناد هذا الخبر، موافقة للحافظ الدمياطي، وأبو الحسن القدسي شيخ المنذري، والعراقي، والحافظ ابن حجر.
قلت : وهذه مجازفة، وقد حاول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - دفع الضعف عن عطية العوفي في "نتائج الأفكار" (1/271)، فقال:
" ضعف عطية إنما جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس، وهو في نفسه صدوق، وقد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأخرج له أبو داود أحاديث ساكتاً عليها، وحسَّن له الترمذي عدة أحاديث بعضها في أفراده".
قلت : وهذا الكلام منتقض من وجوه:
أولها : أن الحافظ نفسه قد وصفه في "التقريب" بقلة الضبط، فقال: "صدوق يخطئ كثيراً".
والخطأ الكثير لا تعلق له بالتدليس، ولا بالتشيع، بل هو متعلق بالضبط ولا شك.
ثانيها : أن تعليق ضعفه بالتشيع وبالتدليس تنقضه أقوال أهل العلم فيه.
ثالثها : أن إخراج أبي داود لأحاديثه وسكوته عليها لا يرقي أمره، لأنه قد تكلم عليه بما يغني عن الإعادة في "السنن"، فقد قال فيه" "ليس بالذي يُعتمد عليه".(2/300)
رابعها : أن تحسين الترمذي لحديثه لا يعني تقوية أمره، فالترمذي قد يحسن أحاديث جماعة من الضعفاء، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في "النكت"، بل إخراجه لأفراده وتحسينه لها يدل دلالة قوية على أنه أراد بذلك المعنى اللغوي، لا الاصطلاحي، إذ لو كان الاصطلاحي للزم توفر شروطه التي اشترطها الترمذي، ومنها أن يرد من غير وجه، فلما كان من أفراده دلَّ على أنه أراد بذلك معنىً آخر غير الاصطلاح.
وقد دلَّت كلمات الحفاظ الكبار وأئمة الشأن على ضعف ووهاء العوفي، أما المؤلف فقد تناولها بالتأويل تارة، وبالطعن فيها أخرى، وبلي عنقها ثالثة حتى يتسنى له توثيق العوفي.
وأنا أذكر هنا - إن شاء الله تعالى - أقوال أهل العلم في تجريح عطية العوفي، وما تناولها به المؤلف، والرد عليه في ذلك.
1- قال البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/412):
قال علي : عن يحيى: عطية، وأبو هارون العبدي، وبشر بن حرب عندي سواء، وكان هُشيم يتكلم فيه يعني عطية.
قلت : علي هو ابن المديني، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وليس ابن معين كما ظنه المؤلف.
قال المؤلف (ص: 208):
(معناه - والله أعلم - أنهم سواء في الطبقة والمذهب، فهم من شيعة التابعين، ويشتركون في الرواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وكيف يسوي يحيى بن معين بين أبي هارون العبدي، وعطية العوفي، وقد قال عن أولهما: غير ثقة، وكان يكذب، بينما وثق الثاني ورفع شأنه).
قلت : المؤلف أحق بكلمته التي شان نفسه بها في كتابه (ص:220):
" لا أدري لماذا يسارع هؤلاء بالتصنيف؟ للدعاوي الفارغة، أم للتجارة البائرة".
وكان ينبغي للمؤلف قبل أن ينسب هذا القول أن يتأكد من نسبة يحيى الوارد في هذا الأثر، لاسيما مع وروده في "التاريخ" مهملاً.
وابن المديني إنما يروي عن يحيى بن سعيد القطان، ولم يذكر في الرواة عن ابن معين، ولا ذكر ابن معين في شيوخه، وإن كانا متعاصريْن.(2/301)
ومما يدل على أن يحيى هذا هو ابن سعيد ما نقله الحافظ في "التهذيب" (7/361) في ترجمة عمارة بن جوين أبي هارون العبدي:
" قال ابن المديني: عن يحيى بن سعيد، ضعفه شعبة ".
فإذا علمت ذلك تبين لك أن التسوية بينهم في الضعف لا في الرواية عن أبي سعيد، فإنه لا وجه لمساواتهم في ذلك جميعاً، بل كلمة القطان أن هشيم كان يتكلم في عطية يدل على أن ذلك مختص بالرواية والأداء لا التشيع، ولذلك فقد بتر المؤلف هذه العبارة الأخيرة لكي لا يستبين القارئ الفَهِم حيلته وتدليسه.
2- وعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، قال: كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية، وسمعت أبي وذكر حديث عطية العوفي، قال: هو ضعيف الحديث.
وقد روى عبد الله في "العلل" (1307) عن أبيه، عن أبي أحمد الزبيري، قال: سمعت الثوري، قال: سمعت الكلبي قال: كناني عطية "أبا سعيد".
وقال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي، فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد.
قلت : وهذا الطعن مفسر، وهو كاف كما قال العلامة الألباني لتهمة العوفي، لاسيما فيما يرويه عن أبي سعيد الخدري.
إلا أن المؤلف قد نحا منحىً عجيباً في ردِّ هذا التضعيف، فقال (ص: 184):
(أنت أيها القارئ المنصف إذا نظرت بعين الناقد المتجرد تجد أن أحمد قد ضعف عطية العوفي، ثم ذكر مستنده في تضعيفه وهي حكاية الكلبي، وهي سبب كلام هشيم في عطية، وحكى أحمد تضعيف الثوري لعطية بعد أن أسند البلاغ من طريق الثوري، فحكاية الكلبي هي أصل مستند الثوري أيضاً في تضعيفه عطية العوفي..
وهذا الذي اعتمدوا عليه فيه نظر، ولا يصح سنده، لأن مداره على محمد بن السائب الكلبي، وحاله معروف، فهو تالف متهم بالكذب، فالسند الذي يكون فيه ذلك الرجل لا يُنظر إليه ولا يُعتمد عليه في شيء، ومع ذلك فقد سارت الركبان بمقولته التالفة، وتوارد البعض على حكايتها..).(2/302)
قلت : ثمة فرق بين حكاية المتهم حكاية تقع موقع السرد والأداء، وبين حكايته ما يقع موقع الإقرار.
فحكم من راوٍٍ من الكذابين، قد تركه العلماء، ووهنوا أمره باعترافه بوضع الحديث، فهل ردوا اعترافه هذا بسبب كذبه؟
لا، لأن ذلك يقع موقع الإقرار، وإنما اعتمدوا قوله في إقراره هذا، لأن رده بجواز كذبه فيه؛ فيه فتح لأبواب السفسطة.
وقد أنكر الحافظ الذهبي - رحمه الله - في "الموقظة" (ص: 37) على شيخه ابن دقيق العيد في قوله:
"إقرار الراوي بالوضع، في رده ليس بقاطع في كونه موضوعاً، لجواز أن يكذب في الإقرار".
قال الحافظ الذهبي:
"هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة".
قلت : هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الثوري يستحيل عليه، وكذا على من تبعه من علماء الأمة أن يتواطئوا على الخطأ في الاحتجاج بهذه الحكاية كما يزعم المؤلف، وإنما كان يعلم الثوري بصدق ما يرويه الكلبي من كذبه.
فقد أخرج ابن حبان في "المجروحين" (2/256) قال: قال لنا الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل له: إنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه.
ومن جهة ثالثة فإن اعتماد أهل الشأن لهذه الحكاية يؤكد صدقها لاسيما وأن الكلبي والعوفي على دين واحد تقريباً، فليس ثمة داع يدعوه إلى الافتراء عليه، لاسيما وأن الافتراء عليه في هذا الباب سوف يكون سبباً لهدر روايات العوفي عن أبي سعيد، والتي منها روايات الكلبي المدلَّسة.
ثم إن أهل الحديث قد اتفق عامتهم على جرحه وإن كان بمثل هذه الحكاية، واتفاقهم على الشيء حجة.
قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (2/156) في سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة ابن الزبير:
" قال ابن أبي حاتم في كتاب "المراسيل":أهل الحديث اتفقوا على ذلك، قال: واتفاقهم على الشيء يكون حجة".
قلت : وأما المؤلف فقد رمى أئمة الحديث على مدى العصور بالخطأ، والتتابع على تضعيف حديث العوفي بغير حجة !! قال (ص:185):(2/303)
(ولم أجد من تنبه لهذا الخطأ من أهل الحديث إلا اثنين:
أولهما : الحافظ البارع أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي..
ثانيهما : الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري..).
وكأن علماء الأمة اعتمدوا هذه الحكاية وحدها دون سبر حديثه، وتتبع رواياته، فوقع الثوري، والقطان، وأحمد، وهشيم، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وكل من ضعفه في هذا الخطأ وتابعهم عليه أئمة الحديث ممن جاءوا بعدهم، فلكأن الأمة اجتمعت على ضلالة والعياذ بالله، حتى أتى من لا يفرق بين يحيى القطان ويحيى بن معين فأزال عنهم الغمة!!
أقول : ومما يدل على أن هؤلاء العلماء إنما ضعفوا أحاديثه من قبل حفظه - أيضاً - بعد السبر:
3- أن الإمام البخاري - رحمه الله - قال في "الأوسط" (1/412):
وقال أحمد في حديث عبد الملك، عن عطية ، عن أبي سعيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم الثقلين" أحاديث الكوفيين هذه مناكير.
قلت : وهذا ظاهر على أن الإمام أحمد قد سبر حديثه، ولم يضعفه اعتماداً على رواية الكلبي وحدها.
إلا أن هذا النقل لم يسلم من تأويلات المؤلف، ولو سلمت نصوص الكتاب والسنة من تأويلاته وتأويلات مشايخه لسلم هذا النقل.
قال المؤلف (ص: 196) بعد أن أورد عبارة الإمام أحمد - رحمه الله- المتقدِّمة:
(قلت : النكارة لها معان: أحدها: مرادفة الشاذ، ثانيها: مخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه، ثالثها: تفرد الضعيف الذي لا يُحتمل تفرده، ولا يوجد من يتابعه أو يشهد له، رابعها: كون المتن غريباً ومخالفاً للأصول مع ركاكة الألفاظ، خامسها: مطلق التفرد ولو بوجه من الوجوه.(2/304)
أما عن الأول: وهو مرادفته للشاذ، فلم يخالف عطية العوفي أحداً لا في متن ولا في إسناد ، وعن الثاني: فمثله، وعن الثالث: فالحديث ليس فرداً فلا ينطبق عليه، وعن الرابع: فإنه منتف تماماً هنا ف لاتعارض بينه وين غيره، بل هو مفيد للعلم، فلم يبق إلا الوجه الخامس: وهو مطلق التفرد من جهة عطية، عن أبي سعيد الخدري، وهذا الوجه يجب أن يحمل عليه قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى).
قلت : هذا الترجيح الذي رجحه المؤلف لا وزن له، لأن عطية قد تفرد بهذا الحديث عن أبي سعيد، وهو ضعيف عند الإمام أحمد كما تقدَّم النقل عنه، فالنكارة هنا بمعناها الاصطلاحي، وهو تفرد الضعيف بما لا يحتمل منه التفرد به.
وأما ذلك القيد الذي وضعه المؤلف في حد النكارة:
(ولا يوجد من يتابعه أو يشهد له).
ليس على إطلاقه، فليس كل متابعة تفيد، وأما الشاهد فقد يفيد من في حفظه ضعف يسير، وأما من في حال العوفي، فلا تقوية الشواهد.
وقد أعل غير واحد من أهل العلم أحاديثه التي يرويها، وليس الإمام أحمد وحده، أو ابن عدي وحده كما يروج المؤلف لتقوية حال العوفي هذا، وأنا أورد بعض ما حضرني في ذلك.
* الحافظ الذهبي - رحمه الله - :
أخرج الحاكم في "المستدرك" (4/222) حديثاً عن طريق العوفي، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها الصلاة والسلام:
" قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها: يُغفر لك ما سلف من ذنوبك.. " الحديث.
قال الذهبي:
"عطية واه".
* الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - :
روى الفضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد: أن الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً:
" لو أن لابن آدم وادياً من مال لا بتغى إليه ثانياً.." الحديث.
قال السخاوي في الأجوبة المرضية" (1/187)، عقب أن أورد هذا الحديث: "وعطية ضعيف".
4 و 5 قال أبو زرعة: "ليِّن".
وقال أبو حاتم الرازي: "ضعيف الحديث، يكتبه حديثه".(2/305)
قال المؤلف (ص : 197):
(هذا من الجرح المبهم غير المفسر، فهو يرد كما تقرر في قواعد الحديث، وكما استقر العمل على ذلك، والأخذ في مقابل ذلك بالتعديل الوارد في عطية العوفي.. إن هذا الجرح غير المفسَّر في حقيقته يرجع إلى الأمرين اللذين ظُلم بسببهما، وهما التشيع والتدليس .... بقى أن تعلم أن أبا حاتم الرازي قد جاء عنه توثيق لعطية كما سيأتي إن شاء الله تعالى).
قلت : الجرح المبهم مردود إذا عارضه تعديل معتبر، وهذا منتف في حال العوفي هذا، فإن غالب من وثقه من المتساهلين كما سوف يأتي بيانه.
وأما ادعاؤه أن هذا الجرح بسبب التشيع والتدليس، فينقضه دلالة عبارة أبي حاتم، ووصف أبي زرعة، فهما مختصان بالضبط، لا بالتشيع ولا بالتدليس.
وأما توثيق أبي حاتم المزعوم، فقد احتج له المؤلف (ص: 209) بتمام عبارة أبي حاتم حين سئل عن عطية.
إلا أن المؤلف قد بتر العبارة عند ذكر الجرح ليتمكن من رد الجرح بالإبهام، ثم حرفها عند إثبات التعديل موهماً أن لأبي حاتم في الرجل قولين، فقال:
(قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي نضرة، وعطية، فقال: أبو نضرة أحب إليَّ.
وهذا في حقيقته مقارنة بين ثقتين، فإن أبا نضرة المنذر بن مالك العبدي ثقة).
فانظر أيها القاريء الكريم إلى هذا التدليس والتحريف البيِّن لعبارة أبي حاتم، حتى يتمكن المؤلف من رد الجرح، بل وإثبات التعديل بالزور والبهتان.
فهذه العبارة مجتمعة كما نقلناها بنصها من "الجرح والتعديل" (1/3/383):
ضعيف الحديث، يكتب حديثه، وأبو نضرة أحب إليَّ من عطية.
تفيد ضعف عطية العوفي، بل وتدل على أن أبا حاتم قد صدر منه هذا الحكم بعد سبر وتتبع، وإلا فكيف يفاضل بينه وبين راو غيره إلا بالنظر في أحاديثهما.(2/306)
وعلى فرض التسليم للمؤلف في نقله، فإن المقارنة لا تدل على التوثيق، بل قد يوصف العالم الراوي بالثقة، وهو ضعيف من باب المقارنة، كما سوف يأتي بيانه قريباً، فكيف بهذه الحالة التي أثبت فيها أبو حاتم تقديم أبي نضرة على عطية، لا غير.
6- قال النسائي: "ضعيف".
7- وقال الساجي: "ليس بحجة، وكان يقدِّم عليً على الكل".
قلت : قد تناول المؤلف جرح الساجي هذا لعطية العوفي بالرد ، فقال (ص: 192):
(إن الساجي كان بصرياً، والبصريون كثر فيهم النصب، قال الحافظ في "اللسان" (4/439): النصب معروف في كثير من أهل البصرة.
وهم يفرطون فيمن تشيع لأنهم عثمانيون، وخاصة فيما كان بين أظهرهم، كذا في "التهذيب" (7/413).
والساجي - رحمه الله تعالى - كان شديداً متصلباً، فجرحه للكوفيين ينبغي التدقيق فيه، فإنه قد يجرح الرجل بسبب مذهبه كما حدث لعطية العوفي هنا، فإنه قال عنه: ليس بحجة، ثم أبان عن سبب قوله، فقال: وكان يقدِّم علياً على الكل، وإن كان الرجل شيعياً يقدِّم عليّاً على الكل، فلا بد أن يجرح عند المخالف لقوله، ولا يكون حجة عنده).
قلت : لم يوصف الساجي بالنصب، وإنما هو من أئمة أهل السنة والجماعة، وعنه أخذ الأشعري مقولة السلف في الصفات، ولم يتكلم عليه أحد بتصريح أو بتلميح، من قريب أو من بعيد بأنه ناصبي، أو أن فيه نصباً، وكون النصب معروفاً في كثير من أهل البصرة، فهذا لا يقتضي بحال أن يكون هو مذهب الساجي، والهمم متوافرة لنقل اعتقاده، لا سيما مع شهرته، وتقدمه في الحفظ والرواية، بل المشهور عنه أنه كان صلباً في السنة، فإن كانت الصلابة في السنة نصباً، فما سلم منه أحد من أهل السنة.(2/307)
وأما عبارته فلا تفيد أنه ضعفه لأجل التشيع، فإن الواو الفاصلة بين العبارتين تدل على العطف، لزيادة العلم، لا لتقرير سبب الجرح، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الساجي من أئمة الجرح والتعديل، وله كتاب في "الضعفا"، وقد اعتمد عليه ابن عدي في "كامله"، فهو أعلم من غيره بأن التشيع لا يضر الراوي إلا أن يكون داعيةً، ويروي ما يؤيد بدعته، وبذلك يظهر أن قوله: "ليس بحجة" متعلق بالضبط.
ومما ينبغي التنبيه عليه ما غالط به المؤلف اعتقاد أهل السنة والجماعة، مما يكنه في قلبه من التشيع الشديد، فقال (ص:192) في الحاشية تعليقاً على قول الساجي: "وكان يقدِّم علياً على الكل":
(وهذا مذهب عدد من الصحابة ، ذكرهم ابن عبد البر في الاستيعاب أثناء ترجمته لعلي عليه السلامن وفاته جماعة منهم (أبو جحيفة) انظر ترجمته في أسد الغابة).
قلت: قد تتبعت ما في ترجمة علي بن أبي طالب من "الاستيعاب" فلم أقف على مثل هذا الهراء، وحاشا الصحابة أن يقع منهم مثل هذه المخالفة التي يروج لها المؤلف، بل صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - ما ينقضها.
فعند البخاري (3/8) من طريق : يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمرن قال:
كنا نخيِّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخيِّر ابا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنه-.
بل صح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال:
ألا ولن يبلغني عن أحد يفضلني عليهما - أي أبي بكر وعمر - إلا جلدته حد المفترى.
أخرجه أبو إسحاق الفزاري في "السير" (ص: 327) - ومن طريقه الخطيب في "الكفاية" (ص:44) - بسند حسن.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكِّر " (18)، والعشاري في "فضائل أبي بكر" (39) بسند فيه ضعف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" (4/421):(2/308)
" أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر على عثمان وعلي: فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وإسحاق، ,أبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة، وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك، فقال: ما أدركت أحداً ممن أقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر".
وأما المؤلف فقد جعل حب العوفي لعلي سبباً لطعن أهل العلم فيه ، ومن ثم تضعيفه، بل زاد الطين بلة فوصفهم - بإطلاق بأنهم نواصب، قال (ص:193):
( ومما زاد في جرحهم لعطية أنه كان محباً لعلي بن أبي طالب عليه السلام بحيث عرض النواصب عليه سبه فأبى، وكان هذا ينبغي أن يحسب له، ولكن للنواصب شدة وصوله.
قال ابن سعد في "الطبقات" (6/403):
خرج عطية مع ابن الأشعث، فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي، فإن لم يفعل فاضربه أربع مائة سوط، وأحلق لحيته، فاستدعاه، فأبى أن يسب، فأمضى حكم الحجاج فيه).
قلت : هذا الجرح الذي أطلقه المؤلف أراد به كل من جرح عطية العوفي بما فيهم أئمة الشأن كالإمام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والساجي وغيرهم، والتشيع معروف مشهور فيه وفي مشايخه ومن أتصل بهم كالسقاف البغيض المبتدع الأثيم، وطعنهم في معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وفي أهل السنة مشهور، لا يخفى على طلاب العلم.
وأما الحكاية التي اعتمدها فلا يصح الاحتجاج بها، لأن ابن سعد لم يورد مستنده فيها، ثم إن اعتماد ابن سعد الأول على الواقدي المتهم الكذاب، ولا يُستبعد أن تكون هذه القصة مما تلقاه عنه.
8- ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود قوله:
" ليس بالذي يعتمد عليه ".(2/309)
9- وقال ابن معين: "ضعيف"، وفي رواية: "ضعيف إلا أنه يكتب حديثه"، وفي رواية ابن الجنيد، عن ابن معين، قال:
" كان ضعيفاً في القضاء ضعيفاً في الحديث ".
قلت: قد كان للمؤلف مع عبارات ابن معين في جرح العوفي خطباً جليلاً ليردها به، ويثبت أن ابن معين قد عدله.
قال (ص: 202 - 203):
(أما إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين فقد وثقه، ونقل عنه ذلك عدة مرات، ففي سؤالات الدوري (2/407) قيل ليحيى: كيف حديث عطية؟ قال: صالح.
وفيه أيضاً: سألت عن عطية، وعن أبي نضرة، فقال : أبو نضرة أحب إليَّ.
وهذا النص توثيق منه لعطية، لأن أبا نضرة ثقة عند يحيى بن معين كما في "التهذيب"، فهو في حقيقته مقارنة بين ثقتين.
وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: عطية مثل أبي الوداك؟
قال : لا، قيل: فمثل أبي هارون، قال أبو الوداك ثقة، ما له ولأبي هارون. كذا في "التهذيب" (2/60)، فانظر إلى ارتضاء ابن معين لمقارنته بأبي الوداك الثقة، فهو توثيق لعطية العوفي.
ونظائره كثيرة جداً في كتب الجرح والتعديل في المقارنة بين الثقات، فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه فتدبر).
قلت : وهذه مجازفات وظلمات بعضها فوق بعض.
فإن قول العالم في الراوي: "صالح الحديث" ليس معناه التوثيق الذي يُحتج بالموصوف به، وإنما هو ممن يُعمل النظر في رواياته، فهذا الوصف ليس بمرق لصاحبه إلى درجة الاحتجاج مطلقاً.
وقد قال ابن أبي حاتم: إذا قيل "صالح الحديث"، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وقال ابن الصلاح في "علومه" (ص: 125):
" وجاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان، قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث".
وقال الحافظ الذهبي في "الموقظة" (ص: 82):
"هذه العبارات كلها جيدة، ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكن كثير ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه".(2/310)
فهذه النقول تنقض قول المؤلف بأن هذا الوصف يقتضي التوثيق.
بل أزيد المؤلف بياناً، فأقول:
ثمة فرق بين الكلام على حال الرواي، وبين الكلام على حال مرويات الراوي، وما ورد في تاريخ الدوري مختص بمرويات العوفي، لا بحاله، والعبارة واضحة في ذلك، وهي:
قيل ليحيى : كيف حديث عطية؟ قال: صالح.
ومعنى قوله: "صالح" أي حديثه صالح للاعتبار وللمتابعة، وفي هذا دلالة على أنه العوفي عنده ضعيف إلا أن ضعفه محتمل، ولكنه لا يرتقي إلى درجة الاحتجاج، لا سيما إذا تفرد بحديث كالحديث الذي نحقق القول فيه، ومن ثم فلا عبرة بما ذكره المؤلف من أن عبارة ابن معين هذه تفيد توثيق العوفي.
يبقى الآن الكلام على مقارنة ابن معين للعوفي بأبي نضرة مرة، وبأبي الوداك مرة أخرى.
فأما مقارنته بأبي نضرة ، فلا يفيد توثيقاً ألبتة، وإنما كان قوله في تقديم أبي نضرة على عطية جواباً على سؤال من سأله عن ذلك، لكثرة رواية هذين الراويين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه-.
وكثيراً ما يقع السؤال عن أصحاب الشيخ الواحد، أو الرواة الذين اشتركوا في الرواية عن صحابي معين، حتى يُعلم من يُقدَّم عند الترجيح، وقد يقع السؤال من غير عارف، فيكون الجواب كما سبق.
بل قد يجيب المجرِّح أو المعدِّل بالتوثيق، ولا يريد أنه ثقة، وإنما هو مقارنة بغيره، وقد وقع هذا من ابن معين، وأشار إليه أبو الوليد الباجي في "الجرح والتعديل"، وتابعه الحافظ في "اللسان"، فقال في مقدمته (1/28) :(2/311)
" وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها، فقد يقول المعدل: فلان ثقة، ولا يريد به أنه ممن يحتج بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه، ووجه السؤال له، فقد يُسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه، فيقرن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان، وفلان، وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بيَّن حاله في التوسط، فمن ذلك: أن الدوري قال عن ابن معين أنه سئل عن ابن إسحاق، وموسى بن عبيدة الربذين أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق، وليس بحجة، ... وهذا حكم على اختلاف السؤالن وعلى هذا يُحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق بجلاً في وقت ، وجرحه في وقت آخر".
قلت : وعلى هذا تُحمل أيضاً رواية أبي خالد الدقاق عن ابن معين (256) قال: عطية العوفي ليس به بأس، قيل: يُحتج به؟ قال: ليس به بأس.
قلت : هذا ظاهره التوقف، وإن وصفه بوصف من أوصاف التعديل، وإنما يُعمل به على التعديل إن ورد منفرداً أو معضداً بروايات أخرى عن ابن معين بالتوثيق، ولم يرد عنه التضعيف أو الجرح له.
وأما مقارنة ابن معين بين العوفي وأبي الوداك فلا يقتضي كذلك توثيقه للعوفي، بل قوله هذا يدل دلالة قوية على أنه لم يقر مساواته لأبي الوداك، لأن أبي الوداك ثقة، كما أنه لم يقر مساواته بأبي هارون العبدي المتروك، وهذا لا يدل ألبتة على أن العوفي ثقة.
وأما قول المؤلف: "فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه".
فتمثيل غير صحيح، فالحب شيء، والضبط شيء آخر.
ثم وجدت المؤلف قد نقل نقلاً عن "التهذيب" (6/207)، فقال (ص: 203):
(وقال ابن الجنيد عن ابن معين: هو وعمرو بن أبي قيس لا بأس بهما، قلت: ثقتان، قال: ثقتان، كذا في"التهذيب" (6/207)، وهو ظاهر في ترادف اللفظين، فهو اصطلاح خاص بيحيى بن معين، ولا مشاحة فيه).(2/312)
هذه العبارة موهمة بان المقارنة بين العوفي، وبين عمرو بن أبي قيس، وأن التوثيق هنا مختص بالعوفي، وليس كذلك، وكان يجب على المؤلف أن يبين ذلكن ولكن لما كان هذا النقل المتصرف فيه يخدم قضيته، لم يتكلم عليه بأي بيان أو إيضاح.
ونص النقل كما في "سؤالات ابن الجنيد" (210):
قلت ليحيى بن معين: عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، فقال: رازي لا بأس به، قلت: عمرو بن أبي قيسظ قال: لا بأس به، قلت: ثقتان؟ قال: ثقتان.
فتبين أن المقارنة بين راو آخر غير العوفي وبين عمرو بن أبي قيس.
وأما كونه احتج به على أن وصف ابن معين للراوي بعبارة "لا بأس به" تفيد التوثيق، فهذا لا دافع له، لا سيما وقد نص هو نفسه على ذلك، ولكنه محمول على التوثيق في حالة عدم توقفه في الراوي كما وقع في رواية أبي خالد الدقاق عنه، وفي حالة عدم جرحه للراوي كما في باقي الرواياتز
وعلى فرض التسليم للمؤلف بثبوت تعديل ابن معين للعوفي، فلا بد من التوفيق بين الجرح والتعديل، وهذا لا يكون غلا بتقديم الجرح، لأن مقتضاه زيادة العلم على التوثيق كما بين ذلك أهل العلم، فإن قيل: فبعض العبارات وردت عنه مبهمة، فالجواب: إن ذلك لا يضر، لأنه اختلاف على المعدل في الجرح والتعديل، والأصل في الراوي عنده أن لا يكون مجروحاً، فإذا وثقه فقد وافق الأصل، وإن جرحه، فهذا مقتضاه أن يكون قد وقف على علم زائد بحاله اقتضى جرحه له، ومن ثم فجرحه مقدَّم على تعديله.
بقي الآن التعريج على ما احتج به المؤلف من النقول على تعديل جماعة من أهل العلم للعوفي، فمن هؤلاء:
1- ابن شاهين.
قال المؤلف (ص: 208):
(ومنهم ابن شاهين، وقد أدخل عطية العوفي في "الثقات"، فهو من موثقيه، فإن قيل: قد ذكره أيضاً في الضعفاء، فقال: ضعفه أحمد ويحيى.(2/313)
قلت : التوثيق هو الراجح، لما قد علمت مما سبق من اعتماد أحمد علي رواية محمد بن السائب الكلبين وهي رواية تالفة لا يُعتمد عليها في جرح عطية العوفي، وأن يحيى بن معين من موثقيه كما تقدَّم).
قلت : هذا الكلام فيه مناقشات:
أولها : أنه زعم أن ابن شاهين من الموثقين له بذكره في "الثقات"، والمعلوم أن ابن شاهين وإن كان من المحدثين والحفاظ إلا أنه ليس من أهل الشأن في الجرح والتعديل، فمثله مثل سالم المرادي الذي لم يرتض المؤلف قوله في جرح العوفي، وقال (ص: 191):
(المرادي هو ابن عبد الواحد الكوفي، ليس هو من الحفاظ، ولا من النقاد الذين يقف المرء عند قولهم في الجرح والتعديل).
وقد قال الذهبي فيه في "السير" (16/434):
" ما كان الرجل بالبارع في غوامض الصنعة، ولكنه راوية الإسلام رحمه الله".
ثانيها : أن اعتماد ابن شاهين في كتاب الثقات، ومثله الضعفاء على كتب الغير، لا سيما تواريخ ابن معين، فهو جمَّاع في هذا الباب، ولا يحرر حال الرجل، وهذا يبينه الذي بعده.
ثالثها: أنه قد نقل قول ابن معين من رواية أبي خالد الدقاق في العوفي، وليس هذا مقتضاه الإقرار، أو حتى التوثيق للرجل، وليس فيه التحرير أو التدقيق، وهذا يؤيده قوله في مقدمة كتابه (ص:25):
" كتاب الثقات ممن روى حديثاً ممن انتهى إلينا ذكره عن نقاد الحديث ممن قُبلت شهادته واشتهرت عدالته وعرف ونقل مثل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل...".
رابعها : أن الرواية التي اعتمدها في "الثقات" لا تقتضي التوثيق كما أثبتناه آنفاً.
خامسها : أنه قد أورد العوفي ف ي"الضعفاء"، مما يدل على أنه لم يحرر حاله، وإنما عمله في الكتابين الترتيب والجمع فقط، كما صرح بذلك في مقدمة "الضعفاء" (ص: 39) قال:
"وذكرت هؤلاء - [أي الضعفاء والهلكى]- في كتابي هذا على مثل ما ذكرت الثقات، ليقرب على المستفيد إدراك ما أراد من هؤلاء".(2/314)
ومن ثمَّ فلا يصح التعبير بأ، ابن شاهين قد وثقه، فإنه لم يفعل، وإنما أورده في الرواة الذين ورد فيهم صيغة توثيق، ثم أورده في الرواة الذين ورد فيهم صيغة تجريح.
2- أبو بكر البزار:
قال المؤلف (ص: 208 - 209):
(ومنهم صيغة تعديل تعادل قولهم: صالح الحديث، مقارب الحديث، ونحو ذلك كما يُعلم من قواعد الحديث).
قلت : هذه من عجائب المؤلف وأوابده، أن يجعل مثل هذا القول عبارة تدل على التوثيق، فرواية جلة من الناس عنه لا تقتضي أن يكون ثقة، لا سيما وإن كان مكثراً عن أبي سعيد الخدري كالعوفي، وكم من إمام كبير قد روى عن جماعة من الهلكى طلباً للغرائب، واعتباراً بحديثه، لكي لا يدلسه مدلس أو يهم فيه واهم فيجعله ثقة عن ثقة، وهذا هو الثوري مع جلالته قد روى عن جابر الجعفي.
ومقتضى هذه العبارة أن العوفي لم يُترك حديثه، وهذا لا يقتضي التوثيق، ولا يمنع من إعمال الجرح فيه، فليست هي من عبارات التوثيق كما يتوهم المؤلف، أو كما يُوهمز
3- أبو حاتم الرازي.
وقد تقدَّم بيان ما فيه.
4- يحيى القطان.
قال المؤلف (ص: 209):
(ومنهم يحيى بن سعيد القطان، فقد قال عن جبر بن نوف أبي الوداك كما في "التهذيب" (2/60) هو أحب إليَّ من عطية.
قلت : هذا أيضاً مقارنة بين ثقتين).
قلت: لا اعتبار بهذه المقارنة كما تقدمَّم بيانه من وجوه، ثم إن يحيى بن سعيد قد تقدَّم النقل عنه بجرح العوفي، إلا أن المؤلف قد وهم في معرفته، فظن أنه ابن معين.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/412):
قال علي: عن يحيى : عطية ، وأبو هارون العبدي، وبشر بن حرب عندي سواء.
فساواه القطان بأبي هارون العبدي المتهمن وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مقارنته بأبي الوداك لا تقتضي تعديلهن لا سيما وأن القطان لم يُنقل عنه قولاً بتعديل أبي الوداك هذا، فتنبه.
5- ابن خزيمة.
قال المؤلف (ص: 209) :(2/315)
(فإنه أخرج الحديث في صحيحه، قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/98): رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق: فضيل ابن مرزوق، فهو صحيح عنده.
قلت : فمقتضى تصحيح الحديث توثيق رجاله ومنهم عطية العوفي).
قلت: قد يخرج ابن خزيمة أحاديث بعض الضعفاء، ولكن ليس على سبيل الاعتداد والحجة، بل على سبيل الاستئناس، ويشير على أن في القلب من حديث فلان شيء، يعني أنه لا يخرجه احتجاجاً، وقد تكرر صنيعه هذا في مواطن كثيرةز
ومنها حديث عطية العوفي.
فقد ذكره المنذري - رحمه الله - في الرواة المختلف فيهم في آخر كتابه: "الترغيب والترهيب " (4/575)، وقثال:
" وأخرج حديثه ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: في القلب من عطية شيء؟.
فدل هذا على أن عطية ليس بثقة عند ابن خزيمة كما زعم المؤلف.
6- الإمام الترمذي:
قال المؤلف (ص:211):
(ومنهم الإمام أبو عيسى الترمذي، فإنه حسَّن له عدة أحاديث انفرد بها فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي - كما في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه - انظرها في طتحفة الأشراف". ومقتضى ذلك التحسين أن يكون صدوقاً عند الترمذي، كما صرح بذلك الحافظ في "تعجيل المنفعة" ص:153).
قلت: قد تقدَّم الجواب عن ذلك، وأزيده إيضاحاً، فأقول:
لايقتضي تحسين الترمذي لأحاديث العوفي أن يكون صدوقاً عندهن لأن إطلاق الترمذي الحسن لا يقتضي الاحتجاج به عنده كما اشار الحافظ ابن حجر في "النكت" في مبحث الحسن.
إلا أن المؤلف تناقض فقال:
(وعليه: فعطية صدوق عند الترمذي، وهو شرط الحسن لذاته).
قلت: الحسن عند الترمذي معروف بشروط وضعها هو نفسه، وصرح بها في "العلل الصغيرط (الجامع: 5/758)، فقال:
" وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا: كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يُتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن".(2/316)
وهذا الحد هو الذي اعتمده العلماء في الحسن بمجموع الطرق، لا الحسن لذاته كما يدعي المؤلف، ومن ثم فكون الترمذي قد حسن حديث العوفي فهذا معناه أنه غير متهم بالكذب عنده، وليس بكذاب، إلا أن الضعف لا ينفك عنه، وإلا لما وصف حديثه بالحسن.
وأما الأحاديث التي وصفها الترمذي بالحسن من أفراد العوفي فلا تنصرف إلى الحسن لذاته، لأن الترمذي قد حكى حد الحسن عنده، وما ذهب غليه المؤلف من اجتهاده، وكما قال المؤلف في كتابه (ص: 203):
(هذه حكاية عن نفسهن ونص من عنده، ولا اجتهاد مع وجود النص).
7- ابن سعد
فقد قال في "الطبقات الكبرى ": "وكان ثقة إن شاء الله".
قلت ك كما تقدَّم بيانه فإن اعتماد ابن سعد في كتابه على شيخه الواقدي، وهو متهم لا يُعول عليه، إلا أن المؤلف اعتذر عن ذلك (ص: 200- 201) بقوله : (أما عن اعتماد ابن سعد علي الواقدي غالباً فهو ما صرح به الحافظ، لكن هذا ليس على إطلاقه ، فإذا رأيت ابن سعد ترجم للرجل ترجمة عارف بأحواله وبحديثه وبكلام الناس فيه، فلا مدخل عند ذلك للواقدي).
قلت : ترجمة العوفي عند ابن سعد لا تتجاوز ثلاثة أرباع الصفحة، وليس فيها ما يدل على أنه قد سبر حاله كما يزعم المؤلف إلا قوله:
" وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به".
والظاهر أنه أطلق التوثيق هنا بمعنى أنه لا يتهم بالكذب، ثم بين أن أحاديثه صالحة، أي للمتابعة والاعتبار ، لا أنها من الواهيات، فهذا مشعر انه ليس ممن يحتج به على الانفراد.
وعلى فرض التسليم للمؤلف فيما ادعاهن وأن ابن سعد قد وثقه عن عناية ومعرفة، فكذلك من ضعفه قد ضعفه بجرح مفسر- كما بيناه فيما سبق - غير مبهم.
ولا يعدل ابن سعد أئمة الشأن الكبار مثل: هشيم، ويحيى القطان، والثوري، وأحمد ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن معين على الراجح، وابن عدي، وغيرهم، إذا اجتمعوا على جرح راوٍ. وممن لم يرد ذكرهم في "التهذيب":
1- الدارقطني:(2/317)
قال في "العلل" (4/6): "مضطرب الحديث".
وقال في "السنن" (4/39): "ضعيف".
2- البيهقي:
قال في "السنن الكبرى" (2/126 و6/30 و7/66 و 8/126):
" لا يُحتج به".
3- عبد الحق الإشبيلي:
نقله عنه الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (4/51)، وعزاه إلى "الأحكام"، قال:
" عطية العوفي لا يُحتج به، وإن كان الجلة قد رووا عنه".
وهذه العبارة تدل على أنه لا اعتبار برواية الناس عنه مع ثبوت ضعفه.
4- الحافظ الذهبي:
قال في "تلخيص المستدرك" (4/222):
"واهٍ".
وقال في "المغني" (2/436):
"مجمع على ضعفه".
والحاصل من ذلك أن كلمة العلماء مجتمعة ولا شك على ضعف العوفي وسقوط الاحتجاج به، لاسيما في روايته عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .
وإن كان المؤلف قد سمى بحثه في تقوية حال العوفي الشيعي: "القول المستوفي في الانتصار لعطية العوفي".
فسمِّ هذا الرد إن شئت:
" الرد المغني ببيان ضعف عطية العوفي ".
ويبقى الآن الكلام على ما وقع في هذا الحديث من الاختلاف.
فقد اختلف في هذه الرواية على فضيل بن مرزوق.
فأخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في "الصلا" - كما في "نتائج الأفكار" للحافظ ابن حجر (1/273) - : عن فضيل بسنده موقوفاً.
وتابعه عليه وكيع، عن فضيل به موقوفاً أيضاً.
أخرجه ابن أبي شيبة (6/25).
قال أبو حاتم الرازي في "العلل" لابنه (2048):
" موقوف أشبه ".
إلا أن المؤلف لم يرَض بمثل هذا الترجيح، ولم يقنع به، لأنه سوف يفسد عليه استدلاله بالحديث، فحشد ما يرد به حكم غمام المحققين أبي حاتم الرازي، فاستدرك عليه !! بقوله (ص: 219):
(وللمحدثين في ذلك مسلكان كلاهما يقوي الرفع:
فأولهما : إن الرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة، إذ إن الحكم لمن أتى بالزيادة، وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه والحديث والأصول.
وثانيهما: الترجيح باعتبار القرائن ، وهو ما يقوي الحكم بالرفع أيضاً، فإن من رفع الحديث أكثر عدداً، وهم ستة، ممن وقفه وهم اثنان فقط).(2/318)
قلت : كلام المؤلف هذا فيه مناقشات:
الأولى : أنه موهم بأن الأمر على التخيير بين المسلكين، وليس كذلك، فالمسلك الأول هو مسلك الفقهاء، وعنهم أخذه بعض أهل الحديث كالخطيب وغيرهن وقد أنكر المحققون إطلاق القول باستخدام هذا المسلك.
فقال الحافظ ابن حجر في "النزهة" (ص: 30):
" اشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجيب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن.
والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي والدارقطني، وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يُعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة".
وقد تقدَّم النقل عن ابن دقيق العيد والعلائي ما يؤيد ذلك.
الثانية : أنه قد أوهم أن العلة في الاختلاف في الوقف والرفع إنما هي الخلاف بين الرواة عن فضيل بن مرزوق، وليست كذلكن بل هي من فضيل نفسه، فقد شك في روايته كما عند الإمام أحمد في "المسند" (3/21) قال:
حدثنا يزيد، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، فقلت لفضيل: رفعه، قال: أحسبه قد رفعه ... الحديث.
وأما المؤلف فقد نحى منحى غريباً في تأويل هذا الشكن فقال (ص:218):
(هذا ظن راجح تقوى "بقد" وهو حرف تحقيق هنا دخل على الماضي فقربه من الحالن وعليه فرواية يزيد بن هارون من قسم المرفوع، ولابد ، وهو صنيع من تكلم على الحديث ممن تأخر من الحفاظ).
قلت : وهذا اعتذار ساقط لا قيمة له، ذلك لأن كلمة: "أحسب" تفيد الظن ولا شك، والظن أكذب الحديث.(2/319)
وعلى فرض التسليم للمؤلف بأنه ظن راجح، فهذا لا ينفي ورود الظن على الفضيل فيهن وإن رجح الرفع بـ "قد"، وإن كان ذلك كذلك، فالعلة في الاختلاف قائمة عليه هو، لا على من رواه عنه.
وهذا يؤيده ترجيح أبي حاتم للموقوف، وهو من أئمة هذه الصنعة ، وممن أرسى قواعدها، فلا يقدَّم عليه فيها المتأخرون.
الثالثة : أنه على فرض التسليم بأنه مما أختلف فيه الرواة عن فضيل بن غزوان، وهم جميعاً ثقات سواءً من رواه بالرفع أو من رواه بالوقف، فإن كانوا كذلك، فطريقة المحققين من أهل العلم إعلال الحديث بمن ورد فيه نوع جرح بدلاً من تخطئة الثقات، وفضيل بن مرزوق قد تكلم بعض أهل العلم في حفظه، فتخطئته فيه بروايته مرفوعاً تارة، وموقوفاً تارة أخرى أولى من تخطئة حافظين، وهما أبو نعيم ووكيع، أو ستة من الرواة الثقات، فيهم حافظ كبير مثل يزيد بن هارون- رحمه الله-.
الرابعة : أن الفضل بن دكين الملائي من الحفاظ المتثبتين المقدَّمين على أقرانه، وقد قال يحيى القطان: "إذا وافقني هذا الأحول ما أبالي من خالفني"، وقال ابن معين: "ما رأيت أثبت من رجلين يعني في الأحياء أبي نعيم وعفان"، وقال الفسوي: "أجمع أصحابنا أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان"، وقال أبو حاتم: "أبو نعيم حافظ متقن".
ومثله وكيع من الحفاظ الكبار، وقد خالفا خمسة من الثقات، والسادس وهو من الحفاظ وهو يزيد بن هارون في روايته شك وظن.
وقد تقدَّم أن المؤلف قد رجح رواية الفسوي على ثلاثة من الرواة؛ اثنين منهم من الثقات، فَلِمَ لم يرجح رواية حافظين كبيرين كابي نعيم ووكيع على هؤلاء الستة؟ إلا لأجل الانتصار لمذهبه الفاسد.
وللحديث شاهد واه من حديث بلال - رضي الله عنه - وفيه الوازع بن نافع العقيلي، وهو تالف الحال، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أحمد وابن معين: "ليس بثقة"، وقال النسائي: " متروك ".
ومثل هذا الشاهد لا يصح التقوية به، والله أعلم.
الحديث السابع(2/320)
أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/267):
حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا معروف بن حسان السمرقندي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله احبسوا عليَّ، فإن الله في الأرض حاضراً سيحبسه عليكم".
وأخرجه أبو يعلى في "المسند" (9/177): حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق... به.
ومن طريقه ابن السني (508) إلا أنه وقع فيه زيادة عن ابن بريدة، "عن أبيه"، فزاد (عن أبيه).
وأظنه من التحقيق فإن غالب النسخ المطبوعة غير مخدومة الخدمة العلمية اللائقة.
وقد هوَّن المؤلف من ضعف هذا السند، فقال (ص: 225):
(قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/132) بعد أن عزاه لأبي يعلى والطبراني: فيه معروف بن حسان وهو ضعيف، وكذا قال الحافظ البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة...، وقال الحافظ في تخريج الأذكار 0شرح ابن علان 5/150) بعد أن عزاه لابن السني والطبراني: وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود. أ.هـ.
ومع ذلك فللحديث طرق تقوية وترفعه من الضعف إلى الحسن المقبول المعمول به).
قلت : هذه العبارة الأخيرة فيها مجازفة كبيرة، وتدليس عريض.
فإنه يوهم القراء الكرام بان ضعف معروف بن حسان من قبيل الضعف المحتمل الذي يتقوى بمجيء مثله من وجه آخر وليس كذلك، بل لا أظنه قد خفي عن المؤلف حال معروف هذا، فإنه شديد الضعف.
فقد قال فيه أبو حاتم الرازي: "مجهول"، وقال ابن عدي: "منكر الحديث"، وكلاهما من قبيل التضعيف الشديد والمؤلف على معرفة تامة بذلكن وقد خطَّ بيده في كتابه ما يدل على ذلك، فقال (ص:149):(2/321)
(قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" كما في "نصب الراية" (1/179)، و"فتح المغيث" (1/347): قولهم: "روى مناكير" لا تقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي أن يُقال فيه: "منكر الحديث"، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه أ.هـ.).
وقال ابن عدي أيضاً: "ومعروف هذا قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة وكلها غير محفوظة". وقال الخليلي: "له في الحديث والأدب محل، وروى كتاب العين عن الخليل بن أحمد، روى عن عمر بن ذر نسخة لا يتابعه أحد".
قلت : قد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، دون باقي أصحاب سعيد بن أبي عروبة، والمتن فيه نكارة ظاهرة، ويكفي ما جُرِّح به الرجل حتى يُردُّ حديثه، ولا يُقوى بالمتابعة، فتنبه.
وأما الشواهد التي ذكرها المؤلف للتقوية فهي :
1- ما أخرجه الطبراني في "الكبير" (17/117-118):
حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا عبد الرحمن بن شريك - وتصحفت في المعجم إلى سهل - ، حدثني أبي، عن عبد الله بن عيسى، عن زيد بن علي، عن عتبة بن غزوان، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال:
" إذا أضل أحدكم شيئاً، أو أراد أحدكم عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عباداً لا نراهم". وقد جُرِّب ذلك.
قلت : وهذا إسناد ضعيف، فقد تفرد به من هذا الوجه عبد الرحمن بن شريك، عن أبيه ، وكلاهما متكلم فيه.(2/322)
وقد صحَّف المؤلف اسم زيد بن علي إلى يزيد بن علي في موضعين، مع أنه قد ورد عند الطبراني على الوجه الصحيح، والظاهر أنه فعل ذلك تعمية لأمر زيد هذان فإن زيد هذا هو ابن علي بن الحسين، وبين ولادته وبين وفاة عتبة بن غزوان عمراً طويلاً، فزيد بن علي ولد سنة ثمانين، ووفاة عتبة بن غزوان سنة سبع عشرة وبينهما بون شاسع من الزمن، فالسند ليس أقل من أن يكون معضلاً، والمعضل شديد الضعف، ولا يتقوى بالمتابعة كما هو معلوم في علم الحديث.
2- مرسل أبان بن صالح.
وهو عند أبن أبي شيبة (10/424):
حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيره بفلاة من الأرض لا يرى بها أحداً، فليقل: أعينوني عباد الله، فإنه سيعان".
قلت : وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن محمد بن إسحاق صدوق، موصوف بالتدليس وقد عنعن هذا الخبر.
وأما المؤلف فقد لمز العلاَّمة الألباني - حفظه الله - فقال (ص: 226):
(وأعله الألباني في "ضعيفته" (2/109) بالإعضال وهو خطأ لأن أبان بن صالح من صغار التابعين).
قلت : هذه حجة من لا بضاعة له في هذا العلم ، فقد وصف - قبل الألباني - مراسيل هذه الطبقة من العلماء بالإعضال جماعة منهم الحافظ الذهبي، فقال في "الموقظة" (ص: 40):"من أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن.
وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل من صغار التابعين، وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، فالظن بمرسله أنه أسقط من إسناده اثنين".
قلت : أبان بن صالح روى عن الزهري، وعن الحسن، فهما من شيوخه، وقد حكم المحققون على مراسيل هذين الراويين بأنها معضلات، فكيف بمرسل من يروي عنهما ؟! هذا من جهة.(2/323)
ومن جهة أخرى فإنه لم يصح له له الرواية عن أحد من الصحابة، وإنما ذكروا له حديثاً عن أنس بن مالك عند الترمذي: "الدعاء مخ العبادة"، وهو حديث ضعيف، روي من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبان به، ووصفه الترمذي بالغرابة، فقال: "غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقد رواه عن أبن لهيعة الوليد بن مسلم، وابن لهيعة حاله مشهورة، فالحديث ليس بحجة على ثبوت رواية أبان بن صالح عن أنسن ومن ثم فوصف مرسله هذا بأنه معضل هو الصواب، والمعضل لا يتقوى بالمتابعة.
3- حديث ابن عباس - رضي الله عنه - .
أخرجه البزار (كشف: 3128) من طريق:
حاتم بن إسماعيل ، عن أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إن لله ملائكة في الأرض، سوى الحفظة، يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة، فليناد: أعينوا عباد الله".
قلت : وهذا إسناد فيه ضعف، فإن أسامة بن زيد متكلم فيه، وله مناكير، وقد اختلف عليه فيه.
فرواه جعفر بن عون، وروح بن عبادة، وعبد الله بن فروخ، ثلاثتهم عن أسامة بن زيد بسنده موقوفاً.
ولقائل أن يقول: فالأصح على هذا الوقف لأنه قول الأكثر والأوثق؟!
فالجواب: هذا محتمل إن كان المختلف عليه ثقة، وأما إن كان ضعيفاً فالأولى الحمل عليه فيه، بدلاً من تخطئة الثقات الذين رووه عنه، وحينئذ يوصف بأنه قد اضطرب فيه.
وعلى أي وجه ترجح القول سواء بالرفع أو بالوقف فثمة مخالفة أخرى بين أسامة بن زيد وبين أبن إسحاق، فإن ابن إسحاق أوثق ولابد من أسامة، وقد أرسله، فهو المحفوظ إن شاء الله تعالى.
وأما المؤلف فقد كان له خطباً جليلاً مع هذا الحديث، فقال (ص:227):
( وأعل الألباني في ضعيفته (2/112) الطريق المرفوعة عن ابن عباس بهذه الموقوفة، فقال: جعفر بن عون أوثق من حاتم بن إسماعيل... ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة، والأرجح أنه موقوف .أ هـ.(2/324)
قلت : هذا خطأ من وجهين:
أولهما: تقرر في علم الحديث أنه إذا تعارض الرفع والوقف فالحكم فيه للرفع...
ثانيهما: إن حاتم بن إسماعيل لم ينفرد برفع الحديث، بل وافقه على الرفع محمد بن إسحاق كما تقدم بالإضافة إلى شاهد عبد الله ابن مسعود المذكور أولاً.
والصواب هنا أن يُقال: إن أبان بن صالح كان يرفعه أحياناً، وأحياناً أخرى لا ينشط لرفعه، ونظائره كثيرة جداً).
قلت : وهذا كلام ساقط كعامة منافحاته عن الأحاديث الساقطة في كتابه.
وقد ناقض نفسه بنفسه ، ودل على جهله بقلمه.
فالذي قرره في هذا الموضع أنه عند تعارض الرفع والوقف فالرفع مقدَّم، وقبلها بصفحات قليلة ناقض هذا القول، فقال (ص: 219) أن للمحدِّثين مسلكين في هذه المسالة، قال:
(فأولهما : إن الرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة، إذ إن الحكم لمن أتى بالزيادة، وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه والحديث والأصول.
وثانيهما : الترجيح باعتبار القرائن...).
فلماذا لم يعتبر بالترجيح بالقرائن هنا كما فعل هناك ؟! لسبب بسيط، وهو أن الترجيح بالقرائن سوف يفسد عليه حديثه، لا سيما وأن ثلاثة من الرواة قد رووه عن أسامة بن زيد موقوفاً، وخالفهم واحد فقط، فيه كلام من حيث الضبط.
ثم إن الذي قرره هذا من تقديم الرفع على الوقف إنما هو قول الفقهاء لا قول المحققين من أهل الحديث، لا سيما الأئمة المتقدمين من أهل العلم، وقد تقدَّم النقل عن العلماء كابن دقيق العيد، والعلائي، والحافظ ابن حجر ما يدل على ذلك.
وأما ترجيحه المرفوع بتعضيده بالمرسل المرفوع وبالشاهد المنكر عن ابن مسعود فلم أر من أهل العلم من فعلها قبله، أن يعضد الراجح بالمرجوح والمنكر، وإنما أراد بذلك التمويه على من لا علم له بهذه الصناعة، فإن حديث ابن مسعود لا دخل له بهذا الحديث، ولا اشتراك بينهما في السند ألبتة، والمرسل متعارض مع الموصول المرفوع، فلا بد من الترجيح، لا التعضيد.(2/325)
وأخيراً : فعلى فرض التسليم له بصحة الحديث الأخير، فهو دال على أن ذلك استعانة بالمخلوقين الأحياءن وقد دلت رواية ابن عباس على أنهم من الملائكة، ولم يمنع أحد أن يستعين الناس بغيرهم من المخلوقين على ما يقدروا على فعله، وليس هو بمجيز للتوسل بالجاه، ولا هو من هذا الباب في شيء، فتنبه إلى ذلك ترشد إن شاء الله.
فصل
ومن أغرب الحجج التي احتج بها المؤلف على تقوية هذا الحديث: ادعاؤه بأن بعض الأمة قد انعقد عملها به، وأن ما انعقد به عمل الأمة من الأحاديث، وإن كانت ضعيفة السند، فهي مقبولة.
قال المؤلف (ص:229):
(إذا ورد حديث بسند ضعيف يصير من قسم المقبول الذي هو أعم من الصحيح والحسن إذا تلقته الأمة بالقبول، أما إذا عمل به بعض الأمة - كحديثنا هذا - ففي عملهم تقوية له).
وقال (ص: 230):
(والحاصل أن للناقد مسلكين في تقوية هذا الحديث:
أحدهما : تقويته بالشواهد، فيصير حسناً، ولا ريب في ذلك.
ثانيهما: تقويته بعمل الأمة به.
وأحد المسلكين أقوى من الآخر).
قلت : هذه المسألة، أقصد مسألة الحكم على الحديث بالقبول إذا تأيد بعمل الأمة مما تفرد به بعض المتأخرين، وأما المتقدمون، فلا يذهبون إلى مثل هذه التقوية، وتفصيل هذه المسألة كما يلي:
قال السيوطي في الحديث المقبول في "البحر الذي ذخر":
" ما تلقاه العلماء بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح".
وقال في " التعقبات على الموضوعات " :
" قد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد صحيح".
قلت: قد نُقلت بعض العبارات في ذلك عن ابن الهمام، وأبي إسحاق الأسفرائيني.
واغتر من أطلق القول بذلك ما ورد عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال:
" وما قلت: يعني في تنجيس الماء بحلول النجاسة فيه من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، لكنه قول العامة، لا أعلم بينهم خلافه ".(2/326)
وهذا القول إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحجة في ذلك الاتفاق على ذات الأمر، والاتفاق وإن وافق معنى الحديث أو متنه فلا يدل على قبول الحديث بحال، ولا تثبيته، وإنما الحجة في الاتفاق، وما قامت الحجة بمدلوله إلا بقيام الاتفاق عليه.
والقبول إنما هو تثبيت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ولا شك ليس من شروط الصحة في شيء، فإن أئمة الحديث لم يشترطوا ضمن شروط الصحة قبول الأمة واتفاقهم عليه، بل الأمة وقع بين علمائها الخلاف في تصحيح وتضعيف جملة كبيرة من الأحاديث.
ويؤيد ذلك ما نقله ابن القيم - رحمه الله - في الروح في حديث تلقين الميت، قال:
" سئل عنه الإمام أحمد - رحمه الله - فاستحسنه، واحتج عليه بالعمل ".
قلت: والحديث المروي في الباب ضعيف، وإنما احتج عليه أحمد بعمل السلف، ولم ينقل عنه تصحيحه ألبتة.
وقد ذكر العراقي عن العز ابن عبد السلام: أن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته، قال:
" وهو مذهب رديء ".
والمسألة فيها تفصيل قد ذكرته في غير هذا الموضع.
والشاهد: أن هذا المذهب ضعيف، ولا تقوم به حجة يتقوى بها الحديث.
ولو سلمنا للمؤلف بهذا المذهب، فإن الأمة لم ينقل عنها العمل بهذا الحديث، وإنما حكاه عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -، والطبراني، والنووي، وقد خالفهم فيه من هو أعلم منهم وأقدم وهو ابن المبارك - رحمه الله-.
فقد أخرج أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (3/110):
أن ابن المبارك - رحمه الله - كان قد ضل في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه أن من اضطر إلى مفازة فنادى: عباد الله أعينوني، أُعين، قال: فجعلت أطلب الجزد، أنظر إسناده.
فلم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرضى إسناده.
ثم احتج المؤلف على تثبيت هذا المذهب بأن ابن المبارك كان يصلي صلاة التسابيح، وأنه قد تداولها الصالحون بعضهم عن بعض.
قلت : وهذا تمويه عجيب، وقول مردود من وجوه:(2/327)
الأول : أن حديث صلاة التسابيح قد اختلف فيها العلماء، فمنهم من صححها، والأكثر على تضعيفها، ولها طريق يقرب من شرط الحسن من رواية ابن عباس - رضي الله عنه - ، وقد اغتر به بعض أهل العلم فصححوه، وخالفهم المحققون من المتقدمين والمتأخرين، فأعلوا هذه الرواية بالشذوذ.
الثاني: أن ابن المبارك لم يعمل بحديث صلاة التسابيح لما فيه من النكارة الظاهرة، لا سيما الجلوس بين كل ركعتين للتسبيح، وهي مذكورة في الأحاديث، إلا أن ابن المبارك لم يكن يفعل هذه الجلسة للتسبيح التي هي قبل القيام، وكان يفعل باقي التسابيح، لأنها تندرج تحت أصل أصيل وهو جواز التسبيح والتهليل والتكبير والحمد بعد القراءة، وأثناء السجود والركوع، وعليه فلا يتجه القول بأن ابن المبارك قد تداول هذه الصلاة على الصفة المذكورة في الأحاديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "منهاج السنة" (4/116): "وأما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام، بل استحب صفة أخرى توافق المشروع لئلا تثبت سنة بحديث لا أصل له".
وقال - كما في "مجموع الفتاوى" (11/579)-:
" وأما ابن المبارك ، والمنقول عنه، فشيء مثل الصلاة المعروفة، فإن تلك فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية، وهذا يخالف الأصول، فلا يجوز أن يثبت بمثل هذا الحديث".
الثالث: أن هذه الصلاة ليس فيها نقل صحيح عن الأئمة الأربعة إلا عن الإمام أحمد - رحمه الله - فقد ذهب إلى ضعف حديثها، وما ادعاه الحافظ ابن حجر برواية موهمة من رجوع الإمام أحمد عن تضعيفها فغير صحيح كما بيناه تفصيلاً في كتابنا : "النقد الصريح"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأئمة لم يعتبروا بحديثها، ولم يتداولوها فيما بينهم، بل لم يعرِّجوا على ذكرها في كتبهم لا في أبواب التطوع، ولا في غيرها ، وإنما أوردها أصحاب الرواية والحديث، من باب جمع ما في الباب.(2/328)
ثم لو أننا سلمنا بهذا كله للمؤلف، فليس في الحديث ما يدل على جواز التوسل بالجاه، وإنما هو من قبيل طلب العون من الأحياء فيما يقدرون عليه، وهذا لم يمنع منه أحد ، ولا حتى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ، وبون شاسع بين هذا وبين التوسل بجاه المخلوقين.
الحديث الثامن
أخرجه أبو يعلى الموصلي في "المسند" (4/418) :
حدثنا عقبة، حدثنا يونس، حدثنا سليمان الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" ليأتين على الناس زمان يخرج الجيش من جيوشهم، فيُقال: هل فيكم أحد صحب محمداً فتستنصرون به فَتُنصروا؟ ثم يقال: هل فيكم من صحب محمداً فيقال: لا ، فمن صحب أصحابه؟ فيُقال: لا ، فيُقال: من رأى من صحب أصحابه؟ فلو سمعوا به من وراء البحر لأتوه".
قال المؤلف (ص: 231):
(إسناده صحيح).
ثم أورد له متابعة عند أبي يعلى أيضاً (4/200) من طريق: محاضر بن المورع، عن الأعمش به.
قلت: السند الأول فيه يونس بن بكير، صدوق فيه ضعف، وقد تُكُلِّم في حفظه، وقد رواه عن الأعمش دون باقي أصحاب الأعمش الكبار.
وقد تفرد بلفظه: "فتستنصرون به فتنصروا".
وقد خالفه محاضر بن المورع، وهو وإن كان فيه بعض الكلام غلا أنه مقدَّم عليه في الأعمش.
قال ابن عدي: " روى عن الأعمش أحاديث صالحة مستقيمة ".
وقد رواه بلفظ:
" يبعث بعث، فيقال لهم: هل فيكم أحد صحب محمداً؟ فيقال: نعم، فيُلتمس، فيوجد الرجل، فيستفتح، فيفتح عليهم..".وبون شاسع بين هذا اللفظ، وبين اللفظ الذي قبلهن ومما يؤيد هذا اللفظ أصل الحديث الذي في الصحيحين من رواية جابر عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، وهو:
" يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيُقال: فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟، فيقال: نعم، فيُفتح عليه..".
وفي رواية مسلم: " فيُفتح لهم ".
وفي رواية ثانية عنده: " فيفتح لهم به ".
أخرج البخاري (فتح:6/68)، ومسلم (نووي: 8/300).(2/329)
قلت : وهذا لا يدل ألبتة على أن الاستنصار كان بجاهه عند الله، ولا بالتوسل بجاهه، إذ لو كان كذلك فلا حاجة للسؤال عن وجوده أو عدم وجوده، وإنما هو بدعائه وإخلاصه، ولا قائل بالمنع من التوسل بدعاء الصالحين.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" في شرح الحديث:
" فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته، إن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه ".
قلت: ومما يدل على تدليس المؤلف أنه لم يورد الحديث الذي قبله في الباب الذي عند البخاري، وهو أظهر في الدلالة من هذا، وهو حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال:
رأى سعد- رضي الله عنه - أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم".
قلت : والنصر والرزق المعني هنا هو نفسه المعني في الحديث الذي قبلهن وهو نصر ورزق بإخلاصهم ودعائهم وصلاتهم، لا بالتوسل بجاههم كما يروج له المؤلف، ويدل على ذلك رواية النسائي (6/45) لهذا الحديث بسند صحيح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ".
وهذا ظاهر من الحديث الذي ترجم به المؤلف، فإنما حصر الفتح والنصر بالقرون الثلاثة الأولى، لأن الإخلاص والصدق في الدعاء والالتزام بالشرائع أظهر فيهم من غيرهم، ولأجل هذا فُضلوا على غيرهم من القرون.
وبهذا يبطل الاستدلال بهذا الحديث على جواز التوسل بالجاه.
الحديث التاسع
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/292) من طريق:
عيسى بن يونس- [وهو ابن أبي إسحاق] - حدثني أبي، عن أبيه، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين.
قلت قد أعله المؤلف بعنعنة أبي إسحاق السبيعي، وقال (ص:233) : (ولولا عنعنة أبي إسحاق - فإنه مذكور في المرتبة الثالثة من المدلسين (ص:42) - لكان الحديث مرسلاً صحيح الإسناد).(2/330)
قلت : أمية بن عبد الله من التابعين، فحديثه هذا مرسل، وإن صح فيُحمل على ما حُمل عليه ما قبله.
ويدل على ذلك : ما أخرجه أبو داود (2594)، والترمذي (1702)، والنسائي (6/45 - 46) بسند صحيح من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ابغوني الضعيف، فإنكم إنما ترزقون وتُنصرون بضعفائكم".
وقد تقدَّم بيان أن ذلك بإخلاصهم، وبدعائهم، ولما علم فيهم الله تعالى من الضعف، لا بجاههم.
الحديث العاشر
أخرجه أحمد في "مسنده" (5/422):
حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا كثير بن زيد، عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، جئت رسول الله، ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله".
ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم (4/515) وصححه.
قلت: وهذا سند منكر بمرة، غير معروف، بل هو من أوهام كثير بن زيد، فهو وإن كان صدوقاً في نفسه، إلا أنه قد تُكُلِّم في حفظه، قال أبو زرعة: "صدوق فيه لين"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال أبو حاتم: "صالح، ليس بالقوي، يُكتب حديثه"، وقال ابن معين في رواية ثالثة: "ليس به بأس"، وقال أحمد: "ما أرى به بأساً".
وأما المؤلف فخلط خلطاً عجيباً في تقوية هذا الحديث، ودلَّس تدليساً عريضاً لأجل الوصول إلى غرضه، فقال (ص: 234 - 235):
(داود بن أبي صالح قال عنه الذهبي في "الميزان" (2/9): "لا يُعرف"، وسكت عنه ابن أبي حاتم الرازي (الجرح 3/416).
وذكره الحافظ ابن حجر تمييزاً، وقال في "التقريب": مقبول.(2/331)
فإذا تشددت وأعرضت عن تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له لأن التصحيح هو توثيق للراوي، فهذا الإسناد فيه ضعف يسير يزول بالمتابعة، وداود بن أبي صالح قد تابعه المطلب بن عبد الله بن حنطب فيما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/189)، والأوسط (1/199)، وأبو الحسين يحيى بن الحسن في أخبار المدينة كما في شفاء السقام ص :152.
والمطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق يدلس، ومثله يصلح للمتابعة، صرح بالسماع أو لم يصرح، أدرك أبا أيوب أو لم يدركه.
فغاية هذا الإسناد أن فيه انقطاعاً يسيراً قد زال بالمتابعة المتقدِّمة.
وبهذه المتابعة يثبت الحديث ويصير من قسم الحسن لغيره). وهذا الكلام فيه مغالطات ومناقشات:
أولها : أن داود بن أبي صالح هذا مجهول، لم يرو عنه إلا كثير بن زيد، ولم يوثقه معتبر، إلا تصحيح الحاكم لحديثه، والحاكم متساهل كما تقدَّم بيانه، وأما ما ادعاه المؤلف من موافقة الذهبي له فغير صحيح، وغنما غاية أمر الذهبي أنه يذكر في تلخيصه حكاية حكم الحاكم على الحديث، وإن أراد التعقيب قال: "قلت: ...."، ومن ثم فليس ذكره لحكم الحاكم على الحديث موافقة له، لا سيما وأنه قال فيه في الميزان: "حجازي ، لا يُعرف، له عن أبي أيوب الأنصاري، روى عنه الوليد بن كثير".
وهذا وهم من الحافظ الذهبي، كما بينه الحافظ في "التهذيب"، فإنما روى عنه كثير بن زيد، فانقلب الاسم على الذهبي ووهم فيه.
وأما قول الحافظ فيه: "مقبول" فغير مقبول، لأنه لم يرو عنه غير واحد، ولا وثق ولا ضعف، فالذي تقرر في المصطلح أن مثل هذا يكون مجهول العين، ومثله لا يحتج بحديثه، ولا تنفعه المتابعة ولا يتقوى بها.(2/332)
ثانيها : أن الراجح أن ذكر هذا الراوي بهذا الاسم وهم من كثير ابن زيد كما تقدَّم ذكره، وذلك أن الرواية قد اختلفت على كثير في تسمية شيخه، فرواه الطبراني في "الأوسط" (284 و9366)، وفي "الكبير" (4/158) من طريق : سفيان بن بشرن حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، قال: قال أبو أيوب لمروان... فذكره دون ذكر القصة التي هي محل الشاهد من الحديث، والتي يحتج بها المؤلف على جواز إتيان القبر والتوسل بالجاه، وإن كان بميت.
وهذا إن دل على شيء فيدل على أن كثيراً قد اضطرب في رواية هذا الحديث، على هذين الوجهين، ولا يُقال: إن له فيه شيخين، فليس هو من الحفاظ المكثرين الذين يجوز تعدد الأسانيد عنهم، وهذا الوجه الأخير هو الراجح، لأن الوجه الأول لما سمى فيه شيخه سمى شيخاً مجهولاً تفرد بالرواية عنه، ولا يُعرف عند أهل العلم، وقد رجح الطبراني هذا الوجه الثاني، فقال:"لا يُروى هذا الحديث عن أبي أيوب إلا بهذا الإسناد، تفرد به حاتم".
أي أنه لا يُعرف - بمعنى لا يُحفظ - إلا من هذا الوجه، ذلك لأن الوجه الآخر غير معروف، بل هو من أوهام كثير بن زيد.
ثالثها : على تقدير أن الروايتين محفوظتان، فإن الرواية الأولى التي قد تفرد بها داود بن أبي صالح المجهول هي التي حوت محل الشاهد، وأما الرواية الثانية فقد خلت من محل الشاهد فيكون داود قد تفرد بهذه القصة، فهي ضعيفة ولا شك.
رابعها : أن الرواية الأولى تفرد بها مجهول عين، والرواية الثانية منقطعة، ومجهول العين لا تتقوى روايتهن ولا تقوي غيرها كما تقرر في المصطلح.
الحديث الحادي عشر والحديث الثاني عشر
فأما الحديث الحادي عشر فهو:(2/333)
"اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل... أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة أو في هذه العشية، وأن تجيرني من النار بقدرتك".
وأما الحديث الثاني عشر فهو:
" إذا ظنت أذن أحدكم فليذكرني، وليصلِّ عليَّ".
كلاهما قد وهاه المؤلف، فلا حاجة للتعليق عليهما.
الحديث الثالث عشر
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/615):
حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما اقترف آدم الخطيئة قالك يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يارب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق غليَّن ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك".
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أو حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب". وتعقبه الحافظ الذهبي فقال:
" قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ،...، رواه عبد الله ابن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا، عن إسماعيل بن مسلمة، عنه".
وحكم عليه في "الميزان" بالبطلان، وأعله بالفهري هذا، وقال الحافظ في "اللسان" (3/442):
" لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله، فإنه من طبقته".
يشير بذلك إلى عبد الله بن مسلم بن رشيد، الذي يروي عن الليث ومالك.
قال ابن حبان: "يضع على ليث ومالك وابن لهيعة".
وأخرجه الآجري في "الشريعة" (2/248-249):(2/334)
حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا أبو الحارث الفهري، قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن عبد الله ابن إسماعيل بن بنت أبي مريم، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب موقوفاً به.
فاضطرب فيه الفهري أو وضع له سنداً، ثم رواه على التوهم، فزاد فيه سعيد بن عمرو، وأوقفه على عمر - رضي الله عنه -.
وكذلك ففي السند عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف جداً من قبل حفظه، وإن كنت أرجح أن هذا الخبر قد وُضع عليه، وما أظنه حدَّث به.
بل الذي أرجحه أن الفهري قد سرق هذا الحديث من عثمان بن خالد العثماني، وأنشأ له هذا الإسناد، ورفعه تارة، وأوقفه أخرى.
فقد أخرج الآجري في "الشريعة" (2/246) من طريق: عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم عليه السلام قال:
" اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم عليك، قال الله عز وجل: يا آدم، وما يدريك بمحمد؟ قال: يارب، رفعت رأسي، فرأيت مكتوباً على عرشك لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك".
وعثمان بن خالد هذا متروك الحديث كما قال الحافظ في "التقريب"، وقد حدَّث عن مالك وغيره بأحاديث موضوعة وابن أبي الزناد متكلم فيه.
وقد ذكر المؤلف عدة متابعات واهية، وبيَّن ما فيها من الضعف، تبعاً لما ذكره العلامة الألباني - حفظه الله - في "التوسل".
إلا أنه عقب ذلك (ص: 247 - 248):
(وبعد كتابة ما تقدَّم ؛ وجدت لحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم شاهداً قوياً.(2/335)
فقد أخرج الحافظ أبو الحسن بن بشران، قال حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة، قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ قال: " لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وخلق العرش كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب أسمى على الأبواب، والأوراق، والقباب، والخيام، وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى: نظر إلى العرش ، فرأى اسمي، فأخبره الله أنه سيد ولدكن فلما غرهما الشيطان، تابا واستشفعا باسمي إليه ".
وأخرجه ابن الجوزي في الوفا.....
وذكره شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري - نوَّر الله مرقده- في الرد المحكم المتين (ص:138 - 139)، وقال: إسناد هذا الحديث قوين وهو أقوى شاهد وقفت عليه لحديث عبد الرحمن بن زيد. أ. هـ.
وكذا قال الحافظ ابن حجر.
قلت : إسناده مسلسل بالثقات، ما خلا راو واحد صدوق).
قلت: بل الحديث منكر بمرة بهذا اللفظ، بل لا أستبعد أن يكون موضوعاً.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (4/1/374) هذا الحديث عن محمد بن سنان العوقي، بسنده بلفظ:
" كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد ".
وتوارد الرواة على روايته عن العوقي بهذا اللفظ المختصر.
فأخرجه الحاكم (2/608)، والبيهقي في "الدلائل" (2/129): عن أبي النضر الفقيه، ومحمد بن سلمة العنزي، عن العوقي به باللفظ المختصر.
ثم تبين لي أن الحديث بهذا اللفظ المطول لا يُحفظ عن ابن بشران الذي عزى المؤلف الحديث إليه.
فقد أخرجه البيهقي في "الدلائل" (1/85):(2/336)
أخبرنا أبو الحسين بن بشران، ببغداد، قال: حدثنا أبو جعفر: محمد بن عمرو الرزاز، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال: حدثنا محمد بن سنان العوقي، قالك حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبياً؟ قال:
" وآدم بين الروح والجسد ".
فهذا هو المحفوظ من رواية ابن بشران، وهو إسناد صحيح، وليست فيه تلك الزيادة المنكرة، ولا فيه ذلك الراوي الذي اضطرب المؤلف في تحديده: (محمد بن صالح)، بل قد صرح أحمد بن إسحاق بن صالح بالسماع من العوقي.
وتابع العوقي عن إبراهيم على هذا الحديث باللفظ المختصر:
عثمان بن سعيد الدارمي عند الحاكم والبيهقي، ومعاذ بن هانيء البهراني عند ابن سعد في " الطبقات " (7/41).
وهذا كله يؤكد أن الحديث لا يصح إلا باللفظ المختصر.
والظاهر أن العلة في اللفظ المطول ممن هم دون ابن بشران، وقد تفرد ابن الجوزي بروايته بهذا اللفظ المطول المنكر من طريق ابن بشران، وهذا غريب جداً.
وعندي أن المؤلف قد اطلع على الرواية المختصرة للحديث من طريق ابن بشران ولابد، لأنه قد عزى الحديث إليها في الحاشية (ص:248)، وإنما تغاضي عنها لأن فيها إعلال الحديث باللفظ المطول، فتنبه ، وتمعن .
فإذا علمت ما سبق تبين لك سقوط قول المؤلف (ص:249) :
(فالصواب أن هذا الإسناد من شرط الحسن على الأقل، ويصححه من يُدخل الحسن في الصحيح من الحفاظ كابن حبان والحاكم ) .
الحديث الرابع عشر
ومتنه:
"من أراد أن يؤتيه الله حفظ القرآن وحفظ العلم فيكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل، ثم يغسله بماء مطر، يأخذه قبل أن يقع إلى الأرض، ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام، فإنه يحفظ بإذن الله:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يُسأل مثلك، أسألك بحق محمد رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك وصفيك، وموسى كليمك ونجيك، وعيسى كلمتك وروحك..." الحديث.(2/337)
قد حكم عليه المؤلف بالوضع، فلا تعقيب عليه فيه.
( المرجع : كتاب : هدم المنارة لمن صحح أحاديث الزيارة ، للشيخ عمرو عبدالمنعم سليم ، يرد فيه على القبوري المعاصر ممدوح سعيد ، ص 101 - 206 )
الشبهة(3) : الاحتجاج بالآثار الواهية
الأثر الأول :
أخرجه الإمام الدارمي في "السنن" (92):
حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله، قال:
قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت:
انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا منه كوّاً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً، حتى نبت العشبن وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.
قلت : ولا حجة فيه ألبتة لضعف سنده.
فإنه من رواية عمرو بن مالك النكري وهو صاحب غرائب ومناكير فقد ذكره ابن حبان في " ثقاته " ، وقال: " يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، يخطيء ويغرب "، ومن وصف بهذا الوصف لا يُحتمل من مثله التفرد.
وراويه عنه وهو سعيد بن زيد مثله في الضعف، أو أشد ضعفاً؛ فقد ضعفه يحيى بن سعيد جداً، وقال أبو حاتم والنسائي "ليس بالقوي"، وقال الجوزجاني: "يضعفون حديثه، وليس بحجة"، وقال البزار: " لين "، وقد تفرد بهذا الحديث، ولا يحتمل منه كذلك التفرد به.
وكذلك تفرد به عنه أبو النعمان - شيخ الدارمي - واسمه محمد ابن الفضل الملقب بـ "عارم" وهو ثقة حافظ، إلا أنه اختلط اختلاطاً شديداً بأخرة، فلا يُعلم هل سمع الدارمي منه هذا الخبر قبل الاختلاط أم بعده. ولو كان هذا الخبر صحيحاً فلم أحجمت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن إفتائهم بذلك لما قحطوا على عصر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ولماذا سكتت على تقديمه العباس - رضي الله عنه - على النبي صلى الله عليه وسلم ؟
وأما المؤلف فقد حسَّن هذا الإسناد، وقال (ص:255):
(هذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى).(2/338)
ونافح عمن جرح في إسناده على عادته في كتابه هذا - بل وفي عامة كتبه - ، ومعاذ الله أن تحيد أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالمسلمين عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلمفي الاستسقاء، إلى بدعة ممقوتة كهذه.
وإن سلمنا بثبوت هذا الأثر فلماذا انقطع به العمل، إذ لو صح العمل به فبإقرار خليفة المسلمين آنذاك، وبإقرار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان ذلك كذلك فلماذا لم يُعمل به بعد ذلك ؟
ولا بأس من إيراد أقوال المؤلف في توثيق الرواة المتكلم فيهم في هذا السند، والجواب عن مغالطاته وتدليساته.
1- محمد بن الفضل السدوسي الملقب بـ "عارم".
قال المؤلف (ص: 253 - 254):
(ثقة مشهور وإن كان قد اختلط بآخره فحديثه مقبول هنا لأمرين:
الأول : قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته (ص:462): عارم محمد بن الفضل اختلط بأخرة، فما رواه عنه البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهما من الحفاظ ينبغي أن يكون مأخوذاً عنه قبل اختلاطه. أ . هـ.
وعقَّب عليه الحافظ العراقي في " التقييد والإيضاح " (ص:4652)، فقال: وكذلك ينبغي أن يكون من حدَّث عنه من شيوخ البخاري ومسلم. أ. هـ.
قلت : عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي من شيوخ مسلم والبخاري فيكون الدارمي ممن حدَّثوا عن محمد بن الفضل السدوسي قبل اختلاطه ولابد).
قلت : ليس بالضرورة أن ما رواه عنه البخاري يكون مما سمعه منه قبل الاختلاط، بل لربما كان مما سمعه منه بعد الاختلاط، وإنما انتقى من حديثه ما صح عنده، أو أنه اطلع على كتابه، فإن المختلط ليس بالضرورة أن يكون كل ما حدَّث به بعد الاختلاط قد داخله فيه الوهم، وإنما يُعرف وهمه من صوابه بموافقته ومخالفته للثقات.
وليس أدل على ذلك مما أخرجه البخاري في "صحيحه" (4/205) من طريق : هشيم أخبرنا أبو بشر، وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن أبن عباس - رضي الله عنهما - ، قال:
{ الكَوْثَرَ}: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه.(2/339)
وهشيم ممن روى عن عطاء بعد الاختلاط، إلا أن رواية عطاء هذه مستقيمة، لموافقتها لرواية أبي بشر.
وعليه فليس بالضرورة أن يكون سماع شيوخ البخاري من عارم محمولة على أنها قبل الاختلاط، ولابد ، بل هذه إحالة على جهالة.
وليس أدل على ذلك من رواية البخاري ومسلم عن إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس، وهو متكلم فيه بكلام شديد، حتى انه وصف بالكذب وبالوضع وبسرقة الحديث.
قال الحافظ في "التهذيب" (1/273):
" وأما الشيخان فلا يُظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات".
وقال في "هدي الساري" (ص:388):
" وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها".
فمن هذا يُعلم أن ليس كل من أخرج له البخاري أو مسلم ممن تُكلم فيه بنوع ضعف من اختلاط أو وصف بكذب أو سرقة أن مثل هذا الوصف لا يثبت في حقه، أو أنه يكون ممن سمع منه قبل الاختلاط، لا، بل ربما يكون إخراجه لحديثه على وجه الانتقاء، فليُعلم هذان فإنه مهم جداً، وقد نبه عليه أهل العلم.
ثم قال المؤلف (ص:254):
(الثاني : قال الذهبي في ترجمة عارم: وقال الدارقطني: تغير بآخره، ما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو ثقة.
قلت - أي : الذهبي -: فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأتي بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان الخساف المتهور في عارم، فقال: اختلط في آخر عمر، وتغير حتى كان لا يدري ما يُحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعلم هذا ترك الكل، ولا يُحتج بشيء منها، قلت: ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً، فأين ما زعم. انتهى كلام الذهبي.
وأقر العراقي في " التقييد والإيضاح" الذهبي في دفعه لجرح ابن حبان، وصرح الذهبي في الكاشف بأنه تغير قبل موته فما حدَّث).(2/340)
قلت : من علم حجة على من لم يعلم، وإن كان الدارقطني، ومن ثمَّ الذهبي لم يقفا على حديث منكر أخطأ فيه، فقد وقف غيرهما عليه.
ففي سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود السجستاني قال أبو داود: كنت عنده، فحدَّث عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن ماعزاً الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، فقلت له: حمزة الأسلمي، فقال: يا بني ما عز لا يشقى به جليسه، وكان هذا منه وقت اختلاطه وذهاب عقله.
قلت: ومن وصفه بالاختلاط وزوال العقل من أئمة المحققين كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود وغيرهم، وهم ممن سمعوا منه، وهم أعلم بحاله من غيرهم، ممن أتى بعدهم، فإن كان من تأخر عنه لم يقف له على منكر، فمن عاصره وسمع منه قد وقعت لهم من مناكيره ما حكموا به باختلاطه.
2- سعيد بن زيد.
قال المؤلف (ص: 256):
(وأما سعيد بن زيد فتُكلم فيه، لكن وثقه ابن معين، وابن سعد، والعجلي، وسليمان بن حرب، وغيرهم.
وقد احتج به مسلم في " صحيحه ".
وقد كفانا الحافظ الذهبي مؤنة تفصيل القول في قبول حديثه بإيراده إياه في جزء "من تكلم فيه وهو موثق" (ص: 85)، وحديثهم لا ينزل عن درجة الحسن عنده كما صرح بذلك في مقدمة الجزء المذكور (ص: 27)، فلا تلتفت أيها المنصف بعد ذلك لمن يشغب عليك، ويضعف الرجال المخرج لهم في الصحيح).
قلت : لا يمكن غض الطرف عن أقوال من جرحه، لا سيما مع كثرتها من جهة، ومن جهة أخرى فتجريح يحيى بن سعيد له عن معرفة بحاله، فيقع موقع الجرح المفسر.
قال ابن المديني: سمعت يحيى بن سعيد القطان يضعف سعيد ابن زيد في الحديث جداًن ثم قال: قد حدَّثني وكلمته.
وأما من وصفه بالحفظ، فالظاهر أنه بمعنى سعة الرواية وكثرة محفوظاته، لا دقة ضبطه، وقد تقدَّم ذكر قرائن على ذلك، ومما يؤيد ذلك أن ابن حبان ذكره في "المجروحين"، وقال:"كان صدوقاً حافظاً، ممن يخطيء في الأخبار ويهم في الآثار حتى لا يُحتج به إذا انفرد".(2/341)
نعم هو صدوق في نفسه، إلا أنه لا يُحتمل من مثله التفرد بمثل هذا المتن المنكر.
3- عمرو بن مالك النكري.
قال المؤلف (ص: 256):
(وثقه ابن حبان، ولا يقول قائل: إنه من المجاهيل الذين يدخلهم كتابه الثقات، فالرجل روى عنه جماعة من الثقات، وعندما ترجمه ابن حبان في ثقاته قال ما نصه: عمرو بن مالك النكري كنيته أبو مالك، من أهل البصرة، يروي عن أبي الجوزاء، روى عنه حماد بن زيد، وجعفر بن سليما، وابنه يحيى بن عمرو، ويعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، مات سنة 129أ.هـ.
وأكثر من هذا أن ابن حبان ترجم لعمرو بن مالك النكري في مشاهير علماء الأمصار (ص:155) ضمن طبقة أتباع التابعين في البصرة وقال: وقعت المناكير في حديثه من رواية ابنه عنه، وهو في نفسه صدوق اللهجة. أ.هـ.
فأنت ترى أن ابن حبان عرف اسم الراوي، وكنيته، وبلده، وشهرته بالعلم، وعرف الرواة عنهن وانه قد سبر روايته بدليل قوله يعتبر حديثه.. الخ، وقوله وقعت المناكير..الخ).
قلت: أما أن ابن حبان قد عرف حال الراوي، فهذا مما لا جدال فيه، وأما أنه وثقه، فهذا غلط بيِّن عليه، وإنما أورده لأنه صدوق في نفسه، وأما ضبطه، فقد مرَّ القول فيه.
فقول ابن حبان : (صدوق اللهجة)، هذا مختص بعدالته، وأنه لا يتعمد الكذب، ولا يختص بالضبط، ففرق كبير بين: "صدوق في الحديث"، و"صدوق في اللهجة".
فاللهجة: وهي الكلام المعتاد والحديث الدائر على الألسنة شيء، لعدم اعتماده على الضبط، بل غالب اعتماده على العدالة وعدم الكذب، بخلاف الحديث، فإنه يعتمد على العدالة والضبط جميعاً، فتنبه إلى هذا المعنى فإنه مهم جداً.(2/342)
ومما يدل على أنه لم يوثقه من جهة الضبط أنه قالك "يعتبر حديثه من غير رواية ابنه"، والاعتبار لا يدل إلا على تمريض القول بالتوثيق، فإنه إن كان ثقة فلا حاجة على اعتبار حديثه، فقد جاز القنطرة، وأما إن اشترط اعتبار حديثه، فهذا لأجل سبره والوقوف على ما إذا كان وافق الثقات أو خالفهم، أو انفرد عنهم بشيء لا يُحتمل منه، والاعتبار معناه معروف، مشهور، قد نقله ابن الصلاح عن ابن حبان في "علوم الحديث"، وخصه بما وافق فيه الراوي الثقات.
ومما يؤيد ذلك أن الحافظ ابن حجر نقل عنه في "التهذيب" كلامه السابق، وزاد فيه: "يخطيء ويغرب".
إلا أن المؤلف قد طعن في هذه الزيادة، فقال (ص: 257):
(وقع في التهذيب (8/96) زيادة على كلام ابن حبان، لم أجدها في الثقات، هي :"يخطيء ويغرب"، وهي سبق قلم بنى عليها الحافظ قوله: له أوهام).
قلت: وهذا فيه نظر، وقد مرت عليَّ جملة من التراجم أوردها الحافظ في "التهذيب" وعزاها إلى الثقات، وهي غير موجودة في "المطبوعة"، وقد حوت بعض هذه التراجم أخباراً مسندة، وهذا يمنع من القول بأنها سبق قلم أيضاً.
وعلى فرض التسليم للمؤلف في طعنه في هذه الزيادة، فإنه قد ثبت من وجه آخر عن ابن حبان أنه لم يوثق عمرو بن مالك النكري هذا، بل ذهب إلى التوقف في حاله، وتركه حتى يستبين أمره.
قال ابن حبان في "المجروحين" (3/114) في ترجمة يحيى بن عمرو بن مالك النكري:
" يروي عن أبيه، عن أبي الجوزاء، روى عنه عبد الله بن عبد الوهاب والبصريون، كان منكر الرواية عن أبيه، ويحتمل أن يكون السبب في ذلك منه أو من أبيه، أو منهما معاً، ولا نستحل أن يطلق الجرح على مسلم قبل الاتضاح، بل الواجب تنكب كل رواية يرويها عن أبيه لما فيها من مخالفة الثقات والوجود من الأشياء المعضلات، فيكون هو وأبوه جميعاً متروكيْن من غير أن يطلق وضعها على أحدهما، ولا يقربهما من ذلك لأن هذا شيء قريب من الشبهة".(2/343)
فهذا القول لابن حبان يبين معنى قوله: "يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه"، وأن ذلك ليس تعديلاً، بل توقف في حاله.
ومما يدل على ضعف النكري أيضاً ما أورده عبد الله بن الإمام أحمد - رحمهما الله - في " المسائل " (ص: 89):
" لم تثبت عندي صلاة التسبيح، وقد اختلفوا في إسناده، لم يثبت عندي، وكأنه ضعف عمراً بن مالك النكري ".
وأما المؤلف فرد هذا القول بحجة واهية، فقال (ص:258):
(" كأن " ظن لا تقوم به حجة، وذلك كقول الحافظ ابن حجر في ترجمة الحسن بن موسى الأشيب في مقدمة الفتح: روى عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه قال: كان ببغداد - أي الحسن بن موسى - وكأنه ضعفه.
قلت - أي الحافظ - : هذا ظن لا تقوم به حجة.
أضف إلى كونه ظناً مرجوحاً أنه جرح غير مفسر، حكمه الرد في مقابل التعديل كما تقرر في علم الحديث).
قلت: فليبك على العلم من كان باكياً، وهكذا فليكن الجهل بالحديث وبمدلولات ألفاظ العلماء، وهكذا فليكن التدليس وبتر العبارات.
أما ما بنى عليه المؤلف قوله أن "كأن " ظن لا تقوم به حجة، فقد بتر باقي عبارة الحافظ ابن حجر، لكي لا ينكشف تدليسه.
وتمام عبارة الحافظ في " مقدمة الفتح ":
" روى عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه قال: كان ببغداد وكأنه ضعفه.
قلت: هذا ظن لا تقوم به حجة، وقد كان أبو حاتم الرازي يقول : سمعت علي بن المديني يقول: الحسن بن موسى الأشيب ثقة، فهذا التصريح الموافق لأقوال الجماعة أولى أن يعمل به من ذلك الظن".
ولا شك أن ثمة بون شاسع بين الراويين فالحسن بن موسى من الرواة المجمع على توثيقهم، وهم من طبقة مشيخة احمد، وابن المديني وغيرهم، وقد وردت رواية أخرى تدل على أن ابن المديني قد وثقه.
ثم إن عبارة عبد الله بن علي بن المديني لا تدل على أن الجرح قد وقع من أبيه، لأنه إنما نسبه، ولم يتكلم على شيء من حديثه.(2/344)
وهذا بخلاف عمرو بن مالك النكري فإنه ما وثقه أحد، إلا ما كان من أمر ابن حبان، وقد تقدَّم ما يدل على أنه قد توقف فيه، وترك الاحتجاج به، ولم يوثقه معتبر بحيث إذا خولف، رجحنا التوثيق بأن الحكاية مبنية على الظن.
ثم إن ثمة فرق بين الراويين لهاتين الحكايتين، فأما عبد الله بن الإمام أحمد فمن أئمة المحققين في هذا العلم، وممن لهم باع كبير فيه وقد لازم أباه، وتلقى عنه، وسمع منه الكثير والكثير ، فهو أعلم بما تقتضيه ألفاظه وحركاته في الرواة، بخلاف عبد الله بن علي بن المديني هذا، فإنه غير مشهور بالطلب، ولا بالسماع، وقد ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد (10/9)، ونقل عن حمزة السهمي قوله:
سألت الدارقطني عن عبد الله بن علي بن عبد الله المديني روى عن أبيه كتاب العلل، فقال: إنما أخذ كتبه، وروى أخباره مناولة، قال: وما سمع كثيراً من أبيه، قلت: لم؟ قال: لأنه ما كان يمكِّنه من كتبه.وثمة فرق كبير بين المناولة، وبين السماع والقراءة ، بل المناولة تدل على أنه لم يوافِ أباه بكتبه سماعاً، فكيف له أن يبني ظناً كهذا بتضعيفه، وهو لم يسمع من أبيه، ويخالف من هو أوثق منه بمراحل كأبي حاتم الرازي.
وكذلك فثمة فارق كبير بين السؤال الذي حكم عليه الحافظ ابن حجر بأن الحكم فيه بالتضعيف ظن، وبين سؤال عبد الله للإمام أحمد، فالأول إنما نسب الرجل، وهذه النسبة لا تقتضي الجرح، فلعل عبد الله بن المديني بنى ظنه بالجرح على أن أباه قد نسبه، وسكت فلم يتكلم فيه بشيء، وهذا لا يقتضي جرحاً.
وأما سؤال عبد الله بن أحمد فمقتضاه التضعيف للنكري ذلك لأنه قد سال أباه عن حديث صلاة التسبيح، فضعفه، وهذا يقتضي تضعيف رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في صلاة التسبيح، وهذه الرواية قد أخرجها أبو داود (1298):(2/345)
حدثنا محمد بن سفيان الأبلي، حدثنا حبان بن هلال أبو حبيب، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، قال: حدثني رجل كانت له صحبة... فذكره.
قلت: ورواة هذا السند جميعهم موثقون إلا عمرو بن مالك النكري هذا، فإذا أطلق الإمام أحمد القول بضعف الحديث، فهذا مقتضاه ضعف النكري هذا.
ثم وجدت بعدُ ما يدل على أن الإمام أحمد - رحمه الله - قد جرح عمراً بن مالك النكري هذا.
فقد أخرج الخلال - كما في النقد الصحيح للعلائي0ص:32) - قال: قال علي بن سعيد : سألت أحمد بن حنبل عن صلاة التسبيح، فقال: ما يصح فيها عندي شيء فقلت: حديث عبد الله بن عمرو؟ قال: كل يرويه عن عمرو بن مالك، يعني فيه مقال، فقلت: قد رواه المستمر...
وقد حقق المؤلف كتاب النقد الصحيح للعلائي وأورد هذا النص فيه (ص:42)، ولم يورد ضمنه محل الشاهد: (فيه مقال).
ويبقى الآن الجواب عما أورده المؤلف من توثيق الذهبي لعمرو ابن مالك النكري، قال (ص:258):
(فتوثيق عمرو بن مالك بعد ذلك البيان لا مرية فيهن وهو ما صرح به الحافظ الذهبي في " الميزان " 3/286، وفي "المغني" 2/489).
قلت : إنما أطلق الذهبي توثيق هذا الراوي مقارنة بغيره ممن اشترك معه في الاسم.
ففي " المغني " (2/488 - 489):
"4699 - ت/ عمرو بن مالك الراسبي البصري، لا النكري شيخ للترمذي، قال ابن عدي: كان يسرق الحديث، وضعفه أبو يعلى، وحدثنا عنه، قلت: فأما:
4700- عه/ عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء و
4701 - عه/ عمرو بن مالك الجنبي عن الصحابة، فثقتان ".
فقارن بين النكري والجنبي، وبين الراسبي، ومايز بينهم، فذكر الراسبي بالتوهين، ثم أورد هذين الراويين، ووصفهما بالتوثيق كي لا يختلط ذكرهما على أحد من الباحثين، فيظن أنهما هما نفسهما الراسبي المتهم، وكذا فعل في "الميزان".(2/346)
وقد تقدَّم بيان ما في هذه المسألة، وأن هذا لا يقتضي التعديل. والظاهر عندي أن الباعث لديه على ذلك خلط ابن عدي بينهما، فقد ترجم للراسبي، إلا أنه سمَّاه عمرو بن مالك النكري، فخلط بين الاثنين، ولذا قال الذهبي في "الميزان" (3/285):"عمرو بن مالك الراسبي البصري، لا النكري..".
ومما يدل على أنه لم يوثق النكري هذا أنه قد أورده في "الكاشف" (2/4287)، وقال: "وثق".
وهذا الوصف أتى بصيغة التمريض، وهذا مشعر بأن المعتمد فيه ذكر ابن حبان له في الثقات، وقد تقدم بيان ما فيه.
ثم وجدت بعد ذلك ما يدل على أن البخاري قد ضعفه أيضاً.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (2/1/16) في ترجمة أوس بن عبد الله أبي الجوزاء:
قال لنا مسدد ، عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من القرآن آية إلا سألتهم عنها.
قال البخاري : " في إسناده نظر".
قلت : ورواة هذا السند محتج بهم إلا النكري هذا، فهو آفة هذا السند، وهو المعني بقول البخاري: " في إسناده نظر ".
قال الحافظ ابن حجر في التهذيب" (1/336):
" وقول البخاري : في إسناده نظر، ويختلفون فيه، إنما قاله عقب حديث رواه له - (أي لأبي الجوزاء)- في "التاريخ" من رواية عمرو بن مالك النكري، والنكري ضعيف عنده".
بل قد صح عن ابن عدي ما يدل على تضعيفه للنكري الذي يروي عن أبي الجوزاء، فقد نقل الحافظ في "التهذيب" (1/336) عن ابن عدي قوله:
"حدَّث عنه عمرو بن مالك قدر عشرة أحاديث غير محفوظة".
قلت : وهو عند ابن عدي في "الكامل" (1/402).
وبذلك يتبين للقاريء الكريم ضعف هذا الأثر ونكارته، بل لو صح لم يكن فيه حجة على جواز التوسل بالذات، فإنهم إنما فتحوا كوة من القبر إلى السماء، ولم يرد أنهم قد توسلوا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم أحدثوا دعاءً خاصاً، والله الموفق.
الأثر الثاني :
أخرجه ابن أبي شيبة:(2/347)
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن مالك الدار، قال: وكان خازن عمر على الطعام، قال:
أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام، فقيل له: ائت عمرن فأقرئه السلام وأخبره أنكم مسقيون، وقل له عليك الكيس، عليك الكيس، فأتى عمر فأخبره، فبكى عمر، ثم قال: يارب، لا آلو إلا ما عجزت عنه.
قلت : وهذا سند صحيح إلى مالك الدار.
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/47)، والخليلي في "الإرشاد" (1/313-314).
وأشار الحافظ في "الفتح" (2/397) إلى أن سيف بن عمر قد ذكر في "الفتوح" أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني، أحد الصحابة.
ثم وجدته من طريق سيف عند ابن جرير في "التاريخ" 02/508).
وهذا القول ساقط لوهاء سيف بن عمر، قال أبو حاتم الرازي: "متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي"، وقال أبو داود: "ليس بشيء"، وقال الحاكم: "أتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط"، وقال ابن حبان: "يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث".
قلت :
وقد أعل بعض أهل العلم هذا الخبر بجهالة مالك الدار وليس هو بمجهول ، بل له ترجمة في " الإرشاد " للخليلي (1/313) قال:
" تابعي قديم ، متفق عليه، أثنى عليه التابعون".
وله ترجمة في " الطبقات " لابن سعد (5/6)، و"الإصابة" للحافظ أبن حجر (3/461)، وقال: " له إدراك ".
قلت : العلة في الخبر من ذلك الرجل المجهول صاحب الرؤية، فإنه لم يُسم.
إلا أن المؤلف قد رد هذه العلة بسذاجة فقال (ص:277):
(وأما العلة الرابعة، وهي قولهم: إن صحت الرواية فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يسمن وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئاً، لأن سيفاً متفق على ضعفه.(2/348)
قلت: نعم سيف شديد الضعف، لكن الجائي إلى القبر الشريف سواءً كان صحابياً أو تابعياً لا يضر الجهل به، لأن الحجة في إقرار سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - لعمله حيث لم ينهه عما فعل ، بل أقره، وبكى عمر - رضي الله تعالى عنه - ، وقال: يارب ما آلو إلا ما عجزت عنه).
قلت: هذه الحادثة لم يشهدها مالك الدار كما يظن المؤلف، بل تلقاها عن هذا الرجل المبهم المجهول ، فإننا إن سلمنا أنه قد عاين مجيء الرجل إلى القبر، ومجيئه إلى عمر، فلن نسلم أنه قد عاين رؤيا الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، لأن ذلك يستحيل، فلا بد أن يكون قد أُخبر بذلك، ولا سبيل للإخبار بذلك إلا عن طريق ذلك الرجل المبهم، ومن ثم فلا مناص من الإقرار بتلقي مالك الدار لهذا الخبر من الرجل، وهذا كاف لإعلال الخبر.
ويؤيد ذلك لفظ الخبر عند ابن أبي شيبة، فإن فيه:
فأُتِي الرجل في المنام، فقيل له: أئت عمر ...
فالفعل قد بُني للمجهول ولا يقتضي أن الذي أتاه في الرؤية هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد قول عمر - رضي الله عنه - : يارب لا آلو إلا ما عجزت عنه، فإن كان الآتي هو النبي صلى الله عليه وسلم، لعُلم ذلك من جواب عمر ، كأن يكون الاعتذار إليه، وإن كان ذلك كذلك فلا مفر من إثبات أن مالك الدار قد تلقى هذا الخبر من ذلك المبهم، ولو كان ثقة، فإن عمر لم يدر بما فعله الرجل من إتيان القبر ومن ثم فلم ينكر عليه، وعدم إنكاره لا يقتضي إقراره بحال.
ثم إننا لو سلمنا بصحة الخبر فليس فيه ما يدل على أن الرجل قد أخبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمجيئه إلى القبر، ومن ثم فلا يُقال: إنه قد أقره على هذا الفعل.(2/349)
ولو سلمنا انه قد فعل وأخبر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بإتيانه القبر، فليس في الأثر ما يدل على أنه قد توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دعا عنده، بل غاية ما فيه أنه قد طلب منه أن يستسقي لأمته، وبينهما بون شاسع كما يظهر لكل منصف.
ثم إن في هذا الخبر من النكارة ما يدل على سقوطه، فهو مخالف لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته في الاستسقاء، بل لم يصح عن أحد من الصحابة فعل هذا الفعل الذي فعله الرجل، بل ما تقدَّم من حادثة استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس - رضي الله عنهما - عم النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك لم يكن معروفاً عندهم، ولا عُمل به في عصرهم.
( المرجع : كتاب : هدم المنارة لمن صحح أحاديث الزيارة ، للشيخ عمرو عبدالمنعم سليم ، ص 208 - 228 )
الشبهة(4) : اعتقادهم أن الأنبياء والأولياء أحياء في قبورهم فلا مانع من التوسل بهم
ويستدلون على ذلك بما يلي:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، بدليل قوله تعالى: { وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا } [الأحزاب: الآية 53] . قالوا: فالنبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ولذلك لا تجوز مناكحة أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحي لا يجوز نكاح زوجته.
الرد على هذه الشبهة باختصار ما يلي:
إن هذا القول الذي قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله أحد من المفسرين السابقين، وإنما هو قول مبتدع، وتفسير - بل تأويل - باطل من قبل هؤلاء المتأخرين. وكل خير في اتباع مَن سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.(2/350)
ثم إن الصحيح الذي لا مرية فيه: أن حياة الأنبياء برزخية لا نعرف كنهها، وليس ما ذكروه فيه أي دليل على كون تحريم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأجل حياته صلى الله عليه وسلم، وإنما لكونهن كالأمهات، فكما أن الأمهات لا تنكحهن الأولاد بعد موت الآباء فهنا أيضًا هكذا. وأدل دليل على هذا ذهاب بعض العلماء إلى أن مطلقة رسول الله أيضًا لا تحل لأحد.
أو لأنهن زوجاته في الآخرة.
أو لإكرام النبي صلى الله عليه وسلم أن يطأهن أحد بعده.
أو لإكرامهن أيضًا: حيث قصرهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصره عليهن خير لهن.
أو أن الله عز وجل أعطاهن هذا الفضل لما صبرن على الرسول في حياته دون التفات إلى متاع الحياة الدنيا. قال ابن القيم :
لكن رسول الله خص نساؤه
خيرن بين رسوله وسواه فاختـ
شكر الإله لهن ذاك وربنا
قصر الرسول على أولئك رحمة
وكذاك أيضًا قصرهن عليه معـ
بخصيصة عن سائر النسوان
ـرن الرسول لصحة الإيمان
سبحانه للعبد ذو شكران
منه بهن وشكر ذي الإحسان
ـلوم بلا شك ولا حسبان
5- لا تلازم بين الحياة وبين طلب شيء منهم، فمثلاً: هؤلاء شهداء أحد معروف مكانهم وفضلهم، معروفة قبورهم، لم يذهب إليهم أحد من المسلمين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ولا بعد مماته يسألونهم الدعاء والشفاعة ولا توسلوا بهم.
وهم أحياء حياة برزخية بنص القرآن: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: الآيات 169-171].(2/351)
فلماذا ترك أولئك طلب الدعاء من هؤلاء الشهداء؟ بل الثابت عنهم أنهم كانوا يدعون لهم، لا أنهم يسألونهم الدعاء. وهم أحياء بنص كريم، لكن حياتهم ليست كحياتنا على الأرض. نعلم منه أنهم وإن كانوا أحياء حياة برزخية لا نعلم حقيقتها فهي مختلفة في ما يقدرون عليه عن حياتهم في الدنيا.
6- أخرج مسلم في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول: " إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم". وفقه هذا الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمر أن يطلب الدعاء من أويس وهو تابعي، وأين منزلته من منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يدعو له المفضول ويترك طلب الدعاء من خير الخلق في قبره، وهذا دليل واضح في أنَّ الفرق هو تغير نوع الحياة، وقدرة الحي على الدعاء للمعين، بخلاف من حياته برزخية.
فإذا كان هذا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحسن حالاً في القبر على الإطلاق، فكيف بمن يطلب الدعاء من الآخرين؟
ثم إن الأولياء - الذين يذهبون إلى قبورهم ويتوجهون إلى مشاهدهم طالبين لهم الدعاء - ليس لهم أي دليل على وجود حياتهم مثل حياة الأنبياء والشهداء، وإنما قاسوا على حياة الأنبياء والشهداء، ومعلوم أن هذا قياس مع الفارق؛ إذ لا دليل على وجود الحياة لأوليائهم في قبورهم.
ب- زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره بدليل عدم قسمة تركته، كما جاء في الحديث النبوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا نُورث ما تركناه فهو صدقة". قالوا: إن علة النهي عن قسمة التركة كونه حيًّا في قبره حياة دنيوية، فإن الحي لا يورث.(2/352)
ويُرد على هذا القول: بأن العلة ليس كونه حيًّا كما زعمته المتصوفة، بل قد ذكر الرسول الحكمة فيه في نفس الحديث بأن ما تركه صدقة. وقد جاء في رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة".
جـ- استدلال القبورية المتصوفة بقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: الآية 64].
وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وإلاَّ لما جاز طلب الاستغفار منه، وما دام أنه حي في قبره وقد أمر في الآية بطلب الاستغفار منه، فإنه يكون مرغوبًا فيه وليس منهيًّا عنه.
يجاب عن هذا الاستدلال بما يلي :
إن الآية وردت في قوم معينين، وليس هناك لفظ عام حتى يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا لخصوص المورد، بل الألفاظ الدالة الواقعة في هذه الآية كلها ضمائر. وقد ثبت في مقره أن الضمائر لا عموم لها.
إن المقصود بهذه الآية المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فقط، فإن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين دعوا إلى الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فصدوا واحتكموا إلى الطاغوت، فظلموا أنفسهم، ولم يجيئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبين منيبين ليستغفر لهم.
إن اللفظ العام لا يتناول إلا ما كان من أفراده، والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى عين الرجل لا لغة ولا شرعًا ولا عرفًا، فإن المجيء إلى الرجل ليس معناه إلاَّ المجيء إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا.(2/353)
(إن أَعْلَمَ الأمة بالقرآن ومعانيه هم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم، فلم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته، ليستغفر لهم،... فما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله، فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت.
أفترى عطّل الصحابة والتابعون وهم خير القرون على الإطلاق هذا الواجب الذي ذمَّ الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفَّق له من لا توبة له من الناس ولا يُعد من أهل العلم؟ وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومَن لهم لسان صدق في الأمة فلم يدعوا إليه ولم يحضوا عليه ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم ألبتة، بل المنقول الثابت عنه ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهي عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية...
ومما يدل على بطلانه قطعًا: أنه لا يشك مسلم أن من دُعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء وأباه مع قدرته عليه كان مذمومًا غاية الذم مغموصًا بالنفاق، ولا كذلك من دُعي إلى قبره ليستغفر له، ومن سوّى بين الأمرين وبين المدعوين وبين الدعوتين فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق...(2/354)
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ}، وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذمَّ من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم إن من الواجب على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطّلوها، ووفَّق لها هؤلاء الغلاة والعصاة. وهذا بخلاف قوله: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}؛ فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حيًّا وميتًا، ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه.
يوضح ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا قبري عيدًا". ولو كان يشرع لكل مُذْنِب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المُذنبين،وهذا مضادة صريحة لدينه وما جاء به)
ثم على هذا التفسير الذي ذكره في الآية بأن المراد منها حثَّ الناس على طلب الاستغفار منه، (على هذا التفسير أن الآية حُكمها مستمر، فكما أن مجيء مَن ظلم نفسه إليه صلى الله عليه وسلم في حياته واستغفاره عنده شرط لقبول توبته فهو شرط أيضًا في قبول توبة من ظلم نفسه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا بد من مجيئه إلى قبره صلى الله عليه وسلم واستغفاره عنده، واستغفار الرسول له. ولا يخفى ما في هذا من المناقضة لكتاب الله تعالى وسنّة نبيه وما عليه المسلمون...).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1211-1218) .
الشبهة(5) : الحكايات التي يتناقلونها عن استجابة أهل القبور
وهذه الشبهة من أقوى الشبه لدى المتصوفة، ويمكن أن تُسمى بشبهة التجربة.
الردود على هذه الشبهة بما يلي:-(2/355)
1- أن العلماء قد صرَّحوا بأن هذه الحكايات التي تناقلتها المتصوفة لدعوة المضطرين إلى الاستغاثة بالأموات بحجة أن هذه الحكايات كرامات لهؤلاء الأولياء، هي محض الأساطير، وعين الأكاذيب، وليست هي من الكرامات، بل هي أباطيل الحكايات؛ لأن رواتها هم هؤلاء القبورية السفهاء. ومعروف أنهم أكذب الناس، ومعادن الكذب، وبيوت الكذب، وبيوت الإفك، فلا اعتبار لرواياتهم. فهم في نقل هذه الحكايات كذبة فسقة.
2- أن قضاء الحوائج عند الاستغاثة بالموتى ليس لأجل الاستغاثة بالموتى، بل ذلك بمحض قدرة الله تعالى وتقديره المقدر بوقته، فيصادف ذلك الاستغاثة بالموتى، فيظن المستغِيث أن المستغَاث به هو الذي قضى حاجته، فيُعد ذلك من كرامته ويجعله دليلاً على كونه وليًّا متصرفًا في الكون.
3- أن العلماء صرَّحوا في الجواب عن تلك الحكايات الشركية بأن كثيرًا ما تُقضى حاجات المستغِيثين بالأموات، لا لأجل أنه استغاث بالمقبور، بل لأجل أن هذا المستغِيث يكون مضطرًا مكروبًا فيدعو بحرقة وانكسار وذلة، فيستجيب الله تعالى له، ويقضي حاجته، لصدق توجهه وتضرعه، واضطراره، وانكساره، وذلته، ولكن الجاهل يظن أن للمقبور تأثيرًا في إجابة تلك الدعوة وقضاء تلك الحاجة.
4- أن العلماء قد صرَّحوا في الجواب عن حكايات القبورية بأن الله تعالى كثيرًا ما يستجيب دعاء الكفار والمشركين عند أصنامهم لاضطرارهم، وإظهار انكسارهم، لموافقته أوقات الإجابة، ولِمَا قام من العبودية بقلبه، فيُجيب الله تعالى دعاء المضطر، ولو دعا في الخانة، والخمارة، والحمام، والسوق، بل قد يستجيب لمن يدعو عند الأوثان، فيظن الجاهل أن للمقبور تأثيرًا في قضاء الحوائج واستجابة الدعاء.(2/356)
5- أن العلماء قد صرَّحوا بأنه كثيرًا ما تُقضى حوائج القبورية عند التجائهم إلى القبور وأهلها، ولكن لا لأجل أن للمقبور تأثيرًا في ذلك، بل يحدث ذلك استدراجًا من الشياطين لهذا القبوري المشرك الذي يستغيث بالأموات فتأتي الشياطين وتساعده في بعض حاجاته استدراجًا له، وازديادًا له في الإضلال والإغواء، بل قد تطيعه الشياطين فيقضون بعض حوائجه لما بينه وبينهم من الصلة والأخوة بسبب الشرك وعبادة غير الله تعالى من الاستغاثة بالأموات. وكثيرًا ما تتمثل له الشياطين في صورة صاحب القبر وتكلمه، فيرى أن القبر قد انشق وخرج منه المقبور وهو يظن أنه ذلك الولي فيعانقه ويكلمه، فيُعد ذلك من كراماته، وهكذا تلعب الشياطين بالقبورية والمتصوفة كما كانت تلعب بالكفار عبدة الأصنام.
6- قد يكون سبب كوني معقول لقضاء بعض حوائج المتصوفة عند بعض القبور، فقد يكون لأحد فرس مريض بمرض الإمساك الشديد، والقبض المؤلم بحيث لا يستطيع أن يتروث، فيذهب به صاحبه إلى بعض القبور التي يكون المقبور فيه كافرًا، أو فاجرًا، يُعذب عذابًا شديدًا، ويصيح صيحات مرتفعة مخيفة مهولة، فيسمعها ذلك الفرس، فيخاف خوفًا شديدًا بحيث يسهل ويتروث من شدة الخوف، فيزول منه الإمساك فيتعافى، فيظن ذلك الرجل - صاحب الفرس- أن المقبور قد قضى حاجته، وشفى فرسه، مع أن الفرس قد تعافى بسبب الإسهال الذي حدث له لأجل خوف شديد لما سمع من صراخ ذلك المقبور الذي كان يُعذب في قبره. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مثل هذه القصة في بعض كتبه.(2/357)
7- أن العلماء قد صرَّحوا بأنه لو سُلِّم صحة بعض تلك الحكايات فغاية ما فيها أن ذلك قد يكون سببًا لقضاء الحاجة، ولكن لا يلزم من ذلك جواز الاستغاثة بالأموات، والتضرع عند القبور، والالتجاء إلى أهلها لدفع الكربات وجلب المنافع؛ لأنه لا يجوز تناول كل سبب من الأسباب إلاَّ ما هو مباح شرعًا منها؛ لأنَّ الأسباب منها ما هو حرام، ومنها ما هو مباح، ولا ريب أن الاستغاثة بالأموات والالتجاء إلى القبور وأهلها لدفع البليات، وجلب المنافع من الأسباب المحرمة في دين الله تعالى، فلا يجوز تناول هذا السبب أبدًا؛ لأن الاستغاثة عبادة، بل مُخ العبادة، فصرفها لغير الله شرك قطعًا.
وكم من عبد دعا بدعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان ذلك سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، وكثير من الكفار والمشركين يدعون عند الأوثان فيُستجاب لهم، وكثير من المقاصد تحصل بأسباب محرمة قطعًا كالسحر، والتكهن، وشهادة الزور، والفاحشة، والظلم، والسرقة، والخمر، بل الشرك، والكفر قد يحصل بهما بعض المقاصد، فليس كل مَن قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون مشروعًا؛ فلا يجوز تعاطي الأسباب المحرمة لإنجاح المقاصد. فهذا الجواب يعرفنا أيضًا: أنَّ الغاية لا تبرر الوسيلة كما هو لدى بعض الحركيين.(2/358)
8- لا يمكن إثبات شرع الله تعالى بمثل هذه الحكايات من العوام والجهلة والمتصوفة، فإن هذه الحكايات إنما نسمعها عمن ليس قوله حجة من الحجج الشرعية، فلا يجوز إثبات الشرع بمثله ولا إثبات العبادات أيضًا بمثله. وإنما المتبع في إثبات الأحكام والعبادات إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهو سبيل السابقين الأولين من هذه الأمة، فلا يجوز إثبات حكم شرعي دون هذه الأصول الثلاثة نصًّا، أو استنباطًا بحال أصلاً عند المسلمين. وإثبات الشرع بمثل هذه الحكايات إنما هو دأب اليهود والنصارى وأمثالهم ممن ينقلون عن غير الأنبياء؛ فإن لديهم مثل هذه الحكايات شيء كثير.
9- أن العلماء قد أجابوا عن تلك الأقوال التي يذكرها المتصوفة في كتبهم عن كثير ممن ينتسبون إلى العلم والفقه والفضل والزهد بأن بعض هذه الأقوال المنقولة عن هؤلاء ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب، أو قاله بقيود أو شروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرَّف النقل عنه. وبعضهم قد لا يريدون بلفظة التوسل الاستغاثة بالأموات، ولكن المتصوفة حرَّفوا عباراتهم وجعلوا التوسل هو الاستغاثة بالأموات.
10- أن كثيرًا ممن ينتمون إلى العلم والفضل والصلاح والزهد وقعوا في الشرك بالله، والاستغاثة بالأموات، وبأفعالهم، وأقوالهم الشركية، لأجل عادة العوام التي جروا عليها، لا لأجل أن لهم دليلاً شرعيًّا على ذلك، ولكن لما كان خطؤهم عن حسن قصد ونية صالحة، ونبهوا على خطئهم انتبهوا ورجعوا عن تلك الشركيات دون عناد أو إصرار.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1218-1220) .
الشبهة (6) : شبهة الكرامة
وذلك؛ أن هؤلاء المتصوفة في اعتقادهم التصرف في الكون تجاه الأولياء والصُّلحاء يرون حصول هذه الأشياء لهم عن طريق الكرامة، إذ كرامات الأولياء مسألة ثابتة عند أهل السنَّة والجماعة (على شروط معينة - كما ستأتي-).(2/359)
لقد تشبثت المتصوفة لاعتقادهم التصرف في الكون، وتفريج الكربات تجاه أوليائهم الذين يَستغِيثون بهم عند الشدائد بقولهم: إنه يجوز الاستغاثة بهم عند الملمات، بحجة أن الله تعالى أكرمهم بالكرامات التي بها يقتدرون على كشف كُرب المكروبين، وإجابة دعاء المضطرين، وبها يتصرفون في الكون، وبها يعلمون حال الداعين، وبها يسمعون نداءهم.
وهذه الشبهة من أهم الشبهات التي يذكرها عامة القبورية في كتبهم.
ويقولون: إن الكرامة تظهر من الولي بقصده وبغير قصده.
وقصدهم بذلك أن الأولياء لهم قدرة على التصرف في الكون، وأن ذلك منهم كرامة، وأن الكرامة لا تنقطع بعد الموت، وجازف بعض أئمتهم فقال: (الولي في الدنيا كالسيف في غمده فإذا مات تجرد منه، فيكون أقوى في التصرف).
وهكذا نرى أئمة التصوف يصرّحون بأن الأولياء أقوى تصرفًا وقدرة بعد الموت منهم في حياتهم. فينفع بعد مماته أكثر مما ينفع في حياته.
يُرد على هذه الشبهة بما يلي:
إنه لا ملازمة بين الكرامات وبين الاستغاثة بصاحبها؛ لأن الكرامة لا تقتضي جواز الاستغاثة بصاحبها ولا تبيحها، بل الاستغاثة بأصحاب الكرامات ليست إلا طريقة أهل الأوثان، وأما أهل الإيمان فليس لهم غير الله دافع، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي ومَلَك وولي أو غيره على وجه الإمداد إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.
إن الكرامة أمر خارق للعادة يظهرها الله تعالى على يد ولي من أوليائه دون اختياره، وهي من فعل الله عز وجل ولا يد للولي فيها، بل ليس للولي كسب في الكرامة.(2/360)
إن العلماء صرَّحوا بأن الكرامة بمعنى صدور أمر خارق للعادة تسلب بعد موت الولي. فإن الحكمة في صدور الكرامة - كما يقول العلماء - هو التثبت على الحق واليقين والاجتهاد في العبادة والاحتراز عن السيئات، وهذا لا يحتاج إليه بعد موت الولي؛ لأن عين اليقين يحصل بعد الموت، وما بعد الموت ليس وقت التكليف؛ ولأجل هذا صرَّح العلماء بأن الكرامة ليست مقصودة، وإنما المقصود هو الاستقامة.
أن الكرامة لو ثبتت لشخص من الأولياء فإنه يجتهد في إخفائها ولا يركن إليها، ويخاف أن تكون من قبيل الاستدراج، ويسعى في أن لا يطلع عليه أحد، ويحاول كتمانه، خوفًَا من الاغترار والاشتهار.
وليس كل أمر خارق للعادة تُعد من الكرامة، ولا دليلاً على الولاية، بل قد يكون الأمر الخارق للعادة من قَبِيل الاستدراج الشيطاني، والأحوال الشيطانية التي تصدر من الفسقة والفجرة، بل من الكفرة والمشركين، حتى أمثال فرعون، والسامري، والدجال، فلا يدل الأمر الخارق للعادة على أنه كرامة، فلا يقطع المتصوفة أن حصول شيء معين من كرامة ذلك الولي، بل ربما يكون استدراجًا، وهو لا يدري.
إن كثيرًا مما يظنه المتصوفة كرامات - هي في الحقيقة ليست بكرامات لأولياء الرحمن، بل الحقيقة أن الشياطين قد تظهر لهم بصورة شيوخهم وأوليائهم، وأتوا بغرائب من الخوارق إضلالاً لهم واستدراجًا لهم، فيظنون أن هذه من كرامات الأولياء، وتتمثل لهم الشياطين فيظنون أن الولي الفلاني قد حضر للإغاثة، وأن فلانًا قد خرج من القبر، وأن الولي الفلاني قد كلَّمه أو عانقه، والشيطان ربما يقضي بعض حاجته، فيظن أن هذه من كرامات الولي مع أن هذه أحوال شيطانية تصدر من هؤلاء الشياطين.(2/361)
إن هؤلاء المستغِيثين بغير الله كثيرًا ما ينادون الفسفة والفجرة، وتارة يطلبون المدد من الزنادقة والملاحدة، وأُخرى يستغِيثون بأعداء الله الكفرة، فهل هم من أولياء الله؟ وهل ما صدر منهم يُعد من الكرامات؟ كلا، بل هم من أولياء الشيطان وخوارقهم ليس إلاَّ من الاستدراجات الشيطانية، ولكن المستغِيثين بغير الله وصلوا من الحمق درجة لا ينتبهون لهذا مطلقًا.
إن هؤلاء المتصوفة أكذب الناس على الإطلاق في نقل الكرامات، فكم من الكرامات نقموا لأوليائهم، وهي في الحقيقة من الكذب والافتراء على صاحب القبر.
ثم إن للكرامة حدودًا وضوابط، فليس كل شيء يستطيع أن يفعله الولي مثلاً، ومن هذه الضوابط ما يلي:
أ- أن يكون صاحبها مؤمنًا متقيًا.
ب- ألاَّ يدعي صاحبها الولاية.
ج- ألاَّ تكون الكرامات فوق ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات، إذ الكرامات لا تسبق المعجزات، فالكرامة التي يُكرَّم بها أحد من هذه الأمة لا بد أن يكون لها أصل من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كما نصَّ عليه العلماء.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1223-1227) .
الشبهة (7) : شبهة المجاز العقلي
لقد تشبث هؤلاء المتصوفة لتبرير شركهم، وتجويز استغاثتهم بالأموات عند نزول النوازل وإلمام الملمات، لجلب الخيرات ودفع المضرات بشبهة أخرى، وهي: أن تصرف الأولياء في الكون وشفاءهم للأمراض، وكونهم يدمرون الأعداء وينصرون الأولياء، ويغيثون المستغِيثين إنما نقصد بذلك المجاز العقلي!
فالمتصرف في الكون هو الله في الحقيقة، والشافي للأمراض هو الله في الحقيقة، والناصر والمغيث هو الله في الحقيقة، وهو النافع الضار في الحقيقة، وهو الفاعل في الحقيقة، ولكن نسبة ذلك كله إلى الولي نسبة المجاز العقلي، لا على وجه الحقيقة.
يُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:(2/362)
إن وجود المجاز في اللغة ثم وجود المجاز العقلي مسألة مختلَف فيها عند البلاغيين فضلاً عن عدم وجود من قال به من السلف قبل الجهمية والمعتزلة.
لو فتح هذا الباب من التأويل لما وجد الشرك، ولما حكم بالكفر على أحد أبدًا، وإن سبَّ الله تعالى، وسبّ الأنبياء عليهم السلام، ولو أنكر البعث والحشر والنشر، وأباح الفواحش، وادّعى الألوهية، مثلاً يكون معنى قول القائل: (الرسول خالق السماوات والأرض): رب الرسول - بحذف المضاف -، ومعنى قول فرعون فيما حكاه الله عنه بقوله: { أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}: (أنا أقول لكم: ربكم الأعلى) - بتقدير القول -، وكذلك يكون معنى من قصد الأصنام وتضرع إليها: أنه يدعو الله الذي هو مالك الأصنام، ويتضرع إليه تعالى - بحذف المضاف -، فما ذكره أحد من المسلمين بهذه التأويلات الفاسدة أبدًا.
إن هؤلاء المستغِيثين بغير الله وأصحاب اعتقاد التصرف في الكون لغير الله أكثرهم عوام جُهال لا يدرون المجاز العقلي الذي اصطلح عليه المجازيون والبلاغيون، ولا يعرفون هذه المسألة. ومعلوم أن إرادة الشيء فرع عن تصوره.
إنهم يعتقدون في أهل القبور التصرف والإعطاء ولا يفهمون إلاَّ أنهم أهل للإعطاء والإيجاد، ويسمونهم أقطابًا وأغواثًا.
إنهم إذا نذروا للأموات وتأخروا في إيفاء نذرهم للأموات فيصابوا بسبب ذلك بمصيبة وبلية، يقولون: إن الشيخ الفلاني أصابني بالمصيبة؛ لأني لم أوفِ بنذره، وهكذا يحذرون من شرورهم. وهذا دليل صريح على أن هؤلاء لا يقصدون المجاز في أقوالهم وعقائدهم، بل يريدون الحقيقة ونسبة الفعل إلى هؤلاء الأولياء والصلحاء - كما يزعمون - الأموات على الحقيقة، فلا شائبة في كلامهم للمجاز العقلي ألبتة.(2/363)
إن المشركين الذين أنزل الله فيهم القرآن إنما كانوا يدعونهم شفعاء لهم عند الله، وكانوا يقولون: إنما ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى، أي: منزلة ودرجة، ويشفعوا لنا في حاجاتنا، إذن أنهم لا يعتقدون في أصنامهم إلا بمثل اعتقاد المتصوفة في أوليائهم بأنهم لا يعطون شيئًا ولا يدفعون شيئًا، وإنما المعطي والدافع هو الله، ولكن هؤلاء الأصنام والمعبودات من دون الله ما هم إلاَّ للمنزلة والدرجة، ومع ذلك وسمهم الله بسمة المشركين، وحاربهم الرسول الأمين في حياته كلها، فما الفرق بين القول بالمجاز وبين القول بالزُّلفى والقربة والمنزلة؟ وإذا ثبت هذا تبيّن أن هؤلاء المتصوفة أشد شركًا منهم؛ لأنهم اعتقدوا فيهم القدرة والملك، والتصرف في الكون، بل الإحياء والإماتة وغيرها من الكفريات.
إن النسبة المجازية - على فرض وجود المجاز -: هي نسبة الفعل إلى غير الفاعل الذي صدر منه ذلك الفعل، لا يخلو من أمرين:
أحدهما: لكونه ظرفًا للفعل، كقول القائل: (أنبت الربيع البقل)؛ أي: (أنبت الله البقل في وقت الربيع).
ثانيهما: لكونه سببًا في صدور ذلك الفعل، كقول القائل: (بنى الأمير المدينة)؛ أي: (بنى المعماري المدينة بأمر الأمير ونفقته).
وإذا عُرف هذا، فإن الذي ينادي ميتًا، أو حيًّا غائبًا، ويستغيث به، ويقول: يا فلان، أغثني، أو اشفني أو أنجني مثلاً لا ينطبق عليه أنه ناداه واستغاث به مجازًا من ناحية كونه ظرفًا للفعل؛ لأن الميت والغائب ليسا بظرف للفعل، فلا يقال: إن الميت أو الغائب ظرف للنداء أو الإغاثة أو الشفاء أو الإنجاء، حتى يُقال: إن هذه النسبة مجازية، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، فهذا المجاز لا يتصوره أحد، ولا يصح في مثل هذه الصورة ألبتة.(2/364)
وأما الصورة الثانية من المجاز التي هي: أن هذا المنادي المستغيث يقصد: أن الشافي والناصر والمنجي والمغيث هو الله تعالى في الحقيقة، ولكن يرى أنَّ الولِي الفلاني الذي يستغيث به ويناديه هو مجرد سبب لذلك.
فيُقال لهم: إن هذا الاحتمال أيضًا غير وارد، ولا يصح المجاز في هذه الصورة أيضًا؛ لأن هذا المنادي المستغِيث بهذا الولِي الميت، أو الحي الغائب، لا بد له من أن يعتقد فيه عقائد ثلاثًا:
الأولى : أن هذا الولِي الميت أو الحي الغائب يسمع صوته ونداءه فوق الأسباب العادية.
الثانية : أنه يعلم بحاله ويطلِع على مصيبته.
الثالثة : أن يعتقد فيه أنه يقضي حاجته بأن يشفع له عند الله.
فلا بد من هذه العقائد الثلاث، وإلاَّ لا يمكن جعله سببًا.
وإذا تحقق أنه لا بد من أن يعتقد هذا المنادي المستغِيث في ذلك المنادَى المستغَاث - الميت أو الحي الغائب - السمع المطلق، والعلم المطلق، والقدرة المطلقة، ومعلوم أن هذه كلها من صفات الله الخاصة به سبحانه، فالميت أو الحي الغائب لا يسمع نداء المستغِيث، ولا يعلم بحاله ولا يطلِع على مصيبته، فقد قال تعالى: { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وقال تعالى: { وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}.
ثم إننا لو أوَّلنا إسنادهم الأمور إلى غير الله واستغاثتهم بغير الله وطلب النفع ودفع الضر عن غير الله باحتمال المجاز العقلي، فماذا نفعل بأعمالهم الشركية، فهل يمكن تأويلها أيضًا بالمجاز؟ وإذا قلنا: نؤول، فبأي شيء نؤول سجودهم على أعتاب الأضرحة وطوافهم بالقباب، وذبحهم للقرابين وبذلهم النذور؟ فهل هذه الأعمال الشركية والأفعال الكفرية أيضًا: من باب المجاز؟(2/365)
إن من المعروف أن التأويل والمجاز - حتى عند القائلين بهما - لا يُذْهَب إليهما إلاَّ إذا كان غير منصوص، وأمَّا إذا كان منصوصًا، مثل الأبيات الشعرية التي أوردناها والحكايات التي ذكرناها عن المتصوفة، فلم يقل أحد بأن في المنصوص أي مجاز، وإنما المجاز - على رأي القائلين به - يكون على الظاهر المحتمل له.
الأهم من هذا كله هو أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن الكريم، وحكم بكفرهم كانوا يعتقدون السببية والتوسط، وهذا هو حجة من يرى المجاز العقلي، ويُبيح إسناد الأمور الخاصة بالله في ربوبيته وألوهيته لغير الله، فلو أن اعتقاد السببية والتوسط ينفع في حمل كلام من يدعو غير الله تعالى على المجاز العقلي، ويمنع من الحكم عليه بالشرك، لكان الله تعالى أعذر المشركين الذين يعتقدون التسبب والوساطة، ولحُكِمَ بالكفر على من يعتقد الاستقلال فقط.
ولكنَّ الله عز وجل حكم بالكفر على هؤلاء المشركين القائلين بالتسبب والتوسط، كما سيأتي ذكرهما في الشبهة التالية.
وبهذا بطل دعوى المجاز الذي يتشبثون به قديمًا وحديثًا.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1227-1233) .
الشبهة (8) : شبهة الكسب والسبب
تشبثت المتصوفة بهذه الشبهة لتبرير شركهم بالله، واستغاثتهم بالأموات، عند إلمام الملمات ونزول النوازل والكربات؛ لدفع المضرات وجلب الخيرات، وتبرير أكاذيبهم وكفرياتهم وعقائدهم الباطلة من التصرف في الكون، والإحياء والإماتة، والقدرة، والعلم بالغيوب، وتسخير الأمور وغير ذلك. فقالوا:(2/366)
إن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء من أعظم الأسباب لاجتلاب البركات، واستنزال الرحمات والخيرات، واستجابة الدعوات وسرعة قضاء الحاجات، والتوسل بهم من قبيل الأخذ بالأسباب، وليس ذلك من باب الشرك بالله ولا من قبيل عبادة غير الله، وإن طلب الغوث منهم على سبيل الكسب والتسبب، ومن الله تعالى على سبيل الخلق والإيجاد. وغاية ما يعتقد الناس في الأموات أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء، لا أنهم خالقون موجودون، والتسبب والتكسب مقدُوران للميت، وفي إمكانه كالحي، فمن يستطيع أن يقول: إن ذلك شرك؟. هذه كانت شبهة الكسب والسبب التي يتشبث بها المتصوفة قديمًا وحديثًا.
يُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن احتمال التكسب والتسبب في الاستغاثة بالأموات المقبورين، والأحياء الغائبين لا يمكن صحته ولا يتصور وقوعه؛ لعدم قدرتهم على ذلك، فاحتمال الكسب والسبب هنا باطل من أساسه، يقول "الألوسي": (فإن قلت: إن للمُسْتَغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى... قلنا له: إن كلامنا فيمن يُستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلاَّ الله، أو السؤال بما لا يُعطيه ولا يمنعه إلاَّ الله، وأمَّا فيما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس واستغاثة بعضهم ببعض - فهذا شيء نقول به ولا نمنعه ولا نُنكره، ونعد منعه جنونًا، كما نعد إباحة ما قبله - وهو ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى - شركًا. والعراقي - عامله الله بعدله - أورد نصوص المباح في الممنوع، واستدل بدلائل المشروع على غير المشروع... وكون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية، فتحقق أنه لا يُستغاث به - أي بالعبد -، ولا يتوكل عليه، ولا يُلتجأ في ذلك إليه إلا بالله وعليه وإليه. فلا يقال لأحد - حي، أو ميت، قريب، أو بعيد - : ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي..).(2/367)
إن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات على أن هؤلاء الأموات سبب في دفع المضرات وأنهم من الأسباب لجلب المنافع والخيرات هي بعينها عقيدة المشركين السابقين، فإن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم وآلهتهم التي عبدوها مع الله إلاَّ التسبب والتوسل والتشفع، ليس إلا، ولم يدعوا الاستقلال، والتصرف لأحد دون الله، ولا قاله أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه؛ وقد قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده، قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ }وقال تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، فأخبر أنهم تعلّقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة، ولم يُريدوا منهم تدبيرًا، ولا تأثيرًا، ولا شركة، ولا استقلالاً.
إن الأموات ليسوا من أسباب قضاء حوائج المستغيثين بهم في شرع الله عز وجل، فأين في شرع الله تعالى: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك سببًا لقضاء حوائج المستغيثين بهم؟ بل شرع الله تعالى كله على نقيض ذلك.(2/368)
يقول "السهسواني" في صيانة الإنسان: (ونحن لا نُنازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، ولكن نقول: من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببًا في الأمور التي لا يقدر عليه إلا الله؟! ومن ذا الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب - من البشر كان أو غيره - كان ذلك سببًا في حصول الرزق، والنصر، والهُدى، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلاَّ الله؟ ومن ذا الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعله من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟! فإن هذا المقام يحتاج إلى إثبات مقدمتين: إحداهما: أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها...).
ولو سلمنا - جدلاً - أن الأموات والاستغاثة بهم سبب لقضاء الحاجات، فإن قضاء هذه الحاجات لا يكون إلا سببًا كونيًّا فحسب، لا سببًا شرعيًّا، وكم من الأشياء هي أسباب كونية للمنافع، ولكنها لما كانت محرمة في شرع الله، لم يصح كونها أسبابًا شرعية، فلا يجوز تعاطي أي سبب إلاَّ إذا علم أنه سبب شرعي وأمر مباح.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1233-1236) .
الشبهة (9) : شبهة الشفاعة أو شبهة الاستقلال
وهي : أن الصالحين أحياءً وأمواتًا يشفعون للمستغيثين بهم عند الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقبل شفاعتهم فيهم فتُقضى حوائجهم.
هذا حاصل تقرير المتصوفة لشبهة الشفاعة، وهي في الحقيقة شبهة الواسطة، ولكن غيَّروا العبارة موهمين أنها من الأدلة لهم على ما يزاولونه، وقد سبق الرد على جوانب من هذه الشبهة في الرد على الشبهة الثانية، وإنما يُكتفى هنا ببيان معنى الشفاعة، وهل يصح الاستدلال بها أم لا؟
فيقال في الرد عليهم :(2/369)
الشفاعة في اللغة: شفع، يشفع، شفاعة، وتشفع: طلب. والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه: في معنى طلب إليه، والشافع: الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب. فمعنى الشفاعة: الدعاء. وعلى هذا يفسر موارد اللفظ في القرآن والسنة، في لفظ الشفاعة.
وأصله في الجمع والضم، ومنه يقال: الشفع بمقابل الوتر، ويُطلق على الشفيع؛ لأنه يكون إلى جانب من يشفع له.
فهذه الشفاعة لها حكمها في الإسلام، حيث جاءت آيات كثيرة في كتاب الله الكريم، فبعضها تنفي الشفاعة مطلقًا عن أحد غير الله يوم القيامة، مثل قوله تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}، وقوله تعالى: { لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ }، وقوله تعالى: { أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
وهناك آيات أُخرى ذكر الله فيها أن الشفاعة موجودة يوم القيامة، مثل قوله تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، وقوله تعالى: { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}، وقوله تعالى: { * وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} . وغير ذلك من الآيات في الذكر الحكيم.(2/370)
وهناك آيات أخرى ذكرت الانتفاع بالشفاعة برضى الله، واتخاذ الشافع والمشفوع له عهدًا عند الله، مثل قوله تعالى: { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، وقوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}، وقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}. وآيات أُخر لا تخفى على من تتبع ما في الباب من آيات.
فإذا تبين أن الله تبارك وتعالى قد نفى في كتابه شفاعة، وأثبت شفاعة، وجب على طالب الحق أن ينظر في هذا الشفاعة المنفية، والشفاعة المثبتة، ومعنى هذه وهذه، حتى لا يضل في هذا الأمر الذي ضل فيه فئام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان سبب ضلالهم أن كل فرقة أخذت بآية وبنت عليها أحكام ولم تتبع آيات الشفاعة في القرآن، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض. والقرآن حق كله، والحق لا يناقض حقًّا أبدًا.
فالآيات الأولى دلَّت على أن هناك شفاعة منفية ليست لأحد من الخلق، وهذه الشفاعة هي ذلك النوع الذي يظنه المشركون في الجاهلية.
وأولئك المشركون ظنوا أن الشفاعة عند الله كالشفاعة عند غيره، وهذا أصل ضلال النصارى أيضًا.(2/371)
فمن ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق ينفع عند الله مثل أن يشفع الإنسان عند من يرجوه المشفوع إليه، أو يخافه، كما يشفع عند الملك ابنه، أو أخوه، أو أعوانه، أو نظراؤه الذين يخافهم ويرجوهم، فيجيب سؤاله، لأجل رجائه أو خوفه منهم، أو أن لهم حقًّا عنده يوجب عليه الإجابة فيمن يشفعون فيه عنده، وإن كان يكره شفاعتهم، ويشفعون بغير إذنه، فهذه الشفاعة هي التي نفاها الله جل وعلا في الآيات الأول، وهي أن يكون للشافع حق عند الله كما للشفعاء حق عند الملوك ونحوهم.
وهذا النوع الشركي هو الذي أشرك به من أشرك بالله، واتخذ وسائط يسألهم الشفاعة، كما كان يفعله النصارى، وأشباههم في ذلك من هذه الأمة، ويعتقدون أن لهم أن يسألوا المقبورين من الأنبياء والصالحين شفاعتهم، وهم يعتقدون أن لهم حقًّا عند الله به يجيب شفاعتهم ولا يرد شفاعتهم.
وحقيقة هذه الشفاعة عند المتصوفة والضلال من هذا الأمة: طلب الشفاعة من غير الله على جهة أن المطلوب يملك الشفاعة ويستحق الإجابة على الله، وذلك لا شك تنقص لربوبية الله تعالى وتقييد لمشيئته وإرادته سبحانه وتعالى فالكلام في استحقاق الله للشفاعة وكونها حق خالص له وحده فرع عن الكلام في إرادة الله وعمومها وشمولها وكونها نافذة في جميع مخلوقاته.
فمن أثبت لغير الله حق الشفاعة عند الله فقد قيّد إرادة الله بإرادة المخلوق، وجعل إرادة المخلوق نافذة وحاكمة على إرادة الله سبحانه. بينما المخلوق هو الذي لا يكون له فعل إلا بإرادة الله تعالى، فمشيئة المخلوق محكومة بمشيئة الله، وقد قال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(2/372)
فالعبد هو الذي تقيد مشيئته بمشيئة الله، وليس الله هو الذي تقيد مشيئته بمشيئة العبد؛ ولأن مشيئة الله نافذة على كل مخلوق، وهو سبحانه لا مكره له ولا استحقاق لأحد عليه، فمقتضى ذلك أن لا يكون لأحد حق الشفاعة عنده، بل الشفاعة لله وحده يأذن فيها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء، ولهذا نفى الله سبحانه أن يكون غيره يملك الشفاعة من دونه في آيات كثيرة، وقد سبق إيراد بعض هذه الآيات فيما قبل. فهناك شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التفريق بين الشفاعة المنفية والشفاعة المثبتة: (الشفاعة المنفية هي: الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق، وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته.
فأما إذا أذن له أن يشفع فشفع، لم يكن مستقلاً بالشفاعة، بل يكون مطيعًا له؛ أي: تابعًا له في الشفاعة، وتكون شفاعته مقبولة، ويكون الأمر كله للآمر المسئول).
والله مع أنه مالك الشفاعة فإنه قد يأذن فيها لمن يشاء من عباده، ولا يلزم من ذلك أن يكون المأذون له في الشفاعة قد ملكها مع الله، بل هي لله وحده قبل الإذن وبعده. وإنما يكرم بها الله بعض عباده ويشرفهم فيقبل شفاعتهم إذا كانت شفاعتهم عنده مرضية شرعًا. فحقيقة الشفاعة: إظهار كرامة الشافع وإرادة رحمة الله للمشفوع، وإلاَّ فالأمر كله بيد الله، ليس فيه أي حق لنبي مرسل ولا لملَك مقرب، ولا لأحد من خلقه مطلقًا.
كما أنه لا يلزم أن مَن أذن الله له في الشفاعة وأكرمه بذلك أن يكون الإذن له مطلقًا؛ لأنه لا فرق في الحقيقة بين ملكية الشفاعة والإذن المطلق فيها، وإنما يكون الإذن مقيدًا في كل شفاعة على الخصوص.(2/373)
ولهذا لم يقبل شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أمه، ولا في أن يستغفر لبعض المنافقين، كما لم يؤذن لإبراهيم عليه السلام في أبيه، ولا لنوح عليه السلام في ابنه، مع أنهم أعظم الناس جاهًا ومنزلة عند الله، وإنما منع قبول الشفاعة منهم عدم رضى الله عن عمل المشفوع لهم لكونهم على الكفر، وسيأتي الكلام عن هذا قريبًا.
ومن كل ما تقدم يتبين لنا أن من جعل المرجح والأصل في قبول الشفاعة مجرد إرادة الشافع، وأنه يشفع عند الله كما يشفع خواص الملوك ومن لهم منزلة عندهم، فإنه يكون بذلك مشركًا؛ لأنه قد جعل على الله ضرورة من غيره، وقيد إرادة الله ومشيئته بإرادة المخلوق مهما كان جاهه ومنزلته عند الله، فإنه بهذا الاعتقاد وقع في الشرك في قدرة الله الكاملة، حيث تدخل فيه بعنصر خارجي.
وحقيقة الإذن للشافع في الشفاعة أن يقبل منه شفاعته فتكون نافعة، كما ذكره تعالى: { وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }، وقوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } .
والمقصود من الآيتين : أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا من أذن له فقبل شفاعته التي تتضمن الشفاعة بما يحبه الله.
فالشفاعة لا تُقبل عند الله إلا بشرطين اثنين: الرضا عن الشافع، والإذن له، ولا بد أن تكون الشفاعة موافقة لشرع الله. فهذان هما شرطا الشفاعة المقبولة.
1- أما اشتراط الرضا عن الشافع فقد ورد في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: { وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
يقول ابن كثير: (هذا استثناء منقطع؛ أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له).(2/374)
فهذه القاعدة التي ذكرها "ابن كثير" رحمه الله هنا عامة في كل آية تُنفى فيها الشفاعة، أو يُنفى ملكها، ثم يُستثنى فيها الإذن للشافع الذي رضي الله عنه.
وليس المقصود نفي الشفاعة مطلقًا؛ لوجود الاستثناء فيها، وليس الاستثناء متصلاً؛ لأن المأذون له في الشفاعة لا يؤذن له فيها إذنًا مطلقًا، ولا يملكها بمجرد الإذن فيها.
ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}، وقوله تعالى:{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}، وقوله تعالى: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}.
فرِضا الله عن الشافع شرط في الإذن له في الشفاعة. هذا عن شرط الرضى عن الشافع لكي يأذن له.
فهذا الشرط يتضمن شرطين في الحقيقة، هما: الرضا عن الشافع، وإذنه للشافع بالشفاعة.
2- أمَّا شرط كون الشفاعة مرضية لله أيضًا فقد جاءت آيات تنص على ذلك، كمثل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } .
وقد تقدَّم أن الإذن للشافع لا يكون إلا إذا رضي الله عنه، ولا يرضى عنه إلا إذا كان على التوحيد، وأما رضى الله لقوله فالمقصود رضاه لشفاعته، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت حقًّا وصوابًا. وقوله تعالى: { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}، موافق لقوله تعالى في الآية الأخرى:{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا }.
فإذا لم تكن الشفاعة بالحق والصواب لم تُقبل ولو تحقق الشرط الأول الذي هو الرضى عن الشافع.(2/375)
ولهذا لم يقبل الله شفاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أن يستغفر لأمه، بل قال صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي". ولم يأذن الله له صلى الله عليه وسلم ولم يقبل شفاعته في بعض المنافقين مع استغفاره لهم، بل قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ } .
والسبب في ذلك: أنهم ماتوا على الكفر، والكافر لا يغفر الله له.
ومثل ذلك شفاعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في أبيه أن يدخله الله الجنة فلم تقبل شفاعته، وقد جاء في الصحيح مصرّحًا هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب، إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرَّمت الجنة على الكافرين".
فالسبب في عدم قَبول شفاعة إبراهيم عليه السلام مع عظيم منزلته عند الله هو كفر أبيه، وأن الله لا يدخل من كان كافرًا الجنة.
ومثل ذلك أيضًا: شفاعة نوح صلى الله عليه وسلم في ابنه أن يُنجيه الله من العذاب العام الذي حلَّ بالقوم الكافرين الذين كذَّبوه وكان منهم ابنه، ولكن ما قبل منه، بل قال تعالى: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الشفاعة للكفار بالنجاة من النار، والاستغفار لهم مع موتهم على الكفر لا تنفعهم، ولو كان الشفيع أعظم الشفعاء جاهًا).(2/376)
ولا يُناقض ما سبق كونه صلى الله عليه وسلم يشفع في عمه أبي طالب؛ لأن شفاعته فيه ليست في إخراجه من النار، ولو شفع في ذلك لعمه أبي طالب لم تقبل منه؛ لأنه مات على الكفر، كما لم يقبل شفاعته ودعاءه صلى الله عليه وسلم في أبويه. وإنما شفاعته لأبي طالب لتخفيف العذاب عنه.
وخلاصة الكلام: الشفاعة تنقسم إلى قسمين:
الأول : الشفاعة في الدنيا إلى الأحياء: وهي مشروطة بشرطين:
أ - ألاَّ يكون في حدٍّ من حدود الله.
ب -ألاَّ يترتب عليه تحليل حرام، أو تحريم حلال.
الثاني : الشفاعة في الآخرة: وهي مشروطة أيضًا بشرطين هما:
أ - الرضا من الله على الشافع.
ب - كون الشفاعة مرضية لله أيضًا، وبالتالي: الإذن - أو الأمر - له تفضلاً منه وكرمًا.
فهذا هو معنى الشفاعة وأسباب حصولها، ولكنه في مفهوم الناس غير هذا، كما سبقت الإشارة إليه، ويتمثل ذلك في قولهم:
(فالقائل: يا نبي الله، اشفني، واقضِ ديني، لو فرض أن أحدًا قال هذا، فإنما يريد: اشفع لي في الشفاء، وادع لي بقضاء ديني، وتوجه إلى الله في شأني، فهم ما طلبوا منه إلا ما أقدرهم الله عليه، وملكهم إياه من الدعاء والتشفع).
ففي هذا النص نرى شيئين واضحين:
أ - اعتقاد المتصوفة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع لهم الآن إذا سئل منه، وأن شفاعته مقبولة مطلقًا.
ب - اعتقادهم أن الرسول قد ملك هذا الأمر فلا يحتاج إلى الإذن - الذي هو الأمر من الله سبحانه بخصوص الشفاعة -.
وقبل أن نرد على هاتين الشبهتين يحسن بنا أن نذكر الأدلة التي يتشبثون بها على هذا المعتقد، فأقول:
إن للمتصوفة تجاه هذا المعتقد ثلاثة أنواع من الاستدلالات.(2/377)
منها: استدلالهم ببعض الأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة، ولكنها لا تدل على المدّعي بأي شكل من الأشكال، بل تدل على ضد مقصدهم. فمثلاً تراهم كثيرًا ما يستدلون بحديث الشفاعة العظمى في ميدان المحشر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق الشفاعة مطلقًا، ولكنهم لا ينظرون إلى آخر الحديث الذي فيه: "ارفع رأسك، سلْ تُعطَ، اشفع تُشفع". حيث هذا الجزء من الحديث دلَّ دلالةً صريحة على أن الرسول ما بدأ بالشفاعة حتى أُذن له بها، وأُمر بها.
ومنها: استدلالهم ببعض الأحاديث الموضوعة والواهية: مثل ما رُوي: "من زار قبري وجبت له شفاعتي". ومعلوم أن هذا من الأحاديث الواهية المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم عند المحققين.
ومنها: قياسهم الخالق على المخلوق، حيث إن المخلوق غالبًا يتوسط في الوصول إلى الكبار للحصول على مقاصدهم فيقيسون الخالق عليه للوصول إليه. وقد سبق معنا أن هذه هي الشبهة الرئيسة للمشركين الأولين والآخرين، وقد أطلنا الكلام في الرد عليها في شبهة الواسطة فلينظر هاهنا.
أما الرد على معتقداتهم في باب الشفاعة التي تم إيرادها آنفًا: فيرد عليهم بما يلي:
الرد على شبهة جواز طلب الشفاعة من الرسول أو الأولياء، وأنه يشفع لمن يطلب منهم الشفاعة، وأن شفاعتهم مقبولة مطلقًا، فلا عبرة باشتراط الإذن:
هذه العقيدة مشتملة على ثلاثة أشياء كلها باطلة:
الأول: جواز طلب الشفاعة من الرسول بعد موته.
الثاني: أنه يشفع لهم.
الثالث: أن شفاعة الرسول مقبولة مطلقًا.
أما الأول: فنقول في الرد عليه:
ليس هناك دليل يدل على جواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، بل الأدلة صريحة في المنع من وجوه عدة.
منها: ما مرَّ معنا أن الشفاعة بمعنى: الدعاء، والدعاء هو: العبادة، ولا يجوز العبادة لغير الله مطلقًا، سواء كان نبيًّا مرسلاً أو ملكًا مقربًا.(2/378)
ومنها: أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كان شأنهم أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد موته فما كانوا يأتون إليه، بل أجمع أهل القرون الثلاثة المفضلة على أمرين:
الأول: عدم مشروعية طلب الشفاعة منه في قبره، وإنما ظهر خلاف من خالف من شذاذ الناس بعد نشاط الدعوات الباطنية كالإسماعيلية والفاطمية، ومن تأثر بها كالموسوية الجعفرية وشبهها، فروَّجوا هذا في الناس، فأشكل على بعضهم. فقد كان المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة لا يعرفون طلب الشفاعة منه بسؤاله إياها، بل مضى الخلفاء الراشدون ولم يسأل أحد منهم نبي الله الشفاعة بعد موته، ولو كانت مشروعة لكانوا أحرص عليها، ولم يتركوا طلبها منه بعد موته. فلو لم يكن تغير نوع الحياة له أثر عندهم لما تركوا ذلك. وكذلك مضى التابعون وتابعوهم بإحسان وتابعوهم، حتى نشطت الدعوات الباطنية التي تسترت بالتشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم ألَّفوا الكتب باسمهم، وهذا ظاهر لمن درس حركة إخوان الصفا والعبيديين. فالمقصود من هذا: أن الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بسؤاله الشفاعة بعد موته محدَث أحدثه الباطنيون.
الثاني - وهو الأهم -: أن أهل السنة مجمعون على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أنواعًا من الشفاعة يشفع بها، ولم يذكروا منها طلبها منه في قبره، بل كلها يوم القيامة.
وأمَّا الرد على الدعوى الثانية: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع الآن في قبره، فيقال:
أولاً: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره لأمته ليس عليه دليل صحيح لا من الكتاب والسنة ولا من العقل، إذ انتقل الرسول إلى دار غير هذه الدار وهي دار الآخرة، وحياة الرسول في قبره حياة برزخية، لا يدري كنهها إلا الله، ولم يُخبرنا الرسول عن حقيقة هذه الحياة، فقياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيا قياس مع الفارق.(2/379)
ثانيًا: لم يأتِ نصّ صحيح دال على شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن يتشفع به، بل النصوص كلها متضافرة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يشفع يوم القيامة، فإنه قد جاء في حديث الشفاعة: "أول شافع أول مشفع"، وهذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى لأهل الموقف بالنص والإجماع. فهذا قوله صلى الله عليه وسلم نحكمه على من ادّعى محبته وتصديقه، فقوله: "أنا أول شافع وأول مشفع" يقتضي أولوية مطلقة لا استثناء فيها، على كل مَن قامت قيامته.
ومَن زعم أنه بعد موته في قبره يشفع، وأن الصالحين يشفعون بعد موتهم في قبورهم فلا معنى لقوله: "أنا أول شافع" عند ذلك الزاعم، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في قبره؛ لكان يشفع من حين موته إلى أن ينفخ في الصور، وحينئذ فلا معنى لقوله: "أنا أول"، إذ لو كان يشفع في قبره لانتفى تخصيصه صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة يوم القيامة. فإذا كان في حياته يشفع لهم بالدعاء، وبعد موته يشفع وبعد قيام قيامة الناس يشفع، فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع"؟!
فإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فما ظنك بالآخرين؟!
الرد على الدعوى الثالثة التي فيها: إن شفاعته صلى الله عليه وسلم مقبولة مطلقًا، يُقال في الرد عليها:
هذا غلط: فإن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد يرد، وليس كل ما دعوا به أجيب، بل ربما امتنعت الإجابة؛ لحكمة يعلمها الله عز وجل، إما أنه قد سبق في القضاء ما يخالف ما دعوا به، وإما؛ لأنهم دعوا وشفعوا فيمن لم يرضِ الله قوله، أو نحو ذلك من الموانع.
ومن المتقرر في الكتاب والسنة: أن الأنبياء ليس لهم حق في أن يُجاب جميع ما دعوا به، ودعاؤهم حري بالإجابة وهم أرفع من غيرهم من أممهم، فإجابة سؤلهم إما إعطاؤهم عين ما سألوا، أو تأخير ذلك بالأجر الجزيل لهم.(2/380)
وقد سبق معنا بيان نماذج من أدعية الأنبياء التي ما قُبلت، منها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم في أمه، ودعوة نوح عليه السلام في ابنه، ودعوة إبراهيم عليه السلام في أبيه، فإذا كان هذا حال من هو مقرَّب إلى الله بلا شك، مع من هم أقرب لديهم، فكيف إجابة الدعاء لمن ليسوا بأقرباء لهم؟ وكيف بمن هو أبعد الناس لهم في سيرهم وهديهم وسننهم؟ وكيف حال غير الأنبياء كالصالحين الذين هم صالحين لدينا، وربما يكونون من أخبث الخلق عند الله؟
قال الحافظ في الفتح: (دعواتهم على رجاء الإجابة)، وقال آخر: (إن لكل نبي دعوة مجابة ألبتة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهو على رجاء إجابتها، وبعضها يُجاب، وبعضها لا يُجاب).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1236-1250) .
الشبهة (10) : شبهة التبرك
التبرك : هو بمعنى طلب الخير واستدامته، ومعلوم أن جلب الخير ودفعه ليس في قدرة البشر، وإنما التبرك من الله، وقد جعل الله في الدنيا أشياء مباركة، ولكن ليس منها طلب الخير ودفع الشر من غير الله، كالأنبياء والرسل بعد موتهم بذواتهم، كما أنه ليس منها طلب الخير ودفع الشر بالأولياء والصالحين. فالمتصوفة الذين يرون أن الاستغاثة والدعاء و التوجه إلى غير الله ما هي إلا تبرك بهؤلاء الكرام على حصول المقصود غير مشروع أصلاً، فلا يجوز التبرك في غير ما ورد عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء المتصوفة الذين يتبركون بالقبر، إن كان قصدهم طلب الخير والنماء من المتبرك به فلا شك أنه كفر وشرك أكبر، وإن كان مقصودهم: طلب الخير والبركة من الله، ولكن بواسطتهم فلا شك أنه بدعة مذمومة، بل ربما يكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد ذلك سببًا، فإن اعتقاد ما ليس بسبب مشروع سببًا شرك أصغر.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1250-1251) .(2/381)
الشبهة(11) : استدلالهم ببعض الآيات التي هي ليست في محل النزاع
مثل قوله تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}. قالوا: أمرنا الله بالاستعانة بالأعراض ولم يقل: استعينوا بالله. ويقول آخر: من قال: لا ينبغي الاستعانة بغير الله فقد كفر؛ لمخالفته نص الكتاب في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}.
ويُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بجواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات، والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين، بل هذه الآية من أقوى الأدلة على وجوب الالتجاء إلى الله والاستغاثة به عند الملمات، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحات، إذ الصلاة والصبر من أعظم الأعمال الصالحات التي يتوسل بها إلى الله عند الكربات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر توسل إلى الله بالصلاة.
بل الآية من قبيل قوله تعالى: { وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}؛ فكما أن المراد منها: الأعمال الصالحة على تفسير السلف من الأثر والرأي، هكذا هنا المراد من هذه الآية: التوسل بالأعمال الصالحة.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1253-1254) .
الشبهة(12) : استدلالهم بقصة هاجر رضي الله عنها(2/382)
والقصة : أن إبراهيم عليه السلام لما ترك ابنه إسماعيل عليه السلام وهاجر رضي الله عنها بوادي مكة قبل أن يبني فيها الكعبة، وقبل ظهور ماء زمزم، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء، ووضع عندهما جرابًا فيه تَمْر، وسقاء فيه ماء، فجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء، حتى نفد ما في السقاء فعطشت وعطش إسماعيل عليه السلام، وجعل يتمرغ من شدة العطش، فوجدت هاجر الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليها لترى أحدًا، فهبطت من الصفا ثم أتت المروة، فقامت عليها فلم ترَ أحدًا، فعلت ذلك سبعًا، (فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا... فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث)، وفي رواية: (أغث إن كان عندك خير).
فهذه القصة من أقوى الأدلة عند المتصوفة والقبورية على الإطلاق؛ فإن فيها تنصيصًا بلفظ الغوث وفيها استغاثة بالغائب عن البصر، وعلى طلب الغوث والمدد من الغائب عن النظر.
يُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن هذه القصة لا صلة لها بالاستغاثة بالغائب الذي لا يقدر ولا ينفع، أو الميت الذي لا يعلم ولا يرى ولا يسمع، كما لا علاقة لها بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله، بل تدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه. فإن "هاجر" لما نفد الماء ما نادت أحدًا بالاستغاثة، بل إنما نادت لما أحسَّت صوتًا وسمعها، حيث سمعت الصوت من جبريل الحاضر الحي، فطلبت منه ما كان يقدر عليه وإن لم تكن تراه، ومن ظنَّ غير ذلك فقد افترى على أُمنا "هاجر"، ورماها بالشرك، وحاشاها أن تشرك بالله.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1254-1256) .
الشبهة(13) : استدلالهم ببعض الأحاديث الضعيفة
1- بما رُوي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه والذي فيه: " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله، احبسوا، يا عباد الله، احبسوا، فإن لله عز وجل في الأرض حاضرًا سيحبسه".(2/383)
يُجاب عن هذه الشبهة: بأن الحديث ضعيف لعلتين: الأول: أنه منقطع، ثانيًا: إن في إسناده رجلاً ضعيفًا، فلا يصح الاستدلال به.
وما أحسن ما جاء في ذمِّ الكلام: أن عبد الله بن المبارك ضلَّ في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه أن مَن اضطر في مفازة فنادى: عباد الله أعينوني! أُعِينَ، قال: فجعلت أطلب الجزء أنظر إسناده. والمقصود: أنه لم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرى إسناده، هكذا فليكن الاتباع.
واستدلوا أيضًا بما جاء في رواية أخرى:
2- " إذا أضل أحدكم شيئًا، أو أراد عونًا، وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله، أغيثوني، يا عباد الله، أغيثوني، فإن لله عبادًا لا نراهم".
يقولون: إن في الحديث تنصيصًا على نداء الغائب.
يُجاب عن هذه الشبهة:
بأن الحديث ضعيف لانقطاعه.
وعلى فرض صحة الحديثين السابقين: ففيهما نداء للأحياء وطلب منهم ما يقدرون عليه، وهذا مما لا نزاع في جوازه.
ويقول الشيخ الألباني - حفظه الله -: (ومع أن الحديث ضعيف كالذي قبله، فليس فيه دليل على جواز الاستغاثة بالموتى من الأولياء والصالحين؛ لأنهما صريحان بأن المقصود بـ(عباد الله) فيهما: خلق من غير البشر، بدليل قوله في الحديث الأول: "فإن لله حاضرًا سيحبسه عليهم"، وقوله في هذا الحديث: "فإن لله عبادًا لا نراهم". وهذا الوصف إنما ينطبق على الملائكة أو الجن؛ لأنهم الذين لا نراهم عادة).(2/384)
وقد جاء في حديث آخر تعيين أنهم طائفة من الملائكة، أخرجه البزار كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "إن لله تعالى ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله، أعينوني". وقد رواه البيهقي في الشعب موقوفًا على ابن عباس. فهذا الحديث يُعيّن أن المراد بقوله في الحديث الأول: "يا عباد الله": إنما هم الملائكة، فلا يجوز أن يلحق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يُسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بَيّن؛ لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة، وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ*إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1256-1258) .
الشبهة(14) : قولهم: إن النصوص التي تنهي عن دعاء غير الله والاستغاثة بغيره سبحانه إنما وردت في الأصنام والأوثان فقط
قالوا : لا تُقاس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم على عبادة الأصنام والأحجار والأوثان التي لا مكانة لها ولا احترام لها عند الله ولا تضر ولا تنفع؛ لأن المشركين كانوا يعبدونها على أساس أنها تستقل بالنفع والضر، وأن لها تأثيرًا وشرفًا ذاتيًّا وتدبيرًا، وأما نحن فنستغيث بالأنبياء والأولياء الذين لهم مكانة عند الله، وهم أحياء يعلمون ويسمعون. فأين هذا من ذاك؟
يُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
إن هذه الشبهة تتضمن شبهات كثيرة:(2/385)
الأولى منها: أن دعاء الأموات والاستغاثة بالأموات عند الكربات ليست من العبادة، فليست من الشرك بالله تعالى. ويجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
هذا القول ناتج عن الانحراف في مفهوم العبادة، حيث حصرت العبادة لدى البعض في عدة أعمال ظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وبعض الأعمال القلبية من اعتقاد الربوبية، وبناء على ذلك أخرجوا الدعاء والاستغاثة من مفهوم العبادة، فقالوا: إن الدعاء والاستغاثة، ونداء الأولياء وطلب المدد منهم عند البلاء ليست هذه الأمور من العبادة في شيء، ولا من الشرك بالله؛ لأن العبادة لا تتحقق إلا إذا اعتقد في غير الله القدرة الكاملة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر، والربوبية، ونفوذ المشيئة لا محالة، وإذا كان الأمر كذلك فمن استغاث بالأولياء ودعاهم لدفع الضر وجلب النفع، وطلب منهم المدد فهو لم يعبد غير الله. وإذا لم يعبد غير الله لم يشرك به أيضًا.
ويمكن أن يُجاب على هذه الشبهة بما يلي:
سبق معنا بيان معنى العبادة في مفهوم الشرع، وقد بيَّنا بالأدلة والبراهين أن ما ذكروه من العبادة والنداء والسؤال، والشفاعة والاستشفاع، والنصر والاستنصار، والمدد والاستمداد، والعون والاستعانة، والغوث والاستغاثة، والدعاء والحب، والتوكل والخضوع، والإنابة، والخوف والرجاء، والطاعة، هذه كلها وما شاكلها من العبادة الشرعية. فإخراجهم هذه الأشياء كونها من العبادة باطل شرعًا، وقد سبق معنا بيان هذا الأمر مفصلاً فلا نعيده هنا. ويُكتفى هنا بالردود على بعض هذه الأفكار بما يلي :
أولاً: إن هذا القول يصادم النصوص الواضحة التي سمت دعاء المسألة عبادة، وهي كثيرة:
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة ". وقد سبق إثبات ذلك بالتفصيل.(2/386)
ثانيًا: إن أكثر استعمال الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان العرب ومن بعدهم من العلماء في السؤال والطلب. ومن الأدلة على ذلك: صنيع المؤلفين من المحدثين وغيرهم، حيث يعقدون في كتبهم بباب الدعوات أو كتاب الدعوات أو مثل هذه العبارة، ثم يوردون ما يتعلق بدعاء المسألة فقط. وأغلبهم لا يتعرضون لدعاء العبادة في تلك الكتب والأبواب.
ومثل هؤلاء آخرون الذين أفردوا كتبًا خاصة بالدعاء وهي كتب كثيرة للمتقدمين والمتأخرين، لم يذكروا في تلك الكتب إلا ما يتعلق بدعاء المسألة. فهذا يدل على أن الاستعمال لكلمة الدعاء في لسان المصنفين من العلماء إنما هو دعاء المسألة.
ثالثًا: لو سلمنا أن المراد بالدعاء في الآيات: دعاء العبادة، لا نُسلِّم بأن دعاء المسألة لا يدخل في العبادة، فإنه إن لم يكن الدعاء من العبادة فلا عبادة يمكن تصورها؛ لأن الدعاء يتضمن أنواعًا من العبادات وليس عبادة واحدة فقط، فهو يتضمن الرجاء والخوف والتوكل والتضرع والابتهال والخشية والطمع والتوجه إلى الله، والإقبال عليه، والانطراح بين يديه، وحسن الظن بالله والمراقبة لله، كما أنه يتضمن سؤاله وذكره وثناءه والتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
فإذا لم تكن هذه الأمور عبادة فلا يمكن أن نتصور عبادة، وقد وردت الأدلة الصحيحة بأن الدعاء هو العبادة وأنه مخها وروحها، قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" (فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات، فإن لم يكن الإشراك فيه شركًا، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركًا من الإشراك في غيره من أنواع العبادات).(2/387)
فتحصّل من هذا أن الدعاء داخل في العبادة، وأن الآيات والأحاديث الواردة في العبادة والتحذير من صرفها لغير الله تعالى تشمل وتعم جميع أنواع العبادات ومن أجلّها دعاء المسألة، وقد قدمنا تلازم نوعي الدعاء وأن دعاء العبادة يستلزم الطلب والسؤال، فلا ينفع الخصم تأويل معنى الدعاء إلى العبادة وتضييقه لمفهوم العبادة حيث يظن أنها خاصة بالصلاة والصوم والحج.
وما وقع من وقع في الشبهة المذكورة إلا لحصره العبادة في بعض الأعمال الظاهرة. وقد سبق معنا بيان أبعاد العبادة وأنواعها، فمن عرف أنواع العبادة يعرف جيدًا أن هذه الشبهة ما تطرق إلى الأذهان إلا لقلة العلم وعدم معرفة مقاصد الشرع ومفهوم الشرع في العبادة.
الثانية منها: أن الشرك لا يتحقق باعتقاد الربوبية والخالقية والاستقلال بالنفع والضر في غير الله، وقد سبق أن تعرضنا لشبهة الاستقلال، وذكرنا أيضًا: أن المشركين باعتقاد الاستقلال بالنفع والضر في الأصنام والأوثان لم يكن عليه حتى العرب في جاهليتهم، ولم يكن عليه شرك الأمم السابقة أيضًا.
الثالثة منها: إن تلك النصوص إنما وردت في الأصنام فقط، والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام، فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام.
ويُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
1- إن المشركين الذين وردت فيهم تلك النصوص ليسوا كلهم يعبدون الأصنام، فإن منهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأحجار وهي في الأصل صور رجال صالحين، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن الكريم، ومن أوضحها قوله تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.(2/388)
فهذه الآية في العقلاء دون شك وإن اختلف المفسرون في تعيينهم:
أ- فقيل: الجن، فقد روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ). وفي رواية: (فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدون لا يشعرون).
ب- وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود أنها نزلت في الملائكة، ومثله عن عبد الرحمن بن زيد.
ج- وفي رواية أنهم: عزير وعيسى وأمه والملائكة، رُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
فهذه الأقوال المنقولة عن السلف في تفسير هذه الآية ليس بينها اختلاف؛ لأنها عامة تشمل كل هذه الأقوال، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم إنه ليس مراد من فسرها بالجن أو الملائكة أنها خاصة بذلك، وإنما مراده مجرد التمثيل.
قال شيخ الإسلام: (وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل مَن كان معبوده عبادًا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ: الخبز؟ فيريه رغيفًا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه.
وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع من شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس).
فمعنى الآية: أن الذين يدعوهم المشركون هم أنفسهم يتقربون إلى الله بالطاعات ويرجونه ويخافونه، فكيف يجوز دعاؤهم؟ وهذا كقوله تعالى: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء } .(2/389)
وأما القول بأنه لا تعم إلا الذين كانوا أحياء في وقت النزول - وهم الملائكة والجن؛ لأنهم هم الذين يتقربون ويرجون ويخافون وقت نزول الآية، وأمَّا الذين ماتوا مثل عزير ومريم فلا تشملهم - فقيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الآية تذكر صفتهم في حال حياتهم فقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى، ويمكن أن يقال أيضًا: إنهم ما زالوا يتقربون كما ورد أن موسى يصلي في قبره، وأما الرجاء والخوف فلا ينقطع إلا بعد دخول الجنة يوم القيامة.
فتبيّن بهذا أن الآية في المعبودين من العقلاء من دون تخصيص صنف دون صنف. وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن هذه الآية في المدعوين العقلاء وليست في الأصنام: يقول الرازي: (وليس المراد: الأصنام؛ لأنه تعالى قال في صفتهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة).
ومما يدل على أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن يعبدون غير الأصنام ما بيَّنه الله سبحانه وتعالى في كتبه من الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالصالحين، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام، والشرك بالجن، وأصل ذلك كله الشرك بالشيطان. وقد سبق معنا بيان أنواع الشرك التي كانت موجودة في الجاهلية، واستدللنا لكل هذا الأنواع من الشرك بدلالات القرآن والسنَّة ومن أخبار العرب وتاريخهم بما لا مزيد عليه.
2- لو سلّمنا أن تلك النصوص وردت في الأصنام فقط على سبيل التنزل فإننا نقول: إن تلك الأصنام هي تماثيل لقوم صالحين؛ فقد ثبت في: ود وسواع ويغوث... إلخ، إنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح، كما ثبت أن اللات رجل يلت السويق للحجيج. وقد تقدم معنا ذكر ذلك كله بالتفصيل.(2/390)
فعلى هذا فعبادة الأصنام ترجع في الحقيقة إلى عبادة الصالحين فهي الأساس في العبادة وأصل الفتنة ورأس البلية. وقد ذكر كثير من علماء الإسلام هذا المعنى وبيَّنوا أن عبادة الأصنام ترجع إلى عبادة العقلاء من الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب.
3- إن تلك النصوص عامة شاملة لجميع المدعوين من دون الله سواء كانوا من الأصنام الجامدات أو العقلاء؛ لأن تلك النصوص وردت بألفاظ العموم فتشمل الجميع.
وبعض تلك النصوص جاءت بألفاظ خاصة بالعقلاء، نحو: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن (الذين) لم يخبر به إلا عن العقلاء؛ ولأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت.
وبهذا يتبين أن النصوص عامة لكل المدعوين من العقلاء وغيرهم، ومن ادّعى التخصيص بغير العقلاء فعليه البرهان ولا برهان له يدل على الفرق بين العقلاء وغيرهم؛ (لأن الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسمًا آخر، فلا اعتبار بالاسم قط...
وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور...).(2/391)
وإنما قلنا بأن الآيات جاءت بألفاظ العموم؛ لأنها جاءت بصيغة الموصول وهي من صيغ العموم، كقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، وقوله: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ}، وقوله: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ}.
فهذه الموصلات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعو ومعبود نبيًّا كان أو ملكًا أو صالحًا، إنسيًّا أو جنيًّا، حجرًا أو شجرًا متناولة لذلك بأصل الوضع، فإن الصلة كاشفة ومبيّنة للمراد، وهي واقعة على كل مدعو من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية.
وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب، والمعهود عند مَن يعقل مِن أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عبدوا مع الله وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم.
فتبيَّن مما سبق بطلان القول بأن النصوص واردة في الأصنام، واتضح أنها عامة لكل معبود من دون الله تعالى .
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1258-1268) .
الشبهة(15) : شبهة تنزيل الآيات الناهية عن الشرك على غيرهم
إن القبوريين لمَّا كانوا يدعون الأولياء والصالحين، واستدل عليهم العلماء بالآيات القرآنية والأحاديث الواردة في أن الدعاء والطلب والشفاعة وغيرها من العبادة، وأن الله عز وجل قد كفّر المشركين الأول لهذه الأعمال، قالوا: إن المشركين الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويُكذِّبون الرسول صلى الله عليه وسلم ويُنكرون البعث، ويكذبون القرآن، ونحن نشهد الشهادتين ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم... فكيف تجعلوننا مثلهم بمجرد قصدنا الأولياء للشفاعة؟
واحتجوا على هذا بحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا..." وحديث أسامة، وغيرهما من الأحاديث الآمرة بالكف عمن قال: لا إله إلا الله.(2/392)
يُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
الإقرار بالشهادتين والاعتراف بالشريعة الإسلامية لا يُغني عن الاحتراز من الوقوع في نواقض الإسلام، ولا يلزم من ذلك بقاء الرجل على الإسلام ولو أتى بالكفريات وبما يناقض الشهادتين، والأدلة على ذلك كثيرة.
1- إجماع العلماء - رحمهم الله - على أن من صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء وكذَّبه في شيء يكفر، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}.
وقد علم أن التوحيد أهم أركان الإسلام، فمن أنكره أو أنكر بعض جوانبه فقد كفر.
2- وقد وقع في التأريخ الإسلامي ما يدل على إجماع العلماء على تكفير من أنكر بعض الشيء من الدين، ومن ذلك:
أ - إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال المرتدين بعد مناقشة عمر لأبي بكر وبيانه له، فلم يحصل بينهم في قتالهم خلاف مع أن بعضهم لا زال يقر بالإسلام.
ب - قد حرق علي رضي الله عنه الذين غلوا فيه وألهوه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا من التابعين، وقد أنكر عليه ابن عباس الإحراق بالنار- لما جاء عنده عن الرسول منع الإحراق بالنار - لا أصل قتلهم.
3- فقهاء المذاهب يعقدون أبوابًا في أحكام الردة، ولو أن المسلم لا يمكن وقوع الكفر منه لما كانت حاجة إلى عقد تلك الأبواب. وقد ذكروا في تلك الأبواب ما هو أقل بكثير مما نحن فيه.(2/393)
4- قد وردت آيات تدل على ارتداد من ارتكب بعض الكفريات، مع كونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه ويقاتلون الكفار، قال تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، وقال سبحانه: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}. وهؤلاء كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلو كان مجرد الشهادتين يمنع الحكم بالكفر لما كفَّرهم، وحكم بأنهم كفروا بعد إيمانهم.
5- كما أنه قد وردت آيات أُخر تُبيّن أن من أشرك يبطل عمله، حتى ولو كان من الأنبياء والمرسلين مع أن الله عز وجل عصمهم، فكيف بغيرهم؟ قال تعالى بعد ذكر جملة من الأنبياء: { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
6- الأنبياء والرسل الكرام وجلة الصالحين كانوا يخافون على أنفسهم الشرك، ولو كان مجرد النطق بالشهادتين يكفي ولا يضر الإتيان بما يناقض ذلك لما خافوا على أنفسهم من الشرك. قال إبراهيم عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ}. وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، وقال إنه أخفى في أمته من دبيب النمل على الصخرة الصماء في ليلة ظلماء.(2/394)
7- يُقال أيضًا: إن الجامع بين المشركين من الأولين والآخرين موجود وهو الشرك، فالحكم في ذلك واحد لا فرق فيه؛ لعدم الفارق ووجود الجامع. وفي أصول الفقه: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويلزم من هذا الاعتراض أن يقال: كل حكم نزل على سبب مخصص في قضية سالفة فهو لا يتعداها إلى غيرها.
وهذا باطل، وتعطيل لجريان الأحكام الشرعية على جميع البرية؛ لأنه يلزم من اعتقاد أن الآيات لا تشمل إلا المشركين الأوائل الذين نزلت فيهم أنها لا حكم لها الآن، فالذي يجب على الإنسان إذا قرأ القرآن أن لا يحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأنموذج. بحكم الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة...".
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في الرد على مثل هذه الشبهة: (إن من منع تنزيل القرآن، وما دلَّ عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجرًا له وعزلاً عن الاستدلال به في موارد النزاع. فنصوص القرآن وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب.
وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به، مع معرفته؟).
ويقول "ابن سحمان": (فمن فعل كما فعل المشركون من الشرك بالله، بصرف خالص حقه لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، واستغاث بهم كما يستغيث بالله، وطلب منهم ما لا يُطلب إلا من الله، فما المانع من تنزيل الآيات على من فعل كما فعل المشركون، وتكفيره، وقد ذكر أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن إذا عميت قلوبهم عن معرفة الحق، وتنزيل ما أنزله الله في حق المشركين على من صنع صنيعهم واحتذا حذوهم فلا حيلة فيه).(2/395)
وأما احتجاجهم بالأحاديث الآمرة بالكف عمن قال: لا إله إلا الله، فيقال: إن الأحاديث تدل على وجوب الكف عمن قالها إلا أن يتبيّن منه ما يناقض تلك الكلمة، كدعاء غير الله تعالى، والاستغاثة بالأولياء وما إلى ذلك.
وقد ثبت في بعض طرق الأحاديث ما يفيد ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث له: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به". فقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤمنوا بي وبما جئت به" يدل على وجوب الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي مجرد الإيمان بالشهادتين فقط.
كما ورد نحوه في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله".
فدلَّ على اشتراط الكفر والبراءة مما يعبد من دون الله، وأنه لا يُكتفى بمجرد النطق بلا إله إلا الله.
ويدل لذلك أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يحتجون به "إلا بحقها" وفي رواية: "إلا بحق الإسلام". وحقها: إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يُفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء.
وقد صرَّح بعض العلماء بأن حديث الأمر بالكف بالإقرار بالشهادة خاص بمشركي العرب، وأمَّا من كان يُقرُّ بالتوحيد كاليهود فلا يُكتفى بقوله: لا إله إلا الله؛ لأنها من اعتقاده، فلا بد من إيمانه بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/396)
ثم من المعروف إن لكلمة (لا إله إلا الله) شروطًا لصحتها، فليس كل من قال: لا إله إلا الله يكون إيمانه صحيحًا، بل لا بد من مراعاة الشروط فيها، فقد سُئل بعض السلف: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: نعم، ولكن للمفتاح أسنان - وذكر أشياء، ثم قال:ـ كما أنه لا يفتح بالمفتاح الذي لا أسنان له، هكذا مجرد النطق بالكلمة لا تُجدي ولا تنفع.
فاتضح بما سبق: أن كلمة الشهادتين وإقامة الصلاة.. إلخ إنما يفيد من التزم بمقتضى ذلك، ولم يأتِ بما يناقضه، وأمَّا مَن لم يلتزم بذلك وأتى بالنواقض فلا يمنعه.
هذا، وقد أعرضتُ عن شبهات أخرى يتشبث بها المتصوفة القبورية، كالاحتجاج بالأحاديث الموضوعية والمنامات والإلهامات - إذ يكفي أن يقال عنها كلها: إنها مردودة - فأمَّا الأحاديث الموضوعة فمردودة مطلقًا، وأما المنامات والإلهامات فإنه لا يثبت بها شرع مطلقًا، ولا تُقبل إلا إذا جاءت موافقة للشرع، والأمر فيه كما في مراقي السعود:
وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء
قال شارحه عن الإلهام: (وليس بحجة؛ لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان فيها).
وقال: (وكذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يأمره وينهاه لا يجوز اعتماده...؛ لعدم ضبط الرائي).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1268-1274) .
شبهات الصوفية
الشبهة(1) : إيجابهم اتخاذ الشيخ
ومن أقوالهم :
وصحبة شيخ وهي أصل طريقهم
فما نبتت أرض بغير فلاحة
ومن أقوالهم في ذلك : الدين إطاعة رجل.
ومن أقوالهم : قول قائلهم "الغوث": لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله.
وستكون مناقشة هذه الشبهة بعرض أقوالهم وأفعالهم وعقائدهم على القرآن والسنة قبل كل شيء:(2/397)
1- يقول سبحانه في كتابه العزيز: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
واضح من الآية الكريمة كل الوضوح، ودون لَبْس أو إشكال أو غموض، أن من يردُّ ما يُتنازع فيه إلى غير الله ورسوله، فهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
وردُّ الشيء إلى الله والرسول، يعني عرضه على الكتاب والسنة، فالقرآن كلام الله، والسنة كلام رسوله المُوحَى معناه من الله سبحانه.
والصوفية يردون كل شيء إلى شيوخهم، ويطلبون من الآخرين أن يردوه إليهم، ويكفي إيراد قولٍ واحدٍ لأحد أقطابهم:
"... وإن قال (قائل) للمريد: إن كلام شيخه معارض لكلام العلماء أو دليلهم، فعليه الرجوع إلى كلام شيخه... وإذا خرج المريد عن حكم شيخه وقدح فيه، فلا يجوز لأحد تصديقه؛ لأنه في حال تهمة لارتداده عن طريق شيخه".
- السؤال: أيها المسلم المؤمن! ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
إن الآية الكريمة تضع الجواب الكريم: {... فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، التي يُستنبَط منها: إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر، فردوه إلى الشيخ أو إلى من تريدون.
2- ويقول سبحانه: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فكل شرع في الدين، كائنًا ما كان، لم يأذن به الله فهو شرك.
والشيوخ في الصوفية يشرعون في دينهم كل ما لم يأذن به الله، ونكتفي بإيراد قول قطبهم المدَّرك:
من يذكر الله تعالى بلا شيخ ، لا الله حصل ولا نبيه ولا شيخه.
فمن أين أتى بهذا التشريع؟ وما هو حكم من يأخذ بهذا التشريع الوثني؟(2/398)
ونعود للسؤال؟ ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا ومثله؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
والآية الكريمة تقرر الجواب: { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
3- يقول سبحانه في وصف أهل الكتاب: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
يورد ابن كثير: سَمِعَ عدي بن حاتم الطائي (وكان نصرانيًّا فأسلم) هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
وقد فعل الصوفية ذلك واتخذوا شيوخهم أربابًا من دون الله. ونكتفي بقولٍ لحجتهم الغزالي:
"... فالعلم بحدود هذه الأمور (أي المجاهدات والمقامات)... هو علم الآخرة، وهو فرض عَيْن في فتوى علماء الآخرة...".
وهو كلام واضح صريح، لا يُحتاج معه إلى غيره؛ لأنه كلام من يسمونه "حجة الإسلام"، مع أن غيره يملأ الكتب، على أنهم يُحلِّون ويُحرِّمون ويفرضون الفروض ويسنون السنن.
والسؤال: قل لنا أيها المسلم المؤمن، ما هو حكم الشريعة الإسلامية فيمن يقول مثل هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟
وفي الآية الكريمة الجواب: { سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
4- ويقول سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ..} .
وقد اتخذ المتصوفة من شيوخهم أندادًا يحبونهم كحبِّ الله، بل أشد حبًّا، حتى كأن الآية أنزلت فيهم خاصة، وهذا قول مَرَّ معنا لأحد أقطابهم العظام:
"حقيقة حب الشيخ أن يحب الأشياء من أجله ويكرهها من أجله، كما هو الشأن في محبة ربنا عز وجل".
وقول الآخر: الطريق ذكر الله ومحبة الشيخ.
والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يقول هذا؟ أو يفعله؟ أو يعتقده؟(2/399)
إن الآية الكريمة تعطينا الجواب الكريم: { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } .
5- قال ربعي بن عامر لكسرى: "بعث الله إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة الناس إلى عبادة ربّ الناس".
وجاءت الصوفية لتعكس الآية وتعيد الشرك إلى مساره، فتخرج الناس من عبادة رب الناس إلى عبادة المشايخ وعبادة قبور المشايخ!
والسؤال: ما هو حكم الشريعة الإسلامية على هؤلاء؟ بل ما هو حكم الشريعة الإسلامية على من يتوقف في الحكم عليهم؟
6- سيقول لك المتصوفة وشيوخهم وكثير من الغافلين والمغفلين: "معاذ الله، الصوفية لا يعدون الشيوخ، لا يعدون إلا الله.." وقد يقدِّمون بعض الأمثلة الموهمة والمتداولة بينهم.
فنجيب: لا، بل يعدون الشيوخ، وهذه أقوالهم وأقوال عارفيهم وأقطابهم الذين يتبركون بالركوع أمام قبورهم ولثم حجارتها والاستغاثة بما فيها من رِمَم، وأمثلهم طريقة ذلك الذي يعتقد أنهم يقربونه إلى الله زُلفى وحسن مآب، وهذه أفعالهم كلها شاهدة عليهم بوضوح كوضوح الشمس في رائعة نهار مشمس، على أنهم يؤلهون الشيوخ ويعدونهم. ولو جمعت أقوال عارفيهم في تأليه الشيوخ لملأت ألوف الصفحات.
وإنكارهم هذا، يُسمى في الشريعة الإسلامية وفي اللغة العربية وفي جميع ما تعارف عليه البشر من أخلاق "الفجور".
- وسيقول بعضهم، متحرفًا لقتالٍ (وفي لغة العصر مناورة): هذا واقع كثير من المتصوفة، وهو من الدخن والانحراف الذي أصاب التصوف كما أصاب غيره من أمور الشريعة. والتصوف الحق بريء من ذلك.(2/400)
فنقول: "شنشنة نعرفها من أخزم". إن واقع المتصوفة منذ أن وجدت الصوفية وفي كل الأمم، لا في المسلمين وحدهم، هو تأليه الشيخ وعبادته، وهي الطريق التي توصل المريد أو السالك إلى استشعار الألوهية، أما من يصل إلى الجذبة دون شيخ فيسمونه هم: "المراد"، ويعنون بها أن الله أراده فجذبه إليه. وهذا افتراء على الله الكذب؛ لأن القرآن ينفي على لسان المسيح صلوات الله عليه أن يعرف أحد ما يريده الله: {... إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، ونقول لهم: هذه صورة من مراوغاتكم (للالتفاف حول الهدف)، أتقنتموها أنتم وأشياخكم تظهرونها وتخفونها حسب الظروف المحيطة، وهي من أساليب التقية الواجبة في عقيدتكم الصوفية كما قال الغزالي:
وإن كان قد صح الخلاف فواجب على كل ذي عقل لزوم التقية
7- وقد يأتي من لا يستحي من أن يقول: إن كلام العارفين هذا له تأويل!!
فنقول له: لقد انتهينا من خرافة التأويل، وأحبولة التأويل، ومغالطة التأويل، وخدعة التأويل، { يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}؛ لأنهم إذ يقولون هذا له تأويل، فهم يخادعون ويكذبون ويدجِّلون ويمكرون لجر المسلمين إلى زندقاتهم.
8- يدَّعون حب الله، وما أكثر أقوالهم في ذلك وفي العشق الإلهي. ومن المقامات التي يدعيها بعضهم في السلوك إلى الجذبة ما يسمونه "المحبة والشوق" إلى الله.(2/401)
والله سبحانه وتعالى يقول آمرًا رسوله أن يعلمنا: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. فالله سبحانه يأمرنا إن كنا نحبه، أن نتبع رسوله، وهذا يعني أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدليل على حب الله، وعدم اتباعه دليل على عدم حب الله، وهؤلاء القوم يتبعون المشايخ الذين يأمرونهم بتأليه الرسول لا باتباعه. فهل هم بعد ذلك صادقون بادعائهم حب الله؟
الجواب : هو ما تقرره الآية الكريمة، بأنهم لا يحبون الله، وهذا هو واقعهم، فهم يحبون الجذبة واللذة التي يجدونها أثناء الجذبة والتي تستغرق كل خلية في كيانهم، وهي لذة تحشيشية جنسية يتوهمون أنها إلهية، ثم بعد أن يقعوا في الجذبة عددًا كافيًا من المرات، يُصابون بمرض الإدمان، مثل الإدمان الذي يصيب متعاطي الأفيون تمامًا، حتى إذا ما امتنعت عليهم الجذبة في بعض الأحيان لسببٍ ما، أصيبوا بنفس الأعراض التي تصيب مدمن الأفيون عندما ينقطع عنه، من وله قاتل وصداع وما يشبه الجنون. وهذا هو ما يسمونه "العشق الإلهي" الذي يظهر في بولهم.
النتيجة : الذين يتبعون المشايخ لا يحبون الله، إذ لو كانوا يحبونه لاتبعوا رسوله.
ويقول سبحانه: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء}، هذا أمر من الله، يكفر من يخالفه.
وهؤلاء القوم يتبعون من دونه المشايخ، يأمرونهم بكل ما لم ينزل به الله سلطانًا فيأتمرون به! يأمرونهم بالركوع للشيخ فيركعون! يأمرونهم بالرابطة التي يسمونها "شريفة" فيطيعون! يأمرونهم بالرقص فيرقصون! يأمرونهم بأوهام كشوفهم في العقائد والعبادات فيأتمرون! فهل يكونون بعد ذلك من أهل القرآن؟!
إن أهل القرآن هم الذين يعملون بأوامره وينتهون عن نواهيه.(2/402)
9- يقول سبحانه: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا}. فهل يتبعها هؤلاء القوم؟ طبعًا لا؛ لأنهم عندما يتبعون مشايخهم فقد خرجوا من اتباع الشريعة. وقد مَرَّ معنا قول أقطابهم للخادم: "كُلْ ولك أجر صوم شهر، وكُلْ ولك أجر صوم سنة"، وموافقة عالمهم القطب القشيري على ذلك.
فهل هذا هو اتباع للشريعة الإسلامية؟ طبعًا لا!
10- رأينا قول أبي مدين المغربي في الشيخ:
ففي رضاه رضا الباري وطاعته يرضى عليك فكن من تركها حذرًا
وقول عبد القادر الجيلاني: إذا لم تفلح على يدي لا فلاح لك قط.
وقوله: والتحبب إلى الشيوخ من الأولياء والأبدال إذ ذاك سبب لدخوله في زمرة الأحباب.
وغيرها، وغيرها من الأقوال التي تملأ ألوف الصفحات. فما هو حكم الإسلام في ذلك؟
يقول سبحانه: { فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
إن المتصوفة هم أول من تنطبق عليهم أحكام هذه الآية باتخاذهم أولياء من دون الله ليقربوهم إلى الله زلفى..
- والسؤال: لم إذن يقدسون الشيخ هذا التقديس؟ وما هي فائدته؟
- إن للخضوع الكامل للشيخ ولعبادته وتقديسه فائدتين عظيمتين:
أ - خرق العادة: فمن القواعد المقررة أن الشياطين لا تقدم خدماتها للساحر إلاَّ بعد أن يكفر: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}، والسحر هو الكهانة، وهي الصوفية؛ فكلما ازداد المريد غلوًّا في إشراكه الشيخ بالله، كلما ازدادت أمامه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها "كرامات"، ويعزونها إلى المدد المفاض عليهم من الشيخ!(2/403)
ب - التحقق أثناء الجذبة بالفناءات في الله: "الفناء في صفات الله وفي أسمائه وفي ذاته"، أو "التحقق بالألوهية"، وذلك أن المجذوب يرى في أحلام جذبته، صورًا هي خليط من انطباعات قديمة وحديثة مستقرة في أعماق لاشعوره، تختلط مع أماني وطموحات تسربت إلى أعماق نفسه من المحيط الذي يعيش فيه، وهذا هو نفس ما يراه متعاطي الحشيش والأفيون وعقار الهلوسة، ومن دون الشيخ تكون رؤى المجذوب مثل رؤى الحشاش، تدور حول الجنس واللهو واللذة أو الحقد والحسد، لكن الشيخ، بخبرته التي استقاها هو أيضًا من شيخه، يغرس في نفس المجذوب طموح العروج إلى السماوات والعرش والجلوس مع الله (جل الله)، ثم الفناء فيه بحيث يرى نفسه أنه جرء منه (سبحانه)، أو أنه هو هو بكامل أسمائه وصفاته (سبحانه وتعالى عما يصفون)، ويرى في أحلام جذبته أنه يتصرف بالكون، ويقول للشيء: كن، فيكون. ولا ينجح الشيخ بهذه المهمة إلا إذا كان المريد قد عجن عقله وعواطفه ونفسه كلها بحب الشيخ وتقديسه وطاعته، بحيث تغدو كلمة الشيخ جزءً من كيان المريد لدى التلفظ بها.
ويجب أن لا ننسى أن قوة شخصية الشيخ وجاذبيته تلعبان دورًا هامًّا في استقطاب قلوب مريديه وعواطفهم حوله وتساعدان على تهيئتهم لرؤى (تحشيشهم الروحاني) التي يسمونها "الكشف".
وفي هذا يقول الغزالي :
"... فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض، وسُبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سُبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه، وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها... فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه، فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد.. أهـ.
ولذلك قالوا أيضًا: "من لا شيخ له فشيخه الشيطان"؛ لأن رؤاه تكون مثل رؤى الحشاشين تمامًا.(2/404)
- وأخيرًا، لنقرأ قوله سبحانه: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}.
ولم يقل سبحانه: قد أفلح الذين يتمسكون بالشيخ، أو لا فلاح إلا باتباع شيخ، أو من لا شيخ له فشيخه الشيطان.. أو بقية الشركيات.
- وهنا يقف المسلم الصادق أمام أمرين لا ثالث لهما، إمّا أن يؤمن بالقرآن الكريم ويكفر بهؤلاء القوم وبعقيدتهم، وإمّا أن يؤمن بهم وبعقيدتهم ويكفر بالقرآن الكريم، وأي طريق آخر لا وجود له إلا بالمراوغة والدجل .
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 603 - 611 بتصرف يسير ) .
الشبهة(2) : شبهة الرياضة ( المجاهدة ) وما فيها من جوع وصمت وخلوة ..الخ
لنبدأ مناقشة هذه الشبهة بقراءة آياتٍ من كتاب الله:
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}.
{ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي}.
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.(2/405)
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله، لا يأتي من عنده بشيء في التشريع مطلقًا، وكل شيء يأمر به وينهى عنه فهو اتباع لما يوحى إليه.
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
ويأمره الله سبحانه، والأمر موجه لكل من يتبع الرسول:
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا } .
{اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء}.
{وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}.
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ}.
والآيات كثيرة، والأحاديث كذلك كثيرة، منها:
"وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ".
ومن القواعد الأصولية المقررة: كل العبادات باطلة إلا ما نزل به نص.
فهل يتبع الصوفية آيات الله وأحاديث رسوله، فيما يسمونه افتراءً "السير إلى الله"، وما هو إلا السير إلى الجذبة، وإلى الرؤى العصابية والشيطانية التي يستشعرونها في الجذبة. هل يتبعون آيات الله وأحاديث رسوله؟!
1- الخلوة:
ليست من العبادات الإسلامية، ولا خلوة في الإسلام، وهي بدعة محدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أصحابه وتابعيهم وتابعي تابعيهم.
إنها بدعة محدثة في الإسلام، أما في الأمم الأخرى فهي قديمة قِدم الكهانة.
2- الصمت:
وهو مناقض للعبادة في الإسلام، إذ العبادة هي أقوال وأعمال معينة، علَّمها الرسول للمسلمين ليتبعوها ولا يتبعوا غيرها، (وإلا فما هي الفائدة من رسالته؟).
ولا يوجد أي نص يجعل الصمت من العبادة الإسلامية، فهو بدعة.
وهو موجود في كل الأمم التي بُنيت عقائدها على الكشف والإشراق.
3- الجوع:(2/406)
فرض الله سبحانه صيام رمضان، وسن رسوله صلى الله عليه وسلم صيام أيام آخر، وحَرَّم الوصال في الصيام، كما أمر أن يكون الصيام في غير رمضان متقطعًا.
وجوع الصوفية هو صيام أيام كثيرة لا يفطرون فيها مع المغرب، ولا سحور فيها، بل جوع مستمر حسب الأسلوب الكهاني الموجود في الهندوسية والبوذية والجينية والطاوية وغيرها، فهو ليس من العبادات الإسلامية، وليس من الإسلام في شيء، وهو بدعة.
4- السهر:
الوارد في الإسلام هو قيام الليل ضمن الحدود التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "... ولكني أُصلي وأنام، وأصوم وأُفطر.. فمن رغب عن سنتي فليس مني".
فليس السهر من الإسلام، ولا من عبادات الإسلام، ولا من المعمول به في الإسلام، وقد رأينا قول رسول الإسلام فيه وفي الجوع: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"، أي: إن الذين يقومون بهذه الطقوس ليسوا من رسول الله، وبالتالي ليسوا من الإسلام.
5- تعذيب النفس بالضرب (كما كان يفعل الشبلي وغيره)، أو بالوقوف على رجل واحدة طيلة الليل، أو غير ذلك مما هو مستفيض في كتبهم، فهذا واضح البطلان، وهو من تلاعب الشياطين بهم، وليس الله سبحانه بحاجة أن يضربوا أنفسهم ويعذبوها ليرضى عنهم: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، إنما يرضى الله عن المؤمنين إذا عبدوه كما أمرهم (لا كما يبتدعونه أو يقلدون به أصحاب الوثنيات)، ويرضى سبحانه عن المؤمن إذا أدى لكل ذي حق حقه.
· ملاحظة هامة:
من أساليب القوم في المغالطة والمخادعة، قولهم: إنهم يتأسون، في الخلوة وتوابعها، بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قبل الرسالة يختلي أيامًا كثيرة في غار حراء.
هذه المغالطة، مثل غيرها، فيها جهل غبي، أو تجاهل ماكر؛ لأن الآية الكريمة تقول: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..}.(2/407)
ولم يصبح محمد "رسولَ الله" إلا بعد أن نزل عليه الوحي بالرسالة، أما قبلها فقد كان إنسانًا كبقية الناس على الإطلاق، لا يمتاز عنهم إلا بأخلاقه الكريمة، يقول سبحانه: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}، وهذه الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض، بأن الفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبين بقية البشر، هو الوحي.
ويقول سبحانه: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً}، ويقول: { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ..}، ويقول صلى الله عليه وسلم: "أنا فيما لم يوحَ إليَّ كأحدكم".
ونعود إلى آية التأسي، إنها تأمرنا أن تكون أسوتنا برسول الله (الذي ينزل عليه الوحي)، وذلك لأن (رسول الله) معصوم بالوحي، أما قبل الرسالة فلم يكن معصومًا، لأنه لم يكن يُوحى إليه صلى الله عليه وسلم.
وفي واقع الأمر، إصرارهم على القول بالتأسي بمحمد قبل الرسالة، منبثق عن:
1- عقيدتهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وصل إلى النبوة بالمجاهدة والرياضة، وأن النبوة هي فتح مثل فتوحهم، وهم بالتالي، لا يعتقدون أن النبوة فضل من الله سبحانه يجعلها حيث يشاء.
2- منبثق عن عقيدتهم بما سموه "الحقيقة المحمدية" النابعة من "وحدة الوجود"، الباطلة الكافرة.
3- عن إنكارهم للمعنى الشرعي الصحيح لآيات القرآن وأحاديث السنة، وتأويلهم لها لتتفق مع كشفهم، كما صرَّح بذلك حجتهم الغزالي، وكما نراه معمولاً به في كتبهم.
4- عقيدتهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم معصوم عصمة ذاتية، وليس بالوحي! وأنه أخذ علومه عن طريق الكشف، لا عن طريق جبريل عليه السلام، كما صرَّح بذلك حجتهم الغزالي وغيره.
أخيرًا..(2/408)
المجاهدة، أو الرياضة، بكل عناصرها، ليست من الإسلام، ولا من عقيدة الإسلام، ولا من عبادات الإسلام، ولا من سنن الإسلام، ولا من مستحبات الإسلام، ولا من فضائل الإسلام، ولا من ممارسات الإسلام، ولا من عادات الإسلام، ولا من الأعمال المأجورة في الإسلام، ولا من الأعمال المشكورة في الإسلام.
إنما هي طقوس كهانية، مارستها وتمارسها الأمم الوثنية، تقود إلى الجذبة، لا إلى رضى الله تعالى.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 613 - 617 بتصرف يسير ) .
الشبهة(3) : الذكر عند الصوفية ومدى شرعيته
لم أعثر في حدود اطلاعي، عند إشراقيي الأمم الأخرى، على وجود ممارسة للذكر بمداه الواسع وشكله الأساسي الموجودين عند متصوفة المسلمين.
ففي الأمم الأخرى، يعتمدون أساسًا على الرياضة (الخلوة والجوع والصمت والسهر)، مع تركيز البصر على نقطة ما، مدة طويلة، مع تعذيب النفس في أكثر الأحيان، وهم - أثناء الرياضة - يُركزون الفكر ويثبتونه على كلمة ما، فعند الهندوس مثلاً، يأخذ السالك في رياضته إحدى وضعيات اليوغا، ويركِّز بصره على شيء ما، ثم يركِّز فكره في كلمة "أوم" التي هي عندهم الاسم المستتر لبراهمان، أو "راهام".
قد تدوم مثل هذه الرياضة مدة طويلة جدًّا ، ومن حين لأخر يعمدون إلى الرقص العنيف والموسيقى الصاخبة المدوية يصاحبها الزعاق، ثم يعودون إلى رياضتهم.
- والخضوع المطلق للشيخ (السامانا) الأكبر هو محور كل مجاهداتهم.
تسبب هذه المجاهدة؛ مع الاستمرار والزمن، إفراغًا لمراكز الوعي والشعور في الجملة العصبية، وهي حالة "الاستخدار" التي تجعلها في استرخاء يفقدها كثيرًا من فعالياتها، ويهيئها للتأثر بكمية من المخدر، أي مخدر، أقل من الكمية المؤثرة في الحالة العادية، كما تدفع الجسم لإفراز المادة المخدرة بكمية أكبر من المعتاد.
لكن هذه الرياضة تحتاج إلى كثير من قوة الإرادة والصبر، كما تحتاج إلى العزلة التامة.(2/409)
على أن متصوفة المسلمين عرفوا أسلوبًا سهَّل عليهم الأمر كثيرًا.. إنه ترديد كلمة ما، كائنة ما كانت، بشكل مستمر دون انقطاع، ليلاً ونهارًا، وهو ما سموه "الذِّكر".
وهذا الذِّكر المستمر يساعد كثيرًا على الوصول إلى حالة الاستخدار، ثم إلى الخدر "الجذبة" بمدة أسرع.
لكن هل صحيح ما يدعيه متصوفة المسلمين أمام الناس، أن ذكر الله، سواء بالاسم المفرد "الله" أو بالأذكار الإسلامية الأخرى، أو بأذكارهم وصلواتهم التي يبتدعونها، هي التي تقود إلى الجذبة؟
الواقع خلاف ذلك! فها هم أقطابهم وعارفوهم وعلماؤهم، يؤكدون أن ترديد أي كلمة كانت، أو أي جملة، بصورة مستمرة، مئات الألوف من المرات، أو ملايينها، يؤدي إلى الجذبة، بعد مدة قد تطول وقد تقصر.
وهذه أدلة من أقوالهم في ذلك:
يقول ابن عطاء الله السكندري:
"... والذِّكر تختلف أنواعه وتعدد، والمذكور واحد لا يتعدد ولا يتحدد..".
- لننتبه إلى قوله: "لا يتحدد" وماذا تعني.
ويقول: ... ورُوي أن أبا القاسم الجنيد رحمه الله تعالى قال لبعض خواص أصحابه: إن اسم الله الأعظم هو "هو"... وذُكر أن أهل المعرفة في هذا الاسم على أربعة أصناف أيضًا: فعارف قال: "الله"، وعارف قال: "هو"، وعارف قال: "أنا"، وعارف بهت...
- ما هو معنى قوله: "وعارف بُهت"؟ ولِم بُهِت؟ أظن الجواب واضحًا، إنه بُهت؛ لأنه عرف أن كل شيء هو اسم الله الأعظم.
ومن النصين نفهم أن الذكر يمكن أن يكون بترديد كلمة "الله الله الله الله"، أو "هو هو هو هو"، أو "أنا أنا أنا أنا"، أو الأشياء التي جعلت العارف يُبهت.
ويقول ابن عطاء الله أيضًا:(2/410)
... أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأذكار وما يرد عليه من جملة الأسرار، فقد تجري على لسانه "الله الله الله"، أو "هو هو هو هو"، أو "لا لا لا لا"، أو"آه آه آه آه"، أو صوت بغير حرف، أو تخبط، فأدبه التسليم للوارد؛ وبعد انقضاء الوارد يكون ساكنًا ساكتًا، وهذه الآداب لمن يحتاج إلى ذكر اللسان، أما الذاكر بالقلب فلا يحتاج إلى هذه الآداب...
ويُورد عبد الوهاب الشعراني ما يُشبه هذا، يقول:
... وقال سيدي يوسف العجمي رحمه الله: وما ذكروه من آداب الذكر محله في الذاكر الواعي المختار، أما المسلوب الاختيار، فهو مع ما يرد عليه من الأسرار؛ فقد يجري على لسانه "الله الله الله الله"، أو "هو هو هو"، أو "لا لا لا" ، أو "آه آه آه"، أو "عا عا عا عا" أو "آ آ آ آ"، أو "هـ هـ هـ"، أو "ها ها ها"، أو صوت بغير حرف، أو تخبيط، وأدبه عند ذلك التسليم للوارد.
ويقول ابن عربي:
... فأغلِق بابك دون الناس، وكذلك باب بيتك بينك وبين أهلك، واشتغل بذكر الله بأي نوع شئته من الأذكار، وأعلاها الاسم، وهو قولك: "الله الله الله"...
- نفهم معنى قوله: "بأي نوع شئته من الأذكار" من قول آخر له: ".... فما عُبد غير الله في كل معبود..".
- يعني أن كل ما عُبد من صنم وشجر وبشر وغيره هو الله، ويمكن للذاكر أن يذكر بما يريد من أسماء المعبودات التي عبدت في كل الوثنيات، كأن يردد مثلاً: "هبل هبل هبل هبل.."، أو "جيلاني جيلاني جيلاني.."، أو "جذبة جذبة جذبة جذبة..."، أو "لينين لينين لينين لينين..."، أو "إنتاج إنتاج إنتاج إنتاج...."، أو "مقام مقام مقام مقام..."، أو "ضريح ضريح ضريح ضريح.."، أو "رفاعي رفاعي رفاعي.."، وغيرها.
ويروي ابن عجيبة قصة الششتري، فيقول:(2/411)
... وكذلك قصة الششتري رضي الله عنه مع شيخه ابن سبعين؛ لأن الششتري كان وزيرًا وعالمًا، وأبوه كان أميرًا، فلما أراد الدخول في طريق القوم، قال له شيخه: لا تنال منها شيئًا حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديرًا وتدخل السوق؛ ففعل جميع ذلك، فقال له: ما نقول في السوق؟ فقال: قل: "بدأت بذكر الحبيب"، فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: "بدأت بذكر الحبيب"، فبقي ثلاثة أيام وخُرقت له الحجب...
- نلاحظ أن ذكره هنا ليس فيه شيء من أسماء الله الحسنى.
وكتب ابن سبعين إلى حد مريديه "في الرسالة النورية":
... وجميع ما توجه الضمير إليه، اذكره به ولا تبال، وأي شيء يخطر ببالك سمِّه به، ومَن اسمه "الوجود" كيف يخصص بأسماء منحصرة؟! هيهات! الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض، فإن قلت: نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه، يقال لك: إن من سمى نفسه "الله" قال لك: أنا كل شيء، وجميع من تنادي أنا.. وبعضهم كان يقول: قد قد قد هذا هذا هذا له له له...
ويقول ابن أنبوجة الشنقيطي في "وصف العارف":
... فهو (أي العارف) الخليفة الأعظم، إذ لا اسم له يختص به؛ فإن أسماء الوجود كلها أسماؤه، لتحققه بمراتبها، ولكونه هو الروح في جميع الموجودات، فما في الكون ذات إلا وهو الروح المدبر لها والمحرك والقائم فيها، ولا في كرة العالم مكان إلا وهو حالٌ فيه ومتمكن منه، فبهذا الاعتبار لا اسم له يتميز به عن الوجود...
- نرى في هذا النص أنهم يسبغون على العارف صفات هي نفس ما يسبغونه على الله (تعالى الله عما يقولون)، وعليه يمكن ذكر الله بترديد كلمة: "عارف عارف عارف عارف.." أو "عمر بن الفارض عمر بن الفارض عمر بن الفارض.."، أو "الغزالي الغزالي الغزالي الغزالي.."، أو "الشيخ الشيخ الشيخ الشيخ.."، أو "سيدي سيدي سيدي سيدي.." الخ.
ويقول أبو الهدى الصيادي الرفاعي:(2/412)
... والفناء، حقيقة سر الاعتقاد به من سر قوله عليه الصلاة والسلام: " لو اعتقد أحدكم على حجر لنفعه".
- الحديث مكذوب، والاعتقاد به كفر؛ لكن يهمنا أنهم يؤمنون به، ويؤمنون أن الاعتقاد به ينفع، ومنه إن ذكر ذاكر اسم "حجر حجر حجر حجر"، أو "قبة قبة قبة قبة"، أو "صخرة صخرة صخرة صخرة.." نفعه (في الوصول إلى الجذبة طبعًا).
يردد علي نور الدين اليشرطي نفس القول:
... لو اعتقد أحدكم بحجر؛ لنفعه، وقال: ليس الحجر الذي ينفع، إنما هو الاعتقاد.
- طبعًا، إنهما لم يقررا هذا الحكم إلا بعد تجارب، ويجب أن ننتبه إلى أنه ينفع في التصوف والكهانة والسحر فقط؛ (لأن الصوفية هي نفس الكهانة، والسحر بعضها)، ولا ينفع في شيء غيرها.
ويقول محمد بهاء الدين البيطار:
... فأسماء الله على الحقيقة أعيان العالم وحقائقه، ومظاهر الأسماء هي صور العالم، فلكل اسم إلهي من الصور ما لا يتناهى؛ فكل ما أمات مثلاً من ثعبان أو سيف أو رصاص أو حجر أو عصا فهو صورة من صور الاسم "المميت"، ومعنى المميت: شأن من شئون الذات الإلهية، وهو عين الذات...
ويقول ابن سبعين في "الرسالة النورية" يخاطب أحد المريدين:
...هذه الكلمات التي نذكرها لك مرموزة مني، غير أن الذاكر ينتفع بها، وهي: عمرش أش عمر صح راهيا إيداحا أيهم أردع صعر عرجم كعلم... فقل إذا وجدت البحر والوجود والحمد: قهوم طمس هوالم صعنج ذلك الله ربكم يايايا...
- بديهي أن ابن سبعين لم ينصح مريده بالذكر بهذه الأسماء إلا بعد تجريبها.
- وكما فهمنا من نصوصهم، الذكر يقود إلى الجذبة التي هي الغاية، وفي الطريق قد يحصل للذاكر بعض الخوارق، وينصحونه ألاَّ يهتم بها؛ لأنها تحجبه عن الغاية المنشودة.
والطريق إلى الجذبة قد يقصر وقد يطول، حسب استعداد السالك النفسي والفيزيولوجي، ولعل الذكاء الفطري العالي يبعد الوصول إلى الجذبة! ولعل الغباء الفطري يقصر الطريق إليها.
* وخلاصة لما تقدم:(2/413)
الذكر بترديد أي كلمة كانت مقرر من كبار عارفيهم، فلا مجال للاعتراض عليه أو الشك فيه، إنهم يقدمونه لمريديهم قاعدة يسيرون عليهم في مسيرهم إلى... الجذبة.
ومن البديهي أنهم لم ينصحوا به مريديهم إلا بعد تجربة.
ومنه تعلم أن حقيقة ذكرهم ليست مرتبطة بذكر الله سبحانه، وما التزامهم الاسم "الله" أو عبارات الثناء عليه ودعائه إلا أسلوب ذكي لإلباس التصوف رداء الإسلام، وضعه لهم سيدهم الجنيد، وتوسع فيه حجتهم الغزالي، وهو أحد مظاهر الطريقة البرهانية الغزالية، التي يسمونها "التصوف السنِّي".
وذكرهم كله، موضوعه، وشكله، وزمانه، ومكانه، هو بدعة كله، غريب عن الإسلام كله، ومن الردود المفيدة عليه وعليهم، هو رد الإمام النووي رحمه الله.
لقد اتصل الإمام النووي في أول وصوله إلى دمشق، وهو صغير، بالمتصوفة، وسار في طريقهم، وعندما اتسعت معارفه وفهم الإسلام، ترك الصوفية دون ضجيج، ورد عليهم بكتابين:
1- رياض الصالحين: يُبين فيه بالنصوص الصحيحة (إلا قليلاً منها) طريق الصلاح، وحيث يتبين طريق الصلاح، فكل الطرق من دونه ضلال.
2- الأذكار: يُبين فيه الأذكار الإسلامية ، نصوصها، وأوقاتها، وأماكنها، كل ذلك بأسانيد أكثرها صحيح، وإذ يتبين ذلك، يتبين أن الذكر الصوفي الذي يستعمله السالكون إلى الجذبة، ليس من أذكار الإسلام.
- من جهة ثانية :
كل عبادة في الإسلام لها شروط وأركان.
ويوجد شرط مشترك لكل العبادات الإسلامية (مر معنا في بحث "البدعة")، وهو: "كل العبادات باطلة إلا ما ورد به نص"، وبصيغة أخرى: "لا عبادة دون نص".
والذكر عبادة، فهو يحتاج إلى النص، وإلا فلا يكون عبادة.
وذكر الصوفية من حيث الشكل واللفظ (إذا كان بالاسم المفرد أو "بما شئت من الأذكار" الواردة آنفًا)، لا نص فيه، والنصوص التي يقدمونها، إنما يلفقونها بالتأويل والترقيع، إذن، فهو ليس عبادة.(2/414)
كما أن للذكر في الإسلام أركانًا: نجدها في الآية الكريمة: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}.
يهمنا في بحثنا هنا قوله سبحانه: { فِي نَفْسِكَ...وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}، فعبارة { فِي نَفْسِكَ} تعني: ألا تسمع نفسك، وعبارة: { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} تعني: ألا يسمعك جارك؛ لأن الجهر هو ما يستطيع سماعه الجار.
إذن، فيجوز في الذكر أن يُسمِع الإنسان نفسه وأن لا يُسمعها.
وأما الجهر، فمنهيٌّ عنه بأكثر من آية وأكثر من حديث.
مع ملاحظة أن هناك حالات نص عليها الشارع، يجب فيها رفع الصوت بالذكر أو يجوز، كما في التلبية بالحج، وقبل صلاة العيدين، وفي التعليم، والحالة العفوية، ولتذكير الغافلين (حيث يجهر بعبارة الذكر مرة أو مرتين فقط)، وليس تفصيل هذه الأمور داخلاً في موضوعنا.
وكل محاولة أو مراوغة لاختراق الحدود التي رسمها الشارع من أجل التوسع بمدلول النص لتبرير الأساليب المبتدعة، هي محاولة باطلة، وهي بدعة وهي ضلالة، { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
وتعرف الحدود الشرعية من النص، أو من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه.
والأذكار التي يستعملها الصوفية في الخلوة أو السياحة وفي الحضرة وفي مجلس الذكر أو مجلس الصلاة على النبي أو بعد الانتهاء من الصلاة، كلها فاقدة لشرط وركن معًا، أو لأحدهما على الأقل، لذلك فهي باطلة، وهي بدعة، وهي ضلالة.
والباطل لا يقود إلا إلى باطل.
وإن كلمة قالها الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان "أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم" لهي كافية لحسم هذا الموضوع، قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدوها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً.
- هذا إن كان الذكر بالأسماء الحسنى أو بعبارات الثناء على الله(2/415)
أما إن كان بغيرهما مما يقرره كهانهم من أسماء حجارة أو أوثان أو قبور أو غيرها فهي واضحة الزندقة بيّنة الكفر، وهي من الوثنية التي جاء الإسلام ليحاربها باعتبارها المصدر الرئيسي لكل الشرور، وهي السحر وهي الكهانة.
* قصة مرسلة:-
مستشار في محاكم الاستئناف في مدينة حلب، كانت تجمعه الصلاة في المسجد مع بائع شراب متجول، وفي ذات مرة، طلب إليه البائع أن يجرب أن يقرأ بعد كل وقت من أوقات الصلاة، الكلمات: "بطدٍ زهجٍ واحٍ يا حي ياهٍ" مائة مرة، وبعامل الفضول، صار المستشار يرددها بعد كل صلاة...
بعد ثلاثة أيام، بينما كان جالسًا على قوس المحكمة يفصل في قضايا الناس، إذا به يرى أمامه بيته وأهله يقومون بأعمالهم حسب المعتاد، وعندما رجع إليهم بعد الظهر، سألهم عما كانوا يفعلونه في ذلك الوقت؟ فكان في بعض ما رآه بعض ما كانوا يفعلونه.
وصارت مثل هذه الحالة تتكرر أمامه كلما كرر تلاوة الأسماء.
فِقرة من كتاب صوفي:-
... ولِحرف الباء خلوة، وخادمه مهيائيل، فإذا أردت استخدامه اكتب الحرف وضعْه في رأسك بعد الرياضة، واتل الدعوة والقسم دبر كل صلاة 31 مرة، واتل العزيمة والرياضة 40 يومًا، فإن الملك يحضر ويقضي حاجتك، ومهما أردته تبخر وتقول: أجب يا خادم حرف الباء، فإنه يحضر...
- إن كتب التصوف المحض، والتي لم تؤلف للخداع والتضليل والمراوغة، ملأى بمثل هذه الفقرة، وهي واضحة كل الوضوح في أن التصوف هو السحر، والفرق بينهما أن الصوفي مخدوع مراوغ، والساحر صادق.
ويكفي للدلالة على أن الصوفية هي السحر، الرجوع إلى كتاب "شمس المعارف الكبرى" للبوني، وكتاب "مجموع ساعة الخير" لابن عربي، و"المضنون به على غير أهله" للغزالي، و"صفحات من بوارق الحقائق" للصيادي، وغيرها..(2/416)
لكن أقطاب التصوف العارفين بالله يتواصون فيما بينهم بتأليف الكتب الموهمة أنها من الإسلام، ذات المظهر الإسلامي الخداع؛ لأن الحكمة تقتضي ذلك، وطبعًا هم يفعلون ذلك عن إخلاصٍ وإيمانٍ بما يفعلون، شأن أي متدين مخلص لدينه ومؤمن به.
وقبل الانتقال إلى البحث التالي، يجدر الانتباه إلى أن المتصوفة قد يستعملون الأذكار الإسلامية حسب المنهج الإسلامي، ويكون هذا منهم عملاً صحيحًا، لكنه لا يكون أبدًا تبريرًا لأذكارهم الصوفية حسب المنهج الصوفي.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 618 - 627 بتصرف يسير ) .
الشبهة(4) : الحضرة الصوفية هل هي شرعية ؟
الحضرة الصوفية تكون: جالسة صامتة، أو جالسة صائتة، أو راقصة (بنقص أو من دون نقص).
1- الجالسة الصامتة:
في الرد عليها يكفي حكم عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (كما يرويه الحافظ الذهبي في "التذكرة"): "خذوا عهدكم عن ابن أم عبد".
نجد حكم عبد الله بن مسعود هذا في "سنن الدارمي":(2/417)
... عند عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة (أي الفجر)، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخَرَجَ عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته، ولم أرَ والحمد لله إلا خيرًا. قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه.. رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة مرة، فيُكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة مرة، فيُهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة مرة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكُم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله! يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله، لا أدري، لعل أكثرهم منكم...
- الرجاء ملاحظة أن الجلسة النقشبندية هي مثل هذه الجلسة.
2- الحضرة الجالسة الصائتة:
في الرد عليها نذكر ما يلي:
- الآية الكريمة: { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ...}، وهؤلاء يجهرون بذكرهم، كما يخلو ذكرهم من التضرع والخيفة.(2/418)
- الحضرة بجميع أنواعها، ومثلها هذه، بدعة تنطبق عليها كل الأحاديث الواردة في البدعة، والتي رأيناها قبل قليل.
- حديث ابن مسعود السابق هو رد عليها كما هو رد على الجالسة الصامتة.
- قول حذيفة بن اليمان: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبدوها"، رد عليها وعليهم.
وبالتالي، هذه الحضرة"الجالسة الصائتة" هي مثل غيرها، بدعة، فهي مردودة عليهم.
3- الحضرة الراقصة (وكلها صائتة) :
إن جميع الردود على البدعة وعلى أساليبهم في الذكر، وعلى الجالسة الصامتة، وعلى الجالسة الصائتة، هي ردود على الحضرة الراقصة، يضاف إليها:
- هي نفس صلاة اليهود!
جاء في المزمور (149) عدد (3): "ليسبحوا اسمه برقص، بدُف وعود، ليرنموا له..".
وفي المزمور (150): "سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوج التصويت، سبحوه بصنوج الهتاف...".
- وثنيو إفريقيا السوداء "الفيتيشيون" عباداتهم كلها رقص وسماع.
- الهندوس، صلاتهم لأصنامهم مثل الحضرة الراقصة، يتوسطهم الكاهن أمام الصنم، يرقصون ويهزجون، أي إن صلاتهم هي رقص وسماع وقرع أجراس.
· الخلاصة:-
الحضرة الصوفية بجميع أشكالها، بدعة، ونقض للآيات والأحاديث، وتَشبُّه كامل بالطقوس اليهودية والوثنية، (فيتيشية وهندوسية وجينية وطاوية..).
- أما كونها نقضًا للآيات والأحاديث؛ فهي كفر وزندقة ورِدة.
- وأما كونها تشبه الطقوس الوثنية واليهودية؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من تَشبَّه بقوم فهو منهم".
ولا حاجة للزيادة.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 628 - 630 بتصرف يسير ) .
الشبهة(5) : السماع الصوفي ومدى شرعيته
إن كل النصوص الواردة في السماع، حلاله وحرامه، وكل بحوث العلماء (وأقول: العلماء)، هي نصوص وبحوث فيه على أنه أمر دنيوي، ودنيوي فقط، لا علاقة له بعبادة ولا بتقرب إلى الله.(2/419)
ولم يرد فيه نص (علمي) قط، بتحليل أو تحريم، إلا على أنه أمر دنيوي يُمارس في الأعياد والأعراس والحرب، أو في التسلية واللهو والطرب.
أما أن يكون طقسًا تعبُّديًّا، كما هو عند المتصوفة؛ فهذا شيء ما عرفه التشريع الإسلامي، ولا تكلم فيه عالم؛ لأنه بديهيًّا، غير وارد في العبادات الإسلامية.
أما المتصوفة، فيتخذون السماع طقسًا تعبديًّا روحانيًّا يسهل عليهم ما يسمونه ظلمًا وعدوانًا "السير إلى الله"، وهنا يكمن الداء، ويعشش البلاء.
إن السماع عند المتصوفة عبادة، وفي الغالب يكون مصحوبًا بالآلات، وهذا كله:
1- بدعة، وذلك بيِّن لا يحتاج إلى دليل، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
2- تشبُّه بالوثنيين وأهل الكتاب، يقول سبحانه في وصف صلاة المشركين: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}.
وجاء في التوراة (الحالية) في المزمور (144) عدد 9: "يا الله، أرنم لك ترنيمة جديدة..".
وفي المزمور (146) عدد 2: " أُسبح الرب في حياتي وأرنم لإلهي ما دمت موجودًا".
وفي المزمور (149) عدد3: " ليُسَبِّحوا اسمه برقص، بدُف وعود، ليرنموا له..".
وكذلك هو في الديانات الوثنية طقس تعبدي.
إذن فالصوفية يتشبهون بالسماع بالوثنيين وأهل الكتاب، "ومن تشبَّه بقوم؛ فهو منهم".
* ملاحظة هامة جدًّا:
من العجب العجاب، مغالطتهم في كل مقولاتهم عن السماع، في كل كتبهم (ابتداءً من أمهات كتبهم "اللمع"، "التعرف"، "قوت القلوب"، "الرسالة القشيرية"، "إحياء علوم الدين" إلى بقية ما كتبوا وما دونوا)، حيث يبدءون بمناقشة السماع حسب الشرع والنصوص المزور بعضها، وطبعًا كل النصوص الشرعية في السماع إنما تتكلم عنه على أنه أمر دنيوي يمارس للتسلية واللهو، لكن الصوفية يتوسعون في التحليل حسب طريقتهم في التزوير، ثم يطبقون ذلك على سماعهم التعبدي الذي يجعلونه قربى يتقربون به إلى الله.(2/420)
ولعل الأمثلة التالية يمكنها توضيح مدى الفساد والضلال في أسلوبهم هذا:
- يُبيح الشرع أكل "الشاورما"، فهل يصبح أكل "الشاورما" بهذه الإباحة طقسًا يُعرج به إلى الله؟
- يُبيح الشرع البصاق الذي ليس فيه أذى، فهل يجوز بناءً على ذلك، أن نجعل البصاق طقسًا تعبديًّا في "السير إلى الله"!
لا يعترض الشرع على أحد إذا خطر له أن يحك أذنه بإبهام رجله، فهل يصح بناءً على هذا أن يكون حك الأذن بإبهام القدم طقسًا تعبديًّا يمارس تنشيطًا على "العروج إلى الله"؟!
عجيب أمر هؤلاء القوم! هل هم لا يكادون يفقهون حديثًا؟ أم { يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}؟
وغاية الطريقة الإشراقية هي الوصول إلى الجذبة التي هي الولاية (كما يتوهمون)، وهي حالة خدرية تُشبه الحالة التي يقع فيها متعاطي الحشيش والأفيون ورفاقهما شبهًا تامًّا.
* النتيجة :
هذه هي طريقة الإشراق، كلها كفر وضلال وزندقة، إنها ليست مجرد بدع ساذجة أو انحرافات بسيطة، بل هي الطقوس الوثنية (وأقول: "الطقوس") التي تعبدت بها كل وثنيات التاريخ (في الحال والماضي والاستقبال)، والعقائد الوثنية التي دانت بها أو حامت حولها كل وثنيات التاريخ في ماضي الزمان وحاضره، إنها ليست مجرد اجتهادات شاذة في الفروع أو في الأصول، أو حتى في العقائد؟ إنها طقوس وممارسات وعقائد غريبة عن الإسلام كل الغرابة، بعيدة عن الإٍسلام كل البعد، أُقحمت على الإسلام ومُزجت به بأساليب إبليسية لتشكل ما يسمونه "الطريقة البرهانية" ولو أنصفوا لسموها "الديانة البرهانية".
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 631 - 633 بتصرف يسير )
الشبهة(6): مناقشة الطريقة البرهانية (الغزالية)"ويسمونها عادة التصوف السنّي"(2/421)
إن أول من اشتهر عنه هذا الأسلوب هو الجنيد، الذي كان يتستر بالفقه على مذهب أبي ثور، تلميذ الشافعي، وهو أول من نادى به وطالب المتصوفة بتطبيقه.
وقد قال أبو الحسين النوري عندما خاطب الجنيد قائلاً: يا أبا القاسم، غششتَهم فأجلسوك على المنابر، ونصحتُهم فرموني على المزابل.
لقد غشَّهم الجنيد بتكلمه عليهم بالفقه! ونصحهم النوري بعرضه عليهم الحقيقة الصوفية!
وكانت تجربة الجنيد ناجحة، سار المتصوفة على خطاها، وهذه التجربة مضاف إليها تحبيره مصطلحات الصوفية، وإيجاده أسلوب "العبارة الصوفية" بإشارتها ورموزها وألغازها، كل هذا جعل منه سيد الطائفة بلا منازع؛ لأنه رسم لهم الطريق التي يسيرون فيها بأمان، ويستطيعون بواسطتها نشر عقيدتهم الإشراقية في المجتمعات الإسلامية من دون ضجة.
وسار المتصوفة على خطاها، ومن شذَّ عنها واجه سيف الردة والتكفير، فقُتل من قُتل، طُرد من طُرد، واستتيب من الكفر من استتيب.
ومن أبرز من أصَّل طريقة الجنيد بعده، هو أبو طالب المكي في كتابه "قوت القلوب" الذي بدأه بعرض بعض آيات من القرآن الكريم، انتقاها بحيث يمكن أن يكون لها (بعد ليّ عنقها) علاقةً بالتصوف، وجاء بشيء من الأحاديث في الأوراد وما دار حولها، ثم دخل في علم الباطن وأتبعه بفقه العبادات، وحشا ذلك كله بما يستهوي قلب القارئ نحو التصوف.
ولا يستبعد أن يكون هذا هو منهج الطريقة السالمية التي تخرّج فيها أبو طالب؟
وجاء من بعده حجتهم الذي سموه "حجة الإسلام" أبو حامد الغزالي، فألَّف في الفقه على مذهب الشافعي، وألف في علم الأصول، ومواضيع أخرى، ثم وضع عشرات الكتب في ما سماه "العلم المضنون به على غير أهله" في قمتها كتابه المشهور "إحياء علوم الدين"، ولو أنصف لسماه "إعياء علوم الدين"، أو "إحياء علوم الكهانة".
وبسبب هذا الكتاب، نسبت الطريقة البرهانية إلى الغزالي.
فلنلقِ عليه نظرة عابرة لنصطدم بما يلي:(2/422)
1- تقسيم الكتاب: قسَّم الغزالي إحياءه إلى أربعة أرباع: رُبع العبادات، ورُبع العادات، ورُبع المهلكات، ورُبع المنجيات.
حيث نرى في هذا التقسيم الظالم أنه جعل المنجيات غير العبادات، وجعل العبادات غير منجيات.
ونترك الحكم على هذا التقسيم لكل إنسان عرف بديهيات الدين الإسلامي، بل وبديهيات الأديان جميعها من أولها إلى آخرها، ولكن نسأل: كيف يكون المروق من الإسلام؟
2- لم يكن هذا التقسيم صادرًا من الغزالي عن غفلة أو عن غلط أو عن غير قصد، بل كان مقصودًا عن وعي وتصميم واعتقاد، وقد مرَّ معنا قوله: (بعد أن تكلم عن المقامات الصوفية): "فالعلم بحدود هذه الأمور.. هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة (أي الصوفية)، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة (أي العبادات) هالك بسيف سلاطين الدنيا، بحكم فتوى فقهاء الدنيا (أي علماء الشريعة)". وقد تكرر هذا المعنى في الإحياء في أكثر من موضع، مرَّ بعضها في الفصول السابقة.
وهذا الكلام هو، تمامًا، مثل قول عبد القادر الجيلاني الذي مرَّ في فصل سابق: "تدري كم عنده من الطاعات والصوم والصلاة لا يعبأ بها، إنما مراده منك قلب صاف من الأقدار والأغيار"، والفرق بين العبارتين هو الفرق بين المهارتين في استعمال الإشارة والرمز واللغز.
وهذا يعني أن هذه العقيدة هي عقيدة كل الصوفية؛ لأن الرجلين عندهم في قمة التقديس.
- المهم، أن الغزالي يقرر في "إحيائه" أن العبادات لا قيمة لها عند الله؛ لأنها لإرضاء السلاطين والفقهاء فقط.
3- مرَّ معنا في ثنايا الكتاب النصوص الكثيرة المنقولة من "الإحياء"، والمشحونة بالكفر والزندقة، وهي بعض من كثير.(2/423)
4- يضاف إليها أكثر من أربعمائة حديث موضوع ومكذوب، يقول الحافظ العراقي (مُخرِّج أحاديث "الإحياء")، عن قسم منها: "لم أجده"، أو: "لم أجد له أصلاً"، مما يجعلنا نظن أن الواضع لها، أو لبعضها على الأقل، هو الغزالي نفسه، أو كشفه، (أما إذا أردنا الحق، فيبقى الغزالي متهمًا بوضعها كلها، حتى يثبت العكس).
5- يضاف إليها أكثر من هذا العدد من الأحاديث الضعيفة، وبذلك يكون مجموع الأحاديث الموضوعة والضعيفة قريبًا من نصف مجموع أحاديث الكتاب، إن لم تكن أكثر.
وموقف الإسلام من هذا وذاك هو قوله صلى الله عليه وسلم في ما رواه مسلم: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وقوله: "من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
أما الذين يبتغون الهدى في مثل هذا الكتاب الذي يحتوي على مثل هذا العدد الضخم من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فحكم الإسلام فيهم هو قوله سبحانه: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}؛ لأن الأخذ بالأحاديث الموضوعة هو من أعظم الشرك إلى جانب كون الذي يُحدِّث بها أحد الكاذبين، أما الأخذ بالأحاديث الضعيفة فطريقٌ إلى التهلكة؟ وذلك؛ لأن ضخامة عددها في الكتب المختلفة هي دليل على أكثرها من الموضوعات، وهذا يجعل خطر الأخذ بها كبيرًا جدًّا، أكبر من أية فائدة متوهمة.
ومن أعاجيب المتصوفة في المغالطة، أنهم عندما يقول لهم قائل: إن كتاب "الإحياء" مشحون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، يكون الجواب الذي سمعناه مرارًا: "لقد خرّجها الحافظ العراقي وانتهى الأمر!!"، أو ما يدور حول هذا المعنى! فنقول:
- يا هؤلاء، اتقوا الله واخشوا يومًا تقفون فيه بين يديه، حيث لن تنفعكم جذباتكم ولا شياطين الجن التي تمسرح لكم مشاهداتكم في جذباتكم، ولا شيوخكم الذين يوصلونكم إلى جذباتكم.(2/424)
- يا هؤلاء، إن الأخذ جهلاً بالحديث الموضوع، يمكن أن يكون معه عذر الجهل، أما الأخذ به بعد تخريجه، ومعرفة وضعه، فهو الشرك الأعظم!.
والأخذ بالأحاديث الضعيفة بعد معرفة ضعفها هو طريق يؤدي في النهاية إلى الضلال.
ولا بأس من إيراد كلمة في وصف "الإحياء" لأبي بكر الطرطوشي، يقول: "شحن أبو حامد "الإحياء" بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أعلم كتابًا على بسيطة الأرض أكثر كذبًا منه".
- نقول: إن قول أبي بكر الطرطوشي هذا، كان قبل تأليف كتب المتصوفة الأخرى.
6- يضاف إلى ما سبق، تفسير آيات القرآن الكريم تفسيرًا لا تعرفه اللغة العربية، ولا أصول التفسير، وما عرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من اتبعهم بإحسان، وقد مرت نماذج منها في الفصول السابقة، منها على سبيل المثال: { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}، و{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}، التي يجعلها إشارة إلى وحدة الوجود.
والغزالي لا يتفرد بهذا الأسلوب، بل كلهم في كل كتبهم يُحرفون الكلم من بعد مواضعه، وما أكثر الأمثلة التي مرت في هذا الكتاب، وهي بعض من كل.
7- يضاف إليها: أخبار غيبية عن الله سبحانه وتعالى، وعن الملائكة واللوح المحفوظ، وعن الرسل، وهي أخبار لا يمكن أن تُعرف إلا عن طريق الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيها أي دليل من هذا الوحي، ولعل الغزالي عرفها بالكشف! وقد رأينا نماذج منها.
وهي بالتالي كذب على الله، وكذب على ملائكته، وكذب على رسله، وكذب على اليوم الآخر، وكذب على القضاء والقدر (خيره وشره)، وكذب على الصحابة، وكذب على التاريخ، وكذب، وكذب، وكذب.
8- يضاف إليها دعوة إلى أخلاق غريبة، فالتواضع هو الذل والمهانة، والورع هو التفاهة والبلاهة، والتوكل هو الاستسلام تطوعًا للجوع والعطش والعرى والمرض، والزهد هو التسوُّل وأكل القمامات وروث الحيوانات، وقد رأينا نماذج منها.(2/425)
9- يضاف إليها تعطيل أحكام الإسلام بحجج فيها الكثير من المكر، فهذا لم يُغير منكرًا أو لم ينه عنه، أو لم يقم بعمل خير خوفًا من أن يكون عمله رياءً، وذاك لم يأمر بمعروف خوفًا من أن يكون داخلاً في حكم الآية: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، وذلك لم يتضرع إلى الله ولم يسأله خوفًا من أن يكون دعاؤه اعتراضًا على قضاء الله، ورابع لم يتزوج خوفًا من أن يكون الزواج ركونًا إلى الدنيا، وآخر ينهى عن طلب الحديث والعلم؛ لأنه طلب للرئاسة، وآخرون ينهون عن تعلم القراءة والكتابة؛ لأنه أجمع لهمة المريد... إلى آخر ما مر وما لم يمر مما أفسد المسلم في دينه ودنياه.
10- يضاف إليها علم الكلام الذي أنكره نظريًّا واستخدمه عمليًّا في كل كتبه، وخاصة في "الإحياء"، استعمله بمهارة ولباقة، وأدخله في أصول العقائد والعبادات، حيث جاء إلى الاعتقادات الغيبية التي لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي، فأخذ يستنبطها بأساليب علم الكلام، ليُبرر تلقيها عن الكشف، بعد أن كانت لا تؤخذ إلا من نصوص القرآن وصحيح السنة.
واستعمله بمهارة ولباقة، فأقحم به الصوفية على الإسلام، حتى جعل المتصوفة هم "الخصوص"، وجعل أقطابهم "خصوص الخصوص"، وجعل أهل الشريعة هم العامة.
واستعمله بمهارة ولباقة، فجعل العبادات غير منجيات، وجعل المنجيات هي مقاماتهم الصوفية التي تُدمر الأخلاق والإيمان والإسلام.
11- يضاف إليها مجموعة وافرة من المعلومات الخرافية المبثوثة في الكتاب، والتي شكلت جزءًا هامًّا من المعارف والثقافة عند المسلمين طيلة القرون، وكانت سببًا لما وصلت إليه المجتمعات الإسلامية من ضياعٍ وتفتت، وقد مرت صور منها في الفصول السابقة.
- وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن قسمًا من "إحيائه" هو نصوص منقولة حرفيًّا من "قوت القلوب" للمكي، وبعضًا من "اللمع" للطوسي...(2/426)
كما أنه يأخذ أفكاره وفلسفاته وأقواله في التربية والنفس والمجتمع، من أفكار وفلسفات إخوان الصفا، وقد انتبه إلى هذا كثيرون منهم ابن سبعين والمازري والذهبي وغيرهم.
لقد استطاع الغزالي بهذه الأساليب أن يمزج التصوف بالإسلام، ويجعل الآخرين يعتقدون أنهما شيء واحد.
وتبعه مثقفو المتصوفة على هذا النهج، وشيئًا فشيئًا، فشا هذا في الأمة، إلا من رحم ربك، وشيئًا فشيئًا، أصبح الإشراق وعلم الكلام آلة لاستنباط العقائد والعبادات في الإسلام، وشيئًا فشيئًا، جعلوا التصوف قمة الإسلام، وقبلوا تسميته "الإحسان"!
ولهذا السبب، أطلقوا على الغزالي لقب "حجة الإسلام"، وما هو إلا حجة الكهانة.
ولهذا السبب، جعلوا كتابه "إحياء علوم الدين" كتابًا مقدسًا، ففي كل بلاد المسلمين، نرى من يسمّون "العلماء" وأتباعهم، يقرؤون القرآن للتبرك، ولترديد كلمة "الله" عندما يقف القارئ على الآي، يمطونها ويكررونها! وكأنهم لم يقرؤوا قوله سبحانه: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، كما يقرؤون "صحيح البخاري" في المساجد جماعة إذا حزبهم أمر، بينما يقرؤون "الإحياء" و"الرسالة القشيرية" و"الحكم العطائية"، وغيرها من كتبهم، ليطبقوها ويتخذوها منهجًا طاغوتيًّا من دون القرآن والسنة، وأحسنهم طريقة من يُشرك كتب التصوف بالوحي المحمدي، يأخذ منها اعتقاداته وعباداته.
هذه هي الطريقة البرهانية بإيجاز، وهي لا تزيد عن كونها أسلوبًا ذكيًّا لاستدراج المسلمين وجرهم إلى نقمة "حكمة الإشراق"، إلى ضلالات الكهانة والكهان؛ إلى تلبيسات الخوارق الشيطانية وتفاهات العلوم اللدنية، إلى الوهم الممسرح الذي سموه معرفة، والكفر المموه الذي سموه توحيدًا، إلى الصوفية التي سموها "الإحسان".(2/427)
ويجب أن لا ننسى الجهود، التي نشكوها إلى الله، والتي قدمها في خدمة التصوف كثير من شيوخ الجامع الأزهر، عبر تاريخ الجامع الأزهر، حيث كان طلاب العلم يأتونه من مختلف البلاد الإسلامية، فيتعلمون فيه العلوم الإسلامية ممزوجة بالتصوف وعلم الكلام (أي الطريقة البرهانية الغزالية) ثم يعودون إلى بلادهم لنشرها في مجتمعاتهم التي كانت تحترمهم وتأخذ عنهم؛ لأنهم "خريجو الجامع الأزهر" (!).
وهكذا صار التحشيش الإشراقي المتستر بالإسلام، وجذبات التحشيش الإشراقي المتلفعة بالإسلام، وهلوسات التحشيش الإشراقي الممزوجة بالإسلام هي الموجه الحقيقي للمجتمعات الإسلامية طيلة القرون الطويلة، حتى وصلت المجتمعات الإسلامية إلى ما هي عليه من جهل وتخبط وذل وانحطاط وتمزق.
وأعود فأذكر أن المتصوفة وعلى رأسهم شيوخهم وأقطابهم هم من أوائل المخدوعين والمضلَّلين، فهم قبل غيرهم، يعتقدون أنهم على منهج الإسلام، وأن الإسلام كذلك؛ لأنها لا تعمى الأبصار.
وهم عندما يخادعون ويراوغون ويغالطون، فإنما يعتقدون أن هذا من الحكمة وأن الله سبحانه يريد منهم ذلك، وأن الرسل كلهم أُرسِلوا من أجل ستر الحقيقة التي هي وحدة الوجود.
وهذا الحكم صحيح بالنسبة للذين أخذوا التصوف ممزوجًا بالإسلام (أو لغالبيتهم العظمى)، أما أوائل المتصوفة في الإسلام، الذين أخذوا الصوفية عن كهانها غير ممزوجة بشيء فأولئك كانوا خلاف ذلك؛ لأنهم هم الذين وضعوا لأخلافهم قواعد المكر والكيد حينما مزجوا الإسلام بالتصوف وأوصوا بالتقية ووضعوا العبارة الصوفية.
وماذا يُنتظر من مجتمعات تتعبد الله بمثل هذا منذ أكثر من تسعة قرون، إلا من رحم ربك؟ أليس ما وصلت غليه هذه المجتمعات هو نتيجة منطقية لهذا؟(2/428)
ولا ننسى ملاحظة هامة، وهي أنهم نادرًا ما يستعملون عبارة "الطريقة البرهانية" أو "الطريقة الغزالية"، وإنما يستعملون في العادة عبارة "التصوف السني" وقد يُعبرون عنها أيضًا بمثل قولهم: "حقيقتنا مُقيّدة بالقرآن والسنة"، أو "طريقتنا سلفية وحقيقتنا صوفية"، وغيرها من العبارات التي مرت في هذا الكتاب والتي لم تمر.
ونختم هذا الفصل بفقرة لابن الطفيل، يقول:
وأما كتب الشيخ أبي حامد الغزالي، فهو بحسب مخاطبته للجمهور، يربط في موضع ويحل في آخر، ويكفر بأشياء ثم ينتحلها، ثم إنه من جملة ما كفّر به الفلاسفة في كتاب "التهافت" إنكارهم لحشر الأجساد، وإثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة، ثم قال في أول كتاب الميزان: "إن هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع"، ثم قال في كتاب "المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال": إن اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية، وإن أمره إنما وقف على ذلك بعد طول البحث، وفي كتبه من هذا النوع كثير يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها، وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب "ميزان العمل"، حيث وصف أن الآراء ثلاثة أقسام:
1- رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه.
2- ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد.
3- ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلّع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده.
- نقول: إن ما أورده ابن طفيل هنا وارد في كتاب "الإحياء"، وقد مرت نصوصه في الفصول السابقة، ورغم هذا كله وغير هذا كله، يُسمون الغزالي "حجة الإسلام"؟!
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 635 - 643 بتصرف يسير ) .
الشبهة(7) : مناقشة خوارق العادة
لمناقشة خوارق العادة عند الصوفية، يجب أخذ فكرة - ولو موجزة - عن تلك المخلوقات التي ترانا ولا نراها، والتي يجري خبثاؤها من ابن آدم مجرى الدم، هذه المخلوقات هي الجن، وخبثاؤها هم شياطين الجن.
لكن قبل المضي في ذلك، أُحب أن أُنبه إلى أمر:(2/429)
يوجد في مجتمعاتنا، كما في كل المجتمعات، متعالمون يدَّعون العلمية، والفكر العلمي، والأسلوب العلمي في التفكير، وقد يكونون علماء - في اختصاصاهم - فعلاً.
وإلى جانب هذه الميزة، توجد عند بعضهم ميزة أخرى، هي مقدرتهم على الكتابة بأسلوب قد يكون رائعًا وقد يكون مقبولاً، كما قد يحمل بعضهم ألقابًا علمية عالية.
قد يخطر على بال أحد هؤلاء العلميين أن يتكلم عن "الخرافة"، فيكتب مقالة في جريدة أو مجلة أو بحثًا في كتاب، يوزع فيه لقب "الخرافة" على كل ما يخالف قناعاته الفكرية التي لم يكلف نفسه بدراستها دراسةً علمية عميقة.
ومن جملة ما يقذفونه في زنبيل "الخرافة" الجن وخرق العادة.
هنا، أرجو من القارئ الكريم أن يُغلق أذنيه؛ لأنني أريد أن أهمس في أذن هؤلاء "العلميين" همسة صغيرة، فأقول لهم:
1- مرحبًا يا علميون (لأن السلام قبل الكلام).
2- من منسياتكم: أساليب البحث العلمي ووسائل تختلف حسب الموضوع المعروض للبحث!
فمثلاً: وسائل البحث العلمي وأساليبه في مسألة فلكية، تختلف كليًّا عنها في مسألة كيميائية، وهذه تختلف كليًّا عنها في مسألة تاريخية... وهكذا.
وكلها تختلف كليًّا عن جلسة الصفا أمام الكأس المفعمة في جو الموسيقى الراقصة في ماخور عام أو خاص.
كذلك البحث العلمي في مسألة الجن وخرق العادة له أساليبه ووسائله الخاصة، التي تختلف كليًّا عنها في غيرها، ويمكن لكل من يريد متابعتها أن يتابعها، ليتأكد بنفسه من وجود الجن، ومن حدوث خرق العادة، وبذلك سيعرف أنه كان يغرف من زنبيل الخرافة عندما كان يظن أن الجن وخرق العادة من الخرافة.
لكنه سيجد - في خوضه هذا البحث - أناسًا يخوضون فيه، وقد مسخت الخرافة عقولهم! فهم يعزون كل شيء إلى الجن! ويؤمنون بخوارق لا وجود لها إلا في مخيلاتهم المريضة، فهم بفهمهم السقيم للجن وخرق العادة، يغرفون أيضًا من زنبيل الخرافة، ولكن من الجانب المقابل وبنَهمٍ لا يشبع.(2/430)
فكلا الأخوين خرّاف، ولكن ذوي الفهم السقيم في الجن وخرق العادة، هم أخرف من أولئك؛ لأن أكثر ما لا يفهمونه خاضع لسنن الله في خلقه، عدا عما يضخمونه من الأمور العادية.
وعلى كل حال، الجن موجودون، وخرق العادة موجود، وكاتب هذه الكلمات، خرقت أمامه العادة مرات ومرات.
- نعود لأخذ فكرة موجزة عن الجن:
للجن قدرات وخواص مادية وتشريحية وفيزيولوجية ونفسية، تختلف كثيرًا عما يقابلها لدى الإنسان، يهمنا منها ما يلي:
1- يستطيعون الترائي للإنسان بأشكالٍ مختلفة، وأحجام تتراوح أطوالها بين مليمترات (أو أقل)، وبضعة أمتار لا يستطيعون تجاوزها، وإن استطاعوا فغير كثير، وذلك تبعًا لأحجامهم الطبيعية، ولعل الترائي بالأحجام الصغيرة جدًّا يكون بجزء من أجسامهم.
2- يستطيعون، عندما يتراءون ألا يتركوا أحدًا من الناس يراهم، إلا من يريدونه أن يراهم.
3- " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم"، وبذلك يستطيع أن يدغدغ مراكز الحس التي يريد، فيثير البسط والقبض، واللذة والانزعاج، والتجلي الجمالي والتجلي الجلالي، مع العلم أن هذه الإحساسات وأمثالها، لها في الأساس أسباب فيزيولوجية.
4- يستطيعون قطع المسافات بسرعات كبيرة، فقد يقطعون في الثانية الواحدة مسافة تقاس بالكيلو مترات، إن لم يكن أكثر من ذلك.
5- يستطيع الواحد منهم (أو بعضهم) حمل ثقل يعجز عنه عدد من أفراد الإنس.
6- يظهر أن للجن متعة خاصة بالتلهي ببني الإنسان والتلاعب بعقولهم وعواطفهم، وملازمتهم.
بهذه الميزات، وبغيرها، يستطيع شياطين الجن أن يصنعوا لوليهم "العارف" بعض الأعمال الخارقة للعادة.
فقد يأتونه بخبر جديد من بلد بعيد بعض البعد، بعد وقوعه بدقائق، فيخبر به الناس، الذين عندما يتأكدون من وقوعه، يعتبرونه كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يوسوسون لإنسانٍ ما، بفكرة ما، ثم يلقونها إلى الشيخ، فيخبره بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.(2/431)
وقد يلقي الشيطان إلى الشيخ أسماء أشخاص لا يعرفهم، فينبئهم بها، فيعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يكون الشيخ في بلد ما، في وقت ما، ويتمثل به شيطان في بلد آخر في نفس الوقت، وقد يتمثل به شيطان ثالث في بلد ثالث في نفس الوقت أيضًا، فيرى أهل كل بلد أن الشيخ كان عندهم في ذلك الوقت! دون أن يعرفوا - لجهلهم - أنها خدعة شياطين! ويعتبرونها كرامة من كرامات الشيخ.
وقد يتراءى شيطان، أو شياطين، أمام الشيخ، بشكل شخص، أو أشخاص غائبين أو أموات، فيعدها الشيخ كرامة له.
وقد يتراءى شيطان الشيخ أمام الشيخ بشكلٍ ما، ويوهمه أنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد غيره من الأنبياء.
وقد يتراءى شيطان أو أكثر أمام الشيخ بشكل أشباح تتطاير، فيظنهم من الملائكة أو من أرواح الأولياء.
وقد يحمل الشيطان وليّه العارف في الهواء وينقله من مكان إلى مكان وقد يمشي به على سطح الماء.
.... وقد .. وقد ... إلى آخر ما يسمونه - جهلاً أو افتراءً - الكرامات! والتي لا تزيد عن كونها ألاعيب شياطين يخدعون بها وليهم العارف، ثم يخدعون به وبها الآخرين.
وهنا نصطدم مع هؤلاء القوم، بفهمهم السقيم للغة العربية، وبالتالي، لنصوص الحديث الشريف، ومن قبله القرآن الكريم.
إنهم، في رؤيتهم لما يتوهمونه أنه محمد صلى الله عليه وسلم، يظنون أنهم يرونه حقًّا، ويحتجون لذلك بالحديث الشريف: "من رآني في المنام فقد رآني حقًّا، فإن الشيطان لا يتمَثَّلُ بي".
والحديث واضح البيان، لا لبس فيه ولا غموض! فهو يقول: "من رآني..."، والفرق كبير جدًّا بين هذا القول وبين: "من رأى شخصًا يدَّعي أنه أنا.."، أو: "من رأى شخصًا وظن أنه أنا..."، أو: "من رأى شخصًا وقيل له: إنه أنا.."! الفرق كبير جدًّا بين هذه العبارات وبين عبارة الحديث: "من رآني.."، التي تعني رؤيته صلى الله عليه وسلم، بشكله وصورته التي كان عليهما، بل وزيه أيضًا.(2/432)
ويقول في الحديث أيضًا: ".. فإن الشيطان لا يتمثل بي"، وفي رواية: "لا يتمثل بصورتي"، والمعنى واحد. وهنا أيضًا الفرق كبير جدًّا بين هذا القول، وبين قوله لو قال: ".. فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا" أو "لا يستطيع شيطان أن يقول عن شيطان آخر: إنه أنا"، أو: "لا يستطيع أحد أن يُخدع فيتوهم شيطانًا يراه أنه أنا" !
إن عبارة "فإن الشيطان لا يتمثل بي" تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول وشكله وزيه التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في حياته، بحيث لو رآه أي إنسان من أصحابه لعرفه أنه هو.
وقد يتساءل متسائل: كيف نعرف إن كان من نراه في المنام هو الرسول أم لا؟
الجواب: تورد كتب الحديث وكتب الشمائل أوصافه صلى الله عليه وسلم، فمن رآه في منامه إنسانًا تجتمع فيه كل تلك الأوصاف، دون استثناء، فهناك احتمال أن يكون هذا الذي رآه هو الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأقول هنا احتمال أن يكون هو الرسول، لأن الأوصاف المذكورة هي أوصاف إجمالية لا تفصيلية، وغير دقيقة، حيث يكن أن نراها مجتمعة في عشرات الأشخاص الذين يختلفون عن بعضهم بدقائق صورهم وتفاصيلها.
وفي قصة جماعة الحرم عبرة لأولي النهى، فقد رأى عشرات منهم الرسول في المنام، وأخبرهم أن محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي المنتظر، ولا يخلو أن يكون بعضهم على علم بأوصاف الرسول الموجودة في الكتب، وأن يكون رآه حسب تلك الأوصاف المجملة، ثم كانت النتيجة أن القحطاني لم يكن المهدي، وبالتالي كانت كل تلك الرؤى من وسوسات الشياطين، أو من حديث النفس.
إن في هذه الحادثة برهان عملي ساطع على أن الشيطان يدعي أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن معنى الحديث: "لا يتمثل بي".
أي لا يظهر بصورته وشكله الكاملين اللذين كان صلى الله عليه وسلم عليهما في حياته.(2/433)
كما يجب أن لا ننسى العدد الوافر من الأولياء العارفين الذين رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنهم هم "المهدي المنتظر"، ثم كانت النتيجة أن الذي رأوه كان إما وسوسة شيطان، أو حديث نفس، أو كشفًا إن كان الرائي من المكاشفين.
هذا بالنسبة للرؤية في المنام أو في الجذبة.
أما ما يقوله المتصوفة من الرؤية في اليقظة فهذا واضح البطلان والضلال، كما هو واضح أن المترائي هو شيطان يضحك على أذقانهم، ويسلبهم عقولهم وإيمانهم، ويضل بهم غيرهم.
إن الشيطان يدّعي أنه الله، فهل كثير عليه إن ادّعى أنه الرسول؟
وهناك خارقة يؤخذ بها المخدوعون أكثر من غيرها، هي ضرب الشيش في الخدَّين والبطن حيث الأمعاء، وفي الجلد، وهي مشتهرة بين أتباع المشيخة الرفاعية والجزولية والعيسوية، يمارسونها في حضراتهم التظاهرية، وهي مثل غيرها لا تزيد عن كونها شيطانيات، بدليل أنها تحصل مع الكفرة، بل يحصل منهم ما هو أكبر منها، وفي فصلٍ لاحق سنرى شيئًا من هذا، ولعله من الجائز أن يكون تفسير هذه الخارقة كما يلي:
أ - لجلد الإنسان خاصة مطاطية، وكذلك الخدان والبطن والأمعاء، وهذا مشاهد ملموس.
ب - إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو بذلك يستطيع التخلل في أي مكان من الجسم.
ولعله يجد بذلك متعة خاصة نجهل طبيعتها.
وتتم العملية حسب الآتي:
يوجه الشيطان يد الشخص المتخلل فيه، ليضع الشيش في المكان المناسب من البطن، وعندما يضعه على الجلد، يباعد الجني بين خلايا النسيج الجلدي، وما تحته بمقدار ما يمر الشيش بسلام دون أن يمزق شيئًا من الخلايا، وعندما يصل الشيش إلى الأمعاء (في المكان المناسب) يباعد الشيطان بينها، كما يباعد بين خلايا النسيج الذي يضمها بمقدار ما يمر الشيش بسلام أيضًا... وهكذا.. يساعده على ذلك الخاصة المطاطية في هذا الأجزاء من الجسم، وسرعة الحركة التي يمتاز بها الجن.
ومثل هذا يحدث في الخدين وفي الجلد.(2/434)
لكن مهما كانت الدقة التي ينفذ بها الجن هذه العملية بالغة، فلابد من تمزق بعض الخلايا، مما يسبب سيلان قطيرة أو قطيرات من الدم عند سحب الشيش.
كما يبقى المكان الذي حصلت فيه العملية أحمر بعض الشيء لمدة ما، بسبب الضغط التي عانته الأنسجة.
- طبعًا، هذا تفسير ظني، أما الحق، فيجب أن تخضع هذه الظاهرة ومثيلاتها إلى دراسة علمية جادة، وستكون وسيلة لاكتشاف مساحات مجهولة من النفس الإنسانية، بل والحيوانية أيضًا، كما ستكون وسيلة لاكتشاف وظائف فيزيولوجية مثيرة.
أما عملية قطع العنق بالسيف، أو قطع اليد، وما شابهها، فهي خداع بصري يقوم به أيضًا خبثاء الجن، وكذلك ضرب الرصاص.
وهناك عملية الدخول في النار التي تكاد تنعدم عند متصوفة المسلمين، بينما توجد بين كهنة الهنادكة، وهي عملية يقوم بها الجن أيضًا، يساعدهم عليها سرعتهم الهائلة، وقوتهم على الحمل، ومقدرتهم على الترائي بشكل الإنسان، وأن النار العادية لا تؤثر فيهم.
كما يساعدهم أيضًا، خاصة بصرية عند الإنسان، فالعين الإنسانية لا تحس بما يحدث أمامها في مدة تقل عن عُشر الثانية.
تحدث العملية بأن يحمل شياطين الجن الفقير الذي يتظاهر بالعزم على دخول النار وتنقله إلى مكان آخر، ثم يتراءى شيطان مكانه بشكله.
تتم هاتان العمليتان في مدة تقل كثيرًا عن عُشر الثانية، فلا يرى أحد من الناس الحاضرين شيئًا مما حدث، ويرون الفقير ما زال في مكانه يستعد للدخول في النار!
يدخل الجني المترائي بشكل الفقير إلى النار، ويخرج منها، دون أن تؤذيه طبعًا، وبعد خروجه، يعيدون الفقير، ويتلاشى الجني بنفس السرعة السابقة، ولا يرى أحد من الناس الحاضرين إلا أن الفقير دخل في النار وخرج منها سالمًا، بل والفقير نفسه، قد لا يحس بما حدث، وقد يظن أنه دخل النار في حالة غيبوبة.
* الخلاصة:(2/435)
خوارق الصوفية، التي يسمونها كرامات، كلها ألاعيب شيطانية، وهي نفس الخوارق السحرية، ونفس الخوارق الكهانية التي تحدث في كل الوثنيات.
وللعلم: تعلم السحر يتم بالشرك الكامل في الشيخ الساحر (تمامًا كالشرك في الشيخ الصوفي)، وبالقيام بنفس الرياضة الصوفية، وخاصة ما يسمونه "الذكر"، والذي يسمونه في السحر "القَسَم" أو "الطلّسم" وليس هنا مكان هذا البحث.
إن الفرق بين الصوفية والكهانة والسحر هو الادعاء فقط، فالصوفي والكاهن يدعيان بغرور السير إلى الله والعروج إليه، والساحر أصدقهم، والصوفي والكاهن غايتهما الجذبة، والساحر يقف عند خرق العادة، وإذا أراد الجذبة اختصر الطريق إليها بتناول شيء من الحشيش أو الأفيون وما شابههما، وقد يصل إلى الجذبة بالرياضة.
إن هذه الخوارق الشيطانية، التي يسمونها "كرامات" لا تكفي لدفع الشيخ وأتباعه إلى مستنقع الكفر، إلى وحدة الوجود؛ لأن الأمر يحتاج إلى تمثيليات من نوع آخر، تظهر فيها مناظر غريبة ذات أبعاد كبيرة، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها لصغر أجسامهم بالنسبة لها! لذلك كان لابد من خواص الجذبة ليستطيعوا تنفيذ تلك التمثيليات.
فلننتقل إلى مناقشة الجذبة وخواصها.
وقبل الانتقال، نذكر أن الكرامات الصحيحة موجودة، لكن الطريق إليها هو طريق الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تظهر أكثر ما تظهر في الانتصارات العجيبة التي تشبه الأساطير، وفي الأخلاق الكريمة والسلوك العادل المتسامح مع المسلم ومع غير المسلم، والدعوة إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق بصراحة تامة مع المقدرة على الاحتفاظ بصداقة الذي يدعونهم وينهونهم... وهكذا انتشر الإسلام.(2/436)
مع ملاحظة هامة، هي أن الذي ينتهج النهج الصحيح في الإسلام، لا يعني أن كل خرق عادة يحصل أمامه هو كرامة، وعلينا أن نتذكر، بل علينا ألا ننسى الآية: { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهذا يعني أن الخوارق التي تحصل أمام الذي ينتهج نهج الإسلام الصحيح، كما كان ينتهجه سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم، هذه الخوارق سيكون أكثرها من الشيطانيات، وأقلها، إن لم يكن أندرها، من الكرامات الحقيقية.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 647 - 654 بتصرف يسير ) .
الشبهة(8) : مناقشة الجذبة وأحلامها وخرافاتها
من المفيد، قبل الدخول في مناقشة الجذبة، أن نلقي نظرة سريعة على مفعول المخدرات: الحشيش والأفيون والكوكائين وعقار الهلوسة (إل، إس، دي، 25) وغيرها.
* من تأثير الحشيش:-
يقول الدكتور محمد رفعت (نقلاً عن أحد الباحثين يصف تجربته مع الحشيش):.... أحسست كأن جسدي يتحلل أو يذوب.. بدوت وكأنني شفاف تمامًا.
جفون عيني تطول إلى ما لا نهاية، هذه الجفون ما لها تسقط وحدها هكذا ككرات من ذهب، سرعتها تثيرني، ألوان جميلة تحيط بي، هل أنا أنظر في منظار سِحري صغير يقدم تلك الأشكال الزخرفية الملونة...
... إن سمعي أصبح فجأة حادًّا تمامًا.. إنني أستمع إلى صوت الألوان، كنت لا أستطيع أن أسمع للألوان صوتًا من قبل.. الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء لها موجات صوتية تصلني وأميزها بوضوح.. أ هـ.
هنا نسأل الأولياء الذين ذاقوا الفناءات وتحققوا بالأسماء، أليست هذه الرؤى، وما بعدها، هي صور من مكاشفاتهم؟
ويقول نفسه :
والحشاش قد يقنع نفسه بقدرته على إيجاد حل لكل مشكلة، وهذا طبعًا نتيجة ما يعتريه من هبوط في المراكز العصبية العليا، ومنها حاسة التقييم والتقدير، فيظل يَهِم في آفاق وتصورات كلها سراب خادع وضلال مبين....أ هـ.(2/437)
- لنتذكر هنا قول الصوفية عن كشوفهم: إنها حق اليقين وعينه ونوره، وعن أنفسهم: إنهم العارفون الذين عرفوا الأمور على ما هي عليه..
ويقول: عندما يتعاطى الشخص الحشيش لأول مرة فإنه يشعر بهذه الأعراض:
ارتعاشات عضلية في جسمه... إحساسات جسمية خاطئة أو وهمية.. مثل الشعور بطول في الأطراف.. اضطراب في الحواس، خصوصًا السمع والبصر. ا هـ.
- لنتذكر وصف عبد العزيز الدباغ لمبدأ حاله بالجذبة.
ويقول: الآثار النفسية لإدمان تعاطي الحشيش: اضطراب الحواس، خصوصًا السمع والبصر، فتصبح الحواس حادة للغاية، إلا أن المدركات كلها تبدو في صورة مغايرة ومحرفة، سواء من ناحية الشكل أو اللون، كما يعاني المدمن من الهلاوس... فيرى أشكالاً ويسمع أصواتًا ليس لها وجود مادي، كما يعاني من خداع الحواس... فإذا رأى حبلاً ظنه أفعى، وإذا رأى كلبًا خُيل إليه أنه أسد... وهكذا...
واختلال إدراك الإنسان للزمان والمكان، فيبطئ إحساس الإنسان بالزمن... فإذا قضى دقائق في عملٍ ما، يخيل إليه أنه قضى فيه ساعات طوال... أما بالنسبة للمسافات فإنها تطول جدًّا... فإذا سار عشرة أمتار خُيل إليه أنه قطع عدة كيلو مترات..
اضطرابات في التفكير تؤدي إلى اختلال في حكم الشخص على الأمور...
بطء شديد في عمليات التفكير بسبب التخدير الذي يشمل قشرة المخ، ويدفع الإنسان إلى عدم الاكتراث بما حوله، ويفقد المبادأة.. كما يعطل مراكز الضبط والتحكم وتمحيص الأمور.. مما يجعل المتعاطي قابلاً للإيحاء...
اضطرابات وجدانية، فيشعر المتعاطي بشعور زائف بالسعادة الوهمية... وإحساس بالرضا والراحة.. يل أحيانًا إلى درجة النشوة.. إلا أن هذه السعادة الزائفة تحمل في طياتها وسائل التدمير لشخصية الإنسان. ا هـ.
وسُئل حشاش: بماذا تُحس وأنت تُحشش؟ فأجاب:(2/438)
أحس بفرح، وربما بحزن، وقد أضحك كثيرًا، أو أبكى كثيرًا، حسب الحالة التي تجلبها الحشيشة، فليست كل الحالات سواء، ولكنني أشعر بحاجة إلى الهدوء... مرة شعرت بأنني أسابق السيارة المنطلقة في الشارع، بينما كنت جالسًا في مكاني! والحالات مختلفة على كل حال. ا هـ.
- نعيد نفس السؤال موجهًا للأولياء المكاشفين: أليس مثل هذا ما يشاهدونه في مكاشفاتهم؟ وخاصة الفرح والحزن، اللذين يسمونهما "البسط والقبض"، وكذلك طول المسافات، وطول الزمن، والشعور بالسعادة، والوصول أحيانًا إلى درجة النشوة؟...
* من تأثير الكوكائين:-
يقول الدكتور محمد رفعت:
ولعل أغرب مظاهر الشذوذ الحيوي في جسم المدمن، الهلوسة التي تصيب جلد مدمن الكوكائين.. إلا أن المدمن هنا يحس وكأن آلاف القمل والبراغيث وشتى أنواع الهوام تنهش في جلده، وتجري تحت جلده مباشرة..
والكاثين ضئيل الأثر، ويشبه الكوكائين في إحداثه نوعًا من الخدر أو التنميل..
ويقول أحد الباحثين (دكتور لوغر):
يشعر مدمن الكوكائين بآلاف الهوام تدب على جلده وداخل جسمه، ويحس بلدغات مئات القمل والبق و... إلخ. وبظاهرة حسية غريبة ما اعتادت المخدرات الأخرى توليدها، تبلغ هذه الظاهرة حدًّا يرى فيه المدمن حشرات لا وجود لها على جلده فيأخذها متوهمًا ويحبسها ويضعها في علبة، حتى إنه ينظر إليها بمكبرة، ويا لغرابة الأمر... إنه يراها وقد تجسمت أمام عينيه كما لو أنها موجودة فعلاً، وغالبًا ما يلاحق مدمن المخدرات هذه الطفيليات المزعجة يبحث عنها على الأبواب وفوق الكراسي وفي الفراش وبين الأظافر وفي جميع أجزاء جسمه وحتى داخل فمه ومنخريه وأذنه، وقد يغدو هذا النمط من الهذيان والهراء (الهلوسة) جماعيًّا.. إذ لا غرابة أن تجد مدمنين اثنين يبحث كل منهما عن هذه الهوام على جلد الآخر مخففًا عنه العذاب على حد اعتقاده.
* الملاحظة :(2/439)
لننتبه إلى أنه يرى حشرات وقد تجسمت أمام عينيه، حتى إنه ينظر إليه بمكبرة.. أي: يرى ما لا وجود له في الحقيقة، وكذلك الرؤى الكشفية.
· من تأثيرات عقار التهليس (L.S.D.25):-
يقول محمد رفعت:
وهذا العقار يعتبر من السموم الكبرى ذات الأثر العميق فيما يتعلق بانتقال المتعاطي من عالم الهلوسة والهذيان، وهم يُطلقون عادة على الحالة الجديدة للمريض المدمن اسم (رحلة)، وهذه الرحلة لا يلزمها الكثير من هذا السم الزعاف، إذ يكفي من 200 إلى 400 ميكروغرام.
وبعدها يكون الرحيل إلى سفر يستغرق ثماني ساعات من الزمن يتخيل المريض وكأنها رجلة عمر كامل من الهلوسة والهذيان والتخيلات التي يسودها اللامعقول والإثارة الحسية، والنشاط الحيوي المزعوم بينما يكون المدمن في واقع الأمر جثة هامدة طيلة السفر بعد الرحيل...
... وتختلف آثار هذا العقار على الإنسان باختلاف شخصيته، وتركيبه النفسي، وكذلك باختلاف الجو العام الذي يتم فيه التعاطي، وهذه بعض الأعراض (لتعاطي 3 ميكروغرام):
- زغللة بالعينين، واضطراب في شكل المرئيات، وظهور بعض الأشياء التي لا تحمل أي معنى، كعلامة في الحائط مثلاً، كما لو كانت كلمات مفهومة مثلاً، أو وجه إنسان، أو أي شيء آخر له معنى.
- هلاوس بصرية... أي رؤية أشياء ليس لها وجود مادي.. فيكفي أن يتخيل الفرد شيئًا أو يتمنى رؤيته، حتى يراه أمامه مجسمًا، وبالألوان الطبيعية أيضًا.. فهلاوس هذا العقار تتميز بأنها تظهر بالألوان، عكس هلاوس الحشيش والأفيون التي تظهر أبيض وأسود فقط، (في الواقع، هلاوس الحشيش والأفيون ليست واحدة عند كل الأشخاص فمنها ما يكون بالألوان الطبيعية).
- اضطراب في إحساس الفرد بالزمن... فقد يتوقف الزمن تمامًا، أو يمر ببطء شديد.. وقد يسرع جدًّا، فيبدو كأن آلاف السنين قد مرت في لحظات.(2/440)
- توقف كامل للنشاط العقلي.. فيصبح من الصعب على الإنسان أن يبت في أي أمر، أو يفكر في أي مشكلة، أو حتى يقوم بالعمليات الحسابية البسيطة.
- إحساس زائف بالراحة والسعادة الدافقة.. أو يحدث العكس تمامًا.. فيشعر الإنسان باكتئاب شديد ورعب.. (لنتذكر البسط والقبض).
ولكن أعجب شعور يمكن أن يحسه الإنسان هو ذلك الشعور بتداخل الحواس... عندما يتداخل السمع مع البصر مع الشم مع الذوق مع اللمس، فينتج عنه ذلك الخليط العجيب من الحواس الذي يعتبر من الأعراض المميزة لعقار الهلوسة... عندما يسمع الإنسان لون الورد، ويشم صوت الموسيقى، ويرى الطرق على الباب، ويشم جرس التلفون.. إلخ.
- وهنا نعيد السؤال، نوجهه إلى أي صوفي مكاشف: أليست رؤاه الكشفية مثل هذه الرؤى الهلوسية؟ يمر بفكره شيء فيراه مجسمًا أمامه؟ يحسب اللحظات سنين طويلة؟ ثم الرؤى الناتجة عن تداخل الحواس؟ وغيرها؟
ومما يذكره مكتشف العقار (هوفمان) عن تجربته له.
يقول: وجدت نفسي عند العصر مجبرًا على التوقف عن العمل.. فأغمضت عيني.. لأرى، كما يرى الناظر في المنظار السحري، عرضًا لسبحة لا تنقطع من صور عجيبة مجسمة وغنية بألوان غير عادية، وقد دام ذلك العرض ساعات عديدة... ا هـ. (أليست رؤى الجذبة هكذا؟).
ومما حدث له، في تجربة ثانية:
بعد أربعين دقيقة، شعر بدوار خفيف وإثارة واضطرابات في الرؤية ونوبات حمقاء من الضحك ما استطاع لها ردعًا... كانت الوجوه تبدو له كأقنعة مضحكة... وأكثر ما أدهشه هو التلون الشديد الذي كانت تتلون به الأشياء ويتلون به الأشخاص، وعلى خلفيات يسيطر فيها اللونان الأخضر والأزرق كانت تضطرب ألوان ذات صفاء ولدونة مدهشين، كان كل شيء ينقلب إلى ألوان، حتى إن أصوات البوق الآتي من الشارع كان يراه كشعاع ملون، وكانت المشاهد تترى، كان يرى نفسه يومئ، ويصمت ويتحرك.
* من تأثير الهروئين (من مشتقات الأفيون):-(2/441)
الهروئين، يحمل الإنسان إلى جنان خيالية، وخيالات من نوع أنه أصبح من الملائكة، أو أنه أصبح نبيًّا، أو أن له موعد مغازلة مع القمر (الذي هو الشمس)، ثم يدفعه ذلك أن يتصرف حسب تصوره هذا، فيحاول الطيران من أعلى البناية باتجاه السماء، فيسقط على الأرض وتتهشم ضلوعه..
* من تأثير الإيتير:-
يقول أحد الذين جربوه (الكاتب الفرنسي غي دوموباسان):
كان أول ما شعرت به همسًا خفيفًا ناعمًا ومهدهدًا، ثم ما لبثت أن لاحظت بأن جسمي أخذ يخف... أخذ يخف ويخف، حتى بدا لي فيها كما لو أنه كان يتبخر، أحسست بأنه لم يبق لي من جسمي سوى الجلد... لم يبقَ سوى ما يكفي لأشعر بلذة العيش، بأن أشعر بأنني أتأرجح في هذه السعادة التي تغمرني... ما كنت أرى أحلامًا كالتي يسببها الحشيش، وما كان ذهني يمتلئ بالرؤى التي يسببها الأفيون، لقد كان إحساسًا بحدة ذهنية كبيرة، إحساسًا بشكل جديد من الكينونة والتفكير والإحساس والحكم على الحياة، إحساسًا بالاقتناع بأنني كنت أدرك عندئذ الواقع الحقيقي للعالم... كان يبدو لي بأنني تذوقت ثمرة شجرة الحياة، وأن كل الأسرار تنكشف أمامي...
وهنا أيضًا نتوجه إلى أي صوفي وصل إلى مقام الجمع، وذاق الفناءات، ونسأله: أليست هذه الحالة وهذا الشعور والهمسات المهدهدة الناعمة تشبه ما ذاقه أثناء فناءاته وما سمعه من خطابات توهمها إلهية، وذلك الإحساس الزائف بأنه صار يدرك واقع العالم؟.
* من تأثير فطر المكسيك المقدس:-
قام بالتجربة شخص اسمه (آلان ريشاردسن) مع رفيق له اسمه (غوردن واسن): وقد تمت التجربة في أعالي المكسيك بين الهنود الأصليين:
كانت الغرفة مظلمة ومزدحمة بالناس، كانوا جميعًا هنودًا مكسيكيين... وكانت هناك كاهنة تغني مُلوحة بالفطر في دخان لهب نار تتقد في المذبح لتطهر الفطر من أدرانه فيغدو جاهزًا للتناول.(2/442)
قدم الهنود للرجلين اثني عشر فطرًا مطهرًا فأخذا يأكلانها... لكن الكاهنة انبرت تغني بمزيد من النشاط، مصفقة بطريقة غريبة وبلحن مهدهد، وفجأة دار "ريشاردسن" نحو رفيقه هامسًا في أذنه بأنه يرى أشياء غريبة، فأجابه "واسن" إن الرؤى ستترى، وإنك ستراها سواءً أسدلتَ جفنيك أو فتحتَ عينيك.
بدأت الرؤى تظهر رسومًا فنية، كسجادة تبرق بزينتها وتتألق، ثم تتحول إلى قصور وباحات وأقواس وحدائق... تراءى لريشاردسن حيوان أسطوري يجر عربة ملكية ذات عجلتين، ثم بدت له الجدران وكأنها تنحل... وأحس بروحه تطفو.. وشعر بأن نظره يحيط بفراغات لا متناهية... كان يرى نماذج من الأفكار الأفلاطونية، وصورًا غير كاملة للحياة اليومية... ا هـ.
- السؤال: أليست هذه الرؤى هي نفس ما يراه الأولياء العارفون المكاشفون؟ مع العلم أنه لو كان جلوسه في مكان غير الغرفة المظلمة، أو لو كانت ثقافته غير ثقافته، لأمكن أن تتغير رؤاه قليلاً أو كثيرًا.
ويقول الدكتور صلاح يحياوي :
يستهلك سكان بولينزيا "الكافا" بكميات كبيرة ليعيشوا دائمًا تقريبًا في رؤى جنة صنعية يهيؤها لهم هذا المخدر... ا هـ.
- ونفس السؤال إلى نفس الأولياء المكاشفين: أليست هذه الهلوسات هي نفس الهلوسات التي تهيؤها لهم جذباتهم؟
- كيف كان الناس ينظرون إلى المخدرات؟
يقول الدكتور صلاح يحياوي:
... كان من المعروف بأنهم (الكهان) كانوا في طقوس "المسارة" يستخدمون مخدرات ما كان يعرفها غيرهم، وبذلك كانوا يعمرون أذهان المبتدئين بأحلام مرعبة وواضحة إلى درجة كانت تجعل هؤلاء يعتقدون أنها واقعية.
... كان "باراسلو" يحمل الأفيون دائمًا معه، مطلقًا عليه اسم "حجر الخلود".
... ففي القرن الحادي عشر، وبعد ثلاثمائة عام من نشر العرب لاستخدام الأفيون، بدأ يظهر ثناء العامة وإطراؤهم على هذا المخدر، فكانوا يتغنون به كـ "شراب الآلهة".(2/443)
... لقد أكد الإينكا (سكان البيرو الأصليين) للأسبان بأن الكوكا (منها يستخرج الكوكائين) نبتة إلهية أوصى بها الإلهان "مانوكو كاباك" وزوجته "ماما أوكيو".
لقد خصت هذه الصفة الإلهية، والتي لازال بعض هنود أمريكا الجنوبية يؤمنون بها، خصت حكام الإينكا وحدهم بحق امتلاك مزارع هذه الشجيرة، ويقاسم الكهان الحكام هذا الامتياز.
ومما يذكره صلاح يحياوي أيضًا:
كانت جميع شعوب العالم القديم تعرف هذا المخدر (الحشيش)... وقد أحاطت الهالات خواصه، فنسب إليه الهندوس أصلاً إلهيًا، فقالوا بأن الإله "فيشنو" قد نصح جميع الآلهة الصغار وجميع الشياطين بأن يجتمعوا في يوم حدده لهم للحصول على إكسير الخلود... وكانت النتيجة أن إكسير الخلود هو القنب الهندي الذي استخلص منه الحشيش..
* وملاحظات هامتان من المفيد إيرادهما:
يقول الدكتور محمد رفعت:
من الطريف أن نعرف ماذا يفعل المخدر بالإنسان... مع ملاحظة أن هذه الأعراض لا تظهر جميعًا في نفس الوقت ولا بنفس الشدة في جميع الحالات.. كمالا تظهر عند كل الناس.
ويقول الدكتور صلاح يحياوي:
... إن أفعالها (أي المخدرات) مطابقة لما يسببه الجنون في أطواره البدائية.
أقول: إن هذه الملاحظة الأخيرة التي يذكرها الدكتور صلاح يحياوي تدلنا على أن باستطاعة الجسم أن تتولد فيه مادة تفرزها غدة ما، لها نفس مفعول المخدرات، وهذه المادة هي التي تسبب الجنون.
وقبل الانتقال إلى الفصل التالين نسأل أي صوفي فتح عليه فوصل إلى الجذبة ورأى الكشوف وذاق الفناءات، أليست هذه الرؤى والمشاهدات الهلوسية التحشيشية هي صورًا مشابهة لرؤاه ومشاهداته في جذباته ومعارفه المتوهمة؟(2/444)
إن كان الصوفي الذي سيُسأل هذا السؤال صادقًا مع الله تعالى ومع الناس ومع نفسه فسيقول الحق ويعترف أنها شيء واحد، وإن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه فسيتوب ويرجع ويحاول إصلاح ما أفسد، وإلا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وليعلم أن عليه آثام من استجرهم والمستجرِّين بمن استجرهم إلى يوم القيامة.
ويجب أن لا ننسى أن الحشاشين لو كان لهم شيخ يوجههم لكانت مشاهداتهم مطابقة كل المطابقة لمشاهدات الصوفية في فتوحهم وكشوفهم وفناءاتهم، وذلك؛ لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان (لكن من هو الشيطان؟).
مناقشة الجذبة:
لنناقشها أولاً على ضوء القرآن والسنة:
يدعي الصوفية، دون خوف من الله، أن رياضتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، هي الطريق إلى الله سبحانه ومعراجهم إليه؛ لأنها توصلهم إلى الجذبة ويعتقدون أن الله سبحانه يجذب بها العبد إليه، ولذلك سموها الجذبة، ومفهوم لفظ الجلالة "الله" عندهم يعني- كما أصبح واضحًا الآن - كل الموجودات بما في ذلك ذواتهم، ومعنى "يجذبهم إليه"، أي: يزيل عنهم الحجاب، الذي هو الوهم بأنهم غير الله، ويبعدهم عنه، ويجذبهم إلى استشعار الألوهية في أنفسهم، أي: يشعرون أنهم الله "سبحان الله"، ويشاهدون أن كل شيء هو الله، وهذا هو ما يسمونه الوصول إلى الله، والجذبة هي الولاية والصديقية ... الخ، وهي عندهم حال يتدرج ويمر بأطوار من الرؤى والمشاهدات المختلفة والاستشعارات حتى تصبح مقامًا.
ففي باديء الأمر، قد يصل السالك إلى الجذبة بعد رياضة، طويلة أو قصيرة، لكن الجذبة تزول بسرعة ثم لا تعود إلا برياضة مثل الأولى، أو أكثر أو أقل، فالولاية هكذا هي حال.
ومع المثابرة يصل إلى درجة يقع فيها في الجذبة بشيء من الذكر، وتطول مدتها، فتكون ولايته هنا مقامًا، ويصير وليًّا صديقًا مقربًا.. مقيمًا إذا صارت الجذبة دائمة.(2/445)
فهل في هذا التصور شيء من الصحة؟
الجواب : لا للأسباب التالية:
1- إن كون الجذبة ولاية وصديقية وقربًا و.. هو، في أحسن الحالات، أمر غيبي لا يعرف إلا بنص من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أي بنص من القرآن والسنة الصحيحة، ولا وجود لمثل هذا النص، إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة وافتراءاتهم الظالمة. { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ }.
2- إن ادعاء الولاية والصديقية هو هو تزكية النفس على الله، وهو من كبائر الإثم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاًً. انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا[ و] فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
وكذلك اتهام الآخرين بالولاية والصديقية هو من كبائر الإثم؛ لقوله سبحانه مخاطبًا رسوله{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إِلَي} ولغضب رسوله عندما سمع صحابية جليلة تزكي صحابيًا جليلاً، فقال لها: "والله ما أدري ما يفعل بي وأنا رسول الله" ثم أقرها عندما قالت: " فلن أزكي بعدها على الله أحدًا"، أي إنه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن لا نزكي على الله أحدًا.
وهكذا كان فهم الصحابة الكرام، فهذا علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن مسعود فيقول: "إنه لخيرنا، ولا أزكي على الله أحدًا" ! إن عليًا بن أبي طالب لم يزك عبد الله بن مسعود على الله !.
إذن، فتزكية النفس وتزكية الغير هما من كبائر الإثم، والإصرار على ذلك هو كفر بالقرآن والسنة.
وبذلك يكون الادعاء بأن الجذبة صديقية وقرب وولاية هو كفر بنصوص القرآن والسنة.(2/446)
3- رأينا في الفصول السابقة أن السالك يدخل في الشرك الأكبر منذ الخطوة الأولى في طريق الصوفية، ثم يسير في طريق كلها بدع وضلالات وطقوس طاغوتية وتشبه بالكفرة ومخالفة للقرآن والسنة وتزوير لنصوصهما وافتراء على الله سبحانه، وخداع لعباده (بل ولنفسه أيضًا) بادعائه اتباع القرآن والسنة، وكذب على الله وعلى ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذب على الحقائق، وكذب على التاريخ والجغرافيا، واحتقار للعقل والعلم اللذين كرم الله بهما بني آدم، وتقديس للجهل والعته والجنون! ثم لم يكتفوا بهذا حتى مزجوه بالإسلام! فشوهوا الإسلام وحرفوه! وهنا الطامة الكبرى، وقد رأينا كل هذا في ما مضى من فصول الكتاب من نصوصهم وأقوال أقطابهم وعارفيهم وعلمائهم.
فهل يمكن لمسلم في قلبه إيمان بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر أن يعتقد أو يظن أن هذه الطريق هي الطريق إلى الله؟ أو أنها تقود إلى حق أو حقيقة؟
بل هل يمكن لذي عقل سليم كائنًا من كان، أن يعتقد أو يظن أن طريق إبليس هذه هي طريق السير إلى الله والعروج إليه؟ سبحان الله عما يصفون.
إن طريق الشيطان لا تقود إلا إلى مسارح الشياطين ومتاهاتهم.
والجذبة مسرح شيطاني ومتاهة إبليسية، وليست صديقية
4- إن الجذبة الإشراقية تشبه الجذبة التحشيشية الأفيونية تمامًا مظهرًا ومخبرًا وجملة وتفصيلاً، فإن كانت جذبة الصوفية ولاية وصديقية فجذبة التحشيش مثلها، ويكون الحشاشون والأفيونيون أولياء صدجيقين، ويكون الهيبيون هم الأبدال والأقطاب والأغواث.
* الخلاصة :
ليست الجذبة ولاية ولا صديقية، وإنما هي مسرح شيطاني، وكذب وباطل ما يدّعون.
وفي الجذبة تكشف لهم الكشوف ويتلقون العلوم اللدنية ويرون المناظر الغيبية والمشاهدات الإلهية، إلى آخر الهلوسات الجذبية.
فإلى مناقشتها وعرضها على الكتاب والسنة.
مناقشة أحلام الجذبة:(2/447)
التي يسمونها: الكشف، أو العلوم اللدنية، أو المناظر الإلهية، أو المشاهدات (قبل البدء، أرجو من القاريء الكريم أن يعيد قراءة مفعول المخدرات، ويكرر قراءتها).
نستطيع أن نقسمها، من حيث مصدرها، إلى قسمين:
1- هلوسات فيزيولوجية: وهي تسربات من الأماني والمعلومات (الصحيحة أو المتوهمة) المختزنة في اللاشعور، تتسرب من مخازنها، لتنزلق مباشرة إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، فما كانت منها صورًا بصرية، انطبعت في مركز التفسير البصري، فيراها المجذوب وكأنها ماثلة أمامه، سواء فتح عينيه أم أغمضها؛ لأنها لم تصله عن طريق العين. وما كانت منها صورًا سمعية، انطبعت في مركز التفسير السمعي، فيسمعها أصواتًا لا يعرف مصدرها بالضبط؛ لأنها لم تصله عن طريق الأذن. ومثلها ما كان صورًا شمسية أو ذوقية أو لمسية.
2- هلوسات شيطانية: يتراءى بها شيطان المجذوب أمامه، مستفيدًا من خاصة الجذبة في تضخيم الأطوال، أو ينفثها في لا شعوره، وهو الميدان الذي يستطيع الشيطان أن ينفث فيه وسوساته، لتتسرب منه إلى مراكز الحس في الدماغ، مثل بقية الهلوسات الفيزيولوجية.
لا يكون هذان القسمان منفصلين عن بعضهما، بل ممتزجين، إلا فيما ندر، وفي حالات كثيرة يمكن التمييز بينهما.
وإن تسميتهم لها المناظر الإلهية، أو الكشف، أو نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، أو غيرها مما مر في هذا الكتاب ومما لم يمر، ما هي إلا جهل مغرور، وافتراءات على الله الكذب، وضلالات موغلة في الجرأة عليه سبحانه وجل عما يفترون. والبراهين ما سبق وما يلي:-
1- أن الله سبحانه كرم الإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }عندما خلق فيه مراكز الوعي، ووهبه بها العقل وتوابعه، كالإدراك والفهم والعلم، ومنها التكاليف.(2/448)
فالله سبحانه، عندما يخاطب الإنسان، فإنما يخاطب فيه العقل والوعي والشعور، وعندما أرسل الرسل بالدين والتكاليف، فإنما أرسلهم يخاطبون العقل والوعي والشعور. والآيات المبينة الدالة على ذلك كثيرة، منها:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}.{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}. {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا }.{انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}.{قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون} . { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُون} َ{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}...(2/449)
والآيات كثيرة، كلها تبين أن الوعي في الإنسان هو الذي أعده الله تعالى لتلقي كلماته، وهو الذي أعده لفهم الحقائق وأدراكها، وخاطبه بالوحي، ليكون الوحي المرتكز الأساسي الذي ينطلق منه العقل الواعي في جميع ميادينه.
وعندما يكون الخطاب الإلهي موجهًا إلى الوعي والشعور، فهذا يعني أن الطريق إلى رضوان الله لا يمكن أن تكون إلا عن طريق الوعي والشعور التامين.
أما الشيطان، فاللاشعور في الإنسان هو ميدانه الذي يصول فيه ويجول، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها:
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ. إِلَهِ النَّاسِ... مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ }. { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا }. { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ }. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ }. {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}...
وعلى ذلك لا تكون الجذبة فتحًا إلهيًا، بل استحواذًا شيطانيًا، ولا تكون هلوساتها نور اليقين ولا عين اليقين ولا حق اليقين، وإنما وحي إبليس وجنوده، ولا تكون مناظرها إلا مسارح الشياطين وهلوسات الحشاشين.
2- مر في بحث سابق الآيات التي تبين أن طريق الضلال لا تقود إلا إلى ضلال، وأن سبيل الشيطان لا تؤدي إلا إلى غرور { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}.
ورأينا ما هي الطريق إلى رؤية هذه المناظر وتلك الكشوف، إذن فهي كلها باطلة، وهي كلها شيطانية.(2/450)
3- إذا كانت هلوسات جذبة الإشراق كشوفًا إلهية، فهلوسات جذبة المخدرات مثلها تمامًا؛ لأن الجذبتين شيء واحد، وكل ما بينهما من فرق أن المخدر في جذبة التحشيش يأتي من خارج الجسم بينما يأتي المخدر في جذبة الإشراق من داخل الجسم، والنتيجة واحدة في الحالتين.
وإذا كانوا يصرون على أن هلوساتهم هي فتوحات إلهية وعلوم لدنية فلم لا يختصرون الطريق ويوفرون الوقت والجهد؟ إذ بدراهم معدودة شراء شيء من الحشيش أو الأفيون أو عقار التهليس أو الايتير أو غيرها، وبثواني معدودة تشرق عليهم الأنوار، وتنكشف أمامهم الأسرار، ويعرجون في السماوات العلى ويتمتعون بالمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، ويذوقون معاني الأسماء كلها، ويتنقلون في الفناءات.. إلى آخر الهلوسات .
مادام كلا الطريقين إلى جهنم، فلم لا يتبعون الأقل مشقة ؟
4- بالرغم من أن كل الصفحات السابقة هي براهين ساطعة واضحة على أن رؤاهم هي هلوسات شيطانية، وأن فيها الكفاية وأكثر من الكفاية. ومع ذلك فهناك الكثير من الأدلة غيرها من كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم... فإلى كشوفهم وعلومهم اللدنية ومشاهداتهم:
ولنبدأ بجبل قاف. ولنستعد قبل ذلك بعض خواص الجذبة:
- تضخم الأطوال (الجفون تطول إلى ما لا نهاية، والأطراف تطول والمسافات حتى يرى الأمتار طول ما بين المشرق إلى المغرب).
- رؤية أشكال وسمع أصوات ليس لها وجود.. وأحيانًا رؤيتها بمجرد تمنيها أو مرورها بالفكر..
- رؤية الحبل أفعى والكلب أسدًا.. وما شابهها.
ولا بأس من الرجوع إلى أول هذا الفصل لمراجعة المخدرات ومفعولها.
* جبل قاف :-
كان كثير من الأقطاب العارفين الأبدال يرونه (أثناء الجذبة طبعًا)، ويصعدون عليه، ويذهبون إلى ما وراءه، ويرونه محيطًا بالأرض، يبلغ ارتفاعه ثلاثمائة سنة (أي ما يزيد عن بعد القمر بأكثر من تسع مرات) ويرى بعضهم الحية المحيطة به (وبالتالي بالأرض) وذيلها عند رأسها...(2/451)
كانوا يرون هذه الأمور بالكشف! بينما الآن، صار من البدهيات عند الجميع، حتى الصوفية، أن الأرض كروية، وقد دُرس سطحها كله إلى أعماق محترمة دراسة دقيقة؛ فقد دُرس سطح اليابسة بدقة بالغة، جبالاً ووديانًا وسهولاً وصحاري وبحيرات وأنهارًا، ودرست تربتها إلى أعماق تقاس بالكيلو مترات بدقة أيضًا. ودرست طبقات الأرض دراسة إجمالية، لكنها صحيحة، إلى أعماق تقاس بألوف الكيلو مترات، كما درست البحار كلها سطحًا وأمواجًا ومدًا جزرًا، وعرفت أعماقها بدقة، ووضع لقيعانها الخرائط الصحيحة، ووضعت الأسماء لما فيها من جبال ووديان ومنبسطات، أي إن سطح الأرض كله درس دراسة دقيقة إن لم يكن بالمتر المربع فبالكيلو متر المربع.
ويعرف الجميع أن جبل قاف محض خرافة لا وجود له، وأن الأبعاد التي قدروها له وللأرض، لا تدل إلا على جهل كامل بجغرافية الأرض، وجهل مخز بحساب المسافات، فكشوفهم لم تفدهم شيئًا، بل هي التي دفعتهم إلى وهدة الجهل الذي يتخبطون فيه.
ومادام جبل قاف لا وجود له! فماذا كانوا يرون إذن؟
الواقع، إنهم كانوا يرون بالكشف جبل قاف، والذين كانوا يرونه هم من الأقطاب الأبدال الأولياء العارفين! ورؤيتهم له بالكشف هي برهان ساطع قاطع جديد على صحة كل ما ورد في الفصول السابقة من أن الجذبة ليست إلهية وإنما تحشيشية، وأن كشوفهم ما هي إلا هلوسات الحشاشين وتمثيليات الشياطين!.
رأينا أن الخلوة عنصر أساسي في المجاهدة، وقد كانوا كلهم - أو أكثرهم - يعتزلون الناس في البراري أحيانًا وفي الخرائب أحيانًا، خوفًا من سيف الحلاج.
والخرائب ، كما هو معروف، هي بيوت خربة هدمت جدرانها، لكن بعضها، كما هو معروف أيضًا، يبقى حولها شيء من جدرانها المهدومة، بارتفاعات مختلفة (قامة أو نصف قامة أو أكثر أو أقل).
من البدهي، أن المرتاض الذي كان يرتاد الخرابات، كان ينتفي إحدى تلك الغرف الخربة المحاطة ببقايا جدرانها؛ لأن هذه البقايا تعزله عن رؤية الناس.(2/452)
ومن البدهي أنه كان يسوي أرضها، أو جزءًا من أرضها، إلى حد يستطيع معه الإقامة عليه أثناء خلوته فيها.
ومن البدهي أيضًا أن كثيرًا منهم - إن لم يكن كلهم - وصلوا إلى الجذبة أثناء إقامتهم في تلك الخرائب، وأن بعض تلك الجذبات كان من النوع المضخم للأبعاد، فماذا كان يرى المجذوب في مثل تلك الحالة؟
- كأن يرى البقعة التي يقيم عليها أرضًا شاسعة واسعة، يقدر بوهم جذبته، أو بإيهام شيطانه له، أن طولها من الشرق إلى الغرب مئات السنين، ومن الشمال إلى الجنوب كذلك. ويرى بقايا الجدران التي تحيط بها، جبلاً شاهقًا ذاهبًا في السماء، يحيط بالأرض من جميع جهاتها.
وطبعًا كانوا يقصّون مشاهداتهم على بعضهم، وكانت قصة الجبل الشاهق المحيط بالأرض تتردد كثيرًا في مشاهداتهم وقصصهم، لكثرة خلواتهم في الخرائب.
وربما كان يخطر لأحدهم، على بال جذبته، أن يصعد فوق جبل قاف، فينهض، ويقترب من الجدار المتهدم، ويعتلي فوقه، فيرى نفسه قد قطع الدنيا بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، ويرى نفسه قد صعد فوق جبل قاف، بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، حسب المكان الذي صعد عليه.
وقد يهبط خلف الجدار المتهدم فيرى نفسه وراء جبل قاف، وقد يتراءى له شيطانه، وقد يكون معه رفقة شياطين آخرون، فيتسلون بالتلاعب بعقله والضحك على ذقنه، ويفهمونه أنهم أولياء مثله يقيمون وراء جبل قاف، أو يزورونه من حين إلى آخر، كما قد يكون هؤلاء الأولياء مرتاضين مثله يختلون في الخرائب المجاورة لخرابته، وقد يكونون مجرد صور هلوسية.
وقد يحدث لجذبة الفقير (على وزن حضرة الفقير) أن يرى خلف جبل قاف حية، أو حبلاً يتوهمه حية، فيراها طويلة طول ما بين المشرق والمغرب، وقد تكون هذه الحية وسوسة من شيطانه ينفثها في روع جذبته فيراها مجسمة أمامه.(2/453)
وبما أنهم كانوا، لجهلهم، والجاهل عدو نفسه، وعدو دينه، يؤمنون أن كشوفهم هي نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين، لذلك آمنوا أن الأرض محاطة من جميع جهاتها بجبل شاهق جدًا ! وعرف بعضهم بالكشف أن اسمه قاف، وانتشرت الأسطورة، وأخذت حيزًا هامًا من الثقافة العامة في المجتمعات الإسلامية حتى زمن قريب ! بل لا يزال كثير من الأبدال العارفين وعابديهم (المريدين) والمخدوعين بهم يؤمنون حتى الآن بجبل قاف.
وقد كانت الخرابات ضرورية لرؤية جبل قاف قبل أن يعرف، أما بعد ما شاع اسمه واشتهر واحتل مكانه من الثقافة العامة، فقد صار بإمكان الفقير أن يراه في أي مكان تأتيه فيه الجذبة، كما يرى بقية التخيلات والصور المختزنة في اللاشعور، (وسنرى توضيح هذا بعد صفحات).
إن رؤية جبل قاف وغيره من الخرافات، بالكشف، هي برهان واضح جدًا وساطع جدًا على أن كشوفهم هلوسات تحشيشية شيطانية، وليست فتوحات إلهية كما يفترون.
5- بقية كشوفهم الجاهلة: رأينا، فيما سبق من فصول ؛ نماذج كثيرة من كشوفهم التي سموها علومًا لدنية، وما فيها من جهل، ولا بأس من إضافة الملاحظات التالية:
أ- من كشوف الأقطاب الأغواث العارفين أن الأرض محمولة على حوت اسمه "نون"، والحوت على الماء المحيط.. إلى آخر الهذيان، ولم يستطع واحد من أولئك العارفين الذين عرفوا الأمور بنور اليقين - كما يقول حجتهم - أن يعرف أن ذلك هراء، وأن الأرض كروية مدحوة في الفضاء وأنها تدور حول الشمس، وأن ماءها خرج منها {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا}، وهذا يعني أن الماء محمول عليها، وليست هي محمولة عليه، وهذا دليل على أن كشوفهم ليست إلهية، بل هي هذيانات هلوسية؛ لأنها لم تستطع معرفة الحقيقة ولا فهم الآية الكريمة.(2/454)
ب- رأى قطب منهم الشمس في عجلة يجرها ملكان لهما مخالب... وهذا يذكرنا بالحيوان الأسطوري الذي يجر عجلة ملكية والذي رآه حشاش فطر المكسيك، ولم يستطع الكشف الجاهل ولا كل كشوفهم أن تعرفهم أن الشمس كتلة ملتهبة مضطربة تكاد تميز من الغيظ أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وأنها ليست محمولة على عجلة بل مدحوة في الفضاء. إذن فكشفهم ليس إلهيًا وإنما هو هلوسة هذيانية.
ج- لم يعرف أي قطب منهم أو غوث من الذين يتصرفون في الكون أن القمر مثل الأرض فيه صخور وأتربة، وأنه كروي خال من الهواء والماء! ولم يعرف عارف منهم أن المريخ والزهرة والكاتب وغيرها كلها مثل الأرض تتألف من صخور وأتربة وفيها أجواء غازية وفي بعضها ماء.. لأن كشفهم ليس إلهيًا بل هلوسات تحشيشية.
د- لم يستطع أي غوث منهم من الذين يتصرفون في الكون أو من الذين تحققوا بأسماء الله الحسنى، ومنها الاسم "العليم" ومنها "علام الغيوب"، أن يعلموا شيئًا عن الذرات والجواهر والنوى وكهاربها وحركاتها..؛ لأن كشفهم ليس إلهيًا بل هلوسة أفيونية يرون فيها ما كانوا يتوهمونه عن الكون من خرافات وأساطير.
6- لم يستطع كشفهم الجاهل أن يميز الحديث الموضوع من الصحيح، حتى كانوا وراء تزوير الأحاديث ووضع أكثر الموضوع منها والمكذوب، فكانوا من الأدوات التي هدمت الإسلام في نفوس المسلمين، إذن فكشفهم ليس إلهيًّا وعلومهم اللدنية هي جهالات لدنية.
ولا نريد أن نزيد، فما على القارئ الكريم إلا الرجوع إلى فصل "نماذج من حكايات الصوفية وكراماتهم..."، أو إلى كتبهم، ليرى ما يكشف عن الجهل والغباء والخرافة والاستحواذ الشيطاني، فحكاياتهم وكراماتهم أبلغ من أي حديث آخر.
ونذكر أن العروج في السماء، والفناء في الله (تعالى الله) وتوابعها، لا يستطيع شياطين الجن تمثيلها أمام السالك، أو العارف، أثناء اليقظة؛ لأن أجسامهم أصغر من أن تستطيع التمثل بتلك الأشياء الضخمة جدًا.(2/455)
لذلك كانوا بحاجة إلى الجذبة وخواصها، وأحيانًا إلى الخاصة المضخمة لصغائر الأشياء تضخيمًا كبيرا؛ ليستطيعوا أن يوهموا الفقير بتلك الأمور ثم يوهموه أنه صار "عارفًا بالله" بينما هو في الحقيقة، صار من أجهل خلق الله وأضلهم، وصارت نفسه مركبًا ومسرحًا وملهاة للشياطين يعبثون فيها كما يريدون! .
فيزيولوجية الجذبة:
ما هي الجذبة؟ وكيف تحدث؟
من المعروف أن العمل العضلي المجهد يسبب إفراز مادة "حامض اللبن" في الدم الذي يوصله إلى أنحاء الجسم، وبملامسته للأنسجة العصبية يؤثر فيها تأثيرًا تترجمه الجملة العصبية إلى شعور بالتعب.
وشبيه بهذا ما يحدث نتيجة المجاهدة الصوفية.
لنسأل أي عالم صادق من علماء التشريح والفيزيولوجيا؟ وسيخبرنا أن العزلة والسهر والجوع والذكر الإرهاقي وتوابعها واستمرارها مدة طويلة تحدث ف يالجسم الإنساني تحريضًا يجعله يفرز مادة تؤثر على الجملة العصبية تأثيرات هدفها الأول التلطيف من شدة الألم الناتج عن تلك الممارسات.
فما هي هذه المادة؟ وما هو تأثيرها؟
يمكن معرفة هذه المادة بالتحاليل المخبرية الدقيقة، (وقد تفيد معها الفحوص الشعاعية والسريرية على أن تجري على عدة سالكين في أكثر من حالة صحو وأكثر من حالة جذبة لكل واحد منهم. وقد يكون من المفيد بدء الفحوص مع بدء سيرهم في التصوف).
ومع ذلك نستطيع، بصورة أولية، معرفة الوظيفة الكيميائية لهذه المادة من تأثيرها؟ إذ إن تأثيرها يشبه تمامًا تأثير المواد المخدرة، إذن فهي من نوعها، وهي بالتالي من أشباه القلويات.(2/456)
لكن يظهر من تجارب القوم وتوصيات الشيوخ أن هذه المادة المفرزة، لا تؤثر على الأعصاب التأثير المطلوب إلا عندما تكون الجملة العصبية في حالة "الاستخدار"، ورأينا أن الوصول إلى هذه الحالة يكون بخلع النعلين، الدنيا والآخرة، أي بإفراغ مراكز الوعي في الجملة العصبية من جميع مشاغلها الدنيوية والأخروية! إفراغًا كاملاً ، حتى تصاب هذه المراكز، (بسبب تعطيلها عن العمل)، بالكسل والضمور والاسترخاء، أي "الاستخدار"، حيث تغدو قابلة للتأثر بكمية من المخدر أقل من الكمية التي يمكن أن تتأثر بها في الحالة العادية.
وهكذا يلتقي الهبوط الكافي في نشاط القشرة الدماغية ومقاومتها مع الزيادة الكافية في دفقة المخدر، فتكون الجذبة المورفينية التي يسمونها بغرورهم: الفتوح، أو كشف الحجب، أو الإشراق، أو الولاية ، وغيرها.. وما هي في حقيقتها إلا "أفْيَنَةٌ ذاتية" تشبه الأفينة التي يسببها الأفيون والمورفين والحشيش وعقار الهلوسة وفطر المكسيك وغيرها شبهًا كاملاً، مظهرًا ومخبرًا ومشاهدات وهلوسة وحالة نفسية.
ولو أُخضِع الذين يتعاطون هذه المهلّسات إلى إيحاءات الشيخ والجو الصوفي مدة كافية من الزمن، لصارت هلوساتهم مثل هلوسات الصوفية تمامًا: عروجًا إلى السماء، واجتماعًا بالملائكة والأنبياء، ووصولاً إلى العرش، وحضورًا مع الله (جل وعلا)، وفناءً فيه حلولاً أو اتحادًا أو وحدةً، حسب الإيحاءات التي يُحقنون بها.
وفي هلوسات الصوفية التي يسمونها الكشف والفتح والعلم اللدني، والتي يرونها أثناء الجذبة، براهين تُضاف إلى ما سبق، على أن جذبة الأشراق هي نفس جذبة التحشيش والأفينة، لأن مشاهداتهم في هذه نفس مشاهداتهم في تلك، والفرق بينهما ناتج عن الفرق بين الأمانيّ والمعلومات المختزنة، ولأن الحالة النفسية في كلتيهما واحدة.(2/457)
وتبرز ملاحظة مفيدة؟ فقد رأينا في فصل سابق أن هزّ الرأس على الطريقة النقشبندية قد يوصل إلى الجذبة بعد إحدى وعشرين هزة، أو بعد تكرارها، مما يدل على أن المادة المهلّسة المفرزة إنما تفرزها بعض أنسجة الدماغ أو بعض الغدد القابعة في ثناياه.
فهل الأمر كذلك؟
نعم إنه لكذلك! ففي الدماغ منطقة تُفرز مادةً شبه قلوية لها مفعول المرفين، هذه لمنطقة "تحت المهادية" واقعة في الجزء الأسفل من المخ، تفرز مادة "الأنْدُورفين" أي (المورفين الداخلي) وهي أقوى من المورفين المعروف، وظيفة هذه المادة هي تخفيف الآلام الشديدة التي يمكن أن تكون قاتلة، تلطِّفها وتجعلها - بآلية معقدة - في الحدود غير المميتة.
كما أن هناك مادة ثانية يفرزها الدماغ اسمها "أنكيفالين" لها نفس التأثير المخفف للآلام ونفس المفعول المورفيني، لكنها أضعف من المورفين.
نقرأ في المعجم الفرنسي (Laصلى الله عليه وسلمousse) تعريفًا لهاتين المادتين، ترجمته:
- أندورفين (Endoصلى الله عليه وسلمphine) : هرمون تفرزه الغدة تحت المهادية (Hypothalamus) له حصائص المورفين المسكّنة.
- أنكيفالين (Enkephaline): مادة يفرزها الدماغ تؤثر في نقل السياة العصبية ولها مفاعيل المورفين المسكّنة.
ونقرأ للدكتور أكرم المهايني في كتابه (علم الأدوية "الفارماكولوجيا") قوله:
- مماثلات المورفين: أقرّ العلماء مؤخرًا، إثر الدراسات الحديثة لفسيولوجية المراكز العصبية، وجود ببتيدات... تبدي قدرةً تحاكي فعل المورفين في عدد من النسج الحية، ولا سيما في الجملة العصبية والنخامي والأنبوب الهضمي، وقد تم حتى الآن، الكشف عن مجموعتين من هذه الببتيدات الداخلية المنشأت التي عرفت باسم "مماثلات المورفين" أو "الببتيدات نظيرة الأفيون" وهما:
1- مجموعة الأنكه فالين... (اكْتُشِفت سنة 1977).
2- مجموعة الأندورفين .. (اكْتُشِفت سنة 1976).(2/458)
(ليس من موضوع كتابنا أن ننقل تجارب الفارماكولوجيين ومناقشاتهم في موضوع هذه الببتيدات، وإنما نورد منها ما يمس موضوع بحثنا).
إن دفقة كافية من الأندورفين، أو من الأنكيفالين، أو منهما مجتمعين توقع السالك في الجذبة المماثلة للجذبة التي يسببها المورفين، حيث ينال السعادة الأبدية التي تستمر دقائق أو سويعات، يرتقي أثناءها في المعارج، وينتقل في الفناءات، ويتحقق بالأسماء والصفات ويذوق من معاني اسمه الصمد...
فلكما التقديس يا إندورفين ويا أنكفالين، يا هرموني الولاية وإكسيري المعرفة، يا سُرارتي التوحيد وقراراتي التفريد.
يا إندورفين ويا أنكفالين، يا من بكما تعلقت همم الرجال، وإليكما تطاولت أعناق المحبين العاشقين الأبطال، ومن أجلكما اقتحموا الأهوال.
يا إندورفين ويا أنكفالين، إليكما حقيقةً توجهت صلوات الصوفية في الجهر والإسرار، وبكما حقيقة تعلقت قلوبهم والأسرار، وفي سبيلكما حقيقة واصلوا اجتهاد الليل بالنهار.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا منتهى أمل السائرين ، وغاية غايات السالكين، إليكما صبت قلوبهم، ولكما عَنَت وجوههم ، وبتجلياتكما التي لا توصف بلسان، ولا تفصل ببيان، باعوا الدنيا والآخرة، ورضوا بجهنم مستقرًّا ومقاما.
يا نور يقينهم، وعين يقينهم، وحق يقينهم.
يا هرموني الفناءات، وإكسيري التجليات، يا مانحي التحقق بالأسماء والصفات.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا كاشفي الحجب، يا مقدسي الأسرار، يا رافعي الغين عن العين.
ياسر الجذبات التي أوهمتهم شياطينهم من الإنس والجن أنها ولاية وقرب وتحقق بالألوهية.
* كيف يسبب الإندورفين والأنكفالين الجذبة:
الألم الشديد حافز يدفع الغدد الدماغية المختصة لإفراز هاتين المادتين أو إحداهما بشكل دفقات كافية لتخدير المراكز العصبية، بما في ذلك القشرة الدماغية، تخديرًا خفيفًا كافيًا لإبقاء الألم في حدود غير قاتلة.(2/459)
كما يظهر من تجارب القوم (الصوفية) أن الاهتزازات العصبية العادية (غير الحادَّة) إذا استمرَّت مدة كافية (تختلف من شخص لآخر) تدفع هذه الغدد لإفراز دفقات من هاتين المادتين أو من إحداهما، وقد رأينا أن هز الرأس بعنف على الطريقة النقشبندية قد يثير الدفقات.
والرياضة الإشراقية عند الأمم الأخرى (الخلوة، والجوع، والسهر، والصمت، وتركيز الفكر في كلمة، وتركيز النظر على نقطة، وأخذ بعض الأوضاع غير المريحة، والاستمرار على ذلك مدة طويلة)، يقود إلى نتيجتين:
1- إفراغ مراكز الوعي من أي شيء يشغلها على الإطلاق، فتتعطل القشرة الدماغية من وظائفها الطبيعية التي طبعها الله سبحانه عليها، ومع المثابرة والاستمرار تصاب بشيء من الكسل والارتخاء، ومع المثابرة والاستمرار أيضًا، يزداد الكسل والارتخاء حتى تصل إلى درجة كافية للتأثر تأثرًا كافيًا بكمية المهلِّس (إندروفين أو أنكيفالين أو كليهما)، الضئيلة التي تفرزها الغدد المختصة، كما أن تكرار الرقص العنيف، يساعد في زيادة كسل القشرة الدماغية واسترخائها، أو انكماشها.
إن عملية عدم التفكير المطلق وإفراغ الذهن من كل ما يشغله عمليةٌ صعبة للغاية، بل تكون متعذرة للكثير من الأشخاص، فأعانهم إبليس بأن دلَّهم على فائدة تركيز الفكر في كلمة ما كائنة ما كانت هذه الكلمة، فالهندوسي، مثلاً ، يستعمل كلمة "أوم" أو "راها"، والطاوي يستعمل كلمة "طاو"... وإذا أراد أحد متصوفة المسلمين ممارسة رياضة الصمت (وهذا نادر جدًّا) ركز تفكيره في شيخه.
ويستطيع القارئ أن يجرب ذلك بنفسه، فيركز تفكيره في كلمة ما، ولتكن "زيز"، يرددها في ذهنه دون أن يحرك لسانه أو شفتيه أو أي جزء من فمه، مع الانتباه إلى هذا الترديد، وسيشعر أن ذهنه كان فارغًا من أية فكرة أثناء ترديدها.(2/460)
2- النتيجة الثانية، هي الإرهاق المؤلم المستمر الذي يدفع الغدد الدماغية المختصة إلى إفراز مخزونها من المهلّس، واستمرار الألم وتزايده يدفع هذه الغدد إلى العمل المتزايد وإلى تزايد الإفراز، حتى تغدو الكمية المفرَزَة كافية للتأثير على المراكز العصبية التي وصلت إلى درجة كافية من الارتخاء؛ فتكون الجذبة التي يسمونها فيما يسمونها: "كشف الحجب، أو الفتح، أو الولاية، إلى آخر الأسماء الظالمة"، مع العلم أن ازدياد الإفراز عن الحدود المحتملة يقتل صاحبه.
أما متصوفة المسلمين:
فقد حذفوا من رياضتهم الصمت وتركيز الفكر والنظر وأخذ الأوضاع المؤلمة، واستبدلوها بما سمَّوه "الذكر". إن ترديد كلمة ما، يقود بعد مدة قد تطول وقد تقصر (حسب الأشخاص) إلى نفس النتيجتين السابقتين:
1- إفراغ الذهن من خواطره، والاستمرار على هذا الإفراغ بالذكر الإرهاقي المستمر ليالي وأيامًا يدفع القشرة الدماغية إلى الاستخدار. وكذلك الخضوع الكامل للشيخ هو عامل مساعد وقوي للوصول إلى الاستخدار لأنه يحول دون تشغيل الفكر، بل يشلّه.
2- من المعروف أن الإنسان إذا مارس حركة ما مدةً طويلة، تغدو لديه عادةً يقوم بها دون إرادة أو شعور. وكذلك ترديد كلمة ما، ليلاً ونهارًا، يغدو بعد مدةٍ عادةً، يرددها المرتاض دون إرادة أو شعور، ويزيدها الترديد الإرادي تمكنًا، حتى إنه يكون نائمًا، فيستيقظ، أو يوقظه أحد، فيلهج بها لسانه مباشرة دون وعي منه؛ بل قد يصل إلى ترديدها أثناء نومه.
ومثله الأعصاب التي تربط اللسان بالدماغ، والتي تسري فيها التموجات العصبية النطقية المتناغمة مع الكلمة المردّدة ومقاطعها وحروفها، تعتاد على ترديد تلك النبضات مع اللسان دون وعي.
ومثلها المراكز المختصة في الدماغ.(2/461)
وبطبيعة الحال، تنتقل هذه النبضات إلى الأنسجة المحيطة بأعصاب اللسان وبمراكزها في الدماغ حيث تصبح لها عادة مثل اللسان وأعصابه. ومع الزمن يشعر المرتاض أن أعصابه كلها تردد تلك النبضات، وكلما زاد من ترديده الإرادي للكلمة كلما تمكنت تلك العادة من دماغه وأعصابه.
فلم يزل مستعملاً للذكر
وقَدْرَ ما تجوهر اللسان
ثم جرى معناه في الفؤاد
فيصمت اللسان وهو يجري
بالاسم يستثبته الجَنا
جَرْيَ الغِذا في جملة الأجساد
هذه الاهتزازات (الميكرونية طبعًا) المستمرة، تنتشر في الدماغ حتى تصل إلى الغدد المختصة التي تأخذ بالاهتزاز مثل بقية الدماغ؛ واستمرار هذه النبضات يفضي إلى إفراغ المخزون أو المهيّأ من هرمونها.
واستمرار الاهتزاز، باستمرار الذكر، يؤدي بعد مدة إلى إصابة هذه الغدد بالخلل، فيزداد إفرازها ويسهل قذفها، وقد تصاب بالتضخم، كما يؤدّي هذا إلى خلل في التفكير السليم.
وهكذا... حتى تغدو كمية الدفقة كافية لأفْيَنَةِ المراكز العصبية المستخدرة، فتكون الجذبة، ويغدو السالك وليًا لله بكمية من الإندورفين والأنكيفالين قد تقاس بأجزاء من الغرام .
فلكما التمجيد والنعمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، ولكما توجههم الأسمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، لوجهكما الرقص مع النقص ودون نقص، يا مقدسي الأسرار ويا باعثي الأنوار.
ما كان لهاثهم إلا وراء سرابكما، ولا هيامهم إلا بما يمنيهم إبليس فيكما من الخلد وملكٍ لا يبلى، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا قدس أسرارهم، ويا جاذبيهم إلى الأوهام الشيطانية التي ضلّوا بها وأضلّوا.
وعندما تصير زيادة الإفراز وسهولة قذفه مقامًا بعد أن كانت حالاً، عندئذ يكون السالك قد وصل إلى الدرجات العلى، ونال القرب والسعادة العظمى، وصار بدلاً أو قطبًا أو غوثًا، حسبما تُوهمه شياطينه من الإنس والجن.(2/462)
فيا عبّاد الإندورفين، احمدوه واشكروه على ما أولاكم من نِعَمه، ولا تنسوا الأنكيفالين.
إلى جانب هذين الهرمونين، يجب أن نذكر عاملاً مساعدًا هو الأكسجين. ففي الحضرة الراقصة، وبعد دقائق قليلة من القفز، يأخذ الراقص باللهاث والتنفس العميق، وهذا ما يسمّى "التهوية" حيث يدخل إلى رئتيه كمية من الهواء، وبالتالي من الأكسجين، أكبر من الكمية العادية.
عندما تستمر عملية التهوية مدة كافية، ترتفع نسبة الأكسجين في الدم، وللأكسجين تأثير أفيونيٌّ ضعيف، وارتفاع نسبته في الدم يصيب المراكز العصبية بأفْيَنَةٍ خفيفة، يختلف الإحساس بها من شخص إلى آخر.
لذلك نرى بعض الراقصين في الحضرة يأخذه الحال، فيزعق ويثور، إن كان الوارد قبضيًّا، أو يشعر بشيء من السرور والخدر اللذيذ، إن كان الوارد بَسْطيًّا، وقد يقع على الأرض، وقد يرى صورًا ينقصها الوضوح أو بعضُه، وهذا يثير فيه الشهية الجارفة للوصول إلى الجذبة ويدفعه إلى المثابرة على الرياضة، مع العلم أن بعض الذين يأخذهم الحال كاذبون لا يحسّون بشيء، وإنما يتظاهرون بذلك طمعًا في أن يحقّق الحال المقال.
كما أن للتهوية دورًا آخر، إذ إن ارتفاع نسبة الأكسجين في الدم يؤثر على المراكز العصبية في جميع الحالات، ويجعل فعاليتها تهبط، ولو لم يشعر الراقص بذلك، وكلما زاد عدد الحضرات كلما زاد الهبوط، وهذا يساعد السالك كثيرًا على الوصول إلى مقام الاستخدار، لذلك جعلوا الحضرة من المنشطات وأصرّوا عليها.
ترنيمة إلى الإندورفين (مع حفظ المقام للأنكيفالين):
كنت مزّقتُ شعري، لكن البادئ أو الباده أو الطالع أو اللائح أو البارق أو اللامح، (وكلها مترادفة تعني بدايات الحال). أو الهاجم أو الوارد أو الحال (وهذه أيضًا مترادفة)، أو المقام، أيها لا أدري، أجري في الخاطر هذه المقيصيرة فسجلتها.
أأندرفين والمسعى
له التسبيحُ في الإعلا
له أبدالهم تعنو
إلى إشراقك الأسنى
نِ والتمجيدُ في النجوى(2/463)
وفيه قُطبهم يفنى
أأندرفين هرمونَ الولاية
إليك عروجُ سالكهم
طَبَتْ سُبُحاتُ سرِّكَ سِرَّ
وقرّحَ جفنَه وَلَهُ
يهيم بسُكْر جذبتها
بها قد باع دنياه
رضي بجهنمٍ سكَنًا
مانحَ الحسنى
ومنك سحائبُ النعمى
قلب العارف المُظما
بخمرة ذلك المجْلى
يعبُّ يعبُّ لا يروى
وعاف لأجلها الأخرى
مُقابل ساعةٍ تُجْلى
أأندرفين كنتَ لهم
سرابُك عندهم خلْدٌ
وفيضك قدْسُ سِرَهمُ
فأنت محطّ قِبلتهمْ
إليك صلاتُهمْ حقًّا
أضاعوا فيك رُشْدَهُمُ
معين الخدعة الكبرى
ومُلْكٌ جلّ لا يبلى
يُقدّسُ قدْرَ ما تطغى
وأنت الغاية القصوى
وذكرهُمُ وما يُتْلى
فضلّوا، السعْي والمسعى
- الترنيمة للأندرفين لأنني أظن أن له الدور الأساسي في الجذبة.
وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، من المفيد ملاحظة ما يلي:
المنطقة تحت المهادية (Hypothalamus) هي منطقة من الدماغ الأوسط في قاعدة المخ حيث توجد عدة مراكز منظمة لوظائف فيزيولوجية هامة: "الجوع، والعطش، والنشاط الجنسي، والنوم، والاستيقاظ، وتنظيم الحرارة في الجسم".
وبدهي أن هذه المراكز هي أول ما يتأثر بالإندورفين، وبدهي أن هذا التأثر يغيّر كثيرًا أو قليلاً من فعاليات هذه المراكز، وهذا يفسّر ما يحدث لبعض الواصلين من بقاء مدة طويلة دون طعام أو شراب أو نوم، ومقدرة بعضهم على تحمّل البرد الشديد أو الحر الشديد، وغير ذلك. مما يظنّونه كرامات دالّة على ولايتهم.
* فيزيولوجية الرؤى أثناء الجذبة:
مادامت مكاشفاتهم ومشاهداتهم وإشراقاتهم باطلة كلها ؛ لأنها مدحوضة كلها بنصوص القرآن والسنة.
ومادامت دون أي رصيد في واقع الحياة والوجود.
ومادام كل ما يشاهدونه ويسمعونه ويكاشفونه هذيانات وهلوسات إندورفينية أنكيفالينية!
مادامت كذلك ! إذن فما هي ؟ وكيف تحدث ؟(2/464)
1- هناك التمثيليات الشيطانية، لكنها في واقع الأمر ثانوية، وقد لا تقتضيها الحاجة في كثير من الأحيان، وأكثر ما تكون في حالة الصحو، فيسمّونها الكرامات، ومع ذلك فهي وسيلة الخداع الأولى في الصوفية.
2- عملية الكشف والمشاهدة تجري في الدماغ، في مركز التفسير البصري، كالتالي: من المعروف أن الصور الحسّية (البصرية والسمعية والشمّية والذوقية واللمسيّة) عندما تتلقاها أعضاء الحسّ (العين والأذن والأنف واللسان والجلد) تحولها إلى سيالة عصبية تنقلها الأعصاب المختصة (بشكل تموجات قطعًا) مباشرة وبسرعة، إلى مراكز التفسير الحسّي في الدماغ، فما كانت بصرية انتقلت إلى مركز التفسير البصري، حيث يتم هناك الإحساس بالرؤية، أي إن مركز التفسير البصري في الدماغ (تحت القشرة) هو الذي يفسّرها بالصورة التي يعرفها كل من وهبه الله سبحانه نعمة البصر. وما كان سمعيًا انتقل من الأذن إلى مركز التفسير السمعي الذي يتمّ به الإحساس بالصوت وارتفاعه وحدّته وقربه وبعده.. وهكذا.
فمراكز التفسير في الدماغ هي التي تفسّر السيّالة (أو الموجات) الواردة إليها ذلك التفسير الذي يعرفه كل حي.
من مراكز التفسير الحسّي تنتقل الصور مباشرة وبسرعة إلى مخازن الحفظ في الخلايا الدماغية المتخصصة بذلك والقابعة في منطقة اللاشعور في الأجزاء الداخلية من الدماغ.
وكذلك يحدث للأفكار والتخيلات والأماني والطموحات، تُخزن كلها في خلايا مخازن الحفظ المخصّصة لها.
ويلاحظ بوضوح أن منطقة اللاشعور ليست مجرد مخازن صامتة تكدّس فيها الصور والأفكار بجمود، وإنما هي عالم حي تجري فيه بنشاطٍ عمليات تحليل وتركيب وإنشاء، لكن يغلب على هذه العمليات التنسيق مع العواطف والأماني المختزنة والتخميلات.
ويقرر علماء التشريح والفيزيولوجيا، بناءً على دراساتهم وتجاربهم الكثيرة، أن مراكز الوعي (التذكر والإدراك والمحاكمة والضبط وتمحيص الأمور) تقع في القشرة الدماغية.(2/465)
ويظهر أن خلايا المراقبة والانتقاء تتوزع بين القشرة وتمتد إلى داخل الدماغ.
ومراكز التفسير الحسّي (البصري والسمعي وبقيتها ) تقع تحت القشرة داخل الدماغ أيضًا.
ومن ملاحظة أحلام اليقظة، والأفكار الشاردة أثناء الاسترخاء، والأحلام المنامية، ومن دراسة أوصافهم لأحلام جذباتهم الأفيونية والإشراقية، نستطيع أن نتخيل ما يلي:
أن هناك طرقًا عصبية (حبال) بعضها صادر عن مراكز الوعي في القشرة الدماغية (التذكر والإدراك وبقيتها ) وبعضها صادر عن مراكز التفسير الحسّي تحت القشرة (البصرية والسمعية وبقيتها ) وكلها تصبُّ مباشرة في مخازن الحفظ في مناطق اللاشعور في الدماغ، والتي هي خلايا عصبية تعد بالمليارات وأن هناك قنوات مباشرة من مراكز التفسير الحسّي إلى مراكز الوعي في القشرة (الإدراك والضبط وغيرها).
كما يلاحظ؛ مع شيء من القبول، أن هناك طريقًا، أو قناة عصبية (حبل) صادرة عن مخازن الحفظ في اللاشعور، تصبُّ، حسب مقتضى الحال، في مركز التذكر أو التخيل في القشرة، ومن هناك تتوزع إلى المراكز الأخرى في القشرة الدماغية حسب مطلوب الفرد أو حالته.
ويلاحظ أن الطريق الواصلة بين مراكز الوعي في القشرة وبين مخازن الحفظ في اللاشعور هي، في الحالة العادية، ذات اتجاهين: من القشرة إلى مخازن الحفظ، ومن مخازن الحفظ إلى القشرة (أي ذهاب وإياب).
والطريق الواصلة بين مراكز التفسير الحسّي تحت القشرة وبين مخازن الحفظ هي، في الحالة العادية، ذات اتجاه واحد: من مراكز التفسير الحسّي إلى مخازن الحفظ فقط.
كما أنه من الملاحظ أيضًا أن خروج الصور الحسّية والأفكار من مخازن الحفظ في اللاشعور يكون بأحد أسلوبين.(2/466)
أ - أسلوب إرادي انتقائي، لا تخرج فيه إلا الصور المطلوبة، وهذا يدل على وجود خلايا دماغية وظيفتها الإشراف على إفراز الصور والأفكار المطلوبة وإخراجها إلى مركز أو أكثر من المراكز المناسبة في القشرة الدماغية، أي إن هذه الخلايا الدماغية هي مراكز مراقبة أو "رقيب" ويظهر أن جزءًا من هذه الخلايا (أو الحبال) الرقيبة واقع في منطقة اللاشعور، فهو يعمل دون أن يشعر به الكائن الحي.
ب - أسلوب لا إرادي، تتسرب فيه الصور والأفكار عفويًا (حسب الظاهر) وتجري هذه العملية في حالة الشرود الذهني والاسترخاء وفي حالة النوم (الأحلام) وفي الجذبة (الكشف)، عندما تكون مراكز الوعي والرقيب فاقدة فعالياتها.
كما يلاحظ أيضًا وبوضوح، أن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في مناطق الوعي تكون متناسقة مع واقع الحياة والوجود على قدر استيعابها لهذا الواقع.
وأن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في منطقة اللاشعور تكون متناسقة مع العواطف والأماني والمخاوف الكامنة، تأخذ موادّها الأولية منها ومن المعلومات المختزنة، فتحللها وتركب منها صورًا جديدة تتفق والأماني المختزنة والعواطف، ويلعب فيها الذكاء الفطري للفرد وسعة خياله دورًا ملحوظًا، لذلك، غالبًا ما تقفز فوق الواقع والمعقول.
- وهناك حقائق تشريحية وفيزيولوجية تساعد معرفتها على معرفة كيفية حدوث الرؤى الجذبية، بل والمنامية أيضًا:
- يتألف الحبل العصبي من خلايا عصبية متصلة ببعضها، تنتقل السيالة العصبية فيها من خلية إلى جارتها حتى تصل إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، أو إلى القشرة الدماغية.
- الخلية العصبية، ويسمونها "العصبون" أو "النورون" تعريبًا من (neurone) لا تستطيع الانقسام، وينتهي طرفاها بخيوط دقيقة متشعبة، تجتازها السيالة باتجاه واحد.
- بالقرب من منتهيات العصبونات، بملامسة التلاحمات العصبية، توجد حبيبات تحتوي على مكونات آمينية يسمونها "الآمينات الوسيطة".(2/467)
- ما بعد منطقة التلاحم هذه يوجد تلاحم آخر غني بحويصلات كبيرة (نسبيًا) كروية تختزن مادة ببتيدية (أي لها نفس مفعول الأندورفين) يسمونها "المادة P". وقد أثبتت الدراسات أن المادة "P" والانكيفالين والمستقبلات المورفينية تبدي نفس التوزع. والمادة "P" هذه هي حموض نووية (كالآمينات) لها دور هام في تأمين نقل الشيفرات الألمية عبر الألياف الناقلة للألم.
- تمر السيالة العصبية الحاملة لحسٍّ ما من أول العصبون إلى آخره، وهناك يتحرر عدد من الآمينات الوسيطة من حبيبات ادخارها لتصطدم بمنتهيات العصبون المجاور لتنقل إليه السيالة، أو لتحرّض فيه سيالة مماثلة، أما المادة "P" ففي نقل الألم.
- تقوم أدوية الجملة العصبية المركزية (الأفيونيات ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتأثير منتشر، منبّه أو مثّبط، لجميع التلاحمات العصبية (أي مكان اتصال العصبونين المتجاورين)... ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية مختلفة الشدة، وذلك بتنشيط أو إبطاء استقلاب الآمينات الوسيطة، أو بالتدخل في وظائف هذه المواد (الآمينات الوسيطة)...
- وفي الحقيقة أصبح من المقبول اليوم أن السيّالة العصبية عندما تبلغ نهاية النورون العصبي حذاء المركز، يتحرر من هذه النهاية عدد من الآمينات الوسيطة وتنتشر لتنبه أو تثبط نورونًا آخر... أهـ.
- ألفتُ النظرَ إلى قوله: "ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية".
ويقول في مكان آخر:
إن آلية التأثير العام لهذه الأدوية (المخدرات العامة) التي تستند على وجود ولعٍ اصطفائي مختلف الشدة بينها وبين المراكز العصبية المنتشرة على طول المحور الدماغي النخاعي...(2/468)
ويقول: إن اكتشاف بعض المركبات الكيمياوية، كعقار الهلوسة (L S D ) والمسكالين وغيرهما، وملاحظة أن هذه المواد قد تسبب تبدلات عميقة في التصرفات تصل لدرجة الإهلاس، كل هذا لفت انتباه الدوائيين الجدد إلى إمكان وجود علاقة بين اضطرابات السلوك والتصرف، وبين بعض المركبات الكيميائية التي تبدي ولعًا اصطفائيًا خاصًا بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي. وقد ارتقت نظرية التأثير الاصطفائي إلى أبعد من ذلك.. أهـ.
- هذه التقارير منقولة عن الدكتور أكرم المهايني في كتابه علم الأدوية الخاص مع قليل من التصرف للتخلص من التعقيدات والتفصيلات التي لا تهمنا في بحثنا.
يهمنا من هذه التقارير :
- الآمينات الوسيطة التي تنتقل من نهاية عصبون إلى بداية جاره لتنبيهه بتحريض السيالة، أو تثبيطه.
- دور الآدوية المؤفينة (ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتنشيط الآمينات أو إبطائها (تثبيطها) أو تقويتها.
- تأثير هذه العقّارات الأفيونية على أماكن مصطفاه من الأعصاب ومن الدماغ، وخاصة بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي، وهو الموضوع الذي نحن بصدده في كتابنا.
- وهذه الأماكن واىلأجزاء العصبية التي لديها القابلية للتأثر بهذه العقّارات المخدرة يسمونها "المستقبِلات".
- يقول الدكتور أكرم المهايني عن مجموعة الأنكيفالين:
... تثبت بشدة على المستقبِلات المورفينية، وتتوزع في الجسم بشكل يتماشى مع توزع هذه المستقبلات...
ويقول عن مجموعة الأندرفين:
... وأثبتت الدراسات التجريبية.... عام 1976، بأن لهذه الببتيدات أيضًا ولع شديد بالمستقبلات المورفينية...(2/469)
- من كل هذا، نرى أن الإندورفين والأنكيفالين اللذين يفرزهما الدماغ لهما نفس مفعول المورفين بصورة دقيقة، وإن كان الأنكيفالين أضعف منه، والأندرفين أقوى في بعض الحالات. وهذه التقارير العلمية، مضاف إليها ما رأيناه في الفصول السابقة من تشابه كامل بين حالة الجذبة الأفيونية الهلوسية ورؤاها وبين حالة الجذبة الصوفية ورؤاها، كل هذا يجعل التأكد كاملاً، ولا يترك مكانًا لأي شك أو تساؤل أو تردد بأن الجذبة الصوفية ورؤاها هي تهليس إندرفيني أنكيفاليني، وأن الرياضة الصوفية وعلى رأسها الذكر الإرهاقي تعمل على زيادة الكمية المفرزة من هاتين المادتين بشكل مَرَضيّ دائم، كما تعمل، بإرهاقها الدماغ مدة طويلة، على إضعافه إضعافًا كافيًا للتأثر بهذه الكمية الجديدة من إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما.
وبالتالي تكون الصوفية، أو الإشراق، أو المعرفة، أو الكهانة، أو ما شئت غيرها من الأسماء التي أطلقوها، تكون خدعة إبليسية كبرى، وهي السبب الأساسي لانحراف الإنسانية عن الفطرة التي فطرها الله سبحانه عليها.
ولزيادة الفائدة وزيادة تأكيدها، نصان آخران.
يقول الدكتور أكرم المهايني:
... ويحسن بنا التذكير، بأن زوال الألم بفعل المورفين (ومثله الإندورفين والأنكيفالين طبعًا) لا يؤلف سوى وجه واحد من أوجه تأثيراته المتعددة، فطيف تأثيره يشمل أيضًا - بشكل أعم - السلوك والتصرفات.
.... ولوحظ أيضًا وجود فرط نشاط إندورفيني في السائل الدماغي الشوكي لدى المصابين بالفصام (الجنون) المترقي...
- أقول: يعرف القاريء الآن أن الفصام المترقي هو مقام "جميع الجمع"، وأن المصاب به هو الذي يسمونه "المراد"، ولو أجريت الفحوص اللازمة لهؤلاء الأولياء الأحياء الذين نسمع بهم، وخاصة عندما يكونون في مقام القُرْب، لوُجد فرط النشاط الإندورفيني في السائل الدماغي الشوكي عندهم.
ومن هنا يبرز الترجيح، أن لا الإندورفين هو صاحب الدور الأساسي، أو الرئيسي في الجذبة.(2/470)
- والآن نستطيع أن نتخيل كيفية حدوث الرؤى الكشفية والأفيونية:
الظاهر أن مناطق اللاشعور في الدماغ تبقى في نشاط مستمر في جميع الحالات، شأن أجهزة الجسم اللاإرادية.
وواضح للمتأمل أن القناة العصبية التي تخرج فيها الصّوَر من مخازنها في خلايا اللاشعور إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، هذه القناة، أو القنوات، هي من مستقبلات المورفين؛ ولذلك عندما تغدو كمية الإندورفين المفرزة كافية، بتحريض الرياضة الصوفية، تتفاعل معها هذه المستقبلات، فتثبط الآمينات الوسيطة على طول الحبل العصبي الواصل بين المخازن والقشرة، وتغدو هذه الطريق مغلقةً، ويظهر أن خلايا الرقابة العليا يصيبها نفس الشيء، كما أن مستقبلات الأفيون في كل الجملة العصبية يصيبها نفس الشيء، وهذه هي الجذبة.
إن فقدان المجذوب الإحساس بما حوله جزئيًا أو كليًا (حسب كمية المهلِّس) هو دليل لازم كاف على أن الآمينات الوسيطة قد ثُبّطت، فتوقفت السيالات التي تحمل الإحساسات من أعضاء الحس (العين والأذن...) إلى القشرة الدماغية.
هذه هي الجذبة، وهذه هي الولاية (مرحبًا ولاية).
ويظهر أن هذه الولاية تصيب أيضًا خلايا الرقابة في الدماغ، فتأخذ خلايا اللاشعور حريتها بتحليل الصور والمعلومات المختزنة، وغيرها، لتركب منها صورًا جديدة متناسقة مع عواطف المجذوب ورغباته، بل، لعل العواطف والرغبات هي التي تحرك عملية التحليل والتركيب.(2/471)
تخرج هذه الصور الجديدة ، وغالبيتها بصرية، على غفلة من الرقيب المخدّر بشكل سيالات عصبية، لعلها موجيّة (وهو المنطقي)، في الطريق المعتاد الذي طُبعت عليه، أي إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، لكنها تجد منافذها مغلقة، وتجد إلى جانبها منفذًا آخر، وهو الطريق ذات الاتجاه الواحد التي تخرج من مراكز التفسير الحسي وتصب في المخازن، وهي، بدهيًا، تقع داخل الدماغ، فتعبرها اضطرارًا مخالفة للعادة في الحالة العادية، حيث تصل إلى مراكز التفسير الحسي. ولعل المادة "p" لها دور في فتح هذه القناة بصورة معكوسة.
بما أن غالبية الصور بصرية، لذلك تذهب إلى مركز التفسير البصري، فيفسرها ويحس بها كما لو كانت آتية عن طريق العين، ويراها المجذوب مجسّمةً ماثلة أمامه كأنها شيء واقع حقيقي؛ لأن مركز التفسير مطبوع على التأثر بأية موجة تصله، ليفسرها ويرسلها مفسرة إلى مركز الإدراك في القشرة، ولا علاقة له بمصدرها ولا بالطريق الذي سلكته.
وتذهب الصور السمعية إلى مركز التفسير السمعي، واللمسية إلى مركز التفسير اللمسي... وهكذا.
وعندما يصل الخدر خفيفًا إلى الطرق الواصلة بين المخازن ومراكز التفسير الحسّي، عندئذ يختلط الحابل بالنابل، ويختلط السمع بالبصر بالشم بالذوق باللمس، فتذهب الموجات البصرية إلى مركز تفسير حسّي (بصري أو غير بصري) وكذلك السمعية والشمّية والذوقية واللمسية، فتحدث لهم الرؤى التي لا يستطيعون وصفها، وتوهمهم شياطينهم ، ويصور لهم غرورهم أن الأنبياء كانوا كذلك وتوهمهم جذباتهم أن الجنة كذلك.
وعندما يزيد المخدّر عن حده، ويتغلغل في الدماغ يصاب المجذوب بالجنون أو الشلل أو الموت.
هكذا تحدث أحلام الجذبة بجميع أنواعها سواءٌ أكانت مورفينية أو إندورفينية، أي سواءً كانت جذبة تحشيش أو جذبة إشراق.(2/472)
ولعل من آثار الأندورفين أيضًا تمييع الخلايا العصبية، وخاصة خلايا القشرة الدماغية، تمييعًا خفيفًا طبعًا؛ لأن هذا يمكن أن يكون تعليلاً لما يرونه من تضخيم الأبعاد قليلاً أو كثيرًا، ومن إطالة الزمن أو تقصيره، ومن رؤية فراغات لا نهائية أو رؤية الأشياء شفافة أولا وجود لها... وذلك؛ لأن الخلايا المدركة في القشرة، عندما تتميع، يمكن أن يتغير شكلها باتجاه أو بآخر بسبب الضغوط حولها، فيحدث ذلك التشويه في الإدراكات، كما يمكن أن يكون حدوث هذا التميع في مراكز التفسير ذاتها.
وهنا يأتي دور الشيخ ؟
فلولا الشيخ لكانت الرؤى متشابهة مع بعضها في الجذبتين "جذبة التحشيش وجذبة الإشراق". لكن توجيهات الشيخ وإيحاءاته المتناسقة مع تجاربه السابقة، تحقن المريد بالعواطف والطموحات التي توجه رؤاه إلى العروج في السماوات والمحاضرات والمكاشفات والمشاهدات والفناءات والتحقق بالأسماء والصفات، ورؤية جبل قاف وكاف وعين وصاد، وغيرها، حيث يرى السالك منها ما يتناسب مع استعداداته الفكرية والإندورفينية.
ولهذا السبب كان الشيخ هو الأصل في طريقهم؛ ولهذا السبب قالوا من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن من لا شيخ له تكون رؤاه مثل رؤى حشاشي الحشيش والمورفين وزمرتهما؛ ولهذا السبب كان الخضوع الكامل للشيخ أساسياًّ ليسهل انطباع توجيهاته وإيحاءاته في أعماق المريد.
مساكين الحشاشون والمورفينيون مساكين!
فلو كان لهم شيخ يوجههم، لذاقوا أيضًا الفناءات، وتحققوا بالأسماء والصفات، وتصرفوا بالكون، ولكان منهم الأبدال والأقطاب والأغواث.
أما قولهم بالتصرف في الكون، هذا الهذيان المضحك المبكي (وكلهم هذيانات مضحكة مبكية) فقد رأينا مثله عند حشاش عقار الهلوسة، الذي يكفي، في بعض الحالات، أن يتخيل شيئًا أو يتمنى رؤيته حتى يراه أمامه مجسمًا.(2/473)
ومثل هذا يحصل لبعض الواصلين الذين صار خَلَل غددهم المفرزة للهرمونين مقامًا عاليًا ، فقد يمر بخاطره عرش الرحمن مثلاً ، فيراه أمامه مجسّمًا كما يتصوره بوهم جذبته، لا كما هو على حقيقته التي لا يعلمها إلا الله.
وقد يخطر على بال جذبته أن ينقله من مكان إلى مكان، فيقول له"انتقل" فيراه قد انتقل.. وهكذا. وهذا ما يسمونه "التصرف في عالم الملكوت".
وكذلك ما يحدث لبعضهم أحيانًا من اضطراب في إحساسه بالزمن، حيث يحسّ أنه قطع سنين طويلة في جذبة لم تدم سوى دقائق قليلة مثل هذا ما رأيناه يحدث لمجذوب المهلِّسات...
والرجاء من القاريء أن يعود إلى مفعول المخدرات في أول هذا الفصل لتتوضح أمامه ما هي كشوفهم ومعارفهم وعلومهم اللدنية.
والآن، نستطيع أن ندرك بصورة أوضح وأدق، دور الرياضة الصوفية. فهي بعناصرها التي عرفناها والتي يُجْملها قولهم: "اخلع نعليك، الدنيا والآخرة"، تقلّل الإحساسات الذاهبة إلى الدماغ تقليلاً كبيرًا، وهذا يعني أن السيّالات العصبية تقل كثيرًا، وهذا يعني كذلك أن الأمينات الوسيطة يقل عملها كثيرًا، ومع الزمن تصاب بالكسل، ومع تطاول الزمن بالمثابرة على الرياضة، ومع تكاثر الإندورفين والأنكيفالين بسبب الرياضة أيضًا، يغدو كسل الآمينات الوسيطة مقامًا عاليًا، وتغدو مستعدة للشلل أو ما يشبهه بكمية من المخدر أقل من الذي تحتاجه في الحالة العادية، أي تصل إلى مقام الاستخدار، والذكر الإرهاقي يقوم بنفس المفعول، وإذا ساعدته عناصر أخرى من الرياضة كان أسرع، ولعل التلاحمات العصبونية المحيطة بالدماغ هي محل العمليات المذكورة؛ وذلك لتكاثر الإندورفين في السائل الدماغي الشوكي أثناء الجذبة.
* فقرات معترضة :
* إكسير الولاية :-(2/474)
تسهيلاً على المريدين وتيسيرًا لهم للوصول إلى الولاية والصديقية والغوثية والألوهية بيوم أو يومين، ودون تعب ولا خلوة ولا جوع ولا سهر، نقترح على الشيوخ العارفين الكمل، ذوي المدد العظيم من الأموال التي تنهمر عليهم من المخدوعين والغافلين، أن يكلفوا واحدًا أو أكثر من علماء الكيمياء الطبية، لتحضير نوعين من العقاقير:
أ - عقّار يسبب هبوط فعالية الأمينات الوسيطة بشكل دائم (الاستخدار).
ب - عقّار آخر يحدث خللاً يضخم الغدد الدماغية المفرزة للمخدرين ويزيد إفرازها زيادة كافية.
عندئذ تصبح الولاية والقطبية والألوهية في متناول الجميع! فكل من يريد التحقق بالأسماء والصفات والفناءات في الذات والتصرف في الكون، ما عليه إلا أن يذهب إلى صيدلية يشتري منها "إكسير الولاية" المكون من عقارين:
- العقار الأول يأخذه في اليوم الأول، حيث يجتاز كل المقامات في ساعات، ويصل إلى مقام الاستخدار.
- العقار الثاني يأخذه في اليوم الثاني، حيث تخرق له الحجب وتكشف الغيوب بعد ثواني أو دقائق.
لكن الشيخ يبقى لازمًا لا بد منه في جميع الحالات! إذ دون إيحاءاته وتوجيهاته لن يستطيع المريد الوصول إلى الألوهية؛ لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومن لم يكن بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل فلا يمكن لإيحاءات الشيخ أن تنطبع في أعماقه لتصبح جزءًا هامًا من أمانيه وطموحاته.
وصحبة شيخ وهو أصل طريقهم
فما نبتت أرض بغير فلاحة
ولهذا، فلن يكون إكسير الولاية خطرًا على المدد الذي ينهمر على الشيوخ، بل بالعكس، سيزيد كثيرًا عدد السالكين بسبب سهولة (الطريقة الإكسيرية)، وبذلك سيزداد كثيرًا مدد الشيخ، كما سيحتاجون إلى عدد أكبر من الشيوخ الكمّل.
* أحلام النوم:-(2/475)
فيزيولوجية أحلام النوم تشبه فيزيولوجية أحلام الجذبة، مع فارق هو: في الجذبة: يبقى خدر الدماغ سطحيًّا وثابتًا في موضعه طيلة الجذبة، بينما تكون بقية أجزاء الدماغ متمتعة بنشاطها المعتاد إلا في حالة "الفناء عن الفناء" أو جمع الجمع.
وفي النوم: يبدأ النوم سطحيًّا (في القشرة الدماغية) حيث تحدث الأحلام، وتكون أجزاء الدماغ الأخرى في حالة هبوط تدريجي نحو النوم، فحالة الهبوط تجعل الحلم غامض الموضوع، والتدرج نحو النوم الكامل، أو بالعكس، يسبب القفزات في تسلسل حوادثه.
وعندما يصل النوم إلى مراكز التفسير الحسي تنقطع الأحلام.
* هل سيبصر الأعمى:-
لا أظنه بعيدًا، ذلك اليوم الذي يذهب فيه الأعمى إلى الصيدلية ليشتري "جهاز إبصار" يضعه على رأسه، ترتبط به نظارات يضعها على عينيه، ثم يخرج وهو يرى الحياة كما يراها البصير العادي، وتحدث عملية الرؤية كالتالي:
تقع الأشعة المنعكسة عن الأشياء على نظارات الجهاز (مثل وقوعها على العين العادية) وترتسم صورها عليها.
تتحول هذه الصور إلى موجات كهرطيسية تسري عبر شريط ناقل إلى الجهاز الموضوع في مكان معين فوق الرأس.
يحوّل هذا الجهاز الموجات الكهرطيسية إلى موجات عصبية مناسبة تخترق الجمجمة والقشرة الدماغية حتى تصل إلى مركز التفسير البصري الذي يفسرها كما لو كانت آتية إليه عن طريق العين، إذ كل ما يريده مركز التفسير البصري هو أن تصله موجات عصبية مناسبة، ليفسرها ويحس بها ذلك الإحساس الذي يعرفه كل كائن حي بصير.
أما من أين أتت تلك الموجات؟ وكيف؟ وفي أي طريق؟ فهذا لا شأن له به.
وهكذا تحل مشكلة العميان حلاًّ جذريًّا أو شبه جذري، كما يستطيع أي إنسان أن يستعمل هذا الجهاز للتسلية، أو لضرورة ما.
* جهاز فيديو يغني عن الشيخ والرياضة وعن إكسير الولاية:-
نفس جهاز الإبصار الذي يضعه الأعمى على رأسه، يرتبط به جهاز فيديو خاص (بدلاً من النظارات).(2/476)
يستطيع صاحب الجهاز أن يقتني مجموعة كبيرة من أشرطة الفيديو التي سجلت عليها مناظر متنوعة الأشكال والمواضيع.
فما على المرء إذا أراد أن يقوم بسياحة إلى إندونيسيا، مثلاً، إلا أن يضع الجهاز على رأسه، ويضع في الفيديو الشريط المناسب، ويحرك الزر المطلوب، ثم تبدأ الرحلة!
فيرى نفسه ذاهبًا إلى وكالة سفريات، حيث يشتري بطاقة طائرة، وفي اليوم التالي يستيقظ من النوم باكرًا،ويذهب إلى المطار، ويختلط بالمسافرين، ويقف بدوره أمام رجل الأمن المكلف بمراقبة الأمتعة، وبعد أن ينتهي من كل المشاكل، يعبر إلى المدرج، ويصعد إلى الطائرة ليجلس على مقعد فوق مؤخرة جناح الطائرة الأيمن، ويجلس إلى جانبه شاب يمضغ لبانًا في فمه مما يثير في نفسه الضيق والحنق معًا... وتتحرك الطائرة وتحلق في الجو، وينظر صاحبنا من النافذة ليمتع نظره بالأرض التي تطوي تحته ببطء لتظهر أرض غيرها... وهكذا حتى يصل إلى مطار لاهور... إلى آخر الرحلة وتفاصيلها... بينما هو في حقيقة الأمر قابع في غرفته لم يتحرك من مكانه!
وإن كان صاحبنا من المريدين الذين لا يريدون إلا وجهه (؟) فيضع في الفيديو شريط الولاية، وإن أراد الحسنى (؟) وضع شريط العروج إلى الله ( جل الله وعلا علوًا كبيرًا)، فيرى الملائكة تتنزل عليه وتقول له: "لا تخف ولا تحزن"... ويرفعه أحدهم... حتى يعبر السماوات ويصل إلى العرش (في قصة طويلة ومناظر متنوعة مذهلة) وهناك تحدث له الفناءات والتحققات والتصرفات، ويذوق من معاني اسمه الصمد والرب والرحمن، حتى الاسم الأعظم.
وهكذا... إلى آخر المناظر المسجلة على الشريط، وعلى بقية الأشرطة.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 655 - 700 بتصرف يسير ) .
الشبهة(9) : مناقشة عقيدة وحدة الوجود
1- يقول سبحانه : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}.
الآية واضحة كل الوضوح، لا لبس فيها ولا غموض.(2/477)
فوحدة الوجود تجعل من كل مخلوق جزءًا من الله جل وعلا.
وتقرر الآية الكريمة الحكم على الذين يؤمنون بهذه العقيدة الذين يجعلون من عباد الله (سبحانه عما يصفون) جزءًا منه، تقرر الحكم عليهم بالعبارة: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}، التي نفهم منها ما يلي:
أ - قوله: { إِنَّ الإِنسَانَ}، يدل على أن المؤمنين بوحدة الوجود هم من بني الإنسان فقط، فلا يوجد بين الجن مثلاً، بله الملائكة، من يؤمن بهذه العقيدة الكافرة.
ب - قوله: { لكفور}، على وزن "فعول"، وهي صيغة تدل على المبالغة والاستمرار، تعني: إن المؤمن بوحدة الوجود هو شديد الكفر مستمر عليه، يمتنع رجوعه عنه أو يصعب.
وتعني: إن شدة الكفر واستمراريته الموجودة في نوع الإنسان تجعله يؤمن بمثل هذه العقيدة.
ج- قوله: {مُبينٌ}، أي: مُظهر للكفر، مُفصح عنه، مُوضح له، وهذا يعني أن الفكرة واضحة الكفر، والذي يؤمن بها مبين للكفر، الكفر ظاهر له وعليه، وذلك؛ لأن الفطرة السليمة (وبعض غير السليمة)، تقشعر رعبًا من سماع هذا التطاول على القدسية الإلهية، وترتجف هلعًا من هذا الغرور الغبي الجريء الظالم، لمجرد سماعها ذلك.
2- يقول سبحانه: { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
طبعًا، وحدة الوجود تجعل الجن جزءًا من الله تعالى، وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه؛ لأنه نسب بعض الذات إلى الذات.
لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة، نفيًا لها ودحضًا، وتنزه الله سبحانه وتعالى عما يصفه هؤلاء الواصفون.
والعبارة: { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}، واضحة الدلالة على أن الجن - لو كانوا يتصلون بنسب إلى الله سبحانه - لما جعلهم من المحضرين.
وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفيًا كاملاً.(2/478)
3- يقول سبحانه: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}، ويقول: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}.
الآيتان واضحتان كل الوضوح: إن الله سبحانه خلق الإنسان من لا شيء، من العدم، ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئًا قبل أن يوجد، كما هو الآن شيء بعد وجوده.
فكون الإنسان خلق من لا شيء، من العدم، ينفي وحدة الوجود جملةً وتفصيلاً؛ لأن الله تعالى ليس عدمًا، إنه الحي القيوم الخالق البارئ المصور.
4- عشرات الآيات في الكتاب الحكيم تقرر أن المخلوق غير الخالق، منها:
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، إذن فالأصنام والأوثان (وهي خلق) هي من دون الله تعالى، وليست جزءًا منه، ولا هي هو.
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}، { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ}، { إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ}، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.
ومنها: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}، طبعًا، كانوا يأمرونه أن يعبد أصنامهم وأوثانهم، والآية الكريمة تقرر أنها غير الله، وبما أنها جزء من الخلق، إذن فالخلق غير الله، والمخلوق غير الخالق.(2/479)
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ}، والذي أُهِلَّ به لغير الله إنما أهِلَّ به للأوثان والأصنام ولمن يسمونهم "الأولياء"، وهؤلاء كلهم خلق، والآية الكريمة تقرر أنهم غير الله، ومن هذه الآيات:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، { قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}...
هذه الآيات هي بعض من آيات كثيرةٍ غيرها تقرر أن المخلوق هو من دون الله، وغيره، وهي كافية للرد على كل جحود مؤمن بوحدة الوجود، ولو سماها وحدة الشهود.
2- لو كان الخلق هو الحق، كما يفترون، وكانت المخلوقات جزءًا من الله سبحانه تعينت بهذه الأشكال المختلفة، لما بقي أي معنى للأسماء الحسنى: (الخالقُ، البارئُ، الفاطرُ، بديعُ السماوات والأرض)، التي تعني كلها "الإيجاد من العدم".
3- لو كانت وحدة الوجود صحيحة، لكان الإنسان جزءًا من الله، ولكانت الآية: ]إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[ باطلة! ولكان الإنسان في ربح سواء آمن أم لم يؤمن، وعمل صالحًا أم لم يعمل، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواص؛ لأنه جزء من الله.
وبما أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون باطلة؛ لأنها وحي من عند الله، إذن فعقيدة الصوفية هي الباطلة، إذ لو صحت عقيدتهم لأصبح معنى الآية: (إن جزءًا من الله لفي خسر)! وهذا واضح البطلان.(2/480)
4- في القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتمًا لله (تعالى)، لو صحت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود، مثل قوله سبحانه: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}؛ لأن عادًا، حسب عقيدتهم الباطلة، هم جزء من الله سبحانه، حيث يصبح معنى الآية الكريمة "إن جزءًا من الله (تعالى عما يصفون) أُتبع في هذه الدنيا؟؟ ويوم القيامة؟! (وناقل الكفر ليس بكافر).
ومثل هذه الآية كثير في الكتاب والسنة.
5- آيات كثيرة في كتاب الله تفهمنا أن العمل السيئ لا يرضي الله ولا يقود إلا إلى السوأى، وأن الحسنى لا يوصل إليها إلا بالعمل الصالح، من هذه الآيات:
{ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}، { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}، {فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا}، { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، وغيرها الكثير.
وطريق الصوفية تبدأ منذ الخطوة الأولى بالشرك الأعظم، فالمريد عندما يضع رجله في عتبة رحاب الشيخ مريدًا له ولطريقه، فقد قبل عبادته وقبله ربًّا من دون الله، سواء عرف ذلك أم لم يعرف، ثم يسير المريد في الطريق الشركية مضيفًا إليها طقوسًا ومجاهدات وثنية حتى يصل إلى الجذبة التي تشرق عليه بوحدة الوجود.
إذن، فوحدة الوجود ضلال وباطل؛ لأن الطريق إليها ضلال وباطل.(2/481)
ثم إن الطريق الذي يتبعه المتصوفة للوصول إلى الجذبة هو طريق الشيطان، {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}، { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا}.
والشيطان لا يقودهم إلى الله كما يتوهمون، بل يضحك عليهم ويوهمهم ويستجرهم، ويعدهم، ويُمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.
9- يقولون في فريتهم هذه، بالقدرة والحكمة؟
فالقدرة: هي تعيينه سبحانه الخلق من ذاته، وهذا ما يسمونه الحقيقة.
والحكمة - عندهم -: هي ستره سبحانه "الحقيقة" عن خلقه، ويقولون: إن الله سبحانه أرسل الرسل بالشريعة من أجل هذا الستر.
- والجواب:
أ - مقولتهم في القدرة والحكمة هي على كل حال، من الأمور الغيبية التي لا تُعرف إلا بنص من الوحي الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والنص لا وجود له، إذن فمقولتهم كاذبة، يكذبون بها على الله ورسوله، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا}.
ب - بما أن عقيدتهم في "القدرة والحكمة" وفي وحدة الوجود، لا يوجد أي دليل عليها في الكتاب والسنة إلا ما كان من تأويلاتهم الباطلة؛ لذلك لا يعدو الإيمان بها أن يكون واحدًا مما يلي:
- إما اتهامًا لله (سبحانه وتعالى عما يصفون) بالخوف والكذب؟!
- أو اتهامًا له (سبحانه وتعالى) بالجهل، وأنهم هم عرفوها (لأنهم عارفون)؟!
- أو اتهامًا للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة والجبن؟!
- أو اتهامًا للدين الإسلامي من أساسه بالبطلان؛ لأنه أُنزل ليحارب، فيما يحارب، هذه العقيدة التي هي أساس العقائد الوثنية.
10- يفترون على الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أمر مرة بإغلاق الباب، وسأل أصحابه إن كان فيهم غريب؟ فلما أجابوه بالنفي، بدأ معهم علوم الطريقة... ويقولون: إنه فعل هذا تعليمًا لأصحابه على التستر على "حقيقتهم"! وهذا ما يسمون "الحكمة".(2/482)
- الجواب على هذه الفرية المجردة من الإيمان ومن الإسلام ومن كل معاني الحياء: الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس (مع اختلاف في الشكل) كلهم يؤمنون بوحدة الوجود دينًا، ويعلنونها ويبنون عليها كل فلسفاتهم في كل كتبهم، وهؤلاء كانوا وما زالوا يشكلون أكثر من نصف سكان الأرض.
والسؤال: ما هي هذه الحكمة (الخنفشارية) التي تسمح لأكثر من نصف سكان الأرض أن يعلنوا إيمانهم بوحدة الوجود ويبنوا عليها حياتهم وفلسفتهم ولا يكتموا منها شيئًا ثم تمنع ذلك على المسلمين وعلى رسول الإسلام فقط؟! فأي حكمة هذه؟ إنها مهزلة وليست حكمة!
وإن من يعتقد صحة هذه الحكمة المفتراة، يحكم ضمنًا أن الإسلام غير صحيح، وأن الديانات الوحدوية هي الديانات الصادقة! عرف ذلك أم لم يعرف؛ لأن الجهل أيضًا فنون.
11- ماذا كان يخشى محمد صلى الله عليه وسلم من إعلان وحدة الوجود، لو كان يؤمن بها؟ ولو أعلنها لاستجاب له الألوف الكثيرة في مدة قليلة؛ لأنها لن تكون غريبة على الأسماع، ولاستراح هو وأصحابه من كثير من الآلام التي عانوها.
12- الهندوس والبوذيون والطاويون والمجوس، كانوا وما زالوا يؤمنون بوحدة الوجود عقيدة وحيدة.
وأهل الكتاب كانوا وما زالوا يؤمنون بخالق في السماء، خلق الخلق من العدم مع شرك وتشبيه، وبعض رشفات من الوحدة (ما عدا متصوفيهم طبعًا).
فجاء الإسلام ليُعلن كفر أولئك المطلق، ويحرم على المسلمين ذبائحهم والزواج منهم...
بينما وقف من اليهودية والنصرانية موقفًا أخف بكثير، وسماهم "أهل الكتاب"، ووسع حدود التعامل معهم (وخاصة مع النصارى)، وأجاز ذبائحهم وطعامهم ومصاهرتهم...
فلو كان في دين الإسلام من وحدة الوجود ما يفتريه الصوفية، لانعكست الآية، ولصار النصارى هم الأبعدين، ولصار الهندوس والباقون هم الأقربين.(2/483)
13- عندما انتصر الفرس المجوس على الروم النصارى، كانت عواطف المسلمين مع النصارى ، وحزنوا لهزيمتهم؛ لأنهم أقرب إليهم من الآخرين {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}.
فلو كان الصحابة يعرفون أباطيل وحدة الوجود، أو يؤمنون بشيء منها، كما يفتري عليهم المتصوفة، لكانت عواطفهم مع الذين يشبهونهم في العقيدة، مع المجوس الذين يدينون بشكل من أشكال وحدة الوجود، لا مع النصارى الذين يؤمنون أن الله في السماء وقد خلق الخلق من العدم، (مع شرك عظيم طبعًا).
14- كل الأحاديث التي يرويها المتصوفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في موضوع الوحدة هي:
- إما مكذوبة! وهم أنفسهم يعرفون أنها مكذوبة! ومع ذلك يوردونها دون خوف من الله، وكأنهم لم يسمعوا قول رسول: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، وأسلوبهم أنهم يروونها، ثم يعلقون عليها بعبارة ما، مثل: "تكلموا فيه"، أو: "فيه نظر"، أو ما شابه ذلك، ثم يبنون عليها ما يشاءون من أحكام ظالمة وكأنهم إذا قالوا عن الحديث المكذوب: "فيه نظر"، أصبح من الأحكام الشرعية، وأصبح العمل به شرعيًّا؟
- وإما أن يكون حديثهم صحيحًا، لكنهم يلوون عنقه، يؤولونه، ويعطونه معنى ما أنزل الله به من سلطان! وكذلك يفعلون مع الآيات القرآنية.
وقد مرت في الفصول السابقة أمثلة كثيرة على ذلك، وهو نماذج لما شحنوا به كتبهم من هذه التحريفات، ومنها على سبيل المثال أيضًا:(2/484)
تفسيرهم لقوله سبحانه: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}، بالحضرة الصوفية والرقص، وتفسيرهم لقوله سبحانه: { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ..} بالخلوة، وتفسيرهم لقوله سبحانه: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}، بأن الذكر بالاسم المفرد (الله الله الله) هو صلاة، وتفسيرهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا آذنته بالحرب.."، أن الولي هو الصوفي، وقوله في بقية الحديث: "... فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه الذي يبطش بها، ورجله الذي يمشي بها..." بأنه يعني وحدة الوجود.
وقد أشبع العلماء هذا الحديث بحثًا، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن نص الحديث ينفي وحدة الوجود! إذ لو كانت وحدة الوجود موجودة، لكان الله (سبحانه عما يصفون) سمع الإنسان وبصره ويده وكله! سواء أحبه أم لم يحبه، وقبل أن يحبه وبعد أن يحبه، وفي جميع الأحوال، ولا تكون هناك حاجة لأداء الفروض والنوافل، ولا لأي شيء أبدًا لتحقق ذلك.
وكون هذا الوصف: "كنت سمعه... وبصره..." لا يتحقق إلا بعد أداء الفروض والتقرب بالنوافل... ثم بعد أن يحبه الله، يعني بكل وضوح أن هذا لم يكن قبل أن يحبه الله، أي: إن هذه المزية (كون الله تعالى سمع المرء... وبصره...) هي غير متحققة في الإنسان العادي، وبذلك تنتفي وحدة الوجود، وينتفي معها فهمهم الخاطئ.
ويكون معنى الحديث: إن الله سبحانه إذا أحب العبد أعانه إعانة تامة في كل شيء، ولا يكله إلى نفسه أبدًا في أي شيء، وطبعًا تكون إعانة الله للعبد كما يريد الله سبحانه لا كما يريد العبد.
15- الصوفية أنفسهم يعلمون علم اليقين أن وحدة الوجود هي كفر وزندقة بالنسبة للشريعة، ولذلك يُتاقون ويكتمونها عن غير أهلها ويتواصون بذلك.
* النتيجة :(2/485)
وحدة الوجود كفر مبين، ومعتقدها كافر مبين، كافر حسب الشريعة، وكافر حسب الحقيقة الحقة التي هي الشريعة الإسلامية، له في الدنيا عقوبة المرتد عن الإسلام، وله في الآخرة عذاب أليم، إلا أن يتداركه الله سبحانه بلطفه وعفوه.
والصوفي الحق هو الذي يبطن وحدة الوجود، ويظهر التمسك بالشريعة، وهو منافق حقًّا، بل هو شر أنواع المنافقين، وليكن مطمئنًا (من مقام الطمأنينة) أن مقامه الحقيقي هو في الدرك الأسفل من النار إن لم يتداركه الله برحمته.
والعقيدة الإسلامية هي أن الله جل وعلا خلق الخلق من العدم، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك، والمخلوقات هي مِن دونِ الله وغيرهُ، أي إنها ليست تعينات من ذاته العلية، جل جلاله، وهو سبحانه فوق خلقه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...}، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ}، (والسماء هنا بمعنى: العلو).
وهو سبحانه فوق السماوات، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم معقبًا على حكم سعد بن معاذ في بني قريظة: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرْقِعَة"، والأرقعة هي السماوات، واحدتها "رقيع".
وقول زينب رضي الله عنها تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله مِن فوق سبع سماوات" (رواه البخاري).
وغيرها، وغيرها من الآيات والأحاديث.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 703 - 711 بتصرف يسير )
الشبهة(10) : مناقشة الباطنية والتقية عند الصوفية(2/486)
يقول سبحانه: { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}... والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها".
- من هذه النصوص الكثيرة، ومن عشرات غيرها، كلها واضحة جلية، نعرف أن ليس في الإسلام باطن وظاهر بالمعنى الصوفي.
ويكون الإيمان بأن في الإسلام ظاهرًا وباطنًا كفرًا بآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيبًا لها.
- كما أن من الحقائق التاريخية، أنه لم يحدث قط وجود عقيدة باطنية في جماعة إلا إذا كانت هذه الجماعة تضمر الشر والكيد للمجتمع الذي تعيش فيه.
ولم تخرج الصوفية على هذه القاعدة، فقد رأيناها كيدًا للإسلام ومكرًا بالمسلمين.(2/487)
- ويقول أحد الباحثين: حيثما وجدت الباطنية ففكر باليهودية، وفي الواقع سنرى بعد قليل أن لليهودية دورًا في نشر الصوفية بين المسلمين، وعلى كل: "الحضرة" يمكن أن تكون أثرًا من آثارها، ومثلها السماع، وتقديس القبور، وبناء القبب، واستعمال السبحة، والجهر بالذكر، وهز الجذع أثناءه إلى الأمام والوراء، أو إلى اليمين والشمال، كل هذه طقوس وممارسات موجودة في اليهودية كما هي موجودة في كل الوثنيات أيضًا! وهي موجودة في الصوفية! فما هي العلاقة؟ مع العلم أن كل هذه الأمور لا أساس لها في الإسلام ألبتة.
ولن نعدم مكابرًا يقول: ليس في الصوفية باطنية، لن نعدمه رغم كل كتبهم ورغم كل أقوالهم، ورغم مئات الصفحات المدرجة في هذا الكتاب.
ولا جواب لنا على أمثال هؤلاء إلا أن نشكوهم إلى الله تعالى.
وللباطنية لغة اسمها "التقية"، يتعلمونها فيما بينهم، يخاطبون بها الناس، ويتسترون بها على ضلالاتهم، ويمكرون بها بالمسلمين، ويكيدون بها للإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فإلى مناقشة التقية.
ولنتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك" (إلا هالك).
مناقشة التقية
من فعل: تاقي، يتاقي، متاقاة، وتقيَّة (بتشديد الياء)، ومُجَرّدُه هو فعل تَقَى يَتْقي تقيَّة، بمعنى اتقى.
التقية هي لغةُ الحركات الباطنية والمجال الذي تتفسخ فيه ألسنتها، وفي مقدمتها الصوفية، وقد رأينا أنهم يجعلونها جزءًا من حقيقتهم، وقرأنًا مثل قولهم: "التقية حرم المؤمن"، و"إذا كان قد صح الخلاف، فواجب على كل ذي عقل لزوم التقية"، ومئات الأمثلة غيرها.
وهم يجعلون لها أصلاً قرآنيًّا في قوله سبحانه: {... وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ...}.(2/488)
لكن الفرق بين التقاة التي يسمح بها الإسلام، وبين تقيتهم هو نفس الفرق بين الإيمان والكفر.
فالتقاة الإسلامية تكون في حالة واحدة هي: "مَن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، إذ في حالة الإكراه هذه فقط يمكن للمسلم المؤمن أن يتظاهر بما يرضي القوة التي تكرهه ريثما يفلت منها، مع بقاء قلبه مطمئنًا بالإيمان، أي إنها حالة استثنائية وطارئة تضمر الإسلام وتظهر غيره.
بينما التقية الصوفية هي عكس ذلك، إذ هي أولاً: إبطان وحدة الوجود، أي: إبطان الكفر وإظهار الشريعة الإسلامية، وهذا هو النفاق عينه الذي هو شر أنواع الكفر، وأصحابه في الدرك الأسفل من النار، وهي ثانيًا: قاعدة مستمرة عندهم، وليست استثناء ولا هي حالة طارئة.
إذن فهي مناقضة للإسلام تناقضًا كاملاً واضحًا لا نقص فيه ولا لبس ولا غموض.
وأسلوب التقية في الصوفية يتركب من:
الكذب، والتأويل، والمغالطة، والمراوغة، والمخادعة.
* الكذب:-
مر معنا في الفصول السابقة عشرات النماذج من كذبهم، وهي جرع من بحر، وبتأمل هذه النماذج، وغيرها مما في كتبهم، نرى أنها:
كذب على الله سبحانه، وكذب على ملائكته، وكذب على كتبه، وكذب على رسله، وكذب على اليوم الآخر، وكذب على القضاء والقدر (خيره وشره)، وكذب على الصحابة، وكذب على أهل الكتاب، وكذب على التاريخ...
أما الكذب على الجغرافية والفلك والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء فهو من علومهم اللدنية التي عرفوها بالكشف الذي هو حق اليقين ونور اليقين وعين اليقين؟!
ويكفي القارئ - إذا لم يرد ترويح النفس بقراءة النصوص الكثيرة - أن يقرأ مثلاً (في فصل: نماذج من حكايات الصوفية..) النص الذي عنوانه: "وجعلوا الملائكة معاتيه ومخابيل".
* التأويل:-
للتأويل معنيان:
1- المعنى المعروف في اللغة العربية والواردة به الكلمة في القرآن الكريم:
وهو - كما في "تفسير ابن كثير" -: التفسير والبيان والتعبير على الشيء.
وهو أيضًا: حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه.(2/489)
وبشيء من إمعان النظر في المعنيين، نرى الثاني امتدادًا للأول وتكملة له، ولتوضيح ذلك:
نقرأ في الكتاب الحكيم: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، و{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}.
فالله سبحانه سميع بصير، والإنسان كذلك سميع بصير!
لكننا نعرف - بديهيًّا - ودون أي تلكؤ، أن الله سبحانه وتعالى سميع بصير، بالمعنى الكلي الكامل المحيط للكلمتين، فهو سبحانه سميع بصير بلا حدود.
وأن الإنسان سميع بصير، بالمعنى الجزئي الناقص المحدود للكلمتين، فسمع الإنسان وبصره تحدهما عوامل كثيرة.
ومثلها: الحي، الملك، المؤمن، العزيز، الجبار.... إلخ.
ومثلها الأفعال التي يمكن أن تعزى إليه سبحانه، وإلى مخلوقاته، مثل: شاء، أراد، وغيرها.
ومثلها: الأسماء التي يمكن أن تضاف إلى الخالق والمخلوق، مثل: أمر، إرادة، مشيئة... ومنها كلمة " تأويل".
فعندما تضاف كلمة "تأويل" إلى الإنسان، يفهم منها التأويل الجزئي الناقص المحدود.
أما التأويل الذي يعلمه الله سبحانه، فهو تأويل كلي كامل محيط، يشمل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء وحقيقته، وما يؤول إليه أمره، وتفصيله الدقيق المحيط...
ومثلاً على ذلك، قوله سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}.
فنحن نعرف أن تأويل: {اقْتَرَبَتِ}، (أو تفسيرها)، هو: صارت قريبة "ضد بعيدة"، لكن، ما هي مدة هذا الاقتراب؟ كم عدد أيامه وساعاته ودقائقه؟ ما هي تفصيلاته بدقة؟ وكيف يتم؟ ... إلى آخر الأسئلة، وكلها من تأويل {اقْتَرَبَتِ}،
الذي لا يعلمه إلا الله.
ونعرف أن {السَّاعةُ}، هي نفخة الصور الأولى! لكن، كيف تقوم الساعة؟ ما هي عواملها بالتفصيل؟ وما هي نتائجها بالتفصيل أيضًا؟ والأسئلة كثيرة، والأجوبة عليها من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
هذا هو المعنى اللغوي القرآن لكلمة "تأويل".(2/490)
ومن هنا نعرف أن معرفتنا بمعاني القرآن الكريم، مهما تعمقت، تبقى ناقصة، وأن المعنى الكامل يبقى غائبًا عنا، وهو ما يمكن أن يسمَّى "المعنى الباطن"، وهذا هو التأويل الذي يأتي يوم القيامة: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، كما أن دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار هو أيضًا من تأويله.
2- المعنى الاصطلاحي الذي تتبناه الحركات الباطنية، من صوفية وغيرها، والذي هو موضوع بحثنا:
وهو إعطاء الكلمة معنى يخالف المعنى اللغوي والشرعي المجمع عليه في كتب اللغة والأصول، ويتفق مع العقيدة الباطنية للمؤولين، يفتشون فيه، أو فيها (في اللفظ أو في الجملة) عن أي شيء يمكن أن يكون رمزًا أو إشارة إلى شيء من العقيدة الباطنية، فيبرزونه، موهمين أنه المعنى الحقيقي.
وفي التقية الصوفية، نواجه نوعين من التأويل:
تأويل نصوص القرآن والسنة لتتفق مع باطلهم، ويسمونه أيضًا "التفسير الإشاري"، نذكِّر ببعضها:
- (لا إله إلا الله)، تأويلها: لا موجود إلا الله.
- و{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}، تأويلها: إن المخلوقات ترجع إلى ربها الذي صدرت عنه لتندمج فيه.(2/491)
- {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}، تأويلها: عبارة: {يَذْكُرُونَ اللهَ}، يدخل فيها ترديد كلمة: "الله حي" بتقاطيعها لا بألفاظها، وعبارة: { قِيَامًا وَقُعُودًا} تشير إلى القفز، وبذلك تكون الآية مشيرة إلى الحضرة الصوفية! وينسون طبعًا أو يتناسون عبارة: {وعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}!
- ... {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}: معنى كونه ربانيًّا أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذ لَمْ يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم..
- ونزيد في التأكيد بإضافة نص للغزالي في "إحيائه"، مر في مكان سابق من هذا الكتاب، يقول:
... ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه، نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه...
إذن، فهم يؤولون نصوص القرآن والسنة التي تخالف كشفهم! وهذا يعني:
أ- لا يؤمنون إلا بكشوفهم وهلوساتهم كمصدر للاعتقادات والعبادات.
ب- ينكرون المعنى الصحيح للنص القرآني أو السني، ويرفضونه.
ج- يخافون من إعلان هذا الرفض؛ لأنه يجرد عليهم سيف الردة (سيف الحلاج).
د- لذلك يتظاهرون بالإيمان بنصوص القرآن والسنة المخالفة لكشوفهم، ولكنهم يقولون: إن لها معنى باطنًا، هو معناها الصحيح.
هـ- يفتشون في النص عن أي شيء يمكن أن يروا فيه إشارة أو رمزًا لما يعتقدون.
و - يسلطون الأضواء على هذا الشيء، ويبرزونه، وكأنه المعنى الحقيقي للنص!
ز - وإذا لم يستطيعوا إقناع الآخرين لقبول تأويلاتهم، عمدوا إلى خدعة أخرى؟ فقالوا عن المعنى الصحيح للنص: إنه المعنى الظاهر! وقالوا عن تأويلهم الباطل: إنه المعنى الباطن!
والنتيجة:
تأويل نصوص القرآن والسنة، هو كفر صراح بالنصوص، وأسلوب للتخلص من عقوبة هذا الكفر، وخداع للمسلمين لجرهم إلى ضلالات التصوف.(2/492)
النوع الثاني من التأويل الذي يمارسه المتصوفة في كل مناسبة هو تأويل ضلالاتهم، وتأويل نصوصهم الدالة على ضلالاتهم؛ لإظهارها وكأنها لا تخالف الشريعة الإسلامية، يفعلون ذلك؛ لأهداف:
أ- التستر على باطلهم، والتظاهر بأنهم لا يخالفون القرآن والسنة!
ب- الضحك على أذقان المغفلين لئلا يتهموهم بالكفر والزندقة.
ج- خداع المسلمين؛ لإقناعهم أن الصوفية من الإسلام، ثم جرهم إليها.
د- خداع الذين لا يقتنعون بضلالات الصوفية؛ ليتركوا تلك النصوص تسري بين المسلمين بهدوء ليستطيعوا هم أن ينصبوا شباكهم بهدوء، ويصيدوا بها فرائس جديدة بهدوء، وبهذه الفرائس الجديدة يزيد مدد الشيخ وتستمر مسيرة الكهانة، وبهذه الفرائس الجديدة تزداد قناعة المجاذيب بأن جذباتهم التحشيشية الإشراقية هي فتوحات إلهية، وبأن هلوساتهم هي نور اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
وغَفلة المسلمين جعلت المتصوفة يتمادون بالقول بالتأويل! فكلما جئتهم بنص من نصوصهم الضلالية، قالوا لك: هذا له تأويل! فنقول:
إن هذا التأويل، والقول بهذا التأويل، هو كفر وزندقة وردة، وهو كيد للإسلام ومكر بالمسلمين، وضحك على ذقون المغفلين لجرهم إلى أحضان الشياطين، ثم إلى جهنم وبئس المصير.
* الخلاصة:
للكفر مدخلان:
1- رفض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بصراحة، وهذا كفر فيه صدق ووضوح.
2- تأويل ما جاء به محمد، أو بعض ما جاء به، وهذا رفض متستر، وهو كفر فيه خبث ومكر وكيد وخداع، فهو شر من الكفر الأول.
* المغالطة والمراوغة والمخادعة:ـ
سنورد صُورًا سريعة من مغالطاتهم ومراوغاتهم ومخادعاتهم، حيث يأتي في قمتها أمران:
- الطريقة البرهانية الغزالية، أي: مزج الإسلام بالتصوف، وهو ما اعتادوا على تسميته بالتصوف السنّي.
- التأويل الاصطلاحي.
وتكاد كل خدعهم ومغالطاتهم ومراوغاتهم أن تكون فروعًا لهذين الأصلين، منها:(2/493)
- لو قال قائل: إن الصوفية كفر، لسمع أجوبة كثيرة مثل: الذي يصلي ويصوم ويقرأ القرآن.. هل هو كافر؟
الجواب: إن الصلاة والصيام وقراءة القرآن ليست من الصوفية، بل هي من الإسلام الذي مزج به التصوف، والخمر لا يصير طيبًا ولا حلالاً إذا مزج بالماء أو بالعسل، بل يبقى خبيثًا ومحرمًا، وكذلك الصوفية تبقى زندقةً وكفرًا ولو مزجت بالصلاة والصيام وقراءة القرآن والزكاة والقتال مع المجاهدين في سبيل الله...
- من المغالطات أن نسمع من يتظاهر بنقد التصوف، ويقول برزانة: إنهم يبالغون في التعبد، والمبالغة في التعبد ليست حرامًا، ولكنها قد تثير الملل عند بعضهم...
- مما يرددونه دائمًا وبعناد قولهم عن الآية: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}، تعني الحضرة الصوفية!
الجواب: لا تساعد اللغة العربية على هذا الفهم، كما لم يفهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، ولا التابعين ولا تابعوهم، ومعنى الآية هو أن يذكر المسلم الله في جميع الحالات.
- لو عرضت عليهم أحد النصوص الصوفية المشحونة بالكفر والزندقة، فسترى الجواب حاضرًا: "هذا له تأويل"، أو يقولون: "هذا مدسوس".
- وهذه صورة من أساليبهم في المراوغة، يتسلى القارئ بتحليلها، يقول ابن عجيبة:(2/494)
... ولذلك كان النظر في الكتب يضعف المسالك لتشعبها وكثرتها عند اختلاف الهمم، لا سيما من جُبلت طبيعته على علم الظاهر، فإنه أبعد الناس عن الطريق ما لم يدَّاركه الله بفتح منه؛ لأن التشريع كلُّ حكْمة منها تحتها حِكَم، مَن لم يفهمها فبستانه مزهر غير مثمر، ومن هنا وقع الإنكار، حتى امتحن الله كثيرًا من الصوفية على أيدي علماء الظاهر عندما نسبوهم للكفر والزندقة والبدعة والضلال! وسر الخصوصية يقتضي ذلك لا محالة، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولو جعلناه ملَكًا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون، وما هلكت الأمم السابقة إلا بقولهم إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، فتحصَّل أن الإنسان إذا جال مع النفس في ميدانها فجاهدها حتى هذَّبها وطهرها من الأوصاف الحاجبة لها، رجعت نفسه حينئذ إلى أصلها، وهي الحضرة التي كانت فيها، إذا لم تكن بينها وبين الحضرة إلا الحجب الظلمانية، فلما تخلصت منها رجعت إلى أصلها نورًا مشرقًا...
- نترك للقارئ التسلية بتحليل ما فيها من المخادعات والمغالطات، لن ننبه إلى نقطة واحدة فقط، هي قوله: "حتى امتحن الله كثيرًا... وسر الخصوصية يقتضي ذلك لا محالة، سنة الله التي قد خلت من قبل.."، فنقول له:
هذا افتراء على الله الكذب، فأكثر من نصف سكان الأرض يؤمنون بسر الخصوصية، هذا الذي تدعيه، ولم يمتحنوا لا هم ولا كهانهم، فالأيونيون والرواقيون والإيلوسيون والغنوصيون والهنادكة والبوذيون والطاويون وغيرهم، كلهم كانوا وما زالوا يحترمون كهانهم الذين يتحققوا بسر الخصوصية ويبجلونهم، ولم يُمتحن أصحاب هذا السر إلى في الإسلام!
لذلك، فإما أن يكون أصحاب سر الخصوصية كفارًا زنادقة، أو يكون الإسلام غير صحيح، ولا ثالث لهاذين الاحتمالين.
- ومن مغالطاتهم، قول محمد المهدي الصيادي (الرواس): "ومما لا يلتفت إليه التشدق بما أبهمه وأوهمه المبتدعة أهل الوحدة المطلقة...".(2/495)
هذا القول هو مثل قولهم: "علومنا مقيدة بالقرآن والسنة"، ومثل قول قائلهم: "لا يكون الصديق صديقًا حتى يشهد له في حقه سبعون صديقًا أنه زنديق؛ لأن الصديق يعطي الظاهر حكم الظاهر والباطن حكم الباطن"، ويحمل نفس معنى العبارة: "اجعل الفرق في لسانك موجودًا والجمع في جنانك مشهودًا"، وأترك تحليلها للقارئ، مع التذكير بأن أهل الوحدة المطلقة هم الذين يصرِّحون بوحدة الوجود ولا يقيِّدون عباراتهم بالرمز واللغز.
- ومن أساليبهم في المغالطة قول عبد الكريم الجيلي:
.... فلا بد لمنْ يقصد معرفة علمنا هذا.. أن يقيس العلوم الواردة إليه على الأصول المشروعة التي قد ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع، فما وجده من تلك العلوم موافقًا للشريعة فيقصده ويتجلى به، وما وجده مخالفًا توقف عن استعماله إلى أن يفتح الله على ما يؤيده من الشريعة، فيستعمله حينئذ...
لملاحظة المغالطة هنا يجب أن ننتبه إلى قول: " وما وجده مخالفًا توقف عن استعماله إلى أن يفتح الله على ما يؤيده من الشريعة".
إذن، فما يخالف القرآن والسنة ليس كفرًا، ولا يجب تركه ونبذه، وإنما يتوقف فقط عن استعماله ريثما يفتح الله عليه (تعالى الله عن الخداع)، بنص يمكن تأويله بما يوافق المخالفة.
- ومن مغالطاتهم ومراوغاتهم قول الجيلي نفسه:
... ثم قال الإمام الأكمل: كل حقيقة لا يؤيدها شريعة فهي زندقة، يريد أن كل علم يَردُ عليك من الحقائق التي لا تؤيدها الشريعة، فاستعمال ذلك العلم زندقة منك؛ لأنك تفعل خلاف الشرائع؛ لأن الحقائق فيها زندقة، إذ ليس في الحقائق مسألة إلا وقد أيدها الكتاب والسنة...
أرجو من القارئ أن ينتبه إلى قوله: "فاستعمال ذلك العلم زندقة منك..."، وأن يحلل بنفسه المغالطة والمراوغة في هذه العبارة وفي النص كله.
- ومن أشهر مغالطاتهم قولهم بالدس عليهم، وهذا مثل منها:
يقول عبد الوهاب الشعراني:(2/496)
... وكان (ابن عربي) متقيدًا بالكتاب والسنة... وجميع ما عارض من كلامه ظاهر الشريعة وما عليه الجمهور فهو مدسوس عليه، كما أخبرني بذلك سيدي الشيخ أبو الطاهر المغربي نزيل مكة المشرفة، ثم أخرج لي نسخة "الفتوحات" التي قابلها على نسخة الشيخ التي بخطه، في مدينة قونية، فلم أرَ فيها شيئًا مما كنت توقفت فيه وحذفته حين اختصرت "الفتوحات".
- جوابنا: لم يبين لنا القطب الرباني شيئًا من هذه المدسوسات، ثم إن كل ما في "الفتوحات" يدور حول وحدة الوجود، إما تصريحًا، أو بالعبارة الصوفية، ولو حذفناها لما بقي من "الفتوحات" شيء! فما الذي يمكن أن يدس عليها؟ وهل يحتاج البحر الميت إلى دس الملح عليه ليغدو ملحًا؟؟ ثم إن الفتوحات لا يطبعها إلا المتصوفة وأقطابهم، ولا يهتم بدراستها إلا المتصوفة وأقطابهم، فلِمَ لا يحذفون هذا المدسوس؟... والأسئلة كثيرة.
- ويتمم الشعراني مراوغاته:
وقد دَسَّ الزنادقة تحت وسادة الإمام أحمد بن حنبل في مرض موته عقائد زائغة، ولولا أن أصحابه يعلمون منه صحة الاعتقاد لافتتنوا بما وجدوه تحت وسادته.
وكذلك دسوا على شيخ الإسلام مجد الدين الفيروز آبادي صاحب "القاموس" كتابًا في الرد على أبي حنيفة وتكفيره، ودفعوه إلى أبي بكر الخياط اليمني البغوي، فأرسل يلوم الشيخ مجد الدين على ذلك، فكتب إليه الشيخ مجد الدين: إن كان بلَغك هذا الكتاب فأحرقه فإنه افتراء من الأعداء، وأنا من أعظم المعتقدين في الإمام...
الجواب على هذا الكلام (مع غض النظر عن صدقه أو كذبه):
عرف أصحاب أحمد بن حنبل العقائد الزائفة المدسوسة فنبذوها، ولم يبق لها أثر، فلِمَ لا تفعلون مثل ذلك وتنبذون ما في كتب المتصوفة من وحدة الوجود وأساليب التقية وخداع المسلمين؟؟ لِمَ لا تفعلون ذلك؟ إذ لو فعلتم ذلك لأصبحت كتب الصوفية شبه بيضاء.
- يتمم:(2/497)
وكذلك دسوا على الإمام الغزالي عدة مسائل في كتاب "الإحياء"، وظفر القاضي عياض بنسخة من تلك النسخ فأمر بإحراقها.
وكذلك دسوا عليَّ أنا في كتابي المسمى بـ "البحر المورود" جملةً من العقائد الزائفة وأشاعوا تلك العقائد في مصر ومكة نحو ثلاث سنين، وأنا بريء منها...
- نقول: بمثل هذا يخادعون الذين آمنوا ويغالطونهم ويستجرونهم إلى ظلمات التصوف، أو على الأقل يوهمونهم أن المتصوفة مظلومون مكذوب عليهم، والقول بأنهم دسوا على الغزالي مسائل في "الإحياء" هو كذب، وقوله: إنهم دسوا عليه في "البحر المورود" هو كذب، ومثل هذا الكذب يدل على أن قائله لا يخاف الله ولا يرجو اليوم الآخر، مع العلم أن كتاب "الإحياء" الذي أمر القاضي عياض بإحراقه هو نفس هذا المتداول بين الأيدي الآن.
- ومن أبشع مغالطاتهم ومخادعاتهم في كتبهم التي يترجمون فيها لأعيانهم، أنهم يوردون قبل كل شيء أسماء كبار الصحابة على أنه من أولياء الله المتصوفة ثم يوردون أسماء كهانهم، ويخلطون معهم علماء أجلاء مثل ابن حنبل أو الشافعي أو الثوري أو العز بن عبد السلام أو ابن الجوزي أو غيرهم، فيوهمون الغافلين ويستجرونهم إلى أحضان إبليس.
- وهذا نص من كتاب حديث العهد، قد يزيد عدد الأكاذيب فيه عن عدد سطوره:
"ولما كان أهل الله هم أهل الرحمة الواسعة، وهم أهل الفتوة والشفقة على عباد الله عامةً، فما بالك بمن وقع فيهم من الأمة المحمدية خاصة، سواء كان هذا الوقوع منهم عن قصد أو خطأ في الاجتهاد، فإلى الإمام ابن تيمية ومقلديه مِن أصحاب سوء الظن بعباد الله، أنقلُ هذه العبارة من "الفتوحات المكية" الجزء الأول الصفحة 616:
يقول الشيخ الأكبر: "إن من فتوة أهل هذا الطريق ومعرفتهم بالنفوس أنهم إذا كان يوم القيامة، وظهر ما لهم من الجاه عند الله، خاف منهم من آذاهم هنا في الدنيا..".(2/498)
- للقارئ أن يتسلى بتحليل هذا النص، لمعرفة ما فيه من افتراء على الله سبحانه ومخادعة ومراوغة ومناقضة للقرآن والسنة وتعالم بالغيب.
لكن هذا الإصرار على الكيد للإسلام والمكر بالمسلمين، بأسلوبه العميق الهادئ الأملس المتلوي الذي يحشو زعاف السم في برشامات جميلة المظهر مكتوب عليها: "أهل الله، أهل الرحمة، الشفقة على عباد الله.."، هذا الإصرار بهذا الأسلوب الخبيث يجعلنا نتوجه إلى الله سبحانه بقلوبنا وكل حواسنا سائلين إياه أن يهدي هذه الطائفة الضالة المضلة، أو أن يكبتها فيقف كيدها ومكرها بالإسلام والمسلمين.
- ومن الملاحظات: يتحدث عن أهل الله الذين هم أهل الرحمة... والجواب:
نعم يوجد في بني آدم مَن هم مِن أهل الله ومن أهل الرحمة.. ولكن ما هو برهان هذا الدعي أنهم هم المتصوفة؟ وهل تكفي وسوسات إبليس للبرهنة على ما يدعيه؟!
- ثم هو يهاجم بأسلوب فيه نعومة أولئك الذين يسميهم: "أصحاب سوء الظن بعباد الله.."، والجواب:
إن الذين يحكمون على التصوف بأنه مستنقع الكفر والزندقة والضلال، إنما يعتمدون في ذلك على النصوص المبينة من القرآن والسنة، وعلى مخالفة الصوفية الواضحة وضوح الشمس في رائعة نهار مشرق لهذه النصوص، جملةً وتفصيلاً، وعلى التزام المتصوفة بالكذب الفاجر الذي لا حدود له، عندما يقولون دون خوف من الله تعالى ولا خجل من عباده: إنهم ملتزمون بالقرآن والسنة! بينما هم في الحقيقة ملتزمون بهلوسات الجذبة التي يسمونها الكشف.
فهل المسلمون الذين يبينون للناس هذا المنكر الماحق، هم من أصحاب سوء الظن بعباد الله؟!
إن إحسان الظن واجب عندما يتعلق الأمر بمسائل شخصية بحتة..(2/499)
أما إن كان يمس دين الإسلام وأمة الإسلام، فإحسان الظن والسكوت هما دخول في لعنة الله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
وواجب المسلم العمل على إزالة المنكر، وواجب أصحاب المنكر أن يسرعوا في ترك المنكر مع التوبة الاستغفار، فإن أصروا على منكرهم وعلى الدعوة إلى منكرهم! فهل يستطيع مسلم يخاف الله ويرجو اليوم الآخر أن يحسن الظن بهم؟!
- ثم يورد المؤلف قول شيخه الأكبر: "إن من فتوة أهل... وظهر ما لهم من الجاه عند الله، خاف منهم من آذاهم..." والجواب:
أ - إن تزكية النفس هي من كبائر الإثم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا}، {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} .
ب - قوله هذا هو، على كل حال، أمر غيبي لا يُعرف إلا بنص من القرآن والسنة، ونصوص القرآن والسنة تحكم عليهم أنهم من أضل عباد الله.
- وهذا نص آخر من نفس الكتاب الذي قد يزيد عدد الأكاذيب فيه عن عدد سطوره، يقول:
وكان الشيخ أبو مدين... إذا قيل له: قال فلان عن فلان عن فلان، يقول: "ما نريد نأكل قديدًا، ائتوني بلحم طري"، وفي رواية: "أطعمونا لحمًا طريًّا، كما قال الله تعالى: { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} ، لا تطعمونا قديدًا".
يعلق المؤلف فيقول: أي لا تنقلوا إلينا إلا ما يُفتح به عليكم في قلوبكم، لا تنقلوا إلينا فتوح غيركم...(2/500)
- الجواب: نستطيع أن نعرف المغالطة في هذا الأسلوب والمخادعة، إذا عرفنا أنهم يعتقدون أن الوحي الذي كان ينزل على محمد هو فتوح مثل فتوحهم.
- وكل كتبهم هي من مخادعاتهم ومراوغاتهم، وفي مقدمتها: "اللمع" (ولو أنصف لسماه الظلم)، و"إحياء علوم الدين" (ولو صدق لسماه إحياء علوم الكهانة)، و"الرسالة القشيرية" (رسالة الضلال والدجل)، و"الحكم العطائية" (التي هي نقم ضلالية كفرية)، مرورًا بكل كتبهم حتى الوصول إلى الحديث منها، وإلى ما سيؤلف في آتٍ من الزمن.
إن كل كتاب جديد يُؤلف في التصوف، إنما هو أسلوب جديد في المخادعة والمراوغة والدجل يقدمه مؤلفه ليدعم به مسيرة الكهانة في الأمة الإسلامية.
ومثلاً منها: كتاب من كتبهم الحديثة التي يقتنونها بنشاط، نرى عناوين فصوله كما يلي:
- التعريف: نقرؤه فلا نجد فيه شيئًا من التعريف، وإنما نجد جملاً دعائية يزينون بها الصوفية للقارئ ليخدعوه ويضللوه.
- الاشتقاق: نقرؤه فلا نجد فيه أي بحث علمي صحيح عن الاشتقاق إلا جملاً للدعاية للصوفية.
- ثم نقرأ - كما في كل كتبهم - فصولاً عما يسمونه المقامات، مثل التوبة والزهد الورع والتوكل... إلى آخر ما هنالك، وهي كما رأينا، لا علاقة لها بالطريقة ولا بالحقيقة، وإنما هي أساليب دعائية يزينون بها الدعاية للصوفية بأسلوب ماهر ذكي يخدعون به القارئ الذي يجهل ما هي الصوفية.
- ومن أساليبهم الناعمة في المغالطة، إيرادهم قصصًا عن بعض شيوخهم تظهر تمسكهم بالإسلام أو ببعض سننه، وكيف أنهم ينفرون من الإخلال بالآداب الإسلامية، ويجعلون هذا دليلاً على صحة الصوفية.
والجواب: إن التمسك بالتعاليم الإسلامية وسننها وآدابها هو من الإسلام وليس من الإشراق، والتمسك بالإسلام وآدابه لا يجعل الإشراق إحسانًا، ولا الزندقة إيمانًا، وهم عندما مزجوا الإشراق بالإسلام أساءوا إلى الإسلام ولم يغيروا شيئًا في الإشراق.(3/1)
- ومن أساليبهم الناعمة في المغالطة: ذكرهم لبعض الطرق التي عمل بعض أتباعها أو مشايخها على نشر الإسلام بين عير المسلمين، أو قاتلوا الاستعمار وجاهدوا لإعلاء كلمة الإسلام.
والجواب على هذا مثل الجواب على سابقه، هو أن العمل على نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله هو من تعاليم الإسلام ولا علاقة له بالإشراق، ويبقى الإشراق زندقة وكفرًا ولو جاهد أصحابه في سبيل الله، ويبقى مزج الإشراق بالإسلام ضلالاً بعيدًا وإساءة كبرى للإسلام وتدميرًا للعقيدة في نفوس المسلمين، وهل يصبح الزنا (مثلاً) ولاية إذا مزجه مازج بالإسلام؟!
* الوحدة المطلقة:
الوحدة المطلقة هي التصريح بوحدة الوجود بالعبارة المطلقة، أي غير المقيدة بالإشارة والرمز واللغز، وهذا هو الكفر والزندقة عندهم؛ وهم لا يعنون بالكفر والزندقة الخروج من الولاية والصديقية، لا، وإنما يعنون بها أنها كفر وزندقة بالنسبة للشريعة (التي هي الظاهر) لا بالنسبة للحقيقة، إذ هي عندهم، بالنسبة لحقيقتهم، ولاية وصديقية وقرب ومعرفة لكن يجب أن تبقى مكتومة وألا يعبر عنها إلا بالعبارة الصوفية، وهم في واقع الأمر يستعملون عبارة "الوحدة المطلقة" للخداع والتضليل والتهرب من سيف الحلاج.(3/2)
وقد مر معنا قول قائلهم: إن الجنيد والشبلي أفتيا بزندقة الحلاج وبقتله، وهما يعلمان أنه ولي الله حقًّا، كما رأينا قول عارفهم الغوث: "وبويعت في الحضرة على التباعد عن أناس ابتُلوا بالانتقاد والاعتراض على أولياء الله تعالى، وذلك فيما يقبل التأويل" وهو يعني بهذا أن العبارة الصوفية يجب أن تكون قابلة للتأويل ليمكن بذلك خداع المسلمين! أما إن لم تكن قابلة للتأويل فالذنب ذنب الصوفي عندئذ؛ لأنه سيكون من أهل الوحدة المطلقة، الذين لا يُقيدون عبارتهم بالإشارة والرمز واللغز التي تجعل التأويل ممكنًا، والتي هي مجن الطريقة البرهانية الغزالية التي تترست به، استطاعت أن تخدع المسلمين وعلماء المسلمين طيلة تسعة قرون أو تزيد، واستطاعت بذلك أن تصل إلى غاية إبليس من ورائها بتحريف العقيدة الإسلامية في النفوس، ودفعها إلى التخبط في ظلمات بعضها فوق بعض، وإيصال المجتمعات الإسلامية إلى ما هي عليه من فساد وضياع.
ومثال ممن يقولون عنهم إنهم من أهل الوحدة المطلقة "ابن سبعين" لمثل قوله:
كم ذا تموه بالشعبين والعلم
والأمر أوضح من نار على علم
فهو يطلب ترك التمويه بالإشارة والرمز (كم ذا تموه بالشعبين والعلم)، ويدعو إلى الصدع بحقيقتهم التي هي في نظره أوضح من نار على علم، وقولهم عنه إنه من أهل الوحدة المطلقة لا يعني مطلقًا أنهم لا يعتقدون بولايته العظمى وقطبيته، هذا إن لم يكونوا يعتقدون بغوثيته.
ومثله عمر بن الفارض، لمثل قوله:
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل
بتقييده ميلاً لزخرف زينة
وكلنا يعلم أن عمر بن الفارض عندهم هو سلطان العاشقين، حتى قال فيه شاعرهم:
لم يبق صيب مزنة إلا وقد
وجبت عليه زيارة ابن الفارض
ومن المشيخات الصوفية التي يجعلونها من أهل الوحدة المطلقة "الطريقة السبعينية"؛ لأن ذكرهم كان: "ليس إلا الله" بدلاً من: "لا إله إلا الله"؛ لأن عبارة: "ليس إلا الله" تصرح بوحدة الوجود، ولا تقيدها بالإشارة والرمز واللغز.(3/3)
وأُعيد القول: إنهم يعنون بعبارة "الوحدة المطلقة" أي الوحدة غير المقيدة بالإشارة والرمز واللغز.
( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 713 - 731 بتصرف يسير ) .
الشبهة (11):عن المولد النبوي وتسويغهم له .
يتعلق من يقيم بدعة المولد بشبهات منها :
1- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم ، و ليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي ، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم. وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
2 ـ يقولون : إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إحياء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه الله من في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به ؛ وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائماً ، لا في السنة مرة .
3 ـ قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة ؛ لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم !
ويجاب عن ذلك بأن يقال : ليس في البدع شيء حسن ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، ويقال أيضاً : لماذا تأخر القيام بهذا الشكر ـ على زعمكم ـ إلى آخر القرن السادس ، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وهم أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر ؛ فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله - عز وجل - ؟ حاشا وكلاَّ .(3/4)
4 ـ قد يقولون : إن الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ينبئ عن محبته ؛ فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع !
والجواب أن نقول : لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين ـ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا ، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه و إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال ، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة ، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع . وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ؛ فإن الدين مبني على أصلين : الإخلاص ، والمتابعة ، قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 112] ، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإصابة السنة.
( ما سبق من كلام الشيخ صالح بن فوزان الفوزان )
******************************
قال الدكتور لطف الله خوجه : ( ما من صاحب دعوة إلا ويحرص على تأييد دعوته بما يقدر عليه من جمل وألفاظ ودلائل، حتى يضمن قبولها ورواجها.. ولا نجد في أصحاب الدعوات من يحرص على صدق جمله وصحة دلائله، إلا إن كان يدعو إلى اتباع السنة وتقليد السلف، فهو الوحيد الذي يحرص على الصدق والصحة في كل ما يتلفظ به، يحرص أن يكون كما هو ظاهرا وباطنا..
بخلاف أهل الأهواء والبدع وأهل الفساد والتخريب، فإنهم:
يرفعون شعار الإسلام وهم يهدمونه..
ويرفعون شعار السنة وهم يخالفونها..
ويدعون اتباع السلف وليس كذلك..
وفي سبيل تدعيم مذاهبهم الباطلة الزائغة يوردون الكلام الكثير والأدلة المتنوعة، التي لا تصحح مذهبهم ولا تعطيه الشرعية..(3/5)
يوردونها وهم يعلمون أنها ليست صحيحة، يوردونها لعلمهم بوجود طائفة كبيرة من الناس لا تفقه في الدين شيئا، وليس لديها العقل والفهم الصحيح للأمور، بل يغرها كثرة الكلام ومجرد تسويد الصحائف بالأحرف والجمل، فتظن بصاحبها الفهم وامتلاك الحجة الصحيحة..
فهذه الطائفة هي البيئة الخصبة لرواج ترهات وخزعبلات أهل البدع والأهواء، الذين يكرسون جهدهم في الرد والمناظرة والتأليف، بأي كلام كان، مع تتبع الشبه والسقطات من هنا وهناك من أجل التغرير بهؤلاء العامة وخداعهم، ونشر مذهبهم بينهم، فهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق..
وقد نجحوا في ذلك، وأضلوا أناسا كثيرين، ولبسوا على آخرين، ومن هنا فمن المستحسن على كل مسلم أن يتفقه في دينه، حتى لا يكون عرضة للضلال والانحراف عن دينه على أيدي أهل الأهواء والبدع..
وفي بدعة المولد مثال على ذلك، حيث نجد من الداعين إليه من يخلط في كلامه، ويتلاعب بالحقائق، ويتغابى عن الواضحات، ويجادل بالباطل.. فيورد لأجل نشر بدعة المولد في المسلمين أدلة غير صحيحة، من ذلك:
أولا : قولهم أن المولد بدعة حسنة.
يقسم بعض العلماء كالعز بن عبد السلام البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، مندوبة، محرمة، مكروهة، مباحة، كمثل الأحكام التكليفية الخمسة، ويعتمدون في هذا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد: "نعم البدعة هذه"...
وهناك قول آخر: أن كل بدعة ضلالة، وليس في الدين ثمة بدعة حسنة، ودليلهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
فنحن هنا بين أمرين:
إما أن نتبع قول النبي صلى الله عليه وسلم أو نتبع قول الصحابي...
والذي لا ريب فيه ولا يختلف فيه اثنان، أنه إذا عارض قول الصحابي قول النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم..(3/6)
وهنا إذا افترضنا أن عمر خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي يصف البدعة بأنها ضلالة، وقوله: "كل بدعة" نكرة في سياق العموم، يعم كل شيء، فكل محدثة في الدين فهي بدعة..
هذا وجه..
وجه آخر، عمر رضي الله عنه في الحقيقة لم يبتدع شيئا في الدين، بل صلاة التراويح مشروعة، وقد صلاها النبي صلى الله وسلم وأم فيها الناس ثلاث ليال، ثم ترك ذلك خشية أن تفرض، فلما مات وانقطع الوحي سنها عمر وأحياها، فهو في ذلك لم يأت بجديد، بل فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فأين البدعة هنا؟..
أما الجواب عن قوله: " نعم البدعة هذه".. فلها تخريجات عدة:
منها: أنه قصد البدعة اللغوية، أي أنها بدعة باعتبار إحيائها وإعادة العمل بها بعد أن توقف.
ومنها: أن هذا منه على سبيل الرد والمناظرة، ومعناه: إذا كان هذا الفعل بدعة، فنعم البدعة هذه، كأنه كان جوابا على معترض، وهذا مثل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ }.
ذلك من حيث قول عمر رضي الله عنه، أما من حيث الاحتجاج به على صحة المولد فيقال:
لا نسلم أن المولد بدعة حسنة، فكل بدعة ضلالة، بنص الحديث، وهو عام في كل محدث في الدين، والمولد محدث في الدين، ثم إن عمر رضي الله عنه الذي يحتج هؤلاء بقوله: "نعم البدعة هذه"، على وجود البدعة الحسنة، لم يحتفل بالمولد أبدا، فكيف يحتجون بقوله في البدعة الحسنة، ولا يحتجون بتركه للمولد؟..
وكيف يحتجون بفعله للتراويح الذي له أصل في السنة، على فعل المولد الذي ليس له أصل في السنة؟..
ثانيا:
قولهم: لو كان المولد بدعة لكونه لم يكن في عهد النبي لكان كل شيء بدعة..
المجيزون للمولد يحتجون في بعض الأحيان بأدلة ليست بشيء..(3/7)
فمثلا يقولون: إذا قلتم المولد بدعة لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يعني أن الفرش وإنارة المساجد بدعة، وكذا استخدام كل جديد..
فيقال لهؤلاء: هذا هو السبب في وقوعكم في مثل هذه البدعة، قلة العلم والتفقه في الدين، وعدم التفريق بين المتمايزات بسبب ذلك، فكل من له أدنى فهم في الكتاب والسنة يعرف الفرق بين الشيء المحدث في الدين الذي هو البدعة، وبين الشيء المحدث في الدنيا..
فالمولد من المحدثات في الدين ذاته، فهو عبادة يقصد صاحبها التقرب بها إلى الله تعالى بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم يعتقد أنه ولد فيه..
أما الفرش والإنارة ونحوها فهذه ليست من المحدثات في الدين، بل هي من المحدثات في الدنيا، فهي أمور دنيوية محضة، ويمكن تسخيرها في خدمة الدين، كأي شيء آخر، فإذن لا علاقة لها بالموضوع من وجه.. والبدعة تنقسم إلى لغوية وشرعية:
فاللغوية: هو الشيء الذي لم يسبق، قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي مخترعهما على غير مثال سابق.
والشرعية: هو كل أمر محدث في الدين يضاهي الشرعية، يقصد فاعله التقرب إلى الله تعالى.
ثالثا:
زعموا أن سبب ترك الصحابة للمولد كون النبي صلى الله عليه وسلم حيا في ضمائرهم.
هذا جواب ليس بسديد..
فإن الصحابة كانوا أسبق إلى الخير في كل شيء، ولم يكونوا يتوقفون عن خير أبدا، فلو كان المولد خيرا لفعلوه ولو مرة واحدة، لكنهم ما فعلوه، لعلمهم أن ذلك من الإحداث في الدين..
ثم لو سلمنا لهم جدلا ما قالوه، أفليس غير الصحابة بحاجة إلى التذكير؟..(3/8)
وقد علمنا أن زمن الصحابة استغرق القرن الأول بكامله، وقد حدث في هذا العهد تغير كبير، وتحول خطير في حياة المسلمين، دخل كثير من الناس في دين الله أفواجا، فتعسر توجيه وتربية كل هذه الأفواج، وبعد الكثير عن دين الله، حتى عمت الشهوات وكثرت الحروب لأجل الدنيا والتنازع فيها، كل ذلك ألم يكن داعيا وحاملا للصحابة أن يخترعوا المولد، لا من أجل أنفسهم، بل من أجل الناس الذين معهم وانعدم ذكر النبي صلى الله عليه سلم من ضمائرهم، فما عادوا يذكرون إلا دنياهم؟..
لقد بلغ من سخط الصحابة على الناس ما لم يسعهم السكوت معه، روى البخاري في صحيحه عن أم الدرداء قالت: " دخل علي أبو الدرداء مغضبا فقلت له: ما لك؟، قال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا"..
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟، فغضب منه، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟.
وروى البخاري عن الزهري قال: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟، فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت".
وآثارهم في هذا المعنى متعددة، فالناس في زمن الصحابة كانوا بحاجة إلى التذكير، فلو كان التعليل في عدم فعل الصحابة للمولد أنهم ليسوا محتاجين إلى ذلك، فإن غيرهم ممن كان في عهدهم كانوا بحاجة، والصحابة مدركون لذلك، ومع ذلك لم يفعلوه..
ثم ما زال الناس في رقة من الدين قرنا بعد قرنا، والسلف يعاينون أحوال الناس ومع ذلك لم يخطر ببال أحدهم الاحتفال بالمولد تذكيرا وإحياء لسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى انقضى عهد السلف والقرون الثلاثة الأولى، وما أحدث المولد إلا في منتصف القرن الرابع..(3/9)
ثم إن قولهم ذلك يفتح الباب لكل بدعة ويصبغها بالمشروعية، إذ يمكن لكل صاحب بدعة أن يحتج لبدعته - إذا قيل إن الصحابة لم يفعلوه - بأن الصحابة لم يكونوا بحاجة إلى ذلك لكمال إيمانهم، وأن الناس بحاجة إلى ذلك اليوم..
يمكنهم أن يقولوا ذلك في بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج والنصف من شعبان وشهر رجب وغير ذلك.
خلاصة القول: أن ما ذكروه ليس بحجة لا من حيث الشرع، ولا من حيث المنطق والعقل، ولا من حيث الواقع..
ثم التذكير بالنبي صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره في ضمائر الناس له طرق كثيرة وليس محصورا في الموالد.
رابعا :
قولهم أن الترك لا يقتضي التحريم.
هذه الحجة يدندن حولها كثير من المبتدعة، ويتخذونها غرضا لتثبيت بدعهم، فكلما قيل لهم: إنه النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، والصحابة من بعده، قالوا لك:
الترك لا يقتضي التحريم..
وينسبون مثل هذا الكلام إلى الأصوليين، بل ويبالغ بعضهم ويغلو عندما يزعم أنه إجماع..
ويقال في رد هذه الشبهة: نعم، الأصوليون لم يجعلوا الترك من أنواع التحريم، فالتحريم يكون بالنص ونحوه مما يدل على التحريم، لكن ههنا فرق لابد من التنبه له، هو سبب هذا الإشكال:
كلام الأصوليين إنما هو في العادات لا في العبادات..
فالأصل في العادات الإباحة، في الترك في باب العادات لا يدل على التحريم، فمثلا النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب هل هذا يدل على تحريمه؟.. لا، لأن الترك لا يدل على التحريم، هذا في باب العادات، والنبي صلى الله عليه وسلم لم لم يأكل لحم الغزال؟.. لكن تركه لا يدل على التحريم، وهكذا كل شيء من المنافع الدنيوية الأصل فيها الإباحة، إلا إذا ورد ما يمنع، وهذا من التوسيع والرحمة.(3/10)
وأما العبادات الأصل فيها التحريم إلا إذا ورد الإذن، وعلى ذلك فما تركه الشارع فهو محرم، إذ لو كان مشروعا لفعل، فالترك دل على عدم المشروعية، فكل ما نوقعه من عبادات، من صلاة وصيام وحج وزكاة كلها لم يكن لنا القيام بها لولا إذن الشارع، وهذا هو مقتضى التسليم وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله..
ولو كان لكل إنسان الحق أن يخترع عبادة كيفما شاء، لم يكن من داع لإرسال الرسول لتبليغ رسالة الرب إلى الخلق، بل يترك لكل قوم وكل إنسان أن يخترع ما شاء من العبادات، وهذا باطل.
والدليل على أن الأصل في العبادات المنع قوله عليه السلام: ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة). وعلى ذلك فالمولد هل من باب العبادات أو من باب العادات؟..
لننظر فيما يكون في المولد، إنه اجتماع لتلاوة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع إنشاد المدائح النبوية بأصوات ملحنة، ثم تقام الولائم لأجل ذلك، وهم يفعلون ذلك في كل عام مرة على الأقل في تاريخ محدد..
وهذا بلا ريب عبادة محضة، والأدلة على ذلك:
أولا: من حيث إنهم يتخذون ذلك اليوم عيدا، والعيد هو ما يعتاد مجيئه في كل زمن، فالجمعة عيد، لأنه كل أسبوع، والفطر والأضحى عيد، لأنه كل عام، وعلى ذلك فقس المولد، فهو يحتفل به كل عام، وهذا تشريع، واتخاذ ليوم لم يأذن به الشارع أن يكون عيدا، ونحن نعلم أن المسلمين ليس لهم إلا عيدين يحتفلون فيهما، الفطر والأضحى، ولا يجوز لهم أن يتخذوا عيدا ثالثا ورابعا، والحاصل في المولد أنه صار عيدا يحتفل به، أي صار عيدا ثالثا في الإسلام، وهذه هي الضلالة.
ثانيا: أن الموالد ذكر، والذكر عبادة.
ثالثا: أن أهل الموالد يقصدون التقرب إلى الله تعالى بما يفعلون، والتقرب عبادة.
إذن الموالد عبادة وليست عادة، فتدخل في باب: الأصل في العبادات المنع إلا بنص، ولا تدخل في باب: الأصل في العادات الإباحة إلا بنص..(3/11)
ومن ثم لا يجوز الاحتجاج بقاعدة: " الترك لا يقتضي التحريم".. إذ هذه القاعدة يعمل بها في العادات لا في العبادات.
إن دعوى أن "الترك لا يقتضي التحريم".. هكذا بإطلاق يصادم النص النبوي: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)..
فهذا النص لا معنى له إذا عمل بتلك الدعوى على إطلاقها دون تفصيل، فإن المحدثات هي التي لم تكن في عهد النبوة من العبادات، تركت فلم تفعل، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر منها، ويطلق وصف البدعة، وهؤلاء يقولون:
الترك لا يقتضي التحريم، وأنه يمكن لنا أن نفعل عبادة لم تكن في عهد النبوة..
فكيف نجمع بين القولين؟...
لا شك أنهما لا يجتمعان، فإما أن نأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو قولهم.. ولا ريب أننا ملزمون بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا بقولهم.
خامسا :
زعموا أن الموالد مثل المحاضرات والدروس والعلمية.
يجاب عن هذا بالاعتراض، فليست الموالد كالمحاضرات والدروس العلمية..
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، ويقرر لهم الدروس والخطب، وخصص يوما للنساء يعلمهن فيه، فإذن الدروس والخطب والمحاضرات مشروعة، شرعها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وأمره: ( بلغوا عني ولو آية)..
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع الناس ليخطب فيهم نادى بهم ليجتمعوا، فيجتمعوا، فيلقي عليهم ما أراد تعليمهم، والإعلان عن الدروس والمحاضرات هو من هذا النوع الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا بمثل، سواء بسواء..
فأين هذا من المولد؟..
هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بين جواز جمع الناس لتعليمهم أمور دينهم، إذ لا يمكن تعليم الناس إلا بهذه الطريقة، أو قل هو طريق عظيم لتعليم الناس، لكنه ما بين للناس جواز أن يجتمعوا لأجل المولد، الذي في الحقيقة ليس فيه تعليم بشيء، إلا شيئا واحدا هو ذكر أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يصل الأمر إلى الغلو والمنكر..(3/12)
وهذه الموالد حتى في حال خلوها من الغلو والمنكرات ليس فيها تعليم ولا تفقيه..
والدليل أنك تجد جل الذين يؤمون الموالد لا يفقهون في دين الله شيئا، وذلك أنهم لا يجدون في الموالد شيئا من العلم والفقه إلا المدائح النبوية الغالية والرد على الخصوم في جواز الاحتفال بالمولد...
أما قضايا الفقه والعقيدة وأحوال المسلمين فلا تجد منها شيئا، فكيف يكون طريقا للعلم؟، وكيف يصح تشبيه الموالد بالمحاضرات والدروس العلمية؟..
إن الذي يتابع ويحضر الدروس العلمية والمحاضرات تجده بعد مدة متفقها واعيا، مستدلا على طريق السنة، عارفا بحقيقة أحوال المسلمين، بخلاف الذي يؤم الموالد، لا تجد عنده شيء من ذلك، وهذا مما يؤكد الفرق بين الأمرين.
تلك أبرز شبه القوم، وقد علمنا بطلانها، وتبين لنا كيف أن القوم يحتجون بأي شيء، ولو كان مخالفا للدليل الصريح والعقل الصحيح، وكثير منهم يجادلون بالباطل، ويتبعون أهواءهم، ويكلمون بكلام كثير لا يقصد منه الوصول إلى الحق، بل تغرير عموم القارئين والمستمعين الذين يتابعون ما يدور من كلام.
وأخيرا.. فلا نجد المحتفلين بالمولد مقتدين بسلف الأمة، إنما هم مقتدون بالنصارى، حيث إن النصارى يحتلفون بعيد ميلاد المسيح، وهذا من جملة تحريفهم وابتداعهم في الدين النصراني، وهؤلاء يفعلون كما يفعلون، فقد تركوا التشبه بأهل الإيمان وصاروا متشبهين بأهل الكفر والتحريف.. ) .
شبهات الأشاعرة
الشبهة(1) : تأويلهم صفة الوجه
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه" (ص113):(3/13)
"قال الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية 27]، قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله: { يُريدُونَ وجَهْهُ} [الأنعام: الآية 52]، أي: يريدونه، وقال الضحَّاك وأبو عبيدة في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]، أي: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا، وليس لهم دليل إلا ما عرفوا من الحسيات؟! وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه.
وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا يجوز إثبات رأس.
قلت: ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ما ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس".
· والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: مجمل ومفصَّل:
أما المجمل، فإنه يقال: قد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهًا كما أن له يدين وسمعًا وبصرًا وصورةً وعلمًا وحياةً وقدمًا، وغير ذلك ممَّا وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية11]؛ فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تُشبه الذوات، فكذلك نثبت لله تعالى وجهًا لا شبيه له ولا نظير.
وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقًّا وتحتمل باطلاً، وقد أرادوا بها قطعًا معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق.
وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.
وبالاعتصام بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم نجاة من أباطيلهم وشبههم.(3/14)
وفي الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة شيء كثير ممَّا يرد على الجهمية وغيرهم من النفاة، ويدحض شبههم، ويقمع باطلهم:
قال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص : الآية 88].
وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن : الآية 27].
وفي "صحيح الإمام البخاري" رحمه الله (13/388) عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"، فقال: { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بوجهك"، قال: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا أيسرُ".
فهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات صفة الوجه لله تعالى ما رواه مسلم في "صحيحه" (رقم 179) عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله عزَّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور (وفي رواية أبي بكر: النار)، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه؛ فعموا وصموا.
والأشاعرة تحرفه وتتأوَّله بتأويلات فاسدة: إما بتفسير الوجه بالذات لتنفي صفة الوجه عن الله، وإمَّا بغير ذلك من التأويلات المستكرهة.
وهناك أيضًا من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه ما يغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة:(3/15)
ففي "صحيح البخاري" (13/423) و"مسلم" (رقم 180) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "جنتان من فضَّة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
فقوله: "على وجهه": فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة.
وأهل الباطل تأوَّلوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال عياض: "فمن أجرى الكلام على ظاهره؛ أفضى به الأمر إلى التجسيم..."!!
وهذا خطأ وغلط؛ فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والواجب على جميع الخلق التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد.
والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه؛ فالله المستعان.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات الوجه لله تعالى ما رواه أبو داود (1/124) بسند حسن من طريق عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا دخل المسجد، قال: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم"، قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: "فإذا قال ذلك؛ قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم".
فقوله: "وبوجهه الكريم": دليل على إثبات الوجه لله تعالى.
ويرد على زعم أن الوجه هو الذات بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانيًا بوجهه الكريم، والعطف يدل على المغايرة.(3/16)
والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد خرَّجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول، مقابلين لها بالتسليم، ولم يُنكرها أحد منهم.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب "التوحيد" بعد أن ساق الآيات الدالة على إثبات الوجه لله تعالى، قال:
"فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عزَّ ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجلَّ ربنا عن مقالة المعطِّلين، وعزَّ أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عمَّا يقول الجهميُّون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم...".
وقال رحمه الله: "نحن نقول وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إن لمعبودنا عزَّ وجلَّ وجهًا كما أعلمنا الله في محكم تنزيله...".
وأمَّا الجواب المفصَّل؛ فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ابن الجوزي قال علي قول الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 27]؛ قال: "قال المفسِّرون: معناه: يبقى ربك": وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ؛ فهناك من المفسرين ممن قبل ابن الجوزي فسَّر الآية بغير ما ادَّعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس محصورًا فيمن صنَّف كتابًا أو كتبًا في التفسير.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [ الرحمن : الآيتان 26- 27] :(3/17)
"يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس؛ فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام، و{ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} من نعت الوجه؛ فلذلك رفع {ذو}..".
هذا مذهب أهل التحقيق في تفسير هذه الآية، ومن فسَّر الوجه بالذات؛ فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في "كتاب التوحيد" (1/51): "وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية [نفسه] التي أضاف إليها الجلال بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 78]، وزعت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام، لا الوجه".
قال أبو بكر: "أقول - وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدَّعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية 27]: فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو أن قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}: مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع؛ لكانت القراءة: (ذي الجلال والإكرام)؛ مخفوضًا، كما كان الباء مخفوضًا في ذكر الرب جلَّ وعلا.
ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية78]، فلمَّا كان {الْجَلاَلِ} و{الإِكْرَامِ} في هذه الآية صفة للرب؛ خفض {ذِي} خفض الباء الذي ذكر في قوله: ]ربِّك[، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة التي كانت صفة الوجه مرفوعة؛ فقال: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}، فتفهَّموا يا ذوي الحِجا هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، لا تغالطوا؛ فتتركوا سواء السبيل.(3/18)
وفي هاتين الآيتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله، صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، ولا أن وجهه غيره، كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجه الله لو كان الله؛ لقرئ: (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)! فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ولوضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!".
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله - كما في "مختصر الصواعق" (ص337)-: "إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب: أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه الثوب، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابلٌ لدبره، ومثل هذا وجه الكعبة ودبرها؛ فهو وجه حقيقة، ولكنه بحسب المضاف إليه، فلما كان المضاف إليه بناء؛ كان وجهه من جنسه، وكذلك وجه الثوب أحد جانبيه، وهو من جنسه، وكذلك وجه النهار أوَّله، ولا يقال لجميع النهار، وقال ابن عباس: وجه النهار أوَّله، ومنه قولهم: صدر النهار، قال الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وأنشد للربيع بن زياد:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نَهارِ
والوجه في اللغة: مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يوجه منه، ووجه الرأي والأمر: ما يظهر أنه صوابه، وهو في كل محل بحسب ما يضاف إليه؛ فإن أضيف إلى زمن؛ كان الوجه زمنًا، وإن أضيف إلى حيوان؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى من { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : الآية 11]، كان وجهه تعالى كذلك".
أقول: ولما كان ابن الجوزي مضطربًا في العقيدة؛ ففي بعض كتبه يؤول، وفي بعضها يثبت؛ فقد جاء عنه ما يدل على أنه يثبت الوجه لله تعالى؛ كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة.(3/19)
قال في كتابه "مجالس ابن الجوزي" يرد على من أوَّل الوجه بالذات: "وقول المعتزلة: إنه أراد بالوجه الذات؛ فباطل؛ لأنه أضافه إلى نفسه، والمضاف ليس كالمضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه...".
وهذا حق، ولكن ابن الجوزي لم يثبت على هذا، والاضطراب ظاهر عليه في كتبه، فإنه لا يثبت على قدم النفس ولا على قدم الإثبات؛ فيثبت تارة وينفي تارة، وكثيرًا ما يفوض، كما صنع في "تلبيس إبليس"، فإنه قال (ص101):
"ومن الناس من يقول: لله وجه، هو صفة زائدة على صفة ذاته؛ لقوله عز وجل: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: الآية 26]، وله يد، وله إصبع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يضع السماوات على إصبع"، وله قدم... إلى غير ذلك ممَّا تضمنته الأخبار، وهذا كلُّه إنما استخرجوه من مفهوم الحس، وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها..".
الوجه الثاني: أن ابن الجوزي قال: "وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، قلت (القائل ابن الجوزي): فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟!".
وجواب هذا أن يقال: إن القول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل، يحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
والألفاظ المجملة التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة ولم يتكلم بها الصحابة توقع اللبس، وطريق السلامة التفصيل:(3/20)
فمن أثبت الوجه لله تعالى وغيره من الصفات التي صحَّت بها النصوص، وقال: صفات الله زائدة على الذات؛ فمراده زائدة على ما أثبته نفاة الصفات؛ فإنهم يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، فلا يثبتون لله وجهًا ولا يدين ولا قدمًا ولا صورةً ولا كلامًا، بل لا يثبتون إلا ذاتًا مجردة عن الصفات، وهذا ضلال باتفاق علماء السلف؛ إذ لا توجد ذات مجردة عن الصفات، وأهل البدع يوردون الألفاظ المجملة تلبيسًا على الخلق؛ ليدركوا مرادهم من حيث لا يُشْعَر بمقصدهم، ولذلك لا يثبتون الوجه لله تعالى ولا غيره من الصفات، ويعيبون على من قال: إن الوجه صفة زائدة على الذات، مع أن مراد مَن قال في صفات الله: زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته نفاةُ الصفات.(3/21)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (5/326): "وإذا قال مَن قال مِن أهل الإثبات للصفات: أنا أثبتُ صفات لله زائدة على ذاته، فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات؛ فإن النفاة اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات، فقال أهل الإثبات: نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، وأما الذات نفسها الموجودة، فتلك لا يتصور أن تحقق بلا صفة أصلاً، بل هذا بمنزلة من قال: أثبت إنسانًا لا حيوانًا ولا ناطقًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره ولا له قدرة ولا حياة ولا حركة ولا سُكُون... أو نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق ولا جذع ولا ليف... ولا غير ذلك، فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يُسمون نفاة الصفات معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإنْ كانوا هم قد لا يعلمون أنَّ قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين؛ فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود! حق ليس بحق! خالق ليس بخالق! فينفون عنه النقيضين: إمَّا تصريحًا بنفيهما، وإمَّا إمساكًا عن الإخبار بواحد منهما..".
وأمَّا قول ابن الجوزي: "وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات"؛ فهذا جهل بالنصوص وبما عليه علماء السلف، فإنهم متفقون على إثبات صفة الوجه لله تعالى حقيقة.
وأما قول من قال من العلماء: إن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، فمرادهم زائد على ما نفاه نفاةُ الصفات المعطلة، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(3/22)
الوجه الثالث: أنَّ قول ابن الجوزي: "ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه": يقال عنه: هذا جهل وقول فاسد، فإننا لو سلمنا أن المراد بقول الله تعالى: { كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]؛ أي: إلا ذاته، أو: إلا هو، لم يكن في ذلك دليل على نفي الوجه عن الله تعالى؛ لأن النصوص كثيرة في إثبات الوجه لله تعالى، ولا عبرة بحثالة الجهمية والمعطلة الذين ينكرون ذلك، ويكون معنى الآية على ما قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب "التوحيد" (ص24): "ونفى عنه الهلاك إذا أهلك الله ما قد قضى عليه الهلاك ممَّا قد خلقه الله للفناء لا للبقاء، جلَّ ربنا عن أن يهلك شيء منه مما هو من صفات ذاته..".
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: "وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا نجوِّز إثبات رأس، قلت (القائل ابن الجوزي): ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوَزه في التشبيه غير الرأس".
يجاب عنه، فيقال: إن من أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوز القرآن والحديث الصحيح؛ فقد سلك الصراط المستقيم، واقتفى أثر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو حرَّف ذلك، أو اقشعرَّ جلده من ذلك استنكارًا؛ فقد ضلَّ عن الهدي القويم، وسلك مسلك النفاة من الجهمية والمعطلين.
وإن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأصل يجب التمسك به والعض عليه بالنواجذ، خصوصًا عند جِدال المبطلين، وتلبيس المماحلين، وتشبيه المشبهين.(3/23)
فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به، فليعلم أنَّ النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها، فمن أنكرها، فإنما ينكر على الله قوله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل.
قال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: الآية 65] .
ومن ردَّ آيات الصفات وأحاديثها أو حرَّفها؛ فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم.
وقول ابن حامد: "ولا نجوِّز إثبات الرأس": قصده في ذلك أن النص لم يأتِ به، ولو جاء النص به؛ لكنَّا أوَّل القائلين به؛ تفاديًا من غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: الآية 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
فلما لم يأتِ النص بإثبات الرأس لله تعالى، لم يقل به ابن حامد.
وأي عيب في هذا؟!
ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهًا، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد؛ فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحاح، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله السلامة والعافية.
( المرجع : إتحاف أهل الفضل والإنصاف ، للشيخ سليمان العلوان ، 121-133) .
الشبهة(2) : تأويلهم صفة العين
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص113، على قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه : الآية 39]، و{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود : الآية 37]).
"قال المفسرون: بأمرنا، أي: بَمرْأى منا.(3/24)
قال أبو بكر بن الأنباري: أمَّا جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، يقال: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع؛ لأن عادة الملك أن يقول: أَمَرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما.
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: "وإن الله ليس بأعور"، وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخيل من الصفات وجه".
· أقول: الجواب عن هذه الجهالات من وجهين: مجمل ومفصل:
فأمَّا المجْمَل؛ فإنه قد اتفق علماء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين على أن الله تعالى لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، واتفقوا أيضًا على أنَّ باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس، ولا مجال للقياس فيه، فلا نثبت لله تعالى إلا ما جاء به السمع.
فكان مما جاء به السمع ذِكْر العين لله تعالى مفردة، كما في قوله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه :الآية 39] ، وذكرها بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: الآية 48]، وجاءت السنة بذكر العينين لله تعالى.
فكان الواجب على كل مسلم الإيمان بذلك، وإثبات العينين لله تعالى حقيقة، والتسليم والانقياد، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى، وترك التحريف وصرف النصوص عن حقائقها بلا برهان.
قال الهروي في كتاب "الأربعين" (ص64، باب إثبات العينين له تعالى وتقدَّس)، وساق بالسند حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:(3/25)
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبيٍّ؛ إلا وقد حذَّر أمته الأعور الكذَّاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)..."، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري(13/389) ومسلم (رقم 2933) من طريق شعبة عن قتادة، قال: سمعتُ أنس بن مالك... ورواه أيضًا البخاري (13/389- فتح) ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به".
قال الإمام الدارمي رحمه الله في "رده على بشر المريسي" (ص48): "ففي تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليس بأعور": بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور".
وقال رحمه الله: "والعور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين".
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله في كتاب "التوحيد" (1/97): "فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله مبينًا عنه عز وجل في قوله: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: الآية44]، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقًا لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب..".
وإثبات العينين لله تعالى أمرٌ متفق عليه بين علماء السلف، ومجيئهما في القرآن بلفظ المفرد المضاف إلى الضمير المفرد وبلفظ الجمع المضاف إلى ضمير الجمع لا يدل على أن لله تعالى عينًا واحدة، كما أن لفظ الجمع لا يدل على أن لله تعالى أعينًا متعددة، فيحمل ما جاء بالكتاب على ما وضحته السنة، فيزول الإشكال.(3/26)
قال العلاّمة المحقق ابن القيم رحمه الله في "الصواعق" (1/205): "... فذكرَ العينَ المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعين مجموعة مضافةً إلى ضمير الجمع، وذكرُ العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني، وأحمله على عيني... ولا يريد به أنَّ له عيناً واحدة، فلو فهم أحد هذا من ظاهر كلام المخلوق؛ لعُدَّ أخرق، وأمَّا إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا؛ فالأحسن جمعها، مشاكلة للفظ، كقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14]، وقوله: { وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} [هود: الآية 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد، كقوله: { بِيَدِهِ المُلْكُ} [الملك: الآية1]، و{ بِيَدِكَ الخَيْرُ} [آل عمران: الآية 26]، وإن أضيفت إلى ضمير جمع؛ جمعت، كقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يَسَ: الآية 71]، وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: الآية 41]، وقوله: { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: الآية 61].
وقد نطق القرآن والسنة بذكر اليد مضافة إليه سبحانه مفردة ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة، ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت؛ قال له ربه: إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني؟".
وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم ليس بأعور": صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلاَّ؛ فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهل يَفْهمُ من قول الداعي: "اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام": أنها عين واحدة ليس إلا إلاَّ ذهن أقلف وقلب أغلف؟!(3/27)
قال خلف بن تميم: حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: "قيل لإبراهيم ابن أدهم: هذا السبع، فنادى: يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء، وإلا (يعني: فاذهب)، فضرب بذنبه، وولى مدبرًا، فنظر إبراهيم إلى أصحابه، وقال: قولوا: اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء".
قال عثمان الدارمي: "الأعور ضد البصير بالعينين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور"، وقد احتج السلف على إثبات العينين له سبحانه بقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14] ".
وممن صرح بذلك إثباتًا واستدلالاً أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها، فقال في "المقالات" و"الموجز" و"الإبانة"، وهذا لفظه فيها:
"وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله..".
إلى أن قال: " وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : الآية 5]، وأن له وجهًا، كما قال: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 27]، وأن له يدين، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: الآية 64]، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيدَيَّ} [صَ: الآية 75]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14]".(3/28)
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرة على وجه، ولم يفهموا من الأيدي أيادي كثيرة على شقٍّ واحد، حتى جاء هذا الجهمي، فعضه القرآن، وادعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيع على من بدَّعه وضلله من أهل السنة والحديث، وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنعون، { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: الآية 105] ".
وأما الجواب المفصل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: الآية 39]، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}[هود: الآية 37]: "قال المفسرون: بأمرنا، أي: بمرأى منا":
يقال: إنه خطأ من وجهين:
الوجه الأول: أن المفسرين لم يطبقوا على هذا التفسير، وعبارة ابن الجوزي فيها إيهام أن جميع المفسرين يقولون ذلك، وهذا خطأ، فابن جرير مثلاً - وتفسيره يُعد من أجلِّ التفاسير وأشهرها - قال على قول الله تعالى:{وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا}[هود: الآية 37]، قال: "بعين الله ووحيه كما يأمرك ".
الوجه الثاني: أن تفسير الآيتين بما ذكر ابن الجوزي خطأ؛ إذ لو أراد الله تعالى بقوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} [طَه: الآية 39]، أي: بأمري، لقال: "ولتصنع بأمري".
وكذلك الآية الأخرى يقال فيها مثل ما قيل في هذه.
وقول من قال: "بمرأى منا": يقال: لا شك أن ذلك بمرأى من الله تعالى، وهذا من اللوازم، وليس هو معنى الآية، فالواجب أولاً إثبات العينين لله تعالى، ثم لا بأس بعد ذلك بذكر اللوازم من الرؤية ونحو ذلك.
ولكن أهل الأهواء يُفسرون الآيات التي في الصفات بلوازمها، وينفون حقائقها، وهذا عين المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(3/29)
وقد ثبت عن ابن عباس في قول الله تعالى: {واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} [هود: الآية 37]، قال: "بعين الله تبارك وتعالى"، رواه عنه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/41) من طريق محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، به، ورواته كلهم ثقات.
وكذلك قال قتادة: "بعين الله..."، فيما رواه عنه ابن جرير في "تفسير".
وأما قول الجهمي الكوثري في تعليقه على "الأسماء والصفات" على أثر ابن عباس المتقدم، قال: "وفي سند الحديث حجاج المصيصي، اختلط في أواخر عمره، وعطاء ضعفه البخاري، وعكرمة مختلف فيه"، فهو كلام جاهل، ليس له حظ ولا نصيب من هذا العلم، كما أنه لا له حظّ ولا نصيب من معرفة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح:
فقوله: "حجاج المصيصي اختلط في أواخر عمره": يقال عنه: ذكر ذلك بعض العلماء، كما في ترجمته في "تهذيب الكمال" (5/456) و"تهذيب التهذيب" (2/181).
وهذا لا يؤثر على حديثه مطلقًا؛ لأنه إنما قيل إنه تغير لما رجع إلى بغداد، وحديثه عن ابن جريج ليس من ذلك.
وقد سمع التفسير من ابن جريج إملاءً، كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل، قال أحمد: "ولم يكن مع ابن جريج كتاب التفسير، فأملى عليه".
وقد قال يحيى بن معين: "قال لي المعلى الرازي: قد رأيت أصحاب ابن جريج بالبصرة، ما رأيت فيهم أثبت من حجاج"، قال يحيى: "وكنت أتعجب منه، فلما تبينت ذلك، إذا هو كما قال، كان أثبتهم في ابن جريج".
وقال أبو مسلم المستملي: "خرج حجاج الأعور من بغداد إلى الثغر في سنة تسعين ومائة"، قال: "وسألته، فقلت: هذا التفسير سمعته من ابن جريج؟ فقال: سمعت التفسير من ابن جريج، وهذه الأحاديث الطوال، وكل شيء قلت: حدثنا ابن جريج، فقد سمعته".
وأما قوله: "وعطاء ضعَّفه البخاري"، فهذا غير ناهض لتضعيف عطاء الخراساني:(3/30)
فتضعيف البخاري لرجلٍ ما لا يدل على ضعفه مطلقًا، وأنه لا يحتج بحديثه، فقد وثق عطاء أئمة ثقات أثبات لهم قدرهم في هذا الشأن.
قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: "ثقة".
وقال ابن معين: "ثقة".
ووثقه أيضًا الدارقطني.
وقال يعقوب بن شيبة: "ثقة، معروف بالفتوى والجهاد".
وقد خرج البخاري لعطاء في "صحيحه" في تفسير سورة نوح، ولكن اختلف العلماء رحمهم الله في عطاء، هل هو ابن أبي رباح أم الخراساني؟ جاء عند عبد الرزاق في "تفسيره" التصريح بأنه الخراساني.
والحاصل أن عطاء الخراساني ممن يحتج بحديثه، كما عليه أكثر أئمة الحديث ونقاده، والله أعلم.
وأما قوله: "وعكرمة مختلَف فيه": فهذا شغب لا طائل تحته، فالاختلاف في توثيق الراوي ليس تضعيفًا له.
وعكرمة: ثقة حافظ، خرج له البخاري في الأصول، والأربعة، وروى له مسلم مقرونًا، وقد روى عن جماعة من الصحابة.
ووثَّقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "ليس أحدٌ من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة".
وقد تكلم بعضهم في حديث عكرمة، فقيل: سبب ذلك لرأي رآه عكرمة، وإلا، فهو حجة في الحديث، والكلام الذي قيل فيه لا يطعن في حديثه، وما كل راوٍ يتكلم فيه يطرح حديثه، فلا بد من النظر والوقوف على كلام الجارح، هل هو مؤثر، أم غير مؤثر؟
والحاصل أن عكرمة حجة في الحديث، وشغب الكوثري ممَّا لا يقام له وزن، ولم يبْنِ كلامه على قواعد وأسس سليمة، إنما يلقي الكلام على عواهنه، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: "وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما": يقال عنه:(3/31)
إن مراد القاضي أبي يعلى بقوله: العين صفة زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته النفاة؛ لأن النفاة يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، والسلف يخالفونهم في ذلك، فيثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما صحَّت به الأحاديث.
وإن كان اللفظ والقول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أو غير زائدة غير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام، ويحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
ولكن مراد أهل الإثبات بقولهم: "صفة زائدة على الذات"، أي: زائدة على ما أثبته النفاة، وهذا المعنى حق، خلافًا لأهل البدع الذين ينكرون صفات الله تعالى أو يُحرفونها، ولا يثبتون لله تعالى، لا وجهًا، ولا سمعًا، ولا بصرًا، ولا عينين... ولا غير ذلك من الصفات الذاتية، ولا كثيرًا من الصفات الفعلية، فقد شبهوا معبودهم وربهم بالناقصات، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وأما عيب ابن الجوزي على أبي يعلى وابن خزيمة، فليس في محله، وهذا العيب في الحقيقة إنما يقع على من دلَّ الأمة على أن لله عينين، فليس ابن خزيمة أول من ذكر العينين لله تعالى حتى يخص بالإنكار، ولو تفكر في ذلك أهل الأهواء؛ لعلموا فساد عقولهم وتناقضهم واضطرابهم، ولعلموا أنهم في الحقيقة إنما يطعنون على من جاء بإثبات العينين لله تعالى حقيقة ودعا الناس إلى الإيمان بذلك.
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: "وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الله ليس بأعور": يقال عنه: قد تقدم ذكر الأدلة على إثبات العينين لله تعالى، وليس في إثباتهما ابتداع في الدين، إنما الابتداع هو نفيهما عن الله، ووصف الله تعالى بالنقائص، وهذا أصل التعطيل.(3/32)
وقول ابن الجوزي: "وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الله ليس بأعور": يقال عنه: إن دليل الخطاب في هذا الموضع حجة، وقد أجمع عليه العلماء، وأثبتوا لله عينين.
وقد تقدم إثبات الوجه لله تعالى وغيره من الصفات بنصوص قطعية متواترة، ومع ذلك أنكرها ابن الجوزي وصرفها عن ظاهرها بحجج عقلية متهافتة مضطربة، يستحي العاقل من ذكرها، فليس قوله: "من دليل الخطاب": هو المانع له من إثبات العينين لله تعالى، فالله المستعان.
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، ص 134-144).
الشبهة(3) : تأويلهم صفة اليد
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص114)، على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]:
"اليد في اللغة بمعنى النعمة والإِحسان، قال الشاعر:
مَتَى تُناخِي عِنْدَ بابِ بَنِي هَاشِمٍ تُرِيْحِي فَتَلْقَيْ مِنْ فَواضِلِهِ يَدا
ومعنى قول اليهود: { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليدُ: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد.
وقوله تعالى: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي : نعمته وقدرته.
وقوله: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، أي: بقُدْرتي ونعمتي.
وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فوقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية10]: "أي: منته وإحسانه".
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى: "اليدان صفتان ذاتيتان تسميان بالدين" ا هـ.
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.
وقال ابن عقيل: "معنى الآية: لما خلقت أنا، فهو كقوله: { ذلِكَ بما قَدَّمَتْ يداكَ} [الحج: الآية10]، أي: بما قدمت أنت".
* أقول مستعينًا بالله تعالى لكشف هذه الأباطيل: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته، فلا يجوز العدول عن ذلك، إلا إن كانت هناك قرينة تمنع الحمل على الحقيقة.(3/33)
الوجه الثاني: أن حمل الكلام على ما يجوز في اللغة، وترك ظاهر الكلام، يؤدي إلى خلل ولبس في فهم المراد، ومن ثَمَّ لا يحصل ضبط كلام متكلم إلا بالاستفسار عن مراده ومقصده، وهذا خلاف ما عليه المسلمون قديمًا وحديثًا، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق.
الوجه الثالث: أن حمل صفات الرب جل وعلا على المعاني اللغوية أو على المجاز دون الحقيقة يقتضي تعطيل الرب جل وعلا عن صفات الكمال، فلا يثبت له علم ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا غير ذلك مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الرابع: أن حمل الكلام على غير حقيقته يقتضي أن الله جل وعلا يخاطب العباد بما لا يفهمون، أو بما ظاهره غير مراد.
الوجه الخامس: أنه وإن جاز في اللغة إطلاق اليد على النعمة أو القوة في بعض المواضع، فلا يصح أن يجعل هذا الإطلاق عامًّا في كل شيء:
فقوله تعالى: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: لا يصح أن يقال: لما خلقت بقدرتي أو بنعمتي؛ لأن نعم الله متعددة، وليست محصورة في نعمتين، فإن هذا لا يقوله عاقل، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: الآية34، النحل: الآية 18].
وأما حمل اليدين في قوله تعالى: {لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75] على القدرة، فهذا أيضًا فاسد؛ لأن القدرة صفة واحدة، قال تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [البقرة: الآية 165].(3/34)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن لفظ (اليدين) بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأنَّ من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: {إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر: الآية 2]، ولفظ الجمع في الواحد، كقوله: {الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ...} [آل عمران: الآية 173]، ولفظ الجمع في الاثنين، كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: الآية4]، أمَّا استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد، فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني: رجلين! ولا: عندي رجلان، ويعني به الجنس! لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد، فقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ} [ص: الآية 75]: لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد...".
وممَّا يدل على فساد قول من زعم أن اليدين بمعنى القوَّة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند اللهِ، على منابرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين..."، خرجه مسلم في "صحيحه" (رقم 1827) عند عبد الله بن عمرو.
قال ابن منده في "الرد على الجهمية" (ص 73): "هذا حديث ثابت باتفاق".
فهل يصح يا معطلة أن يقال: وكلتا قوتيه يمين؟!
فهل للقوة يمين؟!
فإن قلتم: نعم، خالفتم أهل العقول، وصرتم مع البله والجهال والحمقى والمغفلين!! وإن قلتم: لا، خصمتم، ووجب عليكم التسليم والانقياد وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة، وليس بعد ذلك إلا العناد، وبئس الزاد ليوم المعاد.(3/35)
الوجه السادس: أنَّ قول ابن الجوزي: "ومعنى قول اليهود: { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليد القوة": قولٌ غيرُ صحيح، بل هو باطل، ويبطله قوله تعالى بعد ذلك: {بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ} [المائدة: الآية 64]، فلا يصح أن يقال: نعمتاه مبسوطتان؛ لأن نعم الله تعالى ليست محصورة في نعمتين إجماعًا ضروريًّا، فثبت أن المراد: إثبات اليدين لله تعالى حقيقيتين، كما أجمع على ذلك أهل العلم والإيمان، ولا أعلم أحدًا نازع في ذلك إلا أهل البدع والضلال، الذين لم يستضيئوا بالكتاب ولا بالسنة على فهم السلف الصالح.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: "وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل.
والدليل على نقض دعواه هذه أنَّ نعم الله كثيرة لا يُحصيها إلا الخالق البارئ، ولله يدان لا أكثر منهما، كما قال لإبليس عليه لعنة الله: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه، فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته، كان مبدِّلاً لكلام الله.
وقال الله عز وجل:{والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بَيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67]
أفلا يعقل أهل الإيمان أن الأرض جميعًا لا تكون قبضة إحدى نعمتيه يوم القيامة، ولا أن السماوات مطويات بالنعمة الأخرى؟!
ألا يعقل ذوو الحجا من المؤمنين أن هذه الدعوى التي يدَّعيها الجهمية جهلٌ أو تجاهلٌ شر من الجهل؟!
بل الأرض جميعًا قبضة ربنا جلَّ وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليدُ الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يسارًا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه.(3/36)
وافهم ما أقول من جهة اللغة، تفهم وتستيقن أنَّ الجهمية مبدِّلة لكتاب الله لا متأولة قوله: {بَلْ يداهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64].
لو كان معنى اليد النعمة كما ادعت الجهمية، لقرئت: بل يداه مبسوطة، أو: منبسطة؛ لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمه نعمتين لا أكثر، فلما قال الله عز وجل: {]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ} [المائدة: الآية 64]؛ كان العلم محيطًا أنه ثبت لنفسه يدين لا أكثر منهما، وأعلم أنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
والآية دالة أيضًا على أن ذكر اليد في هذه الآية ليس معناه النعمة:
حكى الله جل وعلا قول اليهود، فقال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}، فقال الله عز وجل ردًّا عليهم: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، وقال: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، وبيقين يعلم كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيْهِم}؛ أي: غُلَّت نعمهم، لا، ولا اليهود [أرادوا] أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: {يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ}، وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء...".
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: "أي: بقدرتي ونعمتي": باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن القوة والنعمة لم تردا بلفظ التثنية.
الوجه الثاني: أنه لو صح ورود القدرة أو النعمة بلفظ التثنية، ففي هذه الآية باطل اتفاقًا؛ لأنه لا يكون لآدم خصيصة على غيره من سائر المخلوقات، فالكل مخلوقون بقدرة الله تعالى، فلا يكون هناك مزية لآدم على غيره، وهذا باطل باتفاق المسلمين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه...".(3/37)
فقوله: "خلقك الله بيده": صريح في تخصيص آدم بذلك، وإلا، لم يكن في قوله: "خلقك الله بيده": فائدة؛ لأن كل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله سبحانه.
وكذلك حديث الشفاعة المخرج في "الصحيحين" من حديث أنس يدل على اختصاص آدم بكونه خلقه بيده، فإن فيه: "يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا!"، قال: "فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده...".
فحمل اليد هنا على القدرة أو النعمة من أعظم الإلحاد والتحريف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فكون المؤمنين يوم القيامة يأتون آدم ويقولون: "أنت أبو البشر، خلقك الله بيده...": دليل ظاهر وبرهان لا ينازع فيه إلا جهمي على اختصاص آدم عن غيره، وأن الله خصه بكونه خلقه بيديه.
الوجه الثالث: قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: "إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: يأبى حمل الكلام على القدرة؛ لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدَّى الفعل إلى اليد، ثم ثنَّاها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك: كتبت بالقلم، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه.
بخلاف ما لو قال: عملت، كما قال تعالى:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: الآية 182]، و{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، فإنه نسب الفعل إلى اليد ابتداء، وخصَّها بالذكر؛ لأنها آلة الفعل في الغالب.
ولهذا؛ لما لم يكن خلقُ الأنعام مساويًا لخلق أبي الأنام، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنعاماً} [يس: الآية 71]، فأضاف الفعل إلى الأيدي، وجمعها، ولم يدخل عليها الباء، فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر.(3/38)
ويتضمنُ التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام، وهذا من أبطل الباطل، وأعظم العقوق للأب، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق بالدين..".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (6/366): ".. أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدَّى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فإنه نصٌّ في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلَّم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت: كافٍ في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة، كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة.
ولستَ تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو: فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد، والفعل وقع بغيرها".
الوجه الثامن: أن قول ابن الجوزي: "وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين":
يجاب عنه فيقال: لو فرضنا أنَّ النقل عن الحسن صحيح - ولا أخاله يصح-، فلا يدل على نفي اليدين عن الله تعالى؛ لأن تفسيره هذه الآية باللازم لا يدل على نفيه الصفة عن الله تعالى مطلقًا في كل المواضع كما فعل النفاة من الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة.
وقول ابن الجوزي: "هذا كلام المحققين": غير صحيح، فالتحقيق أن هذه الآية تدل كغيرها من الآيات على إثبات صفة اليد الله تعالى حقيقة، وتأويلها بالمنة أو النعمة تأويل لا دليل عليه سوى الظن والتخمين، وكلام المحققين على خلافه.
قال أبو الحسن الأشعري في "الإبانة": "فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، وقوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيَّ} [ص: الآية 75]".(3/39)
وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في (باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا): "والبيان أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}؛ فكذَّبهم في مقالتهم، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} [المائدة: الآية 64]، وأعلمنا أن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67]، و{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]....".
وقال رحمه الله تعالى في (باب ذكر سنة سابعة تثبت يد الله): "والبيان أن يد الله هي العليا، كما أخبر الله في محكم تنزيله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : الآية 10]، فخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أن: "يد الله هي العليا"، أي: فوق يد المُعْطَى والمعطِي جميعًا".
وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري وابن خزيمة في إثبات صفة اليدين لله تعالى حقيقة، أخذًا من نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : الآية 10]: هو الصواب، فإضافة اليد إلى الله في قوله: { يَدُ اللهِ}: لا تدل إلا على إثبات الصفة حقيقة، ويبطل ذلك تأويلها بالمنة أو الإحسان أو غير ذلك من التأويلات الباطلة.
الوجه التاسع: أن قول ابن الجوزي: "وقال القاضي أبو يعلى: "اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين" ا هـ، قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه":
يجاب عنه فيقال: إن ما ذكره أبو يعلى رحمه الله من إثبات اليدين لله تعالى هو قول جميع علماء السلف، فلا تثريب على أبي يعلى، فإنه لم ينفرد بهذا القول، ولم يقله برأيه، فقد دلَّ الكتاب والسنة على صحة هذا القول، وعلى فساد ما عداه.(3/40)
وقد قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى في كتاب "الشريعة" (ص323): "يقال للجهمي - الذي ينكر أن الله عزَّ وجل خلق آدم بيده -: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة..".
أقول: وقد تقدمت الأدلة من القرآن على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة في مواضع متفرقة، وأجهزنا على تحريف من حرفها أو تأولها على غير التأويل المأثور عن السلف.
وأمَّا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فهي كثيرة جدًّا:
منها: ما رواه مسلم في "صحيحه" (رقم 2759) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله عز وجل يبسط يَدَهُ بالليلِ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".
وروى الإمام البخاري في "صحيحه" (3/ 278) من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب -، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مِثْلَ الجبل".
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" (رقم 1014) من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب-، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله".
فقوله: "أخذها الرحمن بيمينه": ينفي ويبطل تأويل من تأول ذلك بالنعمة أو القدرة.
وفي هذا الحديث أيضًا إثبات الكف لله تعالى.
والحديث قال عنه ابن منده رحمه الله: "ثابت باتفاق، وله طرق عن أبي هريرة...".(3/41)
وروى الإمام البخاري (8/551- فتح) ومسلم (رقم 2787) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض اللهُ الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟".
وروى الإمام مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: "يأخذ الجبَّار عزَّ وجل سماواته وأرَضيه بيدَيْهِ".
وروى البخاري (13/ 393- فتح) ومسلم (رقم 993) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدُ اللهِ ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار"، وقال: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده؟"، وقال: "عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان؛ يخفض ويرفع".
وهذه الأحاديث وما في معناها من الأحاديث الدالة على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة ممَّا لم نذكره قد تلقاها أهل المشرق والمغرب بالقبول، وقابلوها بالتسليم، ولم ينكرها منكرٌ منهم، وأنكرها الجهمية وأشباههم، فخالفوا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فكذبوا بالحق، وصدقوا بالباطل.
قال الإمام السجزي في "رسالته لأهل زبيد" (ص 173): "وأهل السنة متفقون على أن لله سبحانه يدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر، قال الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكلتا يدي الرحمن يمين...".
وتأويل من تأول اليدين بمعنى القدرة أو النعمة جهل وضلال.
قال الإمام الدارمي رحمه الله في "رده على بشر المريسي" (ص 33) بعد أن ذكر جملة من الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى:(3/42)
"وفي هذا الباب أحاديث كثيرة تركناها مخافة التطويل، وفيما ذكرنا من ذلك بيان بيِّن ودلالة ظاهرة في تثبيت يدي الله أنهما على خلاف ما تأوَّله هذا المريسي الضال، الذي خرج بتأويله هذا من جميع لغات العرب والعجم، فليعرض هذه الآثار رجلٌ على عقله: هل يجوز لعربي أو عجمي أن يتأول أنها أرزاقه وحلاله وحرامه؟!
وما أحسب هذا المريسي إلا وهو على يقين من نفسه أنها تأويل ضلال ودعوى محال، غير أنه مكذب الأصل، متلطف لتكذيبه بمحال التأويل، كيلا يفطن لتكذيبه أهل الجهل، ولئن كان أهل الجهل في غلط من أمره، إن أهل العلم منه لعلى يقين، فلا يظنن المنسلخ من دين الله أنه يغالط بتأويله هذا إلا من قد أضله الله، وجعل على قلبه وسمعه وبصره غشاوة.
ثم إنَّا ما عرفنا لآدم من ذريته ابنًا أعق ولا أحسد منه، إذ ينفي عنه أفضل فضائله وأشرف مناقبه، فيسوِّيه في ذلك بأخس خلق الله؛ لأنه ليس لآدم فضيلة أفضل من أن الله خلقه بيده من بين خلائقه، ففضَّله بها على جميع الأنبياء والرسل والملائكة، ألا ترون موسى حين التقى مع آدم في المحاورة، احتج عليه بأشرف مناقبه، فقال: "أنت الذي خلقك الله بيده"، ولو لم تكن هذه مخصوصة لآدم دون مَنْ سواه، ما كان يخصه بها فصيلة دون نفسه، إذ هو وآدم في خلق يدي الله سواء في دعوى المريسي، فلذلك قلنا: إنه لم يكن لآدم ابن أعق منه، إذ ينفي عنه ما فضَّله الله به على الأنبياء والرسل والملائكة المقربين..".
الوجه العاشر: أنَّ قول ابن الجوزي: "وقال ابن عقيل: معنى الآية: لما خلقتُ أنا، فهو كقوله: {ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، أي: بما قدَّمتَ أنت": يجاب عنه بأن يقال:
لا إله إلا الله واللهُ أكبر! ما أعظم هذا التحريف وأقبحه وأبشعه! وواللهِ؛ ما يرضى الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا التحريف الباطل، ومعنى الآية ظاهر وواضحٌ كل الوضوح، لا خفاء به ولا لبس، ففيها إثبات اليدين لله تعالى حقيقة.(3/43)
وزعم أن المعنى: "لما خلقت أنا": تكلفٌ وصرف للمعنى الصحيح بلا برهان، فدخول الباء في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: نص صريح في أن الله جلَّ وعلا خلق آدم بيديه حقيقة، واليدان من صفات الرب جل وعلا الذاتية، ولو كان المعنى على ما تقول المعطلة: لما خلقت أنا!! لما كان لآدم خصِّيصة على غيره، ولكان قول موسى لآدم: "أنت الذي خلقك الله بيده": لا معنى له، ومثلُ هذا ينزه عنه موسى كليم الرحمن.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (6/ 366): "ولا يجوز أن يكون: لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل، كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، و{قَدَّمَتْ أَيْدِيْكُمْ} [آل عمران: الآية 183]، ومنه قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنْعامًا} [يس: الآية 71]...".
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، 145-159).
الشبهة(4) : تأويلهم صفة الساق والقدم
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص 118، على قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: الآية 42] ):
"قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء: يكشف عن شدَّة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق، وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمَّرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أنَّ الرجل إذا وقع في أمرٍ عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدَّة، وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون، وروى البخاري ومسلم في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يكشف عن ساقه": هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدَّته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى "يكشف عنها": يزيلها...".
قال ابن الجوزي: "وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في "يضع قدمه في النار"...".(3/44)
قال ابن الجوزي: "قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض...".
* أقول: وجواب هذا الكلام من وجهين: مجمل، ومفصل:
فأمَّا المجمل، فإنه يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، فمن ثَمَّ كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أساس الإيمان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبين هذا الباب بيانًا عامًّا، فعلمه الخاص والعام، ولم يستنكر أحد منهم شيئًا من هذا الباب، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جلَّ وعلا يقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، كما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا.
وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، ولكن أهل الأهواء والضلال لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ} [الشورى: الآية11]، فمن شبَّه الله بخلقه، فهو كافر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافرٌ أيضًا.
ومما لا نزاع فيه بين علماء السلف أنه ليس في إثبات الصفات لله جل وعلا تشبيه ولا تمثيل، إنما التمثيل والتشبيه يقع ممن نفى عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.(3/45)
ومن الصفات التي يُوصف به الرب جل وعلا وشرق بها أهلُ البدع ولم يثبتوها لله تعالى صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهًا للخالق بالمخلوق، وهذا ضلال عظيم، وإفك مبين، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد دلّت سنته الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد أن الساق يثبت لله تعالى، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تشبه الذوات، كذلك نقول في صفات الله تعالى، كالساق وغيرها: إنها لا تشبه الصفات؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات، وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا حقيقة الإيمان، والبراءة من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحَّت بها النصوص كالساق من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاء بالكتاب والسنة، وننعى عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه.
وما جاء عن ابن عباس، أنه قال: "يريد القيامة والساعة لشدَّتها"، فقد ضعَّفه بعض العلماء وصححه آخرون.
ومن أمثل أسانيد ما جاء عن ابن عباس ما رواه الفرَّاء في كتابه "معاني القرآن" (3/177)، قال: "حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قرأ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: الآية 42] ، يريد القيامة والساعة لشدَّتها..".
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة، لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية بما يخالف ما قاله ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن الآية تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى على القول الصحيح.(3/46)
يدل على ذلك ما رواه الدارمي في "سننه" (2/326) من طريق ابن إسحاق، قال: أخبرني سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله العباد بصعيد واحد، نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، فيلحق كلُّ قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم، فيقول: ما بالُ الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا، عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}[القلم: الآية 42]، ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة...".
سنده حسن، فإن محمد بن إسحاق صدوق، وحديثه من قبيل الحسن إذا صرَّح بالسماع، وهنا صرَّح بالسماع، وباقي رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض.
والحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت على الآية، فقوله: "فيكشف لهم عن ساقه": صريح في إثبات الساق لله؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدَّة قطعًا.
وقوله: "وذلك قول الله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ..}[القلم: الآية 42]": ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
يؤيده ما رواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص 40) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: الآية42] ". قال: "يكشف الله عزَّ وجلَّ عن ساقه".
فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أنَّ الآية من آيات الصفات، وأن المراد منها: إثبات صفة الساق لله جل وعلا.
وجاءَت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.(3/47)
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" (8/ 663 - الفتح، باب يوم يكشف عن ساق): حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهرهُ طبقًا واحدًا".
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" (3/ 25-27 - نووي) بلفظ: "فيكشف عن ساق"، والمعنى واحد على كلا اللفظين.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (1/ 520) والطبراني في "الكبير" (9/ 417) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال:
"يجمع اللهُ الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا، أربعين سنة، شاخصة أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء".
قال: "فينزل الله عز وجل في ظللٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا".
قال: "فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون".
قال: "ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عُزيرًا شيطان عُزير، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته".(3/48)
قال: "فيتمثل الرب جلَّ وعزَّ، فيأتيهم، فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ يقولون: إنَّ لنا إلهًا، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة، إذا رأيناه، عرفناها، فيقول: ما هي؟ يقولون: يكشف عن ساقه".
قال: "فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخر كل من كان بظهره طبق، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون.." الحديث.
وسنده ممَّا تقوم به الحجة.
وقد قال الذهبي رحمه الله في كتابه "العلو" (ص 73): "إسناده حسن".
وقال في "الأربعين" (ص122): "وهو حديث صحيح".
والحديث رواه الحاكم في "مستدركه" (4/ 589) وابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (2/ 583-584) كلاهما من طريق أبي خالد الدالاني، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، به.
وقال الحاكم عقبه: "رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في "الصحيحين"، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمَّا الأئمة المتقدمون، فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح، ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة".
أقول: وقد تُوبع الدالاني في الرواية عن المنهال، تابعه زيد بن أبي أنيسة - كما تقدم - عند عبد الله بن أحمد والطبراني.
وزيد ثقة، وثقة ابن معين وابن سعد وغيرهما.
فمنه يتبين ثبوت الحديث وحجيته.
وقد صححه المنذري رحمه الله في "الترغيب والترهيب" بعدما عزاه لابن أبي الدنيا والطبراني.(3/49)
وروى ابن خزيمة رحمه الله في كتاب "التوحيد" (2/ 428-429) من طريق سفيان، قال: ثنا مسلمة - وهو ابن كهيل -، عن أبي الزعراء، قال: ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: "تفترقون أيُّها الناس عند خروجه ثلاث فرق..."، فذكر الحديث بطوله، وقال: "ثم يتمثل الله للخلق، فيلقى اليهود، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقول: سبحانه، إذا اعترف لنا، عرفناه، فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خرَّ لله سجدًا".
وهذا موقوف حسن، وله حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد.
والحاصل أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.
وأما الجواب المفصَّل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، "أي: يكشف عن شدَّة": قولٌ غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنَّة، علم خطأ هذا القول وبطلانه.
الوجه الثاني: أننا لو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل هذا على صحة قولهم وبطلان ما عداه، فليس كلُّ قول يذهب إليه الجمهور يكون صوابًا، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، إنما يعرف بالأدلة والبراهين، وقد أوردنا فيما تقدم أدلة صحيحة لا معارض لها تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى.
ثم إنه يقال أيضًا: لو صحَّ ما زعمه ابن الجوزي، فلا يدل أيضًا على نفي الجمهور صفة الساق عن الله تعالى، وإنما هو أمرٌ ظهر لهم في معنى الآية ليس غير، بخلاف أهل البدع، فلا يثبتون لله تعالى صفة الساق مطلقًا، لا من الكتاب، ولا من السنة.(3/50)
الوجه الثالث: أن تفسير الساق بالشدة غير صحيح، يبطله ما رواه ابن منده في "الرد على الجهمية" (ص 37) من طريق عبد الرزاق، أنبا الثوري، عن مسلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، في قوله جلَّ وعز: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، قال: "عن ساقيه".
قال أبو عبد الله: "هكذا في قراءة ابن مسعود، و[يكشف]: بفتح الياء وكسر الشين".
فلا يصح أن يقال: يكشف عن شدتيه!!
الوجه الرابع: أن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَت الشدَّة عن القوم لا كُشِف عنها! كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف: الآية 50]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون: الآية 75]، فالعذاب والشدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
وأيضًا، فهناك تحدث الشدَّة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يُدعون إلى السجود، وإنما يُدعون إليه أشدَّ ما كانت الشدة".
الوجه الخامس: قال شيخ الإسلام رحمه الله في "نقض أساس التقديس" (الجزء الثالث): "إن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساق بأنه إظهار الشدَّة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون، يكشف لهم عن ساقه، فيسجدون له، فإذا تأوَّلوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة".
الوجه السادس: أن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يَرِد ما يخرجها عن ذلك، فقوله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، دليل على إثبات الساق لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: الآية 11].(3/51)
فحقيقة اللفظ إثبات الساق لله تعالى، فلا يعدل عن ذلك إلا بدليل، وليس عند أهل البدع من الأدلة سوى دعوى مشابهة المخلوق للخالق، ولو عقلوا، لعلموا أن قولهم هو التشبيه.
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يكشف عن ساقه": "هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدته": قولٌ مردود، مخالف لمذهب السلف، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فالحديث على ظاهره فيه إثبات الساق لله تعالى، فيجب إثباته كإثبات سائر صفاته، دون تحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل.
وهذا حقيقة الإيمان: إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.
الوجه الثامن: أن ابن الجوزي قال: "وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: "يضع قدمه في النار"، قلت (القائل ابن الجوزي): وذكر الساق مع القدم تشبيه محض".
أقول: وهذا الكلام ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض:
فقوله: "وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية":
أقول: هذا حق، فإن الأدلة كتابًا وسنة تدل عليه، فمن أنكره، فإنما ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة الذين نقلوا لنا ذلك.
وقوله: "وقال مثله في: "يضع قدمه في النار":
أقول: وهذا أيضًا من الحق الذي يجب اعتقاده والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية، التي يجب الإيمان بها، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل.
ففي "صحيح البخاري" (8/ 594 - فتح، و13/ 368 - فتح) ومسلم (رقم 2848) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تزالُ جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ربُّ العزَّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط! قط! وعزَّتك، ويزوي بعضها إلى بعض".
قوله: "قدمه": الهاء تعود على الرب جل وعلا.
والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله تعالى.(3/52)
وروى الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (8/ 595- فتح) ومسلم (رقم 2846) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنَّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أُعذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها: فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحدًا، وأمَّا الجنة، فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا".
وروى: ابن أبي شيبة في كتاب "العرش وما رُوي فيه" (ص79)، والدارمي في "رده على بشر المريسي" (ص67)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (1/301)، والدارقطني في "الصفات" (ص49)، والحاكم في "مستدركه" (2/ 282)، وغيرهم، بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره".
قال الإمام الدارمي رحمه الله في "نقضه": "صحيح مشهور".
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه".
وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي، لا يقال من قبل الرأي، ولا مجال للاجتهاد فيه.
فيؤخذ منه إثبات القدمين لله تعالى، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية11].
قال أحمد بن حنبل: "أحاديث الصفات تمر كما جاءت".
فمن حرفها وتأولها، فقد سلك مسلك النفاة الجهمية، ومن أنكرها، فهو على شفا جرفٍ هارٍ.
قال الإمام الثقة حماد بن سلمة - وقد كان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع -: "من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث، فاتهموه على الدين".(3/53)
وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى - وذكر عنده أن الجهمية ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا!! فقال عبد الرحمن بن مهدي: "قد هلك قوم من وجه التعظيم، فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يُرسل رسولاً، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 91]".
ثم قال: "هل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أن نعبده! ولكن نعبد من هو أقرب إليه منا، فعبدوا الشمس، وسجدوا لها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: الآية 3]".
وأمَّا قول ابن الجوزي: "وذكر الساق مع القدم تشبيه محض"، فهذا قول جاهل لا يفهمُ من صفات الخالق إلا ما فهمه من صفات المخلوق، وقد تقدم إبطال هذا القول العليل الفاسد، الناشئ من التشبيه الخالص، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي (ص 120):
"قال ابن حامد: يجب الإيمان بالله لله تعالى ساقًا صفةً لذاته، فمن جحد ذلك كفر.
قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف بمن ينسب إلى العلم؟! فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة".
* أقول:
هذا الكلام يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن حامد: "يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقًا صفة لذاته": قول صحيح، والأدلة من الكتاب والسنة تؤيده وتنصره، والمخالف في ذلك مستحق للذم؛ لأنه لم يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(3/54)
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: الآية 65]، فليس - والله - لمن عطَّل الله عن أسمائه وصفاته أو حرَّفها حظ ولا نصيب من هذا التحكيم المأمور به.
الوجه الثاني: أن إنكار ابن الجوزي على ابن حامد في قوله: "فمن جحد ذلك كفر": إنكار في غير محله؛ لأن من أنكر آية من كتاب الله، فقد أنكر الكتاب كلَّه وكفر بذلك، ومن أنكر حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أنكر الحديث كلَّه وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وكلام العلماء كثير في ذلك.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: الآية 85].
قال الإمام البربهاري رحمه الله: "ومن ردَّ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ردَّ الأثر كله، وهو كافرٌ بالله العظيم".
وقال الإمام إسحاق بن راهويه: "مَن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر".
ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "الإحكام"(1/ 97) عن محمد بن نصر المروزي عنه
وقال أبو معمر الهذلي: "من زعم أن الله لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)، فهو كافرٌ بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفًا، فألقوه فيها".
وهذا كله في تكفير العموم، وأنَّ من قال كذا، فحكمه كذا، ولا يلزم منه تكفير المعيَّن، حتى تقوم عليه الحجة؛ لأن الجاهل والمتأوِّل لهما حكمهما.(3/55)
وما تقدَّم ذكره عن الأئمة يمكن حمله أيضًا على المصر بالباطل، المعاند، المعرض عن أدلة الكتاب والسنة، الصادّ عنهما.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" (ص127):
واشْهَدْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُكْفِرو
إِذْ أَنْتُمُ أَهْلُ الجَهَالَةِ عِنْدَهُمْ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الكُفْرانِ بَلْ
إِلاَّ إذَا عانَدْتُمُ وَرَدَدْتُمُ
فَهُناكَ أَنْتُمْ أَكْفَرُ الثَّقَلَيْنِ مِنْ
نَكُمُ بِما قُلْتُمْ مِنَ الكُفْرانِ
لَسْتُمْ أُوْلِي كُفْرٍ وَلا إِيْمانِ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الإِيْمانِ
قَوْلَ الرَّسولِ لأِجْلِ قَوْلِ فُلانِ
إِنْسٍ وَجِنٍّ ساكِنِي النِّيرانِ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "المنهاج" (5/ 240): "قد ينقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده: أن هذا القول كفر، ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفَّر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع...".(3/56)
وقال رحمه الله في "المسائل الماردينية" (ص71): "وحقيقة الأمر في ذلك أنَّ القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: الآية10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعيَّن من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون لهن حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها...".
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: "فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة": يقال عنه:
إن صرف المتأوِّلين الكلام عن حقيقته وردهم الأمر إلى اللغة في كل شيء ليس منهجًا مستقيمًا ولا مسلكًا صحيحًا، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه.
وفي كثير من صفات الله تعالى يزعم أهل التعطيل أن اللغة تدل على كذا وتومئ إلى معنى كذا، فإذا نظرْنا في كلام أهل اللغة، لم نجد عالمًا منهم قال بهذا القول الذي يزعمونه، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه : الآية 5]: المعطلة يقولون: {استوى}، بمعنى: (استولى)، وأهل اللغة واللسان العربي لا يعرفون {استوى} بمعنى (استولى)، فالمعطلة جهلة بأمر الله، جهلة باللغة العربية، كذبة في النقل.(3/57)
ثم إن ردَّ المعطلة الأمرَ إلى اللغة يقتضي تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم من أعلم الناس باللغة، وأفهمهم لمعانيها، ولم يفعلوا فعل المؤوِّلين المحرفين الذين يتلاعبون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدَّعون أنَّ ذلك ممَّا توجبه اللغة، فلو كان ذكر الساق في حق الله يعني به الشدَّة، أو القدم يعني به الموضع، أو الضحك يعني به الرضى، لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا لأهمية هذا الباب، ولما أحال الأمة على فهومهم، مع تباينها واختلافها.
والحاصل أنَّ الأصل في الكلام عند جميع العقلاء يراد به الحقيقة، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل.
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: "وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة": يقال عنه:
إن من أثبت لله تعالى الساق والقدم إنما أثبتهما بأدلة جلية نقلية من الكتاب والسنة، فالكتاب دلَّ على أن لله ساقًا، فيجب إثباته لله تعالى دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، والسنة أيضًا دلَّت على إثبات الساق والقدم لله تعالى، وهاتان الصفتان من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى.
وهذا قول جميع علماء السلف، فلا أعلم بينهم نزاعًا في إثبات هاتين الصفتين، وكذلك سائر ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن زعم أنَّ إثبات الساق والقدم لله تعالى تجسيم، فقد أعظم على الله الفرية، وقال ما لا علم له به، وهذا أصل الضلال:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: الآية 33].(3/58)
وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: الآية 36].
وليس - ولله الحمد - فيما وصف اللهُ به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيه ولا تجسيم، إنَّما التشبيه في نفي صفات الله تعالى ووصفه بالعَدَمِ، كما عليه أهل التعطيل، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقِّبون أهل السنة الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وعضوا عليها بالنواجذ بالمجسمة والمشبهة.
فإذا كان وصف الله جلَّ وعلا بالساق والقدم والصورة والوجه والسمع والبصر والعينين تشبيهًا، فمرحبًا بالتشبيه، فالأسماء لا تغير الحقائق عندنا.
ولكن معاذ اللهِ أن يكون وصف الله بذلك تشبيهًا، إنما التشبيه أن يقال: قدم كقدمي! وساق كساقي! ويدٌ كيدي! والسلف ينكرون هذا ويكفِّرون قائله، أمَّا إثبات الصفات لله تعالى على ما يليق به مع نفينا لصفاته أن تكون مماثلة لصفات المخلوقين، فهذا مسلك الأنبياء والمرسلين.
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، ص 160-180) .
شبهات دعاة تغريب المرأة
الشبهة(1):تركيب المرأة الجسدي يعارض دعوتهم للمساواة التامة(3/59)
أثبتت الدراسات الطبِّية المتعددة أن كِيان المرأة النفسي والجسدي قد خلقه الله تعالى على هيئةٍ تخالف تكوين الرجل، وقد بُنِي جسم المرأة ليلائم وظيفة الأمومة ملاءمةً كاملةً، كما أن نفسيتها قد هُيِّئَت لتكون ربة أسرةٍ وسيدة البيت وقد كان لخروج المرأة إلى العمل وتركها بيتها وأسرتها نتائج فادحةً في كل مجال. ويقول تقرير هيئة الصحة العالمية الذي نُشِر في العام الماضي أنَّ كل طفلٍ مولودٍ يحتاج إلى رعاية أُمِّه المتواصلة لمد ة ثلاثِ سنواتٍ على الأقل. وأن فُقْدانَ هذه الرعاية يؤدي إلى اختلال الشخصية لَدَى الطفل كما يؤدي إلى انتشار جرائم العُنف الذي انتشر بصورةٍ مُرِيعةٍ في المجتمعات الغربية وطالبت هذه الهيئة المُوَقَّرة بتفريغ المرأة للمنزل وطلبت من جميع حكومات العالم أن تُفَرِّغ المرأة وتًدْفع لها راتباً شهرياً إذا لم يكن لها من يَعُولُها حتى تستطيع أن تقوم بالرعاية الكاملة لأطفالها.
وقد أثبتت الدراسات الطبية والنفسية أن المَحاضِن ورَوْضات الأطفال لا تستطيع القيام بدَوْر الأم في التربية ولا في إعطاء الطفل الحنانَ الدافِق الذي تُغذيه به.
الاختلاف على مستوى الخلايا:
إن هيكل المرأة الجسدي يختلف عن هيكل الرجل، بل إن كل خلية من خلايا جسم المرأة تختلف في خصائصها وتركيبها عن خلايا الرجل. وإذا دقَّقْنا النظر في المِجْهَر لَهَالَنا أن نجد الفروق واضحةً بين خلية الرجل وخلية المرأة.. ستون مليون خلية في جسم الإنسان ومع هذا فإن نظرةً فاحصةً في المجهر تُنْبِئُك الخَبَر اليقين: هذه خلية رجل وهذه خلية امرأة، كل خليةٍ فيها مَوْسُومَةٌ بِمَيْسِم الذُّكورة أو مَطْبوعةٌ بطابع الأنوثة.(3/60)
وفي الصورة التالية نرى الفروق واضحةً بين خلية دمٍ بيضاءَ لرجلٍ وأخرى لامرأةٍ كما نرى الفرق جَلِياً بين خلية من فمِ امرأةٍ وخليةٍ من فَم رجلٍ، ثم ننظر في الصورة على مستوى أعمق من مستوى الخلايا إلى مستوى الجُسيمات الملونة (الصِّبغيات أو الكروموسومات). هذه الجسميات الملونة موجودةٌ في كل خليةٍ وتُقاسُ بالانجستروم (واحد على بليون من الميليمتر) في ثَخانتها وهي موجودةٌ على هيئة أزواجٍ؛منها واحدٌ مسؤول عن الذكورة والأنوثة.
ففي خلية الذكر نجد هذا الزوج كما هو مُوَضَّح في الصورة على هيئة x y بينما هو في خلية المرأة على هيئة xx والصورة التالية تُوضح هذه الفروق الثلاثة.
إنَّ الجُسَيم المُلَوِّن (صبغ) للذكورة يختلف في شكله المُمَيَّز عن صِبغ الأنوثة، بل ولا يقتصر الاختلاف على الشكل والمظهر إنما يتعداه إلى الحقيقة والمَخْبَر فصبغ الذكورة قصيرٌ سَميكٌ بالنسبة لِصِبغ الأنوثة ومع ذلك فهو يجعل الخلية الذكرية أكثر نشاطاً وأقوى شكِيمةً وأكثر إقداماً مِن شقيقتها الأنثوية.
الاختلاف على مستوى النطفة:
وإذا سِرنا في سُلَّم الفروق وارتفعنا إلى مستوى الخلايا التناسُلية سنجد الفرق شاسِعاً والبَوْنَ هائلاً بين الحيونات المنوية (نُطْفَةُ الرجل) وبين البُوَيضة (نُطفة المرأة).(3/61)
تُفْرِز الخِصْية مئات الملايين من الحيونات المنوية في كل قَذْفَةِ مَنِيِّ بينما يُفْرِز المِبْيَض بُوَيضة واحدةً في الشهر. ونظرةٌ فاحصةٌ لخصائص الحيوان المَنَويِّ الذي يُقاس بالميكرون (واحد على مليون من المليمتر) تجعلنا. نُوْقِن بأنه يُجَسِّد خصائص الرجولة. بينما نرى البويضة تُجَسد خصائص الأنوثة. فالحيوان المنوي له رأسٌ مُدَبَّبٌ وعليه قُلُنْسُوةٌ مُصَفَّحةٌ وله ذَيْلٌ طويلٌ وهو سريع الحركة قوِيُّ الشَّكيمة لا يَقِرُّ له قَرارٌ حتى يصل إلى هدفه أو يموت. بينما البويضة كبيرة الحجم (1/5، ميليمتر) وتُعْتَبر أكبر خليةٍ في جسم الإنسان الذي يحتوي على ستين مليون خلية. وهي هادئةٌ ساكنةٌ تَسير بِدَلالٍ وتَتَهادَى باختيالٍ وعليها تاجٌ مُشِعٌّ يدعو الراغبين إليها وهي في مكانها لا تَبْرَحُه ولا تُفارقه، فإن أتاها زوجها و إلا ماتت في مكانها ثم قذفها الرحم مع دم الطَّمْثْ.
وإذا دقَّقْنا النظر في قطرةٍ صغيرةٍ من مَنِيِّ الرجل تحت المجهر لهالنا ما نرى.. مئات الملايين من الحيوانات المنوية تَمْخُرُ عُبابَ بَحْرِ الَمِنِّي المُتلاطِم وهي تَضرِب بأذْيالها لِتَجْري في طريقها الشاق الطويل الوَعِر المَحْفُوف بِالمَفَاوِز والمَخاطر حتى تصل إلى البويضة، وفي أثناء هذه الرحلة الشاقة الهادِرَة تموت ملايين الحيوانات المنوية ولا يصل إلى البويضة إلا بضع مئات.(3/62)
وهناك على ذلك الجدار تقف هذه الحيوانات تنتظر أن يُؤْذَن لها بالدخول وتتحرك يَدُ القُدْرة الإلهية المُبْدِعة فَتُبْرِز كُوَّةً في جِدار البويضة أما حيوانٍ مَنَوِيٍّ قداختارته العناية الإلهية لِيُلَقِّحَ تلك الدُّرة المَكْنُونة ويَلِج الحيوان المنوىُّ سريعاً إلى هذه الكُوَّة والفُرْجة لِيَقِف وجهاً لِوجهٍ أما م البويضة.. وهناك يُفْضِي لها بِمَكْنون سِرِّه ويُعْطِيها أسرار الوراثة وتُعْطِيه. ويتَّحِدان لِيُكَوِّنا النُّطفةَ المِشاج التي يَخْلُق الله سبحانه وتعالى منها الإنسان كاملاً.
الاختلاف على مستوى الأنسجة والأعضاء:
وإذا ارتفعنا من مستوى الصبغيات (الكروموسومات) والخلايا إلى مستوى الأنسجة والأعضاء وجدنا الفروق الهائلة الواضحة لكل ذي عَيْنَين بين الذكورة والأنوثة.. فَعَضَلات الفَتَى مَشْدودةٌ قويةٌ وهو عَريض المِنْكَبَين واسعُ الصدر ضيِّق البطن صغير الحَوْض نِسْبِياً, لا أرْدافَ له ولا عَجُز كبير.. يَتَوَّزع الدُّهن جِسْمه توزيعاً عادلاً وطَبَقة الدُّهن في الغالب الأعَمِّ محدودةٌ بسيطةٌ.. وينمو شَعْرُ العَانَة مُتَّجِهاً نَحْوَ السُّرَّة كما ينمو شَعْر عُذارِيه وينمو شَعْر ذَقْنِه وشارِبِه ويَغْلُظُ صوتُه ويُصْبُح أَجَشَّ.. بينما نجد عضلات الفتاة "رقيقةً ومَكسوةً بطبقةٍ دُهْنيةٍ تُكْسِبُ الجسم اسْتِدارةً وامتلاءً مَرْغوبًا فيه خالياً من الحُفَر والنُّتُوءات الواضحة المُتعاقِبة التي لا ترتاح العَين لرُؤيتِها" كما يقول أستاذ علم التشريح الدكتور شفيق عبد الملك في كتابه مبادئ علم التشريح ووظائف الأعضاء ويواصل الدكتور شفيق كلامه فيقول:(3/63)
"و لا تقتصر هذه الطبقة الدهنية على استدارة الجسم وستر ما يَعْتَوِرُه من حُفَرٍ أو نُتُوءاتٍ بل إن بعض المناطق الخاصة تَحْظَى بِنَصيبٍ وافرٍ منها مِثْل: الثدْيَين اللَّذَين يَكْبُران ويستدِيرانِ ويتخذُ كل منهما شكل نِصف كُرة، وكذلك منطقة الزَّهْرة والإِلْيتان وكما يستدير الفَخِدان و غيرهما من مواضعَ خاصة. ويَتَّسع الحَوض مُتَّحِذاً شكلاً مناسباً يتَّفق مع العمل الذي خصِّص له ويكتمل نُمُو أعضاء التناسل الباطنة كالرحم والمِبْيض الذي يقوم بعملية الابياض السابقة للطمث وكذلك الأعضاء التناسلية الظاهرة كالشَّفَرَين الكبيرين ويتخذ كل منهما شكله وحجمه وقُوامه وبُنْيانه ومَوْضِعه في البالغ ,ويظهر الشَّعر في منطقَة الزهرة والإبطين ويَنْعَم الصوت بعد أن كان مصْبوغاً بصِبغةِ الطفولة.
وغرض كل هذه التغييرات في الفتاة اكتساب جمال المنظر ورشاقة القَوام ونَضَارة الطَّلْعة مما يتفق مع حُسْن ونُعُومَة ونَضَارة الأنوثة؛وكلها عوامل قويةٌ للإغراء".
وتختلف الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة اختلافاً يعرفه كل إنسان فللمرأة رحِمٌ مَنوطٌ به الحمل فإن لم يكن حملٌ فَدَوْرَةٌ شهريةٌ وطَمْثٌ (حَيْضٌ) حتى تَحْمَل أو تتوقف الحياة الجنسية للمرأة. وللمرأة أثداء لها وظيفة جمالية كما لها وظيفة تَغْذِية الطفل منذ وِلادته إلى فِطامِه بأحسن وأنظف وألْيَق غذاء.. ليس هذا فحسْب ولكن تركيب العظام يختلف في الرجل عن المرأة في القوة والمتانة وفي الضِّيق والسَّعَة وفي الشكل والزاوية.
وإذا نظرنا لحوض المرأة مثلاً وجدناه يختلف عن حوض الرجل اختلافا كبيراً يقول الدكتور شفيق عبد الملك أستاذ التشريح ما يلي:(3/64)
"يمتاز حوض السيدة عن حوض الرجل بالنسبة لِقِيامه بوظيفة ٍهامَّةٍ إِضافيةٍ تتَطَلَّب منه بعض الضَّروريات اللازمة التي لا يحتاج إليها حوض الرجل.. فَنُمُو الجنين في الحوض وطُرُق تَغْذِيتِه وحِفْظه ثم مُرورِه بتجويفِ الحوض ومِن مَخْرَجِه وقْتَ الولادة مما يستلْزِم بعض التغييرات والتعديلات التي يَسْهُل معها اتمام الولادة بالنسبة للاُم والطفل, وتنْحَصر كل هذه التغييرات في أن يكون تجويف حوض السيدة أوسع وأقْصَر، وأنْ تكون عِظامه أرَقَّ وأَقَلَّ خُشونةً وأبْسَطَ تَضاريساً ,ثم يَذكر الدكتور 19 فرقاً بين حوض الرجل والمرأة ينبغي على طالب الطب أن يحفظها ويَعِيَها، ويَخْتِم ذلك بقوله:
"وإن تكن رِقَّة العِظام ونُعومتها وبساطة تضاريسها وصِغَر شَوْكاتها وقلة غَوْر حُفَرِها ظاهرةً جَلِيةً في أكثر عظام الهيكل في المرأة غير أنها تَتَجَلَّى بأوضح شكلٍ في عظام الحوض للأنثى التي بلا نزاع تُشارك صفات عظام الهيكل الأخرى بقِسْطٍ وافرٍ في صفاتها المُمَيِّزة للأنوثة زيادةً على تَكَيُّفِها @ النَّوْعِيِّ الخاص بما يُناسب ما يتطلب منها القيام بعمل تنفرد به دون غيرها من عظام الهيكل".
وخلاصة القول:أن أعضاء المرأة الظاهرة والخفية وعضلاتها وعظامها تختلف إلى حدٍ كبيرٍ عن تركيب أعضاء الرجل الظاهرة والخفية كما تختلف عضلاته وعظامه في شدتها وقوةِ تَحَمُّلها.
وليس هذا البناء الهَيْكلي والعُضوي المُخْتَلف عَبَثَاً إذ ْليس في جسم الإنسان ولا في الكون شئٌ إلاَّ وله حِكْمَةٌ سَواء علِمناها أم جهِلناها، وما أكثرَ ما نجهل وأقل ما نعلم.(3/65)
والحكمة في الاختلاف البَيِّن في التركيب التشريحي والوظيفي (الفسيولوجي) بين الرجل والمرأة هو أن هيكل الرجل قد بُنِيَ لِيَخْرُج إلى مَيْدان العمل لِيَكْدَح ويكافح وتَبْقَى المرأة في المنزل تؤدي وظيفتها العظيمة التي أناطَها الله بها؛وهي الحمل والولادة, وتربية الأطفال ,وتهيئة عِشِّ الزَّوْجية؛ حتى يَسْكُن إليها الرجل عند عودته من خارج المنزل. +وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً".
والفرق تراه في الرجل البالغ والمرأة البالغة كما تراه في الحيوان المنوي والبويضة. البويضة ساكنةٌ هادئةٌ لا تتحرك إلا بمقدار ٍوعليها التَّاج المُشِع، والحيوان المنوي صاروخٌ مُصَفَّح وقَذِيفةٌ تَنْطَلِق عَبْر المخاطر والمَفاوِز لِتفوز بِغَرضها وغايتها أو تموت.. ليس ذلك فحسب بل ترى الفرق في كل خليةٍ من خلايا المرأة وفي كل خليةٍ من خلايا الرجل. تراه في الدَّمِ والعظام، تراه في الجهاز التناسلي، تراه في الجهاز العَضَلِي وتراه في اختلاف الهُرمونات هرمونات الذكورة وهرمونات الأنوثة وتراه بعد هذا وذاك في الاختلاف النفسي بين إقدام الرجل وصلابته وخَفَر المرأة ودلالها.
وإذا أردنا أن نَقْلِب الموازين، وكَمْ مِن موازين قد قلبناها، فإننا نُصادِم بذلك الفِطرة التي فَطَرنا الله عليها ,ونُصادِم التكوينَ البَيُولوجي والنفسي الذي خلَقنا الله عليه..
وتكون نتيجة مُصادَمة الفِطرة وتَجَاهُل التكوين النفسي والجسدي للمرأة وبالاً على المرأة وعلى المجتمع, وسُنَّةُ اللهِ ماضيةٌ +وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً".
فروق أخرى جسدية ونفسية بين الذكر والأنثى :(3/66)
إنَّ الفُروق الفسيولوجية (الوظيفية) والتشريحية بين الذكر والأنثى أكثر من أن تُحْصَى وتُعَدُّ.. فَهيَ تَبتدئ بالفروق على مستوي الصِّبْغِيات (الجُسَيمات المُلونة أو الكروموسومات) التي تتحكم في الوراثة.. والتي تَدِقُّ وتَدِقُّ حتى أنَّ ثَخَانَتها تُقاس بالأنجستروم (واحد على بليون من الملميتر)... وترتفع إلى مستوى الخلايا وكل خلية في جسم الإنسان تُوضِح لك تلك الحقيقة الفاصلة بين الذكورة والأنوثة.. تتجلى الفروق بأوضح ما يكون في نُطْفة الذكر (الحيونات المنوية) ونطفة المرأة (البويضة)... ثم ترتفع الفروق بعد ذلك في أجهزة الجسم المختلفة من العظام إلى العَضَلات... وتتجلَّى بِوُضوحٍ في اختلاف الأجهزة التناسلية بين الذكر والأنثى... ولا تقتصر الفروق على الجهاز التناسلي وإنما تشمل جميع أجهزة الجسم.. ولكنها تَدِقُّ وتَدِقُّ في بعض الأجهزة وتتضح في أخرى.. وجهاز الغُدَد الصَّمَّاء هو أحد الأجهزة التي تتجلى فيها الفروق كأوضح ما يكون... فهُرْمونات الذُّكورة تختلف عن هُرمونات الأنوثة في تأثيرها اختلافاً كبيراً رغم أن الفرق الكيماوِيَّ بسيطٌ ويتَمثَّل في زِيادةِ ذَرَّةٍ من الكربون وثلاثة ذراتٍ من الهيدروجين cH3 إلى التركيب الجزئي molecular structure في هرمون الأنوثة..
وهذه ملاحظة أخرى هامة أشار إليها القرآن الكريم " وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ".
فهُرمون الذُّكورة يُساوي هُرمون الأنوثة (مجموعة مثيلية) وكذلك الجهاز التناسلي للرجل يساوي الجهاز التناسلي للمرأة @ أعضاء إضافية.(3/67)
وفي أثناء تكوين الجنين في مراحله الأولي يكون جنين الذكر مشابهاً في أوَّل الأمر لجنين الأنثى ويَصْعُب التفريق بينهما إلا على مستوى الصِّبغيات (الكروموسومات)... ولكن سُرْعان ما تتميز منطقة في المخ تُدْعَى تحت المِهاد Hypothalamus لَدَى الجنين الذَّكر عن مثيله الجنين الأنثى.. وهذه الإضافة والزيادة فى مُخ جنين الذكر تؤدي إلى الفروق الهائلة فيما بَعْد بين الجهاز التناسلي للذكر والجهاز التناسلى للانثى.. كما يؤدى إلى الفروق الهائلة بين غُدد الذكر الصَّماء وغدد الأنثى..... وتؤثر هذه الغدد على مختلف أنشطة الجسم وعلى هيكله أيضاً.. ومن ثَمَّ يختلف بِناءُ هيكل الذكر عن بناء هيكل الأنثى كما تختلف الوظائف تبعاً لذلك.. والسبب في تَمَايُز منطقةِ تحت المِهاد من المُخ بين جنين الذكر وجنين الأنثى هو هُرمون التستسرون الذي تُفْرِزُه مَشِيمَةُ الجنين الذكر... ثم تنمو الغُدة التناسلية وتؤثر بالتالي على المنطقة المُخِّية تحت المهاد" (578).
ومن الغريب حقاً أن هيكل البناء يُصَمَّمُ أساساً على هيكل الأنثى فإذا وجد صبغ الذكورة (كروموسوم الذكورة) فإنه يُضيف إلى ذلك الكِيان إضافاتٍ تجعل النهاية ذكراً. أما إذا اختفى هذا الكروموسوم الهامُّ من تركيب البويضة المُلَقَّحة كما يَحْصُل في بعض الحالات النادرة التي تُرِينا قُدرة المولى عزَّ وجَلّ فإنّ النتيجة النهائية هي جسم امرأةٍ وإنْ كانت ناقصة التكوين ففي حالة ترنر Turner Syndrome فإن البويضة المُلَقَّحة تحتوي فقط على كُرومُوسوم x فلا هي أنثى مُحْتوية على xx ولا ذكرٌ محتويةٌ على xy.. فماذا تكون النتيجة؟(3/68)
تكون النتيجة أنثى غير أنها لا تَحِيض ولا تَحْمَل ولا تَلِد... أما إذا كانت نتيجة التلقيح مثلاً xxy كما يحْصُل في حالة كلينفلتر Kleinfelter Syndrome فإن الطفل المولود يكون ذكراً رغم وجود صِبغيات الأنوثة بصورةٍ كاملةٍ.. وإنْ كان ذكراً ضعيفَ الهِمَّة بارِد الشَّهْوة خائرَ العزيمة... وذلك لِتَراكُم صِبغ الأنوثة فيه..
أما إذا زاد صِبْغُ الذُّكورة في البويضة المُلَقَّحَة وصار حاصلها الكروموسومي xyy أي أن بها صِبغين (كروموسومين) كاملين من أصباغ الذكورة فإن النتيجة تكون ذكراً قويَّ الشكِيمة شديدَ البأْس كثيرَ العُدْوان.. حتى أن الفُحوصات التي أُجْرِيَت لأعْتَى المُجْرِمين في السجون وأشدِّهم بأساً وإِقداماً أظْهَرَتْ أنَّ كثيراً منهم كانوا ممن لديهم زيادةٌ في صِبغ (كروموسوم) الذكورة!!.
ولعَله لو فُحِص الرجال المشهورون في التاريخ بزيادة الشجاعة والإقدام والرجولة والخشونة لَرُبما وجدنا أن ذلك مَرْجِعُه في كثيرٍ من الحالات إلى زيادة صبغ الذكورة y لدى هؤلاء المَوْصُوفين بزيادة جُرْأتهم وإقدامهم سَواءَ كان ذلك في مجال الخير أو في مجال الشر.
والفرق بين رجلٍ وآخر من حيث الإقدام وصفات الرجولة يرجع في بعض الأحيان إلى زيادة هرمون الرجولة لَدى هذا وقِلَّته النِّسْبية لَدى ذاك.
ونظرةٌ إلى المَخْصِيِّين الذين تَمَّ خَصْيُهُم قَبْل البُلوغ تُرِينا كيف تَتَحَول رجولتهم إلى الأنوثة... ولا ينبت شَعْرٌ عِذارِى المَخْصِيِّ وذَقْنِه وشارِبه.. ويَتَوَزع الدُّهن بنفس الطريقة التي يتوزع فيها في الأنثى... أي في الأرْدافِ والعَجُز... وتَلين عِظامه وتَرِقُّ... ويَبْقَى صوتَه رخيماً على نَبْرة الطفولة دون أن تُصيبَه غِلظة الرجولة وخُشونتها.(3/69)
أمَّا أولئك الذين أُخْصُوا بَعْد البلوغ فإنَّ علامات الرُّجولة سُرعان ما تَنْدثِر ويسقُط شَعر الذَّقن والشارِب ولا يعود إلى النُّمُوِّ ثانيةً. وتبدأ العضلات في التَّرَهُّل... كما تبدأ الصفات الأنثوية والنفسية في الظهور لأول مرة..
الأبحاث العلمية الحديثة تفضَح دَعْوَى التَّماثُل الفكري بين الجنسين:
وفي مقالٍ نَشَرَتْه مجلة الريدرز دايجست الواسعة الانتشار في عدد ديسمبر 1979 تحت عنوان "لماذا يفكر الأولاد تفكيراً مختلفاً عن البنات" وهو مُلَخَّص لكتاب "الدماغ: آخر الحدود" للدكتور ريتشارد ديستاك "The Brain: The Last Frontier" جاء ما يلي:
"إن الصِّبْيان يفكرون بطريقةٍ مُغَايرةٍ لتفكير البنات رغْم أن هذه الحقيقة الناصِعَة ستصْدُم أنصار المرأة والدَّاعِين إلى المساواة التامَّة بين الجنسين.. ولكن المساواة الاجتماعية في رَأْيِنا تعتمد على مَعْرِفة الفروق في كيفية السلوك ومعرفة الفروق بين مخ الفتى ومخ الفتاة.
وفي الوقت الحاضر فإن الفروق بين الأولاد والبنات التي لاحظها الآباء والمعلمون والباحثون على مدار السنين تتجاهَل تجاهُلاً تامَّاً ويُقَدَم للطلبة والطالبات منهجٌ دِراسيٌّ مُتَمَاثل.
إنَّ طُرَقَ التدريس في المدارس الابتدائية تُلائم البنات ِأكثر مما تلائم الأولاد ولِذا فهُم يُعانون في هذه المرحلة.. أمَّا في المراحل التي تَلِيها حتى الجامعة فَهِي تُلائم الفتيان أكثر مما تلائم الفتيات..
ويعتقد الباحثون الاجتماعيون أن الاختلاف في سلوك الأولاد عن البنات راجعٌ إلى التوجيه والتربية في البيت والمدرسة والمجتمع و التي ترى أن الولد يجب أن يكون مِقداماً كثيرَ الحركة بل وتَقْبَل مِنْه أيَّ سُلوكٍ عُدْوانيٍّ بِهَزِّ الكَتِفَين ,بينما ترى في الفتاة أن تكون رقيقةً هادئةً لطيفةً.(3/70)
ولكن الأبحاث العلمية تُبَيِّن أن الاختلاف بين الجنسين ليس عائداً فحسْب إلى النَّشْأة والتربية وإنما يَعود أيضاً إلى اختلاف التركيب البيوليجي وإلى اختلاف تكوين المخ لدى الفتى عن الفتاة.
وحتى لو حاول الداعون إلى المساواة المُطْلَقة بين الفتى والفتاة أنْ يُنْشِّئوهما على نفس المنهج حتى لَتُعْطِى لِعَب المُسَدْسات وآلات الحرب للفتيات وتُعطِى العَرائس للأولاد فإن الفروق البيولوجية العميقة الجذور ستفرِضُ نفسها وتؤدي إلى السلوك المُغَايِر بين الفتى والفتاة.
ولقد أدرك العلماء والباحثون عُمْق هذه الفروق فوجدوا أنَّ الطفل الرضيع يختلف في سلوكه على حسْب جِنْسه.. فالبِنت بعد ولادتها بأيام تنتبه إلى الأصوات وخاصة صوت الأم بينما الولد لا يكْتَرِث لذلك.. ولهذا فإن َّالرضيعة يمكن إخافَتُها بِإِحْداثِ صوتٍ مُفاجئٍ بأكثر مما يمكن إخافة أخيها..
وتقول الدراسة أن الطفلة تستطيع في الشهر الخامس أن تُمَيِّز بِسَهُولةٍ بين الصُّور المَعْهودة لَدَيْها.. وتبدأ الطفلة مُحاوَلَة الكلام والمُنُاغاة من الشهر الخامس إلى الثامن بينما يفشل أخوها في التفريق بين وجه إنسانٍ ووجه لُعْبَةٍ.. وتبدأ الطفلة في الحديث عادةً قَبْل أخيها.. وتتمكَّن من تَعَلُّم اللغات في الغالب أكثر من أخيها.
ويُظْهِر الأولاد تفوقاً كبيراً على البنات في الأمور البَصَرِية وفي الأشياء التي تتَطَلَّب تَوازُنًا كاملاً في الجسم.. ويقوم الطفل الذَّكر بالاستجابة السريعة لأيِّ جسم متحركٍ أوْ لأيِّ ضَوْءٍ غَمَّاز كما أَنه يَنْتَبِه إلى الأشكال الهندسية بِسُرعة أكبر من أخته وله قدرةٌ فائقةٌ على محاولة التَّعَرُّف عليها وتفكيكها..
وفي سِنِّ الصِّبا فإنَّ الأولاد يتُوقُون إلى التَّعَرُّف على بيئاتهم ويَنْتَقلون بكَثْرةٍ من مكانٍ إلى آخر لاكتشافها بينما تَمِيل البنات إلى البقاء في أماكنهم..(3/71)
ويستطيع الأولاد التصرف بِمَهارةٍ أكبرَ في كل ما يتعلق بالأشكال الهندسية وفي كل ما له اتجاهاتٌ ثُلاثية "Three Dimensional objects" وعندما يُطْلَب مِن الولد أن يُكَوِّن شكلاً مُعَيَّناً من وَرَقٍ مُقَوّى مَثَلاً فإنه يتفَوَّق على أخته في ذلك تفَوُّقاً كبيراً.
وما يُعْتَبَر اكتشافاً مُذهِلاً هو؛أن تخزين القدُرات والمعلومات في الدِّماغ يختلف في الولد عنه في البنت.. ففي الفتى تتجمَّع القُدُرات الكلامية في مكانٍ مختلفٍ عن القدرات الهندسية والفراغية بينما هي موجودةٌ في كِلا فَصَّي المُخ لَدَى الفتاة ومعنى ذلك أن دماغ الفتى أكثر تَخَصُّصاً مِن مُخ أخته.
ولعل هذه الحقائق المُكْتَشَفَة حديثًا تُفَسِّر ولَو جُزْئِياً؛لماذا نرى أغلب المهندسين المِعْمارِيِّين من الذكور دون الإناث.. وقد كان أول من اكتشف هذه الحقيقة الباحث النفسي لانسدل من المعهد القومي للصحة في الولايات المتحدة عام 1962 ثم أَكَّد هذه الأبحاث كثيرون؛منهم أُستاذة علم النفس في جامعة مكماستر بكندا ,الدكتورة, ساندرا ويلسون.
ولهذا نجد أن اختبارات الذكاء تُرِينا تساوياً بين الفتى والفتاة ما عدا فَحْصَين منهما... وهما فَحْص ترتيب الصور والفراغات بين الأصابع Picture arrangment and digial span فإنهما يُرِيانا تفوُّقاً كبيراً في صالح الأولاد على البنات.
ولهذا فإن فحْص الذكاء في مجموعةٍ يؤدي دائمًا إلى تَفَوُّق الأولاد على البنات.
ويقول أستاذ علم النفس في جامعة جورجيا البروفسور توراناس "إن المساواة بين الجنسين تُشَكِّل عَقَبَةً كَأْداءَ في القدرات الخَلاَّقة. فالقُدرات الخلاَّقة لَدَى الفتاة تحتاج إلى الحساسية والصفات الأنثوية بينما تحتاج في الفتى إلى الاستقلالية وصفات الرجولة".
وتقول الدراسة إنَّ أغلب الأولاد يَمِيلون إلى كثرة الحركة وشئٍ من العُنْف بينما أكثر الفتيات إلى السَّكِينة والهدوء وقِلَّة الحركة.(3/72)
إن هذه الدراسات احصائية وتتحدث عن الجنسين على صورة العُموم ولكنها ليست شخصيةً: أيْ أنها لا تتحدث عن هذا الشخص أو ذاك وإنما تتحدث عن المجموع والصبغة الغالبة..
وإمْكانِية أنْ يَشُدَّ فردٌ من هذا الجنس أو ذاك عن القاعدة أمرٌ لا يُلْغِي القاعدة في ذاتها.
وعلينا أن لا نتجاهل الحقائق العلمية البيولجية فنحاول أن نجعل تربية الفتى مماثلةً لتربية الفتاة, ودورَ الفتى في الحياة مماثلاً لِدَورِ الفتاة لأننا فقط نرغب في ذلك... فهذا التفكير المَيْنِيُّ على الرغبات Wishful Thinking يُصادِم الحقائق العلمية".
ا ه- مقال الريدرز دايجست
وقد أثبتت الأبحاث الطبية أن دماغ الرجل أكبر من دماغ المرأة وأن التلافيف الموجودة في مخ الرجل هي أكثر بكثيرٍ من تلك الموجودة في مخ المرأة.
وتقول الأبحاث أن المقدرة العقلية والذكاء تعتمدان إلى حد كبير على حجم ووَزْن المخ وعدد التلافيف الموجودة فيه.
فالانسان يُعْتَبَر صاحب أكبر دماغ بين جميع الحيوانات بالمُقارَنة مع حجم ووزن جسمه.. وتلافيف مُخِّه أكثر بكثير مما هي عليه في أي من الحيوانات الدنيا أو العليا.
وقد يقال إنَّ وزن وحجم المخ يعتمد على وزن وحجم الشخص.وهذا صحيح فإن مخ الفيل أكبر من مخ الإنسان ولكن مخ الفيل بالنسبة لوزنه وحجمه ضئيلٌ جداً.. وأما مخ الإنسان فإنه كبير بالقياس إلى جسمه ومقارنته ببقية الحيوانات.
وحتى لو أخذنا هذه الحقيقة في الحُسْبان فإن دماغ الرجل سيَظَل أكبر وأثْقَل وأكثر تلافيفاً من دماغ المرأة.
ويزيد مخ الرجل في المتوسط عن مخ المرأة بمقدار مائة جرام... كما يزيد حجمه بمعدل مائتي سنتيمتر مكعب. ونسبة وزن مخ الرجل إلى جسمه هي 1/40 بينما نسبة مخ المرأة إلى جسمها تبلغ 1/44 فحسْب.
ولعل في هذا دليلاً على ما ورد في الحديث النَبَوِيِّ الشَّريف مِن نُقْصان عَقْل المرأة بالنسبة للرجل.(3/73)
وجعل الله سبحانه شهادة المرأتين مساويةً لشهادة رجلٍ واحدٍ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[البقرة 281].
هذه الفروق كلها تؤكد إعجاز الآية{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } وليست الدرجة مُقْتَصِرةً فقط على التركيب البيولوجي ولكنها أيضًا تشمل التركيب النفسي... والقدرات العقلية والكلامية.. والفَنِّية ( أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ).
فإذا نَظَرْتَ في التاريخ وجدت النابغين في كل فَرْعٍ من فروع المعرفة والاختراع والحياة من الرجال لا يَكاد يُحْصِيهم مُحْصٍ... بينما النابغات من النساء في أي مجال من مجالات المعرفة أو الاختراع محدودات معدودات وتستطيع أن تَذْكُر المئات من الرجال في كل فنٍّ من فنون المعرفة.. وفي قِيادة الجيوش وفي الاختراعات وفي الصناعة وفي المال والاقتصاد.. ولكنه سيَعْسُر عليك أنْ تَعُدَّ العشرات من النساء في أي من هذه الفنون المختلفة من المعارف الإنسانية والصناعات والاختراعات... وتستطيع أن تعد عشرات الأنبياء والمرسلين وهم صفوة البشر.. ولكنك لا تستطيع أن تَجِدَ واحدةً تَتَّصفُ بصفات النُّبُوة والرسالة... رغم عِظَم بعض هؤلاء النساء من أُمَّهات الأنبياء وزوجاتهم وبناتهم... فمَرْيَمُ العَذْراءُ سَيِّدَة النساء في زمانها... وفاطمة الزَّهْراء سيدة نساء العالمين... لا يُضَارِعُهُنَّ أحدٌ من النساء.. ونِعالُ الواحدةِ منهن خيرٌ مِن آلافِ الرجال.. لكنَّ الحقيقة تَبْقَى بعد ذلك أنَّه لم تَرْقَ واحدةٌ منهن إلى مَصافِّ النُّبُوة...(3/74)
وليس هذا قَدْحاً في المرأة... فإن أعظم العباقرة يتَصاغَرُ أمام أبسَطِ الأمهات... ولا يستطيع أعظَمُ قادةِ الدنيا من الرجال أن يفْعَل ما تفعلُه أبسط النساء وأجْهُلُهُنَّ... إنه لا يستطيع أن يُنْجب طفلاً ويَحْمِلَه في بطنه تِسعة أشْهرٍ كما أَنَّه لا يُمْكِنُه إِرْضاعُه وتربيته مهما كان له من العبقرية والنُّبوغ!!
فوظيفة الأُمُومة لا يستطيع أن يقوم بها أيُّ رجلٍ مهما كان حظُّه عظيما من النُّبوغ.. ووظيفة الأمومة تتصاغر أمامها كل الوظائف الأخرى.. حتى يَجْعل الرسول الكريم الجَنَّة تحت أقدامها "الجَنَّةُ تحَتْ أَقْدَامِ الأمَّهاتِ" ويُوْصِي أصحابه وأُمَّتَه بِرِعاية الأُم بأَضْعاف ما يُوْجِبُه لِلأبِ. فعندما سُئِلَ المُصْطفى صَلوَاتُ اللهِ وسلامه عليه مِن أحَدِ أصحابه: مَنْ أحَقُّ الناسِ بِحُسْن صُحْبَتِي وبِرِّي, قال المصطفى: "أُمُّك ثُمَّ أُمُّك ثُمَّ أُمُّك ثُمَّ أَبوك ثُمَّ أدْناكَ فأدْناكَ".
وركَّز القُرآنُ الكريم على بِرِّ الوالدين وحثَّ عَلَيْهِما أَيَّمَا حَثٍّ وخَصّ الأُمَّ بِزِيادة ذكرٍ لِيُبَيِّن مَزيدَ فَضْلِها.
قال تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان] .
وقال عزَ َّمن قائل { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف] .(3/75)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [ الإسراء].
ويقول الأستاذ العقاد رحمه الله في المرأة في القرآن في فصل ِ"وللرجال عليهن درجة" "فَلَيْسَت شواهِدُ التاريخ الحاضر المُسْتَفيضة بالظاهرة الوحيدة التي تُقِيم الفارق بين الجنسين. إذ لا شك أن طبيعة الجنس أدَلُّ من الشواهد التاريخية والشواهد الحاضرة على القوامة الطبيعية التي اخْتُصَّ بها الذكورُ من نوع الإنسان إنْ لم نَقُل من جميع الأنواع التي تحتاج إلى هذه القَوامة.. فَكُلُّ ما في طبيعة الجنس الفسيولوجية في أصل التركيب يَدُلُّ على أنه علاقةٌ بين جنسٍ يُريد وجِنْسٍ يَتَقَبَّل وبين رَغْبةٍ داعيةٍ ورغبة مُسْتَجِيبَةٍ تتمثلان على هذا النحو في جميع أنواع الحيوانات التي تَمْلِك الإرادة وترتبط بالعلاقة الجنسية وقتاً من الأوقات.
وعلى وجود الرغبة الجنسية عند الذكور والإناث لا تبدأ الأنثى بالإرادة والدعوة ولا بالعِراك لِلْغلَبة على الجنس الآخر..
وليس هذا مما يَرْجع في أُصوله إلى الحياء الذي تَفْرِضه المجتمعات الدينية ويُزَكِّيه واجبُ الدين والأخلاق؛بل يُشاهَد ذلك بين ذكور الحيوان وإناثه حيث لا يُعْرَفُ حياءُ الأدب والدين. فلا تُقْدِمُ الإناث على طَلَبِ الذُّكور بل تتَعَرَّض لها لتراها وتَتَّبِعَها وتُسَيِْطِر عليها باختيارها ولا تزال الأنثى بِمَوْقِف المُنْتَظِر لِنَتِيجَةِ العِراك عليها بين الذكور لِيَظْفَر بها أقْدَرُها على انْتِزاعِها.(3/76)
وأدَلُّ مِن ذلك على طبيعة السيطرة الجنسية أنَّ الاغْتِصابَ إذا حَصَل إِنَّما يَحْصُل من الذكر للأنثى ولا يَتَأَتَّى أنْ يكُونَ هناك اغْتِصابٌ جَسَدِيٌّ من أنثى لِذَكر.. وإن غَلَبَةَ الشَّهوة الجنسية تَنْتَهِي بالرجل إلى الضَّراوة والسيطرة وتنتهي بالمرأة إلى الاستسلام والغَشْية... وأعْمَقُ من ذلك في الإبانَةِ عَن طبيعة الجنس؛أنَّ عَوَارِضَ الأنوثة تكاد تكون سَلْبِيةَّ مُتَلَقِّية في العلامات التي يُسَمُّونها بالعلامات الثانوية فإذا ضعُفَت هُرمونات الذكورة وقَلَّت إفْرازاتُها بَقِيَت بَعْدَها صفات الأنوثة غالبةً على الكائن الحي كائناً ما كان جنسه (وذلك ما هو مُشاهَدٌ عند إخصاء الذكور فتظهر الصفات الأنثوية وتضْمَحِلُّ صفات الذكورة).. ولكنَ صفات الذكورة لا تأتي وحدها إذا ضعُفَت هرمونات الأنوثة... إنما يَظْهر منها ما كان يَعُوقُه عائق عن الظهور.
ومن الطبيعي أن يكون للمرأة تكوينٌ عاطفيٌّ خاصٌّ لا يُشْبِه تكوين الرجل لأن ملازمة الطفل الوليد لا تَنْتهي بمناولَتِه الثَدْي وإرْضاعِه.. ولابُد مَعَها من تَعَهُّدٍ دائم ومُجاوَبَةٌ شُعورية تَستدعِي شيئاً كثيراً من التناسب بين مزاجها ومزاجه.. وبين فهمها وفهمه ومدارج حسه وعطفه.. وهذه حالة من حالات الأنوثة شوهدت كثيراً في أطوار حياتها من صِباها الباكِر إلى شيخوختها العالية فلا تخلو من مُشابَهة للطفل من الرضى والغضب وفي التدليل والمُجافاةِ ,وفي حُب الوِلاية والحَدْبِ مِمَّن يُعامِلها ولو كان في مِثْل سِنِّها أو سِن أبنائها..(3/77)
وليس هذا الخُلُق مما تَصْطَنِعُه المرأة أو تتركه باختيارها إذ كانت حضانة الأطفال تَتِمَّةً للرضاع تَقْتَرِن فيها أدواته الجسدية ولا تنفصل إحداهما عن الأخرى. ولا شك أن الخلائق الضرورية للحضانة وتَعَهُّد الأطفال الصِّغار أصْلٌ من أصول اللِّينِ الأُنثوي الذي جعل المرأة سريعة الانقياد للحِسِّ والاستجابة للعاطفة. ويصْعُب عليها ما يسْهُل على الرجل من تحكيمِ العقل وتَقْليب الرأْيِ وصلابة العزيمة... فهما ولا شك مختلفان في هذا المِزاج اختلافاً لا سبيل إلى المُمَاراة فيه".
تتعرَّض المرأة وتنتظرُ والرجل يطلب ويسعى والتَّعَرُّضُ هو الخُطْوَة الأُولى في طَرِيق الإغراء ,فإن لم يَكْفِ فَوَراءَه الإغْواءُ بالتَّنْبِيهِ والحِيْلَة والتَّوَسُّل بالزِّينَةِ والإيْماء. وكل ذلك مَعْناه تَحْرِيكُ إرادة الآخَرِين والانتظار".
" فإرادة المرأة تتحقق بأمرين: النجاح في أن تُرَاد والقدرة على الانتظار. ولهذا كانت إرادة المرأة سلبية في الشؤون الجنسية على الأقلِّ إنْ لم نَقُل في جميع الشؤون".
"فالإغواء كافٍ للأنثى ولا حاجة َبها إلى الإرادة القاسِرة بل مِن العَبَثِ تَزْوِيدُها بالإرادة التي تَغْلِب بها الذكر عُنْوة لأنها متى حمَلَت كانت هذه الإرادة مَضْيَعَةٌ طُوال فترة الحمْل بِغير جَدْوَى على حين أن الذكور قادرون إذا أدَّوا مَطْلَب النَّوع مرة أنْ يُؤَدُّوه مراتٍ بلا عائق من التركيب والتكوين... وليس هذا في حالة الأنثى بميسورٍ على وجهٍ من الوجوه".
وعلى هذا يعتز الرجل بأن يريد المرأة ولا تَعْتَزُّ المرأة بأن تُريدَه؛لأن الإغواء هو مِحْوَرُ المَحاسِن في النساء ,والإرادة الغالبة هي محور المحاسن في الرجال. ولذا زَوَِّدَت الطبيعة المرأة بِعِدَّة الإغواء ,وعَوَّضَتْها عَن عِدَّة الغَلَبة والعزيمة. بل جعلتها حين تُغْلَب هي الغالبة في تحقيق مَشيئة الجنسين على السَّواء".
ا.ه - كلام الأستاذ العقاد(3/78)
والفروق بين الذكر والأنثى في الجَنين من الشهر الرابع حيث تَتَميز أعضاء الذُّكورة وأعضاء الأنوثة.. وحيث يكون المخ ومنطقة "تحت المهاد" قد تَمَيَّزت كاملاً بين الجنين الذكر والجنين الأنثى.
وقد لاحظ العلماء والأطباء والمرَبُّون الاختلاف الشاسع في سلوك الطفل الذكر عن سلوك شقيقته الأنثى ولو كانا تَوْأمين.. فالصَّبي عادةً أكثر عُنفاً ونشاطاً وإدْراكاً من أخته.
وتشكو الأمهات في العادة من نَشاط أولادهِنَّ الزائد وما يُسَبِّبونه لهَنُ من متاعب وتحطيمٍ في أثاث المنزل بينما البنات في العادة هادئاتٌ..
وتَمِيل الصَّغيرات إلى اللعب بالعرائس وإلى تَسْرِيحِهِن والعناية بهن ويَقُمْن تِلْقائيًا بِدَوْر الأُم بينما يَصْعُب على الصَّبِي فِعْل ذلك وسرعان ما يَلْوِي رَقَبة العروسة إنْ أُعْطِيَت له ويُمَّزقها لِيَنْظر ما في أحشائها؟
ويعرف الآباء والأمهات الذين رزقهم الله ذُرِّيةً من الأولاد والبنات الفروق الشاسعة بين أطفالهم.. وتَقِف البنت الصغيرة أمام المرآة وتَتَدَلَّل تِلقائياً.. وكثيراً ما كنت أسمع من بناتي وهُن لم يُجَاوِزْن بعد سن الثالثة عند لِبْسها ثوباً جديداً واستعدادها للخروج مع أمها: يا بابا شُوف الجمال!!.. أو يا بابا إيه رأيك في الفستان الجميل دَه "أو يا بابا شوف التَّسريحة الحُلوة دي".
ولم يخْطُر بِبال الصبي أن يفْعَل مثل ذلك بل هو مشغولٌ منذ طفولته الباكرة باللعب بالكرة أو بِتَفكيك الألعاب التي تُهْدى له لِيَعْرف ما بداخلها.(3/79)
وتستمر الفروق تنمو يوماً بعد يوم حتى تَبْلُغ أَوَْجَ اختلافها عند البلوغ عندما تستيقظ الغُدد التناسلية من هَجْعَتِها الطويلة وتَنْشَط فَتُرْسل هرمونات الذكورة إلى الصبي ليُصبح رجلاً فينمو شعر عُذارِيه وذَقْنه وشاربه ويصبح صوته أجَشّ غليظاً... وتنمو عضلاته وعظامه وتَقْوَى.. ويتوزع الدهن في جسمه توزيعاً عادلاً.. ويكون عريض المِنْكَبين قَوِي الساعدَين مفتول الذِّراعين.. أما الفتاة فتنهَمِر عليها هرمونات الأنوثة فتنمو أثْداؤُها وأجهزتها التناسلية وتبدأ الحيض.. ويتوزع الدهن في جسمها بحيث يُخْفِي أيَّ نُتُوءٍ أو حُفْرَةٍ لا ترتاح لها العين.. ويزداد الدهن في أرْدافها وعَجُزِها.. ويَنْعُم صوتها ويَصِير رخيماً.. ليس هذا فحسب ,ولكنَّ الهرمونات تُؤَثر في السلوك كما تؤثر في القَوام والمِشْيَة فتَجعلَ الفتى مِقْداماً مُحِباً لِلْمُغامرة وتجعل الفتاة شديدة الخَفْر والحياء مَيَّالةً إلى الدَّلال والتَّغَنُّج.
وهي فروقٌ تظهر في الحيوان المنويّ والبويضة كما تَظْهر في الفتاة اليافِعَة والشاب الذي طرَّ شارِبُه.
وظائف المرأة الفسيولوجية تَعُوقُها عن العمل خارج المنزل:
وإذا نظرنا فقط إلى ما يَعْتَرِي المرأة في الحَيْض والحمل والولادة لَعَرفْنا أن خروجها إلى مجال العمل إنما هو تعطيل العمل ذاته.. كما أنه مُصادِمٌ لفِطرتها وتكوينها البيولوجي الذي لا مَنْدُوحَةَ عنه ..
(أ ) المحيض:
إِنَّ أنثي الإنسان.. والثدْيِيات العُليا مثل: القِرَدة والأورانج والشمبانزي هي التي تَحِيض ولها دَوْرَة رَحِمِيَّة كاملة.. أما بقيَّة الحيوانات فلا تحيض إناثها رغم ما يُشاع عن حَيْض الأرنب والضَّبع والخُّفاش.. فهذه جميعاً لا تحيض وإن كانت تُنْزِل دماً من أرحامها عند اهْتِياجِها الجنسيِّ الشديد.(3/80)
وللحيوانات جميعِها فترةٌ محدودة ٌللنشاط الجنسيِّ وعادةً ما يكون في فصْل الربيع بينما النشاط الجنسي للإنسان مُتَّصِلٌ على مَدار العام.. ولا تُفْرِز الإناث من هذه الحيوانات بويضاتها إلا في فترةٍ محدودةٍ من العام بينما تُفرز المرأة بُويضة مرةً في كل شهرٍ منذ البلوغ إلى سِنِّ اليأْس.. أَيْ خلال ما يَزيد على ثلاثين عاماً كاملةً.. وهي طوال هذه المُدة مُعَرَّضَةٌ لِلْحَيض في كل شهر إلا إذا وقع الحَمْل وتَتَعَرض المرأة في أثناء الحيض لآلام ومُعاناةٍ نُلَخِّصُها فيما يلي:
1) تُصاب أكثر النساء بآلام وأوْجاعٍ في أسفل الظَّهر وأسفل البطن.. وتكون آلام بعض النساء فوق الاحتمال مما يَسْتَدْعِي استدعاء الطبيب واستعمال الأدوية المُسَكِّنة للألم.
2) تُصاب كثيرٌ من النساء بحالةٍ من الكآبة والضِّيق أثناء الحيض وخاصةً عند بدايته.. وتكون المرأة عادةً مُتَقَلِّبة المِزاج سريعة الاهْتِياج قليلةَ الاحتمال.. كما أنَّ حالتها العقلية والفكرية تكون في أدْنى مُستوىً لها.
3) تُصاب بعض النساء بالصُّداع النِّصْفيِّ (الشَّقِيقَة) قُرْبَ بداية الحيض.. وتكون الآلام مُبْرِحَة وتَصْحبها زَغْلَلة في الرؤية وَقَئٌّ.
4) تُقِل الرغبة الجنسية لَدى المرأة وخاصة عند بداية الحيض.. وتمَيل كثيرٌ من النساء في فَترة الحيض إلى العُزْلة والسَّكِينة. وهذا أمرٌ طبيعيٌ وفسيولوجي؛إذْ أنَّ فترة الحيض هي فترة نَزيف دمَوِيٍّ من قُعْر الرحم.. وتكون الأجهزة التناسلية بأكملها في حالةٍ شِبْهِ مَرَضية.
5) فَقْر الدم (الأنيميا) الذي ينْتُج عن النزيف الشهريِّ إذْ تَفْقِد المرأة كِمِّية ًمن الدم في أثناء حيضها.. وتختلف الكِمِّية من امرأةٍ إلى أُخْرَي وقد قِيْسَت كِمِّيةُ الدم أثناء الحيض وزناً وحجماً فَوُجِد ما بين أُوقيَِّتَين (60 ميليليتر) وثمان أوقيات (مائتين وأربعين ميليلتر).(3/81)
6) تنخفض درجة حرارة المرأة أثناء الحيض بدرجةٍ مِئَوِيةٍ كاملةٍ.. وذلك لأن العمليات الحيوية التي لا تَكُفُّ في جسم الكائن الحيِّ تكون في أدْنَى مستوياتها أثناء الحيض. وتُسَمَّي هذه العمليات بالأَيْض أو الاستقلاب Metabolism ويَقِل إنتاج الطاقة كما تَقِل عمليات التمثيل الغذائي.. وتقل كمية استقلاب المواد النَّشوية والدهون والبروتين..
7) تُصاب الغُدَد الصَّماء بالتَّغَيُّر أثناء الحيض فتَقِل إفرازاتها الحيوية الهامة للجسم إلى أدنى مستوى لها أثناء الحيض.
نتيجةً للعوامل السابقة تنخفض درجة حرارة الجسم ويُبْطِئ النَّبْض وينخفض ضغط الدم وتُصاب كثير من النساء بالشعور بالدُّوخة والكَسَل والفُتُور أثناء فترة الحيض..
ومِن المعلوم أنَّ الأعمال المُجْهِدَة والخروج خارج المنزل ومُواجهة صِعاب الحياة تحتاج إلى أعْلى قدْرٍ من القوة والنشاط والطاقة.. فكيف يَتَأَتَّى للمرأة ذلك وهي تُواجِه كل شهرٍ هذه التغييرات الفيسيولوجية الطبيعية التي تجعلها شِبْه مريضة.. وفي أدنى حالاتها الجسَدية والفكرية..
ولَو أُصِيب رجلٌ بنَزْفٍ يَفْقِد فيه رُبْع لِتْرٍ من دَمِه لَوَلْوَل ودعا بِالوَيْل والثُّبُور وعَظائِم الأُمور وطلب أجازةً من عمله.. فكيف بالمِسْكينة التي تَنْزِف كل شهرٍ ولا يَلْتَفِتُ إليها أحد..(3/82)
وانْظُر إلى آثارِ رحْمةِ الله بالمرأة.. كيف خَفَّفَ عنها واجباتها اثناء الحيض فأعْفَاها من الصلاة ولم يُطالبها بقَضَائها.. وأعْفاها من الصوم وطالبها القضاء في أيام أُخَر وأعْفاها من الاتِّصال جِنْسيًا بِزَوْجها وأخْبَرها وأخْبَر زوجها بأنَّ الحيض أذَى وطَلب منهما أن يَعْتَزل كلٌّ منهما الآخر في الحيض قال تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (579).
(ب) الحمل:
لا تَكاد الفتاة تتزوج حتى تنتَظِر اليوم الذي تَحْمِل فيه بفارِغ الصَّبْر وتكاد تَطِير فَرَحًا عندما تَعْلَم بأنها حاملٌ لأوَّل مرَّة. ومع هذه السعادة الغامرة تبدأ الآلام والأوْجاع والوَهْن..
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [ لقمان].
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف]
يَنْقَلِب كِيان المرأة أثناء الحمل ويبدأ الحمل بالغَثَيان والقَئ.. وكثيرًا ما يكون ذلك شديدٍا وخاصة في الأشْهُر الأُوْلى من الحمل.,. وتُعْطِي الأم جَنِينَها كل ما يحتاج إليه من مواد غذائية مهْضُومةٍ جاهزةٍ حنى ولو كانت هي في أشد الحاجة إليها.. بل إن الأمر أبْعَد من ذلك.. فإنَّ الجنين يحصُل على حاجاته من دَمِ الأم ولو اضْطُّرَت الأم المسكينة أن تُعْطِيه ما يحتاج إليه من عِظامها.. حتى لَتُصاب بِلِينِ العظام وتَسَوُّس الأسنان من جَرَّاء سحْبِ الجنين للكالسيوم وفيتامين "د" من دم الأم وعظامها.(3/83)
كما أنَّ مُعْظم الأمهات يُصَبْن بفقر الدم أثناء الحمل وخاصة في النِّصْف الثاني من مدة الحمل.. وذلك لانْتِقال المُواد الهامَّة لِصُنْع الدم من الأم إلى الجنين وسحبها من أماكِنِ خَزْنِها في جسم الأم.
وفقر الدم (الانيميا) يُنْهِك الأم وإذا زادت درجَتُه فإنه يُؤَدِّي إلى هُبوطِ القلب.
ليس هذا فحسْب ولكنَّ الجنين يَسْحَب كل ما يحتاج إليه من مواد لِبِناءِ جِسْمِه ونُمُوِّه حتى ولو تَرك الأم شَبَحًا هَزيلاً.. يُعاني من لِين العظام ونَقْص الفيتامينات وفقر الدم.. وهي تفعل ذلك راضِيةً مُخْتارة.. كما تقوم الأم بأخْذِ جميع المواد السامَّة التي يُفرزها جسم الجنين وتَطْرُدها بَدَلاً عنه.
ولا تكْتَفِي الأم بكلِّ هذا بل تُعْطِي جنينها مواد المَناعَةضِدَّ الأمراض وتَمْنع عنه المَشِيمَة كلَّ ما يَضُرُّه من موادٍ موجودةٍ في دم الأم ولا تسمح لها بالمرور إلى الجنين كما أنها تَصُد عنه دخول الميكروبات إلا فيما نَدُر.
وفي الحمل يتَحَمل القلب أضْعاف أضْعاف ما يتحمَّلُه قُبَيْل الحمل.. فإنَّ عَلَيه أنْ يقوم بِدَوْرَتَيْن دَمَوِيتين كاملتين؛ دورةٌ للأم ودَورةٌ للجنين ويتحَمَّل تَبِعَات هاتين الدَّوْرتَين.. وتزداد كمية الدم التي يضُخُّها قلب الأم إلى ما يَزيد عن ضِعْفَي ما يَضُخه يوميًا (يضخ القلب قبل الحمل حوالي 6500 لتر يوميًا. أمَّا في أثناء الحمل وخاصةً قُرْبَ نهايته فَتَصِل الكِمية التي يَضُخها القلب إلى 15,000 لتر يوميًا).
وتزداد سرعة القلب ونبضاته.. ويكْبُر حجْمُه قليلاً.. وبامْتلاءِ البطْن ونُمُوِّ الجنين يَضغَط الحِجابُ الحاجز على القلب والرئتين فيُصبِح التَّنَفُّس أكثر صُعوبةً وتَشْكو الحامل من ضِيقِ التنفس والنَهَجان (580) وخاصة عندما تَسْتَلْقِي على ظَهرها..(3/84)
ويَضغَط الرحِمُ على الأوْرِدة العائدة من الساقَين فتمْتلِئُ هذه الأخيرة بالدماء وتنْتَفِخُ مُسَبِّبةً دَوَاليَ الساقَين.. كما تَتَوَّرم القَدَمان قليلاً في أَوَاخِر الحمل..
ويُصاب الجهاز الهضميُّ من أَوَّل الحمل فَيَكْثُر القَئ والغَثَيان.وتَقِل.الشهية, ثُم بعد ذلك تَزداد الحُرْقة واللَّذْع والتهابات المعدة.. كما تُصاب الحامل في العادة بالإمْساك وتَضْطَرب الغُدد الصماء في وظائفها.. وتُصاب بعض النساء بِتَوَرُّم الغدد الدَّرَقِية أثناء الحمل نتيجة نقص اليُود.
كل هذه التغيرات وأكثر منها تحدث في الحمل الطبيعي..
وفي كثيرٍ من الأحيانِ يُضاف إلى هذه المتاعب التهابات المَجَارِي البَوْلِية.. التي تزداد زيادةً كبيرةً أثناء الحمل.. مما يؤدي إلى فُقْدان البروتين (الزُّلال) من البَوْل وتَوَرِّم الأرْجُل والأقدام والوَجْه وارتفاع ضغط الدم..
وهذا الأخير يُعْتَبر أهم عاملٍ في حدوث حالاتِ تسَمُّم ِالحمل الخطيرة. لِذا فإنَّ على الحامل أنْ تَعْرِض نفسها على الطبيب مرةً كل شهر لمِتُابعة حالتها وفي أشْهر الحمل الأخيرة ينبغي أنْ يراها الطبيب مرة كل أُسبوعَين..
ولن نتحدَّث عن حَمْل التَّوائِمِ ومُضاعفاتِه ,ولا عن الحمل خارج الرحِم وخطورته على حياة الأم.. ولا عن أمراض القلب وأمراض الكُلَى وتَسَمُّم الحمل. فَكُل هذه لها مجالٌ آخَر.. ولكننا نُشير فقط إلى ما تُكابِدُه الأم من مَشاقٍّ أثناء الحمل الطبيعي.
وفي أثناء الحمل يزداد وَزْن الأم بِمُعَدَّل كيلو جرام ورُبع, كل شهر حتى إذا بلغ الحمل نِهايته كانت الزيادة عشرة كيلو جرامات؛ سبْعةٌ منها للجنين وأغْشِيته والمَشِيمة.. وثلاثةٌ منها زيادةٌ فِعْلِيةٌ في وَزْن الحامل..(3/85)
ويقول مجْمُوعةٌ مِن أساتذةِ طِبِّ النساء والولادة في كتاب "الحمل والولادة. والعقم عند الجنسين":"والطفل يُعْتَبر كالنبات الطُّفَيْلِي الذي يَسْتمد كل ما يحتاج إليه من الشجرة التي يتعلق بها فهو يعيش ويأخذ غذاءه من الأم كاملاً مهما كانت حالتها أو ظروفها حتي لو تركها شَبَحَاً".
وفي موْضِعٍ آخَر يقول "يعْتَبِر مُعظم الأطِباء - وهذا صحيح ٌ- أنَّ الجنين داخل الرحم مُتَطَفِّلٌ على أُمِّه لأنَّ المواد الغذائية كالأحماض الأمِينِة والجلوكوز وكذا الفيتامينات والأملاح ,كالحديد والكالسيوم والفسفور وغيرها تنتقل من الأم إلى الجنين خلال المشيمة.. والمعروف أنَّ طَلَبات الجنين تُلَبَّي بصِفةٍ إلْزامِية حتى وإنْ كان هناك نقْصٌ في كل أو بعض هذه المواد الحيوية عند الأم".
ولا تُعاني الأم من كل هذه المتاعب الجسدية فحسْب ولكنَّ حالتَها النفْسية كذلك تضْطَرِب أيَّما اضْطِرابٍ فهي بين الخوف والرجاء.. الخوف من الحمل ومَتاعبه والولادة ومتاعبها والرجاء والفرح بالمولود الجديد.. وتضطرب نفسيتُها وتُصاب في كثيرٍ من الأحيان بالقلق والكآبَة.. وتَقَلُّب المِزاج.. ويقول كِتاب "الحمْل والولادة" المُشار إليه آنِفاً: "تحتاج (الحامل) إلى عنايةٍ شديدةٍ من المُحِيطِين بها في هذه الفترة بالذات. إذْ تكون أكثر حساسيةً مِن أيِّ فترةٍ مَضَتْ سريعة التأثير والانفعال والمَيْل إلى الهموم والحثزْن لأتْفَهِ الأسباب.. وذلك بسبب التغير الفيسيولوجي في كل أجْزاء الجسم.. لِذا يجب أنْ تُحَاط بِجَوٍّ من الحنان والبُعْد عن الأسباب التي تُؤَدِّي إلى تأثرها وانفعالها وخاصة من ناحية الزوج أو الذين يعيشون ويتعاملون معها"..(3/86)
وقُلْ لِي باللهِ عليك هل يُمْكِن أنْ تُحاط بِجَوٍِّ من الحنان في المَصْنَع أو المَتْجَر أو في المَكْتَب.. وصاحب العَمَل لا تُهِمُّه حالتُها الفيسيولوجية ولا يَعرف حاجتها البيولوجية إلى الحنان.. إنه يعرف فقط أنَّ عليها أنْ تؤدي عملاً تأْخُذُ مُقابِلَه راتباً مهما كانت ظروفها..
وليس هو مسؤولاً عن حَمْلِها.. (وحتى لو كان المسؤول عن حملها فإنه لا يَهْتم لذلك في الغالب)، كما أنه لم يكن مسؤولاً عن حالتها أثناء الحيض..
لا شك أن حالة الحيض المُتَكَرِّرة وحالات الحمل والولادة تتناقَض ومصلحةَ العمل. وخروجها إلى العمل لِتُنافِس الرجال يُصادِم الفِطرة.. ويُسَبِّب زيادةً مَلحوظةً في أمراض الحيض.. كما يسبب زيادة ملحوظة في مضاعفات الحمل والولادة.. ودائمًا ما يَنْصَح الأطباء الحوامل بالراحة واجتناب الإرْهاق الجسديِّ والنفْسيِّ.. كما ينصحون زوج الحامل وأفراد أُسرتها بأن يُخَفِّفُوا عنها ما استطاعوا وأنْ يُعاملوها بالرِّفْق والحنان وأنْ يَحْتَمِلوا ما قَدْ يَبْدُرُ منها مِن جَفَاءٍ أوْ سُوءِ مُعاملةٍ أو غِلْظَةٍ.. أو سوء خُلُق على غَير عادتها وطبيعتها..
وفي الحديث:(إنَّ المرأة قد خُلِقَتْ مْنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ فإذا أرَدْتَ أنْ تُقيْمَها كسَرْتَها.. ولكن عليك أن تستمتع بها على ما فيها من عِوَج..) "وخيرُكُم خيرُكُم لأَهْلِهْ وأنا خيرُكُم لأهْلِي".
وصدق الله العظيم حيث يقول: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ).
وحيث يقول {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}.
فهي في وَهْنٍ مِن أوَّل الحمل إلى آخِرِه.. وهي في آلامٍ وأوْجاعٍ ومصاعبَ وأوْصابٍ مِن أوَّل حمْلِه إلى أنْ تَضَعَه.. ثُم تُواجِه بَعْدَ ذلك مَشَقَّةَ الرَّضاعة ومَشقة التربية.أَفَلا تكون بعد هذا كله جَديرَةً بالتكريم والتَّوْقير والاحترام.. وتَوْفير التَّفَرُّغ الكامل لها لِتُؤَديَ هذه الوظيفة العظيمة المَنُوطَة بها.(3/87)
ألا إنه الجهل المَحْض والكُفْر المَقِيت لِدَوْر الأم العظيم حينما يُطْلَب منها أنْ تَخْرُج من بيتها لِتُنافِس الرِّجال بالمَناكِب والأقْدَام.
(ج) آلام الولادة:
إنَّ آلامَ الطَّلْق تَفُوقُ أيَّ أَلَمٍ آخَرَ.. ومع هذا فلا تَكاد المرأة تَنْتَهي مِن ولادةٍ حتى تَسْتَعِدَّ لِوِلادةٍ أُخْرَى.. ولا يَكاد الطِّفل يَخْرج إلى الدنيا ويُلامِس جسمه جسمها حتى يَفْتَرَّ ثَغْرُها عن ابْتِسامةٍ مُتْعَبَةٍ وهي تُعْطِيه أوَّل رَضْعةٍ له مِن ثَدْيِها.
وفي الماضي كانت الولادة عمَلية شديدة الخطورة وتَنْتَهي كثيرٌ من حالاتها بِوَفاة الأم أَ وَفاة الجنين أو وفاتهما معًا..
كما كانت حُمَّى النِّفاس مُنْتَشِرة بين الوالدات.. والحمد لله فقَدْ أمْكَنَ في العصور الحديثة خَفْضُ مُضاعَفَات الولادة على الأم والجنين ,ولكنَّ الطِّب لمْ يَتَمَكَّن من إِزالةِ جميع مَخَاطِر الولادة.. ولا تَزالُ مَجْموعةٌ من النساء يَلِدْنَ بالعملية القَيْصَرِية.. ومَجُموعة أُخْرى يَلِدْن بالجِفْتِ.. كما أنَّ مجموعةً قليلةً تَفْقِد حياتها أثناء الولادة أو بسبب حُمَّى النِّفاس أو تَمَزُّق الرَّحِم..
أما الأمراض المُزْمِنة الناتجة عن الحمل والولادة فلا تزال ,رغم التَّقَدُّم الطِّبِّي الهائل ,ليست بالقليلة. وأهَمُّها أمْراض الكُلَى وضغط الدم وأمراض القلب وأمراض الجهاز التناسلي وأمراض الكبد.. كما أن َّالأمراض النفْسية وحالات الكآبة تَكْثُر أثناء الحمل وفي فتْرة النِّفاس..
(د) فترة النفاس:
تَبْقَي الأم في فترة النفاس أشْبَهَ بالمريضة.. وتُعَانِي من الإرْهاق بَعْد المَجْهُود الشاقّ الذي بذَلَتْهُ أثناء الحمل والولادة.(3/88)
ومِن رحْمَةِ اللهِ أنَّ الرحِم الذي كان يمَلأ تَجْوِيف البطن من عَظم العانة إلى القص يَنزل مُباشرةً بعد الولادة إلى مُستوى السُّرَّة ويَنْخَفِض مُستواه تدريجيًا بِمُعَدَّل سنتيمترين يوميًا.. وفي خلال سِتَّةِ أسابيعَ يَعُودُ أدْرَاجُه إلى ما كان عليه قَبل الحمْل...
ولَكَ أنْ تَتَخَيَّل حالة الرحم في نهاية الحمل وهو يتَّسع لأكثرَ من سبْعةِ آلاف ميليلتر لِيَعود بعد نهاية النفاس إلى عُضْوٍ لا يتَّسِع لأكثرَ مِن ميليلترين فقط.. كما أن وزنه عند نهاية الحمل بمحتوياته تبلغ ستة آلاف جرام منها:
1000جرام وزن الرحم ذاته.
3500جرام وزن الجنين.
1000جرام وزن السائل الأمينوس المحيط بالجنين.
500 جرام وزن المشيمة.
أما في نهاية فترة النفاس فيعود الرحم إلى وزنه الطبيعي وهو خمسون جرامًا وتُعاني النُّفَساء من صُعوبةٍ أثناء التَّبَوُّل وخاصة في الأيام الأُولَى عَقِب الولادة نتيجةً لِتَسَلُّخات جدار المِهْبَل وفَتْحَة الفَرْج ومَجْرَى البَول أثناء الولادة.. ولكن سرعان ما تزول هذه الآلام..
وتُنْصَح النُّفَساء بِعَدم الإجهاد لأنَّ عَضَلَةَ القلب لا تَتَحَمَّل أيَّ مجهودٍ شديدٍ.. ولكن ليس معنى ذلك ألاَّ تتحرَّك النُّفساء؛ بل إنَّ حركَتَها الخفيفة مَطْلوبة لِتَنْشيط الدورة الدموية وخاصة في الساقين.. ولكن الإجهاد ضارٌّ بالأم, وقد تَحْصُل حالات هبوطٍ مُفاجِئٍ نتيجة استعجال الأم في الحركة الشديدة.
والغريب حقًّا أن َّالجِيلَ السابق من الأمهات كُنَّ يَحْرِصْن على الراحة التامَّة أثناء فترة النِّفاس بدرجةٍ مُبَالَغٍ فيها.. أمَّا الجِيْلِ الحاليّ فَعَلَى نَقِيْض ذلك يَحْرِص على الحركة والإجهاد بصورةٍ مُزعجةٍ.. ولا شك أنَّ المُغالاة في أحَدِ الجانبين ليس في مَصْلحة النُّفَساء.. وأنَّ خير الأمور أوسطها.(3/89)
وأخشى ما تَخْشاه النفساء هو حُمَّى النِّفاس.. والحمد لله بفضل الله, ثُم بفضل التَّعْقيم والمحافظة التامة على النظافة أثناء الولادة وقبلها وبعدها فإن حدوث هذه الحالات أصبح نادرا.. وكم من حياةٍ يانِعةٍ أوْدَت بها حُمَّى النفاس في الماضي فقد كانت غُوْلاً بَشِعًا يَغْتال الوالدات.. ويُيَتِّم الأطفال الرُّضَّع الذين هم أكثر ما يكونون حاجة لأمهاتهم.
(هـ) الرضاعة:
قرَّر الإسلام حقَّ الطفل المولود في الرَّضاعة فقال تعالى:
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.
كما قرَّر حق أُمه في النَّفَقَة حتى ولو طُلِّقَت في أثناء الحمل فجعل نهاية عِدَّتها أنْ تَضَع حملها{وَأُوْلاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِّن وُّجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.(3/90)
في هذه الآيات الكريمة يُقَرِّر المَوْلَى ,عز وجل, حقَّ الطفل في الرضاعة كما يُقرر حق أمِّه في النفقة إذا أرْضَعَتْه.. ويُوَجِّه الوالدين كليهما إلى انْ يأْتَمِرا ويتشاوَرا في أمر وَلِيدِهما.. رغم الجَفْوَة والطلاق.. ويَرْبط ذلك كله بتقوى الله ويُرَقِّق مشاعرهما.. ويَطلب من الأبِ أنْ يُنْفِق مِن سَعَتِه دون عَنَتٍ ولا إرْهاق, ودون تقْتِيرٍ ولا بُخْل.. وإنما هي السَّماحة واليُسْر النَّدِيُّ في أمر هذا الدين كله..
وبعد مُضِيِّ أرْبعةَ عشَرَ قرْنًا من نزول هذه الآيات الكريمة فإنَّ الإنسانية لا تزال تَخْبِطُ في الدَّياجِير حتى اليوم.. ولا يَزال الوليد والأم يعانون أشدَّ المُعاناة حتى في عامنا هذا الذي أسْمَوْهُ عام الطفل (1979).. ولا تزال المنَظَّماتُ الدُّوَلِية وهيئة الصِّحة العالمية تُصْدِر البيان تِلْوَ البيان تُنادِي الأمهات أنْ يُرْضِعْن أولادهن.. ولا تزال الهيئات الطبية تصدر النشرات والمقالات حول جَدْوَى الرَّضاعة من الأم وفوائدها التي لا تَكاد تُحْصَر(581).. أما أنْ يَفْرِض القانون الدولي للأم المُرْضِع نَفَقًَةً كاملةً فأَمْرٌ لم تَصِل إليه حضارة القرن العشرين التعِيسة.. بينما قد أَمَرَ الإسلام بذلك منذ أربعةَ عشَرَ قرنًا من الزمان. وفوائد الرضاعة للطفل والأم أكثرُ مِن أنْ تُحْصَي ولكنا نُوْجِزُها هنا فيما يلي:
فوائد الرضاعة للوليد:
1) لبن الأم مُعَقَّّم جاهزٌ.. وتَقِل بذلك النَزَلاتُ المَعَوِية المُتكرِّرة والالتهابات التي تُصيب الأطفال الذين يَرضَعون من القارورَة. وكذلك تقل الالتهابات التي تُصيب الجهاز التنفسيَّ وذلك بسبب وُجود موادٍ مُضادةٍ للميكروبات في لبن الأم.(3/91)
2) لبن الأم لا يُمَاثِله أيُّ لبنٍ آخَر مُحَضَّر من الجاموس أو الأبقار أو الأغنام فهو قد صُمِّم ورُكِّب لِيَفِي بِحَاجات الطفل يومًا بِيَوم منذ ولادته وحتى يكْبُر إلى سِنِّ الفِطام.. فترْكيب اللبا وهو السائل الأصفر الذي يُفْرِزه الثدْيِ بعد الولادة مُباشرةً ولمدة ثلاثة أو أربعة أيامٍ يحتوي على كِمِّياتٍ مُرَكَّزةٍ من البروتينات المَهْضُومة والمواد المُحْتوية على المُضادات للميكروبات والجراثيم (582).. كما أنها تَنْقُل جهاز المناعة ضِد الأمراض من الأم إلى الطفل..
3) يحتوي لبن الأم على كمية كافيةٍ من البروتين والسُّكَّر وبِنِسَبٍ تُناسِب الطفل تماماً.. بينما المواد البروتينية الموجودة في لبن الأبقار والأغنام وغيرها من الحيوانات تناسب أطفال تلك الحيوانات أكثر من مناسبتها للطفل الإنسانيِّ كما أنَّ نَوعية البروتينات والسُّكريات الموجودة في لبن الأم أسهل هضْمًا من تلك الموجودة في الألبان الأخرى.
4) تكْثُر لَدَى الأطفال الذين يَرضَعون من القارورة الوفيات المُفاجِئة التي تُدْعَى "Cot Death مَوْتُ المِهاد" وهذا النوع من الوفيات لا يُعْرَف لدَى الأطفال الذين يَلْتَقِمون أثْداء أمهاتهم.
5) نُمُو الأطفال الذين يَرضعون من أمهاتهم أسْرع وأكمل من أولئك الذين يرضعون من القارورة.
6) ينمو الطفل الذي يَرضع من أمه نفسيًا نُمُوًّا سليمًا بينما تكثُر الأمراض والعلل النفسية لدَى أولئك الذين يرضعون من القارورة.
7) يتَعرَّض الأطفال الذين يُرضَعون الألبان المُجَفَّفة بواسطة القارورة إلى أمراض الحساسية الجِلدية بأنواعها والرَّبْو وحساسية الجهاز الهضْمِيِّ بالأضافة إلى النزلات المعوية المتكررة بينما نجد الأطفال الذين يُرْضَعون من الثدْيِ لا يُعانون من هذه الأمراض إلاَّ نادِراً.
الفوائد للأم:
1) الارتباط النفسىُّ بين الأم وطفلها أثناء الرَّضاعة عاملٌ مُهِمٌّ لِنَفْسِيَّة الأم والطفل.(3/92)
2) يَعود جِسم الأم إلى رشاقته وحجمه الطبيعي بسرعةٍ إذا قامت الأم بإرضاع وليدها.
3) يعود الرَحِم بسرعةٍ إلى حجمه وَوَضْعه الطبيعي أثناء الرَّضاعة.. وذلك لأنَّ امتصاص الثديِ يُؤدي إلىإفراز هُرمون الاكسوتوسن Oxytocine الذي يُسْرِع بِعَوْدة الرحم إلى حالته الطبيعية..
ولولا ذلك لأُصِيب الرحم بالإنْتان Sepsis والالتهابات المتكررة. كما أنَّ ذلك يساعد على حصول حُمَّى النِّفاس..
مدة الرضاعة:
قرَّر الإسلام حق الوليد في الرَّضاعة , وذَكَرَ أنَّ كَمَال الرَّضاعة حَوْلَيْن كاملين قال تعالى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وقال تعالى:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} .
وقال في موضع آخر {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} ومنها استدَّلَّ علِيٌّ رَضي الله عنه, على أنَّ أقَلَّ الحَمْل سِتَّةَ أشْهر. وهذا أيضًا ما يُقَرِّرُه الطب اليوم.وتُطالبُ هيئةالصِّحة العالمية أن تَتَفَرَّغ الأم لكل مولودٍ ثلاثة أعوامٍ كاملةٍ لأهمية الأم في نُمُوِّه النفسيِّ والجسديِّ السليم.(3/93)
وقد وَجَدت هيئة الصحة العالمية واليُونِيسف أنَّ العالم الثالث يُواجِه أزْمةً حقيقية حيث أنَّ الأمهات اتَجَهْنَ نَحْوَ إِلْقامِ أطفالهن القارورة بدلاً من الثدي. ففي البرازيل كانت نسبة الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم 96 بالمائة سَنَة 1940. وقد انْخَفضت إلى 40 بالمائة عام 1974 وفي تشيلي كانت النسبة 95 بالمائة سنة 1955 وقد انخفضت إلى 20 بالمائة فقط عام 82. ونفس الظاهرة موجودةٌ في بَقِيةِ دُوَل أمريكا اللاتينية وبقية دول العالم الثالث.. والغريب حقاً أن كُلْفَة اللَّبن الصِّناعِيِّ لمدة أسبوع تَسْتَهْلِك أكثر من نِصف دخل العامل في أوْغَنْدا ونَيْجيريا وجامايكا أو نِصف أجْر مُوَظَّفٍ صغيرٍ في إندونسيا أو سيريلانكا، والكاسب الوحيد هو الشركات الاحتكارية الغربية التي تكسب في عامٍ الفَيْ مليون دولار من بَيْع الأغْذِية المُصَنَّعة للأطفال في دول العالم الثالث..
وحقًا يَبْدو أنَّ اسْم "قاتل الأطفال" الذي أطْلَقَتْه الصحة العالمية على هذه الشركات هو الاسم المناسب لها.
ويَحُثُّ الأطباء في كافَّة أصْقاعِ الأرْض الأمهات على أنْ يُرْضِعْن أولادهن لأَطْوَل مُدَّةٍ مُمْكِنة.. وفي أغلب الأحوال لا تَزيد هذه المدة عن سِتَّة أشْهُرٍ نتيجة للحياة النَّكِدَة التي يعيشها الإنسان في القرن العشرين.. بل لا تزال كثيرٌ من الأمهات يُلْقِمْنَ أوْلادهن القارورة بَدَلاً من إِلْقامِهِم أثْدائهنَّ..(3/94)
والآن بعد أنْ رأيت الفروق الفيسيولوجية والتشريحية بين الرجل والمرأة وكيف أنَّ المرأة مُضْطَّرةٌ لِلْبقاء في البَيْت وخاصةً في فترة الحمل والولادة والرَّضاعة سَيَتَأكَّد لك بما لا يَدَع مَجالاً للشَّك بأنَّ الدَّعوة إلى خروج المرأة إلى مُعْتَرَك الحياة وترْك بيتها وأولادها وزوجها هي دعوةٌ جاهلِيةٌ وبعيدةٌ كل َّالبُعْد عمَّا تُقَرِّره علوم البيولوجيا والطب.. وهي دعوةٌ تُصادِم الفِطْرة مُصادَمةً واضحةً.. وتكون نتائجها وخِيمة ًعلى الأم والطفل والأبِ والأُسرة بل والمجتمع بِأَسْرِه.
( المرجع : " عمل المرأة في الميزان " للدكتور محمد علي البار ، ص 63-105) .
الشبهة(2) : قولهم بالمساواة ( التامة )بين الرجل والمرأة
والجواب أن يقال : ما هي الأمورُ التي سَوَّى فيها الإسلامُ بين الرجل والمرأةِ؟ وما هي الأمورُ التي فَرَّق فيها بينهما؟ لا شك أن الجوابِ عن هذَينِ السؤالين ضرورِيٌّ حتى لا يُؤدِي عدمُ الفصلِ في هذهِ المسألةِ إلى ظلمِ المرأةِ. وفيما يأتي عرْضٌ لِنَوعَينِ من الأحكامِ دونَ الدخولِ في تِبْيان الِحكمةِ والمْغْزَى وراء التفريقاتِ انْسجامًا مع منهجِ البحث ِفي اجتنابِ أسلوبِ التبريرِ والدفاعِ عن أحكامِ شرعِ اللهِ:
أ- الأحكام التي تَحقَّقت فيها المساواةُ بين الرجل والمرأة وهي كثيرةٌ منها:(3/95)
1- العباداتُ من طَهارةٍ وصلاةٍ وصومٍ وحجٍ وزكاةٍ مع اختلافاتٍ يسيرة. فَفَي الصَّومِ تُفطر المرأةُ وُجوبا إذا حاضَتْ أو نفَسَت. أما في الصلاةِ فلا اختلاف بينها وبين الرجل إطلاقًا إلا في اللباسِ، وفي كونِ صلاتِها في بيتِها أفضلُ من صلاتِها في المسجدِ، وكونِ خيرِ صفوفِ النساء في الجماعةِ آخرَها بِخِلافِ صُفوفِ الرجالِ، وفي تَنْبيهِهَا الإمامَ إذا سَهَا بالتَّصْفِيقِ لا بالتسبيحِ كالرجالِ، وفي عدم جوازِ إمامتِها للرجال، وفي جَهْرِها بالقراءةِ في الصلاةِ الجهرية أمامَ الرجالِ الأجانبِ فَتَرْفعُ صوتَها بِقَدْرٍ يؤمن معه الفتنةُ.
أما ما ذهب إليه بعضُ الفقهاء من أنها لا تَرْفَعُ يدَيْها حِذاء أُذُنيهَا بل حذاءَ مِنْكَبَيْها فهذِه هي السُّنة للرجلِ والمرأةِ. وذهب آخرون إلى أنها تَضُمُّ فَخْدَيْهَا في رُكوعِها وسجودِها؛ ولا يَصِح في هذا دليلٌ، وكذلك القولُ بأنها لا تفرج أصابِعَها في الركوعِ، وبأنها تضع يمينَها على شِمالِها تحت قدَمَيْها أو أنها تضع يدَيْهَا في التشهدِ على فخديها حتى تبْلُغَ رُؤوسُ أَصَابعها رُكْبتيها. أما القولُ بأنها تتورك في حالِ جُلُوسِها للتشهدِ فإنْ قَصَدَ التشهدَ الأخيرَ فالسُّنةُ فيهِ الجلوسُ مُتوركا بالنسبةِ للرجل والمرأة على السواء، وكذلك لا يصح القول إنه يُكْرَهُ حضورُها جماعةَ الصلاة في المسجدِ.(3/96)
قال الشيخُ الألباني في نهايةِ كتابه "صفةُ صلاةِ النبيِّ كانَك تراها من التكبيرِ إلى التسليمِ" ما نصه: كلُ ما تقدم من صفةِ صلاتهِ صلى الله عليه وسلم يستوي فيه الرجالُ والنساءُ، ولم يَرِدْ في السُّنةِ ما يَقْتَضِي استثناءً مِن بعضِ ذلك، بل إن عمومَ قولِه صلى الله عليه وسلم "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوِني أُصَلِّي" يشملهن، وهو قول إبراهيم النَّخَعِيِّ قال:" تفعَلُ المرأةُ في اَلصلاةِ كما يفعل الرجلُ"(583)، وروى البخاري بسنَدٍ صحيحٍ عن أمِّ الدَّرْدَاءَ "أنها كانت تجلِسُ في صلاتِها جِلْسةَ الرجلِ وكانت فقِيهَةً (584) أما حديثُ انضمامِ المرأة في السجود وأنها ليست في ذلك كالرجل، فهو مُرْسَلٌ ولا يَصِحُّ. رواه أبو داود في "المراسيل" عن يزيدِ بن أبي حبيبٍ. وأما ما رواه الإمام أحمد عن ابنِ عمرَ أنه كان يأمرُ نِساءَهُ يَتَرَبَّعْن في الصلاة فلا يصحُّ إسنادُهُ لأن فيه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف" (585) .
وفي الحَجِ فإن المرأةَ لا تختلفُ عن الرجلِ إلا في أمورٍ معدودةٍ قليلةٍ هي: أنَّها لا تَنْزِعُ شيئاً مِن لباسِها المشروعِ، وأنها تُقَصِّر ولا تَحْلِق لقولِه صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ على النساءِ حَلْقٌ، إنَّما على النساء التقصيرُ" (586) ، فَتَجْمَعُ شَعْرَها فَتقص منه قَدْر الأُنْمُلَة، وأنها إن حاضت فلا تنتظر لِتَطُوفَ طوافَ الوَداع إذا كانت قد طافتْ طَوافَ الإفَاضةِ. وطوافُ النساءِ حولَ البيتِ وسَعْيُهُنَّ بين الصفا والمروةِ كُلُّهُ مَشْيٌ، فلا رَمَلَ عليهِنَّ حَولَ البيتِ ولا بين الصفا والمروة وليس عليهن اضْطِّباعٌ (587) .(3/97)
أما القولُ بأنها لا تُلَبِّي جَهْرًا فَيُجاب عنه أن عائشة رضي الله عنها كانت ترفع صوتَها حتى يسمَعَها الرجالُ، قال أبو عطيةَ: سمِعْتُ عائشة تقول: إني لأَعْلَمُ كيف كانت تَلْبِيةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُم سمعها تُلبِّي بَعْدَ ذلك (588). وعلى هذا فإن المرأة تُلَبي وترفعُ صوتَها ما لم تَخْشَ الفِتْنَة.
وأما القولُ بأنها تقِفُ في حاشيةِ المَوقِفِ في عَرَفَةَ لا عند َالصَّخَراتِ وتقْعُدُ في حين أن الرجلَ يكون راكباً، فهذا مما لا أعرِفُ له دليلاً.
والحائِضُ في الحَج تفعل كلَّ ما يفْعلُه الرجلَ عدا الطوافَ لأنه صلاةٌ قال صلى الله عليه وسلم لعائشةَ لما حاضَتْ:"افْعَلِي ما يفعَلُ الحاجُ، غَيْرَ ألا تَطُوفي بالبيتِ حتى تَطْهُرِي" (589) .
2- المعاملات: لا تشترط الذكورة في عقود البيع والتجارة والقرض والهبة والوقف والحوالة والضمان والقراض والشركة والإجارة والجعالة والمساقاة والمزارعة والرهن والشفعة وغيرها من العقود، ولذا فإن الرجل والمرأة في الأنشطة المالية والاقتصادية المختلفة سواء.
3- الحدود والقصاص: تستوي المرأة والرجل في كل ما يتعلق بالحدود والقصاص إلا فيما يخص رجْم الزانية فإنها تُرْجَم بلباسها الشرعي، وتُجلد جالسةً والرجل قائمًا وهذا اجتهادٌ فقهي وليس حكمًا يَعتمد على نص، فما رُوِي من أنه "تُضرَب المرأة جالسةً والرجل قائمًا" لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم (590). ولا تُنْفَى الزانية غير المُحْصَنة ويُنْفَى الزاني غير المُحْصَن، ولا تدخل مع العاقلة فلا شئ عليها من الدية. ولا يصح القول: إن المرأة إذا ارتَّدَّت لا تقتل اعتمادًا على حديث "لا تُقْتَلُ المرأةُ إذا ارتدت" قال الدارَقطني: لا يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (591) .(3/98)
ولا تستوى المرأة مع الرجل في الدِّية، وقد حَكى بعض أهل الإجماع على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل منهم ابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم وهو مَرْوِي عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم رضي الله عنهم ولم يُنْقَل عن أحد خلافُه ممن يُعْتَد به سوى الأصم وابن عُلَيَّة من المعتزلة حكاه عنهما الشوكاني في النَّيل نقلاً عن البحر من كُتب الزيدية ومثل هذين لا يُعْتَد بخلافهما" (592).
4- الصيد والذبائح والأيمان والنذور فالرجل والمرأة فيها سواء.
5- الإفتاء: فللمرأة العالمة بالأحكام الشرعية المتمكنة من الإفتاء الشرعي أن تُفْتِي النساء والرجال على حد سواء ضمن حدود الشريعة.
ب- الأحكام والمسائل التي ثبت فيها التفريق بين الرجل والمرأة:
1- الميراث: قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}(593)، وقال تعالى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} (594).
2- الشهادة وفيها تفصيل كما يأتي:
أ- لا تُقْبَل شهادة النساء في القصاص والحدود كافةً كحد الشُّرْب وقطع الطريق والقتل بالرِّدة وكذلك التعزير فلا بد في كل هذه من شهادة رجلين إلا الزنا واللواط وإتيان البهائم فلا يُقْبَل فيها أقلُّ من أربعة رجالٍ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }(595).(3/99)
ب- ما يَطَّلِع عليه الرجال عادة كالنَّسب والطلاق والرَّجْعة والخُلْع والولادة والنكاح والوصية والتوكيل في المال فلابد فيها من شهادة رجلين، وقال أبو حنيفة تُقْبل فيه شهادة النساء ورجَّحَه ابن قيم الجوزية. قال تعالى: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ }(596).
ج- المعاملات المالية كالبيع والقَرْض والإجارة والرهن والوديعة والإقرار والغَصْب والوقْف، وكذلك قتل الخطأ لأن حقًا ماليًا يترتب عليه، فيكفي في هذا كله رجلان أو رجل وامرأتان لقوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (597) .
د- ما لا يطَّلِعُ عليه الرجال عادةً وتَغْلِب على النساء معرفته والاطلاع عليه فتُقْبل فيه شهادة امرأتين كعُيُوب النساء تحت ثيابهن والولادة والبَكارة والثيوبة والقرْن (انسداد مَحَل الجماع بِعَظْم) والرتق (انسداد محل الجماع بلحم) والبَرَص. ولا يصح ما رُوِي عن حُذَيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها" (598) .
هـ- الرضاعة: وتقبل فيها شهادة امرأة واحدة عدل لقوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه "كَيْفَ وَقَد زَعَمَتْ أنها قد أرْضَعَتْكُما" وتَرجم له البخاري بقوله: "باب شهادة المُرْضِعة" (599) .
و- رؤية هلال رمضان وتُقبل فيه شهادة رجل مسلم واحدٍ عدلٍ أو شهادة مسلمةٍ واحدةٍ على السواء.
3- العقيقة: وهي ما يُذْبح من الأنعام عند الولادة إذ يُعَق عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة. قال صلى الله عليه وسلم "عَنِ الغُلامِ شاتان مُكَافِئتانِ وعن الجارية شاة" (600).(3/100)
4- الجهاد بالنفس فلا يجب على المرأة، وإنما تُجاهد بِمالها وكذلك بالحج "فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء جهادٌ؟ قال: نعم عليهن جهادٌ لا قتال فيه: الحَج والعُمرة" (601) .
5- زيارة القُبور ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " لعن الله زائرات القبور " . ولكن لو مرت بقبر أو بسور المقبرة فلا حرج أن تقف وتُسلم على الموتى .
6- العورة: ففي حين أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة فإن المرأة كلها عورة في النظر. وينشأ عن هذا الفرق تَفْرِقةٌ في اللباس. ذلك أن المرأة مأمورةٌ بسَتر جسدها كله. وفي حين أن الرجل مأمورٌ بألا يتجاوز ثوبه كعبيه والأفضل أن يكون لمنتصف ساقيه فإن للمرأة رخصةً في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ جَرَّ ثَوْبَهَ خُيَلاء، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إليه يومَ القِيامةِ فَقَالتْ أُمُّ سَلمةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النساءُ بِذِيُولِهِنَّ؟ قال: يُرْخِينَ شِبْرًا، فقالت: إِذَنْ تَنْكَشِفُ أقْدامُهنَّ، قال: فَيُرْخِيْنَهُ ذِراعًا لا يَزِدْنَ عَلَيه" (602) .
7- بَول الصبي والصبية: ذلك أن بول الصبي الذي لم يُجاوِز سنَتَين يكفيه النَّضْح. أما بول الصبية فلابد فيه من الغَسل، قال صلى الله عليه وسلم "بول الغُلام يُنْضَح، وبول الجارية يُغْسَل" (603).
8- السفر : فلا يجوز للمرأة أن تسافر سفرًا مُعتَبَرًاعُرْفًا إلا بِصُحبَة زَوج أو مَحْرَم حتى لو كان السفر للحج. وما ذهبت إليه بعض المذاهب من جواز سفرها في رِفْقَة النساء فلا يصح، وذلك لمعارضَتِهِ للأحاديث الصحيحة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُسافر امرأةٌ إلا مع ذِي مَحْرَم ٍولا يَدْخُلُ عليها رَجَلٌ إلا ومَعَها مَحْرَم" (604) .(3/101)
9- ومما تفترق به المرأة عن الرجل اختصاص الأم بقدْرٍ زائدٍ من البِرِّ عن الأبِ. فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال:"جاء رَجَلٌ إلى رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ أَحَقُّ الناسِ بِحُسْنِ صَحابَتي؟ قال أُمُّكْ. قال: ثُم مَن؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك" (605) . وعن المُغِيرة بن شُعْبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ حَرَّمَ عليكُم عُقوقَ الأمهات ووأْدَ البنات" (606) فَخَص الحديثُ بالذكر عقوق الأمهات عِلمًا بأن عقوق الوالدين كليهما مُحَرَّمٌ.
10- ومما تفترق فيه النساء عن الرجال أنه ليس لهن وسَط الطريق، وأنه ينبغي عليهن اجتناب الرجال في الطُّرُقات قال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ للنساءِ وَسَطُ الطريق" (607) .
11- اختصاص البنات بقدْرٍ زائدٍ في التربية عن الأنباء. قال صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاثُ بناتٍ، فَصَبَر علَيهنَّ، وأَطْعَمََُنَّ وسقاهُنَّ وكساهُنَّ من جِدَتِه، كُنَّ له حِجابًا مِنَ النارِ يَومَ القِيامةِ" (608) ، وقال صلى الله عليه وسلم "مَنْ ابْتُلِيَ مِن هذِهِ البناتِ بشئٍ، فأَحْسَنَ إليهِنَّ، كن له سِتْرًا مِن النار" (609) .
12- تقديم النساء على الرجال في الحضانة، ذلك أنه في حالة افتراق الزوجين عن بعضٍ فإن الأم أحق بحضانة الأولاد من الأب ما لم تتزوج، فعن عمرو بن العاص أن امرأةً قالت: "يا رسولَ اللهِ إنَّ ابْنِي هذا كان بطْنِي له وِعاءً وحِجْري له حِواءً، وثَدْيِي له سِقاءً، وزَعَم أبوه أن ينْزِعَه مِنِّي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحقُّ بِهِ ما لم تُنْكَحي" (610) .(3/102)
13- الاغتسال في الحمامات العامة : فقد حَرَّمهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء. ومن أباحَهُ من الفقهاء للنُّفَساء والمريضة فقد استدل على ذلك بحديثٍ غير صحيح. والصواب أن دخول المسلمة الحمام العمومي لا يصح. ولو بمئزرٍ لما ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يدْخُلِ الحَمَّامَ بغيرِ إزارٍ، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِرِ فلا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَجْلسْ على مائدةٍ يُدارُ عليها الخَمْرُ"(611).
14- الملاعنة : فهي خاصة بالرجل دون المرأة. فللرجل أن يَشْهَد أربع شهاداتٍ على زوجته بالزنا. قال تعالي:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (612) .
وبما أنه لم يَرِدْ نَصٌّ بخصوص قذف المرأة لزوجها بالزنا فيظل الحكم كما هو أي أنه يُطْلَب منها إحضار ما يَكْمُل به نِصاب الشهادة وإلا جُلِدت حد القذف.
15- الوِلاية في الزواج : فليس للمرأة أن تُزوِّج امرأةً أُخْرى، ولا أن تُزَوِّج نَفْسَها قال صلى الله عليه وسلم:"لا تُزِوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّج المرأةُ نَفْسضها" (613) .
16- وجوب استئذان الزوجة زوجها إن أرادت أن تصوم تَطَوُّعًا في حين لا يجب عليه أن يستأذنها إن أراد أن يفعل ذلك.
17- التعدد في الزواج : فقد أباح الشرع الإسلامي للرجل أن يتزوج أربعاً دون أن يبيح للمرأة أن تتزوج بأكثر من رجل. ولا يصح أبدًا التساؤل عن الحكمة في ذلك؛ لأنه أمرٌ واضحٌ لا يحتاج لجواب، فاختلاط ُالأنساب أمرٌ واردٌ في تَعَدُّدِ الأزواج دون تعدد الزوجات.كما أن الفِطرة والذَّوق البشرِيَّين يَسْتهجِنانِ أشد الاستهجان تعدد الأزواج بينما يَقْبلان تعدد الزوجات.(3/103)
18- ولاية أمور المسلمين ويشمل المنع من السياسة والقضاء قال صلى الله عليه وسلم "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوا أمْرَهُمُ امْرأةً" (614) .
19- التعطُّر خارج المنزل فَيَحْرُم عليها ذلك بخلاف الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: "أيُّا امرأةٍ استَعْطَرَت ثم خرجت، فَمَرَّت على قَومٍ لِيجِدوا رِيْحَها فهي زانيةٌ، وكلُّ عَينٍ زانية" (615) .
20- إباحة الذهب والحرير، فهو أمرٌ خاص بالنساء دون الرجال. قال صلى الله عليه وسلم: "حُرِّمَ لِباسُ الحريرِ والذَّهَبِ على ذُكُورِ أُمَّتِي وأُحِلَّ لإِناثِهِم" (616) .
21- الحداد ، فلم يُشْرَع للرجل على زوجته المتوفاة، وشُرِع للمرأة على زوجها المتوفَّى. قال صلى الله عليه وسلم:"لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِرِ أن تَحِدَّ على مَيتٍ فَوقَ ثلاثِ لَيالٍ، إلا الزوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا" (617) .
22- العدة للمُتوفَّى عنها زوجها والمطلقة قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (618) ، وقال تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (619) . وليس على الرجل عِدةٌ لكنه يمُنَع من الزواج حتى تنتهي عدة زوجته الرابعة (620) .
23- اتباع الجنائز، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز وهو نهيُ تنزيهٍ. فقد صح عن أم عطية رضي الله عنها قولها: "نهانا رسول الله عن اتباعِ الجنائز، ولم يَعْزِمْ علينا"(621) . أما الرجال فإن اتباع الجنائز في حقهم مُستَحَبٌ.
24- إنزال الميت في القبر: فهو خاص بالرجال يَتَوَلَّوْنَه، ولو كان الميت أنثى وذلك لما يأتي:
أ - أنه المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجرى عليه عمل المسلمين حتى اليوم.
ب- أن الرجال أقوى على ذلك.(3/104)
ج- لو تَوَلَّتْه النساء لأفْضَى ذلك إلى انْكشافِ شئ من أبدانِهِنَّ أمام الرجال (622) .
25- اقتسام غنائم الحرب: فالمرأة ليست مُكَلفةٌ بالقتال، لكن إذا أَذِن لها الإمام واشتركت في المعركة يُرضَخ لها إن قاتلت؛ بمعني أن الإمام يعطيها عطاءً غير محدد، لكن دون أن تُعْطَي حِصةً كحِصَص المُقاتلين. وما رواه حشرج بن زياد عن جدته: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسْهَمَ لهُنَّ يوم خَيْبَر" فهو حديث ضعيف (623) .
26- الختان : ففي حين أن الختان فَرْضٌ على كل مسلمٍ ذكر، فإنه ليس كذلك بالنسبة للنساء فلا يُخْتَن إلا إن ظهرت لختان بعضهن حاجة. أما إن لم تكن حاجة فلا ختان، وذلك يختلف من امرأةٍ لامرأة.
27- وثَقْب الأُذُنِ جائزٌ بحق النساء حرامٌ على الذكور؛ لأنهم ممنوعون من جَعْل الأقراط في آذانهم.
28- وفي حين أن للمرأة خَضْب يَديْها ورِجْليها بالحناء فإنه ليس للرجل أن يفعل ذلك قال صلى الله عليه وسلم "طِيْبُ الرَّجلِ ما ظَهَرَ رِيْحُه وخَفِيَ لَوْنُه، وطِيب النساء ما ظهر لونه وخَفِيَ ريحه" (624).
29- ولا يجوز للمرأة أن تحْلِق رأسها بخلاف الرجل؛ لما في ذلك من المُثْلَة، ولما فيه من التشبُّه بالرجال وكل ذلك مُحرَّم.
30- استحقاقها المهر عند الزواج وليس ذلك للرجل.(3/105)
وبعد فإن الدارس للفروق آنفةَ الذِكْرِ بين الرجل والمرأة يجد أن تلك الفروق راجعةٌ لأسبابٍ معينةٍ اقتضاها العدل بين الجنسين، وأن المساواة بينهما في مثل هذه الحالات من التفريق تؤدي إلى الظلم. وكما هو معلومٌ أن المساواة في كثيرٍ من الأحيان تؤدي إلى الظلم، وأن العدل كثيرًا ما يقتضي التفرقة والتفريق بإعطاء كلَّ ذِي حقٍ حقَّه، وتكليف كل مُكَلَّفٍ بما يناسب قدراته ويتناسب مع طبيعته. ولذا فإن كل مساواةٍ يقتضيها العدل وتقتضيها الفطرة حققها الإسلام فعلاً بين الجنسين كالمساواة في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف وفي الثواب والعقاب. أما التكاليف الشرعية فقد سَوَّى الإسلام بين الرجل والمرأة في كل ما من شأنه أن لا يُلْحِق ظلمًا بأحدهما بتحميله فوق طاقته. أو بتكليفه بما لا يتناسب مع طبيعته الذَّكَرِية أو الأُنثوية كإعفاء المرأة من الجهاد، والاختلاف في اللباس نظرًا لاختلاف أجساد الجنسين. وأن الفاحص لكثيرٍ من الفروق بين الجنسين في التكاليف يجد أنها من باب التنوع والاختصاص في المهام والوظائف، وليس هناك من يقبل القول: إن التنوع في التخصص والوظيفة بين المهندس والطبيب يعني أن أحدهما أفضل من الآخَر، بل إن ما يقوم به أحدهما لا يقوم به الآخَر. فهما يكملان بعضهما بعضاً والمجتمع بحاجةٍ لكِليهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:"النساء شقائقُ الرجال" (625) .
مالا يُعَدُّ تفريقاً بين الرجل والمرأة:
ما سبق كان عرضًا للمسائل التي تستوي فيها المرأة مع الرجل، والمسائل التي يفرق فيها بينهما. والأصل أن الرجل والمرأة سواء في كل شئ إلا ما ثبت فيه التفرقة.
( المرجع : المرأة المسلمة بين اجتهادات الفقهاء وممارسات المسلمين ، ص 123-138بتصرف يسير) . وانظر للزيادة : رسالة " الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل ، للأستاذ سعد الحربي " .
الشبهة (3) : دعوتهم لتولية المرأة للمناصب السياسية(3/106)
روى البخاري - بإسناده - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيام الجمل بعد ما كِدت أن ألْحَق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم - قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
ويُورِد بعض أعداء الملّة - من المستشرقين ومن نَحَا نَحْوَهم ولَفّ لفّهم - عِدّة شُبهات حول هذا الحديث ، وسأورِد بعض ما وقَفْتُ عليه من تلك الشبهات ، وأُجيب عنها - بمشيئة الله - .
الشبهة الأولى :
لماذا لم يتذكر أبو بكرة راوية الحديث هذا الحديث إلا بعد ربع قرن وفجأة وفى ظل ظروف مضطربة ؟
الجواب :
لم ينفرد أبو بكرة رضي الله عنه بهذا الأمر ، فقد جاء مثل ذلك عن عدد من الصحابة ، أي أنهم تذكّروا أحاديث سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرووها إلا في مناسباتها ، أو حين تذكّرها .
فمن ذلك :
1 - ما قاله حذيفة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلاَّ حدَّث به ، حَفِظَه مَنْ حَفِظَه ، ونَسِيَه مَنْ نَسِيَه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكُره كما يذكُر الرجل وجْهَ الرَّجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عَرَفَه . رواه مسلم .
2 - وروى مسلم عن عمرو بن أخطب قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا(3/107)
3 - ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حينما تولّى الخلافة سنة 64 هـ ، فإنه أعاد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما تَرَك ذلك إلا لحدثان الناس بالإسلام ، فلما زالت هذه العِلّة أعاد ابن الزبير بناء الكعبة .
وشكّ عبد الملك بن مروان في ذلك فهدم الكعبة ، وأعاد بناءها على البناء الأول .
روى الإمام مسلم أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين ، يقول سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر ، فإن قومك قصروا في البناء ، فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدِّث هذا . قال : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير .
فهذا عبد الملك يعود إلى قول ابن الزبير ، وذلك أن ابن الزبير لم ينفرد بهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، وإنما رواه غيره عنها .
هذا من جهة
ومن جهة أخرى لم يقُل عبد الملك بن مروان لِمَ لَمْ يتذكّر ابن الزبير هذا إلا بعد أن تولّى ، وبعد ما يزيد على خمسين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم !
إلى غير ذلك مما لا يُذكر إلا في حينه ، ولا يُذكر إلا في مناسبته .
ثم إن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرِد برواية الحديث ، شأنه كشأن حديث عائشة في بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، إذ لم ينفرد به ابن الزبير عن عائشة .
فحديث: لا يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة قد رواه الطبراني من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه .
فزالت العِلّة التي علّلوا بها ، وهي تفرّد أبو بكرة بهذا الحديث ، ولو تفرّد فإن تفرّده لا يضر ، كما سيأتي - إن شاء الله - .
الشبهة الثانية :(3/108)
زعم بعضهم أن الحديث مكذوب ، فقال : الكذب في متن الحديث فهو القول بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قاله لما بلغه أن الفرس ولوا عليهم ابنة كسرى . في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى .
الجواب : هذا أول قائل إن في البخاري حديثا موضوعا مكذوبا ، ولولا أنه قيل به لما تعرّضت له ! لسقوط هذا القول ، ووهاء هذه الشبهة !
فإن كل إنسان يستطيع أن يُطلق القول على عواهنه ، غير أن الدعاوى لا تثبت إلا على قدم البيِّنة وعلى ساق الإثبات .
فإن قوله : ( في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى )
دعوى لا دليل عليها ولا مستند سوى النفي العام !
في حين أن القاعدة : الْمُثبِت مُقدَّم على النافي .
وكُتب التاريخ قبل كُتب الحديث تنص على ذلك .
قال ابن جرير الطبري في التاريخ :
ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان
وقال ابن الجوزي في المنتَظَم :
ومن الحوادث ملك ( بوران ) بنت كسرى أبرويز . اهـ .
وقد عَقَد ابن الأثير في كتابه ( الكامل في التاريخ ) باباً قال فيه :
ذكر ملك ( بوران ) ابنة ابرويز بن هرمز بن أنو شروان .
ثم قال : لما قُتِل شهريراز مَلَّكَتْ الفرس ( بوران ) لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلا يُمَلِّكونه ، فلما أحسنتْ السيرة في رعيتها ، وعدلتْ فيهم ، فأصلحت القناطر ، ووضعت ما بقي من الخراج ، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم ، وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر . اهـ .
وفي البدء والتاريخ للمقدسي ما نصّه :(3/109)
وكان باذان بعث برجلين إلى المدينة كما أمره أبرويز ليأتياه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هما عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لهما : إن ربى أخبرني إنه قَتَل كسرى ابنه هذه الليلة لكذا ساعات مضين منها ، فانصرف الرجلان ونظرا فإذا هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وثب شهرابراز الفارسي الذي كان بناحية الروم فَمَلَك عشرين يوما ثم اغتالته بوران دخت بنت ابرويز فقتلته ، وملكت بوران دخت سنة ونصف سنة ، فأحسنت السيرة وعَدَلَتْ في الرعية ولم تَجْبِ الخراج ، وفرّقت الأموال في الأساورة والقوّاد ، وفيها يقول الشاعر :
دهقانة يسجد الملوك لها *** يجبى إليها الخراج في الجرب اهـ .
بل ذَكَر ابن كثير رحمه الله أنه مَلَك فارس أكثر من امرأة في أزمنة متقارِبة
قال ابن كثير في البداية والنهاية :
فملكوا عليهم ابنة كسرى بوران بنت ابرويز ، فأقامت العدل وأحسنت السيرة ، فأقامت سنة وسبع شهور ، ثم ماتت ، فملّكوا عليهم أختها ازرميدخت زنان ، فلم ينتظم لهم أمر ، فملّكوا عليهم سابور بن شهريار وجعلوا أمره إلى الفرخزاذ بن البندوان فزوَّجه سابور بابنة كسرى ازرميدخت ، فكرِهَتْ ذلك ، وقالت : إنما هذا عبد من عبيدنا ! فلما كان ليلة عرسها عليه هَمُّوا إليه فقتلوه ، ثم ساروا إلى سابور فقتلوه أيضا ، وملّكوا عليهم هذه المرأة ، وهي ازرمدخيت ابنة كسرى ، ولعبت فارس بملكها لعبا كثيرا ، وآخر ما استقر أمرهم عليه في هذه السنة أن ملّكوا امرأة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة . اهـ .
وقال الذهبي في التاريخ : ومات قتلا ملك الفرس شهر براز ابن شيرويه قتله أمراء الدولة وملكوا عليهم بوران بنت كسرى . اهـ .
ولا يخلو كتاب تاريخ من ذِكر تولِّي ( بوران ) الْحُكُم .
فقد ذَكَرها خليفة بن خياط ، واليعقوبي ، وابن خلدون ، واليافعي ، وكُتب تواريخ المدن ، كتاريخ بغداد ، وغيرها .(3/110)
على أنه لو صحّ (أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى)
لكان فيه دليل على قائله وليس له !
كيف ذلك ؟
يكون قد أثبت أنه لا يُعرف لا في جاهلية ولا في إسلام أن امرأة تولّت مَنْصِباً !!
الشبهة الثالثة :
قول القائل : هل من المعقول أن نعتمد في حديث خطير هكذا على راوية قد تم جلده (أبو بكرة) في عهد عمر بن الخطاب تطبيقاً لحد القذف ؟!
الجواب :
سبق أن علِمت أن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية الحديث .
ثم الجواب عن هذه الشبهة أن يُقال :
أولاً : لا بُدّ أن يُعلم أن أبا بكرة رضي الله عنه صحابي جليل .
ثانياً : الصحابة كلّهم عدول عند أهل السنة ، عُدُول بتزكية الله لهم وبتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أغْنَتْ عن كل تزكية .
ثالثاً : أبو بكرة رضي الله عنه لم يفسق بارتكاب كبيرة ، وإنما شهِد في قضية ، فلما لم تتم الشهادة أقام عمر رضي الله عنه الْحَدّ على من شهِدوا ، وكان مما قاله عمر رضي الله عنه: قبلت شهادته .
وقال لهم : من أكْذَبَ نفسه قَبِلْتُ شهادته فيما يُستَقْبَل ، ومن لم يفعل لم أُجِزْ شهادته .
فعمر رضي الله عنه لم يقُل : لم أقبل روايته .
وفرق بين قبول الشهادة وبين قبول الرواية .
والفروق ذكرها القرافي في كتابه : الفُروق .
رابعاً : مما يؤكِّد الفرق بين الرواية والشهادة ما نقله ابن حجر عن المهلّب حينما قال :
واستنبط المهلب من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطا في قبول توبته ، لأن أبا بكرة لم يُكذب نفسه ، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعمِلُوا بها .
على أن آية القذف في قبول الشهادة .
وعلى أن هناك فَرْقاً بين القاذِف لغيره ، وبين الشاهد - كما سيأتي -
خامساً : أبو بكرة رضي الله عنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق ، ولذا لم يَرَ وجوب التوبة عليه ، وكان يقول : قد فسَّقوني !
وهذا يعني أنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق .(3/111)
قال البيهقي : إن صح هذا فلأنه امتنع من التوبة من قَذْفِه ، وأقام على ذلك .
قال الذهبي : قلت : كأنه يقول لم أقذِف المغيرة ، وإنما أنا شاهد ، فجنح إلى الفرق بين القاذف والشاهد ، إذ نصاب الشهادة لو تمّ بالرابع لتعيَّن الرجم ، ولما سُمُّوا قاذِفين .
سادساً : في الرواية تُقبل رواية المبتدع ، إذا لم تكن بدعته مُكفِّرة ، وهذا ما يُطلق عليه عند العلماء ( الفاسق الْمِلِّي ) ، الذي فِسقه متعلق بالعقيدة ، لا بالعمل .
وروى العلماء عن أُناس تكلّموا في القدر ، ورووا عن الشيعة ، وليس عن الرافضة الذين غَلَوا في دين الله !
ورووا عن الخوارج لِصِدقِهم .
ورووا عمّن يشرب النبيذ .
وعن غيرهم من خالَف أو وقع في بدعة
فإذا كان هؤلاء في نظر أهل العلم قد فسقوا بأفعالِهم هذه ، فإنه رووا عنهم لأن هؤلاء لا يرون أنهم فسقوا بذلك ، ولو رأوه فسقاً لتركوه !
فتأمّل الفرق البيِّن الواضح .
وأبو بكرة رضي الله عنه مع كونه صحابياً جاوز القنطرة ، إلا أنه يرى بنفسه أنه لم يأتِ بما يُفسِّق ، ولو رأى ذلك لَتَاب منه .
وهو - حقيقة - لم يأتِ بما يُفسِّق .
غاية ما هنالِك أنه أدى شهادة طُلِبت منه ، فلم يقذِف ابتداء ، كما علِمت .
والصحابة قد جاوزوا القنطرة ، والطّعن في الصحابة طَعن فيمن صحِبوا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فإن القدح في خير القرون الذين صحِبُوا الرسول صلى الله عليه وسلم قَدْحٌ في الرسول عليه السلام ، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم : هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين ، وأيضا فهؤلاء الذين نَقَلُوا القرآن والإسلام وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم . . اهـ .
فإن مرتبة الصُّحبة كافية في العَدَالَة .
ولذا قيل لهم ما لم يُقَل لغيرهم
ونالوا من شرف المراتب ما لم يَنَلْه غيرهم(3/112)
فإنه لا يوجد أحد قيل له : اعمل ما شئت فقد غُفِر لك ، سوى أصحاب بدر .
روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا فإذا نحن بالمرأة فقلنا : اخرجي الكتاب . فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا ؟ قال : لا تعجل عليَّ يا رسول الله إني كنت أمرا مُلصقاً في قريش - قال سفيان كان حليفا لهم - ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتّخِذ فيهم يَداً يَحْمُون بها قرابتي ، ولم أفعله كُفرا ، ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صَدَق ، فقال عمر : دعني يا رسول الله اضرب عنق هذا المنافق ! فقال : إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : إن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . رواه الإمام أحمد .
فأنت ترى أن هذا الصحابي فَعَل ما فَعَل ، ولو فَعَله غيره ممن لم يَنَل شرف شهود غزوة بدر ، لربما كان له شأن آخر .
ويُقال مثل ذلك في حق أبي بكرة رضي الله عنه ، فإنه نال شرف الصحبة ، وكفى بهذا الشَّرَف تعديلا وتوثيقاً .
ثم إن أبا بكرة الثقفي له أربعة عشر حديثا في صحيح البخاري !
فلِمَ لم يُطعَن إلا في هذا الحديث ؟
أنا أُخبِرك !
لأنه عارَض أهواء أقوام يُريدون إخراج المرأة !
الشبهة الرابعة :(3/113)
ذِكر بلقيس ملكة سبأ في القرآن الكريم .
حيث قال القائل : (ويكفينا إشادة القرآن ببلقيس ملكة سبأ وهى امرأة)
والجواب عن هذه الشُّبهة من عدّة أوجه :
الوجه الأول : أن يُقال أين هي الإشادة ؟
أفي نسبتها للضلال والكُفر ؟
كما في قوله تعالى : {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}
أم في ذِكر بعثها للرشوة باسم الهدية ؟!
كما في قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}
وربما يُقصد بالإشادة ما ذُكِر عنها أنها كانت عاقلة حكيمة
وهذا يُجاب عنه في :
الوجه الثاني : أن يُقال إنها كانت كافرة ، فهل إذا أُثني على كافر بِعَدْلٍ أو بِعَقْلٍ يكون في هذا إشادة بِكُفره ؟!
بل وفي نفس القصة : (قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ) فهل يُمكن أن يُقال : هذا فيه ثناء على العفاريت ! فتُولَّى المناصِب ! وتُحكّم في الناس ؟!!!
الوجه الثالث : أن هذا لو صحّ أن فيه إشادة - مع ما فيه من ذمّ - فليس فيه مستند ولا دليل .
أما لماذا ؟
فلأن هذا من شرع من قبلنا ، وجاء شرعنا بخلافه .
الوجه الرابع :
أن هذا الْمُلك كان لِبلقيس قبل إسلامها ، فإنها لما أسلمت لله رب العالمين تَبِعَتْ سُليمان عليه الصلاة والسلام ، فقد حكى الله عنها أنها قالت : (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
فلما أسلمت مع سليمان لم يعُد لها مُلك ، بل صارت تحت حُكم سليمان عليه الصلاة والسلام .
أخيراً :
إلى كل من خاض في مسألة تولية المرأة للمناصِب ، ومن يُطالِب أن تكون المرأة ( قاضية ) !
بل ويستدل بعضهم بما كان من الكفّار قديما وحديثا .(3/114)
أما قديما فيستدلّون بقصة بِبلقيس !
وأما حديثاً فيستشهدون بحُكم ( اليزابيث ) !
وعجيب ممن ترك الكتاب والسنة وأصبح يستدلّ على صحة أقواله بأحوال الكفار قديما وحديثاً !
ومتى كانت أفعال الكفار مصدراً للتشريع ؟؟!!
أما حُكم ملكة بريطانيا فإنه في الواقع تشريفي وراثي فحسب .
ثم إن المتنفِّذِين في السياسة والحياة العامة هم مِن الرجال سواء بسواء في بقية الدول الأوربية .
ولو لم يكن كذلك فإنه من أفعال النصارى التي لا مستند فيها ولا دليل ولا شُبهة أصلاً !
ثم إنهم يزعمون أن المرأة الغربية أكثر حصولاً على الحقوق من غيرها ، وهي لا تتولّى المناصب الكبرى ذات الخطورة والأهمية .
" وحتى الآن فجميع رؤساء الولايات المتحدة هم من الرِّجال البِيض ذوي نفوذ مالي واجتماعي كبير "
كما قال د . المسلاتي في كتابه ( أمريكا كما رأيتها ) .
وهذا يؤكِّد أن الدعاوى في وادٍ والواقع في وادٍ آخر !!
ويؤكِّد أيضا أن شُبهات القوم إنما تُثار في بلاد الإسلام فحسب !
وإلا فما معنى أن تُطالَب المرأة أن تتولّى القضاء والمناصِب القيادية ، وهي لا تأخذ نصيبها من قيادة وإدارة دفّة الْحُكْم ؟؟؟!!!
والله نسأل أن يهدينا سواء السبيل .
كتبه / عبد الرحمن السحيم
الرياض
(1) منهم على سبيل المثال : فهمي هويدي. محمد فتحي عثمان، ومحمد عمارة وغيرهم كثر.
(2) مثل الدكتور حسن الترابي وراشد الغنوشى، وهؤلاء جميعاً حادوا عن منهج السلف الصالحين وعن منهج الحركات نفسها.
(3) مجلة الآداب - بيروت - عدد مايو 1970 ص101- انظر تجديد مفهوم الدين ص267.
(4) مجلة المسلمون عدد (6) السنة الأولى ص553- المصدر السابق.
(5) ص157-ص164.
(6) انظر ص137 والصفحات التي تليها من المصدر السابق.
(7) انظر إلى " مدينة بحتة".
(8) قلت : لكي لا يوهن دينه أمام القسس.
(9) قل لي بربك ما الذي يجعله متعذراً سوى ضعف الإيمان والانهزام النفسي والخوف من الكفار؟!(3/115)
(10) ) سبحان الله ، والله إن تحكم اليهود والنصارى المرابين اليوم لا يدانيه تحكم الجاهلين الأول، وجشع الجاهليين الجدد لا يمكن أن يقاس بما كان عليه أسلافهم، وأغلب المرابين في الماضي والحاضر هم اليهود... ولماذا هذه المجاملة؟ ألترضى عنكم اليهود والنصارى؟ فإن ربنا يقول : (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) اللهم إلا إذا تيقنوا أنكم سائرون على الدرب ، ومن سار على الدرب وصل ، ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.
(11) قال محققاً جامع العلوم والحكم : (حديث حسن بطرقه وشواهده. رواه مالك في الموطأ 2/745 من طريق عمرو بن يحيي المازني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا سند صحيح إلا أنه مرسل . ورواه موصولاً من حديث أبي سعيد الخدري والدارقطني 3/77و4/228 والبيهقي 6/69 والحاكم ط2/57-58) هامش ص207/ج2.
(12) المصدر السابق ، ط2/212 والصفحات التالية لها.
(13) انظر تجديد مفهوم الدين ص260.
(14) النور 49-50.
(15) ج3/ص4 والصفحات التي تليها.
(16) الخروج بالسيف على الحكام المعلنين لشرع الله والمحكمين له لا يجوز إلا إذا صدر منهم كفر بواح، وحتى في هذه الحالة لا يجوز الخروج إلا إذا ترجحت المصلحة على المفسدة... وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين لا يحكمون شرع الله بل ويعادونه، لا يجوز الخروج عليهم بالسيف إلا إذا ترجحت المصلحة على المفسدة كي لا يحدث ما هو أكبر من ترك الحكم بشرع الله مع أنه كبير، والعلم عند من لا تخفى عليه خافية، ولا تنس أخي المسلم ما حدث نتيجة لتأول الأخيار من هذه الأمة - وهم متأولون مأجورون- في القرن الأول من أضرار بليغة وفتن عظيمة.
(17) لقد كتبت التعليق السابق قبل أن أصل إلى كلام ابن القيم هذا، فإذا كان المنهج واحداً كان التفكير واحداً وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة لا كما يقول أدعياء التجديد.(3/116)
(18) المكاء: الصفير بالفم، أو التشبيك بالأصابع والنفخ فيها- هامش ص5 المصدر السابق.
(19) التصدية: التصفيق باليد- المصدر السابق.
(20) مما لا شك فيه أن أمهل الفسق والفجور أحسن حالاً من أهل البدع والشبه، ولذلك كانت البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، والسبب أنه يرجى لأهل الفجور والفسق التوبة والإقلاع عن فسقهم، ولكن من العسير جداً أن يرجع أهل البدع والشبه عما هم فيه. فوالله الذي لا إله إلا هو إنه لمن الأفضل للشخص إذا كان موحداً أن يظل على فسقه وفجوره من أن ينضوي تحت طريقة صوفية مثلاً يعتقد أن شيخها أو غيره ينفع ويضر ويعلم الغيب... فاعتبروا يا أولي الأبصار.
(21) المصدر السابق.
(22) نلاحظ أن النهي هنا صادر عن المبلغ عن صاحب الشريعة ، وليس من شخص بسبب مصلحة رآها، فالرسول صلى الله عليه وسلم خص الأمر العام بالنهي عن إقامة هذا الحد في الحال وتأخيره إلى حين درءاً لبعض المفاسد.
(23) المجنة: تُرس.
(24) قلت: انظر إلى فقه الصحابة وفهمهم هل يدانيه فقه أو فهم، لله درهم، وصدق ابن مسعود في وصفه لهم : "أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً" رضي الله عنهم جميعا.
(25) العُذَيْب: ماء معروف بين القادسية ومغيثة... تصغير عذب. وسمي به لأنه طرف أرض- لسان العرب- مادة: عذب ج1/585.(3/117)
(26) يقصد الشيخ من كل هذا أن الله ما شرع الشريعة إلا وهي تراعي مصالح العباد، وإذا أدى الحكم إلى مفسدة في ظروف معينة فإنه يكون للشريعة حكم خاص بهذا الظرف يراعي مصلحة المكلف ، كما شرع الله تأخير الحد عن السارق في دار الغزو للمصلحة الراجحة في ذلك... ولذلك لم يلتفت بشر بن أرطأة إلى المصلحة إلا لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزو"، وكما دلت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك إنكار المنكر في الحالات التي يؤدي فيها إنكاره إلى مفسدة أكبر. وهذا يرد على العصرانيين لأنه يدل على أن كل حكم شرعي هو ذو مصلحة راجحة لا تخفى على الشارع العليم الخبير وإن خفيت على قصيري النظر من البشر.
(27) أي الحد.
(28) المصدر السابق .
(29) انظر إعلام الموقعين ج 3/8.
(30) تركت مثال ابن القيم الثالث لأني سبق أن تعرضت له من قبل عند الحديث عن عدم إقامة عمر حد السرقة عام الرمادة فلا داعي للتكرار.
(31) المصدر السابق.
(32) يقصد أن الراجح أن الحكم المنصوص عليه في الحديث هو تخصيص لحالة العجز عن الانتظار من الحكم العام .
(33) تم سردها ص15- ص16.
(34) المصدر السابق.
(35) انظر تجديد مفهوم الدين ص263 والصفحات التي تليها.
(36) إلى يوم القيامة لا يعرف قول غيره عند أهل الإسلام.
(37) انظر المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي- مصطفى زيد- ص194 من المصدر السابق.
(38) أن مثل هذه الآراء المنحرفة لا تصدر إلا من رجل مبتدع ، وهذا أقوي دليل علي أنه رجل رافضي، وكفى بذلك سبة وعاراً.
(39) بئس الخلف، فهم شر خلف لشر سلف.(3/118)
(40) المصالح المرسلة : هي ما كان من المصالح ملائمًا لقصد الشارع وقد شهدت له من الشرع أدلة كثيرة باعتبار جنسه في جنس الحكم أو نوعه. ويطلق عليها أيضًا : الاستدلال المرسل، والاستصلاح والملائم المرسل. انظر رفع الحرج للشيخ الدكتور صالح بن حميد ص312. وقد أخذ بذلك مالك ومنع منها جمع من العلماء لأن في ذلك فتح لباب واسع يخشى ألا تدركك مراميه فلله در المانعين السادِّين لهذه الذريعة.
(41) المصدر السابق
(42) سليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الطوفي الصرصري، ولد سنة بضع وسبعين وستمائة بقرية طوفا بالعراق، صنف تصانيف كثيرة، وكان مع ذلك شيعيًا منحرفًا في الاعتقاد عن السنة، حتى قال عن نفسه أشعري حنبلي رافضي. توفي سنة 716هـ. انظر ترجمته في شذرات الذهب (6/39)، الأعلام (3/127- 128) .
(43) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، للدكتور حسين حامد حسان ص535- 536، الناشر مكتبة المتنبي. القاهرة. 1981م .
(44) انظر: السنة والتشريع، للدكتور عبدالمنعم النمر ص36- 45 .
(45) المصدر السابق، ص47 .
(46) المصدر السابق، ص64 .
(47) الاجتهاد، للدكتور عبدالمنعم النمر ص11 .
(48) المصدر السابق ص110 .
(49) المصدر السابق ص111- 112 .
(50) معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة ص103 .
(51) انظر: مجلة العربي العدد 235، ص34، وانظر مفهوم تجديد الدين، لبساطمي سعيد ص178.
(52) تزييف الوعي، لفهمي هويدي ص84- 85، الناشر دار الشروق - القاهرة - الطبعة الثانية 1412هـ- 1992م .
(53) المصدر السابق ص87 .
(54) المصدر السابق ص88 .
(55) سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، مقال لمحمد سليم العوا، انظر مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحي ص41.
(56) انظر نظرية المصلحة ص15- 17.
(57) انظر المصدر السابق ص16 .
(58) المصدر السابق ص262 .
(59) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد سعيد البوطي ص411، الناشر مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الخامسة .(3/119)
(60) ابن حنبل، لأبي زهيرة ص359، الناشر دار الفكر العربي. القاهرة .
(61) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبدالوهاب خلاف ص101، الناشر دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع. الكويت. الطبعة السادسة 1414هـ- 1993م .
(62) العصريون معتزلة اليوم، يوسف كمال ص123، الناشر دار الوفاء للطباعة والنشر. المنصورة. الطبعة الثانية 1410هـ- 1990م .
(63) الموافقات، للشاطبي (4/225) .
(64) انظر: الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد السفياني ص477 .
(65) مقال بعنوان التشريع من السنة وكيفية الاستنباط منها بقلم الدكتور علي محيي الدين داغي ص387، في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة العدد الثاني 1407هـ- 1987م .
(66) تجديد التفكير الديني، محمد إقبال ص190 .
(67) مجلة البيان العدد 134 شوال 1419هـ .
(68) انظر: معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة ص102 .
(69) كتب (ثيودور) باركر في عام 1848م كتابًا عن الثابت والمتغير في المسيحية، وبعد عشر سنوات تناول نفس المفهوم في اليهودية ليلنثال، انظر Blau , Modeصلى الله عليه وسلمn Vaneties of Tudidm.
(70) انظر (الثابت والمتغير)، جمال الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 23 (رمضان- 1400هـ) ص 5، و(النصوص وتغير الأحكام) معروف الدواليبي، مجلة المسلمون، العدد السادس، السنة الأولى (1371هـ)، ص 533، و(مقدمة في إحياء الشريعة) صبحي المحمصاني، ص 59 وما بعدها، و(فلسفة التشريع) لنفس المؤلف، ص 198.
(71) (مجلة المسلمون)، العدد 6، السنة الأولى، ص 553.
(72) (الأحكام في أصول الأحكام)، ابن حزم، ج 5، ص 771-774.
(73) انظر (شرح المجلة)، محمد خالد الأتاسي، ج 1 ص 91.
(74) (تغير الأحكام بتغير الزمان)، د. مصطفي الزرقا، مجلة (المسلمون)، العدد 8 ص 891 (1373).
(75) انظر (الموفقات) للشاطبي، ج 2 ص 283 وما بعدها.
(76) (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي)، مصطفي زيد، ص 194.(3/120)
(77) راجع في ذلك المصدر نفسه ص 67 ـ 88. و(ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) محمد سعيد رمضان البوطي، ص 202 ـ 206، وانظر (ذيل طبقات الحنابلة) لابن رجب، ج 2 ص 336.
(78) انظر النص الكامل لهذا الشرح في ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي لمصطفى زيد.
(79) ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي، مصطفى زيد، ص 235 و 238 و 240.
(80) انظر نفس المصدر.
(81) انظر (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية)، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 212.
(82) انظر (ابن حنبل) لأبي زهرة، ص 359.
(83) نفس المصدر ص 363.
(84) (مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه)، عبد الوهاب خلاف، ص 101.
(85) مجلة (الآداب)، بيروت، عدد مايو 1970م، ص 101.
(86) راجع مقال معروف الدواليبي (النصوص وتغير الأحكام)، مجلة المسلمون، العدد 6، السنة الأولى، ص 553، و(مقدمة في إحياء الشريعة) المحمصاني، ص 67.
(86) مقال الدواليبي، المصدر السابق، ص 555.
(87) مقال النويهي، مجلة (الآداب)، بيروت، ص 100، عدد مايو 1970م.
(88) راجع (منهج عمر بن الخطاب في التشريع)، محمد بلتاجي حسن، ص 175ـ 191، والكتاب كله مناقشة قيِّمة لاجتهادات عمر.
(89) مقال الدواليبي، ص 555.
(90) راجع (نيل الأوطار) للشوكاني، ج 7 ص 118.
(91) (إعلام الموقعين)، ج 3 ص 14.
(92) (مقدمة في إحياء الشريعة)، المحمصاني، ص 67.
(93) (مناقب الشافعي) للبيهقي، ج 1 ص 256.
(94) (الشافعي) أبو زهرة، ص 192 ـ 395.
(95) (مناقب الشافعي) البيهقي، ج 1 ص 263، و(مناقب الشافعي) لابن أبي حاتم، ص 60.
(96) انظر (المصلحة في التشريع الإسلامي)، مصطفى زيد، ص 161.
(97) إعلام الموقعين، ابن القيم، ص 4 - 50.
(98) انظر ص 150 من هذا البحث.
(99) (نظرية الإسلام وهديه في السياسية)، المودودي، ص 244 .
(100) (الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، المودودي، ص 264 - 266.
(101) نفس المصدر، ص 259.(3/121)
(102) وهناك ادعاءات تقول: إن الرجم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إنما رجم اتباعًا لليهود قبل نزول سورة النور، وعندما نزلت سورة النور بالجلد نسخت الرجم. وهذه ادعاءات ليس لها من الدليل إلا الاحتمالات والظنون، ولا بد في النَّسْخِ من دليل قاطع.
(103) (تفسير سورة النور)، المودودي ص 45.
(104) (الجهاد في سبيل الله)، المودودي، ص 41.
(105) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث.
(106) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44.
(107) انظر ص 133 من هذا البحث.
(108) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م.
(109) انظر ص 190 من هذا البحث.
(110) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة.
(111) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259.
(112) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175.
(113) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35.
(114) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270.
(115) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267.
(116) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116.
(117) نفس المصدر ص 117.
(118) نفس المصدر ص 118.
(119) (المسند)، 6/ 123.
(120) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29.(3/122)
(121) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153.
(122) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12.
(123) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117.
(124) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء". فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة.
(125) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283.
(126) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109).
(127) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12.
(128) نفس المصدر، ص 8.
(129) نفس المصدر، ص 8.
(130) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م.
(131) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172.
(132) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308.
(133) انظر تقييد ما ورد من الإطلاق في هذه المقالة، وقد حرر ذلك الأستاذ: علي أحمد غلام الندوي في رسالته للماجستير "القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإسلامي" مخطوط جامعة أم القرى ص 55، وقد تبين أن هذا الإطلاق غير صحيح.
(134) انظر محاولة لتحديد معنى "التغيّر" لغة وشرعًا والفرق بينه وبين النسخ في رسالة الماجستير "الفقه والقضاء وأولو الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان" إعداد محمد راشد علي - كلية الشريعة والقانون - بالقاهرة ص 8-18.
(135) اخترت هذا المثال لوضوحه وأدائه المقصود وستأتي أمثلة كثيرة متصلة بأبواب كثيرة في الفقه الإسلامي، عند مناقشة أدلة القائلين بالتغيير.
(136) انظر ما سبق ص232.(3/123)
(137) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 18-24-25.
(138) تغير الأحكام بتغير الزمان 10.
(139) تغير الأحكام بتغير الزمان 18.
(140) جاء في اللسان: "العرف والعارفة والمعروف ضد النكر، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير. (اللسان مادة "عرف" 9/239).
وكل ذلك يوحي بأن معنى العرف هو كل ما تعرفه النفوس من الخير وتتابع عليه ومنه قوله تعالى: ( وأمر بالمعروف.. )
وقريب من المعنى اللغوي ما قصده الفقهاء - في الجملة- حيث تدور تعريفاتهم لمعنى "العرف" حول ما اطمأنت إليه النفوس وألفته عن طريق الاستعمال الشائع المتكرر قولاً أو فعلاً، ومن أمثلة ذلك: اشتراط المسلمين بعض الشروط في البيع، واستصناعهم الثياب- وتعاملهم بذلك، ووقف بعض المنقولات وقبض بعضهم نصف الصداق قبل العقد، واعتياد بعضهم كشف رؤوسهم كأهل المغرب، ونحو ذلك. انظر في ذلك العرف والعادة في رأي الفقهاء، عرض نظرية في التشريع الإسلامي بقلم أستاذي في قسم الدراسات الشرعية أحمد فهمي أبوسنة - مخطوط بدار الكتب المصرية، 2864/1949.
(141) والعادة: الديدن، فكل ما استمر عليه الإنسان ودأب يسمى عادة، وجمعها عادات وعوائد، اللسان مادة "عود" 3/316-317، والعادة في عرف الفقهاء يشترط فيها التكرار في الحدوث، قولاً أو فعلاً، صدر من الفرد أو الجماعة سببه مكتسب أو غير مكتسب، مثل حرارة الإقليم وبرودته، فإن لهما أثرًا في العادة على إسراع البلوغ وإبطائه، وطبيعة الأرض فإنه يترتب عليها عادة اشتغال الناس بالتجارة بنوع من الأموال، وقد ذكر د.أحمد فهمي تعاريف كثيرة اختار منها أشملها لمقصود الفقهاء فإن الفقهاء قصدوا من بحث العرف والعادة جعلهما قاعدة تُبنى عليها الأحكام العملية، انظر 10-11-12. ولذلك اشترط في تعريفها حدوث التكرار في القول أو الفعل من الفرد أ والجماعة بسبب مكتسب أو غير مُكتسب وقد يسمى غير ذلك عادة أو عرفًا والمقصود هنا النظر فيما يكون قاعدة للحكم الفقهي.(3/124)
(142) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطا معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها.
(143) تعليل الأحكام 71.
(144) المرجع نفسه 56-64.
(145) المرجع نفسه 34.
(146) المرجع نفسه 34.
(147) المرجع نفسه 322.
(148) المرجع السابق 32.
(149) المرجع السابق 37-38.
(150) المرجع السابق 43.
(151) المرجع السابق 61.
(152) المرجع السابق 293.
(153) المرجع السابق 293.
(154) المرجع السابق 302، ظاهر من منهج المؤلف أن كتابه- تعليل الأحكام- مبني على ما نقله عن الصحابة من تطبيقات، وهو يظن أن الأمثلة التي جمعها تدل على مقصوده، ويطالب مخالفه في دعواه أن يستقرئ هذه الأمثلة ويخرجها على غير تفسيره هو، وهذا ما أسأل الله عليه العون والتوفيق.. وإذا خرجت التفسيرات عن تفسيره بالأدلة الواضحة سقط كل ما بناه عليها، والله المستعان.
(155) المرجع السابق 282.
(156) ولذلك فإني أعتبر هذه المطالب ردًا وتفنيدًا لشبهة تغير الأحكام سواء وردت في الكتاب المذكور أو في غيره من الكتب، وإنما تتبعها كما جاءت فيه لأنه استوعب أكثر الشبه التي يمكن أن تروج لقضية التغيير والتبديل، وقد بناها على القول باتباع المصالح، ونحن نحتاج إلى بيان مدى خطورة ترك ضوابط المصلحة من الناحية التطبيقية، ليكون في ذلك عبرة لكل من يتحدث عن الإسلام ويعمل له، فكثيرًا ما ضل قوم وهم يزعمون أنهم يتبعون المصلحة ، ولابد من استيعابه ومتابعة الشبه وتصحيح نقول بعض الباحثين عن الأئمة التي لم تصحح في بحوث أخرى ، ولو اقتضى ذلك نوعاً من التطويل.. والله المستعان..
(157) تعليل الأحكام 37-38.
(158) انظر بيانه فيما سبق ص 232.(3/125)
(159) سنن أبي داود رقم 533، ومعنى تفلة أي غير متطيبة، وتفلة بفتح المثناة وكسر الفاء، وامرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح" فتح الباري 2/349.
(160) سنن أبي داود رقم 536، وتعليل الأحكام 38-39.
(161) رسالة تعليل الأحكام 39.
(162) المرجع السابق 1/231.
(163) فتح الباري 2/348-349.
(164) معنى بكتوه أي وبخوه، انظر سنن أبي داود رقم 4312.
(165) سنن البيهقي 8/320 الطبعة الأولى 1354هـ - وتعليل الأحكام 60-61-62، وسنن أبي داود 4314.
(166) سنن البيهقي 8/320، وسنن أبي داود 4324.
(167) تعليل الأحكام 61.
(168) انظر ما سبق ص383.
(169) انظر المسألة فيما سبق ص433-434.
(170) سنن أبي داود 4324.
(171) تنوير الحوالك شرح الموطأ 2/220.
(172) وهو من معنى الأثر السابق- انظر المصدر السابق 2/220.
(173) تعليل الأحكام 62-63.
(174) راجع المسألة في كتاب المغني 9/103 إلى 137.
(175) المغني 9/136.
(176) تعليل الأحكام 63.
(177) انظر كيفية الاستنباط من الآية في أحكام القرآن لابن العربي 2/615.
(178) معنى أملقوا افتقروا. انظر فتح الباري 6/130.
(179) فتح الباري 6/129-130.
(180) تعليل الأحكام 32.
(181) سورة النساء : آية 64.
(182) سورة الأحزاب : آية 36.
(183) سورة النور : آية 63.
(184) سورة الحجرات: آية 1.
(185) فتح الباري 6/130.
(186) فتح الباري 6/130.
(187) فتح الباري 12/275.
(188) الموافقات 4/225.
(189) مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي رقم 4246.
(190) سنن الترمذي رقم 1474.
(191) تعليل الأحكام 36.
(192) تعليل الأحكام 37.
(193) انظر المغني 308.
(194) المغني 308-309، تعليل الأحكام 36-37.
(195) انظر ما سبق ص358.(3/126)
(196) سورة البقرة : آية 104. وقد كان المسلمون من قولهم: "راعنا" الخير فاستعمله اليهود وهم يقصدون به الشر، يقصدون فاعلاً من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، تفسير ابن كثير 1/150 وأعلام الموقعين 3/137. 1/150 وأعلام الموقعين 3./137.
(197) { فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام:108).
(198) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ "إن رسول الله × قال ، من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه، قال نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" فنهاه عن سب غير أبيه وأمه لكي لا يتخذ ذريعة لسب أبويه . باب أكبر الكبائر 2/83- صحيح مسلم بشرح النووي.
(199) الموافقات 3/189، 190.
(200) 3/137-159.
(201) الموافقات 3/188.
(202) المصدر السابق 3/192.
(203) المصدر السابق 3/193.
(204) 226، وانظر 200، 391، 509.
(205) انظر أعلام الموقعين 3/143- 154 ونظرية المصلحة 227.
(206) ومثله ما نسبه إلى عمر رضي الله عنه ص 37-38. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر رضي الله عنه مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى:+وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" .
والظاهر - والله أعلم- أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفًا فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون.
(207) ومثل ذلك ما قاله في تضمين الصناع ص59. مع أن هذا المثال في الحقيقة يدخل تحت أصل أو قاعدة معتبرة وهي قاعدة سد الذرائع. انظر نظرية المصلحة 341، أو تدخل تحت أصل معتبر وهو أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة عند التعارض في الوقائع التي لم يرد فيها حكم منصوص. نظرية المصلحة 133-137.(3/127)
(208) انظر الإجماع ص266-384.
(209) أشرت إلى فساد عقيدته وفساد رأيه الذي قدم به المصلحة على النص . انظر ما سبق ص413.
(210) انظر رسالة أستاذي "نظرية المصلحة" من أولها إلى آخرها تجد فيها ما يثبت ذلك ، وكذلك ضوابط المصلحة.
(211) تعليل الأحكام 3002.
(212) مخالفة المؤلف للمنكرين للتعليل -مع موافقتي له في ذلك - لا يبيح له رفع ضوابط المصلحة واتباع مذهب الطوفي.. والشذوذ عن الإجماع.
(213) رسالة تعليل الأحكام 92.
(214) تعليل الأحكام 292-293-294-295.
(215) تعليل الأحكام 295-296.
(216) تعليل الأحكام 292-296.
(217) انظر نظرية المصلحة ، وانظر ضوابط المصلحة للأستاذ البوطي. وهما بحثان متخصصان في موضوع المصلحة.
(218) نظرية المصلحة 807.
(219) المرجع نفسه 807.
(220) المرجع نفسه 808 وراجع إن شئت ما ذكره من التفاصيل والأدلة في كل موضع من هذه المواضع تجد أنه حرر نسبة المذاهب إلى أصحابها وضبطها ورد على المخالفين أمثال الطوفي الذي يحاول د. شلبي الانتصار له.
(221) المرجع السابق 293.
(222) انظر هامش ص 413 وما بعدها.
(223) انظر ما سبق ص 460- 461 من الرد على محمد شلبي في التطبيقات التي ذكرها.
(224) بل زاد صاحب رسالة التعليل ص370 الطين بلة، وزعم أن المصلحة تقدم على النص ويترك بها جميع أفراده، وتقدم على الإجماع ، وتعطل النص ولا تنسخه، وهذا المذهب أقبح من مذهب الطوفي ، انظر مقارنة بينهما في نظرية المصلحة 111-113.
(224) انظر ص 149 من هذا البحث.
(225) (هذه المجلة)، كلمة التحرير، د. جمال الدين عطية، ص 7، (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي، شوال 1394هـ، (نوفمبر 1974م).
(226) انظر (منهاج هذه المجلة) محمود أبو السعود، ص 123 العدد الافتتاحي ـ و(إمكان الاجتهاد في أصول الفقه) د. مصطفى كمال وصفي، ص 131، العددان الأول والثاني (ربيع الأول 1395هـ) و(نظرات في العدد الأول)، يوسف القرضاوي، ص 136 نفس المصدر.(3/128)
(227) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، ص 257، مجلة العربي، عدد 222، مايو 1977م.
(228) (نظرات في العدد الأول) يوسف القرضاوي، ص 138، (مجلسة المسلم المعاصر)، العدد الأول والثاني ربيع الأول 1395هـ.
(229) تجديد الفكر الإسلامي ص 12.
(230) تجديد الفكر الإسلامي ص 21.
(331) تجديد أصول الفقه ص 29.
(232) انظر الرسالة للإمام الشافعي ص 471 وما بعدها، ففيها هذا المعنى.
(233) منهاج الوصول في علم الأصول (2/273).
(234) جمع الجوامع (2/176).
(235) الفقيه والمتفقه (1/154).
(236) يقصد بقوله: "حالت" تحولت تلك الظروف وتبدلت.
(237) تجديد الفكر الإسلامي ص 11.
(238) تجديد الفكر الإسلامي ص 12 .
(239) تجديد الفكر الإسلامي ص 21.
(240) الفقيه والمتفقه (2/178).
(241) منهاج الوصول في علم الأصول (3/3).
(242) تجديد أصول الفقه ص 22.
(243) الشاطبي : الاعتصام 1/184
(244) عبد المجيد النجار : العقل والسلوك في البنية الإسلامية ص115
(245) معالم في الطريق ص105
(246) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(247) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(248) د. وهبة الزُّحيلي : نظرية الضرورة الشرعية : ص67-68 انظر كذلك كتاب : ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبُوطي.
(249) المصدر السابق: ص69-71
(250) سورة الملك : الآية 14
(251) محمد أبو القاسم حاج حمد : العالمية الإسلامية الثانية ص279
(252) ابن القيم : أعلام الموقعين 3/5 .
(253) الشعراني: الميزان 1/30 .
(254) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث.
(255) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44.
(256) انظر ص 133 من هذا البحث.
(257) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م.
(258) انظر ص 190 من هذا البحث.(3/129)
(259) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة.
(260) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259.
(261) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175.
(262) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35.
(263) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270.
(264) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267.
(265) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116.
(266) نفس المصدر ص 117.
(267) نفس المصدر ص 118.
(268) (المسند)، 6/ 123.
(269) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29.
(270) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153.
(271) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12.
(272) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117.
(273) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء". فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة.
(274) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283.(3/130)
(275) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109).
(276) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12.
(177) نفس المصدر، ص 8.
(278) نفس المصدر، ص 8.
(279) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م.
(280) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172.
(281) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308.…
(282) المصدر نفسه ص38 - 39 .
(283) مجلة المسلمون العدد السادس السنة الأولى ص553 .
(284) مجلة الأدب. بيروت. عدد مايو 1970 ص101 .
(285) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين. محمد الغزالي ص134 - 135 .
(286) معالم المنهج الإسلامي. محمد عمارة ص234 .
(287) المصدر السابق ص232 .
(288) المصدر السابق، ص243 - 244 .
(289) أخرجه البخاري، كتاب اللباس. باب عذاب المصورين يوم القيامة (10/382) ح(5950). ومسلم أيضًا في كتاب اللباس والزينة. باب تحريم صورة الحيوان.. (3/1670) ح(2109) .
(290) معالم المنهج الإسلامي ص245 .
(291) مجموع الفتاوى (33/93 - 94) .
(292) أخرجه البخاري. كتاب الجمعة. باب ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد (2/382) ح(900). ومسلم في كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة .. (1/327) ح(442).
(293) السنة تشريع لازم ودائم ص99- 100 .
(294) الفتاوى (33/ 94) .
(295) الموافقات للشاطبي (285- 286) .
(296) الحديث أخرجه البخاري كتاب الآذان. باب انتظار الناس قيام الإمام العالم (2/349) ح(869). ومسلم في كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة ... واللفظ لمسلم (1/329) ح:445 .
(297) سنة تشريعية وغير تشريعية. محمد سليم العوا ص41 .
(298) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/161) .
(299) سبق تخريجه ص256 .(3/131)
(300) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية - د. عابد السفياني ص465 .
(301) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/164) .
(302) مقال " النصوص وتغير الأحكام " مجلة المسلمون عدد (6) ص555 .
(303) الشروط التي اشترطها الشارع لتنفيذ الحد :
1- أن يكون المسروق نصابًا .
2- أن يكون من حرز .
3- أن لا يكون فيه شبهة ملك .
4- أن لا يكون آخذه محتاجًا إليه لسد رمقه .
انظر: المغني (9/103- 137)، وانظر الثبات والشمول لعابد السفياني ص471 .
(304) المحلى لابن حزم (11/343) تحقيق أحمد شاكر - الناشر مكتبة دار التراث. القاهرة .
(305) أعلام الموقعين (3/ 14) .
(306) الثبات والشمول. عابد السفياني ص472 .
(307) مفهوم تجديد الدين - بسطامي سعيد ص130 .
(308) تفسير المنار (2/215 - 216 ) .
(309) المصدر السابق (10/ 289) .
(310) السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية. تأليف عبدالوهاب خلاف ص84- 85. الناشر دار القلم للنشر والتوزيع. الكويت، 1408هـ- 1988م .
(311) العلاقات الدولية والنظم القضائية في الشريعة الإسلامية، تأليف عبدالخالق النواوي ص109، الناشر دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى 1394هـ- 1974م .
(312) العلاقات الدولية في الإسلامية - تأليف محمد أبو زهرة ص47، الناشر الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1384هـ- 1964م .
(313) المصدر السابق ص89- 90 .
(314) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/50 - 92) .
(315) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، لمحمد الغزالي ص132 .
(316) المصدر السابق ص133 .
(317) الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر. تأليف محمد الغزالي ص13. الناشر مكتبة وهبة. القاهرة. الطبعة الثانية 1405هـ- 1985م .
(318) المصدر السابق ص13 .
(319) المصدر السابق، ص16- 17 .(3/132)
(320) جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج، تأليف محمد الغزالي ص89. الناشر دار القلم للنشر والتوزيع - دمشق الطبعة الأولى 1411هـ- 1991م .
(321) المصدر السابق ص89 .
(322) المصدر السابق ص90 .
(323) المصدر السابق ص91 - 92 .
(324) أخرجه البخاري - كتاب المناقب - باب 28 (6/633) ح: 3644. ومسلم - كتاب الإمارة - باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3/1493) ح: 1873 .
(325) نقلاً عن الرد القويم لما جاء في الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب المهين، للشيخ الأمين الحاج محمد أحمد ص86 .
(326) مواطنون لا ذميون - فهمي هويدي ص234 .
(327) المصدر السابق ص236 .
(328) المصدر السابق ص240 - 241 .
(329) انظر: المصدر السابق ص244 - 249 .
(330) المصدر السابق ص261 .
(331) المصدر السابق ص261 - 262 .
(332) الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية - محمد عمارة ص130 .
(333) المصدر السابق ص131 .
(334) المصدر السابق ص135 - 136 .
(335) المصدر السابق ص136- 137 .
(336) مراحل تشريع الجهاد أربع مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة النهي عن القتال قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) [الناس: 77].
المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض. قال تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[الحج: 39].
المرحلة الثالثة : وفيها فرض القتال على المسلمين لمن قاتلهم فقط. قال تعالى: ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) [البقرة: 190].(3/133)
المرحلة الرابعة: وفيها فرض قتال جميع الكفار قال تعالى: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) [التوبة: 5].
ويتخلص الحكم في الجهاد بأنه " كان محرمًا ثم مأذونًا به ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين. إما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور ". زاد المعاد لابن القيم (3/71)، وانظر أهمية الجهاد للعلياني ص136- 144، وانظر الجهاد في الإسلام، تأليف صالح اللحيدان ص43- 54، الناشر دار اللواء للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثانية 1398هـ- 1978م
(337) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ عبدالرحمن الدوسري ص137- 138، الناشر مكتبة الرشد للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثانية 1403هـ- 1983م .
(338) مجموع فتاوى، ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز (3/198- 199) .
(339) افتراءات حول غايات الجهاد، للدكتور محمد نعيم ياسين ص119. الناشر دار الأرقم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1406هـ- 1986م .
(340) في ظلال القرآن. سيد قطب (2/497) .
(341) سبق ذكر هذا الأثر ص123، من هذه الرسالة .
(342) انظر :"الإحكام" ص231-232
(343) انظر : الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص42
(444) الفروق للقرافي ج1 ص176-177
(445) راجع فيما تقدم : الفتوى بين الانضباط والتسيب للقرضاوي ص90-103
(446) المرجع السابق ص99
(447) انظر :الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص82
(448) أعلام الموقعين لابن القيم 3/48
(449) انظر : في فقه التدين فهما وتنزيلاً 2/76
(450) انظر :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد سفياني ص525
(351) انظر :مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد 272
(352) المرجع السابق ص271
(353) انظر :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد سفياني ص449 فما بعدها.(3/134)
(354) مجلة دونت فيها المعاملات الفقهية في عهد الدولة العثمانية ، بدئ في تأليفها عام 1285ه وتم ترتيبها عام 1293ه انظر فلسفة التشريع في الإسلام لصبحي محمصاني ص94.
(355) انظر : مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد ص262
(356) راجع : "ضوابط المصلحة عند جمهور الأصوليين" الضابط الثالث: عدم معارضة المصلحة للسُّنَّة في هذا البحث.
(357) انظر: "ضوابط المصلحة" للطوفي ص 166.
(358) " الإحكام" للقرافي ص32-41.
(359) الأعراف : 158.
(360) انظر :" الإحكام " للقرافي من ص86 إلى ص96.
(361) انظر :"الإحكام" ص75.
(362) انظر: "أفعال الرسول" للعروسي ص174-175.
(363) انظر:"معالم المنهج الإسلامي" ص114
(364) المرجع السابق ص114
(365) "معالم المنهج الإسلامي" ص114-115
(366) المرجع السابق ص115
(367) المرجع السابق ص119
(368) انظر: "الإسلام وقضايا العصر" ص25
(469) يلاحظ أن ما ذكره من أمثلة بعض السنة غير التشريعية عنده لا كلها، فالمسكوت عنه أكثر من المنطوق به.
(370) "الإسلام وقضايا العصر" ص25
(371) "غزو من الداخل" لجمال سلطان ص38
(372) "معالم المنهج الإسلامي" ص118
(373) "معالم المنهج الإسلامي" ص102
(374) "معلم المنهج الإسلامي" ص102
(375) انظر: "الاجتهاد في الشريعة الاسلامية" لمحمد صالح موسى ص22 وكذلك "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" لمحمد فوزي ص17 والاستصلاح للزرقا ص89
(376) المرجع السابق ص102
(377) انظر "الموفقات" المقدمة العاشرة ج1/87
(378) سبقت الإشارة إلى قول ابن القيم في مباحث المقاصد لدى الشاطبي.
(379) "مفتاح دار السعادة" ج2ص117.
(380) "الموفقات" ج2 ص286
(381) أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. له :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية.
(382) انظر :"الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" ص540
(383) انظر:"تجديد التفكير الديني في الإسلام"ص197
(384) انظر :" أبو حنيفة" للأستاذ محمد أبو زهرة.(3/135)
(385) انظر :" تجديد التفكير الديني في الإسلام" ص198-199
(386) الدكتور حمد الجمال في كتابه: "اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر" ج1 ص294/ 295.
(387) الشاطبي : الاعتصام 1/184
(388) عبد المجيد النجار : العقل والسلوك في البنية الإسلامية ص115
(389) معالم في الطريق ص105
(390) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(391) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(392) د. وهبة الزُّحيلي : نظرية الضرورة الشرعية : ص67-68 انظر كذلك كتاب : ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبُوطي.
(393) المصدر السابق: ص69-71
(394) سورة الملك : الآية 14
(395) محمد أبو القاسم حاج حمد : العالمية الإسلامية الثانية ص279
(396) ابن القيم : أعلام الموقعين 3/5 (نقلا عن كتاب العقل والسلوك للنجار).
(397) الشعراني: الميزان 1/30 (نقلا عن كتاب شريعة الإسلام للقرضاوي).
(398) انظر تقييد ما ورد من الإطلاق في هذه المقالة، وقد حرر ذلك الأستاذ: علي أحمد غلام الندوي في رسالته للماجستير "القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإسلامي" مخطوط جامعة أم القرى ص 55، وقد تبين أن هذا الإطلاق غير صحيح.
(399) انظر محاولة لتحديد معنى "التغيّر" لغة وشرعًا والفرق بينه وبين النسخ في رسالة الماجستير "الفقه والقضاء وأولو الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان" إعداد محمد راشد علي - كلية الشريعة والقانون - بالقاهرة ص 8-18.
(400) اخترت هذا المثال لوضوحه وأدائه المقصود وستأتي أمثلة كثيرة متصلة بأبواب كثيرة في الفقه الإسلامي، عند مناقشة أدلة القائلين بالتغيير.
(401) انظر ما سبق ص232.
(402) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 18-24-25.
(403) تغير الأحكام بتغير الزمان 10.
(404) تغير الأحكام بتغير الزمان 18.
(405) جاء في اللسان: "العرف والعارفة والمعروف ضد النكر، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير. (اللسان مادة "عرف" 9/239).(3/136)
وكل ذلك يوحي بأن معنى العرف هو كل ما تعرفه النفوس من الخير وتتابع عليه ومنه قوله تعالى: " وأمر بالمعروف.. "
وقريب من المعنى اللغوي ما قصده الفقهاء - في الجملة- حيث تدور تعريفاتهم لمعنى "العرف" حول ما اطمأنت إليه النفوس وألفته عن طريق الاستعمال الشائع المتكرر قولاً أو فعلاً، ومن أمثلة ذلك: اشتراط المسلمين بعض الشروط في البيع، واستصناعهم الثياب- وتعاملهم بذلك، ووقف بعض المنقولات وقبض بعضهم نصف الصداق قبل العقد، واعتياد بعضهم كشف رؤوسهم كأهل المغرب، ونحو ذلك. انظر في ذلك العرف والعادة في رأي الفقهاء، عرض نظرية في التشريع الإسلامي بقلم أستاذي في قسم الدراسات الشرعية أحمد فهمي أبوسنة - مخطوط بدار الكتب المصرية، 2864/1949.
(406) والعادة: الديدن، فكل ما استمر عليه الإنسان ودأب يسمى عادة، وجمعها عادات وعوائد، اللسان مادة "عود" 3/316-317، والعادة في عرف الفقهاء يشترط فيها التكرار في الحدوث، قولاً أو فعلاً، صدر من الفرد أو الجماعة سببه مكتسب أو غير مكتسب، مثل حرارة الإقليم وبرودته، فإن لهما أثرًا في العادة على إسراع البلوغ وإبطائه، وطبيعة الأرض فإنه يترتب عليها عادة اشتغال الناس بالتجارة بنوع من الأموال، وقد ذكر د.أحمد فهمي تعاريف كثيرة اختار منها أشملها لمقصود الفقهاء فإن الفقهاء قصدوا من بحث العرف والعادة جعلهما قاعدة تُبنى عليها الأحكام العملية، انظر 10-11-12. ولذلك اشترط في تعريفها حدوث التكرار في القول أو الفعل من الفرد أ والجماعة بسبب مكتسب أو غير مُكتسب وقد يسمى غير ذلك عادة أو عرفًا والمقصود هنا النظر فيما يكون قاعدة للحكم الفقهي.(3/137)
(407) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطا معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها.
(408) تعليل الأحكام 71.
(409) المرجع نفسه 56-64.
(410) المرجع نفسه 34.
(411) المرجع نفسه 34.
(412) المرجع نفسه 322.
(413) المرجع السابق 32.
(414) المرجع السابق 37-38.
(415) المرجع السابق 43.
(416) المرجع السابق 61.
(417) المرجع السابق 293.
(418) المرجع السابق 293.
(419) المرجع السابق 302، ظاهر من منهج المؤلف أن كتابه- تعليل الأحكام- مبني على ما نقله عن الصحابة من تطبيقات، وهو يظن أن الأمثلة التي جمعها تدل على مقصوده، ويطالب مخالفه في دعواه أن يستقرئ هذه الأمثلة ويخرجها على غير تفسيره هو، وهذا ما أسأل الله عليه العون والتوفيق.. وإذا خرجت التفسيرات عن تفسيره بالأدلة الواضحة سقط كل ما بناه عليها، والله المستعان.
(420) المرجع السابق 282.
(421) ولذلك فإني أعتبر هذه المطالب ردًا وتفنيدًا لشبهة تغير الأحكام سواء وردت في الكتاب المذكور أو في غيره من الكتب، وإنما تتبعها كما جاءت فيه لأنه استوعب أكثر الشبه التي يمكن أن تروج لقضية التغيير والتبديل، وقد بناها على القول باتباع المصالح، ونحن نحتاج إلى بيان مدى خطورة ترك ضوابط المصلحة من الناحية التطبيقية، ليكون في ذلك عبرة لكل من يتحدث عن الإسلام ويعمل له، فكثيرًا ما ضل قوم وهم يزعمون أنهم يتبعون المصلحة ، ولابد من استيعابه ومتابعة الشبه وتصحيح نقول بعض الباحثين عن الأئمة التي لم تصحح في بحوث أخرى ، ولو اقتضى ذلك نوعاً من التطويل.. والله المستعان..
(422) تعليل الأحكام 37-38.
(423) انظر بيانه فيما سبق ص 232.(3/138)
(424) سنن أبي داود رقم 533، ومعنى تفلة أي غير متطيبة، وتفلة بفتح المثناة وكسر الفاء، وامرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح" فتح الباري 2/349.
(425) سنن أبي داود رقم 536، وتعليل الأحكام 38-39.
(426) رسالة تعليل الأحكام 39.
(427) المرجع السابق 1/231.
(428) فتح الباري 2/348-349.
(429) معنى بكتوه أي وبخوه، انظر سنن أبي داود رقم 4312.
(430) سنن البيهقي 8/320 الطبعة الأولى 1354هـ - وتعليل الأحكام 60-61-62، وسنن أبي داود 4314.
(431) سنن البيهقي 8/320، وسنن أبي داود 4324.
(432) تعليل الأحكام 61.
(433) انظر ما سبق ص383.
(434) انظر المسألة فيما سبق ص433-434.
(435) سنن أبي داود 4324.
(436) تنوير الحوالك شرح الموطأ 2/220.
(437) وهو من معنى الأثر السابق- انظر المصدر السابق 2/220.
(438) تعليل الأحكام 62-63.
(439) راجع المسألة في كتاب المغني 9/103 إلى 137.
(440) المغني 9/136.
(441) تعليل الأحكام 63.
(442) انظر كيفية الاستنباط من الآية في أحكام القرآن لابن العربي 2/615.
(443) معنى أملقوا افتقروا. انظر فتح الباري 6/130.
(444) فتح الباري 6/129-130.
(445) تعليل الأحكام 32.
(446) سورة النساء : آية 64.
(447) سورة الأحزاب : آية 36.
(448) سورة النور : آية 63.
(449) سورة الحجرات: آية 1.
(450) فتح الباري 6/130.
(451) فتح الباري 6/130.
(452) فتح الباري 12/275.
(453) الموافقات 4/225.
(454) مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي رقم 4246.
(455) سنن الترمذي رقم 1474.
(456) تعليل الأحكام 36.
(457) تعليل الأحكام 37.
(458) انظر المغني 308.
(459) المغني 308-309، تعليل الأحكام 36-37.
(460) انظر ما سبق ص358.(3/139)
(461) سورة البقرة : آية 104. وقد كان المسلمون من قولهم: "راعنا" الخير فاستعمله اليهود وهم يقصدون به الشر، يقصدون فاعلاً من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، تفسير ابن كثير 1/150 وأعلام الموقعين 3/137. 1/150 وأعلام الموقعين 3./137.
(462) { فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام:108).
(463) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه، قال نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" فنهاه عن سب غير أبيه وأمه لكي لا يتخذ ذريعة لسب أبويه . باب أكبر الكبائر 2/83- صحيح مسلم بشرح النووي.
(464) الموافقات 3/189، 190.
(465) 3/137-159.
(466) الموافقات 3/188.
(467) المصدر السابق 3/192.
(468) المصدر السابق 3/193.
(469) 226، وانظر 200، 391، 509.
(470) انظر أعلام الموقعين 3/143- 154 ونظرية المصلحة 227.
(471) ومثله ما نسبه إلى عمر رضي الله عنه ص 37-38. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر رضي الله عنه مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى:{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} .
والظاهر - والله أعلم- أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفًا فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون.
(472) ومثل ذلك ما قاله في تضمين الصناع ص59. مع أن هذا المثال في الحقيقة يدخل تحت أصل أو قاعدة معتبرة وهي قاعدة سد الذرائع. انظر نظرية المصلحة 341، أو تدخل تحت أصل معتبر وهو أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة عند التعارض في الوقائع التي لم يرد فيها حكم منصوص. نظرية المصلحة 133-137.(3/140)
(473) انظر الإجماع ص266-384.
(474) أشرت إلى فساد عقيدته وفساد رأيه الذي قدم به المصلحة على النص . انظر ما سبق ص413.
(475) انظر رسالة أستاذي "نظرية المصلحة" من أولها إلى آخرها تجد فيها ما يثبت ذلك ، وكذلك ضوابط المصلحة.
(476) تعليل الأحكام 3002.
(477) مخالفة المؤلف للمنكرين للتعليل -مع موافقتي له في ذلك - لا يبيح له رفع ضوابط المصلحة واتباع مذهب الطوفي.. والشذوذ عن الإجماع.
(478) رسالة تعليل الأحكام 92.
(479) تعليل الأحكام 292-293-294-295.
(480) تعليل الأحكام 295-296.
(481) تعليل الأحكام 292-296.
(482) انظر نظرية المصلحة ، وانظر ضوابط المصلحة للأستاذ البوطي. وهما بحثان متخصصان في موضوع المصلحة.
(483) نظرية المصلحة 807.
(484) المرجع نفسه 807.
(485) المرجع نفسه 808 وراجع إن شئت ما ذكره من التفاصيل والأدلة في كل موضع من هذه المواضع تجد أنه حرر نسبة المذاهب إلى أصحابها وضبطها ورد على المخالفين أمثال الطوفي الذي يحاول د. شلبي الانتصار له.
(486) المرجع السابق 293.
(487) انظر هامش ص 413 وما بعدها.
(488) انظر ما سبق ص 460- 461 من الرد على محمد شلبي في التطبيقات التي ذكرها.
(489) بل زاد صاحب رسالة التعليل ص370 الطين بلة، وزعم أن المصلحة تقدم على النص ويترك بها جميع أفراده، وتقدم على الإجماع ، وتعطل النص ولا تنسخه، وهذا المذهب أقبح من مذهب الطوفي ، انظر مقارنة بينهما في نظرية المصلحة 111-113.
(490) رسالة التعليل 4.
(491) رسالة التعليل 151.
(492) رسالة التعليل 153- البرهان 710-715-742.
(493) رسالة تعليل الأحكام 293.(3/141)
(494) مسألة رقم 787، وقارن بين ما ورد في مسألة رقم 760، 715 ومنه قوله عن الصحابة : "وقد أوضحنا بالنقل المتوتر عنهم أنهم كانوا يقدمون ويثبتون الأحكام على وجوه الرأي واعتبار المسكوت عنه بالمنصوص" وهذا كلام صريح في أنه يعتقد أن الصحابة يبنون اجتهاداتهم على الأصول الشرعية ، ترى لو أن المؤلف تروى في فهم النص ومراجعة النصوص الأخرى هل ينسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم تلك المقالة .
(495) رسالة تعليل الأحكام 153.
(496) البرهان : مسألة 760.
(497) تعليل الأحكام 152.
(498) تعليل الأحكام 151.
(499) تعليل الأحكام 153.
(500) البرهان : مسألة رقم 1134.
(501) انظر تعليل الأحكام 151.
(502) الرسالة 70. وانظر نظرية المصلحة 307 وما بعدها.
(503) نظرية المصلحة 607.
(504) انظر ما سبق البناء على غير أصل 266-384.
(505) نظرية المصلحة 356-357.
(506) انظر موقف الأصوليين المعتبرين من المسالك الفاسدة ص265 وما بعدها.
(507) أما المعتزلة فقد اتبعت العقل فضاعت في أودية الضلال .. وأما الخوارج فقد اتبعت بعض الظواهر دون أن تعرضها على الآيات والأحاديث الأخرى فضاعت في أودية الضلال أيضاً، والمرجئة كذلك ، وهكذا في بقية الفرق كالصوفية فقد اتبعت الكشف والرؤى فهلكت في وحدة الوجود وسقوط التكاليف.
(508) الموافقات 1/17.
(509) انظر قوله في رسالة التعليل 12.
(510) انظر ما سبق من كشف مسالكهم الفاسدة . ص 183-265.(3/142)
(511) ومن الأمور التي تحتاج إلى دراسة وتصحيح التأكيد على عزل آثار الاعتزال عن أصول الفقه، لأن هؤلاء لهم أصول خاصة في تلقي العقيدة، وقد أحاطوا بها أصول الفقه من كل جانب ، فلابد من تمييز أصول السنة عن أصول البدعة، ابتداء من نقض أصولهم في وجوب النظر العقلي وتحكيمه في العقيدة والشريعة وانتهاء بطريقة الكتابة وأسلوب الأداء والبناء في ذلك على منهج الجيل الأول الذي وقع في مخالفته أهل الأهواء وتميزوا عنه فلابد إذا من التميز عنهم والحذر من آثارهم.
(512) رسالة التعليل : 282.
(513) سورة النحل: آية 90.
(514) المرجع السابق: 287.
(515) سورة الأنبياء : آية 107.
(516) رسالة التعليل : 288.
(517) المرجع السابق : 290.
(518) المرجع السابق : 290-291.
(519) قَالَ صاحب رسالة التعليل :"... أم يمنعون العمل بها وهو إهدار للأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة وهي في مجموعها تفيد قطعاً" 370.
(520) تعليل الأحكام 296، وقد أخذه من الموافقات 2/225 بدون أن ينسب إليه.
(521) تعليل الأحكام 296-297- وقارن مع الموافقات 2/225- مع أنه بنى عليه معنى غريب لم يذهب إليه الشاطبي.
(522) انظر تعليل الأحكام 296-297-298-299-300-301-، وقارن مع الموافقات 2/222-223-224-225-226-227-228-229-230.
(523) تعليل الأحكام 297 وقارن مع الموافقات 2/228 وما بعدها .
(524) الموافقات 2/222، 224.
(525) قال المؤلف بعد أن دافع عن شذوذ الطوفي 295: "وإذا أردنا أن نحكم على هذا الرأي حكماً صحيحاً بالقبول أو الرفض، وجب علينا أن نعرض لمسألة أخرى هي كالأساس لما نحن فيه، وهي هل نظر الشارع للمعاملات ملاحظ فيه التعبد أو مجرد عن ذلك، وهو موضوع البحث الآتي" 296 ثم نصب هذه المسألة التي أنا الآن بصدد مناقشته فيها، وأشرت إلى هذا ليعلم القارئ شدة حرص المؤلف في الانتصار لشذوذ الطوفي.
(526) رسالة التعليل 297.(3/143)
(527) إضافة إلى ما نقلته سابقاً . انظر ما ورد بعد ص297 مثل 299، 370.
(528) الموافقات : 2/222.
(529) الموافقات 2/226-227.
(530) الموافقات : 2/227.
(531) الموافقات 2/231.
(532) الموافقات 2/225.
(533) الموافقات 2/224.
(534) يعني بعدم الوقوف عندها أي عدم الاقتصار على ما نصت عليه، بل الحمل عليها باتباع المعاني المناسبة شرعاً.
(535) تعليل الأحكام 296-297.
(536) وهو شديد الاضطراب في هذه القضية ، فتارة ينكر على الأصوليين اتباعهم الضوابط ويزعم أنها مخترع، وتارة يستنكر اعتبار مطلق المصلحة في مقابلة النص ولو لم يكن إليها حاجة، انظر 300، وأما إذا اعتبرنا أن "الحاجة" غير منضبطة -وهي كذلك- فإن الاضطراب يرفع ويحل محلة الإصرار على رفع الضوابط.
(537) الموافقات 2/225-226.
(538) المصدر السابق 2/226.
(539) المصدر السابق 2/230.
(540) الموافقات 297.
(541) وكم وقع العبّاد والزهاد وكثير من الدعاة في مثل هذا ، يقولون إن طريق إلى الآخرة، وهذا طريق إلى الغاية المطلوبة بنية خالصة ، ثم لا يدركون مبتغاهم ، وينضاف إلى ذلك مجاوزة الشريعة وعدم الوقوف عند ما حدته أو الرجوع إلى ما يخالف المصلحة -بزعمهم- بالتأويل ونحوه ولابد لكل مسلم أن يقف عند ما حدته الشريعة، وإن نازعته نفسه تطلب اتباع المصالح المزعومة .
(542) الموافقات 2/226-227.
(543) المسألة التاسعة عشرة: الموافقات 2/228-229-230-231.
(544) تعليل الأحكام 297-298-299.
(545) تعليل الأحكام 300.
(546) الموافقات 2/231.
(547) تعليل الأحكام 299-300- 301-302.
(548) وانظر المقدمات على سبيل المثال - من كتاب الموافقات 1/11-62 لتزداد يقيناً بهذا الذي نقوله.
(549) انظر المقدمة الثانية عشرة 1/52.
(550) القوس من عند المؤلف وما زال الكلام لهه .
(551) معالم الشريعة الإسلامية ، الدكتور صبحي الصالح دار العلم للملايين- بيروت- الطبعة الثانية ص72.(3/144)
(552) هذه الإضافة بيان، لأن "عصر الوحي" هو "حياة الرسول" ولا يحتاج لحرف "أو".
(553) معالم الشريعة 57-58-59.
(554) معالم الشريعة الإسلامية ص62 نقلاً عن أعلام الموقعين، وقد نقله أيضاً صاحب رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" ص 162.
(555) معالم الشريعة 70.
(556) معالم الشريعة 69.
(557) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 162، 181.
(558) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 29-30.
(559) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 27.
(560) أكرر ما سابقاً من أن العبرة بالمناقشة ليست هي معالجة رأي هذا الباحث أو ذاك، بل هي أعم من ذلك ، تتبع الفكرة حيث كانت..
(561).سورة المائدة : آية 105.
(562) انظر معالم الشريعة الإسلامية 63.
(563) انظر ما سبق ص 470.
(564).انظر ما سبق ص 358.
(565) قارن صنيعة هذا بصنيع صاحب كتاب تعليل الأحكام - انظر ص 395.
(566) لأن ذلك ضروري لتصحيح ما نسبه الباحث إلى الشاطبي.
(567) الموافقات 4/155-154-156.(3/145)
(568)وهذا الذي لم يفهمه أعداء الإسلام أو فهمهوه واستمرؤا المعاندة والمكابرة حتى قالوا إن الفترة التي عاشها الصحابة - وهم الجيل الأول - لم تتكرر، والجواب أنها تكررت من ناحية النوع لا من ناحية الكم، وأما من ناحية الكم فإنه لا يتصور أن تكون حالة الأمن في المجتمع الإسلامي وحالة الكثرة الكاثرة من الأفواج المتدفقة إلى الإسلام مثل حالة البدء في بناء المجتمع الإسلامي وحالة القلة التي كانت تتفاعل مع منهج التربية بجميع كيانها العقلي ثم النفسي والروحي والجسدي، ومع هذا فإن هذه الشريعة وإن طلبت من الناس أن يرتفعوا إلى منازلهم - وألزمت من التزم بالقدر الذي التزمه- لكنها لم تلزمهم ابتداء بتحقيق ذلك المطلوب، ولا يعني أنها خيرتهم في العمل بالشريعة، كلا، وإنما المقصود أنها ألزمتهم بتطبيق الشريعة جملة وتفصيلاً في حياتهم الخاصة والعامة وهذه مرتبة الإسلام والإيمان ، ولم تلزمهم بمرتبة الإحسان التي هي مرتبة الصحابة رضوان الله عليهم بل ندبتهم إليها وحببتها لهم .
(569) 4/156-157.
(570).4/155.
(571) 4/155.
(572)انظر ما سبق ص 522.
(573) انظر ما سبق ص522.
(574) الموافقات 4/155.
(575).الموافقات 4/155.
(576) انظر الموافقات 4/155.
(577)المرجع السابق 4/155.
(578) المرجع السابق 1/41.
(578) من كتاب علم الفيسيولوجيا للدكتورة فلور ستراند طبعة 1978.
Physiology: A Regulatory Systems Approach by Fleur Strand 1978.
(579) انظر المزيد من التفصيل في فصل "المحيض" من كتاب "دورة الأرحام" للمؤلف.
(580) هذا التعبير شائع ولعل الصواب نهج ويعني ذلك صعوبة في التنفس.(3/146)
(581) نشرت صحيفة Arab News في عددها الصادر في 10 فبراير 1981 تقريرا جديدا عن هيئة الصحة العالمية يهاجم فيه أغذية الأطفال المصنعة ويتهم الشركات الغربية التي تبيع في كل عام بما قيمته ألفي مليون دولار من أغذية الأطفال بأنها تساهم في قتل الأطفال في البلاد النامية .. وذلك لأن الأغذية المصنعة والألبان المجففة تمنع الأم من الرضاعة.. واستعمال القارورة يؤدي إلى كثير من النزلات المعوية الخطيرة نتيجة عدم التعقيم ولذا فإن تقرير الصحة العالمية يدعو الحكومات وخاصة في البلاد النامية إلى محاربة هذه الأغذية المصنعة وتقول الأبحاث الطبية الحديثة أن حوالي عشرة ملايين طفل يلاقون حتفهم نتيجة استخدام القارورة في دول العالم الثالث سنوياً.. وذلك نتيجة الإصابة بالنزلات المعوية وسواء التغذية التي تصاحب استخدام القارورة . وفي تقرير لليونيسف نشرته جريدة المدينة في 10 ديسمبر 1983 جاء فيه أن أطفال الزجاجات هم أكثر عرضة لسوء التغذية بثلاثة أضعاف الذين يرضعون من أمهاتهم وفي مصر أظْهرت دراسات مُماثلة أنَّ نسبة الوفيات هي خمس أضعاف ما هي عليه عند الأطفال الذين يَرضعون الأثْداءَ. ونفس النسبة وُجِدَتْ في الهِند وتْشِيلِي والبرازيل والفيليبين.
(582) يحتوي اللبا بصورة خاصة على كميات من البروتيين الواقي ضد الهجوم الميكروبي والذي تصنعه بأمر الله الخلايا اللِّمْفاوية الموجودة أصلاً في أمعاء الأم .. ثم تُهاجر هذه الخلايا إلى الثدي ومن هناك تُفْرَز مع اللِّبا، وأهم هذه البروتينات هو :IgA وهذا البروتين متخصص في الدفاع عن الجسم في الأمعاء والجهاز التنفسي .. وهذان الجهازان هما اللذان يتعرضان للهجوم الميكروبي في الأطفال ... بل وهما السبب الرئيسيُّ في وفيات الأطفال وخاصةً في دول العالم الثالث.
(583) أخرجه ابن أبي شيبة (1/75/2) بسند صحيح.
(584) رواه البخاري في "التاريخ الصغير" ص95.
(585) صفة صلاة النبي 170.(3/147)
(586) صحيح أخرجه أبو زرعة في "تاريخ دمشق" ت (88/1) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً به وأخرجه أبو داود (1985) والدارمي (2/64) والدارقطني ص 277 وانظر "السلسلة الصحيحة" (2/605).
(587) انظر: المغني لابن قدامة (3/394).
(588) أخرجه البخاري (769-مختصرة) والطيالسي (1513) وأحمد (6/32-100-180).
(589) صحيح انظر إرواء الغليل (4/1121).
(590) إرواء الغليل (7/2332).
(591) ابن قيم، المنار.
(592) انظر: "موسوعة الإجماع للسعدي" و"فقه عمر بن الخطاب" للدكتور رويعي الرحيلي (3/470).
(593) سورةالنساء:11.
(594) سورة النساء: 12.
(595) سورة النور: 4.
(596) سورة الطلاق: 2.
(597) سورة البقرة:282.
(598) ضعيف أخرجه الدارقطني (524) والبيهقي (10/151) وانظر "إرواء الغليل، (8/2684).
(599) وانظر لذلك أيضًا صحيح سنن الترمذي (1/337).
(600) رواه الترمذي (1/286) وأحمد (6/31-158) وابن ماجه (3263) وابن حبان (1058). والبيهقي (9/301) وإسناده صحيح على شرط مسلم.
(601) رواه أحمد (6/165) وابن ماجه (2901) بإسناد صحيح.
(602) صحيح.أخرجه الترمذي: 22 باب 8 وأحمد (2/9) والبخاري (3665ح 5783) في اللباس ومسلم ك 37ح42-50 عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(603) صحيح. رواه أحمد (1/76-97) وأبو داود (378) والترمذي (1/119) وابن ماجه (525) والطحاوي (1/55) والدارقطني ص47 وانظر إرواء الغليل (166).
(604) رواه أحمد بإسناد صحيح (1/222).
(605) طرف من حديث صحيح رواه البخاري ح5971 ومسلم ك45ح1-4 عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(606) رواه المخلص في "الفوائد المنتقاة (9/5/2) وابن حبان في "صحيحه" (1969) وابن عدي (192/1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن.وانظر (السلسلة الصحيحة" (1/856).
(607) رواه ابن حبان كما في الموارد 1969، والكامل لابن عدي 192/1) والبيهقي في الشعَب 2/475/2 عن أبي هريرة وصححه الألباني في الصحيحة ح856.(3/148)
(608) صحيح ابن ماجه (3669) والبخاري في "الأدب المفرد (76) وأحمد (4/154) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وانظر السلسلة الصحيحة (293-1027).
(609) رواه البخاري ومسلم وأحمد 6/27،29، 33،87 عن عائشة رضي الله عنها.
(610) صحيح، وتقدم ص114.
(611) حديث حسن. أخرجه الترمذي والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ وتقدم تخريجه ص117.
(612) سورة النور: 6.
(613) صحيح. أخرجه ابن ماجه (1882) والدارقطني (384) والبيهقي (7/110) عن أبي هريرة رضي الله عنه وانظر "إرواء الغليل" (6/1841).
(614) حديث صحيح. أخرجه البخاري 4425 ح 7099 في الفتن والترمذي ك 31 باب 75 وأحمد 5/38، 43 عن أبي بكرة رضي الله عنه وانظر الضعيفة (1/436) و "إرواء الغليل" (2613).
(615) حديث حسن. رواه النسائي 8/153ح 5126 والحاكم في المستدرك 2/396 وأحمد في المسند 4/400 عن أبي موسى رضي الله عنه وانظر صحيح الجامع (2701).
(616) صحيح. أخرجه الترمذي(1/321) والنسائي(2/285) والطيالسي(506) وأحمد(4/394) والبيهقي(3/275). وانظر السلسلة الصحيحة 1/662-663
(617) أخرجه البخاري (3/114-9/400-401) عن أم حبيبة رضي الله عنها.
(618) سورة البقرة: 234.
(619) سورة البقرة: 228.
(620) قلت: وكذالك يُمْنَع من الزواج من أخت مطلقته طلاقًا رجعيًا أو عمتها أو خالتها.
(621) أخرجه البخاري (1/328) ومسلم (3/47) والسياق له وأبو داود (2/63) وابن ماجه (1/487) وأحمد (6/408) والبيهقي (4/77).
(622) الألباني، أحكام الجنائز ص147.
(623) إرواء الغليل (5/1238).
(624) صحيح أخرجه الترمذي ك 41 باب 35ح2938، 2939 وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(625) سبق في التعليق ص129 بيان صحة الحديث ومخرجيه.
??
??
??
??(3/149)