شبهات وردود
إعداد موقع الكاشف
http://www.alkashf.net/
تنسيق موقع صيد الفوائد
http://www.saaid.net/
يحتوي الملف على ..
شبهات الملاحدة
شبهات اليهود
شبهات النصارى
شبهات دعاة الديمقراطية
شبهات العلمانيين
شبهات العصرانيين
شبهات الرافضة
شبهات القبورية
شبهات الصوفية
شبهات الأشاعرة
شبهات دعاة تغريب المرأة
شبهات الملاحدة
الشبهة(1) : القول بأزلية المادة وأبديتها ..
وقبل أن ندخل في الردود عليهم يحسن بنا أن نذكر مقصدهم بالمادة، وصفاتها لديهم، حتى يتسنى لنا الردُّ على وجهٍ لا تبقى معه فجوة فيها.
تعريف المادة لدى "لينين":
يعرف "لينين" المادة بقوله: (هي مقولة فلسفية تخدم في تعيين الواقع الموضوعي المعطى للإنسان في إحساساته التي تنسخه، تصوره، تعكسه، والموجود بصورة مستقلة عن الإحساسات).
وبناءً على هذا التعريف الذي يعتبر المادة شاملة لجميع مفاهيم الأشياء كالورد والشجر، والبيت ونحوها - إذ كلها مفاهيم - تكتسب المادة خاصية السبق على الإدراك والتأثير فيه، وبما أن الفلسفة تدرس المفاهيم شاملة إلى أقصى حدٍّ، أُطلق على هذه الدراسة مقولة فلسفية، وبما أن المادة تدرس المفاهيم شاملة إلى أقصى حدٍّ، فهي إذن على هذا الأساس مقولة فلسفية، ووظيفتها: تعيين الواقع الموضوعي؛ أي: الواقع المادّي الموجود خارج الإدراك، وهو المؤثر في أعضاء حواس الإنسان وإثارة إحساساته.
إذن: فالفكر انعكاس للمادة الواقعة على الدماغ، وهو يفكر في المادة التي تعكس عليه، وقبل انعكاس المادة على الدماغ لا يوجد فكر، فالمادة إذن تسبق الفكر عنده.
بعد أن عرفنا المادة وأنها سابقة - حسب قولهم - في الوجود على الفكر، أذكر هنا رأيهم في أزلية المادة وأبديتها.
يقول الماديون: (وبالتالي فليس للكون نهاية ولا حدود، العالم أبدي وليس له أي (بداية) ولن يكون له أيّ (نهاية)، ومن هنا، فأيَّ عالم غيبي، غير مادي، غير موجود، ولا يمكن أن يوجد.(1/1)
وفي واقع الأمر أنه إذا لم يوجد شيء غير المادة، فلا يوجد غير عالم مادّي واحد، وهذا يعني أنه عند وجود الأشياء والظواهر المختلفة في العالم المحيط بنا، هناك خاصية واحدة توحدها، هي: ماديتها).
إذن، فلا يوجد شيء - على حدِّ تعبيرهم - غير العالم المادي، ولا يمكن أن يوجد عالم روحي أو يوم آخر، كما جاءت به الأديان، فالإنسان، في نظرهم نتاج المادة فقط، فالمادة هي الخالقة، ولها خصائص الخالق، وليس هناك عالم غيبي؛ لأن العالم محصور فيما تدركه الحواس، ولم يكتفوا بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، بل صرَّحوا بأن الله من إبداع الإنسان، وأن المشكلة ليست هي مشكلة وجوده سبحانه، بل هي مشكلة فكرة وجوده.
إذن، مبدؤهم الذي ينطلقون منه: أن الله لا نفع فيه، وإثارة النقاش حول وجوده لا طائل تحته، إذ لديهم فكرة لا تتغير؛ وهي: أن ما وراء الكون المادي وهمٌ وهُراءٌ.
فهذه المادة هي كل شيء، ترد بمعنى الطبيعة، كما أن الطبيعة ترد بمعنى المادة.
وأما قولهم بأبدية المادة فيعللون لها بقولهم: (إن في الطبيعة لا ينشأ شيء من لا شيء، ولا يختفي أبدًا بلا أثر، وإذا كان الأمر كذلك فإن المادة أو الطبيعة قد وجدت دائمًا، لأننا إذا سلمنا بأنه في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء في العالم، أي لم تكن توجد مادة، فمن أين لها أن تنشأ؟ ولكن ما أن توجد المادة فهذا يعني أنها لم تنشأ في أي وقت من الأوقات، بل وجدت دائمًا، وستوجد دائمًا فهي أبدية وخالدة؛ ولهذا لم يمكن أن تُخلق، فلا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه، وبذلك فالمادة لم تنشأ أبدًا، بل وجدت دائمًا وستوجد دائمًا فهي أبدية).
إذن، فالمادة أبدية خالدة، لم تنشأ من العدم؛ لأنه لا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه؛ ولهذا لا يجوز السؤال عن بداية المادة ونهايتها؛ لأن آثارها واضحة ومشاهدة، والحركة كذلك محال خلقها وإفناؤها؛ لأنه صنعة المادة.(1/2)
يقول "انجلز": (المادة من دون حركة، أمر غير معقول، بقدر ما هي الحركة من دون المادة، وإذن فالحركة محال خلقها وإفناؤها قدر ما هو محال ذلك بالنسبة للمادة نفسها).
الردود على هذه الشبهة:
قبل البدء في الردِّ عليهم أورد هنا الأساس الفكري لهذه الفكرة المادية، فإن الأساس الفكري لهذه الفكرة المادية التي نشأت منها الشيوعية هو حصر نطاق المعرفة في المادة وحدها.
وهذا الفكر وإن كان نشأ ونما في أوروبا فيما بعد القرن السابع عشر، إلاَّ أنه قديم في البشرية قدم الآفات والانحرافات فيها، ويعتبر امتدادًا لفكرة هؤلاء الماديين أو الدهريين الذين أنكروا البعث قديمًا ونسبوا الموت للدهر بدلاً من الله... كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ }.
كذلك أعداء الرسالات أغلبهم مادّيون، ولذلك تراهم يتطاولون بالمادة وينكرون البعث واليوم الآخر ويرون الجزاء للإنسان قاصرًا على متع الحياة الدنيا... يقول سبحانه وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.(1/3)
كما يحكي القرآن مقالة الماديين لدى ظهور الإسلام: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ}.
وقد بيَّن القرآن أن هذا الذي طلبه الماديون في شأن التصديق بالرسالة الخاتمة ليس غريبًا، ولا غير معهود في تاريخ البشرية، وإنما هو أمر تكرر على عهد الرسالات السابقة: { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }؛ أي: أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد.
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً}.
{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، فتشابهت قلوبهم، وقال متأخروهم بما قال به متقدموهم.
فالظاهرة العامة لهم هي الركون إلى المادة، وإنكار ما وراء المحسوس المشاهد، ولا يعرفون غيرها في مجال الإقناع والاقتناع.
ولكنَّ هناك فروقًا بين الإلحاد القديم والحديث، من أهمها ما يلي:(1/4)
أولاً: أن الإلحاد بمعنى: إنكار وجود الله أصلاً - وهو أبرز ما في الاتجاه المادي الحديث عمومًا - لم يكن ظاهرة منتشرة متفشية في القديم، وإنما الذي كان شائعًا هو الشرك بمعنى منح خصائص الإلوهية لغير الله عز وجل، وإشراك آلهة مزعومة معه سبحانه.
صحيح أن الملاحدة الدهرية كان لهم وجود منذ القدم - كما أُشير من قبل - ولكن هؤلاء كانوا شرذمة قليلين مع اختلاف آرائهم في هذا الجانب، فإنهم كانوا على طائفتين:
الأولى: الفلاسفة الدهرية الإلهية، القائلون بقدم العالم، وكان من مقدمتهم أرسطو، وأتباعه، فهؤلاء لم يكونوا يقولون: بأن المادة هي الخالقة، بل كانوا يثبتون للعالم علة يتشبه بها.
الثانية: الفلاسفة الدهرية الملاحدة أو الطبيعية، القائلون بما ذكر الله عنهم بقولهم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فهؤلاء يشبهون في بعض الجوانب الشيوعيين في العصر الحاضر، وقد ردَّ الله عليهم في هذا القول بقوله: { وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}؛ أي: (يتوهمون ويتخيلون)، فقولهم هذا ما كان مستندًا إلى علم أو يقين، بل كان عن ظن وتخمين.
ولكن الشيوعية الحديثة وإن كانت تشبه أفكارهم في جانب الإلحاد معهم إلاَّ أنها تختلف معها في بعض الجوانب - كما يأتي -.
ثانيًا : الإلحاد في هذا الزمن هو إنكار وجود الله أصلاً، انتشر في العصور الحديثة انتشارًا واسعًا في دول أوروبا بصورة ملفتة للنظر، وأصبح له حكومات تحرسه، ودول تحميه، بل لقد غزا بلاد الإسلام حتى قام في ربوعها ناعقون يرددون سفاهاته وينشرون ضلالاته.(1/5)
ثالثًا: إن إلحاد هذا الزمان يضرب بسيف من العلم، ويزعم بأنه يقوم على سند من العلم وتأييد من البحث، وذلك أن الصفة التي تتصف بها المادية قديمًا وحديثًا هي أن الماديين يتصورون أن المادة حقائق محسوسة ملموسة وليست فروضًا وراء الحس... والنظرة العلمية في تصورهم هي ما تخضع للبحث التجريبي، وما لا يخضع للبحث التجريبي لا يسمّى علميًّا في نظرهم، ومن ثَمَّ أبعدوا مفاهيم الدِّين والغيب من مجال البحث العلمي حيث لا يقوم عليها دليل عندهم، ووصل الأمر أن أصبح الدين في حسِّ كثير من العلماء الأوروبيين مثلاً للخرافة، وصاروا يدفعون عقيدة الإيمان بالله بحجة أن العلم يأباها،.. وشنّوا حملة ضد الإيمان عامة وضدّ الإسلام خاصة... بل بلغ الأمر إلى أن أصبحت هذه الآراء والأفكار الملحدة تدرس في كثير من جامعات العالم الإسلامي تارة باسم الفلسفة، وتارة باسم الجيولوجية، وتارة باسم الاقتصاد الحديث.
وهذه النظرية يمكن إبطالها بما يلي:
1- عدم استقرارهم على منهج معين، وذلك؛
أ . تراجعهم عن تعريف المادة :
سبق تعريف المادة كما عرفوها، وذلك ما قال به الشيوعية أخيرًا، حيث أعادوا صياغة تعريفها بقولهم: هي: (الوجود الموضوعي خارج الذهن)، ولكن ماذا كانوا يقولون في تعريف المادة في أول أمرهم؟ كانوا يقولون: هي: (كل ما تقع عليه الحواس)، وحصروا موادها في أمور أربعة؛ الماء والهواء والتراب والنار، وكان المادّي يخبط المائدة بيده أو يضرب الأرض بقدمه ويقول لمن يجادله: هذه هي الحقيقة التي ألمسها بيدي وقدمي أو أراها بعيني وأسمعها بأذني.
ثم توالت الاكتشافات العلمية، وشاعت العلوم التجريبية في القرنين الأخيرين، وشاعت معها قوانين الحركة والضوء وسائر القوانين التي عُرفت بالقوانين الوضعية، فتجاوزت ما تقع عليه الحواس إلى عالم الذرة، فأعادوا صياغة تعريف المادة بأنها: (الوجود الموضوعي خارج الذهن).
ب . تراجعهم عن القول بأسبقية المادة على الفكر:(1/6)
إن هؤلاء الشيوعيين كانوا في بداية أمرهم يقولون بأسبقية المادة على الفكر، وأرادوا بذلك إنكار المغيبات على أنها أفكار، والمادة سابقة لها، فلا يفكر فيها، بل الأصل هو المادة.
ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن القول بأسبقية المادة في الوجود على الفكر، يقول أصحاب أسس الماركسية اللينينية: (إن النشاط الذهني أو الفكر خاصة مميزة للمادة، ولكنها ليست شكلاً من أشكال المادة، وفي المسألة الأساسية في الفلسفة يطرح الفكر كضد للمادة والروح كضد للطبيعة، فالمادة هي أي شيء يوجد خارج العقل ولا يتوقف عليه، وبالتالي: من الخطأ الجسيم اعتبار الفكر جزءًا من المادة، وفي الوقت الحالي يعتبر التوحيد بين الفكر والمادة من مفاهيم المادية المنحطة).
إذن، لقد وصف الشيوعيون أنفسهم الفكر المادي للقرن التاسع عشر الذي قامت الماركسية والشيوعية على أساسه، والذي يسوي بين المادة والفكر، ويعتبر الفكر شكلاً متطورًا من أشكال المادة يعكس الوسط المادّي، وصفوا هذا القول بأنه من المفاهيم المنحطة.
إذن، هؤلاء على اضطراب تام في تفسير الفكر، فبعضهم اعتبروه من المادة، وبعضهم اعتبروا التوحيد بين المادة والفكر كلامًا منحطًا، فلنتساءل: ما هو الحق لديكم في هذا الباب؟ هل هما شيء واحد، أم بينهما انفصال؟.
ج . تراجعهم عن القول بالمادة بأنها هي أصل كل شيء، وذلك؛
أنه لما جاء القرن العشرون وجاء معه تفجير الذرة فتحولت المادة إلى طاقة وفتح ذلك الباب إلى تعريفات جديدة للمادة، منها: أنها صورة مختلفة من الطاقة فحسب، وقال آخر منهم: إن المادة مركبة من بروتونات وإليكترونات، أي شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء.
فلمّا تغير مفهوم المادة ورأوا عدم صحة القول بأنها هي وراء كل شيء، بل اكتشف أخيرًا أن المادة في نفسها طاقة تشكلت بوضع خاص فصارت مادة، قالوا: وماذا في الأمر؟ إن ما نقوله بالنسبة إلى المادة قد انتقل إلى الطاقة التي هي أصل المادة، هكذا قال "لينين".(1/7)
من العرض السابق لتعريف المادة وبيان أقوالهم حولها رأينا أن المادة التي قال بها الشيوعيون والماديون، وبنوا عليها مذهبهم قد تغير مفهومها تمامًا، ولم يَعُد لها ذلك المفهوم السطحي الذي نشأت الشيوعية في ظلها، فالمادة في القرن العشرين تحولت إلى طاقة.
وقررت الحقائق العلمية أخيرًا؛ أن الشيء الصلد الذي نلمسه فنراه ذا حجم ثابت ليس أكثر من شحنات كهربية وإلكترونية، بل العالم المادّي المكون من جبال وأنهار وأرض وأشجار ونحو ذلك مما تشهد به حواسنا، هو كتل من الإشعاعات الضوئية المتحركة.
وبهذا نكون قد قضينا على القول بأن المادة هي أصل كل شيء، وفيما يلي نقد أقوالهم في أزلية المادة وأبديتها.
2- عدم وجود دليل قاطع على أزلية المادة وأبديتها: فإن هؤلاء الملاحدة عندما يوجه إليهم السؤال - الذي يقوم عليه التحدي - من خلق المادة؟ فإنهم يجيبون: إن العلم أثبت أنها وجدت دائمًا منذ الأزل، فنحن نطرح عليهم سؤالاً لابدّ من إجابته لإثبات هذا المدعى، وهو: أين الدليل العلمي القاطع الذي يثبت صدق دعواكم أن المادة وجدت منذ الأزل؟ وكل ما ذكرتموه من الاستدلالات بأنها سابقة للفكر، وأنها لا تنشأ عن لا شيء، وما لا يمكن إفناؤه لا يمكن أن يخلق، هذه الشبهات الثلاث السابقة الذكر ليست إلاَّ تخمينات وظنون وليس عليها أيّ دليل علمي قاطع، فكيف تؤمنون بالنظريات هذه وأنتم ما أثبتموها إلاَّ بالظنون الكاذبة، ولم تؤمنوا بالخالق المبدع مع أنّ آثار وجوده ظاهرة وباهرة؟(1/8)
3- مخالفة الشيوعية للمنهج العلمي: وذلك؛ أن فلسفتهم المادية هي - حسب زعمهم - الفلسفة العلمية الوحيدة التي تتفق وسائر العلوم، ومن شأن المنهج العلمي الطبيعي - كما هو معروف - الاقتصار على الكون المادّي، وعدم تجاوزه إلى ما وراءه؛ لأن وسائله التي يعتمدها هي الملاحظة والتجربة، وهذه الوسائل قاصرة عن إدراك ما وراء الكون المادّي، فهي لا تملك إزاءه أية وسيلة للنفي أو الإثبات. فكان الواجب على الماركسية والشيوعية أن تلتزم بموضوع هذا المنهج ولا تتجاوزه إلى غيره، فتركز همّها في دراسة الكون المادّي ولا تتعداه إلى غيره؛ ولكنها أقحمت نفسها بشيءٍ خارج عن مجال خطته التي خطها لنفسه، فتقحمت عالم الغيب، وأنكرت وجود الله سبحانه.
4- مخالفة المادة - التي زعموا أنها أزلية - خصائص الأزلية المعترف بها لدى جميع العقلاء، والمعترف بها لدى الشيوعيين أيضًا لزامًا: وذلك؛
أن الأزلي كما هو مجمع عليه عند العقلاء لابدّ أن تتوفر فيه الشروط الآتية:
1- أن يكون وجوده من ذاته ومتوقفًا على ذاته، ومن ثَمَّ فإنه يكون مستغنيًا في وجوده وفي بقاء هذا الوجود واستمراره عن غيره، ولا يستطيع غيره أن يؤثر عليه في إيجاد أو تحويل أو إعدام.
2- أن يكون قديمًا لا بداية له؛ لأنه لو كانت له بداية لكان محدثًا من العدم، فلا يكون أزليًّا.
3- أن يكون باقيًا لا نهاية له؛ لأنه لو كانت له نهاية لكان هناك مَن يستطيع إفناءَه.
والماديون عمومًا يسلِّمون بهذه الشروط الواجب توافرها فيما هو أزلي، ولكنهم يحاولون تطبيقها على المادة، ويزعمون أنها أزلية، فهل المادة كذلك؟ هذا ما سيحقق فيما يأتي في الردّ الخامس، وما بعده.
5- أدلة حدوث الكون أو المادة :
وهذه الأدلة يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: في بيان الأدلة العقلية الفلسفية القديمة:(1/9)
وأصل هذه الأدلة: هو إثبات حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك؛ أن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا الحدوث لابدّ له من علة، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى سنصل حتمًا إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لابدّ أن نقرر أن هناك خالقًا أزليًّا- لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه - وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأوجده بالصفات التي هو عليها، والذي يوضح ذلك ما يلي:
1- دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم:
قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وقد قيل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}: من غير رب خلقهم، وقيل: من غير مادة، وقيل : من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابدّ له من خالق، ومعرفة الفطر أن المحدَث لابد له من محدِث أظهر فيها من أن كل محدَث لابدّ له من مادة خلق منها وغاية خلق لها، فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم يُنازع في الأول، طائفة قالت: إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال: إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، وأمَّا أن يقول: إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكى عمّا لا يعرف).
وقال في موضع آخر: (قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فيها قولان: فالأكثرون على أن المراد: أم خلقوا من غير خالق، بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}.(1/10)
وكما قال تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}، وقال: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}، وقيل: أم خلقوا من غير مادة، وهذا ضعيف؛ لقوله بعد ذلك: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فدلَّ ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق، أم هم الخالقون؟ ولو كان المراد: من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء، أم من ماء مهين؟ فدل على أن المراد: أن خالقهم لا مادتهم؛ ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دلَّ على جهلهم؛ ولأنهم لم يظنوا ذلك، ولا يوسوس الشيطان لابن آدم ذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم؛ ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم، والاستفهام: استفهام إنكار، مقصوده تقرير أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقًا خلقهم نفعهم ذلك، وأمَّا إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغنِ ذلك عنهم من الله شيئًا).
والمقصود: بيان أن في هذه الآية، ذكر الله - عز وجل - شيئين في قضية الخلق، وهما:
أ - إمّا أنهم خلقوا من العدم، والعدم هو الأصل.
ب - وإما أنهم خلقوا من شيء، وخلقوا أنفسهم بأنفسهم، فالوجود هو الأصل.
فمعنى الآية: هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير خالق؟ أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة بداهة.(1/11)
والموجِد لا يكون عدمًا؛ لأن العدم لا يمكن أن يكون هو الأصل؛ لأنه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال، ونفي صفاته، فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء، ولا يمكن أن يتحول هذا العدم إلى الوجود، ولا يمكن أن يأتي من هذا العدم العام: ذوات وصفات وقُوى تنطلق بنفسها منه إلى الوجود، فقد ثبت لنا أن العدم لا يمكن أن يكون هو الأصل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئًا، كما قال تعالى: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}، مع إخباره أنه خلقه من نطفة).
فإذا لم يكن العدم هو الأصل لابدّ أن يكون الوجود هو الأصل؛ لأنه نقيض العدم، ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود عِلمنا أنه هو الأصل.
ولو نظرنا إلى الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسّي في هذا الكون العظيم لوجدنا أن هذه الموجودات - ومنها الإنسان - لم تكن ثم كانت، وأن أشكالاً كبيرة كانت معدومة في أشكالها وصورها ثم وجدت، كما هو مشاهد لنا باستمرار، كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها، أو نحسُّ بها، أو ندرك قواها وخصائصها، فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغييرات في الأشكال والصور إلى تغييرات في الصفات والقوى، وكل ذلك لا يعلل في عقولنا - وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه- إلاَّ بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغييرات الكثيرة المتعاقبة في كل شيء من هذا الكون على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو المتناهي في الكبر.(1/12)
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروفة على حواسنا (المادة) هو الوجود الأزلي، لم تكن عرضة للتحول والتغير والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم يحتج صور وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات، وبما أنه عرضة للتغيير والتحويل، وبما أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات، لزم عقلاً ألا يكون الأصل فيها الوجود، وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم، ولابدّ لها من سبب أوجدها من العدم، وهو الله سبحانه وتعالى.
2- دليل الإمكان في الكون أو المادة :
بملاحظتنا لكل شيء في الكون، سواء كان من الأشياء المادية التي يمكن أن نُدركها ببعض حواسنا كالأرض والكواكب والنجوم، أو صفة من الصفات القائمة في الأشياء المادية التي نستنبط وجودها بعقولنا كالجاذبية الخاصة الموجودة في حجر المغناطيس، وكخواص المركبات المادية التي لا حصر لها في الكون سواء في ذلك الظواهر الكيميائية أو الفيزيائية، من خلال ملاحظتنا لجميع هذه الأشياء الكونية، ندرك بداهة في كل واحد منها أنه كان من الممكن عقلاً أن يتخذ صورة وحالة غير ما هو عليه الآن، فما المانع من أن يكون العقل في البهائم والنطق في العجماوات؟ وما المانع من أن تكون الأرض أدنى إلى الشمس والقمر من الوضع الذي هي عليه؟ أو غير ذلك من أشياء كثيرة.
فإن قيل: إن الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأشياء كما هي عليه الآن، وإلاَّ لاختل النظام وفسدت النتائج المرجوة من هذا الكون.(1/13)
قلنا: إن الحكمة هي من صفات الحكيم - هو الله سبحانه - وما دام أن كل شيء في الكون يحتمل أن يكون على واحد من أوضاع كثيرة غير الوضع الذي هو عليه الآن، فإن العقول لابدّ أن تحكم بداهة بأن ما كان كذلك فلابدّ من مخصص قد خصصه باحتمال موافق للحكمة والإبداع والاتفاق من جملة احتمالات كثيرة، ولولا وجود المخصص للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجح، أو القول بأن موافقة الحكمة - فيما لا حصر له من الأعداد - كان على طريق التصادف، وكلاهما مستحيل عقلاً.
3- دليل الإتقان في الكون :
من أعظم ما يدهشنا في أنفسنا في الكون من حولنا ذلك الإتقان العجيب في التركيب والصنع، فما نصادف من شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ وهو في غاية الإتقان، مركب أحكم تركيب يؤدّي به إلى غايته التي خُلق من أجلها.
أليس من الإتقان هندسة الكون العجيبة، في مخطط كواكبه ونجومه، بحيث إن أيّ تغيير فيه يؤدّي به إلى الخلل والنقص أو الخراب والفناء، وكذلك أليس من الإتقان المدهش هذا الإنسان في خلقه وتكوينه، وكذلك هذه الحيوانات المدهشة في تكوينها؟ نعم، في كل شيء نرى فيه الإتقان المدهش الذي لا يصدر إلاّ عن متقن بنفسه يتقن كل شيء صنعًا.
فهذه أدلة علمية عقلية كلها تدل على أن الكون بما فيه المادة، حادثة وموجودة بعد أن لم يكن لها وجود، فهي حادثة، والحادث لابدّ له من مُحدِث، وبهذه يبطل قول الماديين بأزلية المادة كما أنها في حالة حدوث وتغيير دائمين، فحدوثها وتغييرها دليل على أن لها بداية، وهذا الدليل نفسه يقودنا إلى أن للمادة نهاية محتومة لابدّ أن تصير إليها؛ لأن كل شيء له بداية لابدّ أن يكون له نهاية.(1/14)
وحين لا يسلم بهذه الأدلة المنطقية العقلية التي تدل على حدوث الكون (المادة) وبدايته ونهايته طائفة من المفتونين بالعلوم الحديثة وقوانينها، ومنجزاتها، فإنني أعرض لهم أدلة من هذه العلوم وقوانينها التي تثبت حدوث الكون، وأنه لابدّ له من إله أوجده من العدم، كما أن له نهاية محتومة سيصير إليها.
المجموعة الثانية: في بيان الأدلة العلمية على أن المادة ليست أزلية ولا أبدية:
وهذه الأدلة يمكن أن نقسمها قسمين:
الأول: الأدلة العلمية الحديثة الدالة على أن المادة ليست بأزلية:
وذلك بما يلي:
1- أثبتت الاكتشافات العلمية في العصر الحديث أن للمادة بداية، حيث لاحظ العلماء أن حركة المادة في الكون كله حركة دائرية، فكل ذرة من ذرات الكون مؤلفة من جزئي كهربيّ موجب، ويُسمَّى (البروتون)، وجزئيٍ كهربي سالب، ويُسمَّى (إليكترون)، وبعض الذرات تحتوي على جزء ثالث معتدل ويُسمَّى (النيترون)، هذا، ويشكل البروتون والنيترون في حالة وجوده كتلة النواة، أمَّا الإليكترون فهو يدور بسرعة دائرية هائلة، ولولا هذا الدوران لجذبت كتلة النواة كتلة الإليكترون، ولم يكن هناك امتداد لأيّ مادة على الإطلاق، بل لولا هذا الدوران لكانت الأرض كلها - كما يقال - في حجم البيضة.
هذا الدوران هو سنة الله في الطبيعة، فالقمر يدور حول الأرض، والأرض تدور حول الشمس، وهكذا كل ذرة تدور في هذا الكون، والذي نريده هو: أن الشيء الدائر لابدّ أن تكون له نقطة بداية زمانية ومكانية ابتدأ منها.(1/15)
2- يقول "إدوارد لوثر كيسيل" في معرض ردّه على القائلين بأزلية الكون: (ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يُثبت خطأ هذا الرأي الأخير، فالعلوم تُثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا، فهنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة، ومعنى ذلك؛ أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام وينضب منها معين الطاقة، ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون، ولما كانت الحياة لا تزال قائمة؛ ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا وإلاّ لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم - دون قصد - إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله؛ لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولابدّ من مبدئٍ، أو من محرك أول، أو من خالق هو: الإله).
فهذه الأدلة العلمية القاطعة تُثبت أن المادة غير أزلية، والآن أعرض فيما يلي الأدلة العلمية على أن المادة ليست أبدية.
الثاني: الأدلة العلمية الدالة على أن المادة ليست أبدية:
من أشهر هذه الأدلة:
1- ما سبق معنا من قانون الديناميكا الحرارية، فإنه قد جاء فيه: أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيًّا، وأنها سائرة حتمًا إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.. ولا شك أنه يدل على أن للمادة نهاية محتومة ستصير إليها.(1/16)
2- ومنها قانون تحطم الشموس، وفحواه: أن ذرات الشموس تتحطم في قلبها المرتفع الحرارة جدًّا، وبواسطة هذا التحطم الهائل المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي لا مثيل لها، وكما هو معلوم فإن الذرة عندما تتحطم تفقد جزءًا من كتلتها حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة، فكل يوم يمر بل كل لحظة تمر على أيّ شمس فإنها تفقد جزءًا ولو يسيرًا من كتلتها، ومعنى هذا بالضرورة أن سيأتي الوقت الذي تستنفد الشموس كتلتها نهائيًّا؛ أي: أنها تفنى.
3- (جون كليفلاند كوتران) عالم الكيمياء والرياضيات يقول: (تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد على سبيل الزوال والفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية..).
فهذه الأدلة كلها تدل على أن المادة ليست أزلية ولا أبدية، بل إنها مخلوقة وفانية، وبهذا يسقط دعوى الشيوعية في كون المادة هي الأصل، والحياة هي المادة.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 692-712) .
الشبهة(2): القول بالتطور أو النشوء الذاتي للمادة والحياة ...
وذلك؛ في قولهم : إن الحياة إنما هي من نتاج المادة دون أن يكون وراءها شيء، بل تطورت ذاتيًّا، ونشأت تلقائيًّا حسب قوانين المادة التطورية، هذا ما يسمونه أيضًا بالقوانين الطبيعية.
هذه الشبهة مؤلفة من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي، وهذا ما كان يقول به الشيوعيون في بداية أمرهم.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء، هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول كالفرضية أو النظرية، دعمًا لمواقفهم السابقة.
الجانب الثالث: القول بنسبة الخلق والحياة إلى الطبيعة، فهذا وإن كانوا في حقيقة أمرهم لا يُبالون بجانب البحث عن الخالق أو المسبب، إلاَّ أنهم قالوا بهذا القول رغم إنكارهم لذلك في كتاباتهم هروبًا من الكنيسة، وإله الكنيسة.(1/17)
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي:
الرد عليه بما يلي:
إن هذا القول إنما هو محاولة تفسيرهم لظاهرة الحياة في المادة، فإنهم لمَّا أنكروا وجود الخالق - جلاَّ وعلا - لزمهم أن يقولون: إن المادة الأولى للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من مادة الكون الأولى، ثم نشأت بعد ذلك في الحياة: الإحساسات الراقية، حتى مستوى الفكر، ووعي ما في الكون عن طريقه، وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلاً ذلك في الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ.
قبل مناقشة هذه المسألة: لابدّ من طرح سؤال وهو: ما هو الدليل العلمي على أن الروح والفكر والإحساس ثمرة من ثمرات المادة؟
إن أدق ما قدمته الشيوعية من برهان على هذه الدعوى إلى الآن هو: أن الحياة تنشأ عن الحرارة ، والحرارة بدورها تنشأ من الحركة، أي أن: الحركة + حرارة = حياة.
ونحن نلجأ إلى نفس الأسلوب الذي تسير عليه الماركسية لضبط سلامة معارفنا، وهو التطبيق العلمي لنرى هل الحركة + الحرارة = الحياة؟
ولنتساءل من الذي جمع هاتين الظاهرتين إلى بعضهما (بجهد من تطبيقه الخاص) بهذه البساطة أو بما شاء من التعقيد الكيميائي فاستخرج منها حقيقة الحياة؟... وهنا لابدّ أن يُعاد إلى الأذهان خبر المؤتمر الذي عقده ستة من علماء الحياة في كلٍّ من الرِّق والغرب في نيويورك 1959م، وكان فيهم العالم الروسي (أوبارين) أستاذ الكيمياء الحيوية في أكاديمية العلوم السوفيتية، أملاً في فهم شيء عن أصل الحياة ومنشأها على ظهر الأرض، وإلى معرفة مدى إمكان إيجاد الحياة عن طريق التفاعل الكيميائي.
لقد قرر المجتمعون في نهاية بحوثهم بالإجماع (أن أمر الحياة لا يزال مجهولاً، ولا مطمع في أن يصل إليه العلم يومًا ما، وأن هذا السرّ أبعد من أن يكون من مجرد بناء مواد عضوية معينة وظواهر طبيعية خاصة).(1/18)
ثم إن الحقيقة التي أجمع عليها العلماء حتى الآن - مسلمهم وكافرهم - أن العلم لا يدري إلى اليوم شيئًا عن الحياة والروح، فهل تجميع الحرارة والحركة ينتج حياة بهذه البساطة؟ إن مما لا شك فيه أن كلاًّ من الحركة والحرارة من أبرز خصائص الحياة، ولكن من المفروغ منه في قواعد المنطق أن خواص شيءٍ ما ليست تعبيرًا عن الجوهر الذاتي الذي يقوم به؛ فالماء مثلاً في حالة الغليان يتصف بكلٍّ من الحركة والحرارة، وهكذا أن الحركة والحرارة خصيصتان من خصائص الحياة الدالة عليها كالأيدروجين والكربون والأوزون والأوكسجين، وغير ذلك من عناصر الحياة الأساسية، أما جوهر الحياة ذاته فشيء آخر لا يقف عليه إنسان.
ولهذا قال "انجلز": (ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد شيئًا بخصوص أصل الحياة)، فهذا اعتراف منهم على أنهم ما وصلوا في خصوص الحياة إلى نتيجة علمية ثابتة، وإنما هذه الأقوال دعاوى كاذبة، وأحاجي فارغة تناقض حتى المبادئ العقلية.
فالإنسان ليس من صنع المادة؛ لأن المصنوع لا يحيط بصانعه، والإنسان قد أحاط بصورة المادة وخرج بها إلى دائرة الأثير، بل إلى عمليات رياضية فكرية في قدرة الإنسان أن يحتويها، وهذا لا يأتي إلا إذا كان في طبيعة الإنسان شيء يعلو على مكونات المادة، شيء مفارق لكل خصائصها المعروفة.(1/19)
فمادة الكون الأولى، التي ليس فيها مركبات متقنة، وليس فيها حياة ولا إحساس ولا وعي، لا تستطيع أن ترقى إلى الكمال ارتقاءً ذاتيًّا، ولا تستطيع أيضًا أن تصنع أجزاءً فيها هي أكمل منها وأرقى، وذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، وصنع الناقص لما هو أرقى منه نظير تحول العدم إلى الوجود تحولاً ذاتيًّا؛ لأن القيمة الزائدة قد كنت عدمًا محضًا، والعدم المحض لا يُخرجه إلى الوجود إلا قوة مكافئة له، أو أقوى منه، والمادة العمياء الصماء الجاهلة لم تكن أقوى ولا مكافئة لمادة حيّة مريدة ذات وعي وإحساس، بل هي أقل قيمة منها، فهي إذن عاجزة بداهة عن إنتاج ما هو خير منها.
فهذه الدعوى - دعوى وجود الحياة نتيجة التطور الذاتي - كانت تقول بها الشيوعية في بداية أمرها، وكانت تقول: إن المادة تتطور من كمية إلى كيفية، ومصادفة يحدث في المادة شيء آخر، والحياة ما هي إلا نتيجة من نتائج هذه المصادفة في المادة في بعض مراحل تطورها، وتُمثل الشيوعية لها بالماء إذا زاد في غليانه يزيد في الحرارة، ولكن لما تصل الحرارة إلى 100% فإنه يصبح بخارًا، فأخذ شكلاً آخر في بعض تطورها، فيقال لهم: إن التطور في مثل هذه الأشياء أحدث شيئًا آخر ولكن ليس لذاتها، بل بفعل فاعل، ثم إن حدوث البخار من الماء شيء يمكن إثباته بالتجربة، فهل الحياة مثل هذا؟ هل يمكن إثبات الحياة في مادة ميتٍ ما على سبيل التجربة؟
ثم إن هذا المبدأ من مبادئ الماركسية، لا يمكن أن يعتبر قانونًا عامًّا ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقرر به، وهو وإن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.
إن التراكم في الكم لا يقتضي دائمًا التطور في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك، إن الملاحظة تُثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطًا معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور، فمثلاً:(1/20)
أ- بيضة الدجاجة الملّقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجيًّا حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذ يخرج من غُلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته إلى الأرض.
لقد حصل التطور، ولكن على خلاف المُدَّعَى في المبدأ الماركسي، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكوّن جنين البيضة تكونًا تدريجيًّا، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه، ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدَّد في نظام التكوين لسُلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.
فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة تراكمات، هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها الله عز وجل بقوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} .
إن هذا المثال كافٍ لنقض فكرة التراكم المدعاة في المبدأ الشيوعي، الذي يعتبرونه قانونًا شاملاً لكل تطور في الوجود، وهو أيضًا كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطورًا تدريجيًّا.(1/21)
ب- والكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بيضة الأنثى، ويسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة فيه دبَّت الحياة فيه، ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدت، ثم يسير في نمو تدريجي أيضًا حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شابًّا، فكهلاً، ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخًا، فهرمًا، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسّخ جسمه، ويعود ترابًا كما بدأ من التراب، وقد يموت في أيّ مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمرّ في المراحل المعتادة للأحياء، وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء: في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.
هذا المثال الثاني كافٍ أيضًا لنقض كل ما قالوا في مبدأ التطور، ففكرة التراكم المقررة في المبدأ فكرة منقوضة، ذلك؛ لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي، وفكرة التطور السريع المفاجئ المقررة في المبدأ الشيوعي منقوضة أيضًا؛ لأن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ، (أو الصدفة - كما يقولون-).(1/22)
فهذان المثالان من آلاف الأمثلة في نقض أقوال الشيوعية في القول بالتطور - على التفسير الذي يريدونه - وبنقض مبدأ التطور ينقض أيضًا مبدؤهم القائل بأن الحياة وظيفة من وظائف المادة، متى وصل تركيبها إلى وضع خاص بالتطور، فإن آخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية التي قام بها الغربيون والشرقيون الماركسيون، والتي أنفقوا في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلاّ من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية.
وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها، وصِفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم.
فالعلوم الإنسانية، قد كفتنا مهمة إبطال هذا المبدأ من مبادئ الماركسية وسائر الماديين الملحدين.
على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأيّ دليلٍ عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذي يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء :
وكما سبق أن هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول، فوجدوا فيه غايتهم المنشودة، فقالوا بها دعمًا لمواقفهم السابقة، وقالوا: انتصرت المادة.
يقول (جون لويس): (لقد حول داروين ما كان يجول بخاطر العديد من المفكرين إلى فكرة ممكنة مقنعة، وهي أن عالم الحيوان لم يوجد نتيجة خلق واحدة، بل هو ثمرة تغيرات ارتقائية عملت على تحويل الأنواع التي ظهرت في عصور مبكرة إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا، والتي ظهرت في عصور متأخرة... والإنسان نفسه لم يُخلق بفعل خاص منفصل، بل هو ثمرة الارتقاء، ونظرية الارتقاء لا تستبعد قوى ما فوق الطبيعة من عملية الخلق فحسب، بل تضع بدل هذه القوى: تطور الحياة الطبيعي، وقد كان هذا تجديدًا مدهشًا).(1/23)
فهذا القول يُظهر لنا مدى تأثر الماديين بهذه النظرية الخبيثة، وسيأتي بيان مجمل لهذه النظرية مع الرد عليها فيما بعد.
الجانب الثالث: القول بوجود الخلق من الطبيعة:
سبق أن ذكرنا: أن المادة والطبيعة عندهم شيء واحد، ولكنهم لما وجدوا ضغوطًا من الكنائس البابوية المنحرفة قالوا: الخلق إنما هو من الطبيعة. فلينظر مدى صحة هذا القول، وهل الطبيعة تصلح أن تكون خالقًا؟
في الحقيقة: إن هذه فرية راجت في عصرنا هذا، راجت حتى على الذين - يظنون أنهم - نبغوا في العلوم المادية، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها، فقالوا: الطبيعة هي التي تُوجد وتحدثُ.
وهؤلاء نوجه إليهم هذا السؤال: ماذا تريدون بالطبيعة؟ هل تعنون بالطبيعة ذوات الأشياء؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته؟
فإننا نرى: أن الطبيعة في اللغة: السجية.
أمَّا في عقول الناس اليوم فلها مفاهيم:
المفهوم الأول: أنها عبارة عن الأشياء بذاتها، (الكون نفسه)، فالجماد والنبات والحيوان كل هذه الكائنات هي الطبيعة.
وهو مفهوم غير دقيق وحكم غير سديد، فإن هذا القول يصبح ترديدًا للقول السابق بأن الشيء يوجد نفسه - بأسلوب آخر، أي أنهم يقولون: الكون خلق الكون، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، والكون خلق الإنسان والحيوان، هذا القول لا يخرج بالطبيعة بالنسبة لخلق الوجود عن تفسير الماء بالماء، والأشياء أوجدت ذاتها، فهي الحادث والمُحدِث، وهي الخالق والمخلوق في الوقت ذاته، وقد سبق بيان كون العقل الإنساني يرفض التسليم بأن الشيء يوجِد نفسه، كما أن الشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا بصيرًا عليمًا؟ هذا لا يكون، فبطلان هذا القول بيّن، فهو لا يخلو عن أمرين:
1- إمّا ادعاء بأن الشيء وجد بذاته من غير سبب.(1/24)
2- وإمّا ازدواج الخالق والمخلوق في كائنٍ واحد، فالسبب عين المسبب، وهو مستحيل، بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إلى الوقوف والشرح.
فإن قالوا: خلق كل ذلك مصادفة، يقال: ثبت لدينا يقينًا أن لا مصادفة في خلق الكون - كما سيأتي-.
وكان مما ساعد على انتشار هذا القول: نظرية التولد الذاتي، وكان من أدلتها: ما شاهده العلماء الطبيعيين من تكوّن (دود) على براز الإنسان أو الحيوان، وتكون بكتيريا تأكل الطعام فتفسده، فقالوا: ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها، وراجت هذه النظرية التي مكنّت للوثن الجديد (الطبيعة) في قلوب الضالين والتائهين بعيدًا عن هدي الله الحق، لكن الحق ما لبث أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور (باستير) الذي أثبت أن الدود المتكون والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيًّا من الطبيعة، وإنما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها، وقام بتقدير الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله، فوضع غذاء وعزله عن الهواء وأمات البكتيريا بالغليان، فما تكونت بكتيريا جديدة ولم يفسد الطعام، وهذه هي النظرية التي قامت عليها الأغذية المحفوظة (المعلبات).
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم للطبيعة جليًّا وبينًا.
المفهوم الثاني: أن الطبيعة عبارة عن القوانين التي تحكم الكون؛ بمعنى أنها تعني صفات الأشياء وخصائصها، فهذه الصفات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، وملاسة وخشونة، وهذه القابليات: من حركة وسكون، ونمو واغتذاء، وتزاوج وتوالد، كل هذه الصفات والقابليات: هي الطبيعة.
إن هذا تفسير الذين يدَّعون العلم والمعرفة من القائلين بأن الطبيعة هي الخالقة، فهم يقولون: إن هذا الكون يسير على سُنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية، والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرًا طويلاً، فإنها تسير بذاتها دون مسيّر.
الردود:(1/25)
1- إن هذا القول ليس جوابًا، وإنما هو انقطاع عن الجواب، وذلك؛
إن هؤلاء في واقع الأمر لا يُجيبون عن السؤال المطروح: من خلق الكون؛ ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا كيف يعمل القوانين في الأشياء، ونحن نريد إجابة عن موجِد الكون وموجِد القوانين التي تحكمه.
(كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تُمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول الماء على الأرض، وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرًا لها، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى إن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟
إن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة).
2- الطبيعة لا تفسّر شيئًا (من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجةٍ إلى تفسير، وذلك؛ (لو أنك سألت طبيبًا: ما السبب وراء احمرار الدم؟).
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها 1/700 من البوصة.
- حسنًا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تُسمّى (الهيموجلوبين)، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين في القلب.
- هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل (الهيموجلوبين)؟
- إنها تُصنع في كبدك.
- عجبًا! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكَبِد وغيرها، بعضها ببعض ارتباطًا كليًّا وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نُسميه "بقانون الطبيعة".
- ولكن ما المراد "بقانون الطبيعة" هذا يا سيادة الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو: الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.(1/26)
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائمًا إلىنتيجة معلومة؟ وكيف تُنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا، بجميع ما لديه من الإمكانيات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلاَّ عن (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا يحدث؟).
هكذا يتضح من هذه الأسئلة عدم صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون، وأن من أمعن النظر في تعبير الطبيعيين يجد أنها جميعها أفعال مبنية للمجهول؛ لجهلهم أو تجاهلهم الفاعل الحقيقي.
3- إن مبدأ السببية متفق عليه بين المؤمنين والملحدين نظريًّا، فأين تطيقه عمليًّا؟ والمراد بالسببية هنا: أن الإنسان الذي أنعم الله عز وجل عليه بالعقل، منذ أن أشرقت أشعة عقله على الوجود بدأ يتساءل ولا يزال وسيبقى يتساءل عن بداية نشأته، وأين سينتهي مصيره؟ ويتساءل عن هذه الموجودات، والكائنات، كيف وجدت؟ ومن أوجدها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراءها؟
هذا المبدأ من المبادئ الثابتة التي لم تتغير على مدى التاريخ، وهو محل اتفاق بين المؤمنين والملحدين، أما المؤمنون فيقولون به نظريًّا وعمليًّا، وهذا أشهر من أن يقام عليه دليل، أمّا الملحدون، فهؤلاء أيضًا قالوا به نظريًّا، والدليل عليه ما يلي:(1/27)
يقول "سبركين وياخوت": (نواجه دائمًا في نشاطنا سؤالاً عن علل هذه الظواهر أو تلك، وهو أحد الأسئلة التي تساعد على تبيّن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تجري حولنا والتوصل إلى جوهرها، ولم يكن عبثًا؛ أن كتب الفيلسوف اليوناني "ديموقريطس" يقول: (لأفضّل أن أجد السبب الحقيقي ولو لظاهرة واحدة من أن أصبح قيصرًا على بلاد فارس). فإذن، ماذا تعني مقولتنا (السبب) و(النتيجة)؟ تعرف من الخبرة أنه (لا شيء) لا ينتج شيئًا، وكل ظاهرة لها ما يُولدها، وهو الذي يُسمّونه (السبب). السبب هو: ما يخلق وينتج ويولد ظاهرة أخرى، وما ينتج تحت تأثير السبب يُسمّى نتيجة أو فعلاً).
فهذا المبدأ العام الذي اعترف به الماديون الملحدون وأخذوا به من الناحية النظرية هل طبقوه من الناحية العملية؟
هذا ما سيتضح لنا عندما يطرح سؤال - وهو مثار خلاف جذري بين المؤمنين من جهة، وبين الماديين الملحدين من جهة أخرى- وهو:
ما هو السبب الكامن وراء هذا الوجود من أرض وسماوات ونبات وحيوانات وإنسان وغيره من المخلوقات؟
هذا السؤال نجد الإجابة عليه جاهزة وميسرة ومتوفرة عند الماديين، وهي أن هذا من الأمور الميتافيزيقية التي لا تهمنا بحالٍ من الأحوال، ولا نشغل عقولنا بها؛ لأنها أمور تافهة، والبحث عنها مضيعة للوقت، فكل شيء يخالف نظريتهم - ولو كان صحيحًا - لا يأخذون به ويصمونه بوصمة عار عندهم وهي إرجاعه إلى الميتافيزيقية، أو المثالية التي هي في عرفهم عدوة للعلم، فهم لا يعرفون إلا العالم المادّي، هذا العالم وجد، ولا خالق له، وبالتالي فليس له سبب أول أوجده.
وقد كتب "لينين" بصدد المفهوم المادّي عند فيلسوف العهد القديم (هيراكليت) يقول في ترجمة حرفية: (العالم، وحدة الكل، لم يخلقه أي إله ولا أيّ إنسان، ولكن كان وسيبقى نارًا حية أزليًّا تشتعل وتنطفئ بموجب قوانين... هذا عرض جيد جدًّا لمبادئ المادية الجدلية).(1/28)
في هذا النص نرى أن "لينين" نفى السبب الأول في إيجاد العالم المادّي، وهذا نفي صريح للقانون الذي قرروه هم أنفسهم، حين وقفوا في تفسيره عند حدود معينة لم يتجاوزوها؛ لأن تجاوز هذه الحدود يؤدّي بهم إلى الاعتراف بخالق الكون، ومن ثَمَّ الاعتراف بالأديان، وهذا ما لا يرضونه.
والمقصود: بيان كون تفسيرهم لمظاهر الكون في وجوده وتغيره بالطبيعة وعدم تفسيرهم للطبيعة إنما هو هروب منهم لقانون السببية - المعترف به لديهم - فإن تطبيقهم العملي لهذا القانون سيؤديهم حتمًا إلى الاعتراف بخالق للكون. وهذا ما لا يستيسغونه مطلقًا.
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم (الثاني) أيضًا للطبيعة، فما بقي إلاَّ أن يقولوا بالمفهوم الثالث حتمًا، وإن كانوا ينكرونه بشدة لما يترتب على الاعتراف به من إثبات وجود الله وبالتالي بمستلزمات هذا الإثبات التي هي عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا المفهوم الثالث بيانه ما يلي:
المفهوم الثالث: أن يقول: إن الطبيعة قوة أوجدت الكون، وهي قوة حيّة سميعة بصيرة حكيمة قادرة.. فإننا نقول لهم: هذا صواب وحق، وخطؤكم في أنكم سمّيتم هذه القوة (الطبيعة)، وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة على الاسم الذي تستحقه وهو (الله)، وهو عرفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فعلينا أن نُسمّيه بما سمّى به نفسه سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم: (وكأنّي بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار! فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه الطبيعة، أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك؟ بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟
فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة، فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلم تسمّيه طبيعة؟!(1/29)
ويا لله! عن ذكر الطبائع يرغب فيها فهلاّ سميتَه بما سمّى به نفسه على ألسن رسله ودخلتَ في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفته به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد!
فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممّن لا فعل له ولا قدرة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلاَّ دخول في سلك المجانين والمبرسمين.
ثم قُل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم أنّ مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها، فمن ربّها ومُبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذن من أدل الدليل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِيْكَ تعطيلك ربّ العالم جحدك لصفاته وأفعاله إلاَّ مخالفتك العقل والفطرة.
ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل، ولا الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً، فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلاَّ من صانع قادر مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يُعجزه ولا يصعب عليه ولا يؤوده.
قيل لك: فإذن أقررت - ويحك - بالخلاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، فدَع تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصوّر ربّ العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، وربّ المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خَلَقَه، وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته - بل وذاته- وأضفت صُنعه إلى غيره وخلقَه إلى سواه؟ مع أنك مضطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بدّ، فالحمد لله رب العالمين.(1/30)
على أنك لو تأمّلت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلّك على الخالق الباري لفظها كما دلّ العقولَ عليه معناها؛ لأن (طبيعة) فعلية بمعنى مفعولة، أي مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا ألبتة؛ لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة، والبحيرة والسليقة، والطبيعة؛ فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه.
ومعلوم أن طبيعة من غير طابع لها محال، فقد دلَّ لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دلَّ معناها عليه.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب، وهي سنة في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها إذا أراد، ويقلب تأثيرها إلى ضدّه إذا شاء؛ ليُريَ عباده أنه وحده البارئ المصوّر، وأنه يخلق ما يشاء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته..).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 712-730 ) .
الشبهة(3) : القول بالمصادفة
وأن الكون أو الإنسان لا يحتاج إلى موجِد أوجده، بل وجد صدفة دون تقدير ولا تدبير، فلا خالق ولا موجِد له.
الرد على هذه الشبهة :
القول بالصدفة هو المخرج الثاني للقائلين بنظرية النشوء والارتقاء لأصل الإنسان، فإنهم لمَّا قالوا بنظرية الارتقاء والتطور، والنشوء سُئلوا عن أساس التطور، فأجابوا بأنه حدث فعلاً بالصدفة، وأن الحياة والكون إنما هما نتيجتا الصدفة، وقد سبق معنا الرد على نظرية التطور والنشوء والارتقاء، وأما القول بالصدفة فيقال في الرد عليها:(1/31)
إن القول بالصدفة من الافتراءات الآثمة التي قال بها الغافلون عن الإبداع الكوني، وما في العالم من أسرار ونواميس هي أكبر شاهد على مدبر حكيم، إن ما يحدث في الكون من تقدير في الأرزاق والآجال، وما عليه الكون من إبداع، وما يحتوي عليه من أسرار لا مرد له إلى العشوائية والارتجال، فهي قضية من المسلَّمات التي اتفقت عليها الدلائل العلمية المادية، والبراهين العقلية المنطقية.
فالدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالمصادفة، وترفض المصادفة في أية ظاهرة كونية ذات إتقان دقيق معقد، والباحثون العلميون سواء أكانوا مثاليين أو ماديين، يبحثون باستمرار عن سبب أية ظاهرة كونية يشاهدونها، ويرفضون ادعاء المصادفة فيها رفضًا قاطعًا؛ لأن المناهج العلمية الاستقرائية قد أثبتت للعلماء أنه ما من ظاهرة تحدث في الكون دون أن تكون مسبوقة بسبب مكافئ لحدوثها، وإذا كانت هذه الظاهرة من الظواهر التي تحتاج إلى علم ومهارة حتى يكون قادرًا على إنتاجها، قرروا أن منتجها صاحب علم ومهارة، وهكذا. فكيف بالكون كله وما فيه من متقنات لا حصر لها، أصغرها الذرة وأكثرها المجرة - في نظرنا -، وأدناها في الأحياء التي اكتشفناها الفيروس، وأعلاها فيما نشاهد: الإنسان؟
وللرد عليهم علميًّا، يُذكر ما يلي:(1/32)
1- إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية، وهي تتكون من خمسة عناصر، هي: الكربون والأيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، ويبلغ عدد الذرات في الجزء الواحد (40) ألف ذرة، ولمَّا كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة (92) عنصرًا موزعة بقدر معلوم، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزئيًا واحدًا من جزئياتِ البروتين يمكن حسابه لمعرفة كميات المادة التي ينبغي أن تخلط خلطًا مستمرًا لكي تُؤلِّف هذا الجزئي. وقد حاول أحد العلماء حساب الفترة الزمنية التي يجب أن تستغرقها عملية خلط العناصر المذكورة هي (10) 243 سنة.... معنى ذلك أنه قبل وجود الكون وما بعد أيامنا هذه بمليون سنة أمامه (239) صفر، واشترط العلماء توفر مواد كونية تساوي حجم الكون مليون أمامه (431) صفر مرة، فهل هذا معقول؟ كل تلك الأرقام المستحيلة يطلبها قانون الصدفة لتكوين جزئي، واحدة من جزئيات الخلية الحية،... ألا يكفي خلق الإنسان من بلايين الخلايا [الحية] التي تحركها إشعاعة الحياة (تلك النفخة الإلهية العظمى في المادة)، ألا يكفي هذا لكي يؤمن الملحدون بالخالق الواحد الأحد الفرد الصمد؟).
2- يقول أحد الباحثين المعاصرين: إن (معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي نسمِّيها (الخلايا)، كما يتكون المبنى من مجموعة من الأحجار المرصوصة).
وخلايا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة الانقسام، وذلك الانقسام قد يكون لنمو الجسم أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخلايا لأسباب عديدة، وكل خلية من هذه الخلايا تتكون أساسًا من مادة عجيبة نطلق عليها اسم (البروتوبلازم).(1/33)
وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة، ومن هذه المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم (الكروموسومات)، وعدد هذه الكروموسومات ثابت في خلايا كل نوع من أنواع الحيوانات والنباتات المختلفة، فعددها في خلايا القط - مثلاً - يختلف عن عددها في خلايا الكلب أو الفيل أو الأرنب أو نبات الجزر أو الفول. وفي كل خلية من الخلايا التي يتكون منها جسم الإنسان يوجد ستة وأربعون من هذه الكروموسومات.
وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا، فإن كل خلية جديدة لا بد أن تحتوي على العدد نفسه من (الكروموسومات)، وهي ستة وأربعون، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنسانًا.
والخلايا - كما ذكرت - دائمة الانقسام. يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا، ونحن حتى الآن ما ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة - عملية انقسام الخلايا -، بل يكتفي العلم بوصف خطوات العملية التي يمكن ملاحظتها تحت عدسات (الميكروسكوب) العادي، أو عن طريق (الميكروسكوب الإلكتروني) الذي يكبر الأشياء تكبيرًا أكثر بكثير من تكبير الميكروسكوب العادي.
إن جميع الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام في جسم الإنسان لا بد أن تحتوي - كما ذكرت - على ستة وأربعين كروموسومًا، فيما عدا نوعين من الخلايا؛ هما الخلايا التناسلية، أي الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى، إذ عندما تنقسم خلايا الأنسجة لتكوين هذه الخلايا التناسلية فإنها تنتج خلايا لا تحتوي على الستة والأربعين كروموسومًا، بل تحتوي على نصف هذا العدد؛ أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية ثلاثة وعشرون كروموسومًا فقط.(1/34)
لماذا يحدث ذلك؟ يحدث هذا؛ لحكمة بالغة ولهدف عظيم، إذ إن الخلية الذكرية (الحيوان المنوي) لا بد أن تندمج مع الخلية الأنثوية (البويضة) لتكوين أول خلية في جسم الجنين، وهي التي نطلق عليها اسم (الخلية الملقحة)، وبهذا الاندماج يعود عدد الكروموسومات في الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي وهو ستة وأربعون (كروموسومًا).
وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين (كروموسومًا) توالي انقسامها فتصبح خليتين، ثم أربع خلايا، ثم ثمان خلايا، وهكذا حتى يتم تكوين الجنين الذي يخرج من بطن أمه ويستمر نموه عن طريق انقسام الخلايا حتى يصبح إنسانًا كامل النمو في كل خلية من خلاياه ستة وأربعون (كروموسومًا)، كما هو الحال في خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده وجميع أفراد الجنس البشري.
إن اختزال عدد الكروموسومات إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي تندمج فيعود العدد الأصلي (للكروموسومات) في الخلايا لا يمكن مطلقًا نتيجة مصادفة عمياء، بل لا بد أن يكون نتيجة تخطيط دقيق من قوة عُليا تعرف ماذا تفعل، وهي في الوقت نفسه لا يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ، إذ لو حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقُضي على الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني؛ أي أن هذا الترتيب لا بد أن يكون قد تَمَّ منذ تكوين أول جنين ظهر في الوجود. ألا يكفي هذا وحده دليلاً على وجود قوة عُليا مدبرة مقدرة حكيمة؟ بل لا يمكن أبدًا أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود جميع الكائنات الحية من صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلام، إذ إن المصادفة لا يمكن أن تتخذ مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات.
فهذه بعض الأمثلة من جملة عشرات الأمثلة للدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية، تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالصدفة.(1/35)
وأما البراهين العقلية المنطقية فهي أيضًا تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالصدفة. وفيما يلي استعراض سريع لبعض هذه الأدلة:
1- إن الأرض هي الكوكب الوحيد الذي يمكن أن توجد فيه الحياة على الوجه الذي نعرفه (إن حركة دوران الأرض حول نفسها إن أسرعت أو أبطأت عمَّا هي عليه؛ لطالت الأيام أو قصرت، ولتوقفت الحياة بسبب برودة الليل أو قيظ النهار، والشمس في نفس الموقع بالضبط الذي يمكنها من حفظ الحياة على الأرض، ودرجة حرارتها البالغة (6500) درجة مئوية هي على وجه التحديد درجة الحرارة اللازمة لكوكبنا، فلو انحرف متوسط درجة الحرارة صعودًا أو هبوطًا على الهامش الصغير الذي لا يتجاوز (28) درجة لانعدمت أمواج المد، فغمرت السهول والجبال وغطت كل شيء على ظهر الأرض تحت طبقة من الماء عمقها (2500) متر.
أما محور الأرض فإنه إن لم يكن على زاوية (23) درجة كما هو، فلن تكون هناك فصول، ولتحركت أبخرة المحيطات نحو القطبين: الشمالي والجنوبي، مكونة تراكمات هائلة من الثلج عند القطبين، تاركة وسط الأرض خاليًا تمامًا من الماء، لن تكون هناك عندئذٍ أمطار، وستخلو المحيطات من مياهها، وستنبعج الأرض عند خط الاستواء تحت ضغط الثلوج المتراكمة عند القطبين، وسيترتب على ذلك آثار هائلة.
أما الغازات التي يتكون منها الغلاف الجوي فإنها إن اختلفت عمَّا هي عليه فلن يستطيع أي شيء أن يبقى حيًّا، واحتمال أن يكون كل هذا وليد الصدفة احتمال متناهي الضآلة، ولا يعدو أن يكون واحدًا في المليار؛ ولذلك يقول " آينشتين " : (لا أستطيع أن أصدق أن الكون قد نتج عن رمية زهر).
2- لقد وجد من يقول: (لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها بلايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير - فكذلك الكون الموجود الآن، نتيجة لعمليات عمياء، ظلَّت تدور في المادة لبلايين السنين).(1/36)
هذا قول أحد الملاحدة من المنكرين لوجود الله، ويجاب عن هذه الفرية؛ بأن أي كلام من هذا القبيل (لغو مثير)، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ، فإن جميع علومنا تجهل - إلى يوم الناس هذا - أية مصادفة أنتجت واقعًا عظيمًا ذا روح عجيبة، في روعة الكون.
ثم إن الرياضيات التي تعطينا نكتة (المصادفة) هي نفسها التي تنفي أي إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة، ولهذا ردَّ على هذه الفرية عالم آخر من الغرب بقوله: (لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك، وخلطتها جيدًا، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العشرة بالترتيب العددي بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هو واحد في المائة، وإمكان أن نخرج الدراهم (1، 2، 3، 4) بالترتيب هو واحد في عشرة آلاف... حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من (1-10) بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات). وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خاليًا يصعب حسابه فضلاً عن تصوره.(1/37)
إن كل ما في الكون يحكي أنه إيجاد موجِد حكيم عليم خبير، ولكن الإنسان ظلوم جهول: { قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ*مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً}. كيف يمكن أن تتأتى المصادفة في ذلك كله، في خلق الإنسان وتكوينه، وفي صنع طعامه على هذا النحو المقدَّر الذي تشارك فيه الأرض والسماء. { قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}. وصدق الله في وصفه للإنسان: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}.
قال الإمام ابن القيم: سل المعطل الجاحد: ما تقول في دولاب دائر على نهر قد أُحكمت آلاته، وأُحكم ترتيبه، وقُدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلِمُّ شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها فلا يختل منها شيء ولا تتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام... أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر؟ بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا قيِّم ولا مدبر.. أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟(1/38)
ولكن من حكمة العزيز الحكيم أنْ خلق قلوبًا عميًا لا بصائر لها - فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية - كما خلق أعينًا عميًا لا أبصار لها، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وهي لا تراها، فما ذنبها إن أنكرتها وجحدتها! فهي تقول في ضوء النهار: هذا ليل! ولكن أصحاب الأعين لا يعرفون شيئًا.
ولقد أحسن القائل:
وَهَبْنِي قلت هذا الصبح ليل أَيَعْمَى العالمون عند الضياء
أخيرًا : ما أقول، هو ما اعترف به كبار علماء الكون المعاصرين، من تراجع العلم المعاصر عن اعتبار الكون عن طريق المصادفة إلى إدراك أنه مظهر لخطة عليم حكيم قدير مهيمن على كل شيء.
يقول العلاَّمة الفلكي الرياضي البريطاني السيد (جيمس جينز): (لقد كنا قبل ثلاثين سنة - ونحن ننظر إلى الكون - نظن أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي، وكان يبدو لنا أن الكون يشتمل على ركام من المادة المبعثرة، وقد اجتمعت أجزاؤه بالمصادفة، وأنَّ عمل هذه المادة ينحصر في أن ترقص لبعض الوقت رقصًا لا معنى له، تحت تأثير قوى عمياء لا هدف لها، وأنها بعد نهاية الرقص ستنتهي هذه المادة في صورة كون ميت، وأن الحياة قد وجدت مصادفة خلال عمل هذه القوى العمياء، وأن بقعة صغيرة جدًّا من الكون قد نعمت بهذه الحياة، أو على سبيل الاحتمال يمكن أن توجد هذه الحياة في بقاع أخرى، وأن كل هذه ستنتهي يومًا ما، وسيبقى الكون فاقد الروح.
ولكن توجد اليوم أدلة قوية، تضطر علم الطبيعة إلى قبول الحقيقة القائلة: بأن نهر العلم ينساب نحو حقيقة غير ميكانيكية.
إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكينة عظيمة. إن (الذهن) لم يدخل إلى هذا العالم المادي كأجنبي عنه، ونحن نصل الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال (الذهن) كخالق هذا الكون وحاكمه.(1/39)
إن هذا الذهن - بلا شك - ليس كأذهاننا البشرية، بل هو ذهن خَلَقَ الذهن الإنساني من (الذرة، المادة)، وهذا كله كان موجودًا في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج معد سابقًا.
إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك التي أقمناها على عجل، لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة أو مهيمنة..).
فهذا التراجع يدلنا على أن مواقفهم غير ثابتة، بل هي واهية البنيان والأساس، وما الاستدلالات التي استدلوا بها على أفكارهم إلا ظنونًا وتخمينًا، فالعالم من خلق خالق مبدع حكيم مريد خلقه على خطة مسبقة معدٍّ، وهو يهيمن عليه ويحيط به في جميع أجزائه.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 734-744) .
الشبهة(4) : ادعاؤهم أن وجود الله كوجود الإنسان ..
ومنشأ الخطأ لدى "سارتر" وغيره من الوجوديين ممن تشبث بهذه الشبهة أنه اعتقد أن كل موجود مفتقر في وجوده لآخر حتى وجود الله، فتصور وجوده كوجود الإنسان، ولذلك لم يتصور أنه أصل الوجود الذي ليس وراءه أصل، والوجود لا يكون إلا هكذا، إذ إنه لا بد - في الوجود - من موجِد أوجد غيره ولم يوجده الغير، هو الأول للوجود، كما عبر عنه "فيثاغورس" بأنه كالعدد واحد، أصل الأعداد، ولا يوجد أصل له.
ولذلك قال تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " أنت الأول فليس قبلك شيء ".
وقوله صلى الله عليه وسلم : " كان الله ولم يكن شيء قبله ".
ولكي يتضح هذا التقدير يُستدل بما يلي:(1/40)
إن التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، حجة يوسوس بها الشيطان للإنسان، منذ أن بدأ الفكر الإلحادي يدب إلى أذهان بعض الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فقولوا: آمنا بالله ورسوله "، وفي رواية: " فعند ذلك يضلون ".
فهذه الحجة الشيطانية تزعم أن الإيمان بأن الله هو المصدر الأول للأشياء، والوقوف عنده، يساوي نظريًّا وقوف الملحدين عند المادة الأولى للكون، التي يطلقون عليها اسم السديم، وتزعم أن كلا الفريقين لا يجد جوابًا على هذا التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، إلا أن يقول: لا أعرف إلا أن وجود هذا الأصل غير معلول، وتزعم أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة، وبعد هذه المزاعم يخادع مطلقوها (بأن إعلان الجهل والاعتراف به من متطلبات الأمانة الفكرية، حين لا توجد أدلة وشواهد وبراهين كافيات).
ولدى البحث المنطقي الهادئ يتبين لكل ذي فكر صحيح، أن هذه الحجة ليست إلا مغالطة من المغالطات الفكرية، وهذه المغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تباينًا كليًّا، ولا يصح التسوية بينهما في الحكم. وفيما يلي تعرية تامة لهذه المغالطة من كل التلبيسات التي سترت بها.
سبق إثبات كون الله عز وجل أزليًّا، كما سبق إثبات كون المادة حدثت بعد أن لم يكن لها وجود، واستنادًا على هذا الإثبات إننا إذا وضعنا هذه المغالطة بعبارتها الصحيحة كان كما يلي:
ما دام الموجود الأزلي الذي هو واجب الوجود عقلاً، ولا يصح في حكم العقل عدمه بحال من الأحوال غير معلول الوجود، فلم لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضًا؟
إن كل ذي فكر سليم صحيح من الخلل يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناءً على ذلك في حكم هو من خصائص أحدهما.(1/41)
وعلى هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صنعت هذه المغالطة الجدلية، والتورط في هذه المغالطة راجع إلى علة نفسية، غفلة منا وانصياعًا للتصور الغالب، شأن رجل يشتغل عمره بكيمياء النحاس، فعرض له الذهب فجأة، فراح يطبق عليه قوانين النحاس، أفتراه يصيب، أم يخطئ؟ لا جرم أن خطأه نشأ من انهماكه الدائم في قانون معين، وغفلته عن التفريق بين القوانين حينما اختلفت مجالات التطبيق، ولقد عرفنا أن خالق الحوادث لا يتصف بالحدوث قطعًا، فكيف نطبق عليه قانون الحوادث؟!
ذكروا: (أن رجلاً جاء إلى عالم من علماء الأمة فقال: إذا أقررنا بالخالق فمن ذا خلقه؟ قال: عُدَّ من الواحد صعودًا، ففعل الرجل، قال: عُدَّ قبل الواحد، قال: ليس قبل الواحد شيء. قال: كذلك ليس قبل الواحد شيء!).
والخلاصة: إن الخالق ليس بحادث، فنطبق عليه قانون الحوادث في السؤال عن خالقه، فذلك غير سائغ، وأنه كامل مطلق، والكامل المطلق لا يحتاج إلى غيره، وبذلك ينهدم آخر صرح من صروح الشك، فنقول: الكامل المطلق لا يمكن أن يفتقر إلى الموجد.
وأما أزلية الخالق، وعدم احتياج وجوده إلى علة، فبرهان ذلك يمكن إيجازه بما يلي:
إن العدم العام الشامل لكل شيء يمكن تصوره في الفكر، لا يصح في منطق العقل أن يكون هو الأصل؛ لأنه لو كان هو الأصل لاستحال أن يوجد شيء مَّا.
إذن: فلا بد أن يكون وجود موجِد مَّا هو الأصل، ومن كان وجوده هو الأصل فإن وجوده لا يحتاج عقلاً لأية علة، بل وجوده واجب عقلاً، ولا يصح في العقل تصور عدمه، وأي تساؤل عن علة لوجوده لا يكون إلا على أساس اعتبار أن أصله العدم ثم وجد، وهذا يتناقض مع الإقرار باستحالة أن يكون العدم العامل الشامل هو الأصل الكلي.
ومن كان وجوده واجبًا بالحتمية العقلية باعتبار أنه هو الأصل، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتصف بصفات تستلزم أن يكون حادثًا.(1/42)
أما ادعاء أصلية الوجود للكون بصفاته المتغيرة فهو ادعاء باطل، وذلك بموجب الأدلة التي تثبت أنه حادث وليس أزليًّا.
إن هذا الكون يحمل دائمًا وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة: النظريات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية، وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجال من مجالات المعرفة، والقوانين العلمية التي توصل إليها العلماء الماديون.
وإذ قد ثَبَتَ أن هذا الكون عالم حادث، له بداية ونهاية، فلابد له حتمًا من علة تسبب له هذا الحدوث، وتخرجه من العدم إلى الوجود، وذلك؛ لاستحالة تحول العدم بنفسه إلى الوجود.
أما ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه مطلقًا، وتقضي الضرورة العقلية بوجوده، فوجوده هو الأصل، لذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجِد يوجده، وكل تساؤل عن سبب وجوده تساؤل باطل بالحتمية العقلية؛ لأنه أزلي واجب الوجود، ولا يمكن أن يكون غير ذلك عقلاً، وليس حادثًا حتى يتساءل الفكر عن سبب وجوده.
وهنا نقول: لو كانت صفات الكون تقتضي أزليته لقلنا فيه أيضًا كذلك، لكن صفات الكون المشاهدة المدروسة تثبت حدوثه.
يضاف إلى هذا: أن مادة الكون الأولى عاجزة بطبيعتها عن المسيرة الارتقائية التي ترتقي بها ذاتيًّا إلى ظاهر الحياة، فالحياة الراقية في الإنسان.
وبهذا تنكشف للبصير المنصف: المغالطة الشيطانية التي يوسوس بها الشيطان، وتخطر على أذهان بعض الناس، بمقتضى قصور رؤيتهم عن استيعاب كل جوانب الموضوع وزواياه، فهم بسبب هذا القصور في الرؤية يتساءلون: وما علة وجود الله؟
إنها مغالطة تريد أن تجعل الأزلي حادثًا، وأن تجعل واجب الوجود عقلاً ممكن الوجود عقلاً، وأن الأصل فيه العدم، ليتساءل الفكر عن علة وجوده.
أو تريد أن توهم بأن ما قامت الأدلة على حدوثه فهو أزلي، أو هو واجب الوجود لذاته؛ لتسوي بين الحادث والأزلي في عدم الحاجة إلى علة لوجوده.(1/43)
وتريد هذه المغالطة أن تطمس الضرورة العقلية التي تقتضي بأن الأصل هو وجود موجِد أزلي، وهذا الموجِد الأزلي لا يصح عقلاً أن يُسأل عن علة لوجوده مطلقًا؛ لتنافي هذا السؤال مع منطق العقل، وهذا الموجِد الأزلي لا يمكن أن تكون له صفات تستلزم حدوثه.
أما الكون فصفاته تستلزم بالبراهين العقلية والأدلة العلمية المختلفة - حدوثه، لذلك كان لا بد من السؤال عن علة لوجوده، ولا تكون هذه العلة إلاَّ من قبل الموجِد الأزلي، الذي يقضي منطق العقل بضرورة وجوده، خارجًا عن حدود الزمن ذي البداية والنهاية، وخلاف ذلك مستحيل عقلاً.
والحدوث من العدم العام الشامل، دون سبب من موجِد سابق له مستحيل عقلاً.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 744-749 ) .
الشبهة(5) : ادعاؤهم أن وجود الله ينافي حرية الإنسان!
ومقصودهم بهذا القول: أن الإنسان لا يكون حرًّا إلا إذا أنكر وجود الله، فإنه ما دام يثبت وجود الله فإنه لا بد من إتباع أوامره واجتناب نواهيه. وهذا مخالف للحرية التامة، فإذا قُضي على فكرة وجود الله فقد ثبتت الحرية، وإلا فلا.
الرد على هذه الشبهة:
إن دعوى الحرية التامة المطلقة - التي أسس عليها الوجوديون إنكار الله الخالق الرازق المحيي والمميت - لا وجود لها إلا في خيالهم المريض؛ إذ لو كان الإنسان حرًّا حرية مطلقة لتحكَّم في مسيره ومجريات أحداثه، وكان عالمًا بكل ما يحيط به من أحداث، بل لكان هو المتحكم والمخطط لمسيرها في الحياة، ولما كان هناك ما يقع على الإنسان غير ما يبتغيه أو يرغب فيه، بل يتمنى ألا يقع، تأكد كذب ما ترتب على دعوى الوجودية من استغناء الإنسان من خالق أوجده أو قدره. وبيان ذلك: أن الإنسان وهو بطريق الحياة تنتابه الأقدار:(1/44)
1- أحداث تقع به فيفجؤه، بل يفجعه نزولها به دون أن يدور بخلده - قط - أنها ستصيبه أو ستلِم به، مثل: النوازل والكوارث التي قد تصيب الإنسان وهو بطريق الحياة دون سابق إنذار، وما يستطيع عاقل أن يقول: إن الإنسان هو الذي وضعها بنفسه أو أنزلها بساحته بناء على حريته المطلقة.
2- تنوبه أحداث أخرى ما يتمناها لنفسه - قط - لكنها تقع به، مثل: ضعف البصر، انحناء الظهر، عجز القدمين عن حمل الجسم، تجاعيد الوجه، ابيضاض الشعر، فلو كان الإنسان سيد أفعاله لما أوقع بنفسه ما تكرهه نفسه.
3- لو كان الإنسان هو الخالق لنفسه لكان عالمًا بتفاصيل حياته وأسباب وجوده، أو الغاية التي تصير إليها بعد رحيله، وهذا يتناقض مع ما تنادي به الوجودية في أضل مبادئها، فهي ترى أن الإنسان قد قذف به في الحياة دون قصد وهدف، وسيرحل عن الحياة دون إرادة أو غاية، وتوضيح ذلك وبيانه أوضح من أن يثار.
4- هل يعقل أن يلغي الإنسان وجود الله لمجرد إثبات حريته الكاملة، وهل هذه إلاَّ حرية بهيمية شيطانية لنيل مقصوده والتسلط على حقوق الآخرين؟
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 750-751) .
الشبهة(6) : حصر إيمانهم بالمحسوسات فقط .
حيث قالوا: إذا كان الله موجودًا، فلماذا لا نراه بأعيننا ولا ندركه بحواسنا كما ندرك ونرى الموجودات؟ وهل يسوغ لنا أن نؤمن بما لا نراه؟
الرد على هذه الشبهة:
1- إن الإيمان بالمحسوسات والموجودات فقط مسخ للإنسان، وتغليب لجانب من شخصيته على الجانب الآخر مما ينتج عنه القلق والفزع الذي يعاني منه الوجودي، وإلاَّ فالإنسان جسد وروح، وحصر الموجودات فيما يرى ويحس غير صحيح، فكم من موجودات لا تحس ولا ترى، كما أن حصر وسائل المعرفة في الإدراك الحسي غير صحيح كذلك، فالإنسان يعرف ويدرك عن طريق البداهة والفطرة، وعن طريق العقل والفكر، وعن طريق البصيرة والإلهام.(1/45)
كما يدرك، ويدرك عن طريق الحس والرؤية، فعلماء الفلك يقدرون وجود كواكب بيننا وبينها ملايين السنين الضوئية، وقدَّروا مواقعها والأبعاد بين بعضها؛ لأن وجودها في المواقع التي حددوها، يفسر لهم آثارًا وظواهر معينة، في حركة الكواكب التي رصدوها، ويستدلون بما رأوه على ما لم يروه، ويتبين بالملاحظات العلمية صحة الفرض الذي فرضوه، فهل يلام هؤلاء العلماء على إيمانهم بما لم يروه ولم يحسوه، مع أنهم اهتدوا إليه بالمنطق الرياضي الذي يعتمد على الأرقام لا على الأوهام؟
إن هؤلاء العلماء قد اعتمدوا على منطق بسيط ولكنه صادق - هو الاستدلال بالأثر على المؤثر -، فهم قد عرفوا الكواكب البعيدة بآثارها لا بذاتها، وعلى هذا النهج نفسه درس العلماء الطبيعيون (الذرة)، واستخدموا قوانين الكتلة والطاقة، مع أنهم لم يروا الذرة حتى الآن، كل ما انتهوا إليه بوسائلهم الإلكترونية الجبارة أنهم استطاعوا أن يروا ظلها أو خيالها بعد تكبيره وتضخيمه، فكيف نسلم بهذا المنطق - منطق الاستدلال بالآثار - ونستخدمه في علوم الطبيعة والفلك ثم ننكره في معرفة الخالق؟.
2- إن هذا الزعم لا دليل عليه مطلقًا، إنه مجرد إنكار ورجم بالغيب، لقد كان الماديون ينكرون ما لا تصل إليه الحواس الإنسانية قبل أن يتوصل البحث العلمي إلى اكتشاف أجهزة تستطيع أن تحس بأشياء كونية كانت بالنسبة إلى الحواس البشرية أمورًا من أمور الغيب، ولمَّا اكتشفت هذه الأجهزة، وكشفت للعلماء الباحثين ما كشفت من خفايا داخل الكون تراجع الفكر المادي عن تعنته قليلاً، فاعترف بوجود أشياء يمكن أن تدركها الأجهزة التي توصل العلماء الباحثون إلى اكتشافها.
ومنها أجهزة الإحساس بالأشعة التي لا تدركها حواس الناس، وأجهزة الإحساس بالذبذبات الصوتية التي تنطلق في الأجواء، وأجهزة الإحساس بالطاقات الكهربائية والمغناطيسية والحرارية وغيرها.(1/46)
وكلما تقدم العلم تطورت أجهزة الإحساس بالموجودات كانت غيبًا على الناس قبل التوصل إليها، تراجع الفكر المادي الوجودي عن بعض تعنتاته، ولكن ظل منكرًا ما وراءه مما لا يزال غيبًا.
لقد كان الاستنتاج العقلي يثبت أمورًا، وكان الفكر المادي الوجودي ينكر بتعنت وعناد، وحين كشفت الأجهزة المستحدثة ما كان يثبته العقل، تجاهل الماديون الوجوديون إنكارهم الأول، وأخذوا يراوغون، ويوسعون مذهبهم المادي، حتى يشمل ما أثبتته الأجهزة المستحدثة وأحست به، وقدمت للعلماء شهادة بما شاهدت من خفايا كانت قبلها غيبًا عن حواس الناس.
أما الماديون المعاصرون الذين يعترفون بقوانين العلوم، وما توصلت إليه استنتاجًا عقليًّا، فإنهم يتناقضون مع أنفسهم حين يسلمون بمقررات علمية لم يتوصل إليها العلم إلا عن طريق الاستنتاج العقلي، ويرفضون مع ذلك الاستنتاجات العقلية التي توصل إلى ضرورة الإيمان بالخالق.
ما أعجب أمر هؤلاء الوجوديين والماديين!!
إنهم يرفضون الاستنتاج العقلي، حينما يُلزمهم ويُلزم جميع العقلاء بضرورة الإيمان بالخالق الذي هو غيب عن الحواس بذاته، لكن ضرورة وجوده تعلم حتمًا بآثار صنعته المتقنة، ثم هم يقبلون بمقررات علمية كونية كثيرة ما زالت غيبًا عن الحواس، وغيبًا عن الأجهزة العلمية المتقدمة جدًّا، مثل صفات الذرة، وحركاتها، وصفات الخلية وتطورها، مع أن هذه المقررات يوجد في بعضها ما دلّ عليه الاستنتاج العقلي بأمارات ظنية، لا بأدلة قطعية.
أليس هذا منهم تناقضًا مع أنفسهم؟!
إنهم لو كانوا منسجمين مع الأدلة العلمية انسجامًا سويًا لم يتدخل معه الهوى لما كانوا متناقضين في مناهجهم، ولقبلوا على طول خط المعرفة ومكتسباتها كل الاستنتاجات العقلية القطعية، أو التي تعطي ظنًّا قويًا راجحًا، ولما فرقوا بين أفرادها وهي متماثلة في قوة دلالتها.(1/47)
لكنهم متعصبون أصحاب هوى ضد قضية الإيمان بالرب الخالق، فهم يرفضون كل دليل يثبت وجوده عز وجل، مهما كان دليلاً برهانيًّا قويًّا، وحينما يكون لهم هوى في أن ينتفعوا من طاقات الكون وخصائصه يقبلون ما يقدمه لهم الاستنتاج العقلي حول هذه الطاقات والخصائص، ولو كان استنتاجًا ظنيًّا أو وهميًّا أحيانًا، ويخادعون بأن هذا مما تثبته الوسائل العلمية.
3- يضاف إلى ذلك: أن البصيرة العقلية ومستنبطاتها التجريدية لا تسمح مطلقًا بانغلاق في حدود المادة والوجود.
إن الشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلاً أن يكون غير ممكن الوجود، فعدم الوجود فعلاً لا يدلُّ على استحالة الوجود. فما بالك بالحكم على الخالق بأنه غير موجود، وبأنه متناقض وجوده، لمجرد أننا لم نشاهده في دوائر حواسنا المحدودة جدًّا؟
4- إن وسائل العلم ثلاثة:
الأولى : المعرفة المباشرة، وتكون بالإدراك الحسي، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات.
الثانية : الخبر الصادق، ومن الخبر الصادق الوحي الذي يتلقاه نبي من أنبياء الله مؤيد بالمعجزات الباهرات، ومن الخبر الصادق قطعًا ما يبلغه عن الوحي هذا النبي.
فهؤلاء الملحدون حصروا العلوم المدركة في دوائر ضيقة، فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه بذلك نفوه، وهذا باطل، بل قصور في العلم، فمن ليس عنده علم بشيء مَّا يجب أن يتعلم من الآخر، وليس عليه أن ينكر ذلك الشيء.(1/48)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما أخبرت به الرسل من الغيب فهي: أمور موجودة ثابتة أكمل وأعظم مما نشهده نحن في هذه الدار، وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس ولكن بعد الموت في الدار الآخرة، ويمكن أن يشهدها في هذه الدار مَن يختصه الله بذلك، ليست عقلية قائمة بالعقل كما تقوله الفلاسفة؛ ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشهدها أن تلك غيب وهذه شهادة، وكون الشيء غائبًا أو شاهدًا أمر إضافي بالنسبة إلينا، فإذا غاب عنا كان غيبًا، وإذا شهدناه كان شهادة، وليس هو فرقًا يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشهد ولا تحس، بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يحس بحال فإنما يكون في الذهن، والملائكة يمكن أن يشهدوا ويروا، والرب تعالى يمكن رؤيته بالأبصار، والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت بذلك النصوص).
وبهذا يبطل أصل الملاحدة الذين يحصرون المعلومات بمدركاتهم الخاصة القاصرة، فإن هؤلاء قصروا معرفتهم في شيء ولم يعرفوا غيره، ومن عرف له حجة على من لم يعرف، فليس كل من لم يعرف شيئًا ينكره على حجة عدم علمه ومعرفته.
ولنضرب لذلك مثلاً: لو أن عالمًا من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان برِّيٍّ غريب رآه بعينه، وأخذ يصف مشاهداته الحسية له، ثم جاء سمَّاك فقال: لا أجد المبرر العقلي لوجود هذا الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم، فإنا لم نشاهد في البحر نظيره. لما كان كلامه أكثر سقوطًا من ناحية الاستدلال العلمي من كلام هؤلاء الوجوديين، فقد جاءتنا الأخبار الصادقة من قِبَل الرسل الكرام الصدِّيقون في أخبارهم بأن هناك إله ورب خالق له الصفات العُلى كذا، وكذا، ثم جاء بعض من أعمى الله بصره وحجب عنه بصيرته، فيقول: لا أحسُّ به، ليس كلامه هذا أقل سقوطًا من كلام هذا السمَّاك.(1/49)
ولهذا قال ابن القيم: (المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحسِّ والعقل، بل لا نسبة بينها بوجه من الوجوه، ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة، والمعلومات التي لا تدرك بالحسِّ والأمور الغائبة عن الحسِّ نسبة المحسوس إليها كقطرة من بحر، ولا سبيل إلى العلم بها إلا بالخبر الصادق).
فإذا أبطلنا هذه العلوم فإننا قد أبطلنا علومًا جمّة، ومعارف كثيرة، وليس هذا إلا نداء إلى الجهل والطيش.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 751-757) .
الشبهة(7) : النظرية الداروينية
وذلك؛ حينما رأوا أن الحياة إنما هي نتيجة النشوء والارتقاء، وأن تفسير النشوء والارتقاء بتدخل الله هو بمثابة إدخال عنصر خارج للطبيعة، في وضع ميكانيكي بحت.
خلاصة أفكارهم في إنكار الخالق سبحانه:
1- تقوم فكرة التطور الداروينية على أن الكائنات الحية تسير في تطورها مرتقية من أدنى الأحياء إلى الأعلى فالأعلى، وأن الإنسان قد كان قمة تطورها.
2- وبقاء بعض الأنواع وانقراض بعضها يرجع إلى ظاهرة الصراع من أجل البقاء، فالبقاء يكون للنوع المكافح الأفضل، وأما النوع الخامل الذي لا يكافح من أجل البقاء فإنه يضمر، ثم يضمحل، ثم ينقرض. وهو ما يسمى بالانتقاء الطبيعي.
3- والعضو الذي يهمل إذ لا تبقى له وظيفة عمل في النوع الواحد، يضمر شيئًا فشيئًا، حتى يضمحل، ولا يبقى منه إلا أثر يدل عليه، وقد لا يبقى له أثر.
كانت هذه هي الداروينية في عالم الأحياء، ثم عممت حتى شملت الوجود المادي كله، من الغاز السديمي الأول - كما يسمونه - حتى المجرات فالكواكب، فالمواد الصالحة لظهور الحياة، فالنبات، فالحيوان، وأمسى التطور مذهبًا.(1/50)
وقد أجرى الداروينيون تنقيحات وتعديلات في آراء داروين من بعده، وحشدوا لفكرة التطور الطبيعي في الأحياء أسانيد ترجع كلها إلى العناصر الثلاثة السابقة:
1- تعتمد النظرية على أساس ما شُوهد في زمن (داروين) من الحفريات الأرضية، فقد وجدوا: أن الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية، وأن الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى. فقال (داروين): إن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى.
ثم وجد الداروينية من هذه الحفريات ما يسمونه بإنسان "بلتداون" بجمجمة إنسان وفك قرد.
2- وتعتمد أيضًا على ما كان معروفًا في زمن (داروين) من تشابه جميع أجنة الحيوانات في أدوارها الأولى، فهو يوحي بأن أصل الكائنات واحد، كما أن الجنين واحد، وحدث التطور على الأرض، كما يحدث في أرحام الكائنات الحية.
3- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدات الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات، وليس لها الآن عمل في الإنسان، مما يوحي بأنها أثر بقي من القرود لم يتطور؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود الآن.
4- تأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض.
وقالوا في كيفية عملية التطور: أن هناك ثلاث وسائل في إكمال عملية التطور، وهي:
أ- الانتخاب الطبيعي: تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية، وذلك ما يُسمى بزعمهم بقانون (البقاء للأصلح)، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذُريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن، وذلك هو (النشوء) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى، وهكذا يستمر التطور وذلك هو الارتقاء.
ب- الانتخاب الجنسي: وذلك بواسطة مَيْل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح، فتورث بهذا صفات الأصلح، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره.(1/51)
جـ- كلما تكونت صفة جديدة ورثت في النسل.
هذا آخر ما تخيلوا من الشبه، والتي يتشبثون بها في محاولة الإنكار للخلق المباشر، ولننظر فيما يلي مدى واقعية هذه الفكرة، ومدى صحتها لدى العلماء الغربيين أيضًا، فضلاً عن كونها من الأساطير والخرافات لدى أصحاب الملل الثلاث.
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية:
1- أمَّا استدلالهم بالحفريات:
فيقال: إن علم الحفريات لا يزال ناقصًا، فلا يدعي أحد أنه قد أكمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار فلم يجد شيئًا جديدًا ينقض المقررات السابقة.
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإن وجود الكائنات الأولى البدائية أولاً، ثم الأرقى، ليس دليلاً على تطور الكائنات الأدنى، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود، وإذا كانت الحفريات في زمن داروين تقول: إن أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة، فإن الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدَّرت أن عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين.
أليس هذا أكبر دليل على أن علم الحفريات متغير لا يُبنى عليه دليل قطعي؟ وأنه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنا نأمل؟
يقول الدكتور (جمال الدين الفندي) أستاذ الفلك في كلية العلوم بجامعة القاهرة: إن من الأدلة التي تنفي نظرية داروين أن عُمْر الأرض كما قدَّره الفلكيون والطبيعيون لا يربو على ثلاثة بلايين سنة، بينما يقدر علماء الحياة أن المدة اللازمة لتطور الأحياء على الأرض على حين عصر الحياة القديمة تزيد على سبعة بلايين سنة، بمعنى أن عمر الأرض لا بد أن يكون عشرة بلايين سنة؛ أي ضعف عمْر الشمس.
ويقول أحد علماء الغرب في كتابه (الإنسان الأول): (من المؤسف أنه لا يوجد لدينا إلاَّ وثائق غير تامة من الحفريات عن أصل قرد الإنسان، ولا نعلم في أي وقت ولا في أي مكان بدأ شكل الإنسان يختلف عن شكل القرد).(1/52)
فالحفريات لا تعتبر دليلاً أبدًا، حتى إن الرأي الأخير من الحفريات هو يناقض تمامًا ما قالته الداروينية، وذلك لما وجدوا من الجماجم الإنسانية التي تدل على وجود هذا النوع من مدة سحيقة موغلة أكثر مما يثبته الداروينيون لعمر الإنسان.
وأما ما قيل من أنهم عثروا على إنسان "بلتداون" بجمجمة إنسان وفك قرد، مما يدل على أن الإنسان تطور من القرد، وأن إنسان "بلتداون" صورة من صور الحلقات المفقودة في عملية التطور، فيقال في الرد عليهم:
إن التجارب الأخيرة على إنسان "بلتداون" أثبتت أنه ليس قديمًا كما تصوروا، بل إن هناك من قام بإحداث عدة تغييرات في هذه الجثة للإيهام بأنها تعود إلى أزمان غائرة جدًّا، وليس هذا فحسب، بل تبين أن الأسنان المغروسة في عظم الفك بردت بمبردة للتمويه وللإيهام بأنها تآكلت على مر الزمن، وكانت علامات البرد ظاهرة لكل عين متفحصة، وأخيرًا أعلنت النتيجة في تشرين الثاني سنة 1953م، وكانت كما يلي:
(إن (إنسان بلتداون) ليس إلاَّ قضية تزوير وخداع، تمت بمهارة ومن قِبل أُناس محترفين، فالجمجمة تعود إلى إنسان معاصر، وأما عظام الفك فهي لقرد "أورنج" بعمر عشر سنوات، والأسنان هي أسنان إنسان غُرست بشكل اصطناعي ورُكبت على عظام الفك. وظهر ذلك، إن العظام عوملت بمحلول ديكرومايت البوتاسيوم لإحداث آثار بقع للتمويه وإعطاء شكل تاريخي قديم لها).
2- وأما الاستدلال بتشابه أجنة الحيوانات:
فذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء نتيجة عدم تقدم الآلات المكبرة التي تبيّن التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنة المتشابهة العالم الألماني (أرنيست هيكل)، فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له: أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.(1/53)
ثم لما تقدمت الآلات المكبّرة في العصر الحاضر بيَّنت هذه الآلات تفاصيل دقيقة بين أجنة الحيوانات، وظهر أنه لا تشابه بين أجنة الحيوانات أبدًا، وأن أجنة الإنسان تختلف عن أجنة القردة من عدة جوانب.
3- أما الاستدلال بوجود الزائدة الدودية على نظرية التطور والنشوء الذاتي:
فيقال: إن وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلاً قاطعًا على تطور الإنسان من القرد، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجِد الذي كان اعتماده على النباتات، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات.
ثم القول بأن الزائدة الدودية ليست لها وظيفة حاليًّا في جسم الإنسان قول غير صحيح، فإنه أثبت الطب حديثًا: أن الزائدة الدودية ذات وظيفة في جسم الإنسان، وهي جهاز لمفاوي مناعي في البطن كغيره من أجهزة المناعة في جسم الإنسان، لذلك تُدعى باسم (لوزات البطن).
كما أن العلم قد يكشف لها حقيقة أخرى لا تزال غائبة عنا حتى اليوم، فالعلم كل يوم إلى ازدياد، وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الأولية الدنيا، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية، فإن الثدي من أمارات الأنوثة، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان، في حين ذكور ذوات الحافر كالحصان والحمار لا ثدي لها إلاَّ ما يُشبه أمهاتها، فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان، ولم يبقَ فيما هو أدنى منه؟ مع أن داروين يزعم أن الإنسان تطور مما هو أدنى منه.
4- أما الاستدلال بتأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض على إثبات نظرية التطور :
فيقال: إن تأخر ظهور بعض الأنواع الراقية عن أنواع سابقة لها في الوجود لا يقتضي أن السابق أب أو جد لما ظهر بعده، إذ الاحتمال الأقرب للتصور أن يكون مبدع النوع الأول قد أبدع بعده النوع الأرقى، ثم أبدع بعد ذلك الأرقى فالأرقى، ثم أبدع أخيرًا الإنسان.(1/54)
وهذا ما نلاحظه في سلسلة المبتكرات والمخترعات، فاللاحق كثيرًا ما يكون وليد فكر المبدع ونتاج عمله، بالاستناد إلى ملاحظته للسابق، وليس ثمرة التطوير للسابق نفسه في واقع العمل، بحذف شيء منه وإضافة شيء إليه، فالعملية تكون عملية فكرية، ويأتي التطبيق الواقعي غالبًا بناءً جديدًا.
ومهما يكن من أمر، فالاحتمالان أمران متكافئان إمكانًا، بشرط ربط كل منهما بأنه مظهر لاختيار مدبر خالق حكيم، أمَّا التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، فهو أمر مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا يُنتج الكامل في خطة ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود. وإحالة الأمر على المصادفة إحالة على أمر مستحيل علميًّا ورياضيًّا في عمليات الخلق الكبرى، كما سبق بيانه.
تفنيد شرح داروين لعملية التطور:
أما القول بالانتخاب الطبيعي: بأن هناك ناموسًا أو قانونًا يعمل على إفناء الكائنات الحية فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه فتتراكم الصفات القوية حتى تكوّن حيوانًا جديدًا.(1/55)
فيقال: حقًّا هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها؛ لأن الله قدَّر الموت على كل حي، إلا أن نظامًا وناموسًا يعمل بمقابلة هذا النظام، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن؛ لأن الله قدّر الحياة فهيأ أسبابها، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنباتات والجاذبية كل هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات، فالنظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء يُحدث خللاً في التفكير، فإذا كانت هناك سنة للهلاك فهناك سنة للحياة، ولكلٍ دور في الحياة، وإذا كانت الظروف الطبيعية: من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعة، كطمس عين أو تهديم بناء، فإنه من غير المعقول أن تقرر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة والبليدة أن تُنشئ عينًا، لمن لا يملك عينًا أو تصلح بناء فيه نقص.
ولكن للأسف، إن التطوريين يقولون بمثل هذا القول، فالانتخاب الطبيعي معبود التطوريين المحروم من الشعور، هكذا وبهذه البساطة يعتقد داروين أنه استطاع أن يشرح كيفية تحول عضو من شكل إلى آخر، أما العلم المعاصر فإنه يرفض هذا الشرح وهذا التفسير، بل يعتبره مضحكًا، فكما يصعب على الإنسان الاعتقاد بأن سيارة تسير بالبنزين قد تحولت - نتيجة سلسلة حوادث المرور - إلى سيارة تعمل بالغاز السائل، وأنها في فترة من فترات التحول كانت تسير بالبنزين والغاز معًا من باب الاحتياط!! كذلك يصعب عليه تصديق كل هذه الحكايات حول خروج الأحياء من الماء إلى اليابسة.
إذ لا مبرر هناك للاعتقاد بأن كل هذه المزاعم صحيحة من دون تحقيق وتمحيص، حتى وإن قدّمها البعض تحت لبوس العلم؛ لأن قليلاً من العلم وقليلاً من التفكير، يكفيان لرؤية كيف أن اللوحة التي تقدمها نظرية التطور في حاجة إلى عقل وشعور خارقين.(1/56)
ويمثل هنا بمثال واحد، فمثلاً قبل كل شيء يحتاج جهاز التنفس لكي يتعرض لمثل هذا التبدل والتحول إلى تعيين هدف أمامه... وهذا الهدف هنا هو (الخروج من الماء إلى اليابسة)، فمن الذي يعطي هذا القرار ويعين هذا الهدف؟ أهو الكائن نفسه؟ أهي جزيئات جسمه؟ أهو الماء؟ أهو الهواء؟
ثم يجب تعيين الخطوات اللازمة للوصول إلى هذا الهدف، ووضع خطة تحتوي على تفاصيل كثيرة جدًّا تشمل أجهزة الجسم كله، فمن الذي يضع هذه الخطة؟ أهو الكائن الحي؟ أهي ذرات جسمه؟ أم الهواء؟
ثم يجب الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوائق والمشاكل التي قد تظهر أثناء خطوات التقدم نحو الهدف، وأخذ التدابير والاحتياطات اللازمة تجاهها، وإدراج جميع هذه التدابير في الخطة بشكل مناسب، بحيث لا تتعارض مع الخط العام للخطة. فمن الذي يرى المشاكل والعوائق والصعوبات قبل أوانها، ويفكر بالتدابير اللازمة فيؤمن التنسيق بين الأعضاء؟ أما القول بأن (الأعضاء تقوم من نفسها بتأمين نظام للتعاون والمساعدة فيما بينها) فهو قول لا يُقره أي عقل وأي منطق.
ثم تأتي مرحلة التنفيذ، والتطوريون يرون أنها تحقق نتيجة ملايين الحوادث التي تصيب شفرات الجينات. والغريب أن هذه الحوادث تكون وكأنها مرتبة ضمن خطة معينة!! ثم إن حادثة معينة تأتي لتكمل (التقدم) الذي حققته الحادثة السابقة، ولتدفع خطوة أخرى إلى الأمام، ولتقرب الكائن خطوة أخرى نحو الهدف!! وهكذا يتخلص هذا الكائن من غضبه الانتخاب الطبيعي (الذي يجول في الدنيا في كل ساعة من ليل ونهار دون أن يحس به أحد)!
وأخيرًا بعملية تشبه عملية تحول دراجة أطفال ذات ثلاث عجلات، إلى طائرة فانتوم، إثر تعرضها لسلسلة من الحوادث العشوائية!! تظهر أمامنا المعجزة وتتكامل.(1/57)
ثم إنه من الغريب جدًّا، أن لا يؤدي عبث الصدفة بشفرات الجينات إلى كوارث، ونحن نفسر عدم فهم داروين ومعاصريه هذا الأمر إلى قلة معلوماتهم، أمَّا الإصرار ممن جاء بعدهم عليه، فلا يفسر إلاَّ بالعناد والتعصب، ذلك؛ لأن مدَّ يد العبث إليها أو تدخل الصدفة، لا تؤدي إلاَّ إلى كارثة.
واليوم يحاول الذكاء الإنساني - وليست الصدفة - أن ينفذ إلى أعماق علوم الجينات بدراسات شاقة، فمن المستحيل قبول الادعاء بأن الصدفة والانتخاب الطبيعي استطاعا القيام بحل كل هذه الألغاز التي استعصى حلها على الذكاء الإنساني بالرغم من جميع الجهود المبذولة في هذا المجال. من المستحيل قَبُول هذا الادعاء وإن بذلت المحاولات لوضع قناع العلم عليه. وبالرغم من مرور قرن على وفاة داروين، فإن التطوريين لم يتعبوا بعد من محاولة جعل هذا المستحيل ممكنًا.
أما شرحه الثاني لقانون التطور بأنه يحصل (التطور) أيضًا بالانتخاب الجنسي الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القوية مما سبب اندثارًا لأفراد الضعاف، وبقاء الأقوى:
فيقال: إن ذلك ليس دليلاً على حدوث تطور في النوع، بل يفهم منه بقاء النوع القوي من نفس النوع، واندثار النوع الضعيف.
ثم إنه ليس بصحيح أن الصفات الحسنة في فرد من الأفراد تنقل بواسطة الوراثة، فمثلاً: هذا الحداد القوي العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته كما أن العالم الغزير العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه.
أما القول الأخير له شرحه لعملية التطور كيف تمت هي: بأنه (كلما تكونت صفة جيدة ورثت في النسل):
فيقال في الجواب عليه: إن القول بحدوث النشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ثم توريثها في النسل فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث، فكل صفة لا تكمن في الناسلة ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة.(1/58)
وإلى جانب مخالفة علم الوراثة (لنظرية داروين)، فإن التجربة تنقضه؛ فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختِنون أبناءهم، ولكن ذلك كله لم يسبب أن ولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين، وهكذا، فكلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية داروين.
النظرية لا يؤيدها الواقع المشاهد:
1- لو كانت النظرية حقًّا لشاهدنا كثيرًا من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور، لا عن طريق التناسل فقط، وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية كل سنة، أو كل عشر سنوات، أو كل مائة سنة.
2- لو سلمنا جدلاً: أن الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي، قد طورت قردًا إلى رجل - مثلاً - فإنا لن نسلم أبدًا بأن الظروف قد قررت أيضًا أن تكون امرأة لذلك الرجل ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما.
3- إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات - كالحرباء - مثلاً تتلون بحسب المكان هي مقدرة كائنة في تلك المخلوقات تُولد معها، وهي عند بعضها وافرة وعند البعض الآخر تكاد تكون معدومة، وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها، فالقدرة على التكيف صفة كامنة، لا صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية، وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحجار والأتربة وغيرها من الجمادات.
4- تمتاز الضفادع على الإنسان بمقدرة على الحياة في البر والماء، كما تمتاز الطيور عليه بمقدرة على الطيران والانتقال السريع، وذلك دون آلة، كما أن أنف الكلب أشد حساسية من أنف الإنسان، فهل أنف الكلب أكثر رقيًّا من أنف الإنسان؟ وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب؟ فهذه النظرية يخالفها الواقع المشاهد مخالفة تامة.
النظرية تعجز عن الإجابة المقنعة لكثير من الأسئلة عن الظواهر الموجودة:(1/59)
إن نظرية التطور تحسب أنها استطاعت تفسير نشوء الكائنات الحية وتكاملها، وكل شيء بـ(الانتخاب الطبيعي)، ولكن الحياة هي أشمل وأعقد من مجرد أجساد الكائنات الحية، فعلاوة على وجود الأجهزة العضوية في أجساد الكائنات، هناك علاقات متداخلة ومتشعبة ومعقدة وحساسية بين هذه الكائنات والكائنات الأخرى من جهة، وبينها وبين بيئتها، وهذا موضوع مهم لا يمكن لأية نظرية تدعي تفسير الحياة أن تُهمل إيضاحها وتفسيرها، غير أننا نرى أن الظلمات تحيط بهذا الموضوع في نظرية التطور، ولا نرى أي بصيص من نور.
فمثلاً: لا تستطيع نظرية التطور تفسير كيف أن البعوضة، ما أن تفتح عيونها على الحياة حتى تحاول الوصول إلى هدفها ورزق أبرتها - كأي ممرضة متمرسة - والقيام بامتصاص الدم؟
كما لا تستطيع هذه النظرية تفسير كيف تستطيع النحلة التجول بين الأزهار، وامتصاص رحيقها لعمل غذاء من أنقى الأغذية، وليس هناك من معلم أو مدرب لها؟ وكيف تستطيع بإشاراتها ورقصاتها الخاصة من التخاطب مع أفراد مجموعتها، ثم القيام بإنشاء خلاياها بدقة هندسية متناهية، لا نشاهد فيها خطأ مليمتر واحد؟
أم هل تستطيع هذه النظرية تفسير كيف أن الطفل، وهو جنين في بطن أمه يتدرب لاكتساب المهارة الوحيدة المطلوبة منه، وهي عملية مصِّ الثدي، وذلك بمصِّ إصبعه؟!
كيف تبني العناكب بيوتها؟ والطيور أوكارها؟ والنمل مساكنها؟ أسئلة لا تستطيع هذه النظرية الإجابة عليها.
ويمكن تعداد أمثلة أكثر وأكثر وكتابة مجلدات من الكتب حول هذا الموضوع، بل يمكن صرف العمر كله في تعداد هذه الأمثلة، أما الاكتفاء بالقول بأن (الغريزة) هي الكلمة السحرية التي تفسر وتوضح هذه المهارات المتعددة والمذهلة والمختلفة، فليس إلا إعلانًا عن جهل الإنسان وعماه.
موقف علماء الطبيعة من هذه النظرية:
لعلماء الطبيعة موقفان وراء هذه الفرضية:(1/60)
الأول: المؤيدون للنظرية: وتأييدهم كان أكثر انتصار لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه، وتقاومه، وحربًا مضادة يشنها علماء الطبيعة ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين.
فالتأييد إنما هو نتيجة حرب حاقد على الأديان، لا عن علم واقتناع قلبي، فقد اعترف المؤيدون لهذه الفرضية (النظرية) أيضًا بأنها غير ثابتة وغير علمية، وفيما يلي بعض أقوالهم:
1- (إن نظرية النشوء لا زالت حتى الآن دون براهين، وستظل كذلك؛ والسبب الوحيد في أننا نؤمن به هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا أمر غير وارد على الإطلاق).
2- (إن التغيرات الإعجازية التي نفترض أنها قاصرة على القصص الخرافية أمور عادية جدًّا في نظرية النشوء والارتقاء).
3- (إن علماء الحيوان يؤمنون بالنشوء، لا نتيجة للملاحظة، أو الاختبار، أو الاستدلال المنطقي؛ ولكن لأن فكرة الخلق المباشرة بعيدة عن التصور).
4- (إننا بالرغم من إيماننا بالنشوء فإننا لا نعلم كيف حدث).
5- (إن نظرية النشوء جاءت لتبقى، ولا يمكن أن نتخلى عنها، حتى ولو أصبحت مجرد عمل من أعمال الاعتقاد).
6- (كلما تعمقنا في دراسة أنتوبيولوجيا كلما اكتشفنا أن نظرية النشوء ترتكز على الاعتقاد).
هكذا يصبح واضحًا، أن هذه النظرية ليس لها أي مستند صحيح، وقد اعترف بتهافتها وعدم ثبوتها علميًّا حتى مؤيدوها، وهو مدين بوجوده فقط لذلك الرفض العنيد للإيمان بوجود الخالق.
الثاني: المعارضون: لقد سبق معنا آراء المؤيدين لهذه النظرية بأنهم ما أيدوها على أنها حقيقة علمية، وإنما على أنها أفضل بدليل للإيمان بالله جلَّ شأنه، فما بال العلماء الغربيين المتنورين بالعلم والحرية لا يُعارضونها؟ لقد عارضها كثير من علماء الغرب الجيولوجيون والطبيعيون بالأدلة والبراهين، والمقام لا يتسع لذكر آرائهم ها هنا.(1/61)
ولكن ما موقف بعض من تأثر بهذه النظرية من المسلمين؟ لقد تأثر بهذه النظرية كثير ممن يدعي العلم في العصر الحاضر من المسلمين، كما قد قال ببعض هذه النظرية علماء مشهورون من هذه الأمة.
فممن تأثر بهذه النظرية من المعاصرين "موريس بوكاي"، حيث استدل في كتابه (ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة) على صحة هذه النظرية بقوله تعالى: { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } .
ويمكن أن يرد على هذا القول بأنه لم يفسر به أحد من المفسرين لا بالمأثور، ولا بالرأي، ولم يقل به أحد من السلف، بل تفسير الآية على حسب ما رُوي عن السلف هو أنَّ المراد بالأطوار: كونه (نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا).
وممن قال ببعض هذه النظرية من العلماء القدامى المشهورين: ابن خُلْدُون، حيث فسَّر قوله تعالى: { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}. على أنه من القردة إلى الإنسان، كما يُنسب هذا القول إلى كل من الدميري، والبلخي، والفخر الرازي، والفارابي، وغيرهم.
ويُجاب عن شبهتهم هذه: بأن تفسير هذه الآيات القرآنية لا يكون إلاَّ على ضوء ما فهمه سلفنا الصالح أو على ما يوافق الآيات القرآنية الأُخر أو الأحاديث النبوية، وإذا ما وجدت يمكن أن يُفسّر على مقتضى طبيعة اللغة العربية وعلى فهم مَن أُنزل إليهم، لا إلى الأهواء والمفاهيم السيئة، وإلا سيصبح الدين كله لعبة، كلٌّ يفسر الآيات القرآنية كما يهواه، كما هو حال أهل البدع والزنادقة.
فالآيات المذكورة قد فُسرت على تفسيرين:
الأول: هو الذي عليه أكثر المفسرين؛ منهم: علي بن أبي طالب، وابن عباس- رضي الله عنهما -، ومجاهد وعكرمة والشعبي، والحسن وأبو العالية والضحاك والسدي وابن زيد، واختاره ابن جرير: أن المراد بالآية: (ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقًا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب).(1/62)
الثاني: ما رُوي عن ابن عباس أنه قال: إن معنى الآية: (ننقله من حالٍ إلى حالٍ إلى أن خرج طفلاً، ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم هرمًا)، وبه قال قتادة، والضحاك في رواية.
فترى أن التفسير الذي ذكروه ليس له أي سلف، فلا يقبل مثل هذه التأويلات الباطنية للآيات القرآنية.
ولما كان هناك من المسلمين مَن تأثر بهذه النظرية - أو الفرضية على الصحيح - واستدل بعض هؤلاء بالآيات القرآنية ، فإننا سوف نُورد حديث القرآن عن أصل الإنسان وخلقه بآيات صريحة وواضحة في الدلالة لا لَبْس فيها ولا غموض، حتى لا يستطيع إنكاره إلاَّ من أعمى الله بصره وجعل على قلبه غشاوة، وأضله عن سواء الصراط. ففيما يلي هذا البيان من القرآن الكريم والسنّة النبوية:
حديث القرآن والسنة عن أصل الإنسان وكيفية خلقه:
إن حديثنا الآن مع الذين يؤمنون بالله ربًّا، فنحن نسألهم هل تؤمنون بأن الله يعلم ما خلق، ومم خلق؟ وسيكون الجواب حتمًا بنعم، وإلا يكونوا قد كفروا بالله، وإذا كانت الإجابة بنعم، فإننا نقول لهم: إن الذي خلق الخلق لا شك هو أعلم بالمخلوق، قال تعالى: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }.
فإذا كان هو أعلم بالخلق وكيفية خلقه، فقد حكى بنفسه في القرآن وبيَّنه الرسول في السنّة قصة خلق الإنسان ببيان ظاهر وواضح.
فالله يخبرنا أنه خلق الإنسان خلقًا مستقلاً مكتملاً، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }.
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها، فقد خلقه من ماء وتراب (طين)، قال تعالى: { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } .(1/63)
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبيَّن ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب".
والماء عنصر في خلق الإنسان، حيث قال: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء} ، وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ}، فهو إذن من ماء وتراب.
وقد شكّله الله بيديه، حيث قال: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، ثم هذا الطين تحول إلى صلصال كالفخار { خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }.
وقد خلقه مجوفًا منذ البداية، ففي الحديث عن أنس بن مالك قال: "لما صوَّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به وينظر إليه، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك".
هذا الطين نَفَخَ اللهُ فيه من روحه فدبت فيه الحياة، فأصبح سميعًا بصيرًا عاقلاً واعيًا، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح وتدب فيه الحياة: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .
وأخبرنا بالمكان الذي خلق فيه وهو الجنة: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، وبمجرد أن تمَّ خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يُقال له، ففي القرآن: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } .(1/64)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة - إلى ملأ منهم جلوس - فقل: السلام عليكم. قالوا: عليك السلام ورحمة الله..".
هذا هو الإنسان الأول؛ هو آدم عليه السلام، وهو أبو الناس كافة، بل إن المرأة خُلقت منه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }.
ولم يكن خلق الإنسان ناقصًا ثم اكتمل، كما يقول أصحاب نظرية التطور، بل كان كاملاً ثم أخذ يتناقص الخلق، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خلق الله آدم عليه السلام، وطوله ستون ذراعًا).
ولذلك، فالمؤمنون يدخلون الجنة مكتملين على صورة آدم.
هذه لمحة مما حكاه القرآن وبيَّنه عن خلق الإنسان الأول، لم أستقص النصوص من الكتاب والسنة في ذلك، وإلاّ فالقول في ذلك واسع طويل. وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها أي غموض، وهذا الذي بيَّنه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالنسبة إليه، أما ذلك الإنسان الذي يُصوره "داروين" - ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور - فإنه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 757-778) .
شبهات اليهود
الشبهة ( 1 ) : ادعاؤهم أنهم أولى من المسلمين بأرض فلسطين .(1/65)
يبني اليهود ادعاءاتهم الدينية على ما ينقلونه من التوراة المحرفة من إعطاء الله سبحان هذه الأرض لإبراهيم ونسله. ومما جاء فيها "وقال الرب لإبراهيم : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك .. فذهب إبراهيم كما قال الرب ... فأتوا إلى أرض كنعان ... وظهر الرب لإبراهيم وقال : لنسلك أعطي هذه الأرض ، وجاء في التوراة المحرفة أيضاً "وسكن (إبراهيم) في أرض كنعان فقال له الرب : ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" ، وجاء فيها أيضاً : ( قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات.
كما يحتجون بتراث أنبياء بني إسرائيل في الأرض المقدسة ، وسعيهم لإسكان أتباعهم فيها ، ومد نفوذهم عليها كما فعل موسى ويوشع وداود وسليمان عليه السلام ، غير أن الرؤية الإسلامية تنظر للأمر من زاوية مختلفة .
ويمكن إجمال رد المسلمين على اليهود في النقاط التالية :
أولاً : يؤمن المسلمون بكل الأنبياء ، والإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان ، والكفر بأي منهم ممن ثبتت رسالتهم (بما فيهم أنبياء بني إسرائيل) كفر يخرج عن الإسلام. غير أن المسلمين يؤمنون أن اليهود حرفوا التوراة ، وكذبوا أنبياءهم وقتلوا عدداً منهم ، ولم يتبعوا هداهم. ويؤمن المسلمون أنهم الأتباع الحقيقيون لهؤلاء الأنبياء ، وأنهم ورثة رسالتهم ، في هذا الزمان وليس باليهود.(1/66)
وإذا كانت رابطة العقيدة والإيمان هي الأساس الذي يجتمع عليه المسلمون مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم ، فإن المسلمين هم أحق الناس بميراث الأنبياء بما فيهم أنبياء بني إسرائيل ، لأن المسلمين هم الذين لا يزالون يرفعون الراية التي رفعها الأنبياء ، وهم السائرون على دربهم وطريقهم ، وهؤلاء الأنبياء هم مسلمون موحدون حسب الفهم القرآني. وانظر قوله تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى :{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ(1/67)
وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
وبشكل عام ، فأمة التوحيد واحدة من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وأنبياء الله ورسله وأتباعهم هم جزء من أمة التوحيد ، ودعوة الإسلام هي امتداد لدعوتهم ، والمسلمون هم أحق الناس بأنبياء الله ورسوله وميراثهم.
فرصيد الأنبياء هو رصيدنا وتجربتهم هي تجربتنا ، وتاريخهم هو تاريخنا ، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المباركة المقدسة هي دلالة على شرعيتنا وحقنا في هذه الأرض وحكمها.(1/68)
ثانياً : يؤمن المسلمون أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأرض لبني إسرائيل لفترة محدودة ، عندما كانوا مستقيمين على أمر الله ، وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة ، ولسنا نخجل أو نتردد في ذكر هذه الحقيقة وإلا خالفنا صريح القرآن ، ومن ذلك قول موسى عليه السلام لقومه : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ، غير أن هذه الشرعية ارتبطت بمدى التزامهم بالتوحيد والالتزام بمنهج الله ، فلما كفروا بالله وعصوا رسله وقتلوا الأنبياء ونقضوا عهودهم وميثاقهم ، ورفضوا اتباع الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والذي بشر به أنبياء بني إسرائيل قومهم { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} ، { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } ، فلما فعلوا ذلك حلت عليهم لعنة الله وغضبه { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، وقال تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
وبذلك تحولت شرعية حكم الأرض المقدسة إلى الأمة التي سارت على منهج الأنبياء وحملت رايتهم ، وهي أمة الإسلام. فالمسألة في فهمنا ليست متعلقة بالجنس والنسل والقوم ، وإنما بإتباع المنهج.(1/69)
لقد شوه اليهود جمال التوحيد ، وافتروا على الله الكذب ، وزوروا تاريخ أنبيائهم. وعلى سبيل المثال تذكر التوراة المحرفة والتلمود أن الله { تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} يلعب مع الحوت والأسماك كل يوم ثلاث ساعات ، وأنه بكى على هدم الهيكل حتى صغر حجمه من سبع سماوات إلى أربع سماوات ، وأن الزلازل والأعاصير تحدث نتيجة نزول دمع الله على البحر ندماً على خراب الهيكل ، هذا فضلاً عما ذكره القرآن من ادعاءاتهم { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } ، { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}
كما ينسب اليهود إلى سيدنا يعقوب عليه السلام سرقة صنم ذهبي من أبيه ، وأنه صارع الله (!!) قرب نابلس ، وسمي بذلك بإسرائيل ، كما تنسب له رشوة أخيه وخدعة أبيه ، وأنه سكت عن زنا ابنتيه وأنه أشرك بربه .. !! وقس على ذلك ما ذكروا عن باقي الأنبياء عليهم السلام.
إن اليهود أنفسهم يعترفون بالمنكرات التي فعلوها بحق الله وحق أنبيائه ، فيذكرون أن ملكهم يوحاز بن يوتام 735 - 715 ق.م علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية ، وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور ، وأضل مني منسي بن حزقيا الذي حكم خلال الفترة 687 - 642 ق.م قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية.(1/70)
ولسنا نستغرب هذا عن بني إسرائيل فتلك أخلاقهم مع موسى عليه السلام تشهد بذلك . كما أن القرآن الكريم يشير إلى أنهم غيروا وبدلوا وقتلوا الأنبياء { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ، ويحدثنا التاريخ أنهم قتلوا النبي حزقيال حيث قتله قاضٍ من قضاتهم لأنه نهاه عن منكرات فعلها ، وأن الملك منسى بن (حزقيا) قتل النبي أشعيا بن أموص إذ أمره بنشره على جذع شجرة لأنه نصحه ووعظه ، وأن اليهود قتلوا النبي أرميا رجماً بالحجارة لأنه وبخهم على منكرات فعلوها.
ويسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بني إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم ، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه". وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ ونصر والكلدانيين قائلاً : "لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار ، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب".
وتشير التوراة إلى آثام بني إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم ، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم "ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الآثم ، نسل فاعلي الشر ، أولاد مفسدون تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى وراء" ، سفر أشعيا الإصحاح الأول (4) ، وتقول التوراة :" والأرض تدنست تحت سكانها ، لأنهم تعدوا الشرائع ، غيروا الفريضة ، نكثوا العهد الأبدي" سفر أشعيا الإصحاح 24 (5).
وهكذا لم يعد اليهود مؤهلين لحمل أعباء الرسالة وتكاليفها ، ففقدوا حقهم الديني في الأرض المقدسة.(1/71)
ثالثاً : فضلاً عن فهمنا المسألة في أصلها الشرعي ، فإذا كان الله قد أعطى إبراهيم عليه السلام ونسله هذه الأرض ، فإن بني إسرائيل ليسوا وحدهم نسل إبراهيم ، فالعرب العدنانيون هم من نسله أيضاً ، وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وإليهم تنتمي قبيلة قريش ، التي ينتسب إليها محمد صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فللعرب حقهم في الأرض.
رابعاً : إن القرآن الكريم يوضح مسألة إمامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه ، وتأمل قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
فعندما سأل إبراهيم الله أن تكون الإمامة في ذريته بين الله له أن عهدهم لذريته بالإمامة لا يستحقه ولا يناله الظالمون ، وأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله بنو إسرائيل ويفعلونه !!
ثانياً : المزاعم التاريخية :
يزعم اليهود أن فلسطين هي أرضهم التاريخية ، وأن تاريخهم وتراثهم قد ارتبط بها ، وأنهم هم الأصل في هذه الأرض وغيرهم ليسوا من أبنائها ، وليسوا أكثر من عابري سبيل ، وأن الأرض لا ترتبط عندهم بمعنى مميز كما ترتبط لدى اليهود ويشيرون إلى فترات حكم داود وسليمان عليهما السلام ودولتي إسرائيل ويهودا .. الخ.
وابتداء ، فإننا لا نعد اليهود الحاليين امتداداً تاريخياً شرعياً لبني إسرائيل ، وحكم الأنبياء والصالحين لأرض فلسطين ، وصراعهم مع أعدائهم هو جزء من تاريخ أمة التوحيد ، التي تعد أمة الإسلام امتداداً تاريخياً طبيعياً لهم.
وعلى أي حال ، وحتى لو قبلنا فرضاً ، بمناقشة الأمر وفق الافتراضات اليهودية ، فإنه يمكن إجمال ردنا عليهم فيما يلي :(1/72)
أولاً : سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم ، أي قبل حوالي مليون عام ، وبنى أبناء فلسطين أقدم مدينة في العام "أريحا" قبل نحو عشرة آلاف سنة أي 8000 قبل الميلاد ، وهاجر الكنعانيون من جزيرة العرب إلى فلسطين حوالي 2500 ق.م ، وكانت هجرتهم واسعة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد ، وعرفت البلاد باسمهم ، وأنشأوا معظم مدن فلسطين وقراها ، والتي بلغت في الألف الثاني قبل الميلاد حوالي مائتي مدينة وقرية ، ومنها مدن شكيم ( نابلس وبلاطة) ، وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم وغيرها.
ويرى ثقاة المؤرخين أن عامة أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من أنسال الكنعانيين والشعوب القديمة ، مثل شعوب البحر "الفلسطينيون" ، أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها ، وامتزجوا بأهلها الأصليين ، أي أن جذور الفلسطينيين الحاليين تعود إلى 4500 سنة على الأقل ، وهم لم يغادروها أو يهجروها طوال هذه الفترة إلى أي مكان آخر.
ثانياً : إن قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين كان حوالي سنة 1900 ق.م ، والتوراة تعترف أنها كانت أرضاً عامرة وتسميها باسمها "أرض كنعان" ، حتى إن إبراهيم عليه السلام اشترى من أهلها مكاناً يدفن فيه زوجته سارة ، وهو مغارة المكفيلة ، وهي التي بني عليها المسجد الإبراهيمي ، واستقر بنو يعقوب فيما بعد (واسمه إسرائيل أيضاً) ، في مصر بعد ذلك لأجيال عديدة حتى جاء موسى عليه السلام بتكليف إرسالهم إلى الأرض المقدسة حوالي 1250 ق.م.
وحتى سنة 1000 ق.م لم يتمكن بنو إسرائيل سوى من الاستيطان في أجزاء ضئيلة من فلسطين في الأراضي المرتفعة بالقدس ، وفي السهول الشمالية.(1/73)
ثالثاً : إن ملك داود وسليمان عليهما السلام استمر حوالي ثمانين عاماً فقط (1004 - 923 ق.م) ، وخلالها تمت السيطرة على معظم أنحاء فلسطين باستثناء المناطق الساحلية التي لم تلامسها المملكة إلا من مكان قريب من يافا.
وبعد وفاة سليمان عليها السلام انقسم اليهود إلى مملكتين :
1- مملكة إسرائيل : في الجزء الشمالي من فلسطين ، وعاصمتها في شكيم ثم ترزة ثم السامرة قرب نابلس ، واستمرت حوالي مائتي عام (923 - 721 ق.م) ، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية" ، لضعفها وقلة شأنها ، وقد قام الآشوريون بقيادة سرجون الثاني بالقضاء على هذه الدولة ونقلوا سكانها اليهود إلى حران والخابور ، وكردستان وفارس ، وأحلوا محلهم جماعات من الآراميين ، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى ، فلم يبق بعد ذلك أثر لنسل الأسباط العشرة من بني إسرائيل (يعقوب) ، وهم الذين كانوا يتبعون هذه المملكة.
2- مملكة يهودا: وعاصمتها القدس واستمرت 337 عاماً أي الفترة 923 - 586 ق.م ، ولم تكن تملك سوى أجزاء محدودة من وسط فلسطين ، وقد اعترتها عوامل الضعف ووقعت تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة ، ودخل المهاجمون القدس نفسها مرات عديدة ، كما فعل فرعون مصر شيشق أواخر القرن العاشر ق.م ، والفلسطينيون الذين استولوا على قصر الملك يهورام (849 - 842 ق.م) وسبوا بنيه ونساءه ، كما خضعت للنفوذ الآشوري في عهود سرجون الثاني ، وأسر حدون وآشور بانيبال ، .. إلخ ، وأخيراً سقط البابليون بقيادة نبوخذ نصر "بختنصر" هذه المملكة ، وسبى 40 ألفاً من اليهود إلى بابل في العراق ، وهاجر من بقي من اليهود إلى مصر.
وعلى هذا ، فإن ملك بني إسرائيل استمر في أقصى مداه الزمني حوالي أربعة قرون لكن كان الأغلب على أجزاء محدودة من أرض فلسطين ، وكانت مساحة نفوذهم على الأرض ونفوذهم السياسي تتآكل كلما مر الوقت.(1/74)
رابعاً : عندما دخلت فلسطين تحت الحكم الفارسي 539 - 332 ق.م سمح الإمبراطور قورش الثاني لليهود بالعودة إلى فلسطين من سبيهم البابلي ، فرجعت أقلية منهم بينما بقيت أغلبيتهم في الأرض الجديدة (العراق) بعد أن أعجبتهم فاستقروا فيها. وسمح لليهود بنوع من الحكم الذاتي تحت الهيمنة الفارسية في منطقة القدس وبمساحة لا يتجاوز نصف قطرها 20 كيلو متراً في أي اتجاه ، أي بما لا يزيد عن 4.8% من مساحة فلسطين الحالية ؟!
وتحت الحكم الهلليني الإغريقي 332 - 63 ق.م استمر وضعهم على حاله تقريباً في عصر البطالمة (302 - 198 ق.م) غير أنهم عانوا من حكم السلوقيين (198 - 63 ق.م) الذين حاولوا فرض عبادة الآلهة اليونانية عليهم. وعندما ثار اليهود على الوضع ، سمح لهم السلوقيون بممارسة دينهم ، وتأسس لهم حكم ذاتي في القدس منذ 164 ق.م أخذ يضيق ويتسع ، وتزداد مظاهر استقلاله أو تضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الزمان على فلسطين. لكنهم ظلوا تحت نفوذ غيرهم ، ولم يتهيأ لهم الاستقلال السياسي الكامل رغم أنهم شهدوا انتعاشاً وتوسعاً تحت زعيمهم الكسندر جانيوس 103 - 76 ق.م وقد غير الرومان الذين بدأوا حكم فلسطين منذ 63 ق.م من سياستهم تجاه الحكم الذاتي اليهودي منذ السنة السادسة للميلاد ، فبدأوا حكماً مباشراً على القدس ، وباقي فلسطين.
وعندما ثار اليهود على الرومان 66 - 70م أخمد الرومان الثورة بقسوة ، ودمروا الهيكل والقدس. كما قضى الرومان على ثورة أخرى وأخيرة لليهود 132 - 135م فدمروا القدس وحرثوا موقعها ، ومنع اليهود من دخولها ، والسكن فيها ، وسمح للمسيحيين فقط بالإقامة على ألا يكونوا من أصل يهودي ، وأقام الرومان مدينة جديدة فوق خرائب أورشليم (القدس) سموها إيليا كابيتولينا ، ولذلك عرفت القدس فيما بعد باسم إيلياء ، وهو الاسم الأول للإمبراطور الروماني في ذلك الوقت هادريان. واستمر حظر دخول اليهود للقدس مائتي سنة أخرى.(1/75)
خامساً : منذ القرن الثاني للميلاد وحتى القرن العشرين ، وطوال حوالي 1800سنة لم يشكل اليهود أية مجموعة بشرية أو سياسية ذات شأن في تاريخ فلسطين ، وانقطعت صلتهم بها ، سوى ما حفظوه من عواطف روحية ، لم يكن لها تأثير سوى زيارة بعضهم للقدس ، بإذن وتسامح من المسلمين.
ويدعي اليهود ارتباطهم المقدس بأرض فلسطين ، وأنهم لم يخرجوا منها إلا قسراً، وأنهم لو سمح لهم لعادوا كلهم إليها ، وهذا ينطوي على قدر هائل من المبالغة ، إذ يذكر المؤرخون أن أغلب اليهود استنكفوا عن العودة إلى فلسطين بعد أن سمح لهم الإمبراطور الفارسي قورش بذلك. كما يجمع المؤرخون أن أعداد اليهود في فلسطين لم تزد على ثلث يهود العلم قبل أن يحطم الرومان القدس على يد تيتوس في القرن الأول الميلادي. والآن وبعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء الكيان اليهودي لا يزال أكثر من 60% من يهود العالم يعيشون خارج فلسطين ، ويستنكفون عن الهجرة إليها ، خصوصاً من تلك المناطق التي تتمتع بأوضاع اقتصادية أفضل كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
سادساً : انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي منذ 1395م، فتكونت الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية ، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ، غير أن الإمبراطورية الشرقية ، التي عرفها العرب بدولة الروم ، والتي عرفت كذلك باسم الدولة البيزنطية ، حافظت على الهيمنة على فلسطين باستثناء فترات ضئيلة حتى جاء الفتح الإسلامي.(1/76)
سابعاً : فتح المسلمون فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بعد هزيمة الروم في أجنادين واليرموك وغيرها ، ودخلوا القدس في 15هـ / 636م. ومنذ ذلك الزمان اكتسبت فلسطين طابعها الإسلامي ، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً ، وتعرب سكانها وتعربت لغتها بامتزاج أبنائها في ظل الحضارة الإسلامية مع القبائل العربية القادمة من الجزيرة ، وظلت متحفظة بشكل عام بطابعها الإسلامي إلى عصرنا هذا.
ثامناً : احتل الصليبيون القدس وأنشأوا مملكة بيت المقدس ، واستمر حكمهم 88 عاماً 1099 - 1187 إلى أن استطاع صلاح الدين الأيوبي تحريرها أثر معركة حطين ، وفيما عدا ذلك فإن فلسطين نعمت بالحكم تحت راية الإسلام 636 - 1917 ، أي حوالي 1200 عام. وهي أطول فترة تاريخية مقارنة بأي حكم آخر ، كان الحكم فيه مسلماً والشعب مسلماً ، وهو ما لم يحظ به أي عهد آخر مر على فلسطين ، ثم إن المسلمين حكموا على مر تاريخهم فلسطين كلها وليس بعضاً منهم. كما ضرب المسلمون المثل الأعلى في التسامح الديني ، فوفروا حرية العبادة لليهود والنصارى ، وأمنوهم على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم ، فكانوا خير من خدم الأرض المقدسة وحمى حرمتها ومنع سفك الدماء.
تاسعاً : إذا كانت المسألة متعلقة بالانتماء القومي والتركيب العرقي ، فهل يستطيع يهود هذا الزمان إثبات أنهم أنسال بني إسرائيل الذين عاشوا في فلسطين قبل ألفي عام ؟(1/77)
إن الدراسات العلمية الأكاديمية لعدد من يهود أنفسهم ، وعلى رأسهم الكاتب المشهور آرثر كوستلر A. Koestler في كتابه القبيلة الثالثة عشر The Thirteenth T ribe : The Khazar Empire & its Heritage تشير إلى أن الأغلبية الساحقة ليهود هذا الزمان ليست من ذرية بني إسرائيل القدماء ، وأن معظم اليهود الآن هم من نسل يهود الخزر ، وهم في أصلهم قبائل تترية قديمة كانت تعيش في منطقة القوقاز ، وأسست لنفسها مملكة في القرن السادس الميلادي شمال غربي بحر الخزر (بحر قزوين). وقد تهودت هذه المملكة في القرن الثامن الميلادي ، ودخل ملكها بولان في اليهودية سنة 740 للميلاد ، وقد سقطت هذه المملكة في نهاية القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر على يد تحالف الروس والبيزنطيين ، وانتشر يهود الخزر بعد ذلك في روسيا وأوربا الشرقية والغربية ، واستقرت أعداد منهم في الأندلس أيام الحكم الإسلامي ، وبعد سقوطها على يد الأسبان ، هاجروا إلى شمال إفريقيا حيث شملهم تسامح المسلمين ورحمتهم.
عاشراً : إن الحكم الصهيوني المعاصر على معظم أرض فلسطين منذ سنة 1948 لم يتم إلا بالغضب والقوة والبطش والدمار ، وبناء على طرد أهلها وحرمانهم من حقوقهم ، وتحت حماية القوى الكبرى ورعايتها كبريطانيا وأمريكا ، وهو يفتح باباً لسفك الدماء والحروب التي لا يعلم مداها إلا الله.(1/78)
وهكذا فمن الناحية التاريخية لم يحكم اليهود إلا أجزاء من فلسطين وبما لا يزيد عن أربعة قرون (400عام) ، بينما حكمها المسلمون حوالي 1200 عام. ثم إن أهل فلسطين من الكنعانيين ومن امتزج بهم ظلوا أهلها منذ 4500 عام وحتى الآن، ولم يخرجوا منها على مر العصور ، وهم الذين تنصروا أيام الرومان ، وهم الذين أسلموا فيها بعد ، فبقيت الأرض أرضهم ، والبلاد بلادهم ، أما اليهود فقد انقطعت صلتهم بفلسطين حوالي 1800 عام (135 - 1948) ، ولأصحاب العقل والمنطق أن يجيبوا الآن : من هو صاحب الحق التاريخي في أرض فلسطين ؟
حادي عشر : ما هو التقييم التاريخي الحضاري للدور الذي قام به اليهود في فلسطين ؟
نترك الإجابة لبعض مؤرخي النصارى المشهورين ، فمثلاً يقول هـ.ج ولز في كتاب موجز التاريخ حول تجربة بني إسرائيل في فلسطين بعد السبي البابلي : "كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار ... ومن الأول إلى الآخر لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية ، وذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم.(1/79)
ويذكر المؤرخ المشهور غوستاف لوبون أن بني إسرائيل عندما استقروا في فلسطين "لم يقتبسوا من تلك الأمم سوى أخس ما في حضارتها ، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارة ودعارته وخرافاتها فقربوا لجميع آلهة آسيا ، قربوا لعشتروت ولبعل ولمولوخ من القرابين ما هو أكثر جداً مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلاً " ويقول :"اليهود عاشوا عيشة الفوضى الهائلة على الدوام تقريباً ، ولم يكن تاريخهم غير قصة لضروب المنكرات" "إن تاريخ اليهود في ضروب الحضارة صفر .. وهم لم يستحقوا أن يعدوا من الأمم المتمدنة بأي وجه". ويقول غوستاف لوبون أيضاً : " وبقي بنو إسرائيل حتى في عهد ملوكهم بدواً أفاقين مفاجئين سفاكين .. مندفعين في الخصام الوحشي" ، ويقول : ( إن مزاج اليهود النفسي ظل على الدوام قريباً جداً من حال أشد الشعوب بدائية، فقد كان اليهود عنداً مندفعين ، غفلاً سذجاً جفاة كالوحوش والأطفال ".." ولا تجد شعباً عطل عن الذوق الفني كما عطل اليهود.
( كتب الرد : الدكتور محمد محسن صالح ، نقلا عن موقع " التاريخ " للدكتور محمد موسى الشريف ).
شبهات النصارى
1- قولهم : أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لنا :
قال النصارى :إن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث إلينا ، فلا يجب علينا اتباعه ، وإنما قلنا : إنه لم يرسل إلينا لقوله تعالى في الكتاب العزيز:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }. ولقوله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }. ولقوله تعالى :{بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ }. ولقوله تعالى :{لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. ولقوله تعالى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. ولا يلزمنا إلا من جاءنا بلساننا ، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغاتنا .(1/80)
والجواب من وجوه :
أحدها : أن الحكمة في أن الله تعالى إنما يبعث رسله بألسنة قومهم ، ليكون ذلك أبلغ في الفهم عنه ومنه ، وهو أيضا يكون أقرب لفهمه عنهم جميع مقاصدهم في الموافقة والمخالفة وإزاحة الأعذار والعلل ، والأجوبة عن الشبهات المعارضة ، وإيضاح البراهين القاطعة ، فإن مقصود الرسالة في أول وهلة إنما هو البيان والإرشاد وهو مع اتحاد اللغة أقرب ، فإذا تقررت نبوة النبي في قومه قامت الحجة على غيرهم ، إذا سلموا ووافقوا ، فغيرهم أولى أن يسلم ويوافق ، فهذه هي الحكمة في إرسال الرسول بلسان قومه ، ومن قومه .
وفرق : بين قول الله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وبين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم ، لا الأول . بل لا فرق بين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }.وبين قوله:{وما أرسلنا من رسول إلا مكلفا بهداية قومه}فكما أن الثاني لا إشعار له بأنه لم يكلف بهداية غيرهم ، فكذلك الأول ، فمن لم يكن له معرفة بدلالة الألفاظ ، ومواقع المخاطبات ؛ سوى بين المختلفات ، وفرق بين المؤتلفات.
وثانيها : أن التوراة نزلت باللسان العبراني والإنجيل بالرومي ، فلو صح ما قالوه لكانت النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة ، فإن جميع فرقهم لا يعلمون هذا اللسان إلا كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم ، وأن تكون القبط كلهم والحبشة مخطئين في اتباعهم التوراة والإنجيل ، لأن الفريقين غير العبراني والرومي ، ولو لم ينقل هذان الكتابان بلسان القبط ، وترجما بالعربي لم يفهم قبطي ، ولا حبشي ، ولا رومي شيئا من التوراة ، ولا قبطي ولا حبشي شيئا من الإنجيل إلا أن يتعلموا ذلك اللسان ، كما يتعلمون العربي .(1/81)
وثالثها : أنه إذا سُلم أنه عليه السلام رسول لقومه ، ورسل الله تعالى خاصة خلقه وخيرة عباده معصومون عن الزلل ، مبرؤون من الخطل ، وهو عليه السلام قد قاتل اليهود ، وبعث إلى الروم ينذرهم وكتابه عليه السلام محفوظ عندهم إلى اليوم في بلاد الروم عند ملكهم يفتخرون به ، وكتب إلى المقوقس بمصر لإنذار القبط ولكسري بفارس ، وهو الصادق البر ، كما سلم أنه رسول لقومه ، فيكون رسولا للجميع ، ولأن في جملة ما نزل عليه - صلى الله عليه وسلم- {وما أرسلناك إلا كافة للناس }.فصرح بالتعميم ، واندفعت شبهة من يدعي التخصيص ، فإن كانت النصارى لا يعتقدون أصل الرسالة ، لا لقومه ، ولا لغيره ، فيقولون : أوضحوا لنا صدق دعواكم ، ولا يقولون كتابكم يقتضي تخصص الرسالة ، وإن كانوا يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة لزمهم التعميم لما تقدم ، وكذلك قوله تعالى {بعث في الأميٍين رسولا منهم } لا يقتضي أنه لم يبعثه لغيرهم ، فإن الملك العظيم إذا قال : بعثت إلى مصر رسولا من أهلها لا يدل ذلك على أنه ليس على يده رسالة أخرى لغيرهم ، ولا أنه لا يأمر قوما آخرين بغير تلك الرسالة ، وكذلك قوله تعالى : { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم } ليس فيه أنه لا ينذر غيرهم ، بل لما كان الذي يتلقى الوحي أولا هم العرب كان التنبيه عليه بالمنة عليهم بالهداية أولى من غيرهم ، وإذا قال السيد لعبده : بعثتك لتشتري ثوبا ، لا ينافي أنه أمره بشراء الطعام ، بل تخصيص الثوب بالذكر لمعنى اقتضاه ، ويسكت عن الطعام ، لأن المقصد الآن لا يتعلق به ، وما زالت العقلاء في مخاطباتهم يتكلمون فيما يوجد سببه ، ويسكتون عما لم يتعين سببه ، وإن كان المذكور والمسكوت عنه حقين واقعين ، فكذلك الرسالة عامة .(1/82)
ولما كان أيضا المقصود تنبيه بني إسرائيل ، وإرشادهم خصوا بالذكر ، وخصصت كل فرقة من اليهود والنصارى بالذكر ، ولم يذكر معها غيرها في القرآن في تلك الآيات المتعلقة بهم ، وهذا هو شأن الخطاب أبدا ، فلا يغتر جاهل بأن ذكر زيد بالحكم يقتضي نفيه عن عمرو ، وكذلك قوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }ليس فيه دليل على أنه لا ينذر غيرهم ، كما أنه إذا قال القائل لغيره : أدب ولدك ، لا يدل على أنه أراد أنه لا يؤدب غلامه ، بل ذلك يدل على أنه مراد المتكلم في هذا المقام تأديب الولد ،لأن المقصود مختص به ، ولعله إذا فرغ من الوصية على الولد يقول له : وغلامك أيضًا أدبه ، وإنما بدأت بالولد لاهتمامي به ، ولا يقول عاقل : إن كلامه الثاني مناقض للأول ، وكذلك قرابته عليه السلام هم أولى الناس ببره عليه السلام وإحسانه ، وإنقاذهم من المهلكات ، فخصهم بالذكر لذلك ، لا أن غيرهم غير مراد كما ذكرنا في صورة الولد والعبد .
وبالجملة فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ، ونحن أعلم بها .
وإذا كان عليه السلام هو المتكلم بها ولم يفهم تخصيص الرسالة ، ولا إرادته ، بل أنذر الروم والفرس وسائر الأمم ، والعرب لم تفهم ذلك ، وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ، ولا فهموه ، ولو فهموه لأقاموا به الحجة عليه ، ونحن أيضا لم نفهم ذلك ؛ فكيف فهم هؤلاء هذا الفهم ؟ إلا لقصد التلبيس .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 15-22).
2- وقولهم : إن القرآن ورد بتعظيم عيسى و مريم - عليهما السلام - .
قال النصارى: إن القرآن الكريم ورد بتعظيم عيسى عليه السلام ، وبتعظيم أمه مريم رضي الله عنها ، وهذا هو رأينا واعتقادنا فيهما ، فالدينان واحد ، فلا ينكر المسلمون علينا .
والجواب من وجوه :(1/83)
أحدها : تعظيمهما لا نزاع فيه ، ولم يكفر النصارى بالتعظيم ، إنما كفروا بنسبة أمور أخرى إليهما لا يليق بجلال الربوبية ، ولا بدناءة البشرية ؛ من الأبوة والبنوة والحلول والإلحاد ، واتخاذ الصاحبة والأولاد ؛ تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ، فهذه مغالطة في قوله (موافق لاعتقادنا) ، ليس هذا هو الاعتقاد المتنازع فيه ، نعم لو ورد القرآن الكريم بهذه الأمور الفاسدة المتقدم ذكرها وحاشاه كان موافقا لاعتقادهم ، فأين أحد البابين من الآخر ؟!
وثانيها : أنه اعترف بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق ، فإن الباطل لا يؤكد الحق ، بل المؤكد للحق حق جزما ، فيكون القرآن الكريم حقا قطعا ، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى ، وهو أنهم اختبروا ما جاء به عليه السلام ، فوجدوه موافقا لما كانوا يعتقدونه من الحق ، فجزموا بأنه حق وأسلموا واتبعوه ، وما زال العقلاء على ذلك يعتبرون كلام المتكلم ، فإن وجدوه على وفق ما يعتقدونه من الحق اتبعوه،وإلا رفضوه .
وثالثها : أن هذا برهان قاطع على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان ، فإنه مشتمل على تعظيم جملة الرسل وجميع الكتب المنزلة ، فالمسلم على أمان من جميع الأنبياء عليهم السلام على كل تقدير ، أما النصراني فليس على أمان من تكذيب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فتعين رجحان الإسلام على غيره .(1/84)
ولو سلمنا تحرير صحة ما يقوله النصراني من النبوة وغيرها يكون المسلم قد اعترف لعيسى عليه السلام ، ولأمه رضي الله عنها بالفضل العظيم والشرف المنيف ، وجهل بعض أحوالهما - على تقدير تسليم صحة ما ادعاه النصارى - والجهل ببعض فضائل من وجب تعظيمه لا يوجب ذلك خطرا ، أما النصراني ، فهو منكر لأصل تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل ينسبه للكذب والرذائل والجراءة على سفك الدماء بغير إذن من الله ، ولا خفاء في أن هذا خطر عظيم ، وكفر كبير ، فيظهر من هذا القطع بنجاة المسلم قطعا ويتعين غيره للغرر والخطر قطعا ، فليبادر كل عاقل حينئذ للإسلام ، فيدخل الجنة بسلام .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 22-25).
3- قولهم : إن القرآن ورد بأن عيسى روح الله وكلمته :
قال النصارى :إن القرآن الكريم ورد بأن عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته ، وهو اعتقادنا .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن من المحال أن يكون المراد الروح والكلمة على ما تدعيه النصارى ، وكيف يليق بأدنى العقلاء أن يصف عيسى عليه السلام بصفة ، وينادي بها على رؤس الأشهاد ، ويطبق بها الآفاق ، ثم ُيكفر من اعتقد تلك الصفة في عيسى عليه السلام ، ويأمر بقتالهم وقتلهم وسفك دمائهم وسبي ذراريهم ، وسلب أموالهم ؟! بل هو بالكفر أولى ؛ لأنه يعتقد ذلك مضافا إلى تكفير غيره ، والسعي في وجوه ضرره ، وقد اتفقت الملل كلها مؤمنها وكافرها على أنه عليه السلام من أكمل الناس في الصفات البشرية خَلقا وخُلقا وعقلا ورأيا ، فإنها أمور محسومة ، إنما النزاع في الرسالة الربانية ، فكيف يليق به عليه السلام أن يأتي بكلام هذا معناه ، ثم يقاتل معتقده ويكفره ، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم والفضلاء من الخلفاء من بعده ، وهذا برهان قاطع على أن المراد على غير ما فهمه النصارى.(1/85)
ثانيها : أن الروح اسم الريح الذي بين الخافقين يقال لها : ريح وروح لغتان ، وكذلك في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام وهو المسمى بروح القدس ، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ، والكلمة اسم للفظة المفيدة من الأصوات . وتطلق الكلمة على الحروف الدالة على اللفظة من الأصوات ، ولهذا يقال : هذه الكلمة خط حسن ومكتوبة بالحبر ، وإذا كانت الروح والكلمة لهما معان عديدة فعلى أيهما يحمل هذا اللفظ ؟ وحمل النصراني اللفظ على معتقده تحكم بمجرد الهوى المحض .
وثالثهما : وهو الجواب بحسب الاعتقاد لا بحسب الإلزام ، أن معنى الروح المذكور في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم لبدن الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه ، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح كل حيوان هي روح الله تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة ، كقول أحد حاملي الخشبة لآخر : شل طرفك يريد طرف الخشبة ، فجعله طرفا للحامل ، ويقول : طلع كوكب زيد إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل ، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقط ، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله تعالى ، وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها ؟ وكذلك يقول بعض الفضلاء لما سئل عن هذه الآية فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحا من أرواحه ، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخصيص عيسى عليه السلام فللتنبيه على شرفه ، وعلو منزلته بذكر الإضافة إليه ، كما قال تعالى :{وما أنزلنا على عبدنا}. .{إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصّص .(1/86)
وأما الكلمة فمعناها أن الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : كن فيكون ، فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة كن ، فلما أوجد الله تعالى عيسى عليه السلام قال له : كن في بطن أمك فكان ، وتخصيصه بذلك للشرف كما تقدم ، فهذا معنى معقول متصور ليس فيه شئ كما يعتقده النصارى من أن صفة من صفات الله حلت في ناسوت المسيح عليه السلام ! وكيف يمكن في العقل أن تفارق الصفة الموصوف ، بل لو قيل لأحدنا : إن علمك أو حياتك انتقلت لزيد لأنكر ذلك كل عاقل ، بل الذي يمكن أن يوجد في الغير مثل الصفة ، وأما أنها هي في نفسها تتحرك من محل إلى محل فمحال ؛ لأن الحركات من صفات الأجسام ، والصفة ليست جسما ، فإن كانت النصارى تعتقد أن الأجسام صفات ، والصفات أجسام ، وأن أحكام المختلفات وإن تباينت شئ واحد سقطت مكالمتهم ، وذلك هو الظن بهم ؛ بل يُقطع بأنهم أبعد من ذلك عن موارد العقل ومدارك النظر ، وبالجملة فهذه كلمات عربية في كتاب عربي ، فمن كان يعرف لسان العرب حق معرفته في إضافاته وتعريفاته، وتخصيصاته ، وتعميماته ، وإطلاقاته ،وتقييداته ، وسائر أنواع استعمالاته فليتحدث فيه ويستدل له، ومن ليس كذلك فليقلد أهله العلماء به ، ويترك الخوض فيما لا يعنيه ولا يعرفه.
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 25-30).
4- قولهم : القرآن مدحنا في آية { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا....} .
قال النصارى : في الكتاب العزيز يقول الله : {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ؛ فهذا مدح لنا .(1/87)
والجواب: أن الذين اتبعوه ليسوا النصارى الذين اعتقدوا أنه ابن الله ، وسلكوا مسلك هؤلاء الجهلة ، فإن اتباع الإنسان موافقته فيما جاء به، وكون هؤلاء المتأخرين اتبعوه غير صحيح ، بل متبعوه هم الحواريون ، ومن تابعهم قبل ظهور القول بالتثليث ، أولئك هم الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة ، ونحن إنما نطالب هؤلاء بالرجوع إلى ما كان أولئك عليه ، فإنهم قدس الله أرواحهم آمنوا بعيسى وبجملة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، وكان عيسى عليه السلام بشرهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ، فكانوا ينتظرون ظهوره ليؤمنوا به عليه السلام ، وكذلك لما ظهر عليه السلام جاءه أربعون راهبا من نجران فتأملوه فوجدوه هو الموعود به في ساعة واحدة بمجرد النظر والتأمل لعلاماته ، فهؤلاء هم الذين اتبعوه وهم المرفوعون المعظمون ، وأما هؤلاء النصارى فهم الذين كفروا به مع من كفر ، وجعلوه سببا لانتهاك حرمة الربوبية بنسبة واجب الوجود المقدس عن صفات البشر إلى الصاحبة والولد الذي ينفر منها أقل رهبانهم ، حتى إنه قد ورد أن الله تعالى إذا قال لعيسى عليه السلام يوم القيامة :{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. يسكت أربعين سنة خجلا من الله تعالى ؛ حيث جُعل سببا للكفر به ، وانتهاك حرمة جلاله ، فخواص الله تعالى يألمون ويخجلون من اطلاعهم على انتهاك الحرمة ،وإن لم يكن لهم فيها مدخل ولا لهم فيها تعلق ، فكيف إذا كان لهم فيها تعلق من حيث الجملة ؟! ومن عاشر أماثل الناس ورؤسائهم ، وله عقل قويم وطبع مستقيم غير طبع النصارى أدرك هذا ، فما آذى أحد عيسى عليه السلام ما آذته هؤلاء النصارى ، نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 30-33).
5- قولهم : القرآن قدّم ( البِيَع) - وهي معابدنا - على المساجد .(1/88)
قال النصارى : إن القرآن الكريم شهد بتقديم بيع النصارى وكنائسهم على مساجد المسلمين بقوله تعالى : {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً }فقد جعل الصوامع والبيع مقدمات على المساجد ، وجعل فيها ذكر الله كثيرا ، وذلك يدل على أن النصارى - في زعمهم- على الحق ، فلا ينبغي لهم العدول عما هم عليه ، لأن العدول عن الحق إنما يكون للباطل .
والجواب من وجوه:
أحدها : أن المراد بهذه الآية أن الله تعالى يدفع المكاره عن الأشرار بوجود الأخيار ، فيكون وجود الأخيار سببا لسلامة الأشرار من الفتن والمحن ، فزمان موسى عليه السلام يسلم فيه أهل الأرض من بلاء يعمهم بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة الموسوية ، وزمان عيسى عليه السلام يسلم فيه أهل الاستقامة على الشريعة العيسوية ، وزمان محمد -صلى الله عليه وسلم- يسلم فيه أهل الأرض بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة المحمدية ، وكذلك سائر الأزمان الكائنة بعد الأنبياء عليهم السلام ، كل من كان مستقيما على الشريعة الماضية هو سبب لسلامة البقية ، فلولا أهل الاستقامة في زمن موسى عليه السلام لم يبق صوامع يعبد الله تعالى فيها على الدين الصحيح لعموم الهلاك ، فينقطع الخير بالكلية ، وكذلك في سائر الأزمان ، فلولا أهل الخير في زماننا لم يبق مسجد يعبد الله فيه على الدين الصحيح ، ولغضب الله تعالى على أهل الأرض .(1/89)
والصوامع أمكنة الرهبان في زمن الاستقامة؛ حيث يعبد الله تعالى فيها على دين صحيح ، وكذلك البيعة والصلاة والمسجد ، وليس المراد هذه المواطن إذا كفر بالله تعالى فيها وبدلت شرائعه ، وكانت محل العصيان والطغيان لا محل التوحيد والإيمان ، وهذه المواطن في أزمنة الاستقامة لا نزاع فيها ، وإنما النزاع لما تغيرت أحوالها ، وذهب التوحيد وجاء التثليث وكذبت الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وصار ذلك يتلى في الصباح والمساء ، حينئذ هي أقبح بقعة على وجه الأرض وألعن مكان يوجد ، فلا تجعل هذه الآية دليلا على تفضيلها .
وثانيها : أن الله تعالى قال :{صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } بالتنكير ، والجميع المنكر لا يدل عند العرب على أكثر من ثلاثة من ذلك المجموع بالاتفاق ، ونحن نقول : إنه قد وقع في الدنيا ثلاث من البيع ، وثلاث من الصوامع كانت أفضل مواضع العبادات بالنسبة إلى ثلاثة مساجد ، وذلك أن البيع التي كان عيسى عليه السلام وخواصه من الحواريين يعبدون الله تعالى فيها هي أفضل من مساجد ، ثلاثة أو أربعة ، لم يصل فيها إلا السفلة من المسلمين ، وهذا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في البيع والصوامع على العموم ، واللفظ لا يقتضيه ، لأنه جمع منكر ، وإنما يقتضيه أن لو كان معرفا كقولنا : (البيع) باللام .(1/90)
وثالثها : أن هذه الآية تقتضي أن المساجد أفضل بيت عند الله تعالى على عكس ما قاله هؤلاء الجهال بلغة العرب ، وتقريره أن الصنف القليل المنزلة عند الله تعالى أقرب للهلاك من العظيم المنزلة ، والقاعدة العربية أن الترقي في الخطاب إلى الأعلى فالأعلى أبدا في المدح والذم والتفخيم والامتنان ؛ فتقول في المدح : الشجاع البطل ، ولا تقول : البطل الشجاع ، لأنك تعد راجعا عن الأول ، وفي الذم: العاصي الفاسق ، ولا تقول: الفاسق العاصي ، وفي التفخيم : فلان يغلب الألف والمائة ، وفي الامتنان لا أبخل عليك بالدرهم ولا بالدينار ، ولا يقال بالدينار والدرهم ، والسر في الجميع أنك تعد راجعا عن الأول كقهقرتك عما كنت فيه إلى ما هو أدنى منه ، إذا تقرر ذلك ظهرت فضيلة المساجد ومزيد شرفها على غيرها ، وأن هدمها أعظم من تجاوز ما يقتضي هدم غيرها ، كما نقول : لولا السلطان لهلك الصبيان والرجال والأمراء ، فترتقي أبدا للأعلى فالأعلى لتفخيم أمر عزم السلطان ، وأن وجوده سبب عصمة هذه الطوائف ، أما لو قلت: لولا السلطان لهلك الأبطال والصبيان لعد كلاما متهافتا .
ورابعها : أن الآية تدل على أن المساجد أفضل بيت وضع على وجه الأرض للعابدين من وجه آخر ، وذلك أن القاعدة العربية أن الضمائر إنما يحكم بعودها على أقرب مذكور ، فإذا قلت : جاء زيد ، وخالد ، وأكرمته ، فالإكرام خاص بخالد ، لأنه الأقرب فقوله تعالى:{ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}. يختص بالأخير الذي هو المساجد ، فقد اختصت بكثرة ذكر الله تعالى ، وهو يقتضي أن غيرها لم يساوها في كثرة الذكر ، فتكون أفضل ، وهو المطلوب .(1/91)
فائدة : الصومعة موضع الرهبان ، وسميت بذلك لحدة أعلاها ودقته ، ومنه قول العرب: أصمعت الثريدة: إذا رفعت أعلاها ، ومنه قولهم: رجل أصمع القلب ، إذا كان حاد الفطنة . والصلاة: اسم لمتعبد اليهود ، وأصلها بالعبراني صلوتا فعربت ، والبيع اسم لمتعبد النصارى ، اسم مرتجل غير مشتق ، والمسجد اسم لمكان السجود فإن مفعلا في لسان العرب ، اسم للمكان ، واسم للزمان الذي يقع فيه الفعل نحو: المضرب لمكان الضرب ورماته .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 33-39).
6- قولهم : إن القرآن عظم الإنجيل والحواريين .
قال النصارى : القرآن دل على تعظيم الحواريين والإنجيل ، وأنه غير مبدل ؛ بقوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ}. وإذا صدقها لا تكون مبدلة ، ولا يطرأ التغيير عليها بعد ذلك لشهرتها في الأعصار والأمصار ، فيعذر تغيرها ، ولقوله تعالى في القرآن :{الَمَ * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}. والكتاب هو الإنجيل لقوله تعالى: { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}. والكتاب ها هنا هو الإنجيل ، ولأنه تعالى لو أراد القرآن لم يقل ذلك ؛ بل قال هذا ، ولقوله تعالى: { آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ }.(1/92)
والجواب : أن تعظيم الحواريين لا نزاع فيه ، وأنهم من خواص عباد الله الذين اتبعوا عيسى عليه السلام ، ولم يبدلوا ، وكانوا معتقدين لظهور نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في آخر الزمان ، على ما دلت عليه كتبهم وإنما كفر وخالف الحادثون بعدهم : وأما تصديق القرآن لما بين يديه فمعناه : أن الكتب المتقدمة عند نزولها قبل تغييرها وتخبيطها كانت حقا موافقة للقرآن ، والقرآن موافق لها ، وليس المراد الكتب الموجود اليوم ؛ فإن لفظ التوراة والإنجيل إنما ينصرفان إلى المُنزلين .
وأما قوله تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، وأنه المراد به الإنجيل : فمن الافتراء العجيب والتخيل الغريب ، بل أجمع المسلمون قاطبة على أن المراد به القرآن ليس إلا ، وإذا أخبر الناطق بذا اللفظ ، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المراد هذا الكتاب ، كيف يليق أن يُحمل على غيره ؟! فإن كل أحد مصدق فيما يدعيه في قول نفسه ، إنما ينازع في تفسير قول غيره إن أمكنت منازعته .
وأما الإشارة بذلك التي اغتر بها هذا فاعلم أن للإشارة ثلاثة أحوال : ذا للقريب ، وذاك للمتوسط ، وذلك للبعيد ، لكن البعد والقرب يكون تارة بالزمان وتارة بالمكان ، وتارة بالشرف ، وتارة بالاستحالة ، ولذلك قالت زليخا في حق يوسف عليه السلام بالحضرة: وقد قطعن أيديهن من الدهش بحسنه ، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ }، إشارة لبعده عليه السلام في شرف الحسن ، وكذلك القرآن الكريم لما عظمت رتبته في الشرف أشير إليه بذلك ، وقد أشير إليه بذلك لبعد مكانه ، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل: لبعد زمانه لأنه وعد به في الكتب المنزلة قديما.(1/93)
وأما قوله تعالى :{ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}.فاعلم : أن اللام في لسان العرب تكون لاستغراق الجنس نحو حرم الله الخنزير والظلم ، وللعهد نحو قولك لمن رآك أهنت رجلا : أكرمت الرجل بعد إهانته ، ولها محامل كثيرة ليس هذا موضعها فتحمل في كل مكان على ما يليق بها ، فهي في قوله تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } للعهد ، لأنه موعود به مذكور على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ، فصار معلوما فأشير إليه بلام العهد. وهي في قوله تعالى : { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ } للجنس ، إشارة إلى جميع الكتب المنزلة المتقدمة ، ولا يمكن أن يفهم القرآن الكريم إلا من فهم لسان العرب فهما متقنا.
وقوله تعالى لنبيه عليه السلام؛ فهو أمر له بأن يقول : {آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } . فالمراد الكتب المنزلة لا المبدلة ، وهذا لا يمتري فيه عاقل ، ونحن ننازعهم في أن ما بأيديهم منزلة ، بل هي مبدلة مغيرة في غاية الوهن والضعف ، وسقم الحفظ ، والرواية والسند بحيث لا يوثق بشيء منها .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 39-44).
7- قولهم : إن القرآن مدح أهل الكتاب .(1/94)
قال النصارى : القرآن الكريم أثنى على أهل الكتاب بقوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} إلى قوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ، وبقوله تعالى : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } ، والظالمون إنما هم اليهود عبدة العجل ، وقتلة الأنبياء ، وبقوله تعالى :{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.ولم يقل : كونوا به مسلمين ، وبقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ }. فذكر حميد صفاتنا وجميل نياتنا ، ونفا عنا الشرك بقوله : {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، ومدحنا بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }.(1/95)
والجواب : أما قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }إلى آخرها ، فمعناها : أن قريشا قالت له عليه السلام : اعبد آلهتنا عاما ، ونعبد إلهك عاما ، فأمره الله تعالى أن يقول لهم ذلك ، فليس المراد النصارى ، ولو كان المراد النصارى لم ينتفعوا بذلك ، لأن قوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } معناه الموادعة والمتاركة ، فإن الله تعالى أول ما بعث نبيه عليه السلام أمره أولا بالإرشاد بالبيان ليهتدي من قصده الاهتداء ، فلما قويت شوكة الإسلام أمره بالقتال بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
قال العلماء : نسخت هذه الآية نيفا وعشرين آية منها : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وغير ذلك ، وليس في المتاركة والاقتصار على الموعظة دليل على صحة الدين المتروك .
وقوله تعالى : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} دليل على أنهم على الباطل ، فإنهم لو كانوا على الحق ما احتجنا للجدال معهم ، فهي تدل على عكس ما قالوا ، وقوله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } المراد من طغى ، فإنا نعدل معه عن الدليل والبرهان إلى السيف والسنان ، وأمره تعالى لنا بأن نؤمن بما أنزل على أهل الكتاب صحيح ، ولكن أين ذلك المنزل ؟ والله إن وجوده أعز من عنقاء مغرب !
وأما مدح النصارى بأنهم أقرب مودة ، وأنهم متواضعون فمسلم ، لكن هذا لا يمنع أن يكونوا كفرة مخلدين في النار ، لأن السجايا الجليلة والآداب الكسبية تجمع مع الكفر والإيمان ، كالأمانة والشجاعة ، والظرف واللطف ، وجودة العقل ، فليس فيه دليل على صحة دينهم .(1/96)
وأما نفي الشرك عنهم فالمراد الشرك بعبادة الأصنام ، لا الشرك بعبادة الولد ، واعتقاد التثليث ، وسببه أنهم مع التثليث يقولون : الثلاثة واحد ، فأشاروا إلى التوحيد بزعمهم بوجه من الوجوه ، ويقولون : نحن لا نعبد إلا الله تعالى ، لكن الله تعالى هو المسيح ، ونعبد المسيح ، والمسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم ، فهذا وجه التوحيد من حيث الجملة ، ثم يعكسون ذلك فيقولون : الله ثالث ثلاثة !! وأما عبدة الأوثان فيصرحون بتعدد الآلهة من كل وجه ، ولا يقول أحد منهم : إن الصنم هو الله تعالى ، وكانوا باسم الشرك أولى من النصارى ، وكان النصارى باسم الكفر أولى ، حيث جعلوا الله تعالى بعض مخلوقاته ، وعبدوا الله تعالى ، وذلك المخلوق ، فساووا عبدة الأوثان في عبادة غير الله تعالى ، وزادوا بالاتحاد والصاحبة والأولاد ، فلا يفيدهم كون الله تعالى خصص كل طائفة من الكفار باسم هو أولى بها في اللغة مدحا ولا تصويبا لما هم عليه .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 44-49).
8- قولهم : إن القرآن مدح قرباننا في سورة المائدة.
قال النصارى : مدح الله قرباننا وتوعدنا إن أهملنا ما متعنا بقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } إلى قوله تعالى : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ }.فالمائدة هي القربان الذي يتقربون به في كل قداس .(1/97)
والجواب: إن من العجائب أن يدعي النصارى أن المائدة التي نزلت من السماء هي القربان الذي يتقربون به مع الذين يتقربون به من مصنوعات الأرض ، وأين المائدة من القربان ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان ، بل معنى الآية أن الله تعالى طرد عادته وأجرى سنته أنه متى بعث للعباد أمرا قاهرا للإيمان لا يمكن العبد معه الشك ، فمن لم يؤمن به عجل له العذاب لقوة ظهور الحجة ، كما أن قوم صالح لما أخرج الله تعالى لهم الناقة من الحجر فلم يؤمنوا عجل لهم العذاب ، وكانت هذه المائدة جسما عليه خبز وسمك نزل من السماء يقوت القليل من الخلق العظيم العدد فأمرهم أن يأكلوا ، ولا يدخروا ، فخالفوا وادخروا ، فمسخهم الله تعالى ، ونزول مثل هذا من السماء كخروج الناقة من الصخرة الصماء ، فأخبر الله تعالى أن من لم يؤمن بعد نزول المائدة عجلت له العقوبة ، ولا تعلق للمائدة بقربانهم البتة ؛ بل المائدة معجزة عظيمة خارقة ، والقربان أمر معتاد ليس فيه شئ من الإعجاز البتة . فأين أحد البابين من الآخر لولا العمى والضلال .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 49-51).
9- قولهم : إن القرآن أخبر أننا نؤمن بعيسى - عليه السلام - .
قال النصارى : إن الله تعالى أخبر خبرا جازما أنا نؤمن بعيسى عليه السلام بقوله تعالى : {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}. فكيف نتبع من أخبر الله تعالى عنه أنه شاك في أمره بقوله تعالى :{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وأمره في سورة الفاتحة أن يسأل الهداية إلى صراط مستقيم { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} والمنعم عليهم هم النصارى ، والمغضوب عليهم اليهود ، والضالون عبدة الأصنام .(1/98)
والجواب: أن النصارى لما لعبوا في كتابهم بالتحريف والتخليط صار ذلك لهم سجية ، وأصبح الضلال والإضلال لهم طوية ، فسهل عليهم تحريف القرآن ، وتغيير معانيه لأغراضهم الفاسدة ، والقرآن الكريم برئ من ذلك ، وكيف تخطر لهم هذه التحكمات بغير دليل ، ولا برهان ؛ بل بمجرد الأوهام والوسواس، وأما قوله تعالى:{ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ففيه تفسيران:
أحدهما : أن كل كافر إذا عاين الملائكة عند قبض روحه ساعة الموت ظهر له منهم الإنكار عليه بسبب ما كان عليه من الكفر ، فيقطع حينئذ بفساد ما كان عليه ، ويؤمن بالحق على ما هو عليه ، فإن الدار الآخرة لا يبقى فيها تشكك ولا ضلال ، بل يموت الناس كلهم مؤمنين موحدين على قدم الصدق ومنهاج الحق ، وكذلك يوم القيامة بعد ا لموت ، لكنه إيمان لا ينفع ولا يعتد به ، وإنما يقبل الإيمان من العبد حيث يكون متمكنا من الكفر ، فإذا عدل عنه وآمن بالحق كان إيمانه من كسبه وسعيه ، فيؤجر عليه ، أما إذا اضطر إليه ، فليس فيه أجر فما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بنبوة عيسى عليه السلام وعبوديته لله تعالى قبل موته ، لكن قهرا لا ينفعه في الخلوص من النيران وغضب الديان .
التفسير الثاني : أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان عند ظهور المهدي بعد أن يفتح المسلمون القسطنطينية من الفرنج ،فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ولا يبقى على الأرض إلا المسلمون ، ويستأصل اليهود بالقتل ويصرح بأنه عبد الله ونبيه ، فتضطر النصارى إلى تصديقه حينئذ لإخباره لهم بذلك ، وعلى التفسيرين ليس فيه دلالة على أن النصارى الآن على خير .(1/99)
وأما قوله تعالى :{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فهو من محاسن القرآن الكريم ، لأنه من تلطف الخطاب وحسن الإرشاد ، فإنك إذا قلت لغيرك أنت كافر فآمن ، ربما أدركته الأنفة فاشتد إعراضه عن الحق ، فإذا قلت له : أحدنا كافر ينبغي أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله تعالى ، فهلم بنا نبحث عن الكافر منا فنخلصه ، فإن ذلك أوفر لداعيته في الرجوع إلى الحق والفحص عن الصواب ، فإذا نظر فوجد نفسه هو الكافر فر من الكفر من غير منافرة منك عنده ، ويفرح بالسلامة ، ويسر منك بالنصيحة ، هكذا هذه الآية سهلت الخطاب على الكفار ليكون ذلك أقرب لهدايتهم ، ومنه قول صاحب فرعون المؤمن لموسى عليه السلام : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا } إلى قوله : { وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } فخصهم أولا بالملك والظهور لتنبسط نفوسهم مع علمه بأنه وبال عليهم ، وسبب طغيانهم ، ولم يجزم في ظاهر اللفظ بصدق موسى عليه السلام مع قطعه بصدقه ، بل جعله معلقا على شرط ، لئلا ينفرهم فيحتجبوا عن الصواب ، فكل من صح قصده في هداية الخلق سلك معهم ما هو أقرب لهدايتهم ، وكذلك قوله تعالى لموسى وهارون في حق فرعون :{ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقوله لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين :{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.وقوله :{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فهذا كله من محاسن الخطاب لا من موجبات الشك والارتياب .(1/100)
وأما أمره تعالى لمحمد عليه السلام ولأمته بالدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فلا يدل على عدم حصول الهداية في الحال ، لأن القاعدة اللغوية أن الأمر والنهي والدعاء والوعد والوعيد والشرط وجزاءه إنما يتعلق بالمستقبل من الزمان دون الماضي والحاضر ، فلا يطلب إلا المستقبل ، لأن ما عداه قد تعين وقوعه ، أو عدم وقوعه ، فلا معنى لطلبه ، والإنسان باعتبار المستقبل لا يدري ماذا قضي عليه ، فيسأل الهداية في المستقبل ليأمن من سوء الخاتمة ، كما أن النصراني إذا قال : اللهم أمتني على ديني ، لا يدل على أنه غير نصراني وقت الدعاء ، ولا أنه غير مصمم على صحة دينه ، وكذلك سائر الأدعية ، وأجمع المسلمون والمفسرون على أن المغضوب عليهم اليهود ، وأن الضالين النصارى ، فتبديل ذلك مصادمة ومكابرة ومغالطة وتحريف وتبديل ، فلا يُسمع من مدعيه .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 51-58).
10- قولهم : ليس من العدل أن يطالبنا الله بالإيمان بمن لم يرسله لنا !
قال النصارى : ليس من عدل الله تعالى أن يطالبنا بإتباع رسول لم يرسله إلينا ، ولا وقفنا على كتابه بلساننا .
والجواب : أنه عليه السلام لو لم يرسل إليهم فليت شعري من كتب إلى قيصر هرقل ملك الروم ، وإلى المقوقس أمير القبط يدعوهم إلى الإسلام ؟!
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 58).
11- قولهم : قولنا في ( الأقانيم ) و(التثليث ) كقولكم في آيات الصفات !
قال النصارى : إن قال المسلمون: لم أطلقتم لفظ الابن والزوج الأقانيم ، مع أن ذلك يوهم أنكم تعتقدون تعدد الآلهة ، وأن الآلهة ثلاثة أشخاص مركبة ، وأنكم تعتقدون ببنوة المباضعة ، قلنا للمسلمين : هذا كإطلاق المتشابه عندكم من لفظ اليد ، والعين ، ونحوها ، فإنه يوهم التجسيم ، وأنتم لا تعتقدونه .(1/101)
والجواب : أن آيات وأحاديث صفات الله ليست من المتشابه عند أهل السنة ؛ بل هي معلومة المعنى ، نثبتها لله كما أثبتها لنفسه دون تشبيه أو تعطيل ، أو تأويل . وأما ما كان من المتشابهات التي بينها العلماء والواردة في قوله تعالى : ( وأخر متشابهات ) فإنما يطلق المسلمون المتشابه بعد ثبوته نقلا متواترا نقطع به عن الله تعالى أنه أمر بتلاوته امتحانا لعباده ليضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وليعظم ثواب المهتدين حيث حصل الهداية بعد التعب في وجوه النظر ، ويعظم عذاب الضالين حيث قطعوا لا في موضع القطع ، ولم ينقلوا ذلك عن امرأة كما اتفق ذلك في الإنجيل ؛ بل ما اقتصر المسلمون على الجمع القليل ، بل ما اعتمدوا على العدد الذي يستحيل عليهم الكذب ، فلما تحققوا أن الله أمرهم بذلك نقلوه ، وأما النصارى فأطلقوا بعض ذلك من قبل أنفسهم ، كالأقانيم والجوهر ، وبعضها نقلوه نقلا لا تقوم به حجة في أقل الأحكام ، فضلا عن أحوال الربوبية ، فهم عصاة لله تعالى حيث أطلقوا عليه ما لم يثبت عندهم بالنقل ، بل لو طولبوا بالرواية لإنجيلهم لعجزوا عن الرواية ، فضلا عن النقل القطعي ، فلا تجد أحدا له رواية في الإنجيل يرويه واحد عن واحد إلى عيسى عليه السلام ، وأقل الكتب عند المسلمين من الارتياب وغيرها يروونها عن قائلها ، فتأمل الفرق بين الاثنين ، والبون الذي بين الدينين؛ هؤلاء المسلمون ضبطوا كل شيء ، والنصارى أهملوا كل شيء ، ومع ذلك يعتقدون أنهم على شيء .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 58-60).
12- قولهم : شريعتنا أفضل الشرائع ؛ لأنها فضل بعد عدل .(1/102)
قال النصارى : الله له عدل وفضل ، وهو سبحانه وتعالى يتصرف بهما ، فأرسل موسى عليه السلام بشريعة العدل لما فيها من التشديد ، فلما استقرت في نفوسهم وقد بقي الكمال الذي لا يصنعه إلا أكمل الكملاء ، وهو الله تعالى ، ولما كان جوادا تعين أن يجود بأفضل الموجودات ، وليس في الموجودات أجود من كلمته يعني نطقه ، فجاد بها واتحدت بأفضل المحسوسات ، وهو الإنسان ، لتظهر قدرته ، فحصل غاية الكمال ، ولم يبق بعد الكمال إلا النقص ؛ فتفضب بالنصرانية .
والجواب: أما شريعة موسى عليه السلام ، فكانت عدلا وفضلا وقل أن يقع في العالم عدل مجرد ، وإنما وقع ذلك لأهل الجنة .
وتقرير هذا الباب : أن كل جود وإحسان فهو فضل من الله تعالى ، وهو جود لا يجب عليه عري عن الخير والإحسان البتة فهو العدل المحض ، لأن الملك ملكه ، والتصرف في الملك المملوك كيف كان : عدل ليس بظلم . فإن وقع الخير المحض فهو التفضيل المحض ، وهذا هو شأن أهل الجنة .
إذا تقرر هذا ، فشريعة موسى عليه السلام كان فيها من الإحسان أنواع كثيرة ، فتلك كلها فضل ؛ كتحريم القتل والغصب والزنا والقذف والمسكر من الخمور المغيبة للعقول ، وإنما أباح فيها اليسير الذي لا يصل إلى حد السكر ، وكإباحة الفواكه واللحوم والزواج وغير ذلك ، وهذه كلها أنواع من الفضل ، ثم إن عيسى عليه السلام جاء مقررا لها وعاملا بمقتضاها ، ومستعملا لأحكامها ، ولم يزد شيئا من الأحكام ، إنما زاد المواعظ والأمر بالتواضع والرقة والرأفة ، فلم يأت عيسى عليه السلام بشريعة أخرى حتى يقال : إنها الفضل ؛ بل مقتضى ما قاله أن تكون شريعة الفضل هي شريعتنا ؛ لأنها هي الشريعة المستقلة التي ليست تابعة لغيرها ، ولا مقلدة لسواها ، وهذا هو اللائق لمنصب الكمال أن يكون متبوعا لا تابعا ، فهذه الحجة عليه لا له .(1/103)
ثم قولهم : لا يصنع الأكمل إلا هو سبحانه ، فهو باطل لأنه لا حجر عليه سبحانه في ملكه ، فيأمر بعض خلقه بوضع الأكمل ، ويرسل للناس بأوامر وشرائع هي في غاية جلب المصالح ودرء المفاسد ، كما هي شريعتنا المعظمة .
ثم قولهم : الله تعالى جواد فجاد بأعظم الموجودات وهو كلمته ، فجعله متحدا بأفضل المحسوسات وهو الإنسان ، باطل لوجوه :
أحدها : أن الجود بالشئ فرع إمكانه ، فإن الكرم بالمستحيل محال ، فينبغي أن يبين
أولا تصور انتقال الكلام من ذات الله تعالى إلى مريم رضي الله عنها ، ثم يقيم الدليل على وقوع هذا الممكن بعد إثبات إمكانه ، وقد تقدم بيان استحالة ذلك .
وثانيها : سلمنا أنه ممكن ، لكن لم قلتم إن الكلام هو أفضل الموجودات ، ولم لا يكون العلم أفضل منه ،لأن الكلام تابع للعلم ؟
وثالثها : أن الذات الواجبة الوجود التي الصفات قائمة بها أفضل من الصفات ، لأن الصفات تفتقر للذات في قيامها ، والذات لا تفتقر لمحل بخلاف الصفة .
ورابعها: أنها صفة من الصفات ، والصفات بجملتها مع الذات أفضل من الكلام وحده ، ولم يقل أحد باتحاد هذا ، فالأفضل لم يحصل حينئذ ، ولما كان كلام النصارى نوعا من الوسواس اتسع الخرق عليهم .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 63-68).
شبهات دعاة الديمقراطية :
الشبهة(1) : قولهم: إن "الديمقراطية" توافق الإسلام في الجملة.
الجواب:
المخالفون لنا لم يثبتوا على جواب، إذا قيل لهم: لماذا قبلتم "الديمقراطية؟ فمرة يقولون: هي في بلادنا بمعنى "الشورى"، وفي القرآن سورة اسمها" سورة الشورى"، والله يقول: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ويقول الله: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } .
ومرة يقولون : "الديمقراطية" قسمان :
قسم يخالف الشرع، فنحن نكفر به، وهو: رد الحكم للشعب، لا لله.(1/104)
وقسم يوافق الشرع، وهو : حق الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتوليتهم وعزلهم، وهذا نؤمن به، ونسعى لخدمة الإسلام من خلاله!.
ومرة يقولون: نحن مُكرَهون على هذا كله.
ومرة يقولون: هو من باب أخف الضررين. ويتخلل ذلك أمثلة عقلية غير مطردة ولا صحيحة، فحدّث بها ولا حرج.
وأريد أن أكشف النقاب عمَّا في هذه الأجوبة من العجب العجاب :
- أما الجواب عن الأول ، فهذا تلبيس قد سبق بيانه بجلاء في هذا الكتاب.
- وأما عن قولهم: هي توافق الإسلام من جهة، أو توافقه في الجملة، مستدلين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وأن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر استخلف ستة، وجمع الأمر في أحدهم.
فأقول : لو سلمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه الإشارة بخلافة أبي بكر بعده، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وهو القائل: (ائتوني بكتاب، كي أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي، كي لا يتمنى متمنٍ..) إلى غير ذلك.. لو فرضنا حقاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فأين ما ذكرتموه من الدلالة على محل النزاع؟.
فنحن نسألكم: هل من حق الأمة أن تختار حكامها، بأي وسيلة ولو خالفت الكتاب والسنة؟.
فإن قلتم: نعم. فضحتم، وعلم الناس مذهبكم الفاسد، وتداعت عليكم سهام الأدلة من أطرافها، فأزهقت هذا الباطل، وأرست دعائم الحق.
وإن قلتم: لا، فليس للأمة الحق في اختيار ولاتها إلا بطريقة شرعية صحيحة، أو على الأقل بطريقة لم يرد في الشرع النهي عنها. قلنا: هنا انقطع النزاع.
وقد سبقت أدلة كثيرة تدل على بطلان هذه الجزئية، لأنها فرع من شجرة خبيثة، بل "الانتخابات" جذور "الديموقراطية" وسلمها الذي ترتقي عليه في تعبيد الناس لبعضهم البعض، بإتباع ما أحله لهم النواب، وترك ما حرموه عليهم.(1/105)
فالله قد عاب على من اتخذ العلماء والعباد مشرعين من دون الله، قال الله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ..} الآية.
فكيف بمن يتخذ حطاب الليل مشرعين من دون الله؟!
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
- وأما عن دعوى الإكراه، فمن المعلوم أن للإكراه شروطاً، فأين هذه الشروط منكم؟
- وكذا الكلام على قاعدة "أخف الضررين"، فهل راعيتم ضوابطها وقيودها عند أهل العلم، وكل هذا سيأتي الجواب عليه مفصلاً في موضعه - إن شاء الله-.
أما الأمثلة العقلية فالجواب عليها : أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح، كما بسط ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي لا نظير له في بابه (درء تعارض العقل والنقل).
ولو كان العقل كافياً وحده لما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 163-165) .
الشبهة(2) : قولهم : إن الانتخابات كانت في صدر الإسلام.
قالوا: "اُنتُخِب أبو بكر وبويع"، وذكروا "انتخابات" عمر وعثمان! راجع (ص15) من كُتيّب (شرعية الانتخابات!).
الجواب:
هذا الذي قلتموه ليس بصحيح، لأمور، منها: لقد اتضح للجميع أن "الانتخابات" تقوم على مفاسد كثيرة، وقد ذكرناها سابقاً، فحاشا الصحابة من أن يكونوا قد ارتكبوا مفسدة واحدة من هذه المفاسد، فضلاً عن أن يكونوا قد فعلوا جميعها، فالصحابة اجتمعوا وتشاوروا: من يكون خليفة على المسلمين؟. وبعد الأخذ والرد، اتفقوا على مبايعة أبي بكر خليفة، ولم يشارك في ذلك امرأة واحدة، فكان ماذا؟!
وأبو بكر أوصى أن يكون الخليفة بعده عمر، فنفّذ الصحابة وصية أبي بكر، أما عمر فقد جعل الأمر شورى في "الستة الذين توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ"، وهم من العشرة المبشرين بالجنة.
فهذا هو الأمر الصحيح الثابت.(1/106)
وأما عن استشارة عبد الرحمن بن عوف للنساء؟! فإليكم بيان الحق فيها:
هذه القصة أخرجها البخاري (7/61 مع الفتح)، وليس فيها ذكر استشارة عبد الرحمن للنساء. بل فيها: أن عبد الرحمن بن عوف قام بجمع الستة الذين جعل عمر الأمر فيهم، وهم :
عثمان ، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن - رضي الله عنهم-، والقصة تذكر هؤلاء الستة أنهم أهل الشورى دون غيرهم، وهي ثابتة صحيحة.
وذكرها الحافظ ابن حجر في (الفتح 7/69) والذهبي في (تاريخ الإسلام ص 303) وابن الأثير في (التاريخ 3/36) وابن جرير الطبري في (تاريخ الأمم والملوك 4/231)، وليس عند هؤلاء : أن عبد الرحمن -رضي الله عنه- استشار النساء، وإنما يذكرون: أنه استشار الرجال، كما قال الحافظ، وأنه دار تلك الليلة على الصحابة، وعلى من في المدينة من أشراف الناس، لا يخلو برجل منهم إلا أمره بعثمان، وهكذا عند البقية المذكورين.
تنبيه:
ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية 4/151) استشارة عبد الرحمن للنساء، ولكن القصة كلها بدون سند عنده.
فعلى هذا التحقيق نستنتج أموراً :
1- صحة القصة، وهي في (البخاري) أن عبد الرحمن اجتهد في الستة فقط.
2- أنه أيضاً استشار أشراف الناس، ومن قدم من الأجناد، وهذه القصة سندها عند الطبري، ولها طرق يقوي بعضها بعضاً.
3- قصة استشارة عبد الرحمن للنساء، ليس لها سند، ومعنى هذا أنه: لا أصل لها، أي لا وجود لها بسند يصحّ في كتب السنّة، كما قاله أكثر من واحد من العلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ومما يدل على أن ذكر استشارة النساء لا أصل له: أن أهل التواريخ - كما ذكرنا آنفاً - لم يذكروها حتى بدون سند، باستثناء ابن كثير رحمه الله تعالى.(1/107)
هذا نقد القصة من جهة سندها، أما من جهة متنها: فهي أيضاً مخالفةٌ لنصوص شرعية، فاختيار الأمراء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عن طريقه صلى الله عليه وسلم وعن طريق الصحابة في الاستشارة، كما حصل من أبي بكر وعمر في شأن: الأقرع بن حابس وعيينة، والقصة في (صحيح البخاري) وغيره، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة باختيار الخليفة لهم، لم يطالب واحد منهم بمشاركة النساء في اختيار الخليفة، فضلاً عن أن يكون ذلك مشروعاً، كذلك جعل أبو بكر الأمر بعده لعمر، وعمر جعل الأمر في الستة المذكورين آنفاً.
فعلى فرض وجود سند لها - ولا يوجد - وعلى فرض صحته، فهي مخالفة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة مِنْ قَبْلِ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه-.
وعلى كل : فقد ظُلِم عبد الرحمن بن عوف عند أن نُسب إليه أنه يتعدّى ويخالف نصوصاً واضحة. ولكنه بريء من ذلك كما برئ الذئب من دم يوسف عليه السلام.
وعلى هذا: فلا يجوز أن تنسب هذه القصة إلى عبد الرحمن بن عوف، لأنها منكرة.
ثم لو سلّمنا جدلاً بأن عبد الرحمن بن عوف استشار النساء والصبيان، فالسؤال: هل استشار الفَجَرَة وأهل المُجُون والخلاعة من هؤلاء؟ أم استشار الصالحين: أهل الفهم والمعرفة؟.
فإن قلتم بالأول: سقطتم. وإن قلتم بالثاني؛ سقطت حجتكم، لأن محل النزاع في إباحة "الديمقراطية" هو أخْذُ الرأي من أهل المجون والخلاعة، واعتباره موازياً لرأي أهل العلم والفضل والاستقامة.
ومن المعلوم أن دولة الإسلام قد اتسعت رقعتها زمن عمر، فهل جَعَلَ عبد الرحمن أميراً مؤقتاً، ثم قسَّم ديار الإسلام إلى "دوائر انتخابية" ثم جمع أصوات المسلمين جميعاً، ثم رجّح من كثرت أصواته؟ أم أنه اقتصر على أهل المدينة مهبط الوحي، وفيها أهل الحل والعقد؟.
فأين هذا مما نحن فيه، وأين الثرى من الثريا ؟!!.(1/108)
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 166-169) .
الشبهة(3) : قالوا : يجوز الأخذ بجزئية من "النظام الجاهلي .
قولهم تحت عنوان : " موقفنا من النظم الأخرى " (ص19) من كُتيّب ( شرعية الانتخابات) : " ولكن هل يحرم أن نأخذ بجزئية من نظام جاهلي، وهذه الجزئية صحيحة ؟.
قالوا : يجوز ذلك، إن لم يتوجب عليك أن تأخذ بالجزئية الصحيحة النافعة المشروعة من مجموعة جزئيات تكوّن نظاماً يمكن أن نطلق عليه بمجموعه: "النظام الجاهلي".
قالوا: ودليلنا على ذلك شيئان:
الأول: هي مسالة الجوار، أي أن شخصاً يعلن أنه يجير فلاناً الفلاني، وبهذا الإعلان صار في حمايته، وهذا النظام أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ به أصحابه، فقد رضي بجوار عمه أبي طالب، ودخل مكة بجوار مطعم بن عدي". أ هـ كلامهم.
والجواب :
هذه القصة لم تثبت، أخرجها ابن إسحاق مُعْضَلَة، وكل من ذكرها كابن هشام وابن كثير اعتمدوا على رواية ابن إسحاق، فهي غير صحيحة، مع أن قصة جوار أبي بكر مع ابن الدغِنّة ثابتةٌ في (البخاري) وغيره. فكان الأولى بهم - لو أنهم يهتمون بنظافة الأسانيد - أن يستدلوا بما صحّ، لا بما هو ساقط السند. وهذه ثمرة قولهم: "ليس هذا زمان: حدثنا وأخبرنا، ولا نشتغل بقول من قال: حديث صحيح أو ضعيف، فإن هذا تضييع وقت".
ونأتي إلى مناقشة هذا الاستدلال، وادعاء أن هذا أخذ بنظام جاهلي، فنقول:
هذا الاستدلال على جواز أخذ نظام "الانتخابات" وغيره مردود من وجوه:
الوجه الأول :
هذه القصة على فرض صحتها، لا تنطبق على مسألة "الانتخابات"، لا من قريب ولا من بعيد، فما هي علاقة قضية "الانتخابات" بجوار النبي صلى الله عليه وسلم عند مطعم بن عدي؟ ألسنا نحن في بيوتنا؟. لسنا مشرّدين بحمد الله، ولا مطاردين، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مطارداً، بخلافنا.(1/109)
هذا الاستدلال في غير موضعه، ولا صلة له بالموضوع الذي نحن فيه، وما أكثر الفساد في الدين إذا كان الفقه هكذا...!
الوجه الثاني:
على سبيل الافتراض جدلاً أن قضية الجوار المذكورة يستدل بها على جواز الدخول في "الانتخابات"، فهنا سؤال، وهو:
هل حصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل عن شيء من الحق حين آواه مطعم بن عدي إلى جواره؟ أو ارتكب شيئاً من المفاسد السابقة؟.
الجواب: لا. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما تنازل عن شيء من الحق. - هذا على فرض صحة القصة - فهل حصل من الذين دخلوا في "الانتخابات" تنازل عن حق أم لا؟.
الجواب: نعم . فقد تنازلوا عن أحكام كثيرة شرعها الله عز وجل، حرصاً على الوصول إلى مآربهم، وارتكبوا في سبيل ذلك كثيراً من المفاسد، كما سبق بيانها مفصلاً.
الوجه الثالث:
قولهم: "إنّ لنا أن نأخذ من أنظمة الكفر ما كان صحيحاً".
قلت: كلمة "صحيحاً" غير صحيحة، وأين الصحة من نظام "الانتخابات" الذي أخذتم به؟!.
أليس قد سبق أن قلنا: إن قبول نظام "الانتخابات" يوقع الآخذين له في مفاسد كثيرة، ومنها: الشرك بالله، - في كثير من الحالات- فما قيمة كلمة "صحيحاً؟ وهل يوجد في نظام الكفار قضية صحيحة، وليست موجودة في الإسلام، فيما يتعلق بما نحن بصدده من كيفية إقامة حكم الله في الأرض؟.(1/110)
فالواقع يشهد أن ما عندنا في أي قضية من قضايا رعاية الحقوق، وإصلاح أحوال الناس، وإزالة الشرِّ، وتحقيق العدل، ونشر دين الله، هو أضعاف أضعاف، ما عندهم، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} المائدة. وقال تعالى : {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة. وقال تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمَْ} المائدة. وقال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون } الجاثية.
فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم ليس عندهم إلا الهوى.
وعلى كلٍّ: فقد اتضح لنا من هذا كله؛ أن هذا تَقَوُّل على الله وعلى رسول صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام بدون علم وفقه، وأن سبب ذلك عدم رد المسائل إلى العلماء القادرين على إخراج الأمة من المزالق.
وأذكرهم بقول الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } الحاقة.
أما الدليل الثاني الذي استدلوا به على جواز أخذ نظام جاهلي جزئي على حد زعمهم فنصه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حضرت في بيت عبد الله بن جدعان حلفاً، قبل أن يكرمني الله بالنبوة، ما أود أن يكون لي به حمر النعم، اجتمعت بطون قريش، وتحالفوا على نصرة المظلوم بمكة، ولو دعيت لمثله لأجبت).
ووجه الدلالة : أن أولئك الذين اجتمعوا وكانوا ينتمون للنظام الجاهلي والعصبية الجاهلية، اجتمعوا على خصلة حميدة، وهي: تكاتفهم على نصرة المظلوم، فأجازها النبي صلى الله عليه وسلم وباركها". أ هـ، يُنظر كُتيّب (شرعية الانتخابات).(1/111)
قلت: أما حديث شهوده صلى الله عليه وسلم حلف قريش فقد رواه أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) والحاكم وصححه، وسكت عليه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة 4/524) وله شواهد أخرى عند الطبراني وغيره، فالحديث صحيح، وقد شهد هذا الحلف وأشاد به صلى الله عليه وسلم ، لكن: ما هو النظام الجاهلي الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحلف؟
الجواب: ما حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من هذا الحلف نظاماً واحداً، ولا قضية واحدة، فكيف جاز لهم أخذ نظام "ديموقراطي"؟ سواء أخذوا به كله أو ببعضه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخذ شيئاً من نظام الكفر.
واُلخِّص الجواب على استدلالهم بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحلاف التي كانت في الجاهلية، بما يلي:
اختلف العلماء في حكم هذه الأحلاف، فمن قائل: إن هذه الأحلاف نسخها الإسلام، وأبدلنا الله عنها بإخوّة الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام" رواه مسلم.
ومن قائل: إنها محكمة وباقية في نصرة المظلوم.
فعلى قول من يرى النسخ؛ فلا دليل لكم في هذا الإقرار لبعض أحلاف الجاهلية، وعلى قول من يرى أنها محكمة؛ فنسأل المخالف: هل ارتكب النبي صلى الله عليه وسلم أي مفسدة في إقراره لهذه الأحلاف؟ وهل تنازل عن شيءٍ من دعوته بسبب هذه الأحلاف؟
فإن قلتم: نعم، فبيّنوه لنا، وإن قلتم: لا، - وهو الصواب - فلماذا تستدلون به على نظام "الانتخابات" التي قد بيّنا الكثير من مفاسدها، ومن تنازلات مَنْ رفع لواءها.
ثم نسألكم: هل أنتم عندما قلتم: "إن أخذ جزئية نافعة صحيحة مشروعة من نظام جاهلي لا بأس بذلك"، اكتفيتم بهذه الجزئية النافعة على حد زعمكم، أم أخذتم النظام "الديمقراطي" ورضيتم بأن يكون تغيير المنكر - على حد زعمكم - من خلاله.(1/112)
فأخبروني: ما هي بقية الجزئيات التي رفضتم الخضوع والرضوخ لها؟ حتى نقول: إنكم اقتديتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: نحن نكفر بحاكمية الشعوب، قلت: هذا كلام نظري، لكن ما بالكم سلمتم للأغلبية عمليًّا في المجالس النيابية.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم - مع شهوده بعض الأحلاف النافعة، وإقراره لها - فإنه تبرأ من كل أمر يخالف الإسلام، ولم يمارسه، بل هجر أهله وأماكنه والأسباب المفضية إليه، ولكن هكذا فقه الخَلَف، فرحم الله السَّلف.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 169-173) .
الشبهة(4) : قولهم في "الانتخابات": إنها مسألة اجتهادية
يقولون في قضية "الانتخابات": هي مسألة اجتهادية.
فنقول لكم : ماذا تعنون بقولكم: إنها مسألة اجتهادية؟.
فإن قلتم: أي إنها مسألة جديدة لم تكن معروفة في زمن الوحي والخلفاء الراشدين. فالجواب من وجهين:
1- أن هذا يناقض قولكم السابق بأنها كانت في صدر الإسلام، فتذكّروا ما تقولون وتكتبون، ولا تحملكم قناعتكم بفكرة، أن تقولوا قولاً لينفعكم في مجلس ما، ثم تحكمون عليه بالنقض في مجلس آخر، فلا يغرنكم عدم إدراك كثير ممن يسمعونكم لهذا التناقض، فإن في الزوايا بقايا.
2- نعم، لم تكن هذه الطامات موجودة في زمن الوحي، وليس معنى ذلك أنه ما لم يكن موجودًا بذاته في زمن الوحي، أن يكون الأمر متروكًا فيه للاجتهاد، ولا ينكر فيه على المخالف، فالعلماء في هذا ينظرون لكل حدث جديدٍ، ويردُّونه إلى الأصول والكليات، ويعرفون الأشباه والنظائر ويحلقونها بها، ومن ثَمّ يلحقونها بالحكم الأول إباحةً أو حظرًا، إيجابًا أو تحريمًا، وما نحن فيه قد سبق بيان مفاسده.
وإن قلتم : هي مسألة اجتهادية بمعنى: أنه لم يرد فيها نص، فالجواب السابق شامل لهذا أيضًا.(1/113)
وإن قلتم: هي مسألة اجتهادية بمعنى: أننا ندرك حرمتها، لكن نرى أن الدخول في ذلك يحقق مصالح لا تكون دون هذا الدخول، وأنتم أيها السلفيون ترون المفسدة في ذلك، فهي اجتهادية، بمعنى تحقيق المناط، وتطبيق الأحكام الشرعية على الواقع القائم. وهذا مجال تختلف فيه الأنظار، فلا ينكر على أحد.
قلت : ولو سلمنا بذلك لكان لهذا وجه قبل خمسين عامًا مثلاً، وذلك عند ابتداء فرض هذه الفكرة - فكرة النظام الديموقراطي - على بلاد المسلمين، فالأنظار تختلف في الشيء الجديد.
أمَّا أنّ المسلمين لهم قدر ستين عامًا يلهثون وراء ذلك، وما رجعوا إلا بخفي حنين، فهل نضرب بتجارب المسلمين خلال أكثر من نصف قرن عرض الحائط؟ ونعيد أذهاننا إلى الوراء ستين عامًا؟ فأين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وإن قلتم: إنها مسألة اجتهادية بمعنى: أنها نِزاعيّة بين العلماء وليست إجماعية.
فالجواب:
من المعلوم أنه ينكر على مخالف الإجماع الصحيح، لكن بقي تفصيل في مسائل الخلاف:
فمنها: ما هو ظاهر الحجة لأحد الطرفين، مع وجود مخالف لهذا الأمر الظاهر، فليس معنى ذلك إرخاء الحبل لمن أخذ بأي قول.
وكم هي المسائل الإجماعية بالنسبة للخلافية؟
وبطون الكتب طافحة بردود أهل العلم على بعضهم البعض، في مسائل لم تسلم من وجود مخالف فيها.
نعم، هناك مسائل خلافية تتجاذب فيها الأدلة، ولا يوجد وجه صريح أو ظاهر في الترجيح، فعند ذلك يتنزل قول أهل العلم: "المسائل الخلافية لا يتعين فيها الإنكار".
وألفت النظر في هذه العبارة إلى أمرين:
الأول: استقراء وتتبع المواضع التي ورد فيها هذا القول من أهل العلم: هل ورد ذلك في مسائل تُفضي إلى مثل تلك المفاسد السابقة؟ أم في مسائل دون ما نحن فيه؟(1/114)
الثاني: قولهم: "لا تعين"، ليس معناه أنه لا يجوز، بل من سكت فلا إثم عليه، ومن أنكر بالشروط الشرعية في الإنكار، المفضية للمصلحة الشرعية، لا للمفسدة، فهو جائز، بل مستحب.
ثم إني أسأل سؤالاً آخر، فأقول: وهل أنتم - معشر القائلين بأنها مسألة اجتهادية، لا يُنْكَر فيها على المخالف - التزمتم بهذا القول مع إخوانكم طلبة العلم الذين أنكروا ذلك، ولم يشاركوكم في هذا؟ أم قلتم: "هم إخوان الاشتراكيين من الرضاع"؟! ومنكم من قوّى نسبتهم وصلتهم بالاشتراكيين فأطلق: أنهم اشتراكيون وعملاء للحكام، وغير ذلك من التهم التي لو عاملناكم بظاهر أعمالكم، وجازفنا كما تجازفون، لقلنا: إن هذه الفِرَى أنتم أحق بها وأهلها.
لكن يحملنا ديننا وخوفنا، من يومٍ تُنشر فيه الصحف، فتَبْيضُّ فيه وجوه، وتَسْوَدُّ وجوه، على عدم معاملتكم بالمثل.
والشكوى إلى الله - عز وجل -، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 174-176) .
الشبهة(5) : قولهم:إن "الانتخابات" من المصالح المرسلة .
يقولون: نحن دخلنا في "الانتخابات" من باب أنها مصلحة من المصالح المرسلة!
الجواب:
1- المصلحة المرسلة ليست أصلاً من أصول الدين التي يُعمل بها، وإنما هي وسيلة متى توفرت شروطها، عُمِل بها، ومتى لم تتوفر، لم يُعمَل بها.
2- تعريف المصلحة المرسلة هي: ما لم يأتِ نصٌّ فيه بعينه بتحريم ولا وجوب، مع اندراجها تحت أصل عام.
وتعريف آخر يذكره الأصوليون وهو: الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه مِنْ قِبَل الشارع.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات 4/210):
" فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، بشرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج" ا هـ.(1/115)
فالمصالح المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها، ومنها: مصلحة عامة أو خاصة، أما ما نحن فيه، ففيه من المفاسد السابقة الذكر التي لا يشك عاقل أنها كافية في إخراج محل النزاع من باب المصالح المرسلة، إلى المفاسد المحرمة، والله أعلم.
وقد أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وهكذا التابعون وأتباعهم، فتأليف الكتب الفقهية، وكتب اللغة العربية، وكتب علوم الحديث، وجمع القرآن والاقتصار على النُّسَخِ التي اختارها عثمان وإلغاء ما عداها .. إلى غير ذلك من المصالح، وكما ذكرنا سابقاً أنها ليست من الأصول، وإنما هي مسألة اجتهادية يصيب فيها الرأي ويخطئ، والتشريعة كلها جاءت لتحقق مصالح الناس، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/23)، ورفع المشقّة والعسر والحرج.. الخ، كلها من لوازم المصالح للناس. ومن خلال هذا العرض السريع نستفيد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد.
فعلى هذا فالمصلحة المرسلة لها شروط يجب أن تُراعى، فإذا توافرت شروط المصلحة عُمِل بها، فهل تقيّد المخالفون بهذه الشروط؟
وسيأتي ذكر الشروط بعد الكلام على الشبهة الخامسة عشر - إن شاء الله -.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 177-178) .
الشبهة(6) : قولهم: إن "الانتخابات والحزبية"أشياء شكلية، وليست جوهرية
نقول:قولكم في هذه الأشياء: إنها شكلية وليست جوهرية، مغالطة واضحة.
1- كيف تكون شكلية، وفيها بذل أموال؟ وفيها مواجهة للأعداء كما تزعمون؟! وفيها حب وبغض؟ وفيها تقرّب إلى الله - على حد زعمكم -؟!
2- كيف تكون شكليةً، وظاهر حالكم قولاً وعملاً أنها المنهج الوحيد والخيار المناسب لإقامة دين الله؟ فهل أنتم صادقون مع أنفسكم في هذا القول؟
إن قلتم: نعم. فأين الشكليات في مسألة من أهم مسائل الدين، وهي: تمكين التوحيد في الأرض؟(1/116)
وإن قلتم: لا، لسنا مصدّقين لأنفسنا في هذا القول، فحسبكم هذا من أنفسكم. والله المستعان.
والإسلام كله جوهر - إن صح التعبير - فهو العقيدة الصحيحة الراسخة، والتوحيد الشامل، والولاء والبراء، والخضوع للحق، وليس فيه قشور، بل كله لباب وخير.
3- الشكلية التي تتكلمون بها، قد حذّر منها الإسلام؛ لأنها من أعمال المنافقين، يُظهرون خلاف ما يسرّون، ويقولون خلاف ما يفعلون، ويفعلون خلاف ما يؤمرون، قال الله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المنافقون . ورصيد المنافقين هو شكليات؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن صلاتهم: { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ..} النساء.
هذه هي الشكليات التي حذَّر منها الإسلام، ولكنها شكليات تضر وترمي بصاحبها في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} النساء.
فالله عز وجل قد دعا عباده إلى الصدق في عبادته والإخلاص، والخوف من عذابه، والرضى بحكمه، والتسليم لشرعه، والمراقبة لأمره ونهيه، والتوكل عليه، والثقة به، والأنس بكلامه. فهذه جواهر.. والإسلام يدعو إلى هذا كله.
4- الظاهر أن عندكم جرابًا للمصطلحات! فأنتم على استعداد أن تملئوا الدنيا بالمصطلحات التي تشغلون بها المجتمع وطلبة العلم، وتروّجون لها، وتخدعون بها الناس إلى أجل قريب، والأحكام جاهزة لكل ما يناسب نظامكم وأهواءكم.
والدمج عندكم مشروع: أن يندمج الحق بالباطل، والباطل بالحق، إذا كان في ذلك مصلحة تتماشى مع الحزبية في نظركم.(1/117)
وهذا نقوله لا من باب الشماتة - والذي نفسي بيده - ولكن للأسف أن هذا واقع، ومن حق المسلم على المسلم الصدق والوضوح في النصيحة.
وقد تكلمنا كثيرًا في المجالس العامة والخاصة، فما رأينا تجاوباً يُذْكَر، بل رأينا الاستمرار في مخالفة الشرع، والجد في التحذير من أهل السنة، ورميهم بأبشع التهم، والتدخل في ضمائرهم، والطعن في إخلاصهم وصدقهم.. الخ.
فكان لزامًا علينا أن نظهر الرد كما أظهرتم خلاف الحق.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 178-180) .
الشبهة(7) : قولهم: دخلنا الانتخابات وما قصدنا إلا الخير
ويريدون أن يقولوا: ليس علينا إثم لحسن نياتنا، وصلاح مقصدنا؛ لأننا لا نريد إلا نصرة الإسلام.
ولكن نقول لهم:
كم من مريد للخير لا يصل إليه، ولا يوفّق له بسبب اقتصاره على النية الطيبة، وإهماله للبحث عن الحق، ومن المعلوم قطعًا أن كل عمل لا يقبل عند الله إلا بشرطين:
1- أن يكون العمل خالصًا لله.
2- أن يكون موافقًا لهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا افتقد أحد الشرطين، فلا يُقبَل العمل عند الله.
فنحن من باب التسليم الجدلي نسلم أنكم جميعًا قصدتم الخير، فهل هذا يكفي في أن يكون العمل صحيحًا، وهو مخالف للشرع؟ أم لا بد من الموافقة الشرعية كمًّا وكيفًا وصفةً وهيئةً، بدايةً ونهايةً، في الأصل والفرع، في المكان والزمان؟!
ولا شك أن الثاني هو الجواب.
وإليك بعض الأدلة على ذلك:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ". متفق عليه من حديث عائشة، وفي (صحيح مسلم): "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
و"مَنْ" مِنْ ألفاظ العموم، وهذا عمل، وهذا إحداث، فهو مردود.(1/118)
وقد رُدّت بالفعل عبادة المبتدع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة، حتى يدع بدعته". رواه الطبراني والبيهقي والضياء من حديث أنس رضي الله عنه.
فهذا متعبِّد، أجهد نفسه، وشمّر في عبادة ربه، ومع هذا لم يتقبل الله منه شيئًا من ذلك، مع حبه للأجور عند الله، وإخلاصه العمل، لكنه لم يبحث عن شرعيته.
فكلما تاب وَجَدَّ في التوبة، فهي مردودة عليه، مهما حسنت النية، وعظم المقصد، فلا يخرج صاحبه من أخطائه أبدًا.
وفي (الصحيحين) من حديث أسامة أنه قال: "تبعت ومعي رجل من الأنصار رجلاً من المشركين، فلما وجد أننا سنقتله قال: "لا إله إلا الله" فتأخر صاحبي، وضربته حتى برد، أي: مات، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله"؟ قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا، فقال: "أشققت على قلبه؟ فكيف تصنع بـ "لا إله إلا الله" إذا جاءت يوم القيامة"؟ قال: فلم يزل يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ".
انظر: فهذا أسامة ما أراد إلا نصرة الإسلام، وهل أراد بذلك شرًّا؟ بلا شك: لا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لامه على فعله، ولم يعذره بحسن قصده.
ولأهمية هذا القصد ألّف العلماء الكتب الكثيرة في التحذير من البدع وأهلها.
والبدعة هي: التعبُّد لله بما لم يشرعه، ولا شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم، وارجع إلى كتاب: "الاعتصام" للشاطبي، فقد أجاد وأفاد رحمه الله في الكلام على خطورة البدع، وبيّن أقسامها وشُعَبَها.
ولو فُتِح المجال لأصحابِ هذا القول: "أنا نيتي طيبة، ومقصدي حسن". لأدى إلى أن يقتل القاتل، ويقول: أنا نيتي طيبة، ويشرب الخمرَ الشاربُ، ويقول: أنا نيتي طيبة.
وهذا عمل قلبي ليس لنا قدرة على إثباته ولا نفيه إلا بدليل خارجي.(1/119)
فالله عز وجل قد أرشدنا إلى الأخذ بظاهر الأمور، وهو يتولى السرائر، ولهذا قال عمر كما في "البخاري" وغيره: "إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا؛ أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا؛ لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إنّ سريرته حسنة".
فليس عندنا استعداد أن نقبل من يدعي صلاح قلبه، وعندنا أدلة واضحة على أن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، وفساد الظاهر دليل على فساد الباطن. قال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله". متفق عليه من حديث النعمان.
ومن عُلِم منه الصلاح، فحصل أن زلّ بكلمةٍ أو فعلٍ، فهذا يحمل على حسن مقصده، ويبقى عليه تبعة العمل الذي زلّ فيه.
أما من عُلِم بالمخالفات الشرعية ولم يقبل الحق، فهذا لا يحمل هذا المحمل.
والذي يظهر أن قيادات الحركات الإسلامية يعرفون أن "الانتخابات" حرام، ولكنهم سائرون على ذلك مهما كانت الظروف. ونحن نحسن الظن بكثير منهم، أنهم أرادوا بذلك نصرة الإسلام، لكن كم من طالب للحق لا يدركه، ولا يعني ذلك أننا نتألى على الله، وندعي أن الله عز وجل يحرم فلانًا الأجر أم لا، إنما الذي يهمنا بيان الحكم الشرعي فيما نحن بصدده، أما الآخرة فالناس فيها عند حَكَمٍ عدل، لا يظلم الناس شيئاً.
لكن إذا أردنا حقًّا أن ننصر الإسلام، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والله المستعان.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 180-183) .
الشبهة(8) : نحن دخلنا"الانتخابات" من أجل أن نقيم دولة الإسلام!
يقولون: نحن ندخل في "الانتخابات" من أجل أن نقيم دولة الإسلام!(1/120)
فكيف يقيم دولة الإسلام، ويحكم بشرع الله، من بدأ بالتنازل من أول وهلة؟! أليس قانون "الانتخابات" جزءًا من الدساتير العلمانية المستوردة مِنْ قِبَل الكفار؟
الجواب : بلى.
فإذا كانوا حقًّا سيقيمون دولة الإسلام على حد زعمهم فلماذا ما يبدأون بإقامتها برفض "الانتخابات"، ويقولون: نحن ما نقبل "الانتخابات"؛ لأنها نظام طاغوتي؟
ما سمعنا أحدًا منهم تبرأ ورد هذا البلاد. فعند خضوعهم للدستور في قضية "الانتخابات" صاروا محجوجين بهذا التنازل، إذا أرادوا أن يصححوا أي حكم من أحكام "الديمقراطية".
كيف يرضون أن يحكمهم نظام الغرب، ويقولون: نحن سنقيم حكم الله؟ فالقضية قضية شعارات فقط.
ونحن نعد هذا التصرف من إخواننا تنازلاً، وهم دائمًا يُهبطون على سلّم التنازل، وعلى سبيل المثال: كانوا يقولون: سنقيم دولة الإسلام، ودندنوا بهذه الكلمة، ثم ما شعرنا إلا وعندهم شعار جديد، وهو: { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ }.
فتنازلوا من إقامة دولة، إلى الإصلاح ما استطاعوا على حد زعمهم!
ولا شكّ أن المسلمين يصلحون ما استطاعوا.
وهذا الشعار الذي أبدوه أخيرًا من جملة تنازلاتهم، ومفاده أنهم قد فشلوا في إيهام الناس حول إقامة دولة الإسلام، وما داموا على سلم التنازلات فنخشى أن يضيعوا أكثر فأكثر، لأن الانحرافات تبدأ شيئًا فشيئًا، وصدق الله إذ يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } النور.(1/121)
فانظر إلى نهاية الذي يريد الإصلاح ما استطاع، إذا به يأمر بمخالفة الشرع باسم المصلحة، والتنازل عن شيء من الحق، سبب لإنزال العذاب الإلهي عاجلاً وآجلاً، قال الله سبحانه وتعالى:{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } الإسراء.
إذن فما قيمة التنازلات؟ وما مدى الانتفاع بها، إذا كان هذا المتنازل سيذوق من الله سوء العذاب في الدنيا والآخرة؟ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} .
فالكفار هنا لا يطلبون من النبي × أن يترك دينه؛ لأنهم قد علموا أنه لا يترك دينه؛ لكنهم يطالبونه بالتنازل، ولو في بعض الحقّ، فربنا يمتنّ على نبيه صلى الله عليه وسلم بما منحه من الخير والفهم الصحيح والثبات والعصمة عند مواجهة المشركين. وأفادت الآية أن اكتساب أصحاب الزعامات والسلطات، ليكونوا في صف الدعوة على حساب الدعوة إلى الله؛ لا يجوز، لأن التنازل عن شيء من هذا الدين، باسم تحقيق مصلحة الدعوة ؛ لا يجوز، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } المائدة.(1/122)
خاب وخسر من ظن أنشه سيعيش سالماً، ويتنازل عن شيءٍ من الإسلام، وهو في مقام الدعاة والعلماء والقدوة الحسنة.. وإلى الله المشتكى.
تنبيه:
كثير من الناس يطلق قوله: نريد أن نقيم دولة إسلامية، ونحن - ولله الحمد - في بلاد إسلامية، ليست كافرة، وإن كان فيها كثير من المخالفات الشرعية، إلا أن ذلك لا يسوّغ تكفيرها، وإخراجها من جملة البلاد الإسلامية. وإذا جارينا غيرنا في هذا الاصطلاح، فمرادنا به: قيام الدولة الإسلامية الراشدة، التي تسير على منهاج النبوة ما أمكن، فليُتَنَبَّه لهذا، والله أعلم .
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 184-186) .
الشبهة(9) : قولهم: إقامة الشريعة يكون بالتدرج
يقولون - وهو من باب المغالطة - لمن قال لهم: أنتم ما حققتم في خلال هذه الفترة شيئًا يذكر، يقولون: "إقامة الشريعة تكون عن طريق التدرّج"!
وهذا ليس بصحيح؛ لأمور، منها:
1- تكون إقامة الشريعة عن طريق التدرج بالطرق الشرعية، لا بالأنظمة الغربية.
2- هذا الكلام يقوله دعاة "الانتخابات" الإسلاميون، لكي يقنعوا الناس بـ"الانتخابات"، والدخول فيها، وأما أعضاء مجلس النواب من الإسلاميين، فهم ليسوا حول إقامة الإسلام بالتدرج ولا بغيره، بدليل أنهم كلما جاء حُكْمٌ، وافقوا عليه مهما كان فيه من المخالفة الشرعية، دون أي تأخّر، إلا من رحم الله سبحانه، وذلك تحت مبررات واهية، هذا إن استُشيروا، وأما إن قُطِع الأمر دونهم، فهذا أمر آخر، وما أشبه حالهم بمن قال:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يُستأذنون وهم شهود
3- لماذا لا تشرحون طريقة التدرج هذه؟ فأنتم تركتموها مفتوحة - والله أعلم - من أجل أنكم كلما أراد أن يحتجّ عليكم محتج، قلتم: أما نحن فقد قلنا: "إن تطبيق الشريعة بالتدرج"، وأظن - والله أعلم - أنكم ما دمتم هكذا فقد تقوم الساعة، وما حققتم هذا الهدف.(1/123)
4- ليس لكم حُكْمٌ نافذ إلا من العلمانيين، وليس في أيديكم شيء وإن كثرتم، فلا تكونوا خياليين؛ لأنكم سلّطتم القانون على أنفسكم، فاتقوا الله، وكونوا مع الصادقين.
وعلى هذا فدعوى: أنكم ستقيمون الشريعة بالتدرج، دعوى عارية عن الحقائق والأدلة.
وأخشى - والله - أن تضيّعوا بقية ما عندكم من الخير، باسم أنكم في التدرج.
والله سبحانه وتعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ } الصف.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 186-188) .
الشبهة(10) : قولهم: عدلنا الدستور من علماني إلى إسلامي !
ويقول بعضهم: أبشر أيها الشعب، فقد جعلنا "الدستور" إسلاميًّا!
وأما نحن فلسنا من هذا الصنف، صنف الذين أرهقوا أسماع الناس بقولهم: "أبشروا، فقد عدّلنا الدستور".
ماذا عملت يا مسكين؟! الحبر على الورق مكسب إعلامي فقط، أمَّا الواقع فلا نرى إلا ما هو أشد، ونسأل الله صلاح المسلمين.
ومادة التعديل هي: "الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات".
أسألك يا فضيلة المفتخر بتعديل الدستور: هل القرآن الآن هو السائد، والمرجع في كل الشؤون، أم الدستور؟
ماذا يغنينا تعديل مادة بحبر على ورق فقط، وبقية المواد تنضح بالباطل؟
وانظر ما بعد هذه المادة في "دستورنا" اليميني، وهي التي تلي المادة المعدّلة، وهذا نصّها: "الشعب مالك السلطة، ومصدرها، ويمارسها بشكل مباشر، عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، كما يزاولها عن طريق غير مباشر: عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية"!
فماذا أبقت هذه المادة للمادة المعدَّلة؟ وأين عيونكم عند أن عدّلتم مادة على حد زعمكم، وما عدّلتم بقية المواد؟(1/124)
وقد أُقيمت دولة الإسلام من مشرقها إلى مغربها بحكم القرآن، وما احتاجوا إلى سطر واحد من مناهج اليهود والنصارى وغيرهم.
تنبيه:
حصل تعديل في بعض المواد، ولكنها لا تُسمِن ولا تغني من جوع، ومن أشهر ذلك تعديل مادة القسم، وهذا نصها: "أقسم بالله العظيم: أن أكون متمسكًا بكتاب الله وسنة رسوله، وأن أحافظ على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون"!
والواقع أن "الدستور أو القانون" هو المحترم، وليس بكافٍ أن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حد زعمكم، فإن معنى هذا الكلام تجميد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل كان الصواب أن يقال: "أقسم بالله العظيم: أن أحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحكم بغيرهما".
والأيام القادمة ستظهر لنا كل شيء، ويعرف كل واحد ما الذي وصل إليه.
أما الذين يدندنون بأنهم عدّلوا "الدستور"، إما أنهم جهلة بما يتكلمون به، وإما أنهم يعلمون حقيقة الحال، فإن كانوا جهلة؛ فلا يستحقون أن يكونوا قادة للأمة، وهم يجهلون واقعًا يدركه الباعة في الأسواق، والشحاذّون في الطرقات، والمكنِّسون في الشوارع.
وإن كانوا يعلمون حقيقة الحال، وأن هذا التعديل حبر على ورق وليس له أي واقع، بل لا يستطيعون هم أنفسهم أن يحتجوا به ويستدلوا به، فمعنى ذلك أنهم يُلبِّسون على الأمة، وفاعل ذلك غاشّ للأمة، وليس ناصحًا لها، وهذا يزحزحه عن مرتبة القيادة والتوجيه.
واذهبوا واسألوا جميع الطبقات والطوائف عن أحوال المسلمين في مجالسهم التشريعية، ومعاملاتهم، وإعلامهم، ودوائر الحكومات، ومحافلهم، وغير ذلك: هل الكتاب والسنة عندهم فوق الدستور والقانون، أم لا؟(1/125)
ومثلكم لا يخفى عليه الجواب، ولكن الشكوى إلى الله في كيلكم بصاعيْن: فلو عمل أهل السنَّة من الأخطاء عشر معشار ما تعملون؛ لرميتموهم بالغفلة والسطحية، والسذاجة، وعدم فقه الواقع، بل رميتموهم بذلك وهم بعيدون عن كل ما يخالف شرع الله.
فإلى الله المشتكى.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 188-190) .
الشبهة(11): قولهم: نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء
يقولون: نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء، من علمانيين واشتراكيين وغيرهم!
الجواب:
ونحن أيضًا ما نريد أن يكون لأعداء الله سبيل على مؤمن، ولكن نقول للإخوة: ماذا أعددتم لهذا العمل؟ فإذا كنتم تأخذون بنفس وسائلهم، وتخضعون لقوانينهم، فلن تحصلوا على شيء إلا على التنازلات تلو التنازلات.
وقد يقولون: نحن نحرص على أن تكون الأغلبية في مجلس النواب معنا، ونفترض أنكم حصلتم على الأغلبية، فهل يجوز لكم أن تحكموا بحكم الأغلبية؟
الجواب:
لا يجوز، وقد كنا نسمع هذه النغمة، وهي: كيف نترك الساحة للأعداء؟
وهل تحبون أن يتولى عليكم علمانيون أو اشتراكيون أو غيرهم، يمنعونكم من التدريس والدعوة إلى الله، ويصادرون الإسلام؟ هكذا نسمع كثيرًا من القوم.
والواقع يثبت لنا أن هذه النغمات هي من باب الدعاية الانتخابية، وإلا فما هي الثمرة خلال أكثر من ستين عامًا؟
فقد حصلوا على نسبة كبيرة في المجالس النيابية في الباكستان وفي تركيا وفي الأردن وفي الكويت وفي مصر وفي اليمن وغيرها، ولم يحصل أنهم غيَّروا من مناهج الخصوم، بل خدموهم وتحالفوا معهم في أكثر من بلد، وهذا واضح كوضوح الشمس.(1/126)
أما نحن فلا نحب أن يتولى أحد إلا الصالح، فإن لم يوجد صالح، ولم يتيسر، صبرنا على حكامنا الموجودين، ونصحناهم بالكتاب والسنة، فإن أمروا بمعصية؛ لم نطعهم، وذكرناهم بأيام الله في الأمم السابقة، عندما أعلنوا بالمعصية، وحاربوا الله بالانحراف عن نهجه، كيف نقض الله بنيانهم، وأذهب ملكهم، وسلّط عليهم الأعداء، فأخذوا ما بأيديهم، وساموهم سوء العذاب، فلسنا أصحاب حماس فارغ، ولا ثورة تضر أكثر مما تنفع، ولسنا ممن يدق أبواب السلاطين، ولا ممن يمد يديه إليهم، ولا نبرر انحرافهم عن الصراط المستقيم، وهل كان منهج سلف الأمة إلا هذا؟
لكننا ابتلينا في هذا العصر بأقوامٍ إن أعطاهم الحُكّام من دنياهم ووظائفهم رضوا، وقالوا: هؤلاء الحكام أحسن من غيرهم، وإن منعوهم؛ سخطوا وفزعوا إلى المساجد والمنابر يكفرونهم، ويدعون إلى الجهاد ضدهم، ويحرضون عليهم.
فإن حاججناهم بمنهج السلف الذي يأمر بالنصح وعدم التشهير المفضي على الشر، قالوا: أنتم عملاء للحكام!
ولستُ أدري من أحق بهذا الوصف؟ أهو الذي يهرب من مجالسهم، أم الذي يقف عند أبوابهم صباح مساء ؟!!
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 190-192) .
الشبهة(12) : قولهم: نحن مكرهون على دخول الانتخابات والبرلمانات
والجواب:
الإكراه في الاصطلاح: حمل الشخص على فعل أو قول لا يريد مباشرته. هذا تعريف الإكراه.
وعليه فلا بد من مُكْرِهٍ (بكسر الراء)، ومن مُكْرَهٍ (بفتح الراء).
وهذا ما دلّ عليه القرآن الكريم، يقول الله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ } النحل. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وُضِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". رواه الطبراني عن ثوبان. فدلّت الآية والحديث أن هناك من يُكْرِه المسلم على فعل محرم، أو قول محرم.(1/127)
والعلماء يقسمون الإكراه إلى قسمين:
1- مُلجئ. وضابطه: أن يُهدَّد بالقتل، أو بما لا يطيقه، مع توقع حصول ذلك الفعل، وأقوال العلماء في تحديد الإكراه متقاربة، ولهذا رأي المتأخرون أن يقسموه على قسمين.
2- إكراه غير مُلجئ. وضابطه: أن يُهدَّد الإنسان بما لا يؤدي إلى هلاكه، أو يكون المُهدِّد (بالكسر) ليس عنده قدرة ولا سلطة على ذلك، والأخذ بالرخصة من أجل الإكراه في الدين جائز بهذا الشرط.
ولنأتِ إلى إخواننا فنقول لهم: مَن الذي أكرهكم على الدخول في "الانتخابات"؟
فإن قالوا: هم أكرهونا، فنقول: الواقع عدم الإكراه لكم، ولا يتحقق هنا نوع الإكراه، لا الأكبر ولا الأصغر؛ لأن المُكرِه (بكسر الراء) غير موجود، بل أنتم الذين تدعون لهذا، وتلتمسون له الأدلة، وتحاربون من خالفكم في الفهم، فدعوى أنكم مكرهون دعوى غير صحيحة، فإذا كانت دعوى غير صحيحة، فما فائدة هذا القول والإعلان به بين الناس؟.
الجواب: هذا كله تبرير مواقف، وخداع للجماهير، حتى يصيروا في رأي الجماهير معذورين إذا فشلوا.
ولو قالوا: نحن مكرهون، بمعنى: أننا لا نحب ذلك، لكن رأينا أن المصلحة تقتضي ذلك!
فالجواب سيأتي بعد قليل، لكن هنا سؤال: لماذا يضعون قاعدة شرعية في غير محلها؟. أليس هذا تلاعبًا بالقواعد الشرعية ليلتبس بعضها ببعض.
الجواب: هو هذا.
وإلى الله المشتكى.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 192-193) .
الشبهة(13) : قولهم: دخولنا "الانتخابات" للضرورة
والجواب:
الضرورة مشتقة من الضَّرَر، وفي الاصطلاح: قال الزركشي: "الضرورة بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب"، وهو من المنثور في القواعد.
وعرَّفها غيره بقوله: "هي أن تطرأ على الإنسان حالة من المشقة والخطر والشدّة، بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعِرْض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها".(1/128)
وينبغي عندئذٍ - أو يباح - ارتكاب محرم، أو ترك واجب، أو تأخيره عن وقته، دفعًا للضرر عنه في غالب ظنه، ضمن قيود شرعية.
وهذا تعريف جامع لا مزيد عليه.
قلت: هناك فرق بين الضرورة والمصلحة، حيث أن المصلحة أعم، والضرورة أخص، فالضرورة تكون عند حالة شديدة وخشية ضرر، كما رأيت.
القرآن يبين الضرورة:
قال الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِّثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } المائدة.
فهذه المحرمات أُبيح أكلها عند اشتداد جوع الذي يخشى على نفسه الهلاك، وقد جعل الله شريعته قائمة على اليُسْر، ورفع الحرج في مجالات كثيرة، لا يتسع الوقت لذكرها.
فما هي الضرورة التي جعلت أصحاب "الانتخابات" يختارون هذا الطريق؟
هم يقولون: نحن مضطرون، وإن لم نفعل فسيسحبونا بلحانا، ويمنعونا من إقامة الإسلام، حتى من الصلاة في المساجد، وتعليم القرآن وعدم السماح بالخطب والمحاضرات.. إلى آخر ما يقولونه.
ومن جهة ثانية: أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر، فهل سيزول الضرر الذي بالمسلمين، بدخولكم في المجالس البرلمانية؟(1/129)
فإن قالوا: نعم، فهذا غير صحيح، وخذ مثالاً على ذلك، وهو: أن الرئيس/ أنور السادات في آخر حكمه اعتقل عشرات الآلاف من الإسلاميين، وكان يوجد في مجلس الشعب المصري كتلة برلمانية لهم، فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئًا، وكذلك في السودان عندما اعتقل النميري الإسلاميين، وكان من الإسلاميين مستشارون له في أعلى قمة السلطة، فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئًا، إذ أن أحوال المسلمين هي هي، ولم يحصل إلا زيادة شر في أماكن، وقلة شر في أماكن أخرى.
إذن هذا الأمر الأول يبطل الاحتجاج بأنها ضرورة، وذلك أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر، وهنا لم يحصل، وها هي ستون سنةً قد مضت على هذه الأقوال، ونحن نجد الأمور كل يوم تزداد سوءًا، حتى في سلوك القائلين بذلك.
والظاهر أن إخواننا سامحهم الله، وقفوا في عدة خنادق، فإن أُحيط بهم في خندق، صاحوا من آخر، فأول ذلك أنها شورى، ثم مصلحة مرسلة، ثم أخف الضررين، ثم ضرورة وإكراه.
فإن لم ينفع هذا كله، فالجواب منهم: ماذا تريدون أن نفعل؟! أنترك الأمور لأعداء الإسلام؟! واستطردوا من الأمثلة العقلية غير الصحيحة، وإلا فالعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ومن لم تنفعه الأدلة، ولم ينفعه واقع المسلمين في هذه المجالس النيابية منذ أكثر من نصف قرن، وهم ينحدرون فيها إلى الأسفل، فلا يبالي بالأدلة المذكورة هنا، إلا أن يشاء الله عز وجل، وإلى الله المشتكى.
وأما قولهم: "وإن لم نفعل فسيسحبونا بلحانا.." إلخ.
فجوابه:
من المعلوم أن الله جعل العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل، وقد يسلّط الله أهل الباطل على أهل الحق. فالواجب على أهل الحق الصبر، ولا يجوز لهم أن يسلكوا طرقًا غير مشروعة، من أجل مقاومة الأعداء.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 194-196) .
الشبهة(14) :قولهم: نحن ندخل "الانتخابات" ونرتكب أخف الضرريْن(1/130)
يقولون: نحن نشارك في "الانتخابات" وهي شرٌّ، ولكننا نرتكب أخف الضررين، لتحقيق مصلحة كبرى!
فنقول:
أخف الضررين عندكم المشاركة في المجالس النيابية. وإليك بيان هذا الضرر الخفيف عندهم:
سؤال 1: من الحاكم في مجلس النواب: الله أم البشر؟
الجواب: البشر.
سؤال 2: إذا كان حكم البشر هو السائد في المجالس النيابية، فهل هذا شرك أكبر أم أصغر؟
الجواب: شرك أكبر.
سؤال 3: ولماذا كان شركًا أكبر؟
الجواب: لأن حكم الله معطّل، وهناك من لم يقرّ بحاكمية الله عز وجل، وإنما الحكم للأغلبية.
وقد تقدم أن المجالس البرلمانية الحاكم فيها هو البشر، بل يُردّ حكم الله ويُعترض عليه، فهذا شرك أكبر بلا شك. وإذا كان شركًا تصادر فيه شريعة الله، فهل بقي ذنب أكبر من الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر الذي يقول الله تعالى فيه: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } النساء.
فلما كان الشرك - وهو أعظم الذنوب - لا يغفر الله لصاحبه إذا مات عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" قيل: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك..". الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.
فاتضح لنا أنهم في بعض الحالات قد يفعلون شركًا أكبر، وليس هو بأخف الضررين، وقد قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }. فهذا حكم الله فيمن والى اليهود والنصارى.(1/131)
وقال الله: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} النساء.
لم يقل سبحانه: ما عليكم من شيء، ولم يقل: إلا الأحزاب الإسلامية، فإن ذلك مشروع لهم.
ونقول لهم: هل سألوا العلماء عن الشر الذي ارتكبوه؟ وهل وضّحوا لهم حقيقة هذا العمل؟ أم أنهم يغالطون العلماء؟
إذن هذه القاعدة استعملت في غير محلها.
صحيح أنه يُرْتَكَب بعض الشر لتحقيق مصلحة كبرى، كما حصل أن الصحابة نظروا إلى عانة أولاد اليهود - يهود بني قريظة - من أجل أن يعرفوا من كان قد أنبت فيُقتَل ومن لم يُنبِت فلا يُقتل.. وما أشبه ذلك، لكن اتضح لنا أن القاعدة لم تطبق على حقيقتها.
وهذه مصيبة الأحزاب الإسلامية، أنهم يطبقون الأشياء على أهوائهم، فيُحْرَمُون من الاتِّباع، والتوفيق من الله.
ثم ما هي المصلحة الكبرى على حد زعمهم التي حققوها؟ فقد عرفنا الشر الذي وقعوا فيه، فنريد أن نعرف المصلحة؛ لأنهم قالوا: سيحققون مصلحة كبرى.
الجواب: أن الواقع من مدة ستين عاماً، يثبت لنا أنهم ما حققوا مصلحة كبرى للإسلام كما زعموا.
أما قولهم: إنهم دخلوا في "الانتخابات"، وارتكبوا أخف الضررين، من أجل أن يقيموا دولة الإسلام، ويحكموا بالشريعة الإسلامية، وذلك على حد زعمهم.
فهل تقام الشريعة مع أن المجتمع ليس عنده أهلية لذلك؟.(1/132)
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في قصة هرقل عندما أخبره أبو سفيان عن أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق عظيم بُصْرى، فلما قرأ هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - أي هرقل -: "يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي"؟. فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فدعاهم هرقل، وقالوا: "أنا أريد أن أعرف شدتكم على دينكم، فسجدوا له". الحديث في (الصحيحين).
والشاهد في الحديث أن هرقل مع كونه ملكًا، لم يستطع أن يرغم قومه على الدخول في الإسلام، باعتبار أنه ملك وبيده السلطة، وهكذا النجاشي أسلم، ونزلت فيه آيات، منها قوله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ..} المائدة. كما في (الصحيح المسند من أسباب النزول) لشيخنا / مقبل بن هادي الوادعي يحفظه الله، ولمّا مات ما وُجِد من يُصلي عليه، وإنما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجاشي ملك النصارى في الحبشة.
فليس من صعد على الكرسي أقام الإسلام ولا بد، هذه قضية فيها مجازفة وعدم فقهٍ للواقع.
فلا بد من إصلاح المجتمع قبل الوصول إلى الحكم، وقد قيل للأحزاب الإسلامية: تعلموا العلوم الشرعية، فما وُفِّقوا لهذا الخير.
وقيل لهم: علّموا الناس الدين، ولا تعلّموهم الأطماع، فما وُفِّقوا لهذا الخير.
لقد رأينا كثيراً من الإسلاميين عندما تمكنوا من بعض الوزارات، يلتزمون بالنظام والقانون الوضعي أشد من غيرهم، وإذا قيل لهم: هل أمر الله بهذا؟ قالوا: "هذا النظام" !.
فأين تغييركم للفساد الذي أرهقتم أسماع الناس به، واستترفتم به أموالهم، وصرفتموهم عما هو أنفع من الاعتصام بنشر السنة والتحذير من البدع ؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .(1/133)
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 196-200) .
الشبهة(15) : قولهم: أفتى بشرعية "الانتخابات" علماء أفاضل
…
قد يقول قائل: قد أفتى بشرعية "الانتخابات" علماء أفاضل من أهل السنة، وليسوا حزبيين، كمحدّث العصر فضيلة الشيخ الألباني، وسماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمهم الله، فهل ندخل هؤلاء فيما سبق؟.
الجواب :
كيف ندخلهم فيما سبق، وهؤلاء العلماء الأفاضل هم علماؤنا وقادتنا وقادة هذه الدعوة المباركة، وهم حماة الإسلام، وما تعلمنا إلا على أيديهم، ومعاذ الله أن يكونوا حزبيين، بل هم المحذّرون من الحزبية، وما سلمنا من الحزبية إلا بتوفيق الله ثم بنصائحهم، ونصائح أمثالهم كالشيخ الجليل المُحدِّث مقبل بن هادي الوادعي يحفظه الله تعالى. وكتبهم وأشرطتهم طافحة بالتحذير من الحزبيات.
فإذا كانوا يحرمون الحزبية، فليس لأصحاب الحزبية فيهم نصيب لتبرير ما يريدون أن يمضوه ويخدعوا به المسلمين، وبالذات الشباب المسلم، المتمسك بدينه، الراضي بالحق، السائر عليه.
وأما بالنسبة لفتوى هؤلاء العلماء فهي مقيدة بضوابط شرعية، ومنها: تحقيق المصلحة الكبرى، أو دفع المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى، مع بقية ضوابط هذه القاعدة، ولكن دعاة "الانتخابات" لم يراعوا هذه الضوابط.
تنبيه:
لماذا نرى الحزبيين لا يشيدون بفتاوى علمائهم الذين يفتون بشرعية "الانتخابات"، وإنما يشيدون بفتاوى علماء أهل السنة كالألباني وابن باز وابن عثيمين حفظهم الله؟(1/134)
الجواب: إن علماء السلطة والأحزاب في بلاد المسلمين أحرقتهم الحزبية، فإنها مرض فتّاك، فصار الناس غير مقتنعين بفتاواهم، لأنهم يعرفون أنهم يُلبّسون عليهم في مسائل من الدين، فرأوا أن يكون علماء السنة في واجهة هذه الحزبية، وهكذا من تلبيساتهم يستخدمون فتاوى علماء السنة لصالحهم، متى اضطروا إلى ذلك، ومتى استغنوا عنهم قالوا: هم جهّال لا يفقهون الواقع، وكالُوا لهم التهم.
وعلى سبيل المثال: عند أن أفتى الوالد/ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في قضية الصلح مع اليهود بشروط وضوابط، قامت قيامتهم، ولم تقعد، ومن يستطيع أن يسكتهم؟ ومن يستطيع أن يقنعهم؟ وصار كل واحد من هؤلاء يصدر الفتوى.. ولم يبق الأمر عند الكبار فقط. وكأن ابن باز رحمه الله رجل لا خبرة عنده، ولا علم عنده، بل صارت خطب الجمعة بهذا الصدد حنّانة رنّانة، والحمد لله أن علماء "السنة والجماعة" يحسنون الظن بالناس ويصبرون. والله يعلم المفسد من المصلح.
وأيضاً يلزمهم إذا كانوا يعتمدون على فتوى الألباني وابن باز وابن عثيمين أن يقبلوا فتاواهم في تحريم الحزبية، وتحريم الموالد، والذبح لغير الله، والتقليد لليهود والنصارى.. وما أشبه ذلك من المحرمات التي يفعلونها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شروط الأخذ بقاعدة: "ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى"
1- أن تكون المصلحة المرجوة حقيقية لا وهمية، فلا نرتكب المفسدة المحققة ، لجلب مصلحة وهمية، ولو كانت "النظم الديمقراطية" خادمة للإسلام وشريعته خدمة حقيقية، لنجحت في مصر أو الشام أو الجزائر أو الباكستان أو تركيا أو أي بلد في الدنيا من ستين عاماً.
2- أن تكن المصلحة المرجوة أكبر من المفسدة المرتكبة، بفهم العلماء الراسخين في العلم، لا بفهم المولعين بالحزبية أو الحركيين أو المنظرين للأحزاب.(1/135)
ومن عَلِم أن من مفاسد" الديمقراطية" الكثيرة: نسخ شريعة الإسلام، والاستغناء عن الرسل عليهم السلام، لأن الحلال والحرام يدرك بما تراه الأغلبية، لا بما تخبر به الرسل عليهم السلام.
ومن عَلِم أن من مفاسد "الديمقراطية": ضياع مبدأ الولاء والبراء من أجل الدين، وتمييع الوضوح العقائدي، لكسب القلوب، ومن ثَمّ الأصوات، ومن ثَم المقاعد البرلمانية، من عَلِم هذا؛ فما كان له أن يقول: إن دخول هذه المواضع أخف الضررين، بل العكس هو الصواب، ولو سلّمنا بالتساوي هنا، فدرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
3- ألا يكون هناك سبيل آخر لجلب هذه المصلحة، إلا بارتكاب هذه المفسدة؟.
وهنا لو قلنا: بذلك فقد حكمنا على نهج محمد × بأنه غير صالح لإقامة حكم الله في الأرض مرة أخرى.
أما أهل الحق فيعلمون أن سبيل "الديمقراطية والتعددية الحزبية" ما تزيد الأمة إلا وهناً، ولذا حرص عليها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، وقاموا بحراسة هذا الوثن طيلة هذا الوقت.. والله من ورائهم محيط.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 200-203) .
شبهات العلمانيين
الشبهة(1):قولهم: ( ليس في الإسلام نظام سياسي ) !
( يزعم الفكر العلماني أنه ليس في الإسلام نظام سياسي محدد ينبغي الالتزام به، وغاية ما هناك وجود بعض المبادئ العامة في مجال السياسة، ولست أعرف بالضبط متى ظهرت هذه المقولة، ولا أول من أشاعها على وجه التحديد، وإن كانت جذورها تمتد إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق؛ وذلك أنه قال عن نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس )
ذكر الأدلة على مجيء الإسلام بنظام سياسي :
لقد جاء الإسلام بنظام سياسي، وطلب من المسلمين الالتزام به دون ما سواه من الأنظمة السياسية، وعلى ذلك أدلة متعددة نوجزها فيما يلي:(1/136)
أولاً : النصوص الشرعية ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي محدد: جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ببيان نظام الحكم (النظام السياسي) الذي ينبغي إتباعه والالتزام به؛ فبينت غايته وطبيعته وشكله، وأصل السلطة فيه، ومصدر الإلزام به، وصفات القائمين عليه، وواجباتهم وحقوقهم، ومكانة الأمة فيه، إلى غير ذلك من الأمور التي جاءت بها النصوص الشرعية أو دلت عليها، كما أعطته مصطلحاته الخاصة به التي تميزه عن غيره بحيث لا يشبه في ذلك نظاماً بشرياً سبقه، ولا يشبهه نظام بشري جاء بعده، فهو في ذلك متميز عن السابق واللاحق.
والنظام السياسي في الإسلام أو نظام الحكم هو الخلافة، والقائم عليه هو الخليفة، وقد يسمى الإمام، والأمير، وأمير المؤمنين، ومن النصوص التي جاءت في ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه فهو يقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام ،وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] .(1/137)
فقوله تعالى {احْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ( بعد قوله ) إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً } ( دليل على أن المراد بالخليفة هو الحاكم الذي يحكم بين الناس، وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله"، وهذا يعني أيضاً أن المراد بالخليفة هو ولي الأمر أو الحاكم الذي يحكم بين الناس.
وقد ذكر ابن كثير أيضاً -في تفسير هذه الآية- أن الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين، سأل أبا زرعة أحد العلماء في زمانه قائلاً له: أيحاسب الخليفة؟ فرد عليه أبو زرعة وقال له: إن الله قد جمع لداود النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه وتلا عليه قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
وفي قوله: " إن الله جمع لداود النبوة والخلافة" تأييد لما ذكرناه من المراد بلفظ الخليفة في الآيات السابقة.
أما الأحاديث فجاءت منها طائفة كثيرة منها :
1- قوله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
ففي هذا الحديث أن سياسة أمر الناس كانت في بني إسرائيل مناطة بالأنبياء، وأما في شريعتنا فإن سياسة أمر الناس -بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - مناطة بالخليفة، إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أن النظام السياسي هو النظام الذي يكون على الخليفة، وهو الخلافة، والخليفة هو الذي يسوس أمر الناس على مقتضى الشرع، لأنه قائم في مقام الأنبياء والأنبياء يسوسون الدنيا بالدين.(1/138)
هذا وقد كثر في السنة استعمال لفظ (خليفة) للقائم على رأس الدولة الإسلامية.
2-قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث.
3-قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ".
4-قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ".
5-قوله صلى الله عليه وسلم : " يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده".
6-قوله صلى الله عليه وسلم :" ما بعث الله نبي ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان..." الحديث.
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا المعنى، وقد ورد أيضاً لفظ (إمام) ليدل على ما دل عليه لفظ (خليفة) فمن ذلك:
1-قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
2-وفي الحديث حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني وفيه "فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها... قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..." الحديث.
3-قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه".
4-قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته..." الحديث.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وبما تقدم يعلم أيضاً أن لفظ (خليفة) ليس مما استحدثه المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض الكاتبين.(1/139)
وإذا كانت تلك النصوص السابقة قد تناولت اسم القائم على ذلك النظام، فإن نصوصاً أخرى قد حددت اسم النظام وشكله، منها:
1-قوله صلى الله عليه وسلم : "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء".
2-قوله صلى الله عليه وسلم : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تبارك وتعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً..." الحديث، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
فهذه النصوص التي أوردناها -وهي قليل من كثير- تتحدث عن النظام السياسي في الإسلام، وتجعل له خصائصه المميزة، وتحدد له مفرداته ومصطلحاته الخاصة به؛ ليصبح لفظ (الخلافة) علماً على النظام السياسي في الإسلام، وإذا كان ذلك التحديد الذي ذكرناه إنما هو تحديد على مستوى (النظرية) فهيا بنا لننظر تحديد النظام السياسي على مستوى الواقع الفعلي.
ثانياً: الواقع الفعلي في عصر الرسالة، ودلالته على مجيء الإسلام بنظام سياسي بيِّن مفصل:
فنقول : من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أنه على إثر ظهور الدعوة الإسلامية تكوّن مجتمع جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره، يعترف بقانون واحد، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد، ويهدف إلى غايات مشتركة، وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين، والشعور العام بالتضامن، ومثل هذا المجتمع الذي تتوفر فيه تلك العناصر، هو الذي يوصف بأنه سياسي، أو هو الذي يقال عنه إنه دولة فإنه لا يوجد أي تعريف لها غير أن تجتمع هذه الصفات كلها التي ذكرنا في مجتمع ما.
وحينئذ نتوجه بالسؤال التالي: هل أقام الإسلام دولة؟ فسيقولون: نعم -وخاصة أن الذين نناقشهم هنا ممن يقولون بأن الإسلام دين ودولة، أو أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدولة-.(1/140)
فنقول ترتيباً على ذلك: وهل كان لهذه الدولة حاكم يحكمها ويسوس الناس؛ فيسير أمور الدولة الداخلية والخارجية، ويقيم الحق بين الناس، وينشر بينهم الأمن، ويقسم بينهم الأموال التي أفاءها الله عليهم، ويعاقب الخارجين عن الشرع؛ فيقيم الحدود ويجاهد الأعداء، ويراسل حكام الدول الأخرى، ويعقد معهم الصلح أو الهدنة، ويسير الجيوش ويعين لها قيادتها، ويرسل الأمراء من قبله إلى البلاد أو النواحي الخاضعة لدولته، وغير ذلك من الأمور التي يباشرها حكام الدولة؟ فسيقولون -ولابد- نعم.
فنقول: -إكمالاً لما سبق- ومن أول حاكم لهذه الدولة التي أقامها؟ فسيقولون: هو محمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فنقول: ومن الذي خلفه في حكمها؟ فسيقولون: أصحابه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، وهم الخلفاء الراشدون الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث، وهم أيضاً من المبشرين بالجنة.
وحينئذ نتقدم بهذا السؤال: هل بقيت هذه المبادئ -التي تزعمون أن الإسلام جاء بها ولم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته- على إجمالها أو إطلاقها -بغير بيان ولا تفصيل؟! أم أنها وجدت السبيل إلى التنفيذ في أرض الواقع فترجمت تلك المبادئ المجملة غير المفصلة عندكم إلى خطوات تفصيلية تنفيذية في واقع حي مشاهد؟! ولابد من أن يقولوا: نعم؛ لأنه لا بديل لتلك الإجابة إلا القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده تركوا هذه المبادئ التي جاء بها الإسلام ولم يلتزموا بها، وأتوا بالتفصيلات الخاصة بنظام حكمهم بعيداً أو مخالفاً لتلك المبادئ، وهذا ما لا يجرؤ -بحمد الله- أحد ممن ينتسب إلى الإسلام ولم يجهر بعلمانيته أو كفره على التصريح به.(1/141)
فإذا كان الجواب: نعم، وهو كذلك، فحينئذ نكمل السؤال السابق بالسؤال التالي: إذا كانت تلك المبادئ العامة، قد ترجمت إلى واقع حي مشاهد بما فيه من التفصيل والتحديد فما مدى حجة هذه الترجمة وإلزامها؟! أوليس عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده بهذه المبادئ يُمثل النظام السياسي الإسلامي الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، أليست هذه السنة العملية ملزمة لنا شرعاً معاشر المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً عن الله دينه؟.
ألم يبعث الله رسوله ليبين للناس ما نُزل إليهم من ربهم { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }[النحل:44]، وإذا كانت تلك المبادئ منزلة من عند الله، ألا يكون من واجب الرسول صلى الله عليه وسلم بيان هذه المبادئ بنص الآية السابقة ؟، وهل يمكن أن يكون هناك بيان أتم وأكمل وأوضح للمبادئ العامة من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! ثم نقول بعد ذلك: ألا يكفي هذا الوجه من الكلام في الرد على أولئك الذين زعموا كذباً وضلالاً وجهلاً وبهتاناً أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته.
ثالثاً : تصانيف العلماء في أحكام النظام السياسي ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي واضح:(1/142)
لقد صنف أهل العلم من المسلمين تصانيف كثيرة في النظام السياسي الإسلامي، يبدؤونها بتعريف (الخلافة) ثم ينطلقون من ذلك إلى الحديث عن أمور كثيرة جداً متعلقة بها مثل: الحديث عن شروط من يتولى الخلافة، وكيفية توليته، وواجباته تجاه الأمة، وحقوقه على الأمة، وعن مدة بقائه في منصبه، وعن موجبات عزله، وعن كيفية عزله، وصفات من يوليه، وصفات من يعزله، وكذلك تحدثوا عن مقاصد الخلافة والغاية منها، وعن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن حدود الطاعة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتعلقة بنظام الخلافة ، التي تزخر بها مصنفات أهل العلم ؛ وهي كثيرة مطبوعة بين أيدينا بحمد الله.
وهنا نسأل ونقول: هل الذين عرفوا (الخلافة) من أهل العلم، عرَّفوا شيئاً غير محدد لا وجود له ؟ وهل يمكن وضع تعريف لشيء هو في نفسه غير محدد؟! أم أن التعريف يوضع أصلاً لتمييز المعرَّف عن غيره وتحديده، بحيث لا يدخل تحته شيء هو ليس منه، ولا يخرج عنه شيء هو منه؟
ونقول أيضاً: هل يمكن أن يكون هذا الكلام الكثير في تلك التفريعات والتفصيلات التي ذكرنا طرفاً منها حديثاً عن شيء غير محدد أو لا وجود له؟! ثم نقول: وهل يمكن أن يقوم في فهم رجل عاقل أن يكتب كاتبٌ بمثل تلك الدقة والتفاصيل التي ذُكرت عن شيء هو عنده وفي فهمه غير محدد أو غير موجود؟!
والأسئلة ليست في حاجة إلى الجواب، فهي تجيب عن نفسها، والذي يتحصل لنا من الكلام في هذه الجزئية: أن كل العلماء الذين كتبوا عن الخلافة في الإسلام إنما كانوا يكتبون عن أمر محدد عندهم له وجود متميز، وله أحكام مفصلة تخصه، ومن هنا فإن القول بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط بمبادئ عامة في السياسة، هو قول محدث لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين ) .(1/143)
( يا للعجب! نظام سياسي متكامل يُكلف المسلمون بإقامته ويحاسبون عليه ويأثمون إن هم قصروا فيه، ثم لا تقدم لهم الشريعة التي نزلت تبياناً لكل شيء أية أحكام تفصيلية تتعلق به ؟! ألا ترون في مثل هذا التكليف أنه تكليف بما هو فوق الطاقة البشرية، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286] ؟! أيكون في وسع المسلم -مهما أوتي من علم- أن يقيم نظاماً سياسياً إسلامياً بكل تفاصيله انطلاقاً من القول بأن الإسلام قد أتى بالشورى والعدالة والحرية والمساواة ومسئولية الحاكم وكفى! وماذا تغني عنه مثل هذه الكلمات، وفي أي شيء تنفعه، وكيف يضمن المسلم أن التفصيلات التي وضعها تحت مبدأ (العدالة) مثلاً تفصيلات صحيحة مقبولة شرعًا ، إذا لم يكن عنده من شيئ إلا أن الإسلام قد جاء بمبدأ العدالة ؟ أو أن الإسلام قد أقر مبدأ العدالة أو نحو هذه الكلمات التي لا تسمن في هذا المجال ولا تغني ؟ وما المرجع الذي يرجع إليه المسلمون إذا اختلفوا في الأحكام التفصيلية التي تتدرج تحت مبدأ العدالة مثلاً، إذا لم تكن الشريعة قد أتت بالأدلة الدالة على هذه الأحكام؟! ومن الذي يحكم في هذه الحالة، بأن هذه التفصيلات صحيحة مقبولة شرعاً، وتلك باطلة مرفوضة شرعاً؟ وكيف يحكم؟ وعلى أي دليل يستند؟! إن مثل هذا القول ليس له من نتيجة سوى نشر الفوضى الفكرية بين المسلمين، وجعل النظام السياسي محكوماً بالمصالح العاجلة والعقول والإفهام القاصرة دون الاحتكام إلى الإسلام وشريعته؛ إذ هل يستطيع المرء أن يقوم بأداء الفريضة على وجه صحيح من غير خلل، إذا كانت تلك الفريضة غير محددة، وإنما جاءت على سبيل المبدأ فقط؟!(1/144)
وإذا كان من حجتكم على أن الإسلام ترك تحديد النظام السياسي فلم يأت بنظام محدد: أن الأنظمة السياسية دائماً تتطور، فهل كل التفاصيل المتعلقة بالنظام السياسي في الإسلام كبيرها وصغيرها متغيرة متبدلة متطورة، بحيث لا يكون فيها شيء ثابت على مر الأزمان حتى يمكن أن يُدَّعى أنه لا توجد -في التفاصيل- نصوص ملزمة على مر الأزمان ؟
ولو فرض أن التفاصيل كما ادعيتم لم تأت بها نصوص شرعية - وهو فرض غير صحيح- فهل فعلاً تركت الشريعة للمسلمين حرية الاختيار لتفاصيل النظام السياسي، ولم تضع على هذا الاختيار من قيود سوى: أن توائم تلك التفاصيل العصور المختلفة والظروف المختلفة، وأن الشريعة أحالت في التفاصيل على الخبرة والتجارب البشرية؟!
أقول: ولو فرض أن كل ما ذكرتموه في هذا المجال صحيح لوجب عليكم أن تغلقوا ملف (النظام السياسي في الإسلام) وأن تنفضوا أيديكم من الكتابة عنه، لأنه حسب دعواكم: أن الإسلام لم يتعرض للتفاصيل وإنما جاء بمبادئ عامة، وأن هذه المبادئ لا ينفرد بها المسلمون بل تقر بها جميع الأمم، وأن التفاصيل متروكة للمسلمين يضعونها حسب ما يرون فيه المصلحة، معتمدين في ذلك على الخبرة والتجارب البشرية، فإن كان ذلك صحيحاً فما معنى الحديث عن (النظام السياسي الإسلامي) وما علاقة الإسلام بذلك النظام القائم على ذلك التصور المتقدم؟!
إنني أرى أنه لا مفر أمام هؤلاء من أحد أمرين :
أ-إما الإصرار على تلك المزاعم -التي أبطلناها- وحينئذ فلابد لهؤلاء من أن يكفوا عن الحديث في (النظام السياسي في الإسلام) لأنه لا وجود له حقيقة في ظل تلك المزاعم، ولن يكون له وجود.
ب-وإما الإقرار حقاً بأنه يوجد نظام سياسي إسلامي محدد، له قواعده وتفصيلاته التي وردت في نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ فلابد لهم من أن يكفوا عن ترديد المزاعم الباطلة من مثل قولهم: إن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد وإنما أتى فقط ببعض المبادئ السياسية ).(1/145)
( ثم لا يمتنع بعد ذلك أن تُترك بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات لتحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع؛ أن تُترك مطلقة من غير تقييد للمسلمين بطريق عملي معين يجب على المسلمين -في كل عصر ومصر- سلوكه دون ما سواه؛ وذلك أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا تراد لذاتها، وإنما تراد لما يترتب عليها، فربما لو أُلزم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وعلى مدى الزمن بطريق علمي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسر عليهم ذلك ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير ، والله تبارك وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فهذا الوجه جائز حدوثه، ولا محذور فيه شرعاً، كما أنه لا مناقضة فيه لما أسلفنا من القول بأن النظام السياسي في الإسلام نظام محدد وليس مجرد مبادئ.
ولا يمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات أو الوسائل لتنفيذ أو تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان على سبيل الإرشاد والتوجيه وليس على سبيل إلزام المسلمين به دون ما سواه من الوسائل الأخرى التي تحقق المقصود نفسه بدون مخالفات شرعية.
ولا يمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان الكيفية أو الوسيلة التي ينبغي اتباعها في تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان على سبيل الإلزام؛ بحيث يجب على المسلمين سلوك ذاك الطريق واتباع تلك الوسيلة، ويحرم عليهم مخالفتها واتباع غيرها ) .
مناقشة القول بعدم وجود نظام سياسي للإسلام :(1/146)
( 1-إن هذا القول يصب في اتجاه الكارهين للنظام السياسي الإسلامي، وتفصيل ذلك أنه متى قيل بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي، وأنه لم يعتن ببيان أحكام تفصيلات النظام السياسي أو جزئياته، وأن كل ما جاء فيه في هذا الصدد لم يزد عن كونه تقريراً لبعض المبادئ السياسية، فإنه يمكن -لاسيما مع المخادعة- تمرير النظم السياسية العلمانية تحت زعم تحقيق تلك المبادئ والمحافظة عليها، أو على الأقل عدم مخالفتها، لاسيما أن المبادئ المجردة تختلف وجهات النظر في تفصيلاتها اختلافاً حاداً، يصل إلى حد التناقض، وذلك أنه في تلك الحالة ليس هناك مرجع أعلى يمكن الرجوع إليه لمعرفة حقيقة تلك المبادئ وتفاصيلها.
فهذه شعارات الحرية، والعدالة، والمساواة، وأمثال تلك الشعارات ترفعها الدول جميعها: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويُنص عليها في دساتيرها وقوانينها، ومع ذلك فبينها من الخلاف في الفهم والتطبيق ما بين المشرق والمغرب من البعد وعدم اللقاء.
وإننا لنرى الآن تحت شعار "مبدأ الشورى" المحاولات العديدة لإدخال النظام البرلماني الغربي وإضافته إلى الإسلام، بأصوله العقدية وتفصيلاته التطبيقية كلها: من مثل القول بأن "السيادة للشعب" وأن "الأمة مصدر السلطات"، وذلك على أنه تطبيق مفصل للشورى التي جاء بها القرآن - زعموا- على سبيل المبدأ !!
وتحت شعار "مبدأ الحرية" يجري التشكيك في فريضة الجهاد، وفي قتل المرتد، وفي محاربة المرتدين؛ لأن هذه الأمور -بزعمهم- تخالف مبدأ الحرية.
وتحت شعار "مبدأ المساواة" يصار إلى القول بأن الكفار والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم ساكني دولة المسلمين، لهم الحق في المشاركة في الحياة السياسية من حيث تولي الوظائف العامة التي يكون لهم فيها قيادة واستطالة على المسلمين، ويؤخذ برأيهم -كالمسلمين تماماً- في اختيار الحكام في الدولة الإسلامية.(1/147)
وتحت شعار المبدأ نفسه يتم إخراج المرأة من بيتها لتكون عضواً بمجلس الشورى، أو لتتولى منصباً وزارياً، بل ويجعلون لها الحق أيضاً في أن تتولى رئاسة الدولة في بلاد المسلمين.
وهكذا تحت مظلة المبادئ التي يدَّعون، يُهدم النظام السياسي، بل يُهدم الإسلام كله، وذلك قرة عين العلمانيين، لا أقر الله عيونهم ).
( 2- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو في نفسه قول متناقض وغير مستقر. وذلك أن هذا القول لابد أن ينتهي إلى أحد قولين:
أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له بالسياسية أصلاً كما يقوله العلمانيون المجاهرون.
ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة. وبيان ذلك يتضح من خلال كلامنا التالي:
إن المبادئ التي يذكرها هؤلاء "العدالة، الحرية، المساواة، الإخاء" إلى غير ذلك، تقر بها جميع الأمم، وتدعيها كل الدول، فما من دولة على وجه الأرض إلا وهي تدَّعي الالتزام بتلك المبادئ -وإن كانت كل دولة تقدم مفهومها الخاص بها لتلك المبادئ كما ذكرنا ذلك من قبل- ففي أي شيء يفترق الإسلام في هذا المجال في تصوركم عن تلك الأمم، إن كان كل ما جاء به فيه تقرّ به وتدعيه أيضاً دول الكفر ؟
وما مرادكم بأن الإسلام أتى بمبادئ عامة ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات؟
هل تريدون بذلك: أن الإسلام أتى بهذه المبادئ مجملة، وأرشد إليها وطلب العلم بها، ثم لم يجعل للمسلمين طريقاً إلى معرفة ما يتعلق بها من تفصيلات إلا ما تهديه إليه عقولهم، أو ما يقلدون فيه غيرهم من أمم الكفر؟(1/148)
إذا كنتم تقصدون ذلك فانزعوا عن هذه المبادئ وما تعلق بها من تفصيلات الصفة "الإسلامية" لأنه إذا كانت المبادئ مشتركة بين جميع الأمم، وكلهم يقر بها، وكانت تفصيلات تلك المبادئ هي من ثمرات العقول أو تقليد الكفار، فلا معنى لأن تعلق عليها لافتة "الإسلام" إذ لا تصدق نسبة هذا النظام -مبادئ وتفصيلات- إلى الإسلام، إلا كما تصدق نسبته بالدرجة نفسها إلى غير الإسلام، بل نسبته إلى غير الإسلام أكثر؛ لأن الإسلام وإن اشتراك مع الأنظمة غير الإسلامية في المبادئ فإن الأخيرة زادت عليه-زعموا- ببيان التفصيلات، وحينئذ تكون النسبة إلى غير الإسلام أصدق وأدق !!
بل مضمون هذا الكلام -بلا أدنى ارتياب- هو أن الإسلام لا تعلق له بالسياسة أصلاً.
ومن هنا يتبين أن صفة "الإسلامية" التي يريدون سحبها على تلك الأنظمة المستقدمة والمجلوبة من بلاد الكفر، بزعم محافظتها على تلك المبادئ أمر باطل وغير صحيح.
وإن كنتم تريدون بذلك القول أن الإسلام وإن لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات، لكن حكم هذه التفاصيل والجزئيات التي لم ينص عليها صراحة، يمكن أن يستنبط من هذه المبادئ العامة بطرق الاستنباط المعروفة والمدونة في كتب أصول الفقه، فإننا نقول لكم: إن كان هذا مرادكم فقد أحسنتم من هذا الوجه، ولكنكم أسأتم من أوجه أُخر:
أما الإحسان: فمن حيث ذكركم أن التفاصيل والجزئيات حكمها موجود في أدلة الشريعة، ويمكن استخراجها واستنباطها بطرق الاستنباط المعروفة في كتب أصول الفقه، وبالتالي تكون النصوص الشرعية وافية بجميع الأحكام التي يحتاج إليها المسلمون في نظامهم السياسي -أو غيره- سواء ذكرت تلك الأحكام بطريق النص عليها مباشرة، أو ذكرت بطريق الاستنباط من المنصوص عليه.
وأما الخطأ والإساءة فمن حيث:
1- إطلاق العبارات والألفاظ من غير ضبط لها أو تدقيق فيها، مما يجعلها موافقة لفكر من يحارب الله ورسوله والمؤمنين.(1/149)
2- القول بأن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لأحكام التفاصيل والجزئيات المتعلقة بالنظام السياسي، وهذا محض الخطأ، وسوف نورد -إن شاء الله- كثيراً من الإحكام المتعلقة بالتفاصيل والجزئيات التي جاءت عن طريق النص الواضح عليها.
3- وحتى لو سلمنا -جدلاً- بعدم وجود النص الصريح على أحكام تتعلق بالتفاصيل والجزئيات، فما دمتم قد أقررتم بأن تلك التفاصيل والجزئيات يجري استفادة أحكامها والحصول عليها باستنباطها من تلك المبادئ العامة، فلا يجوز إذاً إطلاق القول بعدم التعرض للتفاصيل والجزئيات؛ إذ كيف يكون ذلك وأنتم تقرون بأن أحكام هذه التفاصيل والجزئيات قد أخذت من المبادئ العامة؟!
وإذا أقررتم بأن في الإسلام مبادئ عامة تتعلق بالنظام السياسي، وأن أحكام التفاصيل والجزئيات لهذا النظام -وإن لم يأت النص عليها صريحاً- إلا أنه يجري أخذها واستفادتها من تلك المبادئ العامة بطرق الاستنباط المتعارف عليها، كان معنى هذا أن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة حسب ما جاءت به الأدلة الشرعية.
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، فالآن لا مفر لكم من أحد أمرين:
أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له أصلاً بالسياسة والحكم، وهذه علمانية وردة سافرة معلنة عن نفسها بغير مواربة من قائلها.
ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد، له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة التي جاءت بها الشريعة.
ولا يوجد بعد هذا خيار ثالث، وحينئذ تصبح هذه المرحلة المذبذبة -لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- التي زعموا فيها أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط ببعض المبادئ العامة، مثل الشورى والعدالة والحرية والمساواة، من غير تعرض للأحكام التفصيلية ؛ تصبح مجرد لغو من القول لا قيمة له؛ لأنه لابد أن ينتهي إلى أحد الأمرين السابق ذكرهما.
3- القول بالمبادئ دون التفصيلات رمي للشريعة بالقصور.(1/150)
إن القول بوجود مبادئ عامة ولكن بدون أحكام تفصيلية يعني عدم إحاطة الشريعة بالإحكام التفصيلية المتعلقة بأمر مهم من أمور المسلمين، وهذا رمي للشريعة بالقصور وعدم الكمال، وهذا يعني أيضاً أن علاقة الإسلام بالحكم والسياسة -إن كان له علاقة- هي علاقة هامشية لا قيمة لها؛ إذ غيره من الأنظمة الوضعية أكثر شمولاً منه وأوفى بياناً؛ إذ لم يقتصر على المبادئ، كما اقتصر الإسلام -كما زعموا- وإنما أتى بالتفصيلات والجزئيات المطلوبة، وهذا القول يعني أيضاً أن عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية شمولها لكل ما يحتاج إليه المرسل إليهم في أصول دينهم وفروعه، عموم ناقص، إذ يخرج منه ما يخص النظام السياسي، ومن المعلوم الذي لا خلاف عليه أن رسالة الرسول عامة ويشمل عمومها أمرين:
أ- عموم من ناحية المرسل إليهم، فهو مرسل لكل أحد من الجن والإنس على اختلاف طبقاتهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم منذ أن أرسله الله تبارك وتعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا العموم يشمل في طياته عمومين: عموم الزمان، وعموم المكان، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل لكل أحد في كل زمان ومكان.
ب- عموم من ناحية المرسل به، فإن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم شاملة لكل ما يحتاج إليه المرسل إليهم في أصول دينهم وفروعه في كل زمان ومكان.
فليس هناك شيء يحتاج إليه المسلمون في أمور دينهم، إلا وقد أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه لهم أوضح بيان وأكمله وأتمه، وليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها، وليس هناك فعل للمكلف إلا وله في الشريعة حكم يخصه.
وعلى ذلك فإن القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات أو الأحكام المفصلة يناقض عموم الرسالة ويناقض كمالها.
4- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو قول هادم للمبدأ نفسه:(1/151)
وذلك أن القول بمجيء المبادئ مجردة دون أن يصحبها نصوص أو أدلة تبين المبدأ، يجعل المبدأ قابلاً للتحوير والتبديل، ويجعله عرضه لأهواء الناس، واختلاف رغباتهم، في الوقت الذي لا يكون فيه ميزان توزن به أقوال الناس في فهمهم للمبدأ، ومن ثمَّ يتغير مضمون المبدأ ويتلون على حسب رغبة المتكلمين به أو فهمهم له، وهذا يؤدي في حقيقة الأمر إلى هدم المبدأ نفسه؛ إذ يصبح المبدأ في هذا الحالة مجرد كلمة خالية حقيقةً من مضمون ثابت يمكن الرجوع إليه، بل ربما انقلب المبدأ الذي ظاهره الخير والرحمة والعدل، إلى أداة ظلم وتجبر وطغيان -وهذا حادث فعلاً- إذ في ظل غياب التفصيلات المبينة للمبدأ، يمكن لمن بيده السلطة أن يضع من عنده تفصيلات لذلك المبدأ الجميل في ظاهره، بينما تكون هذه التفصيلات في حقيقتها ظالمة جائرة، بل ومناقضة لحقيقة المبدأ، فيظهر المعارض غير القابل لتلك التفصيلات الجائرة الظالمة -في هذه الحالة- وكأنه معارض أو مناوئ للمبدأ الجميل الذي أقر به الناس وقبلوه، ومن ثمَّ يتعرض للظلم، ويتهم بأنه خارج على النظام مخالف للجماعة، ويتعرض لأنواع الأذى والعقوبات.
ومن أراد أن يعرف اختلاف الناس في فهمهم للمبادئ المجردة، فلينظر إلى دول العالم التي تقر كلها بمبادئ: العدالة، الحرية، المساواة، ولينظر إلى الاختلاف الحاصل بينها في فهم المبادئ وما ينتج عنه من تطبيقات تصل درجة التباين فيها إلى حد التناقض المطلق ).
ادعاؤهم أن الواقع يُصدق قولهم !(1/152)
( تعتمد هذه الشبهة على ما يدّعونه من شهادة الواقع بعدم وجود هذا النظام؛ إذ يرى أصحابه أن الشريعة لم تحدد مثلاً مدة ولاية الحاكم، ولا كيفية عزله، ولا نوع الحكومة، ولا كيفية الفصل بين السلطات، ولا الطريقة التي تتبع في تطبيق الشورى، ولا الأمور التي يجب أو يجوز أن تكون محلاً للشورى، ولا الطريقة التي يتولى بها الحاكم السلطة، إلى غير ذلك من الأمور التي يذكرونها في هذا الصدد، وانطلاقاً من كل ما تقدم يرى أصحاب هذه الشبهة أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي محدد واجب الإتباع.
وهذه الشبهة مردود عليها من عدة أوجه:
أولاً: أن يقال: إن بعض ما ذُكر أن النصوص لم تبينه أو لم تحدده، إنما هو خطأ من قائله وتقوّل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإن النصوص الشرعية قد بينت كل ذلك -كما سنفصله في موضعه إن شاء الله-.
وقد يكون السبب في ما زعمه هؤلاء: أنهم لا يفهمون كيفية دلالة النصوص الشرعية على الأحكام التفصيلية أو الفرعية المستفادة منها.
لقد بينت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة جميع الأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي، ولكن كثيراً من الناس -خاصة من لم يتمرس في دراسة العلوم الشرعية- لا يعلمون ولا يدرون كيفية دلالة النصوص الشرعية على الأحكام المستفادة منها، ولو درس هؤلاء -دراسة صحيحة- ما كتبه علماء أصول الفقه في كيفية دلالة الأدلة الشرعية على ما تتضمنه من أحكام، لهداهم ذلك بمشيئة الله إلى الحق إن صدقوا في طلبه.(1/153)
(1-من الأمور أو المسائل التي تعتني بها الأنظمة السياسية، والتي تنص عليها نصاً صريحاً واضحاً نظراً لما لها من أهمية خاصة مسألة "تحديد صاحب السيادة" أي صاحب الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة، بحيث لا تكون هناك كلمة لأحد أعلى من كلمته، أو حتى مساوية لها في كل ما يخص أمر الدولة والمجتمع، ومن الأمر البين الذي لا يحتاج إلى كبير عناء في التدليل أن النصوص الشرعية قد تكلمت بتفصيل شديد عن صاحب السيادة -وإن لم تستعمل المصطلح نفسه- في مواضع عدة، وفي مناسبات مختلفة، فقد بينت النصوص الشرعية أن "السيد هو الله تبارك وتعالى" وأن الكلمة العليا إنما هي لله العلي الكبير المتضمنة للشرع المنزل من عند الله تبارك وتعالى سواء ما جاء في كتاب الله تعالى، أو ما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكون الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة هي لله الواحد القهار، ليست مجرد حكم فقهي، بل هي جزء من عقيدة المسلم، ومن النصوص الواردة في ذلك قوله تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] وحكمه تعالى إنما يعرف من كلامه الذي أوحاه إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم سواء كان الموحى به قرآنا أو سنة، ومنها قوله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] وقوله تعالى{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [يوسف:67] وقوله تعالى: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26] وقوله تعالى: { وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:70] وقوله تعالى: { لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] وقوله تعالى: {(1/154)
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }[الرعد:41] وقوله تعالى: { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [التوبة:40] .
ومن النصوص التي جاءت في حق السنة قوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 ،4] وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء:80].
2-ومن الأمور المتعلقة بالنظام السياسي وجاء الحكم فيها مفصلاً مسألة اعتقاد أو ديانة ولي أمر المسلمين، فقد بينت النصوص أن الحاكم أو ولي الأمر في النظام السياسي في الإسلام لابد أن يكون من المسلمين قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ....} الآية [النساء:59] فالمخاطبون في الآية هم "المؤمنون" وأولو الأمر المطلوب طاعتهم مقيدون بلفظ "منكم" يعني من المؤمنين.
3-ومن الأحكام الجزئية المفصلة التي دلت عليها أدلة الشريعة، الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يتولى أمر المسلمين، ومن تلك الشروط:
أ- البلوغ والعقل.
ب- العدالة: وهو أمر اشترطه الله بتارك وتعالى في الشهود فقال: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } [الطلاق:2].
ج- الرجولة: ومن ذلك أن يكون الإمام رجلاً لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء:34] فإذا كان الله تبارك وتعالى لم يجعل للمرأة القوامة على زوجها وهو فرد واحد، فكيف يمكن أن يُجعل لها القوامة على الأمة كلها؟! ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
د- القرشية: ومن تلك الشروط أن يكون قرشي النسب لقوله صلى الله عليه وسلم : "الأئمة من قريش". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان".(1/155)
4- ومن تلك الأحكام التفصيلية: واحدية الأمة وواحدية القيادة العليا، فالأمة مهما تعددت أجناسها، واختلف لغاتها، وتناءت ديارها، وتتابعت أجيالها، هي أمة واحدة يربط بين جميع أفرادها رابط العبودية الحقة لله رب العالمين، قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
5-ومن الأحكام التفصيلية: منع طلب المرء الإمارة لنفسه، وقد دلَّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه".
6-ومن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها النصوص: أحكام طاعة أولي الأمر، فقد أوجبت النصوص الشرعية المتكاثرة على الرعية طاعة ولاة أمورهم، وحرَّمت الخروج عليهم أو معصيتهم، ولكن طاعة أولي الأمر ليست طاعة مطلقة، وإنما هي طاعة مقيدة، مقيدة بإتباع أولي الأمر للكتاب والسنة.
7-ومن الأحكام التفصيلية: بيان المرجع الذي يُرجع إليه، ويكون حكماً لحل النزاع الذي قد ينشب -في بعض الأحيان- بين فرد أو طائفة من الأمة وبين أولي الأمر، وبيان أن هذا المرجع إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو رأي الأغلبية وما تهواه، كما أنه ليس رأي الحاكم وما يهواه، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد مماته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(1/156)
8-ومن الأحكام التفصيلية: وجوب نصب الإمام الذي يشمل بعنايته ورعايته أمة المسلمين، ويقيم لهم دينهم؛ فيحرسه من الزيادة فيه أو النقصان منه، ويسوس دنياهم بدينهم، محققاً المصالح المشروعة، التي بها فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وقد دلَّ على وجوب نصب الإمام أدلة كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" والمراد بالبيعة هنا بيعة الإمام الذي يكون على الناس.
9-ومن الأحكام التفصيلية: بيان النصوص الشرعية لمدة ولاية الخليفة، فقد دلت النصوص الشرعية على أن ولاية الخليفة غير مقيدة بمدة زمنية، وأن بقاء الخليفة في منصبه مرهون بدوام صلاحيته لهذا المنصب الرفيع، وقدرته على القيام بأعبائه اعتماداً على كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمتى كان الخليفة على النحو الذي وصفنا؛ فإنه لا يخرج عن الولاية ولا تنزع منه، ولا يملك المسلمون أن يخرجوه عنها -لو أرادوا ذلك- بغير سبب اعتمده الشرع مخرجاً عن الولاية، ولو فعلوا ذلك لكانوا بفعلهم هذا من العاصين الخارجين على الإمام الذي ثبتت بيعته، ووجبت طاعته، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخذ من البيعة على المسلمين"... وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له"، فترك السمع والطاعة ومنازعة ولاة الأمور لا تجوز إلا ببرهان دلّ عليه الشرع.
10-ومن الأحكام التفصيلية: بيان مكانة أهل الذمة في النظام السياسي الإسلامي.
11-ومن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها النصوص أيضاً، بيان حقوق الخليفة على الرعية إذا قام بواجبه، وهذه الحقوق تتمثل في:
أ-السمع والطاعة.
ب-النصرة.
والأدلة على ذلك كثيرة منها :(1/157)
قول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...} الآية [النساء:9].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وجملة القول في ذلك أن جميع الأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي، قد دلت عليها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بأنواع الدلالات المختلفة -علم ذلك من علم وجهل ذلك من جهله- فما من حكم من أحكام هذا النظام الذي طُولب به المسلمون إلا وفي كتاب الله أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان له وإرشاد إليه ودلالة عليه، ولا توجد مسألة من مسائل هذا النظام ولا غيره مما كُلف به المسلمون، خالية من الحكم الشرعي الذي يتناولها ).
( وإن بعض ما زعمتم أن النصوص لم تبين أو لم تفصل أحكامه، إنما هو من قبيل الطرق العملية أو الإجراءات التنفيذية، وقد بينا قبلُ أن مثل هذه الأمور لا يلزم مجيء النص أو الدلالة عليها بعينها ).
( المرجع : رسالة " تحطيم الصنم العلماني " للأستاذ محمد شاكر الشريف ) .
الشبهة(2): احتجاجهم بحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم " .
( تعتمد هذه الشبهة على الاستدلال الخاطئ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" إذ قد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المسلمين هم أعلم بأمور دنياهم، وبالتالي فإن الشريعة لا تتدخل في تحديد الأمور الدنيوية التي هم بها عالمون، ولما كان النظام السياسي -عند هؤلاء أمراً دنيوياً وليس أمراً دينياً- فإنه يمتنع أن تتدخل الشريعة في تحديده أو المجيء بتفصيل أحكامه !!
ولكي نبين ما في هذه الشبهة من التلبيس والضلال نقول:(1/158)
أما الحديث فصحيح قد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل".
وفي رواية عن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبِرون النخل، يقولون يُلقِّحون النخل، فقال: "ما تصنعون" ؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
وفي رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلُح" قال: فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
فالعلمانيون ومن تبعهم أو تابعهم -وإن كان لكل منهم باعث مختلف عن الآخر- يريدون التوصل من خلال الفهم المحرف لهذا الحديث، إلى أن كل ما جاء في النصوص الشرعية متعلقاً بأمر من أمور الدنيا على جهة الأمر أو النهي أو غير ذلك، فإن تلك النصوص تصبح كأن لم تكن، وتدار أو يتم التعامل مع تلك الأمور الدنيوية من قبل الرأي البشري القائم على المصلحة أو التجربة على أساس أنها مسألة دنيوية، لا دخل للشرع فيها.(1/159)
وهم بعد تقريرهم لتلك القاعدة الفاسدة، إذا أعياهم تأويل أو تحريف أي نص يتعلق بمسألة لهم فيها رأي مناقض للشرع، إذا أعياهم ذلك، قالوا: هذه من مسائل الدنيا وأمورها، وبالتالي فنحن أحق بها، ولا دخل للشريعة فيها! ومن تلك المسائل التي تعاملوا معها بتلك القاعدة الفاسدة : النظام السياسي فإنهم يقولون: هو من مسائل الدنيا التي نحن أعلم بها، وأحق بإبداء الرأي فيها.
والرد على هذه الشبهة من أربعة وجوه :
الوجه الأول : أن يقال: إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه، مرفوض غير مقبول، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".
وقال أيضاً في شرح هذه الأحاديث: "قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم ".
فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في "أمر الدنيا ومعايشها" ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث، فقد قيد العلماء "أمر الدنيا ومعايشها" بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله "على سبيل الرأي" أي أنه قاله "لا على سبيل التشريع" وهذا التقييد يعني أمرين:(1/160)
الأول : أن الأمور التي يقال فيها : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السنة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط.
الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية -ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضاً أمران:
أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل -رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر أمور المعايش الدنيوية- وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم رضي الله عنهم يتعاملون مع أقواله صلى الله عليه وسلم -ولو كانت في أمور المعايش- على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع.
ب- طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا، بأنها التي جاءت "على سبيل الرأي" أو "لا على سبيل التشريع" وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها.
الوجه الثاني : أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقاً من كل قيد، حتى يقال: إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقاً من القيود وهو من أمور الدنيا فإن الشرع يترك -في هذه الحالة- ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا.(1/161)
فالرسول صلى الله عليه وسلم-كما هو بُيِّن في الحديث- لم يأمرهم أمراً مطلقاً، أو لم ينههم نهياً مطلقاً -أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع- وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة رضي الله عنهم قد غلبوا جانب التشريع. فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" وجاء "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً"، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة رضي الله عنهم جانب التشريع في ذلك، بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه، ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: "فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن" وقال: "إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"، وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا، لا يعول عليها، ولا يرجع إليها، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها.(1/162)
الوجه الثالث : أن يقال إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين -أو إلى غيرهم- يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي.
وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للوصول إلى إخراج النظام السياسي من الدخول تحت ولاية الشرع.
وأما الأدلة على تعلق الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً بأمور الدنيا، فأشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر في هذا الكتاب، لذلك نشير إلى جمل من ذلك فقط، فعلى سبيل المثال:
- عيادة المريض، هو أمر اجتماعي يمس علاقات التواصل والألفة بين الناس، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً وتحريضاً: منه قوله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض"، ومنه قول البراء بن عازب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع.. الحديث وفيه "وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض ونُفشي السلام".(1/163)
- وعلى سبيل المثال: الطب والدواء، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي، وانظر في ذلك كتاب "الطب" أو كتاب "المرضى" في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة، وعلى سبيل المثال فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي" ففي هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأدوية النافعة في العلاج، ثم ينهي عن بعضها، وهذه الأمور هي من الأمور الدنيوية، ولكن مع ذلك قد تعلق بها الخطاب الشرعي . حتى إنه عندما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم باستعمال العسل شفاءً من داء استطلاق البطن، وأخذ المريض الدواء، فازداد بطنه استطلاقاً، ورجع الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما قال في حديث تأبير النخل :"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وإنما قال لمخبره: اسقه عسلاً، فسقاه فازداد استطلاقاً، فرجع إليه وقال: لقد ازداد بطنه استطلاقاً، فقال صلى الله عليه وسلم -مصراً على مقالته الأولى- اسقه عسلاً، فسقاه فجاءه الرجل المخبر- وكان أخاً للمريض- وأخبره بعدم الشفاء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم- مؤكداً على مقالته الأولى ومحتجاً لها- "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ" والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطب ومسلم وغيرهما .
يقول ابن تيمية رحمه الله: "التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي.. والتحقيق أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب".(1/164)
وعلى سبيل المثال أيضاً: اللباس والزينة، ما يلبس المرء ومالا يلبس وتفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل، ومن أراد التفاصيل فليطلع في كتب السنة على أحاديث كثيرة مجموعة تحت اسم "كتاب اللباس والزينة".
وعلى سبيل المثال أيضاً: كراء الأرض الزراعية بتفاصيلها المختلفة سواء كانت الأرض مشجرة أو غير مشجرة، وسواء كان الإيجار بمال، أو بغلة جزء معين من الأرض وغير ذلك من التفاصيل قد تناولها أيضاً الخطاب الشرعي، ولينظر الناظر في تفاصيل ذلك في كتاب المساقاة والمزارعة وكراء الأرض في كتب السنة وكل هذا من الأمور الدنيوية.
وعلى سبيل المثال أيضاً مسائل البيع والشراء، والربح والدين، والرهن، وما يتعلق بذلك من التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع المقام للحديث عنها تعلق بها الخطاب الشرعي مع أنها من أمور الدنيا.
فكل ما ذكرناه، وما لم نذكره من هذه الأمور، هو من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً وتفصيلاً وبياناً، ولو صدق كلامهم في فهم الحديث "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لانطبق كلامهم ذاك على ما تقدم ذكره من الأمثلة، ولأدى هذا إلى إخراج كثير من الأمور من الخضوع للأحكام الشرعية، ولأدى ذلك أيضاً إلى هدم الدين وتبديل أحكام الشريعة ؛وهو أمر باطل باتفاق أهل العلم، وما استلزم الباطل فهو باطل فيكون فهمهم للحديث باطلاً.(1/165)
ومن كل ما تقدم يتبين أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لا يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن المسائل المتعلقة بالنظام السياسي هي من الأمور المتروكة للبشر، وذلك لأن النظام السياسي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة وخاصة تبين وتفصل الأحكام المتعلقة به.
الوجه الرابع : أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين "أمر الدنيا" الموكول للبشر وبين "أمر الدين" الموكول إلى الشريعة؟ حيث إنكم لم تقدموا ضابطاً صحيحاً تفرقون به بين "أمر الدنيا" و"أمر الدين" فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم: هذا من أمر الدنيا، وذاك من أمر الدين بنص شرعي، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديماً ولا حديثاً، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة، وقُصر تدخلها أو قُصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم، أصبحت "أمور الدين" -عندهم- محصورة في علاقة الفرد بربه، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه.
كما أصبحت "أمور الدنيا" تعني -عندهم- كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين.(1/166)
وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة "أمور الدنيا"، ودائرة "أمور الدين"، وترتب على ذلك أن الدين -عندهم- أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته.
بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به.
ومن المعلوم البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به.
إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها، هو أمر مأخوذ أصلاً من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين ).
( المرجع : رسالة "تحطيم الصنم العلماني " للأستاذ محمد شاكر الشريف ) .
الشبهة (3) : قولهم : الإسلام ديانة روحية !(1/167)
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال : لا يخفى أن في القرآن أحكاماً كثيرة ليست من العبادات ولا من الأخلاق المجردة ؛كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً، بل في القرآن آيات حربية ... الخ هذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يدين ديناً آخر سماه الإسلام.
ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين :
* إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وكفر هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين.
* وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، وينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما تكاد السماوات تنفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً!، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرِّع جل في علاه، وكفر من يجتريء على ذلك معلوم بالضرورة من الدين.
وهؤلاء بهذا المسلك يجعلون الإنسان نداً لله الذي خلقه، بل هم -بهذا- يعلون كلمة الإنسان على كلمة الله جل جلاله، ويمنحونه من السلطة والاختصاص ما يحجرون مثله على الله جل في علاه، وبهذا يصبح الإنسان "رباً" فوق الرب يحكم بما يريد، ويقضي بما يشاء!!
لقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه ، فكيف بهؤلاء وهم يردون على الله كافة شرائعه وأحكامه ويتهمونها بالقصور والجمود وانعدام الصلاحية؟! ترى هل يبقى مع هذا المسلك أدنى مثقال ذرة من إيمان.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: ( والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.(1/168)
فمن زعم أنه دين عبادة فقط أنكر هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
ويقول الشيخ محمد الخضر حسين في معرض رده على هؤلاء: (وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً... بل في القرآن آيات حربية وهذا يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام ) إلى أن يقول: (فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين).
ويقول الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية: (إن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه، ولقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة للخروج عليه، لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد، فهو ثورة حكومية على دين الشعب -في حين أن العادة أن تكون الثورات من الشعب على الحكومة- وشق عصا الطاعة منها "أي من الحكومة" لأحكام الإسلام بل ارتداد عنه من الحكومة أولاً ومن الأمة ثانياً، وهو أقصر طريق إلى الكفر).(1/169)
ويذكر الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي بمكة المكرمة، يذكر من مراحل الدعوة إلى الله: (التصدي لدعوى "فصل الدين عن الدولة" أو " عن السياسة"، بإبطالها، والبيان للناس جهاراً بأن السياسة عصب الدين، ولا يمكن له القيام والانتشار وحفظ بيضته إلا بقوة تدين به، وإن هذه الدعوة الآثمة "فصل الدين عن السياسة" في حقيقتها "عزل للدين عن الحياة"، ووأد للناس وهم أحياء، وما حقيقة وصل الدين بالسياسة إلا الدعوة إلى الله، وإقامة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على مد الإسلام، وجزر الكفر والكافرين وقهر الفسقة عن المحارم والتهارش ؛ حماية لحرمات المسلمين وأوطانهم واستقرار أمنهم، ليكونوا يداً على من سواهم عوناً على من ناوأهم، وبالجملة ليعيش المسلمون في ظل حماية إسلامية لا في ظل أعدائهم من المشركين والملحدين.
ولن يقوم هذا الدين ولن تتحقق غاياته في الحكم والقضاء ومجالات الحياة كافة إلا بمن يحمل راية التوحيد يصدّع الكفر والكافرين، ويقوّم عوج الفسقة والمائلين عن الصراط المستقيم، وهذا لا يتأدى إلا بسلطان "ذي شوكة" يدين بالإسلام وعالم يجهر بالبيان، فإذا اجتمع اللسان والسنان من تحتهما جيل الجهاد في "دائرة الإسلام" كانت الضمانة العظمى لنصرته ونشر الدعوة إليه، وبناء حياة الأمة على هدي الكتاب والسنة.
وهذا التلاحم بين الدين والدولة هو حقيقة الوفاء بين الذين آمنوا بربهم -سبحانه وتعالى- للتجارة معه ببيع النفس والمال والولد في سبيله )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله( الآيات ).(1/170)
ويقول الأستاذ عبد الحليم عويس في كتابه تطبيق الشريعة الإسلامية: (ويصل هؤلاء في حربهم لتطبيق الشريعة حد الخيانة العظمى لأمتهم وللحقيقة المجردة، وذلك حين يزعم بعضهم -هداهم الله- أن الشريعة مجموعة وصايا أخلاقية، وهم بهذا يلغون مئات الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام، والتي قدرها الإمام الغزالي وابن العربي بخمسمائة آية نازعه ابن دقيق العيد في هذا التقرير وقال :إن مقدار آيات الأحكام لا تنحصر في هذا العدد بل هو يختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط حتى من الآيات الواردة في القصص والأمثال.
وليس التشريع الإسلامي كليات مجملة -كما يعتقدون- بل هناك مجالات فصل فيها التشريع تفصيلاً محدوداً كالأحكام المتعلقة بالجهاد والدفاع عن النفس والعلاقات الدولية، وهناك مجالات فصل فيها الشرع تفصيلاً كافياً وشافياً مثل القصاص والحدود والحلال والحرام من الطعام والميراث وقوانين الأسرة، وغيرها، وينحصر مجال "الكليات" في بعض النظم السياسية التي تختلف صور تطبيقها، وفي قواعد الاجتهاد، وكل من ينكر أي حكم مفصل في القرآن والسنة أو يرفضه أو يكتب ضده ويعمد إلى تحريفه ؛ مثل من يحاول جعل ميراث الأنثى مثل ميراث الذكر، أو جعل شهادة المرأة في الشئون التي نص عليها القرآن مثل شهادة الرجل يدخل في دائرة الارتداد، فهذه أمور لا يتقبل الاجتهاد. { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].(1/171)
من أجل هذا كله كانت المعركة مستعرة وحامية الوطيس بين العلمانيين وبين الشريعة الإسلامية، فإن الشريعة هي العدو الأول لهم لأنها هي التي تهيئ للمجتمع سياجاً من القوانين يحميه من عدوان العادين، وهي التي تردع من لم يرتدع بوازع الإيمان كما قال الخليفة الثالث: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
هذا وإن في الدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة بالإضافة إلى ما تتضمنه من الكفر والزندقة فإنها دعوة إلى تأليه الإنسان وإعطائه الحق في أن يشرع لنفسه فيما رفض فيه ولاية الإسلام عليه من أحكام المعاملات وشئون الدولة ونحوه، وقد تمهد في محكمات الأدلة أن التشريع حق خالص لله وحده من نازعه فيه فهو مشرك بالإجماع.
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ترفض الشرك في العبودية لله، أو الشرك في الولاء له، أو الشرك في الطاعة لحكمه، فالمسلم لا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً ولا يبتغي غير الله حكماً، كما وضحت ذلك سورة التوحيد.. سورة الأنعام في هذه الآيات: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام:14] .
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً }[الأنعام:114] {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام:164] . إنما يجب أن يكون المسلم كله لله، وحياته كلها لله { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
إن الإسلام لا يعرف هذه الثنائية التي عرفها الفكر المسيحي والفكر الغربي الذي يشطر الإنسان، ويقسم الحياة بين الله تعالى وبين قيصر، فليس قيصر نداً لله ينازعه في ملكه، بل هو عبد لله، يخضع لحكمه، ويدين لأمره ونهيه، كما يدين كل العباد ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .(1/172)
الشبهة(4) : قولهم : انقضت الدولة الدينية وحلت الدولة القومية !
( ولمناقشة هذه الدعوة لابد من تقرير مدخل هام نرى ضرورة تقريره ابتداء قبل الدخول في الجزئيات والتفاصيل، ويمثل هذا المدخل في الإجابة على هذه الأسئلة: هل نحن مسلمون؟ هل نرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؟ هل نعتقد بعصمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه؟ هل نعتقد أن الكتاب والسنة هما الحجة القاطعة والحكم الأعلى؟ هل نؤمن بوجوب رد ما تنازع الناس فيه إليهما؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة يعد مقدمة ضرورية لمناقشة هذه الدعوى وكافة الدعاوى المشابهة. إذا آمنا بحجية القرآن والسنة وبعصمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه توجهنا في المناقشة إلى سوق الأدلة الشرعية التي تبين عوار هذه الدعاوى وبطلانها، والغرض أن هذه الأدلة مسلمة من الفريقين.
أما إذا كنا نناقش قوماً لا يدينون بهذه الأصول ولا ينطلقون من هذه الثوابت، فلا وجه للدخول في تفاصيل الشريعة مع قوم لا يؤمنون ابتداء بالعقيدة، ولا معنى للمنازعة حول الفروع في حين أن الأصول لا تزال عندهم موضع نظر ومكابرة، وتكون المناقشة ابتداء حول إثبات صحة هذه الأصول.
إن بعض العلمانيين في بلادنا لا يزالون يعلنون إيمانهم المجمل بالكتاب والسنة، وهم حريصون على إظهار ذلك، وقد يكون ذلك حقاً، وقد يكون من قبيل ما يسمونه بالنضج السياسي لعدم تهيؤ الأمة للمجاهرة بضده، ولكن نأخذ بظاهر أقوالهم ونكل سرائرهم إلى الذي يعلم السر وأخفى ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي ) .
الشبهة(5):ادعاؤهم أن الدولة الإسلامية تؤدي للاستبداد !
يقولون: نحن دخلنا في "الانتخابات" من باب أنها مصلحة من المصالح المرسلة!
الجواب:(1/173)
1- المصلحة المرسلة ليست أصلاً من أصول الدين التي يُعمل بها، وإنما هي وسيلة متى توفرت شروطها، عُمِل بها، ومتى لم تتوفر، لم يُعمَل بها.
2- تعريف المصلحة المرسلة هي: ما لم يأتِ نصٌّ فيه بعينه بتحريم ولا وجوب، مع اندراجها تحت أصل عام.
وتعريف آخر يذكره الأصوليون وهو: الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه مِنْ قِبَل الشارع.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات 4/210):
" فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، بشرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج" ا هـ.
فالمصالح المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها، ومنها: مصلحة عامة أو خاصة، أما ما نحن فيه، ففيه من المفاسد السابقة الذكر التي لا يشك عاقل أنها كافية في إخراج محل النزاع من باب المصالح المرسلة، إلى المفاسد المحرمة، والله أعلم.
وقد أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وهكذا التابعون وأتباعهم، فتأليف الكتب الفقهية، وكتب اللغة العربية، وكتب علوم الحديث، وجمع القرآن والاقتصار على النُّسَخِ التي اختارها عثمان وإلغاء ما عداها .. إلى غير ذلك من المصالح، وكما ذكرنا سابقاً أنها ليست من الأصول، وإنما هي مسألة اجتهادية يصيب فيها الرأي ويخطئ، والتشريعة كلها جاءت لتحقق مصالح الناس، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/23)، ورفع المشقّة والعسر والحرج.. الخ، كلها من لوازم المصالح للناس. ومن خلال هذا العرض السريع نستفيد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد.
فعلى هذا فالمصلحة المرسلة لها شروط يجب أن تُراعى، فإذا توافرت شروط المصلحة عُمِل بها، فهل تقيّد المخالفون بهذه الشروط؟
وسيأتي ذكر الشروط بعد الكلام على الشبهة الخامسة عشر - إن شاء الله -.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 177-178) .
الشبهة(6): تحججهم بوجود طوائف غير مسلمة .
وللإجابة عن هذه الشبهة( نقول وبالله التوفيق :(1/174)
أولاً : إنه لا يُقبل شرعاً ولا عرفاً ولا ديمقراطياً أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لاسيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات، ماذا لو حدث العكس، وكان المسلمون هم الأقلية؟ هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟
ثانياً : إن الدولة القومية التي تنشدها هذه الأقليات التي تفصل فيها الدولة عن الدين، وتنفصم بها عرى الموالاة بين المسلمين تتعارض تعارضاً جذرياً مع أصل الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولا سبيل إلى القبول بها إلا يوم أن نقرر أننا قد تخلينا عن ديننا وخلعنا ربقة الإسلام من أعناقنا وهيهات هيهات أن نكفر بالله ورسوله!
ثالثاً : إنه فيما عدا الولايات التي يُعتبر الإسلام فيها شرطاً لانعقادها تُفتح أمامهم كافة الأبواب للمشاركة الكاملة في بناء هذا الوطن شأنهم في ذلك شأن المسلمين سواء بسواء، وغني عن الذكر أن صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم حقوق مقدسة لا مماراة فيها ولا جدال، ولا نرى حرجاً أن تصدر في شئونهم وثيقة خاصة ينص فيها على مركزهم القانوي في المجتمع من حقوق وواجبات إن هم رغبوا في ذلك وتكون ملحقة بالدستور، وتتمتع بنفس القوة التي يتمتع بها، ولهم أن يشترطوا لأنفسهم ما يشاؤون من ضمانات لكفالة حقوقهم المشروعة وعدم المساس بها من أحد من الناس، ثم بعد بهذا يعيشون كما عاش أجدادهم في هذه البلاد ولمدة تزيد عن ثلاثة عشر قرناً من عمر الزمان في ظل تحكيم الشريعة ؛ آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم، لم تمتد إليهم يد بسوء، ولم يُكرهوا كما أكره المسلمون في الأندلس على تغيير دينهم، ولو أن المسلمين في الشرق توجهوا إلى شيء من ذلك ما بقي نصراني واحد في بلادنا إلى اليوم.
ملكنا فكان العفو فينا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح(1/175)
ولنستمع إلى شهادة كبار المؤرخين وهم يعقدون المقارنة بين نصارى الشرق وبين المسلمين في الغرب ومدى ما يتمتع به هؤلاء وأولئك من الحقوق والواجبات.
يقول الوزير دوجو فارا صاحب كتاب (مائة مشروع لتقسيم تركيا) فيما ينقله عنه الأمير شكيب أرسلان: (إن الدولة المسيحية ظلت مدة ستة قرون (699-1299هـ) تهاجم الدولة العثمانية الإسلامية رغم تسامح المسلمين وحسن معاملتهم لرعاياها من المسيحيين، ويقول: إن من أعظم أسباب انحلال هذه الدولة الإسلامية هو مشربها من إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية للأمم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين -المذهبية والمدرسة- كانت تبث دعايتها القومية للانفصال عن السلطة العثمانية).
ويقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: (وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذين كانوا يرغبون في نشره في العالم... ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون -الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة- أن النظم والديانات ليست مما يُفرض قسراً ؛ فعاملوا -كما رأينا- أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم).
وننقل عن جوتيه في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم قوله: (ولقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية في فضيلة المسامحة التي لم تكن تتوقع من أناس يحملون ديناً جديداً. وما فكر العربي قط في أشد أطوار تحمسه لدينه الجديد أن يطفئ بالدماء ديناً منافساً لدينه) .(1/176)
ويقول ريتشارد ستيبز من أبناء القرن السادس عشر: (وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب... فقد سمحوا للمسيحيين جميعاً -للأغريق منهم واللاتين- أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفي أماكن أخرى كثيرة جداً، على حين أستطيع أن أؤكد بحق بدليل اثني عشر عاماً قضيتها في أسبانيا أننا لا نرغم على حفلاتهم البابوية فحسب، بل إننا في خطر على حياتنا وأحفادنا.
وهذا ما جعل بطريارك أنطاكية واسمه ماركوس يقول: أدام الله دولة الترك خالدة إلى الأبد! فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان، سواء كان رعاياهم مسيحيين أو يهوداً أو سامرة).
ويقول القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الأنجيلية في مصر: (في كل عهد أو حكم التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين -والمسيحيين على وجه الخصوص- بكل أسباب الحرية والأمن والسلام .. ) .
وأخيراً ننقل هذه الوثيقة وهي من القرن التاسع عشر وتتمثل في نص الفرمان (الظهير) الذي أصدره السلطان محمد بن عبدالله سلطان المغرب في 5 فبراير سنة 1864م وهذا نصها:(1/177)
(بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر ولاياتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحداً منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام، وألا يعتدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وألا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم، وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، ونحن لا نوافق عليه، لا في حقهم ولا في حق غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء، ومن ظلم أحداً منهم أو تعدى عليه فإننا نعاقبه بحول الله، وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقرراً ومعروفاً محرراً، لكن زدنا هذا المسطور تقريراً وتأكيداً ووعيداً في حق من يريد ظلمهم وتشديداً ليزيد اليهود أمناً إلى أمنهم، ومن يريد التعدي عليهم خوفاً إلى خوفهم، صدر به أمرنا ، المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام 1280 ثمانين ومائتين وألف).
أرأيت إلى هذا الإنصاف والتسامح ورعاية العهود والذمم الذي صحب الدولة الإسلامية في مختلف أطوارها، وسطرته أقلام الكتّاب النصارى أنفسهم لتسجل ذاكرة الزمان أن تاريخنا لم يعرف اضطهاداً لأقليات تخالفنا في الدين وتشاركنا في الوطن، وليثبت للمرتابين تهافت التذرع بوجود أقليات في المجتمع المسلم إلى رفض الشريعة والاعتداء الظالم على دين المسلمين ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(7): ادعاؤهم جمود الشريعة في مواكبة التغيرات !(1/178)
( وهذه الدعوة أيضاً مما ينعق به خصوم الشريعة، ويقولون إن تحكيم الشريعة يقعد بنا عن ملاحقة التطور والوفاء بمقتضياته، لأن الشريعة أساسها الدين، والدين ثابت لا يتغير، ولكن الحياة في تغير دائم وتحول مستمر فأنى للجامد الثابت أن يحكم المتحول المتغير ويفي بحاجاته؟ ولذلك يرون أن من الخير للدين أن يبقى عقيدة في الحنايا، وشعائر في دور العبادة، وأن يترك قيادة الحياة إلى نظم وضعية تستلهم من واقع الحياة المتجدد والمتطور وتفي بمقتضيات المدينة الحاضرة وهذه الشبهة تقوم على محورين:
- ثبات أحكام الشريعة فلا مجال فيها للتجديد بوجه من الوجوه.
- تطور أوضاع الحياة فلا مجال فيها للثبات بوجه من الوجوه.
وكلا الأمرين في إطلاقه على هذا النحو وهم وخرافة ؟!
فأحكام الشريعة منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير، وأحوال الحياة وأوضاع البشر منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير كذلك.
فإن أرادوا التجديد في الثوابت والقطعيات التي حسم فيها الشارع الحكيم بنصوص محكمة قاطعة فقد خابوا وخسروا، وإن دون ذلك الردة عن الإسلام!! لقد حرّم الله الزنا، فإذا جاءت القوانين الوضعية تبيحه لمن بلغ سن الرشد القانونية تحت دعوى التطور والحرية الشخصية فذلك خسران وردّة، ولقد حرّم الله الخمر ، فإذا جاءت القوانين الوضعية بإباحتها مسايرة للأوروبيين، وملاحقة للمدنية، وتقديساً للحرية الشخصية، فإن ذلك خسران وردّة، ولقد حرم الله الربا والميسر، فإذا جاءت القوانين الوضعية بإباحته لاعتبارات اقتصادية أو ملاحقة للتطور والمدنية فإن ذلك خسران وردّة!! فما حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، وما أحله الله ورسوله فهو حلال إلى يوم القيامة، وكما لا يملك الإنسان تغيير أمر الله الكوني لا يحلّ له تبديل أمر الله الشرعي، وكما أن الخلق كله لله فإن الأمر كله لله: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].(1/179)
وإن أرادوا تجديد الاجتهاد في الظنيات ومسائل الاجتهاد بما يحقق المصالح البشرية ولا يخرج على الأدلة الشرعية فذلك حق، على أن يتم بضوابطه وأن يمارس من أهله، حتى لا يصبح دين الله نهباً لكل عابث أو جهول، وإن قواعد الشريعة وأصول الاجتهاد فيها ما يلبي هذه الحاجة، ويحقق مصالح العباد أتم تحقيق في إطار من الحق والعدل، وهل جاءت الشريعة ابتداءً إلا لتحقيق مصالح العباد وإرشادهم إلى ما يكفل لهم الحياة الطيبة في الأرض والفوز بجنة الخلد ونعيم الأبد في الآخرة ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(8): ادعاؤهم قسوة العقوبات الشرعية !
( يزعم دعاة التغريب وخصوم الشريعة أن الحدود والقصاص من العقوبات البشعة التي لا تلائم مدنية هذا العصر، ولا تتفق مع ما انتهت إليه النظريات الجديدة في علم الإجرام والعقاب التي تبدلت نظرتها إلى مرتكب الجريمة من كونه مجرماً يستحق العقاب إلى كونه مريضاً يستحق الرحمة والعلاج، وهذه الشبهة قد أوسعها أهل العلم دحضاً ونقضاً وفيما كتبوه غناء بل ثراء، ولكن لا نرى بأساً من إيراد هذه اللمحات .
نقول لهؤلاء الرحماء ! :
أولاً : إن الذي قرر هذه العقوبات هو الله رب العالمين. أليس كذلك؟ إن جحدوا فقد كفروا وانتقل الحديث معهم إلى دائرة أخرى... إلى أصل الإيمان بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر، ولا وجه أن يناقش في الفرع من كفر بالأصل.
وإن أقروا انتقلنا بهم إلى سؤال آخر: أتؤمنون بحكمة الله في شرعه، وعدله في حكمه أم لا؟ إن جحدوا فقد كفروا ، وإن أقروا فقد خُصِمُوا، لأن هذه العقوبات من شرعه ومن حكمه، وقد أقروا بأن شرعه حكيم وحكمه عادل، فسقط الاعتراض من الأساس! ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(9): قولهم : أي مذهب نُطبق ؟!(1/180)
( ومن التهافت البيّن بعض ما يشنع به هؤلاء الخصوم من أن إقامة الحدود سيحوِّل أغلب المجتمع إلى معوقين ومشوهين نظراً للانتشار الهائل للجريمة والتنامي المستمر في معدلاتها، فكيف تُقطع أيدي ثلثي المجتمع ونرجم أو نجلد تسعة أعشاره ؟!
وهذا القول فضلاً عما فيه من المبالغة في تصوير الواقع، وتقديم الأمة كلها على أنها عصابة من السراق والزناة والسكارى ؛ فإنه إلى التهافت والديماجوجية أقرب منه إلى المنطق العلمي النزيه.
فلقد علم هؤلاء وعلمت الدنيا كلها أن قيمة هذه العقوبات تكمن في التهديد بها وإعلانها على الملأ، وأن في مجرد النص عليها وإعلام الأمة بها والجدية في تطبيقها من الزجر والردع وإشاعة الهلع والفزع في نفوس الجناة والمجرمين ما تنحسر به هذه الجرائم وتتراجع به معدلاتها المتزايدة، بل ما ينقطع به دابرها أو يكاد ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة (10) : ادعاؤهم افتقاد أهل الإسلام لبرامج عملية .
( يقولون: أي شريعة تطبقون وأية إسلام تنشدون: إسلام مالك أم إسلام أبي حنيفة أم إسلام الشافعي أم إسلام أحمد بن حنبل؟ إسلام الخميني في إيران أم إسلام النميري في السودان، أم إسلام ضياء الحق في باكستان، أم إسلام السعودية؟ إنكم لم تتفقوا على الإسلام الذي تدعوننا إليه وتجادلوننا في تطبيقه!!
وهم بهذا يريدون تقديم قضية الإسلام وكأنه شرائع منفصلة، ونماذج شتى متباينة تتفاوت من النقيض إلى النقيض، ويغرق معها مريد التطبيق في لجج من المتناقضات والمفارقات، ثم يحمِّلونه أوزار بعض هذه التجارب البشرية القاصرة، وكأن الإسلام هو المسئول عن هذا التشرذم وعن هذه الأخطاء، إذاً فهو لا يصلح للتطبيق.(1/181)
إن الإسلام الذي ننشده وينشده كل مسلم هو إسلام الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، هذا هو المحكم الذي لا جدال فيه ولا مماراة، أما ما وراء ذلك من الاجتهادات الفقهية، فهو من موارد الاجتهاد التي لا يُضيّق فيها على المخالف، ولأهل العلم في كل عصر أن يرجحوا ما تقتضيه الأدلة ويحقق المصلحة، ولا حرج أن تتفاوت هذه الاجتهادات من قطر إلى آخر حسبما تقتضيه المصلحة ويرفع الحرج عن المكلفين، بل وأن يعاد النظر فيها من حين لآخر كلما طرأت ظروف وتجددت أحوال حتى تبقى دائماً في هذا الإطار.
ثالثاً: إن تفاوت الاجتهادات والتفسيرات في الأمور الجزئية ظاهرة طبيعية ولا يكاد يخلو منه تشريع سماوي أو تقنين وضعي.
ألا تختلف المحاكم الوضعية في تطبيق القانون أو في تفسيره فتقضي بينها محكمة النقض بحكم بات يرفع الخلاف؟ ألا يختلف علماء القانون الوضعي في شروح القوانين واللوائح الإدارية؟ بل ألا يختلف الأطباء والمهندسون وسائر الفنيين في كثير من الفروع والتفصيلات؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ وما لهم يجعلون من الظواهر العادية مسبة ومطعناً ماداموا يتحدثون عن الإسلام؟!
رابعاً : إن هؤلاء العلمانيين القائلين بهذه الشبهة يكيلون بكيلين ويزنون بمعيارين، فعندما يتحدثون عن الإسلام يشغبون عليه باختلاف مذاهبه وتعدد تجارب تطبيقه، وعندما يتحدثون عن مذاهبهم الوضعية وعقائدهم السياسية لا يكادون يتفقون على تعريف محدد لما ينادون به من هذه النظريات، ولا يجدون في تعدد مدارسها وتباين مذاهبها مانعاً يمنع من تطبيقها، أو يثني عزمهم عن المناداة بها والدعوة إليها ؟(1/182)
ولنتأمل هذه العبارة عن الماركسية وهي لأحد الماركسيين المعروفين وهو مكسيم رودستون الكاتب اليهودي الفرنسي : (الحقيقة أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة، ومن اليسير أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة!! إن هذا التراث كالكتاب المقدس "أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها" حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيه نصوصاً تؤيد ضلالته !!) اهـ
وليست الديمقراطية بأقل حظاً من الاشتراكية في هذا التعدد، فنحن لا نكاد نجد مذهباً في هذا العصر ليبرالياً أو اشتراكياً أو شيوعياً إلا ويدعي أن ديمقراطيته هي الديمقراطية الحقة، وأن ما عداها زائف ومدخول!
أما الأخطاء التي صحبت بعض تجارب التطبيق فوزرها على أصحابها، والإسلام منها براء، هذا هو الذي تقتضيه الموضوعية في التقويم، والإنصاف في الحكم، ولكن أنى لهؤلاء العلمانيين هذه الموضوعية وهذا الإنصاف وهم الذين تنغل قلوبهم حقداً على الشريعة وعداوة لأنصارها.
ومرة أخرى نرى التطفيف في منطق هؤلاء العلمانيين ؛ فعندما يتحدثون عن فشل المذاهب الوضعية في بلاد المسلمين يبرئون هذه المذاهب في ذاتها ويلتمسون للفشل أسباباً أخرى، وعندما يتحدثون عن تجارب التطبيق الإسلامي يحمِّلون الإسلام في ذاته هذه الأخطاء ويجعلون الفشل مرتبطاً بطبيعة الحل الإسلامي في ذاته، وعدم صلاحيته في ذاته للتطبيق.
فتجدهم يلتمسون الأعذار لفشل الديمقراطية الليبرالية في مصر بأنها لم تدم أكثر من ثلاثين عاماً 1923 - 1952م ، ويعتذرون لفشل الاشتراكية في مصر بقصر المدة وبعدم الجدية في التطبيق وأنها كانت اشتراكية بغير اشتراكيين فالمكلفون بحراستها كان يتم اختيارهم على أساس الولاء وليس على أساس الكفاية.(1/183)
أجل! يعتذرون بهذا عن فشل الاشتراكية والديمقراطية في الوقت الذي يحاسبون فيه باكستان على بضع سنين، والسودان على سنة أو سنتين، ولا يقولون إنها كانت تنقصها الجدية الكافية في التطبيق أو إنها كانت عملية إسلامية بغير إسلاميين! ومرة أخرى { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1-5] .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(11):قولهم: تطبيق الشريعة يؤدي للكبت !!
( وهذه مناورة أخرى يهدف بها دعاة العلمانية إلى إحراج العمل الإسلامي بالتشنيع عليه بأنه يغذ السير بالناس إلى دولة مجهولة، ويدعو الناس إلى منهج لم يسبر أغواره ولم يعرف أبعاده، فهو لا يعرف تفاصيل هذا المنهج ولا يملك برامج عملية لوضعه موضع التنفيذ، مثله كمثل رجل ظل يلح على آخر حيناً من الدهر بأن يدخل في الإسلام، وتوعده إن أعرض بسوء المآل فقال له : ماذا أفعل لكي أسلم، فقال : لا أدري !
وللإجابة على هذه الشبهة نقول:
أولاً : إننا لا نبتدع في الناس أمراً لا عهد لهم به من قبل، بل نردهم إلى ما درجوا عليه وعاشوا في ظله ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ولم يتوقف إلا على يد الاستعمار الكالح الذي وطئت خيله الأزهر على يد نابليون، وقتل الأبرياء في دنشواي على يد كرومر، ومكن لليهود في فلسطين على يد بلفور، وفعل بأمتنا الأفاعيل والعجائب.
وطني كم صنم مجدته لم يكن يحمل طُهْر الصنم
لا تلومي الذئب في عدوانها إن يك الراعي عدو الغنم(1/184)
ثانياً: إن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهي التي تتبنى الإسلام بشموله عقيدة وشريعة إقراراً به، وعملاً بموجبه، ودعوة إليه، وولاء وبراءً على أساسه، وإن مفتاح التغيير المنشود هو التعبير عن سيادة الشريعة وأنها وحدها الحجة القاطعة والحكم الأعلى، وأن كل قانون يتعارض معها فهو باطل يجب على المحاكم أن تمتنع عن تطبيقه تلقائياً لمخالفته لمبدأ المشروعية، ومن حق أي مواطن أن يطعن أمامها ببطلان أي قانون يُعتقد مخالفته للشريعة، وتقضي ببطلانه إذا ثبت لديها ذلك.
ثالثاً : هب أن المنادين بتحكيم الشريعة لا يملكون هذه البرامج وتنقصهم الكفايات والتخصصات النظرية أو العملية فأين ذهبت الجهات المتخصصة التي تقدر على ذلك في بلادنا الإسلامية؟ والتي إذا استنفرتها الدولة نفرت وإذا دعتها لبت؟ ألسنا نعلن أننا مسلمون ديننا الرسمي هو الإسلام؟ والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ وعلى أرضنا توجد أعرق جامعات العالم وبلادنا هي التي تُصَدر العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة وفي غيرها إلى جميع أنحاء العالم ؟
إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست برنامجاً حزبياً تطرحه فئة محدودة على أرض الوطن، إنها إرادة هذه الأمة، والدين الذي يستمسك به الكافة، فهي فوق الأطر الحزبية، والتنظيمات السياسية، والخلافات المذهبية، والدولة كل الدولة حكومة ومعارضة مسئولة أمام الله عز وجل عن أن تقيم هذا الدين، وأن تُجيِّش له الطاقات، وأن تعد له الرجال، وأن توظف كل إمكاناتها المادية والبشرية لإقامته على وجهه كما أمر الله.(1/185)
إن هذا العمل مسئولية أمة وليس مسئولية حزب من أحزابها، أو تيار من تياراتها الفكرية أو السياسية، ولا حرج على الدعاة إلى الله -بل يجب عليهم- إن هم رأوا تعطيلاً لشرائع الله وتحاكماً إلى غير ما أنزل الله، أن يصدعوا بالنصيحة الواجبة، وأن يجهروا بكلمة الحق في مختلف المواقع، وأن يطلبوا كل قادر ومتخصص أن يدلي بدلوه وأن يبذلوا قصارى جهدهم لتقويم هذا الخلل، وإعادة الدولة إلى الإسلام، وحسبهم أن يشاركوا في ذلك بقدر ما تؤهلهم له قدراتهم وتخصصاتهم، وألا يضنوا على ذلك بوقت ولا جهد ولا مال.
رابعاً : إن الجامعات الإسلامية ومراكز البحوث والمجامع الفقهية ودور الفتوى في العالم الإسلامي رصيد هائل للدعوة إلى تطبيق الشريعة ، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات والكفايات النادرة المتخصصة ما يفوق الحصر ويذهل العقل . فهل يصح مع ذلك أن يقال: إن الدعوة إلى تحكيم الشريعة دعوة عاطفية تفتقد البرامج التفصيلية والكفايات العملية؟ أليس هذا غمطاً للأمة كلها واتهاماً لجميع مؤسساتها وجامعاتها بالعقم والسلبية والقصور بل بالخيانة وإضاعة الأمانة ؟(1/186)
إن ما كتب في مجال الاقتصاد الإسلامي من الدراسات والبحوث الإسلامية المتخصصة رغم حداثة العهد بالكتابة في هذا المجال يبلغ بضع مئات وفق التقرير الذي قدم إلى المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة قبل ما يزيد على عشرين سنة ! ترى كم بلغ عددها الآن؟ وما عدد الدراسات المتخصصة في المجالات الأخرى التي لا يزال المتخصصون فيها يكتبون منذ أمد بعيد؟ إن الأزمة التي تواجه الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست أزمة برامج وتفصيلات وإنما هي أزمة إرادة سياسية قادرة على التغيير واتخاذ القرار! ولو وجدت هذه الإرادة لتحوّلت كل كفايات الأمة ومؤسساتها إلى جنود في معركة التطبيق، ولتحولت القيادة السياسية إلى غرفة عمليات تشرف على ذلك كله، تحث الخطى وتوجه المسار!
خامساً : إن العلمانيين وخصوم الشريعة عندما يرددون هذه الشبهة فهم محجوجون بمنهج التغيير الذي اعتمدته كبريات الحركات الأيديولوجية العالمية التي لم تعن إلا بالعقائد والمبادئ الأساسية، ولم تعن بما وراء ذلك من التفاصيل والجزئيات.
فالثورة الفرنسية تجمع الناس حول ثالوثها المعروف: الحرية والإخاء والمساواة، ومن خلاله عرف الناس أي مجتمع تنشده هذه الثورة.
والشيوعية لا تعني في بداية الأمر إلا بالعقائد الاشتراكية الكبرى والمبادئ الرئيسية العامة، وكان جل اهتمامها منصباً على الجانب السلبي الذي يجب هدمه حتى يمتهد الطريق لإقامة اقتصاد اشتراكي، أما الخطوات الجزئية والبرامج التفصيلية فلا تكاد تجد في كتابات روادها الأوائل ما يغطي شيئاً من ذلك، بل إن ماركس في رسالته التي كتبها إلى صديقه (تيسلي) عام 1869م اعتبر ذلك من قبيل الرجعية، وأن من يرسم خطة للمستقبل يكون رجعياً، ومن هنا يقرر ندلوب ميلا أن ماركس كان بخيلاً جداً في تحديد المجتمع الجديد وفي امتناعه عن إعطاء أية صورة واضحة عنه.(1/187)
يقول مؤلفو علم الاقتصاد الحديث : (لقد ركز كل من " ماركس " و" لينين " اهتمامهما في العقائد الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك عندما تسلم "البولشيفك" زمام السلطة سنة 1917م لم يكن أمامهم أي مخطط جاهز للنظام الاقتصادي الذي ستنشئه ديكتاتورية العمال، ولقد حاولوا لفترة قصيرة تطبيق نظرية ماركس في " القيمة المنبثقة من العمل " لكنهم تخلوا عن هذه المحاولة، وأظهر " البولشيفك " براعة سياسية أمنت لهم البقاء في الحكم، وأخذوا يطبقون التجارب على مر السنين حتى أنشأوا النظام الروسي الحالي، وربما كان باستطاعة الزعماء الروس أن يكتشفوا نفس النتائج بطريقة أقصر، وكلفة أقل لو درسوا علم الاقتصاد دراسة نظامية، ولكن عقيدتهم الماركسية كانت تنكر هذا العلم من أساسه) اهـ
فإذا كان هذا هو المنهج مع كبريات الحركات العالمية التي ينتمي إليها هؤلاء الخصوم فلماذا يطالبون العمل الإسلامي وحده بأن يقدم ابتداءً برامجه التفصيلية وحلوله العملية لكل جزئية من جزئيات الحياة في المجتمع، وهو الأمر الذي اعتبره قادتهم وأئمتهم من جنس الرجعية والتخلف ؟
سادساً : إن كثيراً من مشكلاتنا المعاصرة هي نتاج لهذه المناهج الوضعية السائدة في بلادنا، وترتبط بها وجوداً وعدماً ، وقد يختفي كثير منها بحلول أيديولوجية أخرى لتنشأ مشكلات من نوع آخر وتحديات من لون جديد ، فلماذا نفترض أن كل علل مجتمعاتنا سوف تبقى في ظل تحكيم الشريعة، وأن علينا أن نستغرق في وضع الحلول التفصيلية لها من الآن؟ ألا يعد هذا من قبيل العبث وإضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ؟! ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
شبهات العصرانيين
الشبهة(1): قولهم : لماذا تلزمونا بفهم السلف ؟
الجواب : للأدلة التالية :(1/188)
1- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[ التوبة : 100].
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم؛ فإذا قالوا قولاً فاتبعهم متبع قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محموداً على ذلك، وأن يستحق الرضوان.
ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عامياً، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم إتباعهم حينئذ".
قلت: دلت الآية على حجية منهج الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه دليل فاستحق متبعهم الرضوان فلا يمدح إلا من اتبع الدليل، ولذلك وجب إتباعهم على العالم والعامي سواءً؛ لأن فرض العالم إتباع الدليل؛ كما قال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [الأعراف: 3] ولو لم يكن كذلك لاستحق العقوبة، ولم يستحق الرضوان؛ فتدبر.
2- قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [يس: 21].
قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "هذا ما قصّه الله - سبحانه وتعالى - عن صاحب يس على سبيل الرضا بهذه المقالة، والثناء على قائلها، والإقرار له عليها.
وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجراً وهم مهتدون بدليل قوله تعالى: خطاباً لهم: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
ولعل من الله واجب .(1/189)
وقوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 16 ، 17].
وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد : 4 ، 5].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وكل منهم قاتل في سبيل الله، وجاهد إما بيده أو بلسانه؛ فيكون الله قد هداهم، وكل من هداه الله فهو مهتد؛ فيجب إتباعهم بالآية".
3- قال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15].
قال ابن قيم الجوزية: " وكل من الصحابة منيب إلى الله ؛ فيجب اتباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله .
والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى : أن الله قد هداهم ، وقد قال تعالى { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [ الشورى : 13].
4- قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [ سورة يوسف : 108 ] .(1/190)
قال ابن القيم : ( فأخبر تعالى أن مَن اتبع الرسول يدعو إلى الله، ومن دعي إلى الله على بصيرة وجب إتباعه؛ لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } [الأحقاف: 31].
ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالماً به، والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله، لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى، وإذاً فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب إتباعهم إذا دعوا إلى الله".
5- قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "شهد الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفتِ فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والمنكر خطأ من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلاً علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قولهم حجة".
6- قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
قال ابن قيم الجوزية: "ولا ريب أنهم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه، بل حقيقة صدقه إتباعه لهم وكونه معهم.
ومعلوم أن من خالفهم في شيء، وإن وافقهم في غيره، لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإذا ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط.(1/191)
وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب، بحيث لا يستحق اسم المؤمن، وإن لم ينتفِ عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال: معه شيء من الإيمان.
وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال له لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل: معه شيء من العلم.
ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني، فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شيء من الأشياء، وأن نحصل من المعية ما يطلق عليه الاسم، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره.
فإذا أمرنا بالتقوى والبر، والصدق، والعفة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحو ذلك؛ لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم، وهو مطلق الماهية المأمور بها، بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء".
7- قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلكم أمة خياراً عدولاً، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلمَ خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر الملائكة أن تصلي عليهم، وتدعو لهم، وتستغفر لهم.(1/192)
والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق، فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به؛ كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقاً من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم.
فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفة لحكم الله ورسوله، ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله، إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها؛ كانت تلك الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين: قسماً أفتى بالباطل، وقسماً سكت عن الحق، وهذا من المستحيل، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان خيراً ما سبقونا إليه".
8- قال تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر تعالى أنه اجتباهم، فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه، وجعلهم أهله وخاصته، وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهاً معبوداً محبوباً على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم، وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه، وآثرهم بذلك على من سواهم.(1/193)
ثم أخبرهم تعالى أنه يسَّر عليهم دينه غاية التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة؛ لكمال محبته لهم، ورأفته ورحمته، وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام، فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره، ثم أخبر تعالى أنه نوَّه بهم، وسمّاهم كذلك بعد أن أوجدهم، اعتناءً بهم، ورفعةً لشأنهم، وإعلاءً لقدرهم.
ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله، ويشهدوا هم على الناس، فيكونوا مشهوداً لهم بشهادة الرسول، شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم، فكان هذا التنويه؛ وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين؛ ولهاتين الحكمتين العظيمتين.
والمقصود: أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى؛ فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة؛ فيفتي فيها بعضهم بالخطأ، ولا يفتي غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، والله المستعان".
9- قال تعالى: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101].
قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى أخبر عن المعتصمين به بأنهم هدوا إلى الحق.
فنقول: الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون؛ فإتباعهم واجب.
أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوهن :
أحدها: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ومعلوم كمال تولي الله ونصره إياهم أتم نصرة، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام، فهم مهديين بشهادة الرب لهم بلا شك، وإتباع المهدي واجب شرعاً وعقلاً وفطرةً بلا شك".
10- قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24].(1/194)
قال ابن قيم الجوزية: " فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم، إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإن الداعي إلى الله لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه، وبصيرته به، وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة، وكف النفس عمّا يُوهن عزمه ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى.
ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى عليه السلام، فهم أكمل يقيناً وأعظم صبراً من جميع الأمم، فهم أولى بمنصب هذه الإمامة، وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم، وثنائه عليهم، وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير القرون، وأنهم خيرة الله وصفوته.
ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق، ويظفر به المتأخرون، ولو كان هذا ممكناً لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حسًّا وعقلاً فهو محال شرعاً، وبالله التوفيق".
11- قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان: 74].
قال ابن قيم الجوزية: "فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم به، والتقوى واجبة، والائتمام بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتوا فيه مخالف للائتمام بهم".(1/195)
12- قال الله تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 136، 137].
قال ابن قيم الجوزية: "فالآية جعلت إيمان الصحابة ميزاناً للتفريق بين الهداية والشقاق، والحق والباطل.
فإن آمن أهل الكتاب بما آمن به الصحابة فقد اهتدوا هدايةً مطلقة تامة، وإن تولوا عن الإيمان بما آمن به الصحابة كمثل إيمانهم فقد سقطوا في شقاق كلي بعيد.
وعلى قدر مطابقة إيمانهم إيمان الصحابة يتحقق لهم من الهداية، وبمقدار بُعدهم عن إيمان الصحابة يكون فيهم من الشقاق.
ووجه الدلالة: أن إتباع الصحابة في الإيمان هو مناط الهداية، والعاصم من الشقاق والضلال، وهو يشمل إتباعهم في اعتقادهم وأقوالهم وأعمالهم، فكلها داخلة في مسمى الإيمان عند إتباع السلف.
وطلب الهداية والإيمان أعظم الفرائض، واجتناب الشقاق والضلال من كليات الواجبات؛ فدلَّ على أن إتباع الصحابة من أوجب الواجبات".
13- قال الله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
قال ابن قيم الجوزية: "والآية قرنت بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباع غير سبيل المؤمنين في استحقاق الإضلال وصلي جهنم.(1/196)
ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمة مع إتباع غير سبيل المؤمنين، كما أن إتباع سبيل المؤمنين متلازم مع إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا كثير من علماء السلف، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو أمر ظاهر؛ لأن إتباع سبيل المؤمنين ممتنع دون إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن إتباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم متعذر بمخالفة ما سلكه المؤمنون في تأويل الكتاب والسنة والتحليل والتحريم والإيجاب.
والآية مما احتج به الإمام الشافعي على الإجماع اليقيني المتحقق، وقد علمت قوله فيه، وسبيل المؤمنين أوسع من المعلوم من الدين ضرورة، مثل كون الخمر حرام، والظهر أربع، وهو يشمل كل ما كان عليه سلف هذه الأمة.
ووجه الدلالة: أن الآية جعلت مخالفة سبيل المؤمنين هو أقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنه دلّ على هذا قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } [البقرة: 285]، والمؤمنون آنئذٍ هم الصحابة ليس إلا ".
قلت : فدلّ على أن إتباع سبيلهم في فهم شرع الله واجب، ومخالفته ضلال.
فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب، وليس حجة.
قلت : هو دليل، ودونك الدليل:
أ- عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ } [النساء: 101] فقد أمن الناس؟
قال عمر: عجبت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال: "صَدَقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".
لقد فهم هذان الصحابيان: يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من هذه الآية: أن قصر الصلاة مقيد بشرط الخوف، فإذا أمن الناس فلا بد من الإتمام، وهذا هو دليل الخطاب المسمى بـ "مفهوم المخالفة".(1/197)
وسأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرّه على فهمه، ولكنه بيَّن له أن ذلك غير معتبر هنا لأن الله تصدق عليكم؛ فاقبلوا صدقته.
ولو كان فهم عمر لا يصح لما أقرّه الرسول ابتداءً ثم وجهه هذا التوجيه، ولقد قيل: التوجيه فرع القبول.
ب- عن جابر عن أم مبشر - رضي الله عنهما -: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "إني لأرجو أن لا يدخل الناس أحد إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها"؛ فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [مريم: 71].
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] ".
لقد فهمت أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - أن الورود لجميع الناس، وأنه بمعنى الدخول؛ فأزال رسول الله × إشكالها بتمام الآية { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } [مريم: 72].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّها على فهمها ابتداءً ثم وضَّح لها أن الدخول المنفي غير الورود المثبت، وأن الأول خاص بالصالحين المتقين، والمراد به نفي العذاب فهم يمرون منها إلى الجنة دون أن يمسهم سوء وعذاب، وباقي الناس على خلاف ذلك.
فثبت ولله الحمد والمنة: أن دليل الخطاب حجة يعتمد عليه، ويعول في الفهم إليه.
ناهيك أن قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } ليس دليل خطاب، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين إتباع سبيل المؤمنين وإتباع غير سبيلهم قسم ثالث، فإذا حرم الله جل جلاله إتباع غير سبيلهم، وجب إتباع سبيلهم، وهذا واضح لا يشتبه.
فإن قيل: فإن بين القسمين ثالثاً وهو عدم الإتباع أصلاً.(1/198)
قلت : هذا من أوهى ما نطقت به العقول؛ لأن عدم الإتباع أصلاً هو إتباع لسبيل غيرهم قولاً واحداً؛ لقوله تعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]؛ فثبت أنهما قسمان لا ثالث لهما.
فإن قيل: لا نسلم أن إتباع غير سبيل المؤمنين موجب لهذا الوعيد بل هو مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يلزم حرمة إتباع غير سبيل المؤمنين مطلقاً بل إذا كانت مع المشاقة.
قلت : معلوم أن المشاقة محرمة بانفرادها، مستقلة بنفسها لإيجاب الوعيد عليها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 13]؛ فدلّ أن الوعيد على كل منهما بانفراده، وأن هذا الوصف يوجب الوعيد بمفرده، ويدل على ذلك أمور منها:
أ - أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع المشاقة.
ب - أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن يدخل بانفراده في الوعيد لكان لغواً لا فائدة من ذكره؛ فثبت أن عطفه علة مستقلة كالأول.
فإن قيل : لا نسلم أن الوعيد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين مطلقاً، بل بعد ما تبين له الهدى، لأنه ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليه إتباع غير سبيل المؤمنين، فيجب أن يكون تبين الهدي شرطاً في الوعيد على إتباع غير سبيل المؤمنين.
قلت: قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }معطوف على قوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } فلا يكون قيد الأول شرطاً للثاني، وإنما العطف لمطلق الجمع والمشاركة في الحكم، وهو قوله تعالى: ] نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}؛ فدل على أن كلا الوصفين يوجب الوعيد بانفراده.
ويدل عليه ما يأتي:(1/199)
أ - أن تبين الهدى شرط في مشاقة الرسول ×؛ لأنه من جهل هدى رسول الله × لا يوصف بالمشاقة، أما إتباع سبيل المؤمنين فهو هدى في نفسه.
ب - أن الآية خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين فلو كان إتباع سبيلهم مشروطاً بتبين الهدى لم يكن إتباع سبيلهم لأجل أنه سبيلهم بل لتبين الهدى، وعندئذ فإن إتباع سبيلهم لا فائدة منه.
وبهذا تبين: أن إتباع سبيل المؤمنين منجاةً؛ فثبت أن فهم الصحابة للدين حجة على غيرهم فمن حاد عنه فقد ابتغى عوجاً، وسلك مكاناً حرجاً؛ فحسبه جهنم وساءت مستقراً، ومصيراً، ومقاماً، ومقيلاً.
14- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
قال ابن قيم الجوزية: "فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث مُربياً ومُعلماً للكتاب وللسنة، وهذا من أعظم مقاصد الرسالة والنبوة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما علّم جيل الصحابة، ومن بعدهم تلقي العلم عن طريقهم.
وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكتاب بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، كما علّمهم السنة أتم تعليم وأكمله، ولم يشاركهم أحد في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ فلا يماثلهم أحد في كمال علمهم وفهمهم؛ لأن من تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَعَلّم على يديه ليس كمثل من تلقى عن غيره، إذ لا يمكن لأحد أن يماثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والتعليم.(1/200)
ووجه الدلالة: أن أولى الناس بالإتباع هو أتمّهم علماً وأكملهم فهماً، والصحابة هم أكمل الناس علماً، وأتمهم فهماً، فينبغي إتباعهم وتقديمهم عند الاختلاف وتعارض الفهم والحكم، قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] ".
15- قال الله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] .
قال ابن قيم الجوزية: "والرشد ضد الغي والضلال، ويأتي بمعنى الهداية، والصحابة هم الراشدون المهتدون، الذين تمت هدايتهم ورشدهم، وكمال رشدهم يتضمن تمام الهداية في القول والفعل، ومعرفة الخطأ والصواب، والحق والباطل، وهذا يقتضي أنهم أولى بالهداية إلى الحق من غيرهم.
ووجه الدلالة : أن من كان راشداً مهتدياً كان قوله وفتياه أقرب إلى الحق والصواب ممن لم يكن كذلك، وهذا يقتضي إتباعه، وتقديم قوله وفهمه لكما هدايته، والصحابة كذلك بنص الآية، فاقتضت الآية تقديم أقوالهم وفتاويهم، والله أعلم".
16- قال الله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 6، 7].(1/201)
قال ابن القيم الجوزية: "والصراط المستقيم هو صراط الأنبياء قبل هذه الأمة، وصراط الصديقين والشهداء والصالحين منها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]، فأولئك هم أهل النعمة والفضل، وصراطهم بمعزل عن أسباب الغضب وموجبات الضلال، إذ هو تام الاستقامة لا عوج فيه ولا انحراف .
وسلوك الصراط المستقيم فريضة واجبة على كل مسلم، قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وإنما يكون سلوك هذا الصراط بأتباعه السابقين عليه في التحليل والتحريم والإيجاب، فيتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في هديه وسننه، ويتبع الصحابة فيما اختلف فيه الناس، وتشابه عليهم، لأنهم المبرءون من الانحراف القائمون المستقيمون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه الدلالة : أن البراءة من سبل المغضوب عليهم والضالين، في الاعتقاد والعبادة والسياسة والأخلاق والعبادات شرط للبراءة من العذاب والغضب والضلال.
وأن هذه البراءة تكون بإتباع صراط السابقين الأدلاء على الطريق، وهم من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي إتباعهم، واقتفاء آثارهم، ولزوم هديهم".
17- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7].(1/202)
قال ابن قيم الجوزية : " والآية بينت أن القرآن منه آيات محكمة ظاهرة الدلالة، وهي الأصل الذي يتبع ويهتدي به، ومنه آيات متشابهة في دلالتها، تحتاج إلى بيان وتفسير من بينات القرآن والسنة.
وأن أصحاب القلوب المريضة الزائغة عن الاستقامة يتبعون الدلالات المتشابهة قبل إحكامها طلباً لتحريفه عن معناه، وتفسيره وفق أهوائهم، وهم لا يعلمون جلية بيانه وتفسيره.
وأن الراسخين في العلم هم الذين يعرفون تفسيره وبيانه المحكم.
وهذا يقتضي : أن الواجب على كل أحد طلب تأويل المتشابهة من أهل العلم به من الراسخين في العلم، وأن تأويله دون الرجوع إليهم إنما هو فتنة وإتباع للأهواء.
والراسخون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً، ويكفي في ذلك ما سبق من الأدلة والبراهين في مباحث هذه الرسالة، فاقتضى ذلك أن إتباع الصحابة في تأويل المتشابه فريضة تقتضيها البراءة من الفتن والأهواء، وأن مخالفتهم فيه من علامات الفتنة وإتباع الأهواء، والله الموفق".
18- قال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".
قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونوا خير القرون مطلقاً.
فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم، وسائرهم لم يُفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم، وأخطأوا هم؛ لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه، لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن.(1/203)
ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة، لأن من يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر، وفات هذا الصواب الصحابة، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة، تفوق العد والإحصاء، فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه؟
ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أية وصمة أعظم من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة؛ وأخطأ في ذلك؛ ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم".
قلت: هل الخيرية المثبتة لجيل الصحابة في ألوانهم أو أجسامهم أو أموالهم؟ لا يشك عاقل عَقِل الكتاب والسنة أن شيئاً من ذلك غير مقصود؛ لأن الخيرية في الإسلام مقياسها تقوى القلوب والعمل الصالح؛ كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
ولقد نظر الله إلى قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها خير قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فآتاهم فهماً لا يدركه اللاحقون، ولذلك فما رآه الصحابة حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه الصحابة سيئاً فهو عند الله سيء.(1/204)
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء".
عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟
قال : " لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ".
قلت : فما في هذه الصحيفة؟
قال : " العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".
وبذلك يكون فهم الصحابة للكتاب والسنة حجة على من بعدهم إلى أخر هذه الأمة، ولذلك فهم شهداء الله في الأرض.
19- عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا، فخرج علينا فقال: "ما زلتم هنا؟".
قلنا : يا رسول الله! صلينا معك ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء.
قال : " أحسنتم أو أصبتم".
قال : ثم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء.
فقال : " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء أمرها، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة أصحابه - رضي الله عنهم - إلى من بعدهم في الأمة الإسلامية كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء.
ومن المعلوم: أن هذا التشبيه النبوي يعطي في وجوب إتباع فهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم للدين نظير رجوع الأمة إلى نبيها صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم المُبيِّن للقرآن، وأصحابه - رضوان الله عليهم - ناقلو بيانه للأمة.(1/205)
وكذلك رسول الله معصوم لا ينطق عن الهوى، وإنما يصدر عنه الرشاد والهدى، وأصحابه عدول لا ينطقون إلا صدقاً، ولا يعملون إلا حقًّا.
وكذلك النجوم جعلها الله رجوماً للشياطين في استراق السمع؛ فقال تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * )وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات:6 - 10].
وقال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5].
وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - زينة هذه الأمة كانوا رصداً لتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالِين الذين جعلوا القرآن عضين، واتبعوا أهواءهم؛ فتفرقوا ذات اليمين وذات الشمال؛ فكانوا عزين.
وكذلك فإن النجوم منار لأهل الأرض ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر؛ كما قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
وقال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97].
وكذلك الصحابة يُقتدى بهم للنجاة من ظلمات الشهوات والشبهات، ومن أعرض عن فهمهم فهو في غية يتردى في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
وبفهم الصحابة نحصن الكتاب والسنة من بدع شياطين الإنس والجن الذين يبتغون الفتنة ويبتغون تأويلها ليفسدوا مراد الله ورسوله فيهما، فكان فهم الصحابة - رضي الله عنهم - حرزاً من الشر وأسبابه، ولو كان فهمهم لا يحتج به لكان فهم من بعدهم أمنة للصحابة وحرزاً لهم، وهذا محال.(1/206)
20- عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله × موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
قال ابن قيم الجوزية: "وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أصحابه بسنته، وأمر بإتباعها، كما أمر بإتباع سنته، وبالغ في الأمر بها، حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به، وسنّوه للأمة، وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا كان ذلك سنته.
ويتناول ما أفتى به جميعهم، أو أكثرهم، أو بعضهم، لأنه علَّق ذلك بما سنَّه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن سنَّة كل واحد منهم في وقته من سنة الخلفاء الراشدين".
قلت : هذا الحديث صاعقة على رؤوس المبتدعة المخالفين لمنهج السلف، لأنه يدل على حجيته من وجوه:
أ - قَرَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الخلفاء الراشدين وهي فهم السلف، مع سنته؛ فدلّ على أن الإسلام لا يفهم إلا بمنهج السلف.
ب - أنه جعل سنة الخلفاء الراشدين سنته؛ فقال: "عضوا عليها" ولم يقل: "عضوا عليهما"؛ فتبين أن سنة الخلفاء الراشدين من سنته.
ت - أنه قابل ذلك كله بالتحذير من البدع؛ فدل على أن كل مخالف لمنهج السلف واقع في البدع وإن لم يشعر.(1/207)
ث - أنه جعل ذلك مخرج من الاختلاف والابتداع؛ فمن تمسك بسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين كان من الفرقة الناجية يوم القيامة؛ كما صرّح ابن حبان عقب حديث العرباض - رضي الله عنه - فقال: "في قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" عند ذلك الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنة، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنّه".
ج - أنه لم يدخل سنته وسنة الخلفاء الراشدين في الاختلاف الكثير؛ فدل على أنها جميعاً من عند الله؛ لأن الاختلاف الكثير ليس من عند الله؛ كما قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82].
من هذه الوجوه مجتمعة يتبين: أن سبيل النجاة من الاختلاف والافتراق وطوق الحياة من مضلات الهوى ومعضلات الشبهات والشهوات - التي تحيل من اتبعها عن المحجة البيضاء - ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من فهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أخذوا منها بحظ وافر، وحازوا قصبات السابق، واستولوا على الأمد، فلا مطمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق بهم فإنهم على هدى وقفوا، وبعلم قد كفوا، وببصر ثاقب نظروا، والسعيد من اتبع صراطهم السوي، والشقي من زاغ ذات اليمين وذات الشمال وسلك سبل الغي، والتائه الحائر في ميدان المهالك والضلال يظن سراب الأهواء ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الشيطان عنده فاستحوذ عليه، نعوذ بالله من الخذلان.
فقل لي بربك : أي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؛ والذي نفسي بيده لقد نهلوا الحق من معينه عذباً زلالاً؛ فأيدوا قواعد الإسلام فلم يتركوا لأحد مقالاً، وألقوا إلى التابعين بإحسان ما ورثوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه: نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة سنداً عالياً.(1/208)
لقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم أن يقدموا عليها هوى، أو أن يخلطوها برأي مشوب، كيف وقد عادوا ووالوا عليها؟
فإذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر طاروا إليه زرافات ووحداناً، وحملوا أنفسهم عليها فلا يسألوه عما قال برهاناً.
لذلك فهم أولى الناس برسولهم صلى الله عليه وسلم وسنته فهماً وعملاً ودعوةً، وأن على من بعدهم: أن يتمسك بمنهجهم؛ ليكون موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله، وإلا فهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
21- عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني؛ فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين؛ فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر..." الحديث.
ووجه الدلالة : أن هؤلاء التابعين رجعوا في معرفة حقيقة مقالة معبد الجهني وأصحابه إلى فهم الصحابة ومنهجهم؛ فدلّ على أن التابعين يرون حجية منهج الصحابة، وأن المحدثات بعدهم يجب عن تعرض على منهجهم وفهمهم؛ لأنه المعيار في قبول ذلك أو ردّه.
22- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
ووجه الدلالة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أصحاب النبي بأنهم يقتدون بأمره ويأخذون بسنته، ومن كان كذلك فوجب الإقتداء به؛ لأنه السبيل إلى الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.(1/209)
وأما الخلوف فهي مخالفة للأمر والسنة فلا يُقتدى بها ولا يعول عليها؛ لأنها خالفة مخالفة، فتبين أن فهم الصحابة الأبرار والتابعين الأخيار هو المعيار.
23- ورد في أحاديث الخوارج قوله صلى الله عليه وسلم: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم".
ووجه الدلالة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قارن صلاة الخوارج وصيامهم مع صلاة الصحابة وصيامهم، ولما كان الخوارج على غير منهج الصحابة وقد تواترت الأحاديث بذمهم والتحذير منهم تبين أن منهج الصحابة هو الحق الذي لا مرية فيه؛ فمن تمسك به كان على صراط مستقيم ومن خالفه تفرقت به السبل عن البيضاء النقية.
وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فهم الصحابة - رضي الله عنهم - وعملهم ميزاناً لوزن أفهام وأعمال من بعدهم؛ فمن وافقهم فقد نجا وإلا فلا يَلومنَّ إلا نفسه.
24- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ".
قال ابن قيم الجوزية: " فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك أصحابه على ملة قويمة مستقرة، ومحجة بيضاء ناصعة، لا خفاء فيها، ولا لبس، ولا إبهام، لا عذر لمن انحرف عنه؛ لأن الحجة قامت عليه وبلغته ".
وذلك من خصوصيات الصحابة، لأنهم هم دون غيرهم الآخذون المتلقون المبلغون، والناس تبع لهم في العلم بهذا البيان الناصع، وعالة عليهم في ذلك، لأن هذا أمر لم يتفق لغيرهم أصالة.
فكل ما خفي وأشكل واشتبه؛ فبيانه وجلاؤه في علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: معتقدهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وكل دينهم، جَهِله من جَهِله، وعلِمه من علِمه.
وهذا قاض بوجوب العودة إلى علمهم عند كل إشكال ولبس واختلاف ".
25- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق: " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة: ما أنا عليه وأصحابي ".(1/210)
قال ابن قيم الجوزية: " والحديث يبين وقوع الافتراق في الملة بعده صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون على ثلاث وسبعين ملة، وأن الفرق الممثلة بهذه الملل كلها إلى النار، وأنها تنجو فرقة واحدة، رغم انتسابها جميعها إلى الإسلام؛ هي: من كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهذا يدلك على أن فيصل التفريق بين الحق والباطل إنما هو إتباع الصحابة فيما كانوا عليه؛ لأن كل الفرق المنحرفة تنتسب إلى السنة، ولا تجرؤ على التبرؤ منها.
فإتباع ما عليه الصحابة زمن النبوة، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مناط النجاة والهداية، وخلافه من سبل الفرق الهالكة، التي هي تحت الوعيد بمخالفتها منهج الصحابة.
ولا بد أن يكون الوصف المؤثر في هلاك تلك الفرق، والذي تعلق به وقوعهم تحت الوعيد هو مخالفة هدى الصحابة؛ ما دام أن الوصف الوحيد المؤثر في النجاة - كما ذكر الحديث - موافقة منهاج النبوة، وسبيل المؤمنين الذي كان عليه الصحابة.
وهذا يقتضي أن إتباع منهج الصحابة وما كانوا عليه، مما تلقوه من كتاب الله وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم واجب يهلك بتركه الهالكون، ويسعد بأخذه الفائزون، وهو إتباع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم في التدين كله".
26- وقد جاء في حديث الافتراق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بأنها: "الجماعة".
قال ابن قيم الجوزية: " وفي نصوص القرآن والسنة نصوص كثيرة في الحضِّ على الجماعة والأمر بها.
وهذا اللفظ النبوي يفيد أن الجماعة هم أصحابه - رضي الله عنهم -؛ لأنه لم تكن آنذاك جماعة غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى لزوم الجماعة: لزوم أقوالهم في التحليل والتحريم وعدم الخروج عليها.(1/211)
قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: " إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين، والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنّة ولا قياس - إن شاء الله -.
فلزوم الجماعة هنا هو لزوم أقوال الصحابة في التحليل والتحريم؛ لأن هذا هو معنى لزوم الجماعة؛ كما بيّنه الإمام الشافعي.
والجماعة هم جماعة الصحابة كما أفاد حديث الافتراق؛ فاقتضى وجوب لزوم أقوالهم في التحليل والتحريم والإيجاب، وإتباعهم فيها؛ لأن الغفلة في الفرقة فأما الجماعة فلا يمكن فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس - إن شاء الله -؛ كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله -، والله المستعان".
27- وبالجملة؛ فوجوب فهم الإسلام بفهم الصحابة ومن تبعهم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال ابن قيم الجوزية: "إنه لم يزل أهل العلم في كل عصر مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكر منهم، وتصانيف العلماء شاهدة بذلك، ومناظراتهم ناطقة بهم.(1/212)
قال بعض علماء المالكية: أهل الإعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم، ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاج به، ولا نصبه دليلاً للأمة، فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة، ووجدت ذلك طرازها وزينتها، ولم تجد فتياً قط ليس قول أبي بكر وعمر حجة، ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم، ولا ما يدل على ذلك، وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم، فقال وأفتى بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظاً ومعنى قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة، ولا يدانيها؟
وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل؛ وعرفوا التأويل؛ وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم، وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم؟
قال جابر: " والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به" في حجة الوداع، فمستندهم في معرفة مراد كلام الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال ".
( انتهى جواب الشبهة من كتاب " بصائر ذوي الشرف بشرح مرويات منهج السلف " للشيخ سليم الهلالي ( ص 43 - 78 ) .
الشبهة(2) : ادعاؤهم أن عمر رضي الله عنه قد عطل بعض الأحكام الشرعية !!(1/213)
قال الأستاذ محسن الميلي : ( قد يَعْتِرض البعض قائلين: إنَّ هناك حَوادث َفي تاريخ الإسلام ظهر فيها "تعطيل" بعض الأحكام الشرعية. وغالبًا ما يَقَع الاستدلال بِعُمَرَ بِنِ الخطاب و "إِيقافِه" لِحَدِّ السَّرِقة عامَ المَجَاعة، أو عدمِ إِعطائِه سَهْم المُؤَلَّفَة قلوبُهم من الزكاة. وهذه الحُجة- إذا جاز أن نُسَمِّيها حُجةً - يُوَظِّفُها بَعض أنصار "الفَهم التَّقَدُّميِّ" لِتَعْطيل النصوص إذا خالفت بعض اخْتيارتهم العقلية.(1/214)
والحقُّ أنَّ عمر بن الخطاب في الحادِثَتين لم "يُعَطل" نَصَّاً، ولم يُحِلّ حراماً، ولم يُحَرِّم حلالاً، ولم يَعْتبر أنَّ النصوص الواردة في شأْنِ الحادِثَتَين أصبحت لاغِيةً. فلَم يَقُل عمر: إنَّ إِقامة الحَدِّ على السارِق أصبح وَحْشِيةً واسْتِهانةً بِكرامة الإنسان، وحِرْماناً للمجتمع من بعض قُوَى إنتاجه... كما لم يَقُل بأن قطْعَ يَدَ السارق كان مُلائماً للإنسان وقت نزول الوَحْيِ، وإِنَّه فَقَد صَلاحِيتَّه الآن. إن ما فعله عمر هو دراسته لِواقِعِهِ، أيْ للمَيْدان الذي يَتَنَزَّل فيه حُكْم الله، فَرَأى أنَّ الشروط لم تَتحقق كلها لإقامة الحد، فقد يَلْتَجِئُ الإنسان إلى "السَّرِقة" حِفْظًا لنفسه من الهلاك لا اختيارًا للسرقة، أو اغْتِصابًا لأموال الآخرين دُون جُهْد أو عمل، فَتَقَع الْتِباساتٌ عديدةٌ، وتختَلِط البَيِّناتُ بالشُّبُهات، وكما هو معلومٌ في قواعد الفقه:"ادْرَؤوا الحدود بالشُّبُهات،، و "الضرورات تُبِيحُ المَحْظورات"... فإنَّ عمر كان حكِيماً في عدم تَطْبيقه الآلِيِّ لِحُكمٍ لم تَتَوفر شروط تحقيقِه، لأنه فَهِم بِوَعْيٍ وعُمْق مُلابَسات تطْبيق الحُكم الشرعي. لم يكن عمر مُجَرَّد"آلَةِ تَسْجيْلٍ وتَرْديْد" لنصوص وأحكامٍ لم يَفْهَمْها، وإنما كان يَتَفَهَّم الحُكم والحِكْمة منه، ويبحث عن شروط تَنْفيذه... لقد كان عمر يَتَدبَّر القرآن ويقرأ نصوص الْوَحْيِ بِبَصيرةٍ وتفْكيرٍ.(1/215)
نفس الأمر يُمْكن أنْ يقال في شأن "إسقاط" نصيب المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة. فقد رَأَى عمر أنَّ الإسلام قد أصْبح عزيزًا بين الناس, فلا يمُكن أنْ يَبْقَى دائمًا مُعْتمِداً على المُؤَلَّفة قلوبهم، فقد رُوِيَ أنَّه قال لبعضهم: إنَّ الله قد أعَزَّ الإسلامَ وأغْنَى عنْكُم. لهذا ولأسبابٍ أُخْرَى تَصَرَّف عمر بِهذه الطريقة. فكلُّ ما فعَله أنَّه لم يَجِد في عصْرِه مَنْ يَسْتحِق التَّأَلُّف في نَظَرِه، وليس من الضروري أنْ يَظَلَّ الذين أُلِّفُوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤَلَّفَةً إلى الأبَد. فالمسألة مسألة تَفَهُّمٍ للشريعة، ودِرايةٍ بالواقِع، وحِكْمةٌ في تطْبيق الأحكام الشرعية، وليست مسألةَ "اختياراتٍ عقليةٍ" تسْتَوْجِب تعطيل النصوص. إنَّ عمر لم "يَنْسَخ" الآيتين الوارِدتَين في شأْن الحادِثتين: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }؛ { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، ولم يُبْطِل أحكامَها، ولم يُحِلّ السرقة، ولم يُحَرِّم إِعْطاء سَهْم المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة.
لم يَقُل عمر بأنَّ القرآن كان يُراعِي عصْر نُزولِه ومُستوَى وَعْيِ الناس، وأنَّ علينا نَسْخ هذه الأحكام بأُخْرَى أكثرَ "تَقَدُّماً" منها، وأكثر مُلاءمةً لِعَصْرنا وأكثر "إنسانيةً"كما يقولُ البعض... فَلَيس مِن حقِّ عمرَ أو غيره أنْ يُعَطل هذه الأحكام، لأنَّ تعطيل النصوص هو تعبيرٌ عن هَوَىً لا عن فَهْمٍ لمَقاصِد الشريعة، إِذْ ليس مِن مَقاصِد الشريعة أن تُعَطَّل أحكامُها ).(1/216)
( المرجع " ظاهرة اليسار الإسلامي ، عبدالسلام بسيوني ، ص 124-126).
الشبهة(3) : تقديمهم المصلحة على النص وشبهات أخرى
الفاصل بين العلمانيين والعصرانيين إن وجد رقيق جدًا فهو فاصل درجي، وكأنهما وجهان لعملةُ واحدة، واسمان لمسمى واحد، ومصطلحان لمعنى واحد.
من أهم الشعارات والدعاوى التي رفعها العصرانيون- الأموات والأحياء منهم - والتي كادت تلغي الفاصل بينهم وبين إخوانهم العلمانيين شعارات (الثابت والمتغير في الإسلام) أو (المصلحة مقدمة على النص) أو (فقه المرحلة) وما إلى ذلك. فتلاعبهم بالألفاظ كتلاعبهم بالدين أو أشد، وقد استفاد العصرانيون مما واجهه العلمانيون من استنكار فراحوا يغيرون ويبدلون في المسميات، ويتلاعبون بالألفاظ، والمصطلحات ويبحثون عن الشبه والهفوات والزلات، ليلبسوا العلمانية ثوبًا إسلاميًا مزوراً، ويضفوا عليها صفة الشرعية، ويتمكنوا من التمويه على العوام والتلبيس على أهل الإسلام ولو إلى حين، وإلا فقل لي بربك- أيها القارئ الكريم، والمسلم الأمين- ما الفرق بين قول العصراني: (إن الثابت في الإسلام هو العبادات فقط، وهي التي يلتزم فيها بالنصوص القرآنية والحديثية، أما فيما سوى ذلك فالمجال مفتوح لتغيير النصوص وحسب ورد بعضها، حسب معطيات العصر، ومقتضيات المصلحة في كل زمان ومكان). وبين ما يدعو إليه العلمانيون من فصل الدين عن الحياة وحصره في دائرة العبادات، فمال الدين والحياة، ويتعجبون من الذين يريدون أن يحشروا أنف الدين في كل شئ: في الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وآداب الأكل والشرب واللباس، والزواج، ونحو ذلك.(1/217)
لا فرق إلا المكر، والخداع، والمراوغة، التي ينتهجها العصرانيون في العرض، وما مثلهما إلا كمثل لصين أتى أحدهما أهل بيت طيبين غافلين نائمين فنقب دارهم من الخلف وأخذ ما أخذ من متاعهم ولم يشعروا به إلا ساعة الخروج والهرب، أما الثاني فجاء في صورة زائر محتال، فسرق أشياء خفيفة المحمل، غالية الثمن، ولم يشعر به أحد إلا بعد أن اختفى من الأنظار.
ومما يؤسف له أن جل رموز العصرانية (1) اليوم كانوا من أعضاء الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون) وغيرهم، بل إن بعضهم كان في المقدمة ولا يزال البعض منهم يتولى قيادتها (2).
وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي في حدوث ذلك هو التسيب الفكري، والعقدي، وعدم وضوح المنهج، وتحديد الهوية، لدى هذه الحركات. فالمنهج القويم السليم- لا نقول يعصم عن الوقوع في الانحراف والابتداع إذ لا عاصم إلا الله، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء- ولكنه يقلل من حدوث ذلك.
يقول الدكتور النويهي في مقالة بعنوان: "نحو ثورة الفكر الديني" (3): (إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا خطوة مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل. وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه).
وبقول د. معروف الدواليبي في مقال بعنوان "النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان": (إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه، فهل يصح في الاجتهاد تغيير لما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟(1/218)
1- إن جميع الشرائع قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغيير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع.
2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولاً وبالأخذ بهما ثانياً.
فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضاً، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درساّ بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) (4).
وهذه الدعوة - الثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية - تعرض تحت شعارات مختلفة، مثل شعار المصلحة، أو أن المصلحة مقدمة على النص، أو تحت شعار فقه المرحلة كما هو الحال عندنا في السودان وهكذا.
والذي ندين به ويدين به كل مسلم أن المصلحة كل المصلحة هي في الالتزام بالنصوص القرآنية والحديثية، وأنه لا اجتهاد مع نص، حتى قال الأئمة الأعلام: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" و"إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط" و"كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول ×".
وكل أمر ورد فيه نص قرآني أو سنة صحيحة صريحة فهو ثابت لا يتغير ولا يتبدل سواء كان في العبادات أو المعاملات أو الأمور المعايشة فلا فرق، ومن الذي يستطيع أن يفرق بين شرع الله فيقبل بعضه ويرد البعض الآخر؟(1/219)
أما المسائل التي ليس فيها نص صحيح صريح فللعلماء أن يجتهدوا فيها، وللعامة أن يقلدوا أقربهم في رأيهم إلى السنة، وهذه هي المسائل التي يمكن أن يتغير الاجتهاد فيها حسب الظروف الزمانية والمكانية.
وقد نهى الأئمة الأعلام أن يقلد المرء دينه الرجال، فقد روي عن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، ولكن خذ من حيث أخذوا".
أما النصوص الصحيحة الصريحة فالمصلحة في الالتزام والتمسك بها كما تمسك بها أسلافنا الصالحون، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ثم من الذي يحدد هذه المصلحة؟ فالمصلحة أمر تقديري، وما تراه أنت مصلحة قد يراه غيرك عين المفسدة، وليس هناك أضر على الإسلام من التحسين والتقبيح العقليين، ورحم الله الخليفة الراشد الملهم عمر حين قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهرة". وما فسدت أحوال المسلمين وانحطت مكانتهم إلا عندما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدلوا الآراء والأفكار بالتمسك بالقرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
شبه القائلين بتقسيم الدين إلى ثابت ومتغير ودحضها :
يتشبث هؤلاء الأدعياء في دعواهم الكاذبة هذه بشبه باطلة، يرمون من ورائها إلى ترسم خطى أسيادهم من المستشرقين الماكرين أعداء الملة والدِّين:(1/220)
يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه القيم "الإسلام والحضارة الغربية " (5) في الفصل السادس منه تحت عنوان "التغريب في دراسات المستشرقين" موضحًا لخطورة البحث الذي كتبه المستشرق ولفرد سميث بعنوان "مجلة الأزهر: عرض ونقد" ومنبهًا لأمرين مهمين: (أن الخطط التي يقترحها المؤلف على المسلمين موجهة إلى محو ما استقر في نفوسهم، من أن للإسلام طبعًا ثابتاُ صلباً، وقيمًا محدودة مرسومة، يجتمع عليها المسلمون من ناحية، ويتميزون بها عن غيرهم من ناحية أخرى. فالخطط المقترحة في الكتاب موجهة نحو تطوير المسلمين عن طريق تطوير الإسلام نفسه، وإفقاده طابعه المحدد الثابت الذي يحول دون تحقيق التفاهم المنشود، الذي يرسي دعائم الاستعمار ويثبت أقدامه).
وعلق الأستاذ محمد محمد حسين كذلك على البحث الذي قدمه الدكتور مصطفي الزرقا - في مؤتمر عقد بجامعة برنستون بأميركا 1953 والذي اشترك فيه عدد من القسس المبشرين الأمريكان كما قدمت الدعوة إلى شخصيات معينة في العالم الإسلامي- معلقًا على ما في بحثه من روح انهزامية أمام هؤلاء القسس المبشرين تتضح في تسويغ الأساليب العصرية السائدة التي تخالف الإسلام مخالفة صريحة وانتحال الأعذار لها مثل قوله (6) : (فالصفة الدينية في الفقه الإسلامي لا تنافي أنه مؤسس على قواعد مدنية (7) بحتة، منتجة لفقه متطور كفيل بوفاء الحاجات العصرية وحل المشكلات النابتة في الطريق ص157).
يعلق أستاذ حسين فيقول: (وما يسميه هو بالحاجات العصرية نابع في أكثر الأحيان من تقليد نظم حضارية غربية عن الإسلام ومخالفة لأصوله، وليس مطلوبًا من المسلمين أن يكونوا على صورة غيرهم، يتبعون سننهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا فيه، بل إن مخالفة المسلمين لغير المسلمين هي شئ مقصود لذاته، صونًا للشخصية الإسلامية، وتمييزًا لها عن غيرها، ومن أجل ذلك كان المسلمون منهيين عن تقليد غير المسلمين في زيهم وعاداتهم.(1/221)
وهذا المنهج الفاسد الذي التزمه الزرقا بنية تزيين الشريعة الإسلامية عند أعدائها، وعند من يجهلونها قد أوقعه في أخطاء فاحشة فهو عند كلامه عن عقوبة الزنى بالجلد- وقد أهمل (8) الرجم وتجاهله- وعقوبة السارق بقطع اليد، وبقية الحدود الأربعة يقول: (فإذا لوحظ أن تطبيق بعض عقوبات الحدود الأربعة أصبح متعذراً (9) في زمان أو مكان، فمن الممكن تطبيق عقوبة أخرى ولا يوجب هذا ترك الشريعة أجمع ص158) !!
يقول الأستاذ حسين معلقاً: (فمن الواضح أن كلامه هذا تسويغ لإسقاط الحدود الإسلامية، سعيًا لإرضاء النظم المعاصرة، غير الإسلامية، التي تعتبرها ضربًا من القسوة والوحشية، وهو يفعل مثل ذلك في كلامه عن المعاملات التجارية العصرية التي تقوم كلها على أساس الربا، فيقول: (إن هذه المشكلة يمكن حلها في مبادئ الشريعة الإسلامية بطرق عديدة ص159) ويذكر فيما يذكره من الحلول: (الرجوع إلى تحديد الحالة الربوية التي كان عليها العرب وجاءت الشريعة بمنعها، إذ كان المرابون يتحكمون (10) كما يشاؤون بالفقير المحتاج للقرض الاستهلاكي الاستثماري ص 159). ويذكر فيما يذكره كذلك من مسوغات وحلول: (تأميم المصارف لحساب الدولة، فينتفي عندئذ معنى الربا من الفائدة الجزئية التي تؤخذ عن القرض، إذ تعود عندئذ إلى خزينة الدولة لمصلحة المجموع ص159).
عذرًا للإطالة، وإنما كان غرضي بيان أن السبب الحقيقي لرفع مثل هذه الشعارات ليس دليلاً نقليًا ولا عقلياً، وإنما هو تقليد الكفار وتنفيذ مخططاتهم، فما العصرانيون إلا ممثلون يقومون بأدوار مرسومة لا يستطيعون التخلي عنها منهم من يحسن التمثيل، ومنهم من لا يحسنه، وما رفعهم لهذه الشبه إلا من باب التدليس وذر الرماد على العيون.
نعود إلى تلك الشبه الممجوجة المكررة التي يتشبث بها هؤلاء، فنقول:
الشبهة الأولى : التشبث بقوله صلى الله عليه وسلم :"لا ضرر ولا ضرار" (11) :(1/222)
نعم، لا ضرر ولا ضرار، ولكن هل هناك ضرر وضرار أكبر من رد النصوص الصحيحة الصريحة؟ وهل هناك أرحم من رب العالمين الذي شرع ذلك وأمر بالتزامه؟ وأي ضرر في الالتزام بمنهج الله الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (واختلفوا هل بين اللفظين أعني الضرر والضرار فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور أن بينهما فرقاً. ثم قيل إن الضرر هو الاسم، والضرار: الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتفٍ في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.
وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضرارًا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح.
وقيل الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.
وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى الضرر والضرار بغير حق.
فأما إدخال الضرر على أحد بحق. إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهو غير مراد قطعاً، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق وهذا على نوعين:
أحدهما: ألا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه...
والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرر الممنوع بذلك) (12) .(1/223)
هذا هو مراد الحديث كما بينه هذا العالم الرباني رحمه الله، أما استدلالهم به على عدم إقامة حد الرجم على الزاني المحصن، أو حد القطع على السارق بعد إقامة البينة، واستيفاء الشروط، فهذا هو عين الضرر على الفرد نفسه وعلى المجتمع بأسره، فما هذه الرحمة التي فاقت رحمة رب العالمين ولكنها على العصاة والزناة والمجرمين؟ تبًا لهم وتبًا لمقالتهم هذه، وخاب فألهم وفأل أسيادهم من أعداء الملة والدين.
ألم أقل لكم إن القوم ناكثون للعهد، جاهلون بالشرع، ليس عندهم مسحة من فقه؟
الشبهة الثانية : التشبث بالقاعدة الأصولية: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان " (13):
هذه القاعدة كذلك لا تدل أدنى دلالة على ما ذهبوا إليه من التلاعب بالنصوص الشرعية، إذ لا اجتهاد مع النص، إنما تتناول هذه القاعدة المسائل الاجتهادية والفرعية التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع فهذه هي التي لا ينكر تغير الاجتهاد فيها حسب الظروف والملابسات والمستجدات.
فما لهؤلاء والقواعد الأصولية البالية؟! هل هناك خيار وفقوس، فما كان موافقًا للهوى من كلام الأصوليين قُبل وتلقف وما لم يوافق الهوى ويسبب الحرج مع الكفار رُد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟
{ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (14) .
نعم، القلوب مريضة ومرتابة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والرشاد.
تشبثهم باجتهادات عمر رضي الله عنه:
ما لهؤلاء القوم واجتهادات عمر؟ وما لهم ولعمر ولمنهج عمر؟ إنهم مخالفون له مخالفة كاملة، إنهم يريدون أن يبنوا منهجهم على أنقاض ما بناه عمر وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وحاشا عمر أن يسن سنة يقتدي بها مبتدع.(1/224)
1- يقولون أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة، ويعتقدون أنه عطل هذا المصرف لمصلحة رآها بعد تغير الظروف. وليس الأمر كما زعموا، ولكن الإسلام في عهد عمر عز بأهله ولم يعد بحاجة إلى من يتألفهم. وعمر رضي الله عنه لم يعطل نصًا فالنص باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يستطيع عمر ولا غير عمر أن يفعل ذلك أو يتجزأ عليه إلا شقيًا تعيسًا، ولكن لعدم وجود هذا الصنف من مستحقي الزكاة صرف عمر الزكاة في المصارف الأخرى، حيث يجوز صرف الزكاة في مصرف واحد أو مصرفين أو أكثر.
2- يقولون: لم ينفذ عمر حد السرقة عام الرمادة... وفي تغيير لحكم السارق الثابت بنص القرآن بعد تغير الظروف. هذا ما يدعونه بل هو ما يتمنونه، فهم لا يقولون على تنفيذ الحدود الشرعية خوفًا من حماة الحقوق الإنسانية.
فهل عطل عمر حقًا حد السرقة عام الرمادة لتغير الظروف؟ لا، فحد السرقة لا ينفذ إلا إذا توفرت شروط تنفيذه وانتفت موانعه، ومن شروط القطع في السرقة ألا يسرق السارق ما يسد به رمقه، وقد روي أن عمر رضي الله عنه لم يقطع غلمان (حاطب بن أبي بلتعة) رضي الله عنه لأنهم كانوا في حالة خصاصة، وهذا لا يعني أنه عطل الحد ولكن لم تتوفر الشروط، ومن المعلوم أن الحدود تُدرأ بالشبهات.
وكيف يظن بعمر- ذلك العبقري الملهم المحدث- أن يفعل ذلك؟ إن هذا لا يليق إلا بمتخلف عن متابعة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يعقل أن يعطل عمر حدًا من حدود الله، وهو الذي أقام الحد على أخي زوجه وخال أبنائه قدامة بن مظعون رضي الله عنه وقد شرب الخمر متأولا أنها حلال عليه وهو مريض خشية أن يقبض عمر قبل تنفيذ الحد عليه؟
إن استدلالات هؤلاء مصدرها عقولهم الباطنة، فهم يستدلون بما يتمنونه ليس إلا.
تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان :(1/225)
تشبثهم بما قاله العالم الرباني ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (15) عن تغير الفتوى واختلافها بتغير الزمان والمكان والعادات والنيات.
وما قاله ابن القيم رحمه الله وبينه بالأمثلة، ليس فيه هو الآخر دليل على ما ذهبوا إليه في وادٍ آخر.
قال في (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد):
(هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهو قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه من بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وخطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.(1/226)
ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل- بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة).
وسنأتي ببعض الأمثلة التي جاء بها ابن القيم للتدليل على ما قال ليتبين لك أيها القارئ اللبيب الفَطن أنه لا علاقة البتة بين ما رمى إليه ابن القيم رحمه الله وبين ما يهدف إليه هؤلاء من تطوير الدين وتطويعه حتى يُجاري العصر ويوافق ما توصلت إليه الحضارة الغربية... وحاشا ابن القيم أن يكون منطلقه وغرضه ومنهجه موافقًا لمنهج العصرانيين الذي رسمه لهم المستشرقون ومن لف لفهم من المشبوهين ومرضى القلوب.
المثال الأول : ترك إنكار المنكر مخافة حدوث ما هو أنكر، وقد اعتمد ابن القيم رحمه الله على قواعد فقهية وهي ارتكاب أخف الضررين، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكل هذه أصول مستقاة من أدلة شرعية، وليس في كلام ابن القيم إذن أدنى تلميح لتعطيل النصوص وردها، وهو لم يأت بشئ مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وإنما هو سائر على منهاجهم ملتزم بما كان عليه الصحابة والتابعون، وهذا هو الظن به وبأمثاله من العلماء الربانيين، فما للعصرانيين ولابن القيم ولمنهجه القويم؟(1/227)
قال رحمه الله تحت عنوان: "الإنكار له شروط": (المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الملوك والولاة بالخروج (16) عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: "لا، ما أقاموا الصلاة" وقال: "من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعته". ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل (17) وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَم على تغيير البيت ورَده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم، من عدم احتمال قريش لذلك لقُرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
أربع درجات للإنكار:
فإنكار المنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يَزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.(1/228)
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء (18) وتصدية (19) ، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع (20) والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) (21).
المثال الثاني : النهي عن قطع الأيدي في الغزو، وهو من باب الخاص والعام.
فالأمر بقطع يد السارق مشروط بشروط، وهو أمر عام استثنيت منه حالات خاصة، نهي فيها عن القطع أو أمر بتأخيره، قال ابن القيم: (المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن تقطع الأيدي في الغزو" رواه أبو داود. فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى (22) عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكر أبو القاسم الخرقي في مختصره ، فقال : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد أتى بشر بن أرطأة برجل من الغزاة قد سرق مجنَّة (23) فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تقطع الأيدي في الغزو" لقطعت يدك، رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة.(1/229)
روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس ألا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية، ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء مثل ذلك.
وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة- رضي الله عنه - فشرب الخمر. فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم (24) ؟!
وأُتي سعد بن أبي وقاص بأبي محجَن يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجَن:
كفى حزنًا أن تطرد الخيل بالقنا وأتركُ مشدودًا علي وثاقيا
فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك- والله عليَّ- إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني. قال: فحلته حتى التقى الناس، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال وصعدوا به فوق العُذَيْب (25) ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجَن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، جعل الناس يقولون: الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجَن، وأبو محجَن في القيد، فلما هزم العدو. رجع أبو محجَن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنه حفصة سعدًا بما كان من أمره. فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاه، فخلى سبيله، فقال أبو محجَن: قد كنت أشربها إذ يُقام عليَّ الحدُّ وأطهر منها، فأما إذ بَهْرَجْتَنى والله، لا أشربها أبداً، وقوله: "إذا بَهْرَجْتَنى" أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه "بهرج الدمَ ابنُ الحارث" أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصًا ولا قياسًا، ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصواب.
قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه.(1/230)
قلت: أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة (26) راجحة. إما لحاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يُؤخر (27) عن الحامل والمرضع عن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود. فتأخير لمصلحة الإسلام أولى.
فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد: "والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهما" فأسقط عنه الحد؟ قيل: قد يتمسك بهذا من يقول: "لا حد على مسلم في دار الحرب" كما يقوله أبو حنيفة. ولا حجة فيه، والظاهر أن سعدًا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى، فإنه لما رأى من تأثير أبي محجَن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأَ عنه الحد، لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجسة وقعت في بَحر، ولاسيما قد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال) (28).
قلت : لعل سعدًا فهم من الحديث أن الحد يسقط في دار الحرب وليس يؤجل ويؤخر إلى حين رجوع الجيش، وربما كان هذا اجتهادًا من سعد، وقول الصحابي إذا خالف غيره ليس حجة، والمهم أن الحد إذا وصل إلى الحاكم فلا مجال لإسقاطه أبدًا، أما قبل ذلك فهو غير مسؤول عما لم يحط به علمًا. ولذلك عندما أراد صفوان بن أمية أن يعفو عن سارق ردائه بعد أن وصل أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد قطع يده فقال: "قد وهبته له" لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال ما معناه: هلا كان هذا العفو قبل ذلك؟ أما الآن فلا.
وكذلك عندما جاء أسامة بن زيد يشفع للمرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده بعد أن وصل أمرها إليه قال له: "أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" أو كما قال.(1/231)
أما قياس ابن القيم رحمه الله ما قاله سعد بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد عندما قتل النفر من بني خزيمة عام الفتح "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ولم يبرأ من خالد (29)- فهو قياس مع الفارق، لأن خالدًا رضي الله عنه كان متأولاً وظانًا أنهم كفار لأنهم قالوا "صبأنا" ولم يعرفوا أن يقولوا "أسلمنا" فظن أنهم على الشرك، أما أبو محجَن فلم يكن متأولاً.
وكذلك التوبة لا تسقط الحد، ولو كانت التوبة تسقط الحد لأسقطه صلى الله عليه وسلم عن تلك الصحابية التي اعترفت بزناها دون أن يراها أو يعلم بها أحد، فأقام عليها الحد وقد قال عنها: لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لو سعتهم.
فالتوبة النصوح تفيد في الآخرة ولكنها لا تسقط حدًا أبدًا، وقد قلت هذا ردًا على ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا الموضوع من أن التائب يمكن أن يسقط عنه الحد معللاً لمقولة سعد.
المثال الثالث: هو عبارة عن قياس وإلحاق لبعض النظائر ببعض، وهذا لا غبار عليه ولا معارضة فيه لنص كما يقول العصرانيون.
قال ابن القيم تحت عنوان "فصل: صدقة الفطر حسب قوت المخرجين".(1/232)
المثال الرابع (30) : أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كالبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال غيره، إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه حديث، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وأن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه مالا يتأتى من الخبز والطعام) (31) .
المثال الخامس: ويعتمد على أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الشرع مفادها رفع الحرج عن عباد الله لأن الله ما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد مثل به ابن القيم لبيان مراده. فقال:
(إن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، وقال: "اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت" فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال (32) والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك. وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاة للصلاة والصيام، وأن نهي الحائض عن الجميع سواء، ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه...(1/233)
والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز.
إلى أن قال :
قالوا: وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت: "أحابستنا هي؟" قالوا: "إنها قد أفاضت، قال: "فلتنفر إذاً" وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. فأما في الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيَّض فلا تخلو من ثمانية أقسام (33)" (34).
وهكذا نرى أنه لا علاقة البتة بين ما ذهب إليه ابن القيم وما ذهب إليه هؤلاء من جعل المصلحة هي الحاكمة على النصوص، هذه المصلحة المزعومة التي لم يلتفت إليها أحد من علماء الأمة طيلة هذه المدة ثم جاء ليكشفها سيد أحمد خان صاحب اللسان الأعجمي والقلب المفتون.
الشبهة الخامسة (35) : رأي شاذ مهجور لرجل نكرة مبتدع يُدعى الطوفي :
يقول الأستاذ بسطامي: (أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف (36) أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء (37) .
فمن هو الطوفي هذا؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء؟ تذكر المصادر التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من فقهاء الحنابلة وتصفه بالعلم والصلاح والفضل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالاً على انحراف منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة (38) . وتجعل ذلك سببًا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة فانتقل منها إلى بلدة صغيرة.(1/234)
وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأي شاذ لم يعرف قبله، ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (39) . وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا.
إلى أن قال:
أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث "لا ضرر ولا ضرار"، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى من مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع إذا عارضتها.
يقول: "اعلم أن هذه الطريقة إذا ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور - حديث لا ضرر ولا ضرار- ليست هي القول بالمصالح المرسلة (40) على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام... فالمصلحة وباقي أدلة الشرع، إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة عليها... وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له... وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسة شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول... ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المنافع) (41) .
قلت: هذا القول الشاذ والرأي الساقط، لو كان صادرًا من أحد الأئمة المعتبرين - وحاشاهم أن يصدر منهم مثل هذا الهراء- لما كان فيه حجة لأن الله لم يتعبدنا بسقطات وهفوات العلماء الأخيار، دعك من هؤلاء الأغمار المبتدعين، دعك عن رجل شيعي.(1/235)
والعجب كل العجب من صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا -سامحه الله- حيث اعتبر أن هذا القول الشاذ سبق تحمد على نشره مجلته، وما علم أن ذلك وزر عظيم، إذ ليس هناك ذنب أكبر بعد الإشراك بالله من نشر البدع وإشاعتها، خاصة بين الجهلة الذين لا يميزون بين الحق والباطل، والغث والسمين، والبدعة والسنة.
وقد أتي الشيخ محمد رشيد من قبل مداخلته لمحمد عبده وتتلمذة على يديه وهو الذي أفسد عقول الكثيرين، ولا تزال آراؤه تفسد وتخرب، وأي علم يمكن أن يستفاد من أمثال هؤلاء سوى التحلل من أواصر الدين والتمكين لشبه المستشرقين؟ ورحمة الله على من قال: "إن هذا العلم دين، فلينظر أحدكم ممن يتلقى دينه".
دينك هو رأس مالك أيها الأخ الكريم فلا تتلاعب به، ولا تأخذ عن هؤلاء الأغرار فإنهم والله أجهل الناس بالدين مع سوء قصدهم وقلة أدبهم.
وما قول الطوفي هذا، وقول خان، والدواليبي، وكل من لفَّ لفهم إلا سواء، لا ميزة لسابقهم على لاحقهم إلا أن السابق منهم يتحمل من الوزر والإثم مثل أوزار من أضلهم بهذه الأقوال وأزاغ قلوبهم بتلك الشبه، دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا.
فهنيئًا للطوفي بهذا، وليعلم الجميع أن الله حافظ لدينه ومبلغ لأمره، وستظل النصوص هي الحكم لأنها هي عين المصلحة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
( المرجع : مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي ، الأمين الحاج محمد أحمد ،ص 103-122).
وقال الأستاذ سعيد الزهراني ردًا على هذه الشبهة :
(القول بالدوران مع المصلحة لم يُبق شيئًا من أحكام الشرع غير خاضع للاجتهاد، حتى ولو كان ثابتًا بالنص القطعي الدلالة والثبوت، ومجمع عليه كما سيتبين بعد قليل .(1/236)
والقول بتخطي النص والإجماع، من أجل تحقيق المصلحة بدعة، أظهرها نجم الدين الطوفي (42) المتوفى سنة 716هـ، الذي يقول بعد أن عدد أدلة الشرع: (وهذه الأدلة ... وأقواها النص والإجماع. ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله - عليه السلام -: " لا ضرر ولا ضرار " وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما ... ) (43).
هذا هو رأي الطوفي في المصلحة، والعلماء قديمًا وحديثًا على أن هذا الرأي قول شاذ. ومع هذا فقد قال به بعض المفكرين المعاصرين، وأصبح مبررًا لهم لإخضاع الأحكام التشريعية للاجتهاد، حتى لو كانت ثابتة بالنصوص، والإجماع منعقد عليها .
وهذه بعض الأمثلة من أقوالهم توضح ذلك :
فالدكتور عبدالمنعم النمر يبدأ بتقرير أن أحاديث المعاملات كالبيع والشراء والإجارة، التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن عن وحي، وإنما كانت بناء على نظرة الرسول لتحقيق مصالح الناس، ثم يقول: (ولذلك لم يكن الرسول يتردد في تغيير حكمه الأول، إذا ظهر أنه لم يحقق مصالح الناس، ولم يقطع النزاع، ويحكم بحكم جديد يوفر المصلحة على ضوء الواقع والتجربة...) (44) .
فبإخراجه أحاديث المعاملات من أن تكون عن وحي، والسعي للدوران مع المصلحة، لا مانع عنده من الاجتهاد، ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول باجتهاده على ضوء الواقع أمامه وبعيدًا عن الوحي، حكما ثابتا للأبد، لا يجوز لأحد بعده أن يتصرف فيه، حتى ولو كانت الظروف الجديدة ومصلحة الناس في ظلها، تحتم هذا التغيير ؟
إن العقل المجرد في هذه الحالة يقول: إن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا حين تقتضيه المصلحة ... ) (45).(1/237)
وقاعدته هنا فيما يرى له حق الاجتهاد فيه، ألا يعارض لنص قرآني، أو قاعدة شرعية، يقول: (إن الإطار العلمي الديني للاجتهاد، هو عدم معارضته لنص قرآني، أو قاعدة شرعية مع تحقيقه المصلحة العامة) (46) .
وعلى هذا فتحقيق المصلحة عنده مقدمة على نصوص السنة، حيث لم يأت لها بذكر هنا في شروطه .
وفي موضع آخر يؤكد ضرورة مراعاة المصلحة، فيقول: (وقد بلغت ضرورة مراعاة مصلحة المجتمع إلى حد أن إمامين كبيرين من أئمة الفقه والفكر الإسلامي، وهو الإمام الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716هـ، وحجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ- 1111م، يقرران: أنه إذا عارضت مصلحة حكمًا ثبت بالنص والإجماع، فإن هذا في الحقيقة تعارض بين مصلحتين: مصلحة حكم النص والإجماع، والمصلحة العارضة، فإذا ترجحت المصلحة العارضة بمرجحاته المعتبرة، روعيت المصلحة المعارضة، وعدل عن النص والإجماع) (47).
وينتصر لما ذهب إليه الطوفي من رأي شاذ فيقول: (لكن الذي جر على الطوفي بعض المتاعب، وأثار الاعتراضات، هو قوله: بأن النص والإجماع إذا عارضتهما المصلحة الراجحة، قدمت رعاية المصلحة على طريق البيان أو التخصيص للنص .
مع أن الطوفي بهذا لم يأت بجديد. لأنها قضية معمول بها منذ عهد الصحابة، لكن التصريح بهذا ربما يكون هو الجديد .. والعادة جرت على أن الناس ترى أو تعمل الشيء أحيانًا، لكنها تكره التصريح به .. ) (48).
ثم يقول: (وهذا الذي صرح به الطوفي، قد مارسه الصحابة والتابعون عمليًا في حياتهم، وكل الفقهاء يُقِرُّون هذا، ويقررونه في كتبهم، عند الكلام عن اجتهاد الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم.. فكانت الغرابة أن ينزعج بعضهم مما قرره الطوفي !!
فما وجه الإنكار - إذن - على الطوفي والتنديد به. وهو لم يزد على أن استخلص قضية من أعمال واجتهادات الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ وأسمعها الآذان ووضعها أمام الأنظار؟) (49).(1/238)
وهذا كلام صريح من عبدالمنعم النمر على موافقة الطوفي في قوله الشاذ، ولو كان صحيحًا أنها قضية معمول بها في اجتهادات الصحابة والتابعين لما عَدَّها أهل العلم رأيًا شاذًا.
وممن قالوا بتقديم المصلحة على النص والإجماع محمد عمارة، وهذا قوله: (فالحكم المجمع عليه، والمؤسس إجماعه على نص قطعي الدلالة والثبوت، إذا كان متعلقًا بعلة غائبة تبدلت أو بعادة تغيرت أو بعرف تطور - أي إذا لم يعد محققًا للمقصد منه، وهو المصلحة - فلابد من الاجتهاد فيه ومعه، اجتهادًا يثمر حكمًا جديدًا، يحقق "المقصد - المصلحة ") (50)، وهذا هو الدوران مع المصلحة .
وفي مقال بعنوان " وثنيون هم عبدة النصوص " لفهمي هويدي، يرى أن تقديم النص على المصلحة والاستمساك به في أي ظرف وثنية جديدة، ويتسائل ما العمل إذا لم تحقق النصوص تحت أي ظرف مقاصد الشريعة، وبدا أن هناك تعارضًا بينهما؟ ويجيب أن الثابت عند أغلب الفقهاء أن المصلحة تُقدَّم على النص (51).
وفي موضع آخر يقول تحت عنوان فقهاء السلف جاروا على المصلحة: (لم يعد أحد يجادل في اعتبار المصلحة كأحد مصادر التشريع، فقد استقر الأمر على نحو بعيد لصالح المصلحة وترجيحها. حتى شاعت مقولة " حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله ") (52).
ويقول: (... إن مدونات أهل السنة أغمطت المصلحة حقها، بحيث لم تعطها نصيبها الذي يتناسب مع مكانتها الجليلة في الشريعة ... ولقد أدى التضييق وعدم العناية باعتبار المصالح إلى تحريم الأشياء بأدنى الشبهات) .
ويبين (أن المشكل الذي هو مثار الجدل، يتمثل في افتراض تعارض المصلحة مع الدليل الشرعي.
ذلك أن الأغلبية الساحقة من الفقهاء المعتبرين، تُعارِض رأي الطوفي في تغليب المصلحة في المعاملات على الدليل الشرعي على الإطلاق، أي بغير ضابط ولا رابط) (53).(1/239)
ويرى هويدي أن معالجة التعارض بين المصلحة والنص يكون بالمنطوق التالي: (إن الحكم الشرعي في المعاملات إذا ثبت بنص قطعي أو بإجماع صريح يطمأن إليه، لا يعدل عنه إلى حكم غيره إلا في حالتين: إذا كانت المصلحة المستفادة من النص أو الإجماع مما بتغير في معاملات الناس - أو إذا قضت بهذا العدول ضرورة، لأن مواضع الضرورات مستثناة بالنص. أما النصوص التي لا تتغير مصالحها، كنصوص حِلّ البيع والإجارة والرهن وحرمة الربا والغضب، فلا عبرة بالمصلحة المظنونة في مقابلتها) (54).
وهذا المنطوق الذي يقول به، ما هو إلا محاولة لتبرير رأيه في مخالفة النص القطعي والإجماع الصريح وتقديم المصلحة عليه .
وهذا محمد سليم العوا، الذي سبق ذكر قوله عند حديثه عما هو شرع دائم، يبالغ في مكانة المصلحة، فيقول: (... وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة، التي ما بعث الله الرسل في أي أمة كانوا إلا لتحقيقها، فأينما تبين وجهها فثم شرع الله ودينه) (55) .
الرد :
هذه نماذج من أقوال هؤلاء المفكرين يتبين منها كيف جعلوا السعي لتحقيق المصلحة مطلبًا أساسيًا، من أجله ردوا النصوص الثابتة، وتخطوا ما أجمعت عليه الأمة من أحكام تشريعية وفتحوا بذلك بابًا واسعًا لرد ما أرادوا من الأحكام، وقبول ما أرادوا تحت تبرير شرعية الاجتهاد، فيما يحقق المصلحة، ويمكن بيان فساد قولهم في النقاط التالية:
1 - لم يفرق أصحاب هذه الاتجاه بين ما شهد الشرع باعتباره من المصالح وغيرها. فالمصلحة من حيث شهادة الشرع لها إما أن تكون مصلحة معتبرة، أو مصلحة ملغاة، أو مصلحة مسكوت عنها (56).
والمصلحة الملغاة هي ما شهد الشرع ببطلانها، بوجود نص يدل على حكم في الواقعة، يناقض الحكم الذي تمليه المصلحة (57).(1/240)
وقول هؤلاء المفكرون بتقديم المصلحة على النص القطعي الدلالة والثبوت، مناقَضة لأحكام ثابتة بالنصوص، بما تمليه مصلحة متوهمة والعلماء المعتبرين لم يعملوا بمصلحة في مقابل نص شرعي، (لأن العمل بالمصلحة في مقابلة هذا النص "يغير النص " أو "يصدم النص " أو "يرفع حكم النص " أو "يناقض النص " أو "يخالف النص " أو "يحرف النص" وقد قرر الغزالي أن المصلحة التي هذا شأنها مصلحة ملغاة) (58).
2 - مما هو متفق عليه أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق المصالح وعلى هذا فكيف يصح أن يقال أن في نصوص الشرع الثابتة، أو مسائل الإجماع ما قد يصادم المصلحة، ولذلك نحتاج إلى تقديم المصلحة عليها ؟
3 - من الانحراف البّين أن جعل هؤلاء المفكرون لعقولهم تحديد المصالح، وأخلوا بضوابط المصلحة المعتبرة، التي قررها أهل العلم، وتتلخص فيما ذكره البوطي بقوله: (المصلحة المعتبر شرعًا ينبغي أن تكون غير مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله، ولا للإجماع أو القياس الصحيح، وأن لا تكون مُفَوِّتَة لمصلحة مساوية لها أو أهم منها) (59) .
بالإضافة إلى ضابط آخر وهو أن يوكل تقدير المصلحة إلى المجتهدين من العلماء.
وواقع هؤلاء المفكرين يخالف هذه الضوابط ولا يعبأون بها كثيرًا، ومثال ذلك أنهم هم الذين يقدرون المصلحة مع قصر باعهم في العلم الشرعي، ويرون أن تقدير غيرهم من العلماء المعتبرين يتسم بالجمود والقصور عن معرفة حاجة العصر ومتطلباته المستجدة .(1/241)
4 - أن رأي الطوفي الذي يستند إليه من قال بتقديم المصلحة على النص، قول شاذ، كما قرر أهل العلم ذلك، وقد رد عليه كثير من العلماء وشنعوا عليه. يقول عنه أبو زهرة: (إن مهاجمته للنصوص، ونشرة فكرة نسخها، أو تخصيصها بالمصالح هي أسلو شيعي، أُريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق، لأن الشارع الحكيم جاء بشرعة لمصالح الناس في الدنيا والآخرة، وأدرى الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه وصى أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها، وإن لم يذكر كلمة الإمام، ليروج القول، وتنتشر الفكرة) (60).
ويقول عبدالوهاب خلاف: (إن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه، وفيما فيه نص، فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي، لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالروية والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية، وعلى كل القوانين) (61).
ويقول يوسف كمال: (وقد أُتهم الطوفي من البعض بالتشيع والرفض وسب الصحابة، والعلماء على أن رأيه في المصلحة شاذ ولم يعرف قبله ولم يتابعه بعده أحد إلا بعض المعاصرين) (62) .
وبعد هذا كيف يصح أن يكون قول الطوفي هو القول المعتمد وتُرد أقوال العلماء المعتبرين؟(1/242)
5 - يرد على القائلين بتقديم المصلحة على النص، بمثال تطبيقي، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة، حيث فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة. فعمر قال: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ". قال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ... ".
وسأل الناس أبا بكر في رد جيش أسامة ليستعين به على قتال أهل الردة، فأبى، والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، وهي من ظنهم بقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين، ولما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة - وهم مجتهدون - وعملوا بما ورد في النص ) .
يقول الشاطبي -رحمه الله -: ( ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافة، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (63).
وفي هذه القصة دلالة واضحة وقوية على أن المصلحة المقابلة للنص، لا عبرة بها حتى وإن كانت من كبار المجتهدين (64).
6 - مما يريد به على الدكتور عبدالمنعم النمر في قوله بجواز الاجتهاد فيما اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا تقتضيه المصلحة. أن يقال ما المصلحة هنا؟ هل هي المصلحة التي أرادها الشارع؟ أم المصلحة التي تتبع هوى الناس .(1/243)
ونظن أنه لا يقول بغير الأولى، وعلى ذلك فالمصلحة فيما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى أما غيره فليس معصومًا من النقص والتقصير مهما ادعى القدرة على الاجتهاد، والدليل على ذلك ما يذكر الدكتور علي محيي الدين داغي عند رده على النمر بقوله: (إن الدكتور النمر قد تولى هو واثنان من شيوخ الأزهر تقنين قانون الأحوال الشخصية رقم (40) لسنة (1979) الذي راعى المصلحة التي تريدها الدولة، فقيد الزواج بالثانية برضا الزوجة الأولى، وأعطى المسكن للزوجة، فترتب على ذلك مشاكل ومظالم لا قبل للمحاكم بها، ولم يطقها الشعب المصري المتدين بفطرته، فرفضوها رفضًا باتًا مما أدىل إلى إلغائه بعد عمر قصير، وقد اعترف الشيخ النمر على صفحات جريدة الأهرام بأنه كان مخطئًا في أكثر بنود هذا القانون (273) .
وهذا دليل عملي وتجريبي للشيخ نفسه بأن المصلحة إن أعطينا معيارها للناس فلا تنضبط، ولذلك فالتشريع في نظر الإسلام من حق الله تعالى ورسوله فقط والمصلحة هي التي أقرتها الشريعة، ولذلك إذا وجد نص صحيح صريح فلا يجوز لأحد مهما كان أن يعارضه...) (65) .(1/244)
وفي نهاية هذا الفصل نخلص إلى أن أصحاب هذا الاتجاه قد جعلوا الاجتهاد هو المعبر الذي يصلون عن طريقه إلى كل ما يطيب لهم، تحت مسوغ شرعي - في نظرهم - يبررون به منهجهم العقلي الذي خالفوا فيه القواعد التي قررها أهل العلم، ومنها: مجال الاجتهاد، فلا يكون الاجتهاد فيما فيه دليل قاطع، وإنما يكون فيما كان الدليل فيه ظني، أو ما لا نص فيه من كتاب أو سنة، أما عند العقلانيين فلا التزام بهذه الضابط، ويمكن أن يكون الاجتهاد في الأصول والثوابت، ولذلك يرون أن الاجتهاد العقلي يمكن أن يعيد دراسة وتفسير المبادئ التشريعية كما يقول محمد إقبال: (والرأي عندي هو أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا على ضوء تجاربهم، وعلى هدى ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة .
هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ، كما أن حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج، يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما يورثه من آثار أسلافه، من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه، وحل مشكلاته الخاصة) (66).
وعند محمد عمارة يمكن أن يكون الاجتهاد في النصوص القطعية كما مر، والباعث على ذلك هو تحقيق المصلحة، وكأنه لا يعلم (أن ليس من المصلحة في شيء على الإطلاق ما خالف دليلاً من الكتاب والسنة، أو عارض قاعدة محكمة من قواعد الشريعة .
ولا يصح على الإطلاق أن يكون المعيار في تحديد المصالح موافقتها لأهواء الناس وشهواتهم، أو مراعاتهم لعاداتهم وأعرافهم إذا كانت تخالف شرع الله) (67).
ومن المخالفات الظاهرة عند محمد عمارة التي يخالف فيها ضوابط الاجتهاد هي في من يرى أن لهم حق الاجتهاد، وهم من يسميهم أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي، والمقصود بهم أشمل وأعم من أن يكونوا علماء الشريعة، وعنده أن كل مفكر له حق الاجتهاد، دون أن يكون بالضرورة دارسًا لعلوم الشريعة (68).(1/245)
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/649-658).
الشبهة(4) : الثابت والمتغير في الإسلام
من مبادئ (العصرانية) تقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات، وقد تناول مفكروها هذه القضية بالبحث في المسيحية واليهودية (69) والإسلام (70). ويشرح الدكتور معروف الدواليبي هذا المبدأ في مقال له بعنوان: " النصوص وتغير الأحكام بتغيير الزمان" فيقول:
" إذا كان النسخ لا يصح إلا مِنْ قِبَل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام، وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟
1- إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لِمَا في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان، غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة، ولم ينسخ مِنْ قِبَل مَنْ له سلطة الاشتراع.
2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولا، وبالأخذ بهما ثانيًا.
فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًّا خاصًّا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لَمْ ينسخ نصه مِنْ قِبَل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين، تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام.. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان". (71)(1/246)
فعلي رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية على غيرها من التشريعات، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام، ولو كان هذا الحكم ثابتًا بنص القرآن أو السنة، تبعًا لتغير المصالح بتغير الأزمان، مع أن كثيرًا مِنَ القوانين قديمًا وحديثًا لا تتميز بهذه المرونة، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي، ينقضه أحد كائنًا مَنْ كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء. ويقول: إن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة؛ وهي أنه " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".
ولتتضح لنا الحقيقة في هذه المسألة لا بد من النظر أولا في هذه القاعدة الفقهية التي أشار إليها الكاتب، ثم ننظر في الأدلة التي تورد عادة لتعضيد وجهة النظر القائلة بهذه المرونة الواسعة للشريعة الإسلامية، التي لا تداينها حتى أكثر القوانين العصرية تقدمًا.
من المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين: رئيسين: أحكام مصدرها نصوص القرآن والسنة مباشرة، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة على النصوص؛ مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص، أو عُرْف أو عادة لم ينشئها نص شرعي.
لا يختلف اثنان على أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم، ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح.(1/247)
ففي القسم الثاني من الأحكام الذي لم يكن مصدره النص مباشرة، ولم يجد الفقهاء صعوبة تُذْكَر في تقرير أن المصلحة التي لم يأتِ بها نص أصلا يمكن أن تغير وتصبح في حين مِنَ الأحيان مفسدة، أو أن العُرْف و العادة الذي لم يتكون إثر نص شرعي أصلا يمكن أن يتبدل ويتغير، وحينئذ قرروا - بلا تحفظ- أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره سواء كان مصلحة أو عُرْفًا متصور عقلا وواقع ملموس.
أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة، فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم، فغاية النص وهدف النص وحكمة النص هي المصلحة. حينئذ لم يستطع ذهن الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة؛ ذلك أن مِنَ المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة. وأن من التناقض الواضح أن يقال: إن مصلحة ما عارضت النص؛ فالنص هو عدل كله، ورحمة كله، وحكمة كله، ومصلحة كله، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص، إلا إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم. حينئذ قرر الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان.
يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة :
" إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا في كل زمان وفي كل مكان على كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى". (72)(1/248)
وعلى هذا فإن القاعدة الفقهية: "لا ينكر تغير الأحكام بتدل الزمان" قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام؛ وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة على نص شرعي، بل مصدرها عُرْف أو مصلحة سكتت عنها النصوص. وهذه القاعدة هي إحدى قواعد المجلة، وقررتها المادة (39)، وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها على الأحكام التي لم تستنبط من النصوص (73)، وعلى هذا استقر فهم الفقهاء...
يقول الدكتور (مصطفى الزرقا) في بحثه لهذا الموضوع :
" من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية، وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان. وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذِّكر، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان؛ بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال". (74)
أثر العرف في تغير الأحكام :(1/249)
ويزيد الإمام الشاطبي أحد علماء أصول الفقه المتمكنين مسألة تأثير العرف تغير الأحكام شرحًا وتوضيحًا؛ فيبيِّن أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلا، ولم تتعرَّض لها إطلاقًا، لا بمدح ولا ذم، إنما أنشأها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم، فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية فيتغير حكمها تبعًا لتغيرها. وضرب بعض الأمثلة على ذلك؛ منها على سبيل المثال: العبارات التي يكون لها تأثير في إنشاء أو إنهاء عقود المعاملات المالية، مثل البيع أو ألفاظ الطلاق، فهذه يراعى فيها العبارات التي يعتادها الناس والاصطلاحات التي يستعملونها في كل عصر. ومن الأمثلة أيضًا للعوائد التي تتغير لها، ويكون لها تأثير العادات الخاصة بالزواج مثلا، فهذه قد تختلف من عصر إلى عصر، أو من بلد إلى بلد، فإذا كانت العادة مثلا أن يدفع المهر كاملا قبل الزواج أو الهدايا التي تدفع للعروس تكون من ضمن المهر، فلهذه العادات تأثير في الأحكام الشرعية.
أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة، وتعتبرها من المحاسن أو تذمها وتعدها من القبائح، فهذه لا تتبدل ولا تتغير بل هي ثابتة، وفيما يلي عبارة الإمام الشاطبي التي شرح فيها هذه القضية (75) :
يقول: "العوائد المستمرة ضربان؛ أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو نَدْبًا، أو نهي عنها كراهة أو تحريمًا، أو أذن بها فِعْلا وتَرْكًا. فالثانية: هي العوائد الجارية بين الْخَلْق بما ليس في نفيه وإثباته دليل شرعي.(1/250)
فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية.. فهي إما حسنة عند الشارع أو قبيحة.. فلا تبديل لها.. فلا يصح أن ينقلب الْحَسَن فيها قبيحًا ولا القبيح حَسَنًا.. إذْ لو صَحَّ مثل هذا لكان نَسْخًا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل.. فرفع العوائد الشرعية باطل".
أما الثانية: فهي عند الشاطبي المتبدلة، ثم ضرب لها أمثلة سقناها.
رأي الطوفي في أثر المصلحة في تغير الأحكام :
أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير؛ لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه، ولا يعرف أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة (المنار) في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو (نجم الدين الطوفي) ذكرت المجلة أن تحدث عن المصلحة بما لم تَرَ مثله لغيره من الفقهاء (76)، فمن هو الطوفي هذا؟ ما رأيه الذي شَذَّ به عن بقية الفقهاء؟
تذكر المصادر التي ترجمت لحياة (الطوفي) أنه كان من الفقهاء الحنابلة، وتصفه بالعلم والصَّلاح والفَضْل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلاله على منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشييع والرفض وسَبِّ الصحابة، وتجعل ذلك سببا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة، ومنها نُفِيَ إلى بلدة صغيرة. وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته، إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأيًا شاذًّا، لم يعرف قبله ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (77)، وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا وإن كان في الغالب دليل الخطأ، فهل كان رأي الطوفي في المصلحة مع كل تلك الظلال القاتمة في حياته ومع ذلك الشذوذ رأيًا صائبًا، أم كان رأيًا لا وزن له؟(1/251)
أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث "لا ضر ولا ضرار" (78)، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع، وأنه في غير دائرة العبادات والمقدرات فإن المصلحة تقوم على النص والإجماع إذا عارضتهما.
يقول: " واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور - حديث لا ضرر ولا ضرار - ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا؛ فإن اتفقا فبها ونِعْمَتْ، وإن اختلفا وتعذَّر الجمع بينهما قُدِّمتِ المصلحة على غيرها.. وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رُسِمَ له.. وهذا بخلاف حقوق المكلفين؛ فإن أحكامها سياسية شرعية وضعتْ لمصالحهم، فكانت هي المعتبر، وعلى تحصيلها المعوَّل.. ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته؛ لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المنافع". (79)
ويسوق لرأيه هذا عددًا من الأدلة؛ منها : (80)
1- أن النصوص إجمالا وتفصيلا قد بيَّنت أن مقصود الله -عز وجل- من تشريع أحكامه تحقيق المصلحة ورفع الحرج؛ من ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185] ، وقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] وقال عليه السلام: "الدين يسر"، وقال: "بعثت بالحنيفية السمحة".(1/252)
2- حديث لا ضرر ولا ضرار وهو واضح الدلالة في نفس الضرر والمفسدة، وتقديم المصلحة على جميع أدلة الشرع، فإذا تضمن بعد أدلة الشرع ضررًا كان لا بد عملا بهذا الحديث من إزالة ذلك الضرر.
3- أن النصوص متعارضة مختلفة، فلهذا تكون سببًا للخلاف والتفرق، أما المصلحة فأمر حقيقي لا يختلف فيه، ولهذا فهي أولى بالتقديم على النصوص.
4- أن المصلحة دليل متفق عليه، أما الإجماع فدليل مختلف حوله، فالتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
وهذا مجمل ما عند (الطوفي) من أدلة على رأيه، ولكن تحليل هذه الأدلة بكل رَوِيَّة وتَمَعُّن يظهر فيها ضعفًا وتناقضا لا يُخْطِئه مَنْ له أدنى إدراك بالأدلة وطرق مناقشتها.
1- فمما لا يختلف فيه اثنان أن النصوص دلت عمومًا وتفصيلا أن أحكام الشريعة غايتها المصلحة، ولكن هذا دليل إثبات أنه حيثما وُجِدَ النص فَثَمَّ المصلحة، والله أراد من النصوص اليُسْر ولم يرد بها العُسْر، وكل نصوص الدين ما جعل الله فيها مِنْ حَرَجٍ وهي سمحة سهلة، فكل أدلة (الطوفي) في أن المصلحة واليسر ورفع الحرج في مقصود الشارع، فهي دليل على ضرورة التزام النص وتقديمه؛ لأنه الذي يحقق المصلحة في كل الظروف.
2- وحديث لا ضرر ولا ضرار هو أحد الأدلة أيضًا على أن كل نصوص الشرع لا ضرر فيها، وأن المصلحة متحققة منها دائمًا، إذا كيف يقرر الرسول أنه لا ضرر وتكون بعض النصوص التي جاء بها سببًا في الضرر. إن من يفرض وقوع الضرر من تطبيق النص يقع في تناقض بَيِّنٍ.
3- والاختلاف في تقدير المصلحة أمر واقع، وهو اختلاف كبير واسع، فالمصلحة ليست أمرًا منضبطًا يتفق عليه الناس، وإلا لو كان الأمر كذلك
لاتَّفق الناس في شرائعهم ونظمهم وطرق حياتهم، وكل هذا ينقض ما قاله (الطوفي) مِنْ أن المصلحة أمر حقيقي متفق عليه.(1/253)
4- والطوفي في عبارته عن تقديم المصلحة على الإجماع متناقض جدًّا؛ فهو يقول: إن المصلحة متفق عليها والإجماع مختلف حوله ، فتقدم المصلحة لأنها متفق عليها ( فأصبح معنى كلامه : الإجماع أضعف من رعاية المصلحة؛ لأن رعاية المصلحة مجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه). (81)
5- ومن الملاحظ أن الطوفي لم يأتِ بمثال واحد يرينا فيه كيف أن المصلحة عارضت النص، وكيف تقدَّم عليها؛ حتى نستيقن مما يقول، وما ذلك إلا لأنه لم يجد مطلقًا -بعد طول الاستقراء والبحث- حالة واحدة تعارض فيها المصلحةُ النصَّ؛ لأن ذلك التعارض أمر متوَّهم. (82)
ولضعف أدلة (الطوفي) وشناعة رأيه حمل عليه كثير من المعاصرين حملة قوية؛ فيقول الشيخ أبو زهرة عن رأيه: "إنه رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية" ويقول: ".. إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هي أسلوب شيعي، أريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق؛ لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس في الدنيا والآخر، أدري الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها وإن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة". (83)
ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: ".. وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي؛ لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالرويَّة والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء، وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين". (84)
شذوذ بعض المعاصرين :(1/254)
ومع وضوح خطأ (الطوفي) فقد تَمَسَّك برأيه بعض المعاصرين، وألبسوا به العلمانية ثوبًا إسلاميًّا، فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في الإسلام التي يلتزم فيها بالنصوص، أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح على مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها، وحذفها وإضافة غيرها..
يقول الدكتور (النويهي) في مقالة بعنوان: (نحو ثورة الفكر الديني): (85)
"إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا حلولا مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقِّنَا بل من واجبنا أن نُدْخِلَ عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه".
ويضيف هؤلاء المعاصرون تأييدًا لرأيهم في تغير الأحكام الثابتة بالنص تبعًا لتغير المصالح بتغير الزمان حججًا جديدة؛ منها: اجتهادات عمر بن الخطاب، التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق الحرفي للنصوص، ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه المصري الجديد. (86)
ونتناول هذه الحجج فيما يلي:
اجتهادات عمر بن الخطاب :
يقال: إن عمر بن الخطاب لم يلتزم بحرفية النصوص في عدد من اجتهاداته، وفيما يلي اثنان من أشهرها:
1-"اجتهاد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلَّفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعًا لتغير المصلحة بتغير الأزمان، رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتًا". (86)
ويقول النويهي عن ذلك:
"فأي شيء هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني؛ حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا على مواجهة هذه الحقيقة الصريحة؟". (87)(1/255)
ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غَيَّر حكمًا ثابتًا بالقرآن؟ إن سؤالا واحدًا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح، وهو هل كان يوجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا؟
فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم، فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور، مثل عدم وجود صنف (في الرقاب) في هذا العصر، فكل ما يمكن أي يقال أن مصرفًا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد مَنْ يستحقه، فكل ما فعله عمر -رضي الله عنه- هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني، وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان، فإذ وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا، وإذا لم يوجدوا لم يعطوا".(88)
2- "اجتهاد عمر -رضي الله عنه- عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد.. وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة". (89)
ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة، ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع، وروى عن غير واحد من الصحابة. (90)
ويقول ابن القيم عن ذلك: "فإن السَّنَة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غَلَبَ على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رَمَقَه، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشُّبَهِ التي ذكرها كثير من الفقهاء". (91)
فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف.
فقه الشافعي القديم والجديد:(1/256)
ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلى فقهه الجديد حين انتقل إلى مصر. (92) وتغير فقه الشافعي من القديم إلى الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلى نظر؛ فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه، وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولى التي حَوَتْ اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيها (93)، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول: "لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي" وكتابه البغدادي هو المشتمل على مذهبه القديم (94)، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟
لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق؛ لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله دليل على أنه اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ. وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف.
ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت (فقهه القديم والجديد): "عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك". (95)
ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كان للظروف أثر في ذلك التغير، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها.
رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام :(1/257)
عقد الإمام ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فصلا عن (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد) وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء (96)، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة، إلا إذا دَلَّ النص نفسه على تغيرها.
وقد أورد ابن القيم عددًا من الأمثلة لتغير الحكم، وكل أمثلته تدور على الحالات الآتية : (97)
1- الحالة التي يثبت تغير النص فيها نَصٌ آخر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر.
2- الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص، ومثالها: ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه.
3- حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة، فقياس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قُوتًا في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص.
4- حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها: صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج، مع أن بعض النصوص يفهم منها عدم صحة ذلك في الأحوال العادية.
5- الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنفور، تبعًا لتغير العُرْف والعادة في ذلك.
وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة على النص.
أحكام النصوص ثابتة:
ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلا واحدًا يؤيد رأي (العصرانية) فيما تحاوله من فتح الباب لتغيير النصوص، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة إلى يوم الدين لا تستطيع هيئة تشريعية أن تعدل فيها أو تغيرها.(1/258)
لا كهنوتية في الإسلام.. ولكن!!
ينادي (سيد خان) (98) وأمثاله من (العصرانيين) بفتح أبواب الاجتهاد، وبإتاحة حرية واسعة في الاجتهاد حتى للأفراد العاديين، ولو أدى ذلك إلى فوضى فكرية.
وهكذا نشأت في أيامنا وجهة جديدة للتفكير تقول أن لا كهنوتية في الإسلام، فليس للعلماء مِنَ اختصاص بالقرآن والسنة والشريعة؛ حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها، بل المسلمون جميعًا يتمتعون بهذا الحق معهم، وما عند العلماء من حجة تجعل آراءهم أرجح مِنْ آرائنا، وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدين.
".. ولعمر الحق أنه لو تركت صورة الجهل على حالها تشتد وتثور لا يبعد أن يقوم غدًا رجل مِنَّا فيقول أن لا قضاء في الإسلام، فيجوز لكل أحد من الناس أن يدلي برأيه في القانون، ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء.. ويقوم بعده رجل آخر يقول ويعلن أن لا هندسة في الإسلام، فمن حق كل رجل أن يتكلم في الهندسة، ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها. ثم يقوم بعده رجل ثالث ويعلن أن ليس هناك مِنْ حاجة إلى حذق مهنة الطب، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب ".(1/259)
".. نعم لا جرم أنه لا كهنوتية في الإسلام، ولكن هل يعلم هؤلاء أن اليوم ما معنى ذلك؟ إنما معناه أن الإسلام ليس كاليهودية؛ حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في وسط من الأوساط، أو قبيلة من القبائل ولم يفرق فيه - كما في المسيحية - بين الدين والدنيا للقياصرة، ويكون الدين للرهبان والأحبار، ولا ريب - كذلك - أن لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسنة والشريعة، وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة أو أسرة معينة من الأسر، فلا يكون إلا لأفرداها يتوارثونه كابرًا عن كابر، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين، فكما أنه من الممكن لكل أحد مِنَ الناس أن يكون محاميًا إذا درس القانون، أو مهندسًا إذا درس الهندسة، أو طبيبًا إذا درس الطب فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسنة، وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمها أن يتكلم في مسائل الشريعة... وهذا هو المعنى الصحيح المعقول؛ أن يكون هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام".
" ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال، يجوز لكل مَنْ شاء للناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه، ويصدر فيها آراءه، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسنة والتبصر فيهما، وإذا لم يكن مقبولا ولا معقولا أن يدعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين هؤلاء القوم الذين يتكلمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه". (99)
نقد فقه العصرانية(1/260)
أنتجت آراء العصرانية الأصولية وموقفها من الحديث وموقفها من التفسير فقهًا متميزًا، يهدف في معظمه إلى تبرير الواقع المعاصر، وإدخال كثير من القيم الغربية في صُلْبِ الإسلام. وقد مرت بنا أمثلة كثيرة من هذا الفقه في الفصلين الثاني والثالث. ولا يتسع المقام هنا لنقد كل تلك المسائل التفصيلية من هذا الفقه، ولكننا نعرض هنا بعض آراء المعاصرة عن بعض المسائل التي تشغل بال (العصراينة) في مجال المرأة والحدود والجهاد، وتعرضها مِنْ وجهة نظر مدرسة التجديد السُّنِّي المعاصرة، وبأحد أقلامها المشهورة؛ قلم المودودي.
حدود نشاط النساء في الدولة الإسلامية
ليس للدولة الإسلامية أن تعمل شيئًا في أمر من أمور الدنيا بالعدول عن مبادئ الإسلام وأحكامه، وليس لها أن تفكر في ذلك إذا كان القائمون بأمرها أناسًا يؤمنون بالإسلام، ويتبعون مبادئه وأحكامه عن صادق العزيمة وخالص النية. ومن أحكام الإسلام فيما يتعلق بأمر النساء أن المرأة تساوي الرجل في الكرامة والشرف والاحترام، كما لا فرق بينهما باعتبار المستوي الخلقي، ولا باعتبار الأجر والمثوبة في الآخرة، ولكن ليس لنشاطهما دائرة واحدة؛ فالسياسية وإدارة الحكومة والخدمات العسكرية وما إليها من الأعمال لا علاقة لها إلا بالرجل، ولن يكون من نتيجة إقحام المرأة في هذه المجالات سوى أن تنهار حياتنا العائلية بمعنى الكلمة، وهي حياة تتحمل معظم تبعاتها المرأة، أو أن نحملها أثقالا مضاعفة؛ حيث أنها تقوم بواجباتها الفطرية - وهي واجبات لا قِبَل للرجل بمشاركتها فيها أبدًا - مع تحملها شطر واجبات الرجل. أيضا، وبما أن ليست الصورة المؤخرة الذِّكْر بميسورة فعلا، فلا بُدَّ أن تواجهنا الصورة المقدَّمة الذكر، وهي التي قد واجهها الغرب في إقحام المرأة في دائرة نشاط الرجل، فليس مِنَ العقل في شيء أن نحاكي غيرنا في سفاسف الأمور.(1/261)
والإسلام من حيث المبدأ عدو للبيئة الخليطة بالرجال والنساء. ولا نظام في الدنيا يرحب بها ويرضى بها، إن كان في نظره أدنى أهمية لتماسك نظام الأسرة. وقد ظهر للمجتمع المختلط في بلاد الغرب أشنع وأقذر ما يكون من النتائج، أما إذا كان الناس في بلادنا يجدون من نفوسهم استعدادًا لمكابدة هذه النتائج فليكابدوها بكل فخر وسرور ولا حرج، ولكن ما لهم يريدون للإسلام أن يجعل لهم رُخَصًا في أعمال ينهي عنها بكل تأكيد، وإذا كان الإسلام قد كلف النساء خدمة الجرحى في الحرب، فليس معنى ذلك أن للمسلمين أن يخرجوهن إلى المكاتب والمعامل والنوادي والمجالس النيابية حتى في حالة السلم. ومن المحال أن يكون التوفيق حليف النساء إذا ما اقتحمن دائرة نشاط الرجال وسابقنهم في أعمالهم؛ وذلك أن الله ما خلقهن لإنجاز هذه الأعمال، وإنما الرجل هو الذي قد أعطاه الله ما يحتاج إليه من الصفات الخلقية والمواهب الفكرية للقيام بهذه الأعمال، إذا استطاعت المرأة - على سبيل الافتراض - أن تبرز في نفسها حفنة من هذه الصفات والمواهب بالرجولة المصطنعة، فإن أضرارها الجسيمة المضاعفة لا بد أن تعود على نفسها وعلى المجتمع أيضًا؛ أما مضرتها على نفسها فهي أنها لا تنسلخ من أنوثتها تمامًا، ولا تدخل في الرجولة تمامًا، وتبوء بالفشل في دائرة نشاطها التي ما فطرت إلا لها، وأما مضرتها على المجتمع فهي أنه يجد لمختلف أعماله عمالا غير أكفاء، بدلا من أن يجد لها عمالا أكفاء، كما تفسد خصائص المرأة ومزاياها التي نصفها أنوثية ونصفها رجولية الحياة السياسية والاقتصادية.
ولا يمانع الإسلام مِنْ تعليم المرأة، بل الذي يؤكد عليه الإسلام أن تتحلى المرأة بأعلى ما يكون من التعليم والتربية، ولكن بشروط.
أولها: أن تدرس بصفة خاصة علومًا تجعلها صالحة للقيام بعملها في دائرة نشاطها، وعلى أمثل وجه وأكمله، وألا تكون ثقافتها عين ثقافة الرجل.(1/262)
وثانيها: ألا تكون ثقافتها في معاهد مختلطة بالرجال والنساء، وإنما تكون في معاهد خاصة بالنساء، وقد ظهرت النتائج الموبقة للتعليم المختلط في البلاد الغربية الراقية، ولا يكابر فيها الآن إلا مَنْ أصيب بعمى القلب والبصيرة.
ثالثها: أن تشغل الفتيات المثقفات في مؤسسة خاصة بالنساء كالمدارس والكليات والمستشفيات مثلا. (100)
تقييد الطلاق وتعدد الزوجات
للمرأة المسلمة أن تخالع زوجها؛ أي تطلب منه الطلاق على الفدية عن طريق القضاء الإسلامي، ولها كذلك أن تتحصل من المحكمة حكمًا بفسخ زواجها أو التفريق بينها وبين زوجها بشرط أن يكون لديها من الأسباب ما يبيح لها شرعًا أن ترجع إلى المحكمة وتحصل منها على الحكم بإحدى الصورة المذكورة آنفًا. وأما الطلاق فقد جعله القرآن من حقوق الرجل بكلمات صريحة، ولا لقانون أن يتدخل في حقه هذا. أما أن تأتي هيئة من هيئات المسلمين التشريعية وتبيح لنفسها أن تضع قوانين مخالفة للقرآن باسم القرآن نفسه فهذا أمر آخر، وتاريخ الإسلام منذ عهد الرسالة إلى قرنه الحاضر ما عرف الفكرة القائلة بجواز أن ينتزع حق الطلاق من الرجل، أو تتدخل فيه محكمة أو مجلس التحكيم...
والحقيقة أن هذه الفكرة استوردت إلى بلادنا من أوربا رأسًا، ولم يحدث قط أن تفكر مورِّدو هذه النظرية فيما كان لقانون الطلاق هذا خلفية أو سياق تاريخي في أوربا، وما ظهر له في حياة الغرب من نتائج موبقة. وسيعلمون قريبًا عواقب تحريفهم في أحكام الله حين تخترق فضائح حياتهم العائلية جدران بيوتهم، وتنزل إلى الشوارع والأسواق، وتشحن بها صفحات الجرائد والمجلات.(1/263)
كما أن ليست فكرة منع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة إلا بضاعة أجنبية استوردت إلى بلادنا برخصة مزورة منسوبة إلى القرآن، وقد جاءت من مجتمع إذا اتخذ فيه الرجل - على وجود زوجته المشروعة - امرأة أخرى خليله له، فلا تستحق هذه الخليلة أن يتحمل وجودها فحسب؛ بل تستحق حفظ حقوق أولادها غير الشرعيين أيضًا. (وما مثال فرنسا في هذا الباب ببعيد عنا، ولكنه إذا تزوج بها فقد خالف القانون واقترف جريمة لا تغتفر. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القيود بأسرها تُفْرِضُ على الحلال لا على الحرام".(101)
الدليل على حد الرجم:
إن الحد الذي قد قُرِّرَ في سورة النور للزنا، إنما هو حد الزنا المطلق، وليس بحد للزنا بعد الإحصان - أي ارتكاب الزنا بعد التزوج - الذي هو أشد وأغلظ من الزنا المحض في نظر القانون الإسلامي. والله -تعالى- يشير في سورة النساء إلى أنه لا يقرر في سورة النور هذا الحد إلا للزنا الذي يكون كلٌّ مِنْ مرتكبيه غير متزوج. فقد قال أولا في سورة النساء: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }[ النور: 15](1/264)
ثم قال بعده بيسير{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور: 25]
فالآية الأولى تتضمن التوقع لحكم من الله سينزله في المستقبل لعقوبة الزانيات اللاتي يأمر الآن بإمساكهن في البيوت. ونعلم بذلك أن هذا الحكم الأخير الذي جاء في (سورة النور) هو الحكم ـ أو السبيل ـ الذي كان وعد به الله -سبحانه وتعالى- في سورة النساء. وفي الآية الثانية جاء بيان حد الزانية من الإماء المتزوجات، وكما قد جاءت لفظة المحصنات في آية واحدة وسياق الكلام بعينه مرتين، فلا بد أن يكون معنى المحصنات واحدًا في الموضعين.
فإذا نظرت الآن في بدء الجملة حيث قيل: +ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات" علمتَ أن ليس المراد بالمحصنة في هذه الآية امرأة متزوجة، بل امرأة حرة غير متزوجة. وقيل في ختام الجملة: إن الأمة إذا أتت بفاحشة ـ أو زنت ـ فعقوبتها نصف عقوبة المحصنة، والذي يدل عليه سياق الكلام؛ أن المراد بالمحصنة في هذه الجملة نفس المعنى المراد في الجملة السابقة؛ أي: "امرأة حرة غير متزوجة، ولكن محصنة بعفافها وحفظ أسرتها". فهاتان الآيتان معًا تشيران إلى حكم أن حد الزنا في سورة النور -وهو الذي كان الوعد جاء به في سورة النساء- إنما يبين حد الزاني والزانية غير المتزوجين.(1/265)
أما ما هو الحد للزنا بعد الإحصان بالزواج، فهذا أمر لا نعرفه من القرآن بل نعرفه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ثبت بغير واحدة ولا اثنتين من الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اقتصر على بيان حد الزنا للمتزوجين والمتزوجات بأقواله فحسب، بل قد أقام هذا الحد فعلا في غير واحدة من الأقضية المرفوعة إليه وهو الرجم. ثم أقامه بعده خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- في عهودهم، وأعلنوا مرارًا أن الرجم هو الحد ـ أي العقوبة القانونية ـ للزنا بعد الإحصان. والرجم باعتباره حد للزنا بعد الإحصان ما زال أمرًا مجمعًا عليه بين الصحابة والتابعين، حيث لا نكاد نجد لأحد منهم قولا يدل على أنه كان في القرن الأول رجل له الشك في كون الرجم من الأحكام الشرعية الثابتة. ثم ظل فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه سنة ثابتة بأدلة متضافرة قوية لا مجال لأحد من أهل العلم أن يشك في صحتها.
ولم يخالف الجمهور في هذه القضية إلا الخوارج وبعض المعتزلة، على أنه ما كان الأساس لمخالفتهم أن يكونوا قد شخصَّوا ضعفًا في ثبوت حكم الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قالوا: إن الرجم باعتباره حدا للزاني المحصن مخالف للقرآن، والحقيقة أن ليس ذلك إلا لخطأ فهمهم للقرآن. قالوا: إن القرآن يبين مئة جلدة حدًّا عامًّا لكل زانٍ وزانية، فليس تخصيص الزاني المحصن من هذا الحكم العام إلا مخالفة للقرآن، ولكنهم ما تنبهوا إلى أن الوزن القانوني الذي هو لألفاظ القرآن هو نفسه لشرحها الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بشرط ثبوته عنه.(1/266)
ألا ترى أن القرآن قد جاء بمثل هذه الألفاظ المطلقة عندما بَيَّنَ حدَّ السارق فقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، ونحن إذا لم نجعل هذا الحكم مقيدًا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ شرحه، فمن عين ما يقتضيه عموم هذه الألفاظ أن نحكم بالسرقة على كل مَنْ سرق إبره أو تفاحة ـ مثلا ـ فنقطع يده بل يديه إلى منكبيه، وبالجانب الآخر كل مَنْ سرق ولو آلافًا من الجنيهات، ثم تظاهر بالتوبة وإصلاح النفس، فعلينا أن نتركه ولا نمسه بسوء؛ لأن القرآن يقول بعد بيانه حد السارق والسارقة: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 39]
وكذال فإن القرآن إنما يبين حرمة الأم والأخت من الرضاعة، فيجب أن تكون حرمة البنت من الرضاعة مخالفة للقرآن بموجب هذا الاستدلال. والقرآن إنما ينهي عن الجمع بين الأختين، فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن. والقرآن إنما يحرم على المرء ربيبته إذا كانت قد تربت في حجره، فيجب أن تكون حرمتها المطلقة مخالفة للقرآن. والقرآن إنما يأذن في الرِّهَان إذا كان الرجل على سفر ولم يجد كاتبًا، فيجب أن يكون جواز الرهان في الْحَضَر ومع وجود الكاتب مخالفة للقرآن. والقرآن يقول بكلمات عامة ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) فيجب أن يحكم بالحرمة على البيع والشراء الذي يتم في أسواقنا ليل ونهار بغير الشهود لكونه يخالف القرآن.(1/267)
فهذه بعض أمثلة إذا سرحت فيها النظر تبين لك الخطأ في استدلال الذين يقولون: إن حكم الرجم للزاني المحصن مخالف للقرآن (102). والحق أن منصب الرسول في نظام الشريعة -الذي لا مجال فيه للريب والمكابرة- هو أن يبلغنا أحكام الله -تعالى- ثم يبين لنا مقتضياتها ومقاصدها والطرق للعمل بها، والمعاملات التي تنفذ فيها، والمعاملات التي لها أحكام أخرى. وإنكار هذا المنصب ليس بمخالفة لأصول الدين فحسب، بل هو مستلزم ـ كذلك ـ لمصاعب ومفاسد لا تكاد تحصى. (103)
لا مساغ لتقسيم الجهاد إلى الهجومي والدفاعي
إن ما اصطلحوا عليه اليوم من تقسيم القتال الهجومي والدفاعي لا يصح إطلاقه على الجهاد الإسلامي البَتَّه، وإنما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية والوطنية فقط؛ لأن هاتين الكلمتين المصطلح عليهما لا ينطق بهما، وما جرى استعمالهما إلا بالنسبة إلى قُطْرٍ مخصوص أو أمة بعينها. وأما إذا قام حزب عالمي مستند إلى فكرة انقلابية شاملة، لا تفرق بين أمة دون أمة، ولا تخص قُطْرًا دون قطر، يدعو جميع الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها ولغاتها إلى فكرته ومنهاجه، مفتوحة أبوابه لكل مَنْ يريد المشاركة في بث تلك الدعوة، ونشر تلك الفكرة، ولا يسعى إلا وراء القضاء على الحكومات الجائزة المناقضة لمبادئ الحق الخالدة، وإقامة حكومة صالحة مؤسس بنيانُهَا على قواعد الحق والعدل التي يؤمن بها ويدعو إليها، أما إذا كان الأمر كذلك فلا مجال في دائرته البتة لِمَا اصطلحوا عليه من نوعي القتال الهجومي والدفاعي.(1/268)
وكذلك إذا نظرنا في المسألة -بصرف النظر عن هذا المصطلح الشائع- تبين لنا أنه لا ينطبق هذا التفسير ـ إلى الهجومي والدفاعي ـ على الجهاد الإسلامي بحال من الأحوال؛ فإن الجهاد الإسلامي إذا أردت الحقيقة هجومي ودفاعي معًا؛ هجومي لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك. وأما كونه دفاعيًّا، فلأنه مضطر إلى تشييد بنيان المملكة وتوطيد دعائمها؛ حتى يتسنى له العمل وفق برنامجه وخطته المرسومة.
وغير خافٍ عليك أن الإسلام حزب، فليس من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود عنها ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولا يَذُبُّ عنها ويستميت في الدفاع عنها. وكذلك لا يحمل على دار الحزب الذي يعارضه ويناقضه، وإنما يحمل ويصول على المبادئ يتمسك بها، ولا يغِيبنَّ عن بَالِك أنه لا يريد بهذه الحملة أن يُكْره مَنْ يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، وإنما يريد الحزب الإسلامي أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، ولا تكون فتنة ويكون الدين لله. (104)
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 259-280).
الشبهة(5) : هل تتغير الأحكام بتغير الزمان ؟(1/269)
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (105)، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب.
وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين:
الأول : التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته.
الثاني : التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء.
ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله.
ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله) :(1/270)
"ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110]
1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل.
2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول.
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلمأهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى(فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان.(1/271)
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع..
ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها.
والخلاصة : أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب إتباعه. (106)
ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (107)(1/272)
ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): "إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده". (108)وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (109)
فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟
يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره.
الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة
يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية . (110)
ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده.(1/273)
وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب.
وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه.
أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟
الحجة الثانية : خطط الرسول الحربية.
وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (111)
وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية:(1/274)
1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (112) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة.
2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟
فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة.
ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: "ألقها على بلال"، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: "الله أكبر.. هذا أثبت"، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي . (113)(1/275)
فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي.
ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: "ما أراك إلا قد حرمت عليه"، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (114)
ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (115) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها.
الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل:(1/276)
من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث:
1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن ذلك يغني شيئًا" فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل". رواه مسلم(116)
2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: "ما تصنعون؟" قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا"، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". رواه مسلم (117)
3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". رواه مسلم (118)
4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: "ما هذه الأصوات؟" قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: "لو لم يفعلوا لصلح"، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ". رواه الإمام أحمد. (119)
ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث:(1/277)
" ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (120)
وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء.
من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (121)، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية :
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: "... وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود" . (122)(1/278)
ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: "... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات". (123) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أظن يغني ذلك شيئًا".. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن".
2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: " أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وتضيف رواية أخرى أنه قال: " إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ".
فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟
لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا.
فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: " إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ". وقال لهم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم ".
فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان.
3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان:(1/279)
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط.
والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة.
الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب
يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي:
هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية.
وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟(1/280)
ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي:
1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن.
2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟
3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار.
4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج).
5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا.(1/281)
6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب.
7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ.
وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم.
ويحسن التنويه هنا بأمرين :(1/282)
أولهما: إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (124)
وثانيهما : أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب.
وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: " اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف". ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: " وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: "وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به" . (125)
ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة.(1/283)
الحجة الخامسة: تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء:
قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (126) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة. (127)
وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية.
السنة تشريع كلها :(1/284)
والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: "إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب". (128) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق" يعني شفتيه الكريمتين. (129)
أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها.
شريعة الله وشريعة الفقهاء
المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر.
يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول :(1/285)
"إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ". (130)
أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. "وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء". (131)(1/286)
إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه.
وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (132): شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259).
الشبهة(6): قولهم بتغيرالأحكام الشرعية بتغير الزمان !
والجواب :
قال الدكتور عابد السفياني - حفظه الله - : ( يكثر الكلام عند بعض الباحثين على أن هناك قاعدة شرعية اسمها "تغير الأحكام بتغير الزمان" ويقصدون بعض (133) الأحكام المتصلة بالمعاملات دون العبادات، والتغير أوجبه عندهم تغير المصالح والأعراف والعادات.
فالأحكام الشرعية المتصلة بمعاملات الناس وعاداتهم وأعرافهم جاءت لتحقق مصالح معينة، وهذه المصالح تتغير في كثير من الأحيان بسبب تغير الزمان، وحينئذ ينبغي - كما يرى أصحاب هذا الرأي - أن تتغير تلك الأحكام ما دام قد تغيرت مصالحها، ومن هنا وضعوا تلك المقالة وسموها قاعدة.(1/287)
وفي هذا الفصل نحدد موضع النزاع بيننا وبينهم ونحرره وخاصة أنه شديد الالتباس، واهتم بعد ذلك بتصوير رأي المخالفين وذكر مستندهم ومناقشتهم مع تتبع كثير من التطبيقات التي هي موضع النزاع وبيان وجه الصواب في تفسيرها، وبذلك أصل إلى تحديد حجم هذه المقالة وما فيها من حق أو باطل، وسأحاول الوصول إلى المقصود دون إغراق البحث بالتفصيلات التي لا حاجة لنا بها.
المطلب الأول : تحرير موضع النزاع
المقصود "بالتغير" في الحكم الشرعي هو انتقاله من حالة كونه مشروعًا فيصبح ممنوعًا، أو ممنوعًا فيصبح مشروعًا باختلاف درجات المشروعية والمنع.
فهذه حادثة حكمها الشرعي المنصوص عليه أو المستنبط كذا، ثم تصبح في زمن آخر تحت حكم مخالف للحكم الأول، هذا هو جملة ما يصوره البحث عند المطلقين لتلك القاعدة أو المقيدين لها. (134)
وإلى هنا يبقى كثير من اللبس في تحرير موضع النزاع، أكشف عنه بإضافة أمر مهم جدًا ألا وهو النظر في تلك الحادثة التي تغير حكمها هل هي في الحالين سواء؟ هل الحادثة التي أخذت الحكم الأول ثم أخذت الحكم الثاني هي هي بالخصائص نفسها وبجميع الملامح والاعتبارات والحيثيات أم أنها تختلف في خصائصها.. من حالة إلى حالة؟.
وبالجواب عن هذا السؤال ينكشف لنا اللبس الذي أحاط بهذه القضية حتى كثر فيها القول وتشعب.
إن تلك الحادثة التي تغير حكمها إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما إن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها.
فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها لأن ذلك هو النسخ والتبديل المنهي عنهما كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع، لأنها حينئذ حادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما وحادثتان لهما حكمان ليس غريبًا ولا عجيبًا، ولا يقال له تغيّر ولا تبدل.(1/288)
فإذا خرجت الثانية عن موضع البحث رجعنا لدراسة الأولى، وهي أساس القول ومحل النزاع والدعوى التي عنون لها أصحابها بقولهم: "تغيّر بعض الأحكام بتغير الزمان" ومقصدهم حادثة وواقعة لها حكم منصوص عليه أو مستنبط تغير حكمها في وقت آخر والحادثة هي الحادثة بجميع خصائصها واعتباراتها.
فإن قيل كلا لا يتغير حكمها إن لم تتغير خصائصها واعتباراتها، قتل: فإذا تغيرت خصائصها واعتباراتها أصبحت حادثتين لا حادثة واحدة وهذه لا ينازع في اختلاف حكمها أحد البتة.
ونرجع مرة أخرى لمحل النزاع وننظر في أدلة القائلين بالتغير بعد تصوير مذهبهم.
وإنما قدت بهذه المقدمة رجاء أن تحدد نقطة البحث ويمسك القارئ القضية من أول خيط فيها، ونضرب مثالاً يوضح المقصود، فأقول: قتل زيد خالدًا عمدًا عدوانًا فحكم هذه الحادثة أن زيدًا عليه القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، تكررت هذه الحادثة بين رجلين آخرين بالصورة نفسها في أي عصر من العصور، يكون حينئذ الحكم هو القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم.
فها هنا حادثتان بخصائص واحدة تحفهما اعتبارات واحدة أخذت حكمًا واحدًا، لا سبيل لتغييره أبدًا.
خذ الحادثة بطرفيها القاتل والمقتول وافرض وقوعها مرة أخرى لكن بدون عمد ولا عدوان، بل خطأ، يختلف الحكم حينئذ فلا قصاص بل دية مسلمة، ولكن الحادثتين ها هنا مختلفتان فاختلف حكمهما، في الأولى قصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، وفي الثانية لا قصاص بل دية مسلمة إلى أولياء الدم إلا أن يصدقوا، فلا عجب إذن أن يكون لحادثتين تختلف خصائصهما حكمان مختلفان، وإن كانت الصورة بادئ ذي بدء تبدو واحدة (135).
وهذه ليست في محل النزاع قطعًا، لأنه لا ينازع أحد فيها على الإطلاق، فحادثتان- وإن كانتا في الصورة واحدة- لكنهما في الجوهر مختلفتان - طبيعي أن يختلف حكمهما.(1/289)
ونعود مرة أخرى لتحديد موضع النزاع فأقول: إن تغير حكم الحادثة إذا تغير جوهرها وأصبح لها خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى أمر طبيعي لا ينبغي أن ينازع فيه أحد.
ويبقى النزاع في تغير حكم الحادثة التي لم يتغير جوهرها ولا شيء من خصائصها وحيثياتها.
نقول هذا ونؤكد عليه لأن هناك خلطًا بين هاتين القضيتين لا يمكن أن نخلص من آثار السلبية إلا أن ندخل في دراستنا لهذه المسألة من هذا المدخل وحينئذ نستطيع أن نفرق بين حكم الحادثة الواحدة ذات الخصائص والحيثيات الواحدة، وإن مرت عليها عصور متتابعة- ونجزم بأن حكمها الأول في العصر الأول ينبغي أن يكون هو حكمها نفسه في العصور الأخرى، لأن شيئًا من خصائصها وحيثياتها لم يتغير، وإذا أردنا أن نغير حكمها من المشروعية إلى المنع علمنا أنه لابد لنا من القول بالنسخ، والنسخ ليس لأحد من البشر، وإنما الذي ينسخ الأحكام هو الشارع، وقد انقطع بعد انقطاع الوحي، وبهذا نستطيع أن نفرق بين هذه الصورة - وبين الصورة الأخرى وهي انتقال الحادثة في الزمن الأول - لتصبح ذات خصائص أخرى تختلف عن خصائصها الأولى وهذه يختلف حكمها ويتغير لأن الأولى تعتبر حادثة مستقلة لها حكم خاص وذلك مثل حكم المؤلفة قلوبهم، وهو نفر من الناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم، جعلت الشريعة لهم حقا في مال الصدقة، يتألفهم الإمام به، ليثبتوا على الإسلام فَيُسْلِم من ورائهم ويَسْلَم المسلمون من فتنتهم وشرهم، وهذا المعنى لا يخاف منه إلا عند ضعف الإسلام وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم، فالنص يوجب إذا إعطاء هؤلاء المؤلفة لهذا المعنى، فيأتي الإمام ليطبق هذا المعنى فيجد أمامه حالتين:
الأولى : حالة ضعف الإسلام، وقوم يحتاجون لهذا التأليف.
الثانية : حالة قوة الإسلام، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم.(1/290)
فيطلق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا ما يسميه العلماء تحقيق المناط (136).
فهما إذا حادثتان لكل حادثة حالة خاصة تحتاج إلى حكم خاص ثابت لها لا يتغير، وحادثتان لهما حكمان كما قلنا ليس غريباً ولا عجيباً، وكلا الحكمين من الشرع.
ومن خلال هذا التحليل ينكشف لنا خطأ من أراد أن يفرق بين التغيير والنسخ (137)، حيث جعل النسخ حق الشارع، وقد انقطع بانقطاع الوحي، وعلل ذلك بأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل، وأما التغيير فيكون إلى بدل، وفرق آخر وهو أن النسخ يمكن أن يكون في جوانب متعددة في الشريعة، وأما التغيير فمحصور في بعض الجوانب كالمعاملات ونحوها، وذلك لأن التغيير هنا يكون سببه تغير المصالح والأعراف والعادات، فإذا انقطع النسخ لا ينقطع التغيير.
وبمراجعة ما تقدم ذكره يتبين أن هذا التفريق لا ينبني عليه فقه ولا يحمل شيئاً من الصحة.
وندلل على ذلك بما يلي إضافة لما ذكرته آنفا ً:
1- أن التغير عند المؤلف هو التبديل والتحويل (138)، والنسخ هو التبديل، أي تبديل الحكم الأول بحكم آخر، فالمشروع يُجعل ممنوعاً والممنوع مشروعاً، أو نسخه مطلقاً إلى غير بدل، وهذا تغيير لصفته الشرعية، فبعد أن كان شرعاً صار غير ذلك، فمن جهة المعنى الأصلي لهما لا تجد كبير فرق بينهما.
وقد جعل المؤلف التغيير مضمونه "عبارة عن ترك الحكم الأول إلى الحكم الثاني" (139).
2- ما سبق وقد ذكرته من أن تغير خصائص الحادثة لتغير الأزمنة إنما هو عبارة عن تجدد حادثة أخرى غير الحادثة السابقة، وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً كما أسلفت ولا يسمى ذلك نسخاً ولا تغييراً.
أما أنه لا يسمى نسخاً فظاهر ذلك أن النسخ هو رفع حكم الحادثة نفسها أما إلى بدل- والحادثة هي الحادثة- وأما إلى غير بدل.(1/291)
وأما أنه لا يسمى تغييراً في الحكم فظاهر أيضاً لأن حكم تلك الحادثة نفسها لم يتغير كما قلنا في مشروعية إعطاء المؤلفة قلوبهم، وإنما الذي تغير هو طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة لها حكم جديد، ولا يقال هنا تغير في الحكم، وإنما يقال تغير في طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة، فالمجموع حادثتان مختلفتان فيكون لهما حكمان مختلفان.
ولم يبق سوى هاتين الصورتين :
* إما أن تكون الحادثة هي مع اختلاف الأزمان فلا يمكن تغير حكمها إلا بالقول بالنسخ ولا سبيل إلى ذلك.
* وإما أن تكون الحادثة في الزمن الجديد غير الحادثة في الزمن القديم واختلاف حكمهما حينئذ لا يقال له نسخ ولا تغيير، وهنا يتضح ما قلته أن مقابلة النسخ بالتغيير لا ينبني عليه فقه، والقول بأن النسخ قد انقطع والتغيير لم ينقطع لأن هناك فروقًا بينهما ليس صحيحًا.
ومن هنا يتبين موضع النزاع وهو الصورة الأولى والتغيير فيها هو النسخ والتبديل المنهي عنهما.
وأما الصورة الثانية فليست في موضع النزاع ولا ينبغي أن تقترب منه.(1/292)
وبهذا يتضح لنا السبيل ونحن ندرس هذه المسألة الخطيرة في الدين.. ونستطيع أن نعلم السبب في عدم التفات فقهاء السلف إلى أمثال هذه المقالة، التي أسماها بعض الباحثين "قاعدة"، ذلك أنهم من الفقه والبصيرة، بحيث لا يلتفتون إلى القول بالتغير، لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون نسخًا وتبديلاً وهذا ليس لأحد من البشر، وإما أن لا يكون تغيرًا ولا نسخًا ولا تبديلاً، وإنما هو اختلاف وقائع وتحقيق مناط، ومن هنا نبدأ مناقشة هذه المقالة، لنتعرف على صحة القول بتغير الأحكام بتغير الزمان، وننظر هل هو قاعدة شرعية، وما هو موقف فقهاء الصحابة وفقهاء السلف منها ونقدم لذلك بذكر أسباب التغير عند هؤلاء الباحثين، ثم بعد ذلك نفصل القول في تصوير حقيقة هذه المقالة، ونعتمد في ذلك على أهم الكتب التي انتصرت لها، ثم نناقش ذلك ونتبعه بمناقشة بعض الباحثين فيما نسبوه إلى الإمامين الجليلين ابن القيم والشَّاطِبي.
المطلب الثاني : أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين:
التغير عندهم سببه تغير المصالح والأعراف (140) والعوائد (141).
وقبل أن أتحدث عن صلاحية هذه الأسباب لتغير الأحكام يحسن بي أن أصور مذهب المخالفين.
تصوير مذهب المخالفين:
يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة- وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيروا بعض الأحكام تبعًا لتغير المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة.(1/293)
والسر في ذلك - والله أعلم - أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (142) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو ما دل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم: "كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله"، أو "كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا" الخ.. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم " . (143)
والأحكام - فيما سوى العبادات - تتغير بتغير المصالح والأزمان (144) ، ويقول في موضع آخر: "وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها، والسبب في ذلك - على ما يظهر والله أعلم- أن هذا النوع من الأحكام مفوض لرأي الرسول × باعتباره إمامًا للمسلمين...". (145)
ثم يتحدث عن هذا التبدل فيقول أنه تبدل في التطبيق فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم فُوض إليه الحكم في كثير من الأشياء "وخاصة ما يتعلق بالهيئة الاجتماعية كالمعاملات والعادات وما شابههما حسبما يراه ملائمًا للمصلحة، وهو مع ذلك لم يخرج عن كونه شرعًا أصله محكم لا يتبدل، والذي يتبدل فيه إنما هو التطبيق فقط...". (146)(1/294)
وقال في موضع آخر تحت عنوان تبدل الأحكام بتبدل المصالح: نتيجة البحث: "عُلم مما سبق موقف المصلحة من النص، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها وليس هذا إهدارًا للنص بمجرد الرأي بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلاً، وأنه لا يتصور تعارض بينهما فضلاً عن أن يترك النص بها... " (147)
ثم استدل على إثبات مراده هنا بأن هذا هو مذهب الصحابة وذكر لذلك تطبيقات من فروعهم أراد بها إثبات هذه النسبة، واستدل بوقائع كثيرة وقرر مستنبطًا منها ما يلي:
1- "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم . (148)
2- "أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة" ويقصد إجماعهم على تغير الأحكام تبعًا لتغير المصالح (149).
3- قال عن عمر رضي الله عنه: "فقد منعهم - أي أهل الذمة من العمل - أي في الذبح للمسلمين- مع نص الكتاب على حل ذبائحهم" (150). ويقصد أن عمر أوقف العمل بنص الآية.
ومع أنه يصف الصحابة بمعارضة الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلا أنه يفسر مقصوده فيقول: "والذي نقصده هو إثبات أنهم - أي الصحابة- فعلوا شيئًا لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعًا لاقتضاء المصلحة ولا يليق بهم أ، يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لم سلّم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم" (151).(1/295)
5- ".. أن من تتبع أحوال الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن" . (152)
وقد جاء كلامه هذا في معرض الرد على من اشترط إرجاع المصلحة إلى أصل معين ليشهد لها مبينًا أن هذا أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة (153).
6- ".. ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، وإن كانت في مقابلة النصوص، واشتهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة. كيف وهم الذين أقامهم الله حرساً عليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة من ورائهم!".
"فإن قيل إن ما وقع من ذلك لم يصح النص فيه عند الصحابي ولا الإمام،أو صح ولكنه رآه غير حتم، أو كان حتمًا ولكن المخالفة راجعة إلى وصف منفك، قلنا مجرد احتمالات ممكنة، وليس كل ما ورد من هذا النوع يمكن تخريجه على هذه الوجوه وتلك الدعوى لا تسلم إلا إذا صحبها استقراء وحصر لذلك، وهو لم يوجد بعد" (154).
ويفهم المؤلف بعد ذلك كله أن المصلحة دليل كباقي الأدلة، فهو لا يتصور وجود مصلحة ملغية في هذا الباب "لأن المصلحة- كما يقول هو- إذا ثبت كونها دليلاً شرعيا في الجملة- كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي - كانت كباقي الأدلة الأخرى، في أن مجرد المعارضة لا يسوغ تسمية الدليل بالملغي.." (155).
وحاصل ما في هذه النصوص أن المؤلف يقرر الآتي:
أولاً : أن الصحابة عللوا الأحكام وعملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، وكانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، مع اضطراب في تقرير هذه القضية عنده ستأتي الإشارة إليه.(1/296)
ثانياً : أن الصحابة عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات، وما يتعلق بالنظام الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص، وهذا يدل على أن المصلحة دليل كباقي الأدلة الأخرى.
ثالثاً : أن من المصالح ما يتغير بتغير الزمان؛ ولذلك فإن الصحابة بدلوا بعض الأحكام لتبدل الزمان والمصالح، وتارة يقول: أن هذا التبديل إنما هو في التطبيق، ويستدل على ذلك بوقائع متفرقة، ويرى مخالفة النص بهذه المصلحة لأنه قد ثبت حجية المصلحة كدليل شرعي بمجموع نصوص.
رابعاً : يعتبر هذا المنهج- الذي فهمه من تلك التطبيقات- هو المنهج الحق وأن الأصوليين حادوا عنه، واشترطوا شروطًا لم يثبت عليها دليل.
ومما تنبغي الإشارة إليه أن الاعتماد على تصوير هذا المذهب من هذا الكتاب خاصة سببه أن هذا الكتاب يعتبر عمدة في الانتصار لهذا الرأي، ومنه يغترف أولئك الباحثون الذين جاءوا من بعده، وستكون المناقشة في المطلب الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن حسب الترتيب الآتي (156) والله المستعان.
المطلب الثالث :
مناقشة القول بأن الصحابة عملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، بل اتبعوا وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، وأنهم منعوا العمل ببعض الأحكام، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غيروا بعض الأحكام لتغير المصالح واشتهر ذلك بينهم فكان إجماعاً:(1/297)
1- منع عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم: قال الدكتور مصطفى شلبي: "أحكام وردت مطلقة أو معللة بعلة فلما بحثوها وجدوا تلك العلل قد زالت، أو ما شرع له الحكم قد تغير، فغيروا الأحكام تبعًا لذلك.. من ذلك: حكم المؤلفة قلوبهم شرع الله إعطائهم من الزكاة وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الله كثيراً، وقال في بعض المواضع: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي تأليفاً لقلبه". هؤلاء المؤلفة قلوبهم منهم من كان مسلماً ضعيف الإيمان، ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإسلام، مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم حدث في زمن أبي بكر رضي الله عنه ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليهما كتاباً فاشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله ثم تفل فيه فمحاه!، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما. لا يرعى الله عليكما إن رعيتما...! فترك أبو بكر الإنكار عليه" (157) .
قال الدكتور: "وهذا دليل على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة الذي كثيراً ما يحتج به، وقد اعترف بكون إجماعهم حجة كل من قال بحجية الإجماع.
مناقشته: نسلم أن إجماع الصحابة حجة، ونخالف في تفسير النص المنقول عن عمر بهذا التفسير، والاستنتاج السابق من المستدل غير صحيح.
والدليل على ذلك أن الآية الواردة في المؤلفة قلوبهم والتي أمرت بإعطائهم تتضمن حكمين في آن واحد وهما:
الأول : أن المؤلفة قلوبهم يعطون من بيت المال.(1/298)
الثاني : وهو ضده أن غير المؤلفة قلوبهم لا يعطون.
فعاد الأمر إلى تحديد من هم المؤلفة؟.. والمؤلفة: هم أولئك الذين يكون الإسلام بحاجة إليهم لأنهم زعماء في قومهم فإذا أسلموا أسلم من ورائهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقد كانا من زعماء تميم فإذا أسلم أمثال هؤلاء تقوَّى الإسلام بمن ورائهم.
ولعلة يدخل في هذا المعنى ما أشار إليه المستدل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه حتى لا يضعف أويفتن وَيَكِلُ الآخرين إلى إيمانهم.
فالأول من معنى التأليف لتقوية الإسلام.. والثاني من معنى التأليف لمنع الفتنة أو الضعف.
وإذا وقفنا عند القصة المذكورة نجد أن التأليف لتقوية الإسلام غير متحقق، فالإسلام حينئذ كثير، وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، أما أنتما اليوم فتريدان أن نتألفكما والإسلام كثير، فأنتما لستما من المؤلفة قلوبهم اليوم وإن كنتم منهم من قبل، وهذا من عمر هو الفقه، وهو ما يسميه الأصوليون "بتحقيق المناط"(158).
فإذا أراد الفقيه أن يطبق النص على حادثة حقق مناطها سواء أكان الفقيه صحابيًا أو غير صحابي، فإذا وجد أنها تدخل في حكم النص أعطاها حكمه، وإلا منعها من الدخول تحته، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه.
فقد حقق في شأن الرجلين، وشأن الإسلام فعلم أنهما ليسا من المؤلفة قلوبهم، فمنعهم من الدخول تحت الآية ولم يعطهم..
والنص الوارد في القرآن هو هو لم يُبَدل ولم يغير، فمن أعطى المؤلفة قلوبهم كما فعل رسول الله، أو ظنهم مؤلفة كما فعل أبو بكر فقد أعمل الآية.
ومن منعهم لأنهم غير مؤلفة فقد أعمل الآية، ولا تغيير ولا تبديل.
ومناط الآية ثابت إلى يوم القيامة، وهو: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومنع غير المؤلفة، والتطبيق بحسب الواقعة والحال، فأين التبديل والتغيير للحكم؟ بل أين الإجماع على ذلك؟(1/299)
فهذا المثال لا يثبت من دعوى المؤلف شيئاً، وهو مثال يكثر الباحثون من استعماله على الدعوى نفسها..
وأضرب مثالاً آخر يوضح المقصود ولا أحد يخالف فيه إن شاء الله، فأقول: لو أن إنسانًا وقف مالاً على الفقراء من طلبة العلم في مسجد معين وجعل لكل منهم قسمًا محددًا، ثم إن الناظر أعطى الفقراء ومنع غير الفقراء فهل يعتبر تغيرًا لشرط الواقف ومطلبه؟ كلا.
ثم لو أن بعض هؤلاء الفقراء أصبح غنياً فارتفع عنه وصف الفقر، فلم يعطه الناظر شيئاً هل يعتبر قد غير من شرط الواقف أو مطلبه شيئاً؟ كلا.
ثم إن هؤلاء الذين ارتفع وصف الفقر عنهم، لو أنه عاد لهم، ثم عاد الناظر فأعطاهم أفلا يكون ذلك عملاً بشرط الواقف وقصده؟
إن عمل عمر رضي الله عنه لا يعدو هذه الصورة، ولم يغير ولم يبدل.
إذا عُلم ذلك فلا يجوز لمسلم أن يقول أن عمراً أوقف حكم الآية، ولا أنه ألغاه فالحكم هو الحكم، وعمر هو عمر الوقاف عند كتاب الله رضي الله عنه وأرضاه..
2- استدل على دعوى تغير الأحكام بتغير الزمان فقال:" مثال آخر: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات" (159) .
هذا ما كان في زمن رسول الله، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصر النبوة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رواه أبو داود: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل" قال: "فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق، حينما كان الصلاح عاماً والقلوب عامرة بالإيمان، ولم يوجد الدخل في بعض النفوس فلو استمر الحكم مع تغير الحال لأدي إلى مفسدة عظيمة تزيد على ما يجلبه الخروج من المصلحة من تعليم الدين وإدراك فضل الجماعة..(1/300)
ثم ذكر محاورة بين عبد الله بن عمر وابن له رواها أبو داود: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل" فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلاً والله لا نأذن لهن!! فسبه وغضب، وقال: "أقول قال رسول الله: ائذنوا لهن وتقول: لا تأذن لهن" (160).
قال المؤلف:" ولا غرابة في موقف ابن عمر هذا فذلك موقفه غالبًا إزاء النصوص فلم يكن من أهل المعاني عكس والده رضي الله عنه، وذاك ابنه قد سلك مسلك جده من اعتبار المعاني التي شرعت لها الأحكام، فيشرح لوالده السبب مع قسمه بالله، فهل ترى أنه يقسم مرتين وهو يسمع قول رسول الله ويرى غضب والده عليه وسبه له من أجل المخالفة من غير فائدة؟ لا شيء إلا أنه دين الله والمحافظة عليه بدفع المفاسد عنه.
فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف؟ لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر!!! ويقولون مقالته، وقد رأوا فساد الأخلاق عم كل مكان وتهتك النساء فاق كل حد وتنطع الشبان بلغ الغاية" (161) ..
مناقشته: نسلم مع المؤلف الرد على نفاة التعليل ونعمل بالقياس والمصلحة التي شهد الشرع لها، ونسلم معه السعي للمحافظة على دين الله بدفع المفاسد عنه، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى ذلك، وبيانه:
1- أن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين، ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟ والجواب: من الشارع لأنه كما تقدم لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة، فإذا قلنا هذا مفسدة فلابد من شهادة الشرع لما نقول، وكذلك إذا قلنا أنه مصلحة.
2- موقف ابن عبد الله عمر يدل على أن الخروج إذا ترتب عليه مفسدة يمنع، وهذا لم يدركه بالعقل، بل شهد له الشرع.(1/301)
وهذه الشهادة موجودة في النص نفسه، ألا ترى إلى اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعدم منع النساء من الخروج- خروجهن غير متزينات حيث قال: "ولكن ليخرجن تفلات". فإذا لم يتحقق الشرط وهو الخروج تفلات لا يؤذن لهن لأنهم لم يلتزمن به.
فمن منع من الخروج علم أن الخروج غير تفلات مفسدة بالنص..
فالقول إذا بأن هذا مفسدة ليس اعتمادًا على العقل وإنما هو بشهادة الشرع..
فلا يقال: " فقد رأيت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق"؛ لأن الحكم السابق هو: عدم جواز منع النساء من الخروج إلى المساجد إذا خرجن تفلات وأما إذا لم يخرجن كذلك فقد تركن العمل بالشرط الذي يجيز الخروج لهن فيمنعن، وهذا حكم ثابت لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة..
بقي تحقيق المناط هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج.. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم.. وإذا تبين هذا سقطت دعوى المؤلف وغيره ممن يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان..
بقي أن نشير هنا إلى خطأ المؤلف في تصويره لمذهب ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: "فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف، لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر ويقولون مقالته" وهذا الكلام لا ينبغي أن يقال في حق أحد من الصحابة، بل الواجب على كل مسلم التأدب معهم.
ومع أن نفاة التعليل لا يملكون هذا فإن ابن عمر ليس ممن لا يتبع المعاني، حاصل ما في الأمر أنه شديد الحرص على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في مواطن صلاته في سفره ونحو ذلك.(1/302)
أما أنه معروف بأنه "لم يكن من أهل المعاني" فهذا ليس في النص المذكور دليلاً على ذلك.. ويدل على ذلك أن الصحابة يعملون بقاعدة سد الذرائع.. قال أستاذي الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة تعليقاً على محاورة ابن عمر لأبيه: "وهذا لا يفسر خلاف الصحابة حول قاعدة الذرائع، فإن أحدًا لا يقول بأن الشارع إذا نهى عن مفسدة فإنه يبيح لعباده الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليها، وإلا كان ذلك تناقضًا، وكان مؤديًا إلى مخالفة مقصود الشارع من دفع المفاسد ما أمكن الدفع، وسد كل طرق الشر ومسالكه، ولكنه يفسر الخلاف- والله أعلم- في تحقيق مناط هذه القاعدة، فبينما ترى عائشة وابن ابن عمر أن الزمن قد تغير، وأن الدين قد ضعف سلطانه على النفوس وأن الخروج إلى المساجد بالليل يتخذ ذريعة إلى المفاسد غالبًا، ولذلك يجب أن يمنع محافظة على قصد الشارع الذي عرف من نصوصه، يرى ابن عمر أن العصر الذي يعيش فيه لا زال عصر طهر وعفاف، وأن حصول مفسدة من خروج النساء نادر أو في حكم المعدوم، وأن في شهود النساء المساجد والجماعات مصالح محققة لا تترك لمفاسد معدومة، ولا يمكن القول بأن ابن عمر يجيز خروج النساء إلى المساجد بالليل، وإن كثر حدوث الفسق وغلب وقوع الفاحشة ممن يتذرعن بهذا الخروج إلى أغراضهن الخبيثة، فإن الشارع لا يرضي بالفاحشة ولا يفتح الطرق إلى الفسق قط..
فالخلاف في تحقيق مناط القاعدة وتطبيقها على الجزيئات (162).. فابن عمر رضي الله عنهما من اتباع المعاني والمحافظين على نصوص الشرع ومقاصده.
ثم إن اتباع الصحابة رضي الله عنهم أمثال ابن عمر وغيره والتمسك بآثارهم ليس فيه ما يدعو للعجب، فهم أولى بالا تباع لأن الحق لا يخرج عنهم، وكل واحد منهم لنا فيه قدوة.(1/303)
وأما موقف ابن عمر مع ابنه فهو الحق في بيان أدب التربية والتعليم، فإن طالب الحق مجتهداً أو غير مجتهد إذا تبين له نص أو معنى شرعي يوجب تخصيص نص آخر أو تقييده لا يجيز له ذلك أن يقسم ويصرح بالمخالفة.. بل عليه أن يبين أن ذلك النص قد خصصه أو قيده أو نسخه نص آخر، فإنكار ابن عمر في موضعه فكيف يقال لأحد أن رسول الله أمر أو نهي أو أذن، فيقول لا آذن والله، بل الحق أن يقول أن هذا الإذن له شروط مذكورة في موضع آخر ثم يستكمل الاستدلال هذا بالنسبة لبيان وجهة ابن عمر.. أما ابنه رضي الله عنه فإنما أخذته الغيرة الشديدة على الدين كما قال ابن حجر (163) فحملته على أمر غيره أولى منه وأسلم - والله أعلم.
3- حد الخمر: قال مستدلاً على أن الأحكام تتبدل بتبدل المصالح: "حرم الشارع الخمر وبين ما فيها من مفاسد، وما يعقب اجتنابها من مصالح كما سبق بيانه، ولكن ليس كل النفوس تتمثل خوفًا من عقاب أخروي أو رغبة في ثواب كذلك بل منها من لا يزجره إلا أن يرى العذاب رأي العين، فشرع الشارع الحكيم لمن يشرب الخمر فأمر بضربه، كما رواه أبو داود بسند عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال: "اضربوه" قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان". وفي بعض الروايات تقدير ذلك بأربعين، وفي بعضها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثا في وجهه التراب"، وفي بعضها بعد الضرب قال لهم "بكتوه" (164).(1/304)
وروى البيهقي بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس: "أن الشُرَّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال والعصي. قال وكانوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا فتوخى نحو مما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر رضي الله عنه فجلدهم أربعين إلى أن قال: ثم كثروا فشار فقالوا: ثمانين" (165) .
والمشاورة رواها البيهقي أيضًا بسنده إلى الزهري قال: ".. أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة الكلبي قال: "أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فاسألهم فقال علي: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا" (166) .
ثم قال المؤلف تعليقاً على هذه النصوص: "والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق أن يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناها مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شئ من فعلهم" (167) .
المناقشة: أولاً: إذا كان المؤلف يريد في كتابه "تعليل الأحكام" إثبات تعليل الأحكام فذلك مسلم، بل هو مذهب أكثر أهل السنة ما عدا نفاة القياس (168).(1/305)
ثانياً : أما إذا كان يريد أن يثبت أن بعض الأحكام يتبع المصلحة، وأن هذه الأحكام تتبدل بتبدل الزمان، وأن هذا إجماع الصحابة فهذا غير مسلم، وقد مر بيان أن ما استدل به سابقًا لا يدل له البتة.
أما استدلاله بهذا المثال فلا يدل له على دعواه، وبيان ذلك أن هذه المسألة وإن كان سندها العمل بالمصلحة، إلا أنها ترجع إلى أصل كلي، وهذه شهادة من الشارع لها بالاعتبار، ولنتعرف الآن على الأصل الكلي وعلى المصلحة المعتبرة هنا، والأصل الكلي- كما مر بيانه- هو أن الشارع اعتبر المظنة في الأحكام أصلاً شرعياً كليًا، والدليل عليه الاستقراء، فتأخذ المظنة حكم المظنون (169) .
ويبقى النظر بعد ذلك في دخول مسألة "حد الشرب" تحت هذا الأصل فقد تشاور الصحابة فعلموا أن الشرب مظنة القذف فأعطوه حكمه فقال علي- والصحابة له موافقون:"تراه إذا سكر هذى وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك".
فهي مسألة كان لها حد مقدر في الشرع، وإنما كان يطبق الحد المقدر الذي يتم به الردع والزجر، وورد في بعض الأحاديث أن الصحابة حرزوه أربعين لما سألهم أبو بكر رضي الله عنه عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم(170) ، ثم ضرب هو أربعين، ثم اجتمع الصحابة وتشاوروا واعتمدوا في ذلك على المصلحة الشرعية التي شهد الشرع لجنسها، فجعلوه ثمانين كحد القذف؛ لأن المظنة تأخذ حكم المظنون..
فأين اتباع مجرد المصلحة؟ وأين تغير الحكم؟ وليس في النص مخالفة لفعل رسول الله ولا لقوله، ولا يجوز تسميته مخالفة لا في موضع الحِجَاج ولا في غيره..(1/306)
ومن الأسباب التي حملت المؤلف على الدخول في هذه الإطلاقات هو أنه يقارن بين طرفين: الأول القول بإثبات التعليل، والثاني القول بنفيه، وينتصر للطرف الأول دون أن يلتزم بشروطه، فإن مثبتي التعليل من أهل السنة لا يتبعون مجرد المصلحة، وإنما يشترطون أن تكون هذه المصلحة التي يجب اتباعها مصلحة لم يشهد الشارع بردها، فلابد أن تعرض عليه فينظر فيها أيقبلها أم لا؟
فهم يعللون الأحكام ويعتبرون النظير بالنظير، ويعملون بالمصالح المرسلة، وهم مجمعون بعد ذلك على رد كل مصلحة لا يقبلها الشرع.
والمؤلف غفل عن هذا وانتصر لمبدأ التعليل، وأدخل معه- شعر أم لم يشعر بخطورة ذلك- قوله "وإن بعض الحكام يتبع المصلحة".
والواجب أن يقيدها بالقيد الذي اتفق عليه القائلون بالتعليل، أما أن يطلقها هكذا من غير قيد ثم يرتب على ذلك أن بعض الحكام تتغير بتغير الزمان، وأن الصحابة كانوا يبدلون هذه الأحكام وأنهم مجمعون على ذلك، فذلك أمر لم يثبته بعد، ولا يمكن لأحد أن يثبته لوضوح بطلانه وفساده.
4- حد السارق: "يروي لنا مالك في الموطأ بسنده عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب "أن غُلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر أراك تجيعهم، ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم" (171) .
"وقد روى ابن وهب هذا الأثر في موطئه مُفسَرا وفيه: فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ثم أرسل وراءه من يأتيه بهم فجاء بهم فقال لعبد الرحمن: "أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذْ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك" (172).(1/307)
قال صاحب كتاب "تعليل الأحكام": "فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع، وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم، وهو أنهم جاعوا فأخذوا مال الغير، وذلك لفهمه أن القطع عقاب للجاني من غير حاجة ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات" (173) .
المناقشة: اشترط الشارع لوجوب القطع شروطاً وهي:
1- أن يكون المسروق نصاباً.
2- أن يكون من حرز.
3- أن لا يكون فيه شبهة ملك.
4- أن لا يكون آخذه محتاجاً إليه لسد رمقه.
فإذا تحققت هذه الشروط وجب الحد، وإذا تخلف أحدها لم يجب (174) .
وعلى كل شرط من هذه الشروط دليل شرعي، فأما شرط النصاب والحرز فظاهر، وأما شرط انعدام شبهة الملك والحاجة إليه لسد رمقه فلأن من أخذ مالاً له فيه شبهة ملك لا يعتبر سارقاً لمال غيره، وكذلك من أخذ ما يحتاج إليه لسد رمقه إنما أخذ مالاً له فيه حق، كما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة وقد كان عمر يظن أنه يجيعهم فلذلك امتنع عمر عن قطعهم لوجود هذه الشبهة (175).
فإذًا الحد الذي أوقفه عمر رضي الله عنه إنما أوقفه لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، بل إن عمر لا يستطيع أن ينفذ الحد الذي لم تحقق شروط تنفيذها لأن في ذلك مخالفة للشارع.
فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها- كما هو صنيع عمر - لا يقال له أنه خالف الآية.
وأيضًا فإن عدم القطع ليس سببه تعلق عمر بمطلق مصلحة أو دفع مطلق مفسدة أو اتباعًا لحكم العقل، بل سببه مراعاة نصوص أخرى وردت في السنة.(1/308)
وأما قول صاحب تعليل الأحكام: " لو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات" (176) .
فيلاحظ عليه أمران :
الأول : إن كان مقصوده بالنص المجرد النص بدون النظر إلى معناه، فليس ما نحن فيه من هذا القبيل، ذلك لأن النصوص التي وردت في حد السرقة منها ما هو عام كالآية ومنها ما هو مخصص لهذا العموم.
فإذا كانت الآية توجب قطع كل سارق سواء سرق من حرز أو من غير حرز أو سرق نصابًا أو دونه أو تحققت شبهة بسبب ملك أو مجاعة، فإن السنة خصصت هذا العموم فلا يقطع إلا من سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة.
فتبين بعدئذ أن النص الوارد في القرآن مخصوص لم يأت لجميع الأوقات، بل يستثني منه وقت المجاعة لورود نص آخر يمنع القطع عند تحقق الشبهة.
فيصبح أن يقال أن تطبيق الحدود يتبع فيها النصوص بعد الجمع بينهما والنظر فيها، ومن فعل ذلك فقد وافق القرآن والسنة كما فعل عمر رضي الله عنه (177) .
وأما عبارة المؤلف بأن الحدود لا يُتبع فيها النص المجرد وأن عمر خالف الآية فلا وجه لها. والله أعلم.
الثاني : أن الحكم: وهو وجوب القطع لمن سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة ثابت إلى يوم القيامة، وأما تحقيق مناطه وهو تطبيقه، فبحسب الحادثة الواقعة فإذا سرق غلمان ناقة بلا شبهة كاضطرار لسد الرمق قطعوا، وإذا سرقوا كما سرق غلمان حاطب لم يقطعوا لتلحق الشبهة، والحكم ثابت مع ذلك لا يتغير.(1/309)
5- استدل على قوله بأن من الحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها بأن:"أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم، من هذا ما رواه البخاري بسنده عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا (178) فأتوا النبي في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي الله عنه فأخبروه: فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتسى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" (179) . فقد عارض عمر إذن رسول الله بالنحر بالمصلحة وأقره الرسول على ذلك (180) .
مناقشته : إن هذا النص الذي استدل به على جواز معارضة حكم الشرع بالمصلحة مثل النصوص السابقة لا تدل على شئ من ذلك.
وقد ادعى الدكتور شلبي هنا دعوى عريضة لا برهان عليها وهي قوله: "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره..." مع أن كل مسلم يعلم أنه ليس لأحد من المسلمين أن يعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (181) .
ويقول سبحانه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . (182)
وقوله تعالى:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (183)
وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(184)(1/310)
ومعلوم أن الصحابة من أتبع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكيف يقال إنا "وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره".
وهذا المعلوم عن الصحابة من المحكم الذي لا يقبل الجدل.. وأما ما نقله فإنه في الحقيقة لا يعارضون ما قررته آنفا..
وحاصل ما في هذه الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه القوم في نحر إبلهم فأذن لهم في ذلك، ومثله ما علمناه من الشارع من الإذن في عمل المباحات، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعد ذلك أنهم إن نحروا إبلهم لم يبق لهم شيء بعدها فلم يأذن لهم وأمر الناس أن يتصدقوا عليهم، و"توالى المشي ربما أدى إلى الهلاك" (185) .
وما فعله عمر إنما هو بيان لحقيقة المسألة، فلما ذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم بين حكمها وأمر الناس بالصدقة، فأين المعارضة؟
ثم إننا قد علمنا من السنة في مواضع كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، فيببينون له حاجتهم واستفساراتهم ثم يجيب عليها حسب الواقعة، ثم إذا تجدد له علم بحقيقة الواقعة بين حكمها بحسب ما يتجدد على جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم تتقدم منه الاستشارة (186).
ألم تر إلى منزله صلى الله عليه وسلم في بدر حيث بين له بعض أصحابه أن هذا لا يصلح منزلاً لقتال القوم، فأمر رسول الله باتخاذ منزل آخر، ولم يكن في قول الحباب بن المنذر معارضة لرسول الله.
وكذلك قصة تأبير النخل فإنه أمرهم أن لا يؤبروا النخل، لظنه أن ذلك لا ينفعه فلما عُلِم أن النخل لم يثمر فاشتكى له أصحابه أجاز لهم ذلك، وأخبرهم أنه لا يعلم بحقيقة الواقعة؛ حيث قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهذه الحوادث مشهورة معلومة.. وكذلك ما نحن فيه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بأنهم إذا نحروا لإبلهم لا يبقى لهم شيء، فلما علم أمر لهم بالصدقة.(1/311)
وفي هذه الحادثة نفسها لو أن رسول الله أمر بذبح الإبل- بعد أن بين له عمر أنه لا يبقى لهم شئ- لما عارضه أحد من الصحابة، فكيف يتصور أحد أن في هذا معارضة..
ومن المعلوم أن المفتي قد يفهم الواقعة التي استفتي فيها على غير وجهها -أما لعدم العلم بحقيقتها أصلاً أو لعدم وضوحها- ثم يفتي فيها بحسب ما فهم فإذا بين له أن الواقعة ليست كذلك، بل هي كذا وكذا نظر في حكمها بهذا الاعتبار فكان لها حكم آخر، ولا يقال أن الحكم قد تغير.. ولا يقال أن البيان لحقيقة الواقعة معارضة.. والله أعلم.
ولنأتي بمثال تطبيقي نرد به على القائلين بتقديم المصلحة على النص، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة؛ حيث تظهر فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة التي يحسبها شرعية.. ولننظر أيقبل ذلك منه أو لا؟
روى البخاري بسنده عن عبدالله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله".
قال أبو بكر:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر لقتال فعرفت أنه الحق" (187) .(1/312)
وقد سأل الناس أبا بكر في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى.. والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، إذ المصلحة في الظاهر إبقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين أهل الردة، بل إن عمر ظن أن المصلحة في ترك قتال أهل الردة، فلما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة- وهم مجتهدون- وعملوا بما ورد في النص.
وفي هذا دليل على أن المصلحة التي تعارض النص مردودة، وحتى وإن ظن المجتهد أنها مصلحة، وآية قبولها شهادة الشرع لها، فإذا لم يقبلها، فكيف يتصور أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من أحد معارضة النصوص بالمصلحة، التي يدعوا لها هؤلاء الكتاب!
ولذلك لم يقبل أبو بكر من أحد شيئًا من ذلك حتى مع أنهم مجتهدون بل بين ووضح، قال الإمام الشَّاطِبي:"ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (188)
فهذه القصة تصلح مثالاً لمقابلة المصلحة للنص، وفي النهاية تحمل دلالة قوية على أن المصلحة المقابلة للنص لا عبرة بها، حتى وإن كانت من كبار المجتهدين.
وبعد هذا لا ينبغي لأحد أن يتصور أن المصلحة يمكن أن يعارض بها النص، وأن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض أمره- وهو يعلم- بالمصلحة فضلاً أن يقره رسول الله على ذلك، والله أعلم.(1/313)
ومن المفيد هنا أن نقول إن كل ما في جيل الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه، موضع للقدوة المباركة، حتى اجتهادهم الذي يعلمون أنه بعد ذلك مخالف للصواب فيرجعون عنه، هو موضع قدوة، لأن فيه معنى الرجوع إلى الحق واطِّراح مجرد التفكير البشري، والصبر عن متابعة رغبات النفس وحظوظها. وما أشد حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الإيمانية والمواقف العظيمة التي لا يتحقق الصدق في الدين إلا بها.
6- استدل المؤلف أيضاً على ما سبق- من قوله: إن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها وأن الصحابة مجمعون على ذبك بما روى أبو داود بسنده إلى جنادة بن أبي أمية قال:"كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته" (189) . وفي رواية الترمذي والدارمي "في الغزو" بدل السفر" (190) .
قال صاحب تعليل الأحكام:"هكذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجردًا من بيان سبب هذا النهي، فماذا فهم أصحابه فيه من بعده؟ أوقفوا عند النصوص وقصروا النهي على حد السرقة، وقالوا إن الشريعة نصوص تعبدنا الشارع بها، أم فهموا أن هذا النهي معلل بعلة قصد به دفع مفسدة عن الأمة أو جلب مصلحة لها؟" (191) .(1/314)
قال د. شلبي: "ولو تأملت هذه التعليلات في تلك الآثار لو جدت اختلافاً حسب اختلاف الأشخاص، فعمر وزيد رضي الله عنهما عللا بخوف اللحاق، وهذا يكون في الرجل العادي من الجيش، وأبو مسعود وحذيفة لم يعللا بذلك؛ لأن مثل أمير الجيش لا يلحق بالعدو عادة، بل يطمع العدو فيهم ويظهر ضعفهم أمامه إذا أقاموا عليه الحد، وإن كان الكل يلتقي عند شئ واحد وهو لحوق الضرر بسبب ذلك الفعل... وهذا التعليل لم يخالف نصًا ولا قياسًا ولا إجماعًا، وليس فيه إلا تأخير الحد لمصلحة راجحة، أما من حاجة المسلمين إليه أومن خِيف ارتداده ولحوقه بالكفار، ومثل هذا التأخير لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر الحد عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، وهو لمصلحة المحدود خاصة، فما بالك بما هو لمصلحة الإسلام عامة؟ فهذا النوع ورد الحكم فيه غير معلل فعللوه بما يترتب على الفعل من ضرر" (192) .
مناقشته: أُسَلِّم للمؤلف ما ذكره من هذه الروايات، وأخالفه في النتيجة التي رتبها على ذلك..
وبيان ذلك: أن المسألة الفقهية وهي "أن الحدود لا تقام في أرض العدو، منقولة عن الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد، وقال الشافعي يؤخره حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحد إليه (193)
واستدل من قال بالتأخير بالأدلة التي سبق ذكرها وهي حجة لهم (194) ، وهو الصحيح.. وبقي أن نتعرف على سند هذه المسألة هل هو المصلحة المجردة؟ وهل يؤدي القول بأن الحدود لا تقام في أرض العدو إلى تغير الحكم الذي دل عليه النص الشرعي وهو وجوب إقامة الحدود؟(1/315)
والجواب أن سند هذه المسألة هو القاعدة المعروفة بقاعدة " سد الذرائع " وهي قاعدة عمل الصحابة والسلف الصالح بها، قال الإمام الشَّاطِبي : " أن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها،وكإتمام عثمان الصلاة في حجة بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة (195) إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هو أمور خاصة كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا } (196).
وقوله: { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} (197)
وفي الحديث: "إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه" (198) وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلافى مع ما حكموا به إلا في سد الذريعة" (199) .
وهذه القاعدة لها في الشريعة أدلة كثيرة وقد أحصى منها الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين تسعة وتسعين وهي تدل على أن وجوب سد الذريعة قاعدة من القواعد الشرعية قال: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف" (200) .
والاستقراء كما عبر عنه الشَّاطِبي هو: "استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ" (201) . ومن فوائد هذه القاعدة البناء والتفريغ، ذلك أنها تتضمن معنى - وهو السد - وقد استقرأت الأدلة من الكتاب والسنة فأفادت اعتبار الشارع له، بحيث لم يعد المجتهد يحتاج إلى دليل خاص إذا أراد أن يحكم على نازلة خاصة، بل يدخلها تحت عموم المعنى...(1/316)
يقول الإمام الشَّاطِبي: "ولهذه المسألة فوائد تنبي عليها أصلية وفرعية، وذلك أنه إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرئ معنى عامًا من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تَعِنُ، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذا صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه " (202) .
وقرر الإمام الشَّاطِبي على هذا أن الإمام الشافعي والإمام أبا حنيفة يعتبران سد الذريعة، وما وقع الخلاف فيه من المسائل الجزئية لا يدل على عدم اعتبار هذه القاعدة عندهم، بل امتنع دخول بعض المسائل تحتها لوجود عارض يمنع من ذلك (203) ، وهذا ما قرره الدكتور حسين حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة؛ حيث استند على أدلة كثيرة في بيان أن الشافعي وأبا حنيفة وأحمد يسدون الذريعة فقال: "والخلاصة أن قاعدة الذرائع قاعدة متفق عليها بين الأئمة" (204) ..
فإذا انضاف إلى ذلك عمل السلف بها من الصحابة ومن بعدهم تقرر عند المجتهد أن هذه القاعدة تدخل تحتها مفردات كثيرة ومن هذه المفردات مسألتنا هذه وهي منع إقامة الحدود في أرض العدو، وهذا من تطبيقات سد الذرائع فهو في الأصل فعل مأذون فيه، بل يجب تطبيق الحدود إذا تحققت الشروط الشرعية، ومنع تطبيق الحدود في الغزو سدًا للذريعة الفساد، وهذا الفساد متحقق إما في لحوق المحدود بالعدو، وإما بطمع الأعداء في المسلمين إن كان المحدود أميراً فيهم (205) .
فرجوع هذه المسألة إلى قاعدة سد الذرائع المعمول بها عند الصحابة والتابعين والأئمة هو السند الحقيقي لها.(1/317)
ولا تفتقر بعد ذلك إلى نص خاص ولا قياس ولا إجماع.. فمنع إقامة الحدود في أرض العدو ليس مستنداً إلى مصلحة مجردة، وليس مؤدياً إلى تغير الحكم الذي جاءت به النصوص وهو حكم ثابت لا يتغير، ومن شروط تطبيقه أن تنتفي الشبهة كما مر سابقًا، وأن تؤخر الحامل والمرضع ولا يكون الوقت شديد الحر أو شديد البرد، وأن يكون في أرض العدو..
وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص، ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا.. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهو يستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً.
وبعد : فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة..
ومثال الأول قول الشارع: "كل مسكر حرام"، ومثال الثاني قولنا: هذا الشراب مسكر.
فإذا نظر الفقيه في شرابٍ ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع، فعمله هذا يسمى "تحقيق المناط"، وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه، فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكرًا أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإسكار عنه- كأن أصبحت الخمر خلاً- فأتى بجواز استعمالها، فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت.
ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة، ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (206) .(1/318)
وكذلك مسألة تطبيق الحدود فإنه مشروط بشرط فإذا لم تتحقق فلا تطبق، وليس ذلك لوجوب إقامة الحد.
ومثل ذلك منع خروج النساء إلى المساجد..
وأما مسألة حد الخمر فإنما اتبع الصحابة فيها المصلحة التي شهد لها أصل كلي، ولم يتبعوا فيها مجرد المصلحة، ولم يغيروا بها شيئاً، وكما أن هذه المسألة سندها المصلحة التي شهد لها الشارع، فإن سد الذريعة هي سند الصحابة في منع حد السكر ونحوه في الغزو.
وهكذا فقي مسألة قصر عثمان رضي الله عنه الصلاة في الحج وترك الأضحية فإنها من باب سد الذريعة، والمؤلف لم يشر إلى هذا، وكأن الصحابة يتصرفون في الأدلة بغير ضابط شرعي (207)..
المطلب الرابع : بيان موقف الصحابة رضوان الله عليهم من النصوص:
إذا تقرر ذلك يحسن بي أن ألم بموقف الصحابة من النص، وهو معلوم عند العلماء المعتبرين، فإنهم لم يكونوا يتركون النص إلى رأي أو مجرد مصلحة، بل كانوا يتشاورون ويردون المسائل إلى النصوص.. فاستدلالهم لا يخرج عن العمل بالنص أو الحمل عليه، وإذا استنبطوا منه معنى واحتجوا به فلا يلزم من ذلك أن يصرحوا بالطريق الذي استنبطوه به، لكن المقطوع به أنهم لم يكونوا يستنبطون الأحكام بمجرد الرأي، وقد سبق ذكر إجماعهم على ذم الرأي الذي لا دليل عليه(208) . فقول صاحب تعليل الأحكام "ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن"مخالف للإجماع المنقول عنهم، إذ كيف يذم الرأي من لا يلتفت إلى الأصول أو لم تكن ويتبع "وجوه الرأى" على حد قول المؤلف!
وبسبب إتباعه هذا الوهم المخالف للإجماع أخذ يطلق المصلحة من ضوابطها، ويحاول الاستدلال بها دون أن يقيدها بكونها مصلحة شرعية لا تعارض مقصود الشارع، ومقصوده يعرف من النص أو الإجماع.(1/319)
وبسبب هذا الوهم أيضًا نجد عباراته مضطربة فبينما هو ساع في تقرير مسلكه- الذي ليس له فيه وليّ إلا الطوفي (209) - تجده يضطرب أما سيل الحقائق العلمية التي تثبت أن المصلحة المعارضة للنص مردودة وملغاة، وأن ذلك هو منهج الصحابة والأئمة (210) .
ومن المواضع التي اضطرب فيها: قوله: "... إن المصالح التي عمل السلف بها في مقابلة النصوص لم تبلغ رتبة الضرورة، وأن العمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركاً للنص بالرأى في الواقع، وإنما ترك للنص بالنص بل بالنصوص الكثيرة.." (211) فهو هنا يقرر أن السلف لم يقدموا المصلحة على النص، وأنهم اعتبروا المصلحة التي شهدت لها نصوص كثيرة، فالمقابلة ليست بين مصلحة مجردة ونص، بل بين مجموعة نصوص ونص، ويستوي أن يكون هذا رأيًا للمؤلف، أو نقلاً عن السلف فإنه قد أقره كما هو ظاهر كلامه، ويحاول أن يجمع بين مذهب الصحابة ومذهب التابعين، فيقول:"... وبعد: فتلك طريقة هؤلاء الفقهاء السابقين في التعليل، وهو فيها لم يخرجوا عن طريقة صحابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: عللوا أحكام الله رغم أنف المنكرين (212) وحكموا المصلحة في التشريع، ولكن في دائرة المعتدلين، فلم يجمدوا على النصوص تعبداً بألفاظها، بل فتشوا وأخرجوا كنوزاً ثمينة من وادي معانيها، وزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد فأباحوا الأول، ومنعوا من الثاني، جعلوا عمادهم في ذلك التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف في كل شيء كما فعل الفقهاء والأصوليون المتأخرون، ومع هذا فلم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة، وإن صادم قاطعًا في شرع الله، أو قاعدة من قواعد الدين، بل رأيناهم في غير موطن يردون هذا المصلحة ويشددون النكير على من رام العمل بها" (213) .(1/320)
والذي أقوله هنا: أنه ما دام أن الصحابة والتابعين لا يجرون وراء الأوصاف في كل شيء، ولم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة وإن صادم قاطعًا من الشرع، أو نافى قاعدة من قواعده، إذا كان الأمر على هذا الحال فما بال المؤلف يقول عنهم مقالته السابقة؟ وحاصلها أنهم لا يتبعون الأوصاف- هكذا على الإطلاق- بل يتبعون وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت قواطع أو قواعد أو لم تكن!!!
ثم إذا تركنا هذا الأمر إلى غيره، فلماذا ينفر من اشتراط الفقهاء والأصوليين شهادة الشارع للمصلحة حتى تكون معتبرة وإلا فهي ملغاة، لماذا ينفر من هذا، وهو يحكي مذهب الصحابة والتابعين بأنهم ما كانوا يقرون مصلحة تصادم قاطعًا أو قاعدة..؟!
والدليل على نفوره منم الاشتراط وقوعه في ضده أنه نقل مذاهب الأصوليين وانتصر لمذهب الطوفي... وذكر هذه المذاهب كما يلي:
(أ) أن المصلحة المعتبرة هي التي لها أصل معين، ونسبه للقاضي.
(ب) أن المصلحة المعتبرة هي المشابهة للمصالح المتفق عليها أو المنصوص عليها، ونسبه للإمام الشافعي وجمهور الحنفية.
(ج) أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تصادم نصًا ولا إجماعًا تحققت المشابهة أم لم تتحقق، قربت من مورد النصوص أو بعدت، ونسبه للإمام مالك.
(د) المصلحة معتبرة على الإطلاق مرسلة أو غير مرسلة في المعاملات، وما شابهها حتى وإن عارضت نصًا أو إجماعًا متى ما كانت راجحة!!!
قَالَ: " وهناك مذهب رابع خلاصته أن المصالح يعمل بها مطلقًا مرسلة أو غير مرسلة، ويعني بها التي عارضت نصًا أو إجماعًا متى كانت راجحة لكن في صنف من الأحكام "المعاملات وما شابهها"، أما العبادات والمقدرات فلا وزن للمصلحة فيها وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً " (214) .(1/321)
وقد حاول مناقشة الأصوليين- ما عدا رأى الطوفي فإنه مر عليه سريعًا وبنى له مسألة أخرى نصره بها -كما يظن (215) - وليس المقصود هنا مناقشته فيما نسبه إلى الأصوليين فمثل هذه البحوث لا تكفي فيها ورقيات كما صنع هو (216) ، وكذلك لا تكفي فيها ما قد أسجله هنا من ملاحظات، ذلك أن نسبة المذاهب إلى الأصوليين تحتاج إلى بحوث متخصصة في هذا الموضوع، وأكتفي هنا بالرد عليه فيما نسبه إلى فقهاء الصحابة- كما صنعت سابقًا- مع بيان اضطرابه وتفنيد خطئه في تفريقه بين مذهب الصحابة والأصوليين مع مناقشته خاصة فيما نسبه إلى الشَّاطِبي وحاول الرد عليه انتصارًا للطوفي.
أما نسبة مذاهب الأصوليين إلى كتبهم وتحرير موقفهم من المصلحة فذلك لا يحتاج مني إلى بحث- فلقد حرر تحريرًا حسناً، وأكتفي بما حرره أستاذي الدكتور حسين حامد حسان وأبني عليه (217). ومن ذلك قوله: "كل ضروب الاجتهاد المستندة إلى أصل اعتبار المصالح في الأحكام تعتبر استدلالاً بالنصوص الشرعية وليس فيها عمل بمصلحة مجردة ولا ترك لنص من نصوص الشريعة" (218) .
ويقول : وقد " أبطلنا دعوى أن مالكًا يقدم رعاية المصلحة على النص أو يترك بها خبر الآحاد، وأثبتنا أن جميع الفتاوى التي نسبت إليه واتخذت دليلاً على هذه الدعوى غير مفيدة في هذا المطلوب وبينا أسباب ذلك" (219) .
" أثبتنا أن المصلحة التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار مصلحة مردودة باتفاق... وهي المصلحة الغريبة التي حكى الغزالي والشَّاطِبي الإجماع على عدم الأخذ بها.. وقلنا أن المصلحة التي يقول بها الطوفي لا تختلف عن هذا النوع من المصالح المردودة إلا في الطوفي يقدمها على النص والإجماع " (220) .
وقد حاول محمد شلبي الانتصار له - مع أن الطوفي إنما اتبع المصالح المردودة وحاول تقديمها على النص والإجماع، وقد أثبت العلماء المعتبرون قديمًا وحديثًا مخالفته لسائر الأئمة وشذوذه عن الإجماع.(1/322)
ومن عجب أن ترى صاحب تعليل الأحكام يحاول أن يسند رأي الطوفي
بقوله: "... وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً" (221) .
وأنت ترى أنه لم يصرح بأسمائهم ولا بفتاويهم مع أنه كثيراً ما مجد بحثه هذا واعتبره تجديداً في علم الأصول ودعى فيه إلى مراجعة ما كتبه الأصوليون بعد أن وصففهم بما يكره وستأتي الإشارة إلى ذلك..
فأين هذه الجماعة من العلماء الذين وافقوا الطوفي أهي جماعة الصحابة التي ينسب إلى فقهائها معارضة الرسول ومخالفته، والتي ينسب إلى فقهائها تبديل بعض الأحكام بسبب اتباع المصالح!!!
أم أن هذه الجماعة من الأصوليين. وقد زعم الطوفي بأن رأيه الذي قَالَ به لم يسبقه إليه أحد قبله!!
أمَّا بعد الطوفي فلم بلق هذا الرأي إلا النقد والرد وبيان أن صاحبه خرق الإجماع وتولى غير سبيل المؤمنين، حتى أن بعض الباحثين في هذا العصر فندوه وبينوا أنه رأي ساقط لا عبرة به، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (222) .
ثم جاء آخرون فأعجبهم هذا الشذوذ عن الإجماع وظنوه علمًا معتبرًا فاتبعوه- وما علموا أن فائدة الإجماع هو القطع في المسألة فلا تعد تحتاج إلى بحث وخاصة وقد تقرر هذا الإجماع في قرون متطاولة- فلما تبعوه أخذوا ينتصرون له مزينين له بشبه متكاثرة، بل ذهبوا إلى أكثر مما ذهب إليه الطوفي، فإنه شهد على نفسه بنفسه أنه لم يسبق إلى هذا الرأي، ومعني هذا أنك إذا بحثت لِتَجِد من ينصره قبله فلن تجد أحدًا.
ومع ذلك فقد حاول بعض الباحثين نصرته ببعض النقول والتطبيقات التي سبقت الطوفي - كما صنع صاحب رسالة تعليل الأحكام- فإنه قَالَ بتبدل الأحكام في المعاملات وما شابهها؛ لأنها بزعمه تتبع المصلحة، وأن ذلك هو إجماع الصحابة، مع أن هذا هو رأي الطوفي- الذي يزعم أنه لم يسبق له، فأين تجد عليه إجماعاً.(1/323)
وقد تتبعت أبرز تطبيقاته (223) وأثبت أنه إنما يتعلق بشبه لا بدليل وأن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يتبعوا مجرد المصلحة، ووجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، فإذا أضفت هذا مع ما قرره الباحثون من أن أحدًا من الأئمة لا يقدم رعاية المصلحة على النص وبقي الطوفي على زعمه وخروجه عن الإجماع واتباعه غير سبيل المؤمنين وسقطت محاولة الشلبي وغيره من الباحثين الذين بذلوا جهدًا جبارًا لإحياء سقطة الطوفي وجعلها (224) دينًا يتبع، يريد صاحب رسالة التعليل أن يستمسك به ويخالف عليه علماء الأصول المعتبرين ) .
( المرجع : رسالة " الثبات والشمول " للدكتور عابد السفياني ، ( ص 448-489) .
الشبهة(7) : دعوتهم لتطوير( تحريف ) أصول الفقه
من أولى المسائل في أصول الفقه التي تثير العصرانية حولها الغبار هذه القضية:
هل بالإمكان حدوث تطور جديد في أصول الفقه؟
لعل (إقبال) مِنْ أوائل مَنْ أثاروا هذه المسألة، وناقش في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والرأي عنده: "إن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام، ومن تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ ". (224)
وتبنت الدعوة إلى الاجتهاد في أصول الفقه مجلة (المسلم المعاصر)، إذ كتب مؤسسها د. جمال الدين عطية في كلمة التحرير لأول عدد صدر منها واصفًا المجلة بأنها: (مجلة الاجتهاد)، وأنها ".. تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه". (225) واشتملت المجلة في نفس العدد والأعداد التالية على بعض المقالات عن هذا الموضوع . (226)
ويردد هذه الدعوى آخرون، منهم الدكتور أحمد كمال أبو المجد، إذ كتب يقول:(1/324)
"والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون ليس اجتهادًا في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم، فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلبًا لحكم الإسلام فيها أفضى بحثهم إلى وقفة مع الأصول.. وليس ما تردده الكثرة الغالبة من المعاصرين من امتناع الاجتهاد في الأصول إلا التزامًا بما لا يلزم، وتقصيرًا في بذل الجهد بحثًا عما ينفع الناس ". (227)
وحتى لا يضيع الفكر في متاهات من التعميمات، فإن الخطوة الأولى لتلمس الحقيقة في هذا الموضوع الخطير تبدأ بتحديد ما المقصود بالاجتهاد في أصول الفقه.
قد يكون المقصود من ذلك عدة أمور نجملها فيما يلي :
(1) استحداث قواعد جديدة في أصول الفقه لم تكن معروفة من قبل ولم يصل إليها السابقون، وهذا هو المعنى المتبادر عادة من كلمة اجتهاد بمعناها الإصلاحي؛ إذ أن الاجتهاد في الفقه عادة ينصرف إلى استنباط أحكام جديدة للحوادث الطارئة.
فإذا كان هو المقصود من الاجتهاد في أصول الفقه، فأين هذه القواعد الجديدة المستحدثة؟ فبدلاً من إثارة الضجيج وضرب الطبول عن إمكان الاجتهاد أو عدم إمكانه، فمن كانت عنده قواعد جديدة فليأتِ بها وليطلع العالم عليها، وحينئذ فقط نتحقق إن كانت هي بحق قواعد علمية تقوم على الدليل والبرهان، أم أنها محض تخرصات وأهواء شخصية. وفيما أعلم لا أحد قدم قواعد جديدة.
(2) وقد يكون المقصود من الاجتهاد عدم التقليد في أصول الفقه، بمعنى أنه لا تقبل الآراء فيه إلا بحجة ودليل، حتى لو أثبتها الأوائل، ويظل الباب مفتوحًا للترجيح بين الآراء المتنازع فيها والمختلف فيها.(1/325)
ولا ريب أن هذا معنى صحيح، وهل يخطر ببال كل ذي عقل أن الاستمساك بتقليد آراء الرجال والإذعان لها دون حجة ودليل أمر محمود؟ لا أظن أحدًا من الأوائل دعا إلى ذلك ولا يرتضيه أحد من المعاصرين. وهذه هي كتب أصول الفقه قديمها وحديثها مشحونة بسوق الآراء والأدلة عليها والترجيح بينها.
(3) وقد يكون المقصود بالاجتهاد توسيع وتفصيل بعض القواعد التي بحثها علم أصول الفقه. وقد أوضح هذا المعنى أحد الذين تناولوا هذا الموضوع فقال: ".. وهناك مسائل تتعلق بالأصول تحتاج إلى مزيد إيضاح وتفصيل، من ذلك تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية.. ومن ذلك الإجماع إذا كان مبنيًّا على أمر مصلحي زمني قابل للتغير والتطور بتغير الزمان والمكان والحال.. وهذا يجر إلى قضية أخرى؛ وهي قضية الأحكام أو تغير الفتوى بتغير الأزمان، وما ينبغي أن يوضع لها من حدود وضوابط.. إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات التي يكشف عنها طول البحث والنظر في الفقه وأصوله، وتطبيقاته في هذا العصر.. وهذا كله يفسح الميدان لدعاة الاجتهاد ولو كان في أصول الفقه ذاتها " . (228)
ولما كانت القضايا المثارة تحت هذا المعنى للاجتهاد في أصول الفقه، تستحق مزيدًا من الفحص والتمعن حتى تسفر الحقيقة عن وجهها، ويتضح ما إذا كانت الدعوى للاجتهاد صادقة أم كاذبة، كان لا بد من إخضاع هذه القضايا للبحث، فإذا ظهر أن هناك اجتهادًا معاصرًا في هذه المسائل، كان الاجتهاد في أصول الفقه أمرًا واقعًا، وإن ظهر أن دعوى الاجتهاد في هذه الأمور لا تقوم على أساس، اتضح أن إمكان الاجتهاد في أصول الفقه لا يعدوا أن يكون إمكانًا نظريًّا بحتًا حتى الآن.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 239-242).
وقال الدكتور محمود الطحان رادًا على الترابي الذي يروج لهذه الدعوة :(1/326)
قول الترابي : "فَيُمْكِن أنْ نَّرُد إلى الجماعة المسلِمة حقَّها الذي كان قَدْ باشَرَهُ عنها مُمَثِّلوها الفقهاء، وهو سُلْطَة الإجماع، ويُمْكِن بذلك أنْ تَتَغَيَّر أُصول الفِقْهِ والأحكام، ويُصْبِح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم، وتصبح أوامر الحكام كذلك أصْلَيْن مِن أُصولِ الأحكام في الإسلام" . (229)
ويقول أيضًا: " فإذَنْ يُمْكِن أنْ نَحْتَكِم إلى الرَّأْيِ العام المسلِم، ونَطْمَئِنَّ إلى سلامة فِطْرَةِ المسلمين، حتى ولو كانوا جُهَّالاً في أنْ يَضْبِطُوا مدَى الاختلاف ومَجال التفرُّق ". (230)
ويقول أيضاً: ".. ويدور بين الناس الجدَلُ والنِّقاش حتى يَنْتَهِي في آخِر الأمْر إلى حسْم القضية، أو يَتَبَلْوَر رأْىٌ عامُّ؛ أو قرارٌ يُجْمِع عليه المسلمون، أو يُرَجِّحُه جمُهورهم وسَوادُهم الأعظم". (331)
هكذا صار الإجماع- بعد تطويره وتجديده - عند الدكتور التُّرابي، جَدَلاً ونِقاشًا بين الناس - كلِّ الناس- وتَصْوِيتًا في نهاية الأمر، فما صَوَّتَ له جمهورهم وسَوادُهم الأعظم كان حُكْمًا لازمًا يَنْزِل عليه كلُّ المسلمين!.(1/327)
سبحان الله! متى كان عامَّة الناس يُرجَعُ إليهم في الأمور العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى بحث؟ وهل جَدَلُ العامة ونِقاشُهم مَبْنِيٌّ على أصولٍ علميةٍ، أم هُوَ لَغَطٌ وسَفسَطةٌ، كلٌّ يتكَلَّم كما يَحْلُو له, ألَيْسَت هذه غَوْغائية؟ أليست هذه الطريقة التي اكْتَوَينا بِنارِها مِن بَعْضِ الحكَّام والدِّكْتاتورِيِّين الظالمين؟ فإنه كلما أراد شيئًا أتَوْا بِمَشْروعٍ، وطرَحُوه لِلْتَّصْويتِ عليه مِن قِبَلِ عامَّة الناس، أو الشعب، ليأخذوا عليه الموافقة، ثم يُصبح قانونًا مُلْزِمًا، حتى أنَّ بعض الحكام أراد أن يَحْمِيَ فُجُورَه وفُجُورَ أهْلِه، فأخْرَجَ قانونًا سَمَّاه قانون "العَيبْ" وطَرَحه للتصويت عليه، فَنَال مُوافَقَة السَّوادِ الأعظم، وصار القانون مُلْزِمًا للمسلمين في ذلك القُطْر.
ثم إنَّ التُّرابي مِن أيْنَ تَخيَّلَ أنَّ الإجماع كان أولاً حقًا لجميع أفراد الشعب، وأنهم استعملوه في عصور الإسلام الأُوْلَى، ثم باشَر هذا الحق نيابةً عنهم- الفُقَهاءُ في عصور الجهْل والانْحِطاط، ثُم الآن يُريد أنْ يُعيد هذا الحق إلى الشعب، لأن الجهل زال، وصار الناس بفضل دعْوَتِه مُتَعَلِّمين مُتَنَوِّرين! مِن أينَ جاء بِهذا السَّرْد التاريخيِّ لِواقِع الإجماع؟ أين وَجَدَه؟ وفي أيِّ مَصْدَرٍ قرَأَهُ؟ أهذا يَجُوز، يَتَخَيَّل الأمور تَخَيُّلاً، ثم يُلْقِيها على الناس على شَكْل مُحَاضراتٍ، ويَنْشُرُها على شكل رسائلَ لدَعوةٍ تجديديةٍ للإسلام!(1/328)
مع أنَّ الإجماع الشرعي عند علماء أصول الفقه الإسلامي منذ نشأته في القرون الثلاثة الأولى إلى يومنا هذا له تعريفٌ واحدٌ مُؤَّداهُ: اتِّفاق علماء عصرٍ واحدٍ على حُكمٍ شرعيٍ واحدٍ (232) فقد عرَّفَه البَيْضاوِيُّ في مناهِج الوُصول بأنه: "اتفاق أهْل الحل والعَقْدِ مِن أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على أمْرٍ من الأمور" (233) . وعرَّفه تاجُ الدِّين السُّبْكي في جَمْع الجوامع بأنه: "اتفاق مُجْتَهدِي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ على أيِّ أمرٍ كان" (234) ، وعرَّفه الخَطيب البَغْداديُّ في "الفقيه والمتفقه" بأنه "إجماع أهل الاجتهاد في عصر، فقال: "إجماع أهل الاجتهاد في كل عصرٍ حُجَةٌ مِن حُجَجِ الشرع " (235).
فأين إجماع الشعب الذي يَدَّعيه التُّرابي ؟
2- وأما أمرُ الحاكم - أو وَلِي الأمر - فَقَدِ اهْتَمَّ به التُّرابي كثيرًا، وأوْلاهُ مِن العِناية ما يَلْفِت النَّظَر، وتَهَجَّم على الفقهاء والأصوليين القُدامَى بِحُجَة أنهم أغْفَلوا حقَّ الحاكِم في التشريع وإصدار الأحكام، ودعا بإصرارٍ إلى إعادة هذا الحق إليهم فقال: بعد أنْ سَرَدَ مُقَدِمةً طويلةً كلُّها مُغالَطاتٌ, وأشياءُ تَخَيَّلها؛مالَها مِن واقِعِ التاريخ في شيءٍ بالنِّسبة للإجماع وحق الحاكم - " فإذا حالت" (236) تلك الظروف، وقامت فِينا مَثَلاً حكوماتٌ ثَوْرِيةٌ ينبغي أن يُكَيَّفَ عِلْمُ الأصول بما يَرُدُّ إلى تلك الحكومات حقها في إنشاء الأحكام بأمر الحاكم وَقْفًا على مُوافَقَة الكِتابِ والسُّنَّة" (237) .(1/329)
وقد غَفَل الدكتور الترابي أو تَغَافَل عن مَوْضوع حقِّ الخليفةِ أوْ وَلِيّ الأمر المسلم في تَبَنِّي الأحكام الشرعية- سواءَ كانت من اجتهاده ,إذا كان مجتهدًا، أو من اجتهاد أحد المجتهدين المُعْتَبَرِين, إن لم يَكُنْ مجتهدا-الذي بَحَثه علماء أصول الفقه، وذكروه في مُصَنَّفَاتهم،ولم يُغْفِلوه ولم يُعَطِّلوه كما ادَّعَى
لكن ينبغي التفريق بين تَبَنِّي ولي الأمر للأحكام الشرعية والأمرِ بتنفيذِها، وبين إنشاء الأحكام بأمرِ الحاكم،ِ فليس لِلحاكمِ أنْ يُنْشِىَء الأحكام، ويطْلُب التَّصْويت عليها - كما مَرَّ- وإنما له أنْ يَتَبَنِّى الأحكام الشرعية التي استُنْبِطَت باجتهادِ مجتهدٍ عالمٍ في دين الله وشريعته.
ويُنْظَر في مَوْقِع حقِّ وليِّ الأمرِ في تَبَنِّي الأحكام الشرعية والأمر بتنفيذها كِتاب "غياث الأمم في الْتِياثِ الظُّلَم "ص 216 و 217 وغيره من كتب السياسة الشرعية.
وقد مر بنا قبل قليل- في بحث الإجماع - قول الدكتور الترابي: "ويُصبح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم، وتُصبِح أوامرُ الحكام كذلك أصْلَيْن من أصول الأحكام في الإسلام". (238)
ويقول الترابي أيضًا: "وإلى جانب الرأْيِ العام المسلم الذي كان هو الضمان الوحيد في العُهود السابقة، فإنَّ الحكومة الإسلامية النِّظامية في العَهْدِ الحديث يمُْكن أنْ تُصبح ضَمانَةً كُبْرَى لِوِحْدة الفِكْر " . (239)(1/330)
ما المراد بـ "الحكومة الإسلامية النظامية" هل يَعْنِي؛أن َّالحكومات الإسلامية السابقة زمن الخلافة الإسلامية كان حكوماتٍ فَوْضَوِية ًأو استبْداديةً؟ كأنَّ الدكتور الترابي يَعْنِي هذا، فقد قال في ص 9 من رسالة "تجديد الفكر الإسلامي": "ذلك أن حكومة المسلمين وقْتَئِذ كانت حكومةً تتَوَلَّى الحُكْم إمَّا بالوِراثَةِ أو بالقوة، ولم تكن بذلك مُؤَهَّلَةً لأَنْ تَطْلُب من المسلمين حق الطاعة، ولذلك أغْفَلَهَا الفقهاء، وجَرَّدُوها من حقِّ وَضْعِ الأوامر واجبة الطاعة من المسلمين".
إذا على رأي الدكتور الترابي- إن الحكومات الإسلامية من القرن الأول إلى زمن سقوط الخلافة العثمانية على يد الإنكليز عام 1924م لم تكن مُؤَهَّلَةً لأنْ تَطْلُب من المسلمين حق الطاعة، لأنها حكوماتٌ تَوَلَّت الحُكْم إمَّا بالوراثة أو بالقوة، ومن يقول بهذا إلاَّ غُلاةُ الشِّيعة والخوارج! أما قَوْلُ الترابي: "ولذلك أغفلها الفقهاء وجرَّدُوها مِن حقِّ وَضْع الأوامر واجبة الطاعة من المسلمين" فَغَيْر صحيحٍ ومُخالِفٌ للواقع التاريخيِّ للفقه الإسلامي، وحياة المسلمين العملية التطبيقية، فقد كان الفقهاء يذكرون حق الحكومة في تَبَنِّي الأحكام الشرعية، والأمر بتنفيذها ووجوب إطاعتها من قبل الرعية كما تقدم قريبًا.
ولم يَكُن لِيَسْتَقِيم أمرُ الدَّوْلة الإسلامية على مَرِّ العُصُورِ ويَزْدَهِر، ولم تكن لِتَسْتَمِرّ الفتوحات الإسلامية، وتكون الدولة الإسلامية أقوى دَوْلَة ٍعلى وَجْهِ الأَرْضِ لو كانت أوامرُ تلك الدولة غيرُ واجبة الطاعة من قِبَلِ المسلمين.
3- وأما القِياسُ، فإنَّ الدكتور التُّرابي لا يُريد بِه قياس الفقهاء والأصوليين الذي له ضوابط وشروط، وإنما يريد قياسا حُرًّا فِطْرِيًا عَفَوِيًا، ليس له أيَّةُ ضوابط أو قُيود، لأنَّ هذه الضوابط والقيود- في زعْمِه - مِن وضْعِ مَناطِقَة الإغريق، ثم اقْتَبسها الفقهاء عنهم.(1/331)
معَ أنَّ تَعْريف القياس عند الأصوليين غيرُ مُعَقَّدٍ، فقَد عرَّفَه الخطيب البَغدادي فقال: "هو حَمْلُ فَرْعٍ على أصْلٍ في بعض أحكامه، لِمَعْنَى يَجمع بينهما" (240) . وعرَّفه البَيْضاوِيُّ بأنه: "إثْباتُ مِثلُ حُكمٍ مَعلومٍ في معلومٍ آخَر لاشْتِراكهما في علة ِالحُكم عند المُثْبِت". (241)
فتحت عنوان: "نحو أصولٍ واسعةٍ لِفِقْهٍ اجتهاديِّ" قال الدكتور الترابي: "وفي هذا المجال العام يَلْزَمُ الرُّجوع إلى النُّصوص بِقواعد التفسير الأصولية، ولكنَّ ذلك لا يَشْفِي إلاَّ قليلاً، لِقِلَّة النُّصوص، ويَلْزَمُنا أنْ نُطَوِّر طرائق الفِقْه الاجتهاديِّ التي يتَّسِع فيها النظر بِناءً على النَّص المَحْدود، وإذا لجَأْنا هنا لِلقياس لِتَعْدِية النصوص وتَوْسيعِ مَدَاها، فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بِمَعَايِيْرِه التقليدية، فالقياس التقليدي أغلَبُه لا يَسْتَوْعِب حاجاتِنا بما غَشَيهُ من التضْيِيق اتْفاقًا بمعايير المَنْطِق الصُّورِي التي وردَت على المُسلمين مع الغَزْوِ الثقافي الأوَّل، الذي تأثر به المسلمون تأثرًا لا يُنازعه إلاَّ تأثرنا اليوم بأنْماط الفكر الحديث" . (242)
عجبًا لك يا ترابيُّ، أَتَتَّهِم المسلمين بما فيهم أئمة الفقه والأصول في العصر الأول بأنهم انْفَعَلوا بِمَعايير المنْطِق الصُّوري، وتأثروا بالغزو الثقافيِّ الأول وذلك لتَتَفَلَّت من القياس الذي وضعه أئمة أصول الفقه، وتأتيَ الحُكام المعاصرين بقياسٍ واسعٍ ليْس له ضوابط ولا قواعد، لِيَسَعَ كل الأحكام الطاغوتية الوافدة من الغرب المستعْمِر، باسم الإسلام المُتَجَدِّد؟ فَمَنْ أَوْلَى بالاتِّهام بأنه تأثر بالغزوِ الثقافيِّ الأجنبيِّ، علماء أصول الفقه القُدامَى أَمْ أنْت؟ ).
المرجع : ( مَفْهُومُ التَّجْديدِ بين السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ, وبين أدْعِياءِ التَّجْديدِ (المعاصرين)) للدكتور محمود الطحان ، ص 22-27).(1/332)
الشبهة(8) : مغالطاتهم في الفهم المقاصدي للإسلام
قال الأستاذ عبدالسلام بسيوني :
( لقد ظن اليَسارُ الإسلاميُّ أنَّ الشريعة مَقَاصِد، وأنَّ العقل هو المُكَلَّف بإِيجادِ الطريقة التي يَراها مُلائمةً، والأحكام التي يراها كَفْيلةً بتَحقيق هذه المقاصد الكُبْرى، مُعْتَبِرًا بذلك أنَ ما وَرَد في الشريعة مِن أحكامٍ تفصيليةٍ لا يُمَثِّل إلاَّ المرحلة الأولى من تطبيق الشريعة، يَقَع تَجَاوُزُها بِتَجاوُزِ المرحلة. وهنا نَتَساءَل: هل يُمْكن للعقل وحْدَه أن يُجَدِّد هذه الأحكام والوسائل المُحَقِّقَة للمقاصد؟
الإجابة لا تحتاج في نظرنا إلى تحاليلَ مُطَوَّلة، إذْ يُمكِن الاكْتِفاءُ بإِلْقاءِ نظْرةٍ على تاريخ المَذاهب القديمة والمعاصِرة، فَكُلها تدعو إلى الحرية والعدل والتقدم، لِنَعْرِف إلى أيِّ مَدَى تَمَكَّنَت من التَّلاؤُم مع الإنسان في مَطالِبه وطُموحاته. فبِاسْم الحُرية يَقع ما يَقع: يموت الناس جُوعًا، ويُلْقَى بأَطْنان المَزْرُوعات والثِّمار في البحار والمحيطات حِفْظًا للأسْعار مِن الانْخِفاض....، وبِاسْم الدَّعوة إلى المُساواة والعدالة، تُكَمَّم الأفْوَاه ويُمْنَع الناس من حقوقِهم في التَّعبير، ويُرْمَى بهم في غَيَاهِب المناطق المُتَجَمِّدة، وباسْم التقدم يُرْمَى بِكُل سَلَفٍ مُتَمَسِّكٍ بمبادئه، ويُتَّهَم بالرَّجْعِيةِ والمَاضَوِيَّة والجُمود... كان ذلك ولا يزال، ولنا من الواقع أكثر من شاهد.
* الفَهْم المَقاصِدِيُّ يَخْتَزِل الشريعة في خَمْسَة مَقاصِد:(1/333)
هذا الفهم "التقدمي" للإسلام يَنْفِي عن الشريعة أنْ تكون مَنْهجًا يَتَضمَّن الوسائل الكبرى وبعض التفصيلات. فَنَظْرةُ اليَسار إلى الشريعة نظرةٌ اخْتزالية تَسْطيحيةٌ للشريعة، رغم ما تَدَّعيه لِنَفْسها من عُمْقٍ وغَوْصٍ في " روح" الشريعة. ولعلنا. لا نُجَانِب الصواب إذا قلنا بأنَّ هذه النظرة تُؤْمِن بِبَعض الكِتابِ وتَكْفُر بالبعض الآخر، ما دامت أحكام الوحي- في نظرهم- قابلةً للنَّسْخ المُتواصِل وِفْقًا للتطَوِّر التاريخيِّ والاجتماعيِّ. وهنا نسأل: لماذا وَرَدت تلك الأحكام التفصيلية في القرآن؟ هل كان ذلك فقط للعصر الذي نزل فيه القرآن واستجابةً لظَرْف ٍتاريخي مُحَدَد؟
لو كان الأمر كذلك لما كانت بنا حاجَةٌ إلى نصوص الكِتاب، ولأَمْكَنَنَا أنْ نقوم بتلخيصٍ للقرآن في خمسة مَقاصدٍ نَحْفظها- إنْ لم نَقُل نتْلُوها في الصلاة!! - ثم ما حاجة الإسلاميِّ التقدُّمِيِّ اليومَ إلى سِتِّين حِزْبًا من القرآن، وآلاف الأحاديث النبوية؟.. إنَّ كل هذه النصوص ستُصْبِح في أحسَن الحالات مادةً للتَّثقيف التاريخيِّ والتَّسْليةِ الفكرية، أيْ: تُراثًا لا غَيْر. فَالْفَهْم المَقاصِدِيُّ يَنْتَهِي بِنَا إلى اعْتِبار الإسلام تُراثًا (الإسلام من حيث هو شريعة)؛ بل إنَّ حَسَن حَنَفِي يُطالِبنا بأكثرَ من ذلك، يُطالِبنا بتغْيير المُصْطَلحات التي تتضمَّن العقائد...(1/334)
إن هذه النظرة إلى الإسلام تَجَاوَزَت حتى نظرةَ المُعتزِلة التي يَنْتَسِب إليها اليَسار الإسلاميُّ. ذلك أنَّ المُعْتزلَة وإنْ أَعْطَوْا قِيمةً كُبرى للعقل، فإنَّهم لم يقولوا بِتَعْطيل النصوص، ولم يَقُولوا بِقُدَرة العقل المُطْلقَة على التَّصَرف في الشريعة، فَالمعتزلة يقولون بأن العقل قادرٌ على مَعْرفَة الحَسَنِ والقَبِيح، والخَيْر والشَّر. وإذا أرَدْنا القيام بِقياسٍ أوْ تَشْبيهٍ فإِنَّنا نقول بأنَّ العقل رُّبَّما يكون قادرًا على تَعْيِين المَقاصِد الكبرى للشريعة، ولكنه غير قادرٍ على التفصيل في أحكامها والوسائلِ المُوَصِّلة إِليْها، وذلك خِلافًا لما يَراه اليَسار الإسلامي، فَلَعلَّ مُعْتَزِلة العصر الحديث أكثرُ تقدُّمًا في العقلانية من المعتزلة الأوائل.
* الفَهْم المَقاصِديُّ دَعْوةٌ إلى العَلْمانية:
إضافةً إلى اختزالِه الشريعة في خمسة مقاصد، يُمَهِّد هذا الفَهْمُ المَقاصِدِيُّ إلى العَلْمانية؛ بل يدعو لها بطريقةٍ أو بأُخْرَى كما سبَقَ بَيانُ ذلك في فصْل الانتماء السياسيِّ للمُسلم. وليس في ذلك غَرابةٌ أو تَناقُضٌ ما دُمْنا مُطالَبِين بِضَبْط طريقنا بأنْفُسِنا، وبما نَنْقُلُه من تَجَارِب الآخَرِين، كما يقول خالد محُيْىِ الدِّين الذي يَنْتَمِي إلى حِزْب التَّجَمُّع ومعَه حَسَن حنفي وبعض " الإخوة في الوطن والثورة والحرية..."(1/335)
معنى ذلك بعبارةٍ أوضَحَ، أنَّ مقاصد الشريعة كَشِعاراتٍ عامةٍ يُمكن أنْ يحققها القَوْمِيُّ، والماركسِيُّ، والليبرالي، والمسلم.. سَواءً بسواء، أي ليس من الضروري أن تكون مُؤْمِناً بالله ومُسْلِماً لِكَي تُحَقِّق مَقاصد شرع الله، فَبِالإمْكان أنْ تكون غير ذلك وتُحَقِّق مقاصِدَه... ولسنا ندري بعد ذلك إنْ كان الأمر يتعلق بأسْلَمَة الماركسيِّ واللِّيبرالي والقومي أم بِتَمَرْكُسِ المُسلِم... أم بشيٍ آخَر!... وبذلك يتحوَّل الإسلام إلى شِعاراتٍ عامةٍ، وكأَنَّه لافِتَةٌ يُمْكِن أنْ نَجِدَها على كل الواجهات. وقديماً قال شاعِرُ الغَزَل:
وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بليلى وَلَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاك
* الفَهْم المَقَاصِدِيُّ نَفْيٌ لِمَقاصِد الشريعة:
إنَّ الفَهْم المقاصدِيّ، إضافةً إلى ما سبق (اختزال الشريعة والدعوة إلى العلمانية)، يَلْزَم عنه إِلْغَاءُ الشَّريعة، وهُو يُؤَدِّي إلى ذلك مَنْطِقِيًا.
ذلك أنَّ مَقاصِدَ الشريعة التي حَدَّدَها الفَهْمُ التقدُّمي للإسلام، لا نَجِد مِن الدَّعَوات والمَذاهب مَن يُنْكِرها. فَكُلُّ الأحْزاب تَدْعو إلى الحرية والعدالة والتقدم، وتقول بأنها تُحَارِب الظُّلم والاستغلال. وهذا معناه بلغة أُخْرَى، إذا أرَدْنا أنْ نُواصِل الاستِنْتاجَ، أنَّ الشريعة لم تأْتِ بِجَديد. فهذه المبادئ والشِّعارات العامة مُتَضَمَّنَةٌ في كتب الفلاسفة والحُكماء القُدامى والمُعاصِرين، فما الدَّاعِي إذَنْ إلى أن تأتِيَ عن طريق الوَحْي؟ وهل يكون مَقْصِد الشرع من ذلك مجرد تَكْرارٍ أو إِقْرارٍ لما تَوَصَّل إليه العقل، أيْ: مُجرَّد تَزْكِيةٍ ومُصادَقَةٍ على ما تَوَصَّل إليه الإنسان؟ ذلك ما يراه حنفي بِصِفةٍ ضِمْنِية وصريحة.
وإذا كان ذلك كذلك فإننا نَتَوصل إلى النتيجة التالية .:(1/336)
إما أنْ يكون الوَحْيُ مُجَرَّد استجابَةً لِظُروفٍ تاريخيةٍ، نَزَل على العرب البَدْو قَبْل تَحَضُّرِهم، والإسلام يكون تَبَعًا لذلك صالِحًا لِلْبَدَوِيِّ وغيرَ صالحٍ لِلْحَضَرِيِّ: وهذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات.
وإما أن يكون نُزول الوحْي عَبَثاً؛ لأنه لم يأتِ بجديد، وإنْ أتَى بجديدٍ في عصره فإنَّنا غيرُ ملْزَمِين إلاَّ بِمَقاصِدِه وهي ليست جديدة..
إذن ألا تَرى معنا أنَّ الفَهْم المَقاصِدِيَّ للشريعة- على النحو الذي رآه اليَسار- هو نَفْيٌ لمِقاصد الشريعة وقضاءٌ عليها. فهل مِن مَقاصد الشريعة أن ننْسَخ أحكامَها ونعَطِّلها ونتجاوَزَها بِاسْم الفَهْم المَقاصِدِي، أيْ: بِاسْم التقدُّم المُسْتمِر نَحْوَ الأفضل..؟!!
يقول الإمام الشاطِبِي: "إنَّ عامَّة المُبْتَدِعة قائلةٌ بالتَّحْسين والتَّقْبيح العَقْلِيَّينِ، فَهُوَ عُمْدتُهم وقاعدتهم التي يَبْنُون عليها الشرع، فهو المُقَدَّم في نِحَلِهم بحيث لا يَتَّهِمون العقل، وقد يَتَّهِمون الأدِلَّة إنْ لمْ تُوافِقهم في الظاهر حتى يَرُدُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وليس كل ما يَقْضِي به العقل يكون حقاً، بدليل أنَّهم يَرَوْن اليوم مَذْهَباً ويَرْجِعون عنه غداً، وهكذا... ولو كان كل ما يَقْضِي به العقل حقاً، لكان العقل وحْدَه كافِياً للناس في المَعاشِ والمَعاد، ولَكَانَ بَعْثُ الله لِلرُّسُل عَبَثاً وعِبْئاً لا مَعْنَى له، وهذا كله باطل فما أدَّى إليه مِثْلُه " (243) .(1/337)
ثُمَّ إنَّنا إذا نَفَيْنا عن الشريعة كَوْنَها مَنْهجاً- كما يفعل اليَسار- نَصِل إلى إقْرارِ مبدأ "الغاية تُبَرِّر الوسيلة"، أيْ: أنَّ المُهِم هو تحقيق المَقْصِد بأيِّ الوسائل أرَدْنا... إنَّ في الإسلام غاياتٍ، ولكن هناك ضوابط وأخلاقيات ووسائل علمية كبرى تَضْمَن تحقيق هذه المقاصد بطريقةٍ تتَكامَل فيها ولا تَتَعارَض، فالْغايةُ السَّامِية لا نَتَوصَّل إليها بوسائل غيرَ شريفةٍ، وليس مِن باب المَصْلَحَة أنْ نفْعل كلَّ ما نُريد للوُصول إلى غاية. فما عند الله لا يُنالُ بِالمَعاصِي والمُحَرَّمات. وأحياناً تكون الوسائل التي نَسْتَعْمِلها تُؤَدِّي إلى خِلاف الغاية التي قَصَدْناها، فَيُصْبح عملُنا إفْساداً لِمَقاصِدنا. ونحن لم نَقُل أن َّالشريعة حدَدَّت جميع الوسائل التفصيلية، ولكننا قُلنا إنها حددت المَنْهَج في َمبادئه وقواعده، وحددَت الوسائل الكبرى كما حدَّدت بعض الجوانب التفصيلية، وتَرَكَت البَقِيَّة لِتَصَرُّف العقل بالاستقراء والاستنباط، "ذلك أن المُجتهِد ليس مُخْتَرِعاً للأحكام بحسْب عقله حتى يكون مُتَحَرِّرًا مِن مَعانٍ قَبْلِيَّة، وإنما هو باحثٌ عن حُكم شرعي يَرْتَضِيه الله - تعالى-، وهو ما يَقْتَضِي مَوْضُوعِياً أنْ يكون مُتَعَمِّقاً في الشرع، مُسْتوعِباً لِمَقاصِده ووسائله، وأقَلُّ ما يَتِمُّ بِه ذلك الأمْرانِ المُتَقَدِّمان: فَهْمُ المَقاصِد والتَّمَكُن من الاستنباط" (244) .(1/338)
وبين الوسائل والغايات هناك مُرُونةٌ وثَبَاتٌ، تَطَوُّرٌ ومَبْدَئِيَّة، دُون تَحَلُّلٍ وتَمَيُّعٍ وانْهِزامٍ أمام الآخَر. أمَّا أنْ نُحاوِل تَطْوِيع النصوص وإِحْناءَ رأْسِها أمام الواقع فإن ذلك لا يُعَدُّ واقِعيةً، وإنما هو تَكْرِيسٌ للواقع. يقول المفكر الإسلامي سيد قُطْب:"والدِّين لا يُواجِه الواقِع أيَّاً كان لِيُقِرَّه ويبحث له عن سَنَدٍ منه وعن حُكمٍ شرعيٍّ يُعَلِّقُه عليه، كاللاَّفِتَة المُسْتَعارَة، إنما يُواجِه الواقع لِيَزِنَه بِمَيْزانِه، فَيُقِرُّ منه ما يُقِرُ،، ويُلْغِي منه ما يُلْغِي، ويُنْشِئُ واقعاً غيره إن ْكان لا يَرْتَضِيه" (245) . ويتِِمُّ كل ذلك في حُدودِ الانْسجامِ بينَ الوحْيِ والواقع والعقل. وهذا الحديث يَجُرُّنا إلى الحديث عن المَصْلَحة ومَوقِعِها من التشريع .
ج- هل تكون المصلحة أصْلاً مُستقِلاً في التشريع .
ما مِنْ شكٍّ في أنَّ الأحكام الشرعية مُرَاعَى فيها مَصالح العباد كما سبق بَيانه. ولكن هل تكون المصلحة في غير ما شرع الله، وهل يُمكن أن تَسْتَقِل في التشريع ولو خالفَتْ نَصاً شرعياَ ؟
إنَّ المُراد بِالمصْلحة عُموماً جَلْبُ المَنْفَعة ودَفْعُ المَفْسَدة والضَّرَر. ومن أقْسام المصالح "ما يَشْهَد الشرع على اعْتِبار كوْنِه حِكْمةً نَبْنِي عليها الحُكْم كالإِسْكار، فَقَد فُهِمَ من الشرع بِناءُ تَحْريمِ الخَمْر عليه لِمَصلحة حِفْظِ العقل، فَيَحْرُم كلُّ مَطْعُومٍ أو مَشْروبٍ مُسْكِرٍ لِنَفْس المَعْنَي" (246) ومِن الأقسام كذلك: "ما لم يَشْهَد نَصٌّ مُعَيَّنٌ من الشرع باعْتبارِه ولا بِإلْغائِه، ويُسْمَى هذا القِسْم المصلحة المُرْسَلَة أو الاستِصْلاح، وإنما كانت مُرْسلةً لأنها أُطْلِقَت، فَلَمْ يَرِد في نَصِّ الشرع اعتبارُها ولا إلْغاؤُها " (247).(1/339)
وقد اسْتَهْدفَت الشريعة المُحَافَظَة على "الكُلِّيات ِالخَمْس"، وهي: الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والعقل والمال. والمحافظة على هذه الأمور تَتِم بوسائل مُتَدَرِّجة في الأهمية والخُطورة: الضروريات - الحاجِيَّات- التَّحْسِيِنَّات. والمصلحة تشمل هذه الأقسام الثلاثة المذكورة.
وقد ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أنَّ الاحْتِجاجَ بالمصلحة المُرْسَلة التي في رُتْبَة الضَّروريات، حُجَّةٌ وإنْ لم يُعاضِدْها دَليلٌ مُعَيَّنٌ، لأنه بِمَثابَة بِناءِ الأحْكام على مَقاصد الشريعة. كما احْتَجَّ الإمام مالكٌ كذلك بالمصلحة التي في رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وخالَف في ذلك عامَّة أهل َالعِلْم. أمَا المصلحة التي في نَوْع التَّحْسينيَّات والكماليَّات فقد اتَّفَق جُمْهور العلماء على أنَّه لا يَجُوز الاحْتجاجُ بها إلاَّ إذا عاضَدْها دليلٌ من الشرع، إذ لو احْتُجَّ بها لأَدَّى ذلك إلى تَغْيِير الشرائع، خاصةً وأنَّ الناس يَخْتَلِفون في مُيُولهِم وأغْراضهِم، فلا يَجوز الاحْتجاج بمَصالح مُتَعارِضة.(1/340)
* وإذا كان الإسلام قد اعْتَرَفَ بالواقع والعُرْف والمَصالح، فذلك لأنه تشريعٌ واقِعِيٌّ قابلٌ للتطبيق، ولكنه يَخْتَلف عن غيره من التشريعات في كَوْنه حددَ ضوابطَ لهذه المصالح، لأن الكثير من الناس أصبحوا يَتَمَسَّكون بمبدأِ الضرورة، ويُفْتُون لأنْفُسِهم بِإباحَة ما حَرَّم الله مُتَناسِينَ مَعْنَى الضرورة الذي يتَمَثَّل - كما يقول العلماء - في " أنْ تَطْرَأ على الإنسان حالةٌ من الخَطَر أو المَشَقَّة الشديدة بحيث يَخَاف حُدوثَ ضررٍ، أو أَذَىً بالنَّفْس، أو بالعُضْو، أو بالعِرْض، أو بالعقل، أو بالمال، وتَوابعها، ويَتَعيَّن أو يُباح عندئذٍ ارْتكابُ الحرامِ، أو تَرْكُ الواجِبِ أو تأخيره عن وقته، دَفْعاً للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيودِ الشرع " (248) . فليس كلُّ مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الضَّرورة يباح له فِعْله. ومِن هذه الضوابط نذكر بعضها إجمالاً لا تفصيلاً:
- أن تكون الضرورة قائمةً (مُتَحَقَّقةَ الوُقوع) لا مُنْتَظَرَة.
- أن يَتَعيَّن على المُضْطَرِّ مُخالَفَة الأوامِرِ أو النَّواهي الشرعية، أو ألا يكون لِدَفْع الضَّرَر وسيلةٌ أُخْرَى من المُباحات إلاَّ المُخالَفَة، كأَنْ يوجَد في مكانٍ لا يَجِدُ فيه إلاَّ ما يَحْرُمُ تَناوُله.
- الإكْراه إلى حَدٍّ يُخْشَى معَه تَلَفُ النَّفْس أو الأعضاء...
- ألا يُخالِفَ المُضْطرُّ مَبادِئ الشريعة من حِفْظ حُقُوق الآخَرين، وتحقيق العدْل، وأداء الأمانات، ودَفْع الضَّرَر، والحِفاظِ على مبْدأ التَّدَيُّن، فلا تَحِلُّ المَفاسدُ في ذاتها، كالزِّنا والقتْل والكُفْر، لأنَّ ما خالَفَ قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة.
- أنْ يَقْتَصِر فيما يُباح تناوُله ُللضرورة، في رأْيِ جُمْهور العلماء، على الحَدِّ الأدْنَى أو القَدْر اللازِم لِدَفْع الضرر.(1/341)
- أنْ يَصِف المُحَرَّم- في حالة ضرورة الدواء - طبيبٌ عدْلٌ ثِقَةٌ في دينه وعلمه، وألاَّ يوجَد من غير المُحَرَّم عِلاج ٌآخَرَ يقومُ مَقَامَه... (249).
كما أنَّ مُراعاة الإسلام للعُرْف والعادات مَشْروطةٌ هي الأُخْرَى بضوابط. فالعرف في اعتبار الشرع نوعان: صحيحٌ وفاسدٌ. فالعُرف الصحيح: هو ما تَعَارَف عليه الناس دُون أنْ يُحِلَّ حراماً أو يُحَرِّمَ حلالاً، والعرف الفاسد: هو ما تَعَارَفَهُ الناس ولكنَّه يُحِل حرامًا ويُحَرِّم حلالاً. وقد اشترط العلماء في العرف شروطاً لجوازه، أهمها: ألاَّ يُعارِض نَصاً تشريعياً آمِراً بِنَقِيض المُتَعارَف عليه، أو ناهِياً عنه، أو مَمْنوعًا بنَصٍّ خاصٍّ واردٍ فيه..
وبناءً على ما تَقَدَّم، فإنَّ الشرع قصَد إلى مُراعاة مَصالح العباد، فأحَلَّ لهم الطَّيْباتِ وحَرَّم عليهم الخَبائث. ولكنه حدَّد لهذه المصالح ضوابط حتى لا يتَساهَل الناس في الإفْتاء لأنْفُسِهِم بِفِعْل ما يَحْلُو لهم بِدَعْوَى الظروف والضرورة والمصالح... والمُتأمِّل في مُجتمعِنا يُلاحِظ هذه الالْتِباساتِ والشُّبُهات الكثيرة التي يقع فيها الناس بِوَعْيٍ أو بدون وَعْي. وبعض الناس تَشْتَبِه أمامهم السُّبُل والاختيارات، فيَرْتَكبون المُحَرَّمات ويتساهلون في "الإفتاء" لغيرهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون.(1/342)
وأحيانا يكون الفساد مَغْموراً بِصلاحٍ، والصلاحُ مَغموراً بفساد. فأحْكام الإسلام في القِصاص والرَّجْم وقطْع يدِ السارِق قد تَبْدو لِلْبعض هَمَجِيَّةً لا تُناسِب مَصالح البَشَر، أو قد يَعُدُونها امْتِهاناً للكرامة الإنسانية... والتَّعاملُ بالرِّبا قَدْ يُغْرِي البعض بالقيام بِمَشاريعَ إسلاميةٍ... وقد يكون ذلك من الهَوَى أو مِن قُصورٍ في النَظَر والتأمُّل، أو مِن إِرادَةٍ مُتَحَمِّسةٍ لِنُصْرَةِ الإسلام... ولكن هؤلاء مُخْطِئون في نَظْرَتِهم لِلمصالح ِ، فما هو مَصلحةٌ بالنسبة إليهم هو في أغلب الأحيان سبيلٌ إلى فسادٍ أكبرَ منه، فالذين لا يتحَرَّجون من التَّعامُل بالرِّبا يُعَمِّقون هذه المُمَارَسة الاستغلالية ويَزيدون الأوضاع تأزُّماً، والذين يخافون من القِصاص يَجْعلون المُجْرمِين يَسْتَسْهِلون هذه الكبائر، فيكون ذلك سبيلاً مَباشِراً لامْتِهان كرامة الإنسان، ولقد بَيَّنَت التَّجارِب التاريخيةُ القديمةُ والحديثةُ فَعالِية نِظام ِالعُقُوبات ِفي الإسلام... وما يقال في نظام العقوبات يقال كذلك في مجال تنظيم المجتمع والعائلة.(1/343)
والحِكْمَة مِن الحُكم الشرعي قد لا تَتَجَلَّى أمامنا في كل وقت؛ لأنها قد تكون ضِمْنِية غير صريحة، فقد لا نُدرِك بِوُضوحٍ الحِكْمة من بعض الشعائر التَّعَبْدِية، ومن الطريقة التي يُطالِبنا الشرع فيها بأدائها. فلقد أنْبَأَنا الله بِبَعض الحِكَم العامَّة من العِبادات (التَّقْوَى - الانْتهاء عن الفَحْشاء والمُنْكَر..) ولكن عدد ركَعَات الصلاة، أو صيام شهر رمضان، أو بعض مَناسِك الحَجّ.. لم يُفَصّل لنا وجْهَ الحِكْمة في كل جوانبها. وفي المعاملات: سَنَّ الإسلام أحْكاماً وحَرَّم أشياءَ وأحَلَّ أُخْرَى، وسَكَتَ عن أشياءَ رحْمةً بِنا غير نِسْيانٍ. وقد نَقِف على الحِكمة بسَهولة وقد لا نقف؛ فإذا وقَفْنا انتَهَت المُشكِلة، وإذا لم نقف فإنَّ علينا أنْ نعملَ بتلك الأحكام مُعْتَقِدين في حِكْمَة المُشَرِّع. فالمسلمون الأوائل صَدَّقوا بهذه الأحكام وعمِلوا بها "تَعَبُّداً لله"، فامْتَنَعوا عن أكْلِ لحْم الخِنزير لِمُجَرَّد أنْ أنْبأَهُم القرآن بأنه ( رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )، ولم يكونوا عارفين بِمَضارِّه المادِّيةِ. واليوم وقد بدَأَ العِلْمُ يقف على بعض الأضرار الموجودة في لحم الخِنزير، لا نقول إنَّه عَرَفها كلَّها، ولا نستطيع أن نقول إننا اكتشفْنا عِلَّة التَّحْريم، ولا نتَطاوَل فنقول: إنه يُمْكن القضاءُ على بعض الجراثيم ثُم نأكلُ هذا اللحم، لأن العِلة الصريحة والمُجَسّمة لم يَقَع اكتشافها ولذلك فإن الحُكْمَ سيبْقَى قائماً ما دامت السماوات والأرض... وما يقال في هذا المثال يقال في غيره من الأحكام الشرعية، فلا نقول: إن المرأة اليوم أصبحت تعمل خارج البيت، فلا حاجة لنا إذن بالنص القرآني الذي يقول: +فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ"..(1/344)
إنَّ تَصَرُّفا مِثْل هذا يُؤدي مُباشَرةً إلى نَقْض كافَّة أحْكام الشرع، فَضْلاً عن كَوْنِه يَتَضَمَّن مَعْنَىً مُؤَدَّاه أنَّ الله لا يعْلَم مَصالح عباده، وهذا باطل: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (250). وهناك فريقٌ آخَرَ يقِفُ مَوْقِفاً آخَر مِن هذه المسألة، حين يَعْتَبِر أنَّ الأحْكام قابلةٌ للتَّغَيُّر، ويُمكن الاكْتفاءُ ببعض المبادئ التي جاء بها الإسلام. وبالنسبة لهذا الرأي "إنَّ الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشْكال التَّطْبيقية لهذا المبدأ فمَوْكُولَةٌ لِكلِّ عصرٍ على حسْب أوْضاعِه وأعْرافِه وقِيَمه. وبهذا يَسْتَوْعِب القرآن مُتَغَيِّرات العصور، ويَبْقَى كما أرادَ لَه الله صالحاً لكل زمان ومكان" (251).
وهذا الرأي يُريد الدِّفاع عن الإسلام وإبْرازَه في صورةٍ تجْعلُه حسْب ظَنِّ صاحِبِه، مُتلائماً مع كل الظروف. ولكنه يُؤَدي هو الآخَر إلى اخْتزالِ الشريعة في بعض المبادئ، ونقول لِصاحِبِه: إنَّ الشريعة لم تَكْتَفِ بِسَنِّ مَبادئ العقوبات؛ بل سَنَّت كذلك الأحْكام، فلَمْ يكْتَفِ القرآن بمبدأ عُقوبة جَرِيمَة الزِّنا أو السرقة، وإنما حدَّد هذه العُقوبة، ولو كان يُمْكِن الاكْتِفاءُ بالمبادئ لَقُلْنا:إنَّ الإسلام لم يُضِف - تبْعاً لذلك - أشياءَ جديدةً وتشريعاتٍ مميزةً، ويكون بذلك قد اقْتَصر على تأْيِيد بعض العقوبات التي في عصره، فجميع القوانين أو أغلبها تُعاقِب على جريمة السَّرقة والخِيانةِ والزِّنا... وليس المُهِمُّ في المبدأ فقط، وإنما في الشكل كذلك.
إن هذا الرأي بِقَطْع النَّظر عن خلفِيَّاته ,لأننا لا نُناقِش الخَلْفِيات، يؤدي كذلك إلى تأْويل أحكام الشريعة الواضحة تأويلاً يُمَزِّقُها ويُفْسِدُها.(1/345)
لا شك في أن الشريعة جاءت لِترْفَع الحَرَجَ والمَشَقَّة، وقد أدْرك علماء الأمة هذه المعاني فَبَيَّنُوا سَماحة الشريعة، وغيَّر بعضُهم فَتْواهُ بتَغَيُّر الزمان والمكان، يقول ابن القيِّم: "فَصْلٌ في تَغَيُّر الفَتْوَى واختلافِها بحسْب تَغيُّر الأزْمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعَوائد؛هذا فَصْلٌ عظيمٌ جداً، ووَقَع بِسَبَب الجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة أَوْجَبَ مِن الحَرَجِ والمَشقَّة وتكْلِيف ما لا سبِيل إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأْتِي به" (252).
وقد قال الإمام مالك ردَّاً على الخليفة أبي جعفر المنصور عندما طَلب منه تأْليفَ كِتابٍ يَتَوسَّط فيه بينَ رُخَصِ ابنِ عباسٍ وشدائدِ ابنِ عمر، قال: "لا تَفْعَل يا أميرَ المؤمنين، فقَد سَبَقَت إلى الناس أقاوِيل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قومٍ بما سَبَق إليهِم، فَدَعِ الناس وما اختارَ كلُّ قَوْمٍ لأنْفُسِهم" وفي روايةٍ أنه قال: "إنَّ أصْحابَ رسول الله تَفَرَّقوا في الأمْصار، وعِنْدَ كل قومٍ علمٌ، فإنْ حَمَلْتَهم على رأْيٍ واحدٍ تكون فتنة" (253).
وبذلك يَتَبَيَّن أنَّ شريعة الإسلام مُتَوافِقَةٌ مع الإنسان في ثَباتِه وتَطَوُّرِه دُون أنْ تَتَحوَّل إلى "مَرْكوبٍ سهْلِ الامْتِطاء" يَتَطَاولُ عليه كلُّ إنسانٍ ).
( المرجع : " ظاهرة اليسار الإسلامي ، عبدالسلام بسيوني ، ص 145-158) .
الشبهة(9) : تفريقهم بين السنة التشريعية غير التشريعية(1/346)
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (254) ، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب.
وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين:
الأول: التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته.
الثاني: التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء.
ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله.
ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله):(1/347)
"ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110]
1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل.
2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول.
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان.(1/348)
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع..
ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها.
والخلاصة: أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب اتباعه . (255)
ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (256)(1/349)
ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): "إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده". (257) وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (258)
فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟
يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره.
الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة
يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية. (259)
ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده.(1/350)
وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب.
وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه.
أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟
الحجة الثانية: خطط الرسول الحربية.
وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (260)
وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية:(1/351)
1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (261) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة.
2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟
فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة.
ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: "ألقها على بلال"، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: "الله أكبر.. هذا أثبت"، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي. (262)(1/352)
فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي.
ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: "ما أراك إلا قد حرمت عليه"، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (263)
ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (264) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها.
الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل:(1/353)
من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث :
1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن ذلك يغني شيئًا" فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل". رواه مسلم(265)
2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: "ما تصنعون؟" قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا"، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". رواه مسلم (266)
3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". رواه مسلم (267)
4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: "ما هذه الأصوات؟" قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: "لو لم يفعلوا لصلح"، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ". رواه الإمام أحمد. (268)
ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث:(1/354)
" ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (269)
وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء.
من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (270) ، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: "...وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود" . (271)(1/355)
ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: "... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات". (272) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أظن يغني ذلك شيئًا".. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن".
2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: " أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وتضيف رواية أخرى أنه قال: " إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ".
فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟
لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا.
فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: " إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ". وقال لهم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم ".
فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان.
3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان:(1/356)
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط.
والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة.
الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب
يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي:
هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية.
وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟(1/357)
ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي :
1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن.
2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟
3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار.
4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج).
5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا.(1/358)
6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب.
7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ.
وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم.
ويحسن التنويه هنا بأمرين:(1/359)
أولهما : إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (273)
وثانيهما: أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب.
وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: " اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف". ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: " وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: "وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ". (274)
ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة.(1/360)
الحجة الخامسة : تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء :
قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (275) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة . (276)
وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية.
السنة تشريع كلها :(1/361)
والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: "إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب". (177) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق" يعني شفتيه الكريمتين. (278)
أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها.
شريعة الله وشريعة الفقهاء
المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر.
يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول:(1/362)
"إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ". (279)
أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. "وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء ". (280)(1/363)
إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه.
وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (281) : شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259).
الشبهة(10) : تغير الأحكام بتغير الزمان
يقول: الدكتور محمد سليم العوا: (إن أصحاب رسول الله، وهم حملة الشريعة، والقائمون عليها من بعده، غيروا بعض السنن المروية عن الرسول لما تغيرت الظروف لعلمهم أنها صدرت عنه - عليه السلام - ملاحظًا فيها حال الأمة ومقتضيات البيئة زمن التشريع دون أن تكون شرعًا لازمًا عامًا في كل حال. ولولا ذلك ما غيروا، ونحن نعيذهم جميعًا من أن يخالفوا حديث رسول الله، وهم يعلمون أنه دين عام، وتشريع لازم لكل الناس في جميع الحالات، وكيف يتصور أن يقع ذلك منهم، وهم أحرص الناس على اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وترسم خطاه ) (282) .(1/364)
ويقول الدكتور معروف الدواليبي في مقال بعنوان: " النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان ": (لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة التشريع وأخذت به، أما التغيير لحكم لم ينسخ قصة من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين، تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيها درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأمان ") (283)
ويقول الدكتور النويهي: ( إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية، بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام، وعدم التغيير، ولم تكن إلا حلولاً مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل، وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليس بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن الأحوال تستلزمه ) (284).
ومن الأحكام التي وردت النصوص بإثباتها تحديد المواقيت التي يُحْرم منها الحاج والمعتمر، ولكنا نجد من يرى تغيير أو تجاوز هذه المواقيت، بحجة تغير ظروف الزمان والمكان.(1/365)
يقول الشيخ محمد الغزالي: (إن الاجتهاد في بعض الأحكام العبادية ممكن، وقد صرت إلى هذا الرأي بعد ما قرأت رسالة للفقيه المعاصر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود عنوانها "جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية " والعنوان يشير إلى الموضوع، فإن مواقيت الحد حددتها السُنَّة، وقد جد في عالم المواصلات ما لا معنى للتغابي عنه ... يقول الشيخ الجليل: والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح، الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح، في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشكلات العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام .
وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا، ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمون هذا البيت للحج والعمرة لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكون ذلك من مقتضى أصوله ونصوصه)(285)(1/366)
ومن الأمثلة على اجتهاد العقلانيين في أمور ثبت بالدليل حرمتها، وغيروا الحكم فيها "مسألة التصوير لذوات الأرواح " حيث قالوا بجوازها بحجة تغير الزمان، فهذا محمد عمارة يوضح اجتهاده في هذه المسألة مستشهدًا بقول إمامه محمد عبده، ونحن مقدمون على استعراض المأثورات والأحاديث النبوية، التي رويت في هذا الموضوع، هي وجوب الاستحضار والتدبر للمناخ والبيئة والإطار الذي قيلت فيه هذه الأحاديث، وذلك حتى ندرك فيها ومنها المقاصد والعلل والحكم والغايات، فهي قد قيلت للمؤمنين بالله الواحد، كانوا حتى الأمس القريب يعبدون الصور والتماثيل، وهؤلاء المؤمنين كانوا محاطين بعبدة الصور والتماثيل الذين لم يؤمنوا بعد ... وصُنَّاع النسيج والأوثان والأدوات - وهم في الأساس من غير العرب - كانوا يزنون مصنوعاتهم ومنسوجاتهم بصور الآلهة - (الأصنام) - ترويجًا لها في البيئة الوثنية ... ومن هنا كان النهي عن هذه "الصور " نهيًا عن الوثنية ودعوة إلى تنقية المنازل والأندية من صور الأصنام المعبودة في الجاهلية، وسعيًا لاجتثاث جذور المرضى الوثنى، وذلك حتى تبرأ هذه الجماعة البشرية تمامًا من الشرك والتعددية، فتخلص العبودية لله وحده، وترسخ في قلوبها عقيدة التوحيد) (286) .
ويقول: (وإذا كانت الأحكام تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، فإن التحريم للتماثيل والصور سيصبح بداهة مرهونًا ومشروطًا ومعللاً بمظنة اتخاذها أندادًا تشارك الله في الألوهية والتعظيم، فإذا ما انتفى هذا السبب، وزالت هذه المظنة انتفى التحريم، وعادت الإباحة حكمًا للصور والتماثيل، من جديد) (287) .(1/367)
ويستشهد بموقف محمد عبده من التصوير قائلاً: (وفي العصر الحديث: عندما شرعت مدرسة التجديد والإحياء الديني تزيل عن الفكر الإسلامي غبار عصور الجمود والتراجع الحضاري - المملوكية العثمانية - وجدنا واحدًا من أبرز مهندسي ذلك التجديد، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده ... يطرق هذا الباب باجتهاده وتجديده، فيعلن مباركة الإسلام للفنون الجميلة، منبهًا على دور فنون التشكيل - رسمًا ونحتًا وتصويرًا - دورها النافع والضروري في تسجيل الحياة وحفظها، وفي ترقية الأذواق والحواس والاقتراب بالإنسان من صفات الكمال !.. ثم يأتي الأستاذ الإمام إلى القضية الشائكة والخلافية .. قضية الإسلام من هذه الفنون وأصحابها، فيدلي بالقول الفصل في فائدتها - ومن ثم حلها - وذلك لتغير الملابسات والمقاصد التي دعت إلى نفور المسلمين منها في عصر البعثة النبوية، يوم كانت الرسوم والصور والتماثيل إنما تتخذ كي تعبد من دون الله، أو على الأقل كانت مظنة شبهة، لتعظيمها دينيًا، فكان أن نهى عنها الرسول - عليه الصلاة والسلام - ... أما الآن وبعد زوال الخطر بالكلية، وبعد أن لم تعد الرسوم والتماثيل مظنة شبهة العبادة أو التعظيم الديني، وبعد أن وضحت وتأكدت منافعها في ترقية أذواق الأمة، وحفظ حقائق تاريخها وعلومها، فإن رضاء الإسلام ومباركته لها أمر لا شك فيه! .. ) (288) .(1/368)
وذكر أنه قال في مجلة المنار: (ربما تعرض مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذ كان القصد منها ما ذكر، من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، وأوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام؟ أو مكروه؟ أو مندوب؟ أو واجب فأقول: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان... وما ورد من حديث " إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون " (289) . أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو. والثاني: التبرك بتمثال من ترسم صورته من الصالحين. والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات) (290) .
ومن أبرز الأدلة التي يستشهد بها أصحاب هذا الاتجاه على تغيير الأحكام الثابتة بالنصوص تبعًا لتغير الظروف، سهم المؤلفة قلوبهم، ومنع خروج النساء إلى المساجد، وحد السرقة، بالإضافة إلى استدلالهم بكلام ابن القيم عن تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد .
الرد :(1/369)
بعد أن بينا آراء أصحاب هذا الاتجاه في هذه القضية، وذكرنا بعض الأمثلة، ومجمل الأدلة التي يبررون بها ما ذهبوا إليه، أقول: إن ما ثبت حكمه بنصوص القرآن والسنة، فهو حكم دائم وثابت لا يملك أحد تغييره، إلا بتشريع أعلى منه أو مساوٍ له، ينسخ الحكم السابق، وهذا ممتنع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: (ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته " شرعًا لازمًا " إنما لا يمكن تغييره، لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا؛ ولاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال كالرافضة، والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونهم، ولو قدر أن أحدًا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك) (291) .
وإذا قلنا بهذا، فكيف غير الصحابة الحكم في مثل منع إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وقد ثبت حقهم فيها يقول الله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } [التوبة: 60] ، وكذلك منع النساء من الخروج إلى المساجد، وقد ثبت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " (292) ، وعدم قطع عمر يد السارق في عام المجاعة والله تعالى يقول: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38].(1/370)
والجواب أن نقول: ما يتوهمه البعض أن هذا تغيير في الأحكام الشرعية ليس بصحيح فالحكم الثابت عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دائم لا يتغير، وإنما تطبيقه على الوقائع هو الذي يمكن أن يتغير، لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، أو لعدم تحقق المناط كما يقول الأصوليون، وبتطبيق هذه القاعدة على هذه القضايا، التي توهم البعض تغير الحكم فيها يتضح الأمر .
أولاً : منع عمر - رضي الله عنه - إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة :
مَنْع عمر إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ليس إيقافًا للحكم ولا نسخًا له، ولا أحد يملك ذلك بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، (وإن غاية ما يقال أن النص الذي جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم لم يحدد أشخاصًا بأسمائهم، وإنما أعطى أناسًا بوصف معين هم "المؤلفة قلوبهم "، فمناط الإعطاء إذن أنهم من المؤلفة قلوبهم. فإذا توافر هذا المناط أعطوا، وإذا لم يتوافر لهم يُعطوا، ولا يقال في هذه الحالة أن النص عُدِّل أو ألغي إذا وقف، إنما غاية ما يقال أن النص لم يطبق لتخلف مناطه) (293).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا معلقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض الناس ظن أن هذا نسخ، لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التآلف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمن عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك) (294) .(1/371)
ويؤكد هذا المعنى الشاطبي - رحمه الله - في قوله: (واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف في الأحكام، عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه " دائم أبدي "، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد، وكذلك الحكم بعد الدخول، بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في الحكم، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل، فالقول قول بإطلاق، لأنه مدي عليه وهكذا سائر الأمثلة، فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق، والله أعلم) (295) .
ونخلص بعد هذا إلى أن اجتهاد عمر في هذه المسألة ليس فيها معارضة للنص، ولا يجوز لمسلم أن يقول أن عمر أوقف حكم الآية أو ألغاه .
ثانيًا : منع الصحابة النساء من الخروج إلى المساجد :
من الأدلة التي يستدل بها القائلون بتغير الأحكام حسب تغير الظروف، حتى إن كانت ثابتة بالنصوص، ما حدث من الصحابة - رضوان الله عليهم - من منع النساء من الذهاب إلى المساجد، مع ثبوت الإذن لهن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كانت عائشة - رضي الله عنها - ممن قال بالمنع قائلة " لو أدرك رسول الله ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد " (296) .(1/372)
يقول محمد سليم العوا عن الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد: (ولو كان هذا شرعًا دائمًا لما ساغ لعائشة مخالفته، وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة التي ما بعث الله الرسل في أي أمة كانوا إلا لتحقيقها فأينما تبين وجهها فشم شرع الله ودينه) (297) .
ونقول جوابًا على هذا، إن ما حدث من الصحابة ليس إيقافًا للحكم الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما كان المنع لعدم تحقيق المناط، فالشرط أن يخرجن غير متزينات.
ذكر النووي - رحمه الله-: (شروط العلماء في خروج النساء بأن لا تكون متطيبة ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة ولا مختلة بالرجال) (298) .
حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات " (299) ، ومعنى تفلة: أي غير متطيبة .
فتتحقيق المناط يكون (هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم، وإذا تبين هذا سقطت دعوى من يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان) (300) .
وعائشة - رضي الله عنها - في قولها بالمنع يكون استنادًا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها علمت أن الإذن بالخروج منها بأمر معين، وهو أن يكون الخروج لمصلحة، وليس لفتنة أو مفسدة (301) .
ثالثًا : إيقاف عمر لحد السرقة عام المجاعة :
يعتبر العقلانيون إيقاف عمر لحد السرقة الثابت بنص القرآن دليلاً على شرعية تغير الأحكام بتغير الظروف، يقول معروف الدواليبي: (اجتهاد عمر - رضي الله عنه - عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد ... وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملاً بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة) (302) .(1/373)
والجواب أن نقول: الحد الذي أوقفه عمر ليس تغييرًا للحكم الشرعي، وإنما أوقفه لعدم تحقق شروطه (303) ، والتي منها ألا يكون أخذ السارق لسد رمقه يقول ابن حزم: (من سرق من جهد أصابه، فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه) (304) .
ويقول ابن القيم - رحمه الله-: (فإن السنة إذا كانت سَنَة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه - وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء) (305) ، ولو قام عمر بتنفيذ هذا الحد، بدون تحقق شروطه لكان هذا مخالفة شرعية.
( فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السُنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها - كما هو صنيع عمر - لا يقال له أنه خالف الآية) (306)
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/640-648).
الشبهة(11) : موقفهم من الجهاد
يعتبر سيد أحمد خان ومحمد عبده هما أول من أظهر الروح الانهزامية أمام الأعداء المستعمرين، وليت الأمر منهما - على خطورته - وقف عند القول بأن الجهاد دفاع فقط ولكن مما لا تهما للمستعمرين في بلديهما يعبر عن إماتتهما لروح الجهاد، حتى الدفاع منه، ولذلك لم يبق معنى للجهاد إلا للدفاع عن النفس عند سيد أحمد خان الذي (يرى أن الجهاد يشرع فقط للدفاع عن النفس، وفي حالة واحدة فقط هي اعتداء الكافرين على المسلمين من أجل حملهم على تغيير دينهم، أما إذا كان الاعتداء من أجل أمر آخر مثل احتلال الأراضي، فالجهاد غير مشروع ) (307) .(1/374)
ويقرر محمد عبده أن الجهاد دفاعي فيقول: ( فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله، وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطًا لجواز القتال وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا مُنعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل، فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة، لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ويقول: { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين، فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا لأجل الطمع في الكسب .
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام، ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المتنصرة، ومن يظفرون به من المسلمين، وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم، فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعوته وهددوا رسوله، وكذلك كانوا يفعلون، وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن بسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك .(1/375)
وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك أنه يحارب للدين، أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف، ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلامي - حتى من المنتمين إليه - من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينًا إلهيًا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدنية - فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين) (308) .
وعند تفسير قوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }[التوبة: 29]، يقول رشيد رضا: (هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال، كالاعتداء عليكم أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم ... ) (309) .(1/376)
وممن يرجح أن الجهاد شرع للدفاع فقط عبدالوهاب خلاف الذي يقول: (والنظر الصحيح يؤيد أنصار السلم، القائلين بأن الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على المسالمة والأمان، لا على الحرب والقتال، إلا إذا أريدوا بسوء، لفتنتهم عن دينهم أو صدهم عن دعوتهم، فحينئذ يفرض عليهم الجهاد دفعًا للشر، وحماية الدعوة وهذا بين في قوله تعالى في سورة الممتحنة المدنية: { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الممتحنة، 8، 9]، وقوله تعالى في سور النساء المدنية: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء:90]، وقوله في سورة الأنفال المدنية: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } [الأنفال: 61]، وفي كثير من آي الكتاب وأصول الدين ما يعزز هذه الروح السليمة، ويبعد أن يكون الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على الحرب الدائمة، وأن يكون فرض الجهاد وشرع القتال على أنه طريق الدعوة إلى الدين، لأن الله نفى أن يكون إكراه على الدين، وأنكر أن يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وكيف يتكون الإيمان بالإكراه ويصل السيف إلى القلوب. إن طريق الدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وحده هي الحجة لا السيف، ولو أن غير المسلمين كفوا عن فتنتهم، وتركوهم أحرارًا في دعوتهم ما شهر المسلمون سيفًا ولا أقاموا حربًا) (310) .(1/377)
ويختار عبدالخالق النواوي القول بأن الجهاد في الإسلام دفاعي ويقول: (وبهذا الاختيار نكون قد تخلصنا مما يوصم به الإسلام في نظر خصومه، إذ يقولون: إن الإسلام كالبلشفية خطر على المدنية تجب محاربته ... ويستطردون بأن الإسلام ليس دينًا إلهيًا في نظرهم لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء) (311) .
والدكتور محمد أبو زهرة يعتبر ( الأصل هو السلْم، وأن الحرب من إغراء الشيطان ) (312) ويرى أن القتال للدفاع فقط فيقول: (نجد نصوص القرآن كلها تتجه إلى بيان أن القتال المطلوب هو دفع قتال المشركين قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ونجد الآية التي تبيح قتال العرب كافة تنص على أن ذلك في مقابل اعتدائهم كافة على المسلمين قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 36] ) (313).
والشيخ محمد الغزالي يرى أن الجهاد دفاع لا هجوم، ويرد حديث: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة " (314) ، ويحاول أن ينفي ما يثار من أن الإسلام انتشر بالسيف، ومما قال: (.... وما من شك في أن الجهاد حق لتأمين الدعوة وهزيمة الفتانين؟
فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم، فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثًا في كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة ... ، وفي هذا الآونة استخرج البعض حديث: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري .. ".
قلت : والكلام للغزالي - ليت لكم سيفًا يحمي الحق، ويرد عنه العوادي! فإن الحق يغرق وليس له صريخ! ... ما لكم ولهذا الحديث؟ قال لي غلام متعالم: إنه يردّ كل ما تقول...!(1/378)
قلت : سأتجاوز عن ضعف هذا الحديث من ناحية سنده، ولن أطعن في صحته - مع أن الطعن وارد - ولكن اسأل : لماذا لا تتعلمون الدين وتحسنون فقهه والعمل به، ثم تحسنون الدعوة إليه؟ عندما يراكم العالم أدنى مستوى منه فلن يسمع منكم ولن يرتضيكم قادة له، لا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم ... ! ) (315) .
ثم يقول : (... ولم تبدأ سياسة العصا الغليظة إلا بعد أن أوجعت عصى الأعداء جلود المؤمنين، وكسرت عظامهم. هنا نزل قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39] ) (316) .
ومما يوضح موقف الغزالي من الجهاد أيضًا كلامه في كتابه " الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر " إذ يقول: (ومع وضوح المنهج الإسلامي في الدعوة، فإن دخانًا كثيفًا انطلق في جوه، وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك، وإنما نلوم نفرًا من الناس لبس أزياء العلماء. وهم سوقة، وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد لحرب الهجوم وينشر دعوته بالسيف ... ) (317) .
ويحاول أن يرد ما يقال عن أن من الجهاد ما يكون هجومي فيقول: (كيف يصف عاقل اعتراض المسلمين أهل مكة بأنه حرب هجومية، ويسكت بغباء عن أن مكة حظرت الإسلام في أرضها، وطردت أهله واعتقلت بعد ذلك كل من يدخل فيه، هل حرب هؤلاء عدوان؟
وكتب مسكين آخر يقول: إن الحرب عندنا هجومية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون . أي باغتهم دون دعوة ودون انتظار إيمان، ودون إتاحة أية فرصة للنجاة .
وهذا كذب قبيح، وجهل غليظ، فإن الرسول الكريم حارب القوم بعدما أعدوا له وتهيأوا للنيل منه.. وكتب مغفل آخر يزعم أن الحرب ضد هوازن وثقيف كانت هجومية وما فكر في قراءة الجموع التي حشدها زعيم المشركين، والقوى التي دبرها لضرب الإسلام بعد فتح مكة .(1/379)
إن هناك ناسًا يغلب عليهم القصور العقلي، ولكن لديهم جراءة على إرسال الأحكام البلهاء بثقة العباقرة! وقد أصاب الإسلام شر كبير من هؤلاء المنتسبين إليه الجاهلين به وبتاريخه، فقد جروا عليه تهمًا منكرة) (318) .
ويقول أيضًا: (وهناك شبهة ضعيفة ولكن الإجابة عنها مهمة جدًا، فقد ذكر البعض حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " .
وظاهر الحديث أن الإسلام دين هجوم لنشر التوحيد .
ونقول: هذا الظاهر باطل، وسبب الخطأ في فهم الحديث كلمة "الناس " التي وردت فيه، أنها لأول وهلة تغني العالم أجمع، .... والحديث يتناول ناسًا معينين، ونقضوا كل عهد، ورفضوا كل حرية، وكرسوا جهودهم وثرواتهم للقضاء على الإسلام ورجاله..) (319) .
ويقول تحت عنوان " ما يسمونه آية السيف ": (لا يوجد ما يسمى آية السيف! هناك جملة من الآيات في معاملة خصوم الإسلام، وفي مقاتلهم أحيانًا لأسباب لا يختلف المشرعون قديمًا وحديثًا على وجاهتها، وعلى أنها تنافي الحرية الدينية في أرقى المجتمعات) (320) .
ويقول: (سمعت من يحتج بالآية: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فقلت له: ألا تكملها ؟ أليس بعدها: { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فأنى في الآية الدعوة إلى الهجوم، وإعمال السيف في الناس ) (321) .
ويقول أيضًا: (إن الإسلام لم يحارب الكفر لأنه كفر، بل لأنه ضم إلى عجوه الفكري جملة من الآفات الأخلاقية، والمسالك العدوانية لا يجوز قبولها، ولا يصبر حرُّ عليها!) (322) .(1/380)
وبعد أن يورد الغزالي الآية: { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [التوبة: 13]، يقول: ( في أي لفظ من هذه الألفاظ تشم رائحة الهجوم والتعديّ ؟
إنها استثارة للدفاع وحسب! وعندما يأمر بالقتال يذكّر بمآسيهم السابقة وما تركوه في القلوب من جراحات ... قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 14، 15].
ممن يكون شفاء الصدور وذهاب الغيظ؟ لا شك أن هؤلاء الناس تركوا في نفوس المؤمنين جراحات لا تندمل، غرّبوهم، وقتلوا أحبتهم، وضنّوا عليهم بكل حق، وظلوا على هذه الحال ثنتين وعشرين سنة يتربصون بالمسلمين، ويقلبون لهم الأمور ... أعطيناهم حق الحياة بكفرهم، وأبوا أن نعيش بإيماننا! قلنا لهم: لكن دينكم ولنا ديننا فقالوا: ليس لكم إلا الموت.
أولئك هم الذين برئت منهم ذمة الله ورسوله، وأولئك الذين نزل فيهم: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] ، بأي عقل يأتي مفسِّر فيقول: المقصود بهذه الآية كل كافر على وجه الأرضَ أساء أم أحسن! وفّى أم غدر! ظلم أو أنصف! ثم يطلق على هذه الآية المحددة: آية السيف! ويلغي بها مائة آية في العرض الهادئ والجدال الحسن والوعظ البليغ!! ثم تظهر في عصرنا الأسود طوائف من الشباب الأغرار تحمل العصي، وتزعم أن الإسلام دين هجوم، وتريد أن تقاتل روّاد الفضاء) (323) .(1/381)
ويجيب حسن الترابي في ندوة تلفزيونية عن النصوص التي تحث على الجهاد وترغب فيه ومنها قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم " (324) .
ويقول في الجواب : ( القول بأن القتال حكم ماض، هذا قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث في الواقع الحديث، ولا أقول إن الحكم قد تغير، ولكن أقول: إن الواقع قد تغير، هذا الحكم عندما ساد كان في واقع معين، وكان العالم كله قائمًا على علاقات العدوان، لا يعرف المسالمة، ولا الموادعة، كانت امبراطوريات، إما أن تعدو عليها، أو تعدو عليك) . (325)
ويطيل فهمي هويدي الحديث في محاولة تبرئة الإسلام من القول بأن الجهاد فيه جهاد طلب وابتداء، ويستدل بعدد من الآيات التي تدعو إلى السلم من مثل قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [البقرة: 208] وقوله جل وعلا: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } [الأنفال: 61]، وقوله: { وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ... الخ ويقول بعد ذلك: (... ويتفق مع هذا السياق قول الله سبحانه وتعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ }[البقرة: 216] ، أي أنه أمر تفرضه عليكم عداوات الآخرين وظلمهم لكم، عليكم أن تقبلوه مضطرين)(326) .(1/382)
فهو يرى أن الجهاد دفاع فقط، والإسلام لا يعتمد القتال وسيلة للتبليغ، ولا يكون إلا لأمر اضطراري، يقول: (ومنذ البداية، سلح الله المسلمين بالكلمة، وكان أول ما أنزل الله على نبيه هو: "اقرأ - وليس اضرب " أو "ابطش "، وكان كتاب المسلمين هو القرآن الكريم، ولم يكن سلاح المسلمين سيفًا ولا سوطًا، ولم تكن شريعتهم قانون حرب، والأمر كذلك فإن القتال في التصور الإسلامي ينبغي أن يظل منعطفًا يكره إلى المسلمون أو نوعًا من "الهبوط الاضطراري " الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامية) (327) .
وعند حديثه عن الحرب المشروعة إسلاميًا يقول: ( يرى الشيخ رشيد رضا أن الحرب الإسلامية تحكمها عدة قواعد :
القاعدة الأولى: أن الأمر بالقتال ورد في سياق الرد على عدوان المعتدين درءًا للمفاسد وتوطيدًا لمصالح المسلمين، وأن هذا الأمر جاء مقترنًا بالنهي عن قتال الاعتداء والبغي والظلم، وهو ما يشهد عليه قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190].
القاعدة الثانية: أن تكون الغاية الإيجابية من القتال بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، هي حماية الأديان كلها من الاضطهاد فيها أو الإكراه عليها، وعبادة المسلمين لله وحده، وإعلاء كلمته وتأمين دعوته وتنفيذ شريعته ) (328) .
وبعد ذلك يحاول أن يعلل قيام الغزوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وحروب الإسلام الأولى، ويقول بأن أعداء الإسلام هم الذين أشعلوا نارها، وأطاروا شرارها، وما كان من المسلمين إلا أنهم قبلوا التحدي، وردوا التعدي. وكان تتابع الفتوح بحكم الضرورات الحربية وحدها، وما كان جهاد المسلمين إلا ليؤمنوا دولتهم (329) .(1/383)
ويحاول فهمي هويدي أن يرد دلالة الأحاديث الصريحة في الأمر بالجهاد، فبعد أن يورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ... "، يقول: (وحقيقة الأمر أن المعنى بالناس هنا ليس كل البشر، وإنما هم جماعة من البشر) (330) .
أما عن حديث: " ٍبعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري " فيشكك أولاً في صحته، ثم يقول: وفي شرح معاصر للحديث أنه يعني: أن سيف الإسلام حاضر للقتال في سبيل الله، كلما دُعي إلى ذلك، وأن مصير الشرك والوثنية هو الهزيمة والامتثال لأحكام الله وتعاليمه. وأن الشق الأخير المتعلق بالغنائم خاص برسول الله الذي أبيح له أن يأخذ نصيبًا منها، وهذا الحديث يفهم خطأ إذا عزل عن الموقف الإسلامي الأصيل من قضية الحرب والسلم، الذي تحدده نصوص القرآن الكريم بالدرجة الأولى، وهي النصوص القاطعة في منع العدوان وإشاعة السلام، وفي كل الأحوال، فينبغي أن يوضح في إطار الإعلان عن القوة التي تحمي الحق، وتصد عنه كل عدوان .
والمنطلق الذي ينبغي أن نقرأ به هذا الحديث النبوي، هو ذاته الذي ينبغي أن نفهم به عبارة السيد المسيح في الإصحاح العاشر من إنجيل متى: " ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا " إذ لا يمكن أن يزعم زاعم أنها دعوة لقتال العالم، ومخاطبته بالسيف، وهو ما تقطع بكذبه التعاليم الأساسية للديانة المسيحية. وإنما يقضي الإنصاف أن نستقبل هذه العبارة باعتبارها تلويحًا من جانبه بأن القتال في سبيل الدفاع عن العقيدة يظل واردًا إذا لزم الأمر) (331) .(1/384)
ويرى محمد عمارة أن الجهاد في الإسلام دفاعي، وهو سبيل يلجأ إليه المسلمون عند الضرورة، أما القول بأن المسلمين مطالبون بقتال مخالفيهم في الدين حتى يؤمنوا بالإسلام فيرى أنها شبهة أصبحت عالقة بسماء الفكر في عالم الإسلام يجب تبديدها، وتبرئة الفكر منها.
ويستدل بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ويعلق بقوله: ( فالمطلوب هنا ليس قتال المخالفين لنا في الدين، وإنما قتال " الذين يقاتلوننا " من بين هؤلاء "المخالفين " فحكمة القتال وسبب هما "قتال " هؤلاء المخالفين لنا، و "عدوانهم " علينا، وليس مجرد "الخلاف لنا في الدين "! ذلك أن الإسلام لا ينهى، فقط عن مقاتلة المخالفين لمجرد الاختلاف الديني معهم، بل إنه يدعو إلى مودتهم والقسط إليهم طالما لم يقاتلونا في الدين! فإن هم قاتلونا، واعتدوا علينا، وانتهكوا الحرمات، وجب علينا قاتلهم) (332) .
ويرى دلالة الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. الحديث " بقوله: (أما هذا الحديث، والذي يبدوا للعامة وأنصاف المثقفين ثقافة إسلامية، من ظاهر ألفاظه، أنه يدعو إلى مقاتلة المخالفين في الدين، حتى يثوبوا إلى عقيدة التوحيد.. فإن الفقه الحق لمعناه يتطلب ما هو أكثر من النظر العابر لظاهر الألفاظ !
فالمراد " بالناس " الذي أمر الرسول بقتالهم: " المشركون " من العرب أولئك الذين كانوا يمنعون، بالفتنة والعدوان، دعوة الإسلام من أن تتخذ لنفسها القاعة الآمنة التي ينطلق منها الدعاة) (333) .(1/385)
والقاعدة عنده تتبين من قوله: ( فالذين يكفون الأيدي عن قتالنا ويلقون حبال السلام إلى عالم الإسلام وأهله، لا سبيل لنا عليهم، أما "المنافقون " الذين لا يكفون أيديهم عن قتال المسلمين، فإن " السلطان " الذي قرر الله لنا عليهم يدعونا إلى قتالهم، ردًا للعدوان، وتأمينًا لعالم الإسلام وحريات المسلمين ... " فالعدوان " أو " المسالمة " هو المعيار، ليس " النفاق " ولا الخلاف في الدين) (334) .
وفي ختام كلامه يقول: ( والقتال في الإسلام سبيل يلجأ إليها المسلمون عند الضرورة.. ضرورة حماية الدعوة، وتأمين الحرية للدعاة، وضمان الأمن لدار الإسلام وأوطان المسلمين. سان كان ذلك القتال "دفاعيًا تمامًا " أو "مبادأة " يجهض بها المسلمون عدوانًا أكيدًا أو محتملاً ... فهو في كل الحالات ضد للعدوان.. أما إذا جنح المخالفون إلى السلم، وانفتحت السبل أمام دعوة الإسلام ودعائه، وتحقق الأمن لدار الإسلام فلا ضرورة للحرب عندئذ، ولا مجال للحديث عن القتال، باسم "الدنيا " كان ذلك الحديث أو باسم " الدين ") (335) .
الرد :
من هذا العرض لأقوال هؤلاء المفكرين عن الجهاد، يتبين موقفهم الانهزامي أمام شبه أعداء الإسلام، القائلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه دين العنف والإرهاب، فأراد هؤلاء المفكرون أن ينفوا مثل هذه الشبه، ويدافعوا عن سمعة الإسلام، فوقعوا في المصيدة التي نصبها لهم الأعداء، وقالوا أن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا للدفاع، وأن معارك الإسلام جميعها لم تتخط هذه الغاية، وبذلك حصروا الحكم في أن الجهاد لا يكون مشروعًا إلا للدفاع عن المسلمين، والأرض الإسلامية، وأبطلوا الحكم الشرعي الثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، من أن من الجهاد ما هو جهاد طلب وابتداء، وهو أن يُطلب الكفار في عقر دارهم، ويقاتلون إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام .
وهذا الحكم الذي قال به هؤلاء المفكرون، يتبين بطلانه بأمور منها :(1/386)
1 - إن النصوص التي استدلوا بها على أن الجهاد دفاعي فقط، من مثل قوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }[البقرة: 190]، وقوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]، وقوله تعالى: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90].
أقول أن استدلالهم بهذه الأدلة استدلال في غير محله، ولا يختلف عن من استدل بقوله تعالى للمؤمنين في مكة : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [النساء: 77]، على حرمة القتال في كل زمان، وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين. لأن هذه الآيات التي استدلوا بها نزلت في المرحلة الثالثة من المراحل التي شرع فيها القتال (336) ، وفيها فرض قتال من قاتل المسلمين فقط. ثم تلا ذلك النصوص التي وضعت الأحكام النهائية في المرحلة الرابعة والأخيرة، وفيها فرض الجهاد لمقاتلة المشركين كافة، وأن يقاتلوا أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة، ومن أدلتها قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 5].(1/387)
يقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله-: (إن قتال الكفار على العموم واجب بالنصوص القطعية من وحي الله كتابًا وسنة، وهذا القتال واجب للهجوم لا للدفاع. كما تصوره بعض المنهزمين هزيمة عقلية، باسم الدفاع عن تشويه سمعة الإسلام والذين اشتبهت عليهم معاني النصوص التي يفيد بعضها الخصوص فأعمتهم هزيمتهم العقلية أو الهوى عن النظر في العمومات الصارفة الناسخة لما قبلها، لكونها عامة ومتأخرة، قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 123]، وقال: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 5]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ". وغير ذلك من النصوص الواضحة التي لا نطيل بها المقام ولكن المهزومين وأصحاب الهوى يضربون صفحًا عن هذه النصوص القاطعة العامة، الناسخة لما قبلها لتأخرها في النزول، ويتمسكون فقط بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، كما يأخذون التعليل بآية الإذن في الجهاد، غافلين أو متغافلين أن مشروعية القتال جاءت في القرآن على مراحل) (337) .(1/388)
ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - رادًا على من استدل ببعض الآيات على أن الجهاد للدفاع فقط: (... وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث: الأولى قوله جل وعلا: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، والجواب عن ذلك أن هذه الآلية ليس معناها القتال للدفاع، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال: كالرجل المكلف القوي، وترك من ليس شأنه القتال: كالمرأة والصبي ونحو ذلك، ولهذا قال بعدها: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } [البقرة: 193]، فاتضح بطلان هذا القول، ثم لو صح ما قالوا، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله .
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع هي قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وهذه لا حجة فيها، لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية، هذا هو أحد القولين في معناها.(1/389)
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف، ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب، كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف، فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من الحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجميع وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا. فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى. والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط قوله تعالى في سورة النساء: { فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90]، قالوا من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله. وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة. ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين، فإذا قووا أمروا بالقتال، كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ، وبهذا يعلم بطلان هذا القول، وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ... ) (338).
2 - القول بأن الجهاد دفاعي فقط، دعوى تدل على الجهل بطبيعة الشر وأهله، فقد أخبر الله وهو أعلم بخلقه بنوايا المشركين تجاه المسلمين، في مثل قوله: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } [البقرة: 217]، وقوله تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120]، وقوله: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء: 102] .(1/390)
وإذا كانت هذه نوايا أهل الكفر تجاه المسلمين، " فكيف يجوز أن يدعى بأن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا عندما يهجم أعداء الإسلام على دار الإسلام، أو على المسلمين، مع أن الله أخبرنا أنهم فاعلون ذلك إن عاجلاً أو آجلاً، وأنهم لا يسالمون إلا وفي نيتهم منازلة المسلمين عندما تتاح لهم الفرص والظروف؛ يؤيد هذا ما أخبر به عز وجل من أن المشركين لا عهد لهم ولا أيمان، فقال سبحانه: + كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ " ، إلى قوله تعالى: { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [التوبة: 7-12] ) (339) .
يقول سيد قطب - رحمه الله -: " ... إن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولابد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولابد أن يدافع الباطل عن نفسه، بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة، هذه جبلة ولبست ملابسة وقتية، هذه فطرة وليست حالة طارئة، ومن ثم لابد من الجهاد، لابد منه في كل صورة، ولابد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود، ولابد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولابد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة، وإلا كان الأمر انتحارًا أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين) (340) .(1/391)
3 - ومما يرد به على من زعم أن الجهاد دفاعي فقط أن يقال هذه الدعوى تناقض الواقع الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وواقع الخلفاء الراشدين، فما كان صلى الله عليه وسلم يقنع بفرع راية الإسلام على بقعة من الأرض فقط، ولو صح ما يدعيه هؤلاء المفكرون لاكتفى صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، وتأديب كفار قريش، ولما كانت الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء حتى عمت دعوة التوحيد ودولة الإسلام أقطار شتى .
والذي يتدبر الحوار الذي دار بين مجاهدي الإسلام من جهة، وبين كسرى ورستم من جهة أخرى أثناء الفتوحات الإسلامية، لا يجد في كلام المجاهدين ما يشير إلى أنهم جاءوا ليدافعوا عن أنفسهم وأراضيهم، أو يؤدبوا قومًا اعتدوا عليهم ثم يرجعوا عنهم، وإنما يجد في كلامهم ما يدل على سمو رسالتهم، ونبل أهدافهم التي عبروا عنها بقولهم (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ... فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر) (341) .
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/711-726).
الشبهة(12) : الفتوى والتغير بسبب العصر
قال الدكتور هزاع الحوالي : تحت مبحث (مزالق المتصدين للفتوى في عصرنا) : أورد الدكتور يوسف القرضاوي مجموعةً من تلك المزالق، ذكر منها : " الجمود على الفَتاوَى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة ".
ويعني بها الجمود على ما سُطِّر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوَى القديمة، والإفتاء بها دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعُرف والحال، وهي أمورٌ تتطور وتتغير..
ثم استعرض مجموعةً من الأمثلة على ذلك كالإصرار على ثُبوت الهلال بالعين المجردة، وعدم قبول شهادة من يحلق ذقنه...الخ(1/392)
وأكد على ضرورة ملاحظة المفْتِي في فتواه الظروف الشخصية للمُسْتَفْتِي- نفسية أو اجتماعية - والظروف العامة للعصر والبيئة.
وكغيره من المقررين لقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان يستشهد بما ذكره ابن القيم في هذه المسألة - وستأتي في المناقشة- مشيراً إلى أن كلمات ابن القيم في تغير الأحكام بتغير الأزمنة... قد أصبحت مناراً يَهْتَدِي به السائرون ، ويُنَوِّه به المصلحون المعاصرون، وكل من حاول الإسهام في تجديد الفقه الإسلامي ، وإحياء العمل بالشريعة الإسلامية.
وكذلك يستشهد بما أورده القرافي في كتابه الإحكام ، إذ يقول :"إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد" (342) .
استشهد الدكتور القرضاوي بالنص المتقدم- مع اختلاف بعض الكلمات عن المصدر- ولاحظ فيه أن الأحكام التي تتغير هي تلك الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا النصوص المحكمات.
ومع أن النص السابق قيد الأحكام المتغيرة بالمُسْتَنِدَةِ للعوائد والأعراف فقط، دون النصوص ، إلا أن القرضاوي لم يُخْرِج سِوَى النصوص المحكمات، والتي يُفَسِّرها بالقطعيات، (343) مما يُفْهَمُ منه إدخال النصوص ظنية الدلالة تحت المتغير عند القرضاوي.(1/393)
وبعد إيراده لنص القرافي المتقَدِّم، وإيرادِهِ لتلك الملاحظة عليه، استشهد بنصٍ آخر يُفْهُم منه شُمول التغيير لمجال أوسع من الأحكام، هذا النص هو قول القرافي :"فمهما تجدد من العرف اعْتَبِرْه، ومهما سقط أسْقِطْه، ولا تَجْمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عُرْفِ بلدك، واسأله عن عُرْف بلده، وأجْرِهِ عليه، وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك، والمُقَرَّرِ في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين، وجَهْلٌ بمقاصدِ علماء المسلمين والسلف الماضين" (444) لِيَسْتَنْتِجَ القرضاوِيُّ من هذا النص أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان (445) .
وليست هذه الملاحظة هي المقصودة، إذ المقصود هو تغير الأحكام بناءً عليها، فهو يَخْتَتِم النُّقُولاتِ التي أوردها بقوله:"وهذا ما جعل كثيراً من أهل العلم يقرون أشياء كانوا يُنْكِرونها- أو أكثرهم- منذ سنواتٍ غير بعيدة، نزولاًعلى حُكْم الضرورة ، واستجابةً لنداءِ الواقع، وتطبيقاً لرُوح الشريعة، التي أراد الله بها اليُسْر، ولم يُرِدْ بها العُسْر (446) .
وفي ذكره لأسباب المرونة في الشريعة الإسلامية يذكر من ذلك :
تقرير مبدأ تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف.
ويرى أنه مبدأ تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الصحابة. واستدل على ذلك بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المؤلفة قلوبهم، وقسمة الأراضي المفتوحة ، وطلاق الثلاث وغيرها (447) .(1/394)
وفي السياق نفسه يتحدث الدكتور عبد المجيد النجار عن تغير الأحكام بتغير الزمان، نتيجة للأوضاع الواقعية التي تُرَجِّح ذلك التغير، ويَسْتدِل- أيضاً- بما ورد عن ابن القيم من قوله في طلاق الثلاث : "... فلما تغير الزمان ، وبعد العهد بالسُّنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل، ونفَقَت في الناس ، فالواجب أن يُرَدَّ الأمرُ إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، من الإفتاء بما يُعَطِّل سوقَ التحليل، أو يُقَلِّلْها، ويُخَفِّفُ شَرها، وإذا عُرِضَ على من وَفَّقَهُ الله، وبَصَّرَه بالهُدَى ، وَوَفَّقَه في دِينِهِ، مسألةُ كَونِ الثلاثِ واحدةً ، ومسألةُ التحليل ، ووَازَنَ بينهما ، تَبَيَّنَ له التَّفاوُت ، وعَلِمَ أي المسألتين أَوْلى بالدِّين ، وأصلح للمسلمين " (448)
والدكتور عبد المجيد النجار يحدد تَدخُّل الواقع فيما كان مظنونا من الأدلة ليختار من احتمالها ما يحقق المصلحة في ظرف واقعي معين. (449)
المناقشة :
القول بأن الأحكام تتغير بتغير الأزمنة والأحوال والمصالح والعادات قولٌ يُرَدِّدُه أكثرُ المهتمين بالتجديد الفِقْهِيّ أو الأُصوليّ، مؤكدِين استناد هذه القاعدة للتاريخ الفقهي في عصر الصحابة والتابعين ومَن تَبِعَهُم ، بل في عصره صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم.
فأما تغير الأحكام في عصره صلى الله عليه وسلم فلا حُجَّة لهم فيه البتَّة، إذ تشريعه صلى الله عليه وسلم للأحكام تبليغٌ عن الله عز وجل مراده، ولله عز وجل نَسْخُ ما يشاء وإثباته. فكيف يجرؤ شخصٌ على ادِّعاءِ الإقتداء بالمصطفي صلى الله عليه وسلم في نسخ الأحكام وتبديلها!! أفلا يَلْزَمُ من ذلك القول بالتشريع ابتداء أُسْوةً بِِه صلى الله عليه وسلم في ذلك؟!(1/395)
وأما القول بأن فِقْه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض القضايا يُمَثِّل مُسْتَنَداً للقول بتغير الأحكام بناءً على تغير المصالح فهو قولٌ مردودٌ بما أوردناه في مناقشة العقلانيين. وخلاصته أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يُبَدِّل حُكْماً، وليس له ذلك وإنما حرص - رضي الله عنه - على تحقيق مناط الحكم في كل قضية نُسِبَ إليه التغيير فيها ، فحيث تحقق مناط الحكم تحقق الحكم ، وحيث رأي تخلف المناط قال بتخلف الحكم، وهو المنهج الشرعي الذي تؤيده الأدلة الشرعية ، وتؤكده قواعد الشرعية وكلياتها.
وأما ما ذكروه من إيراد ابن القيم - رحمه الله- لفصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ، فصحيحٌ وواقعٌ. بَيْدَ أنَّ العلاَّمة ابن القيم رحمه الله - كما هو حال بقية السلف- لم يَعْمَد إلى تغيير حكمٍ شرعيٍ تحقق مناطه البتَّة، وأن كل اجتهاد لُوحِظَ فيه تغييرٌ لحكمٍ شرعيٍ إنما كان - في الحقيقة- اتِّباعٌ للشرع، وتحقيق لمناطات أحكامه. (450)
وقد تَتَبَّع بعض الباحثين الأمثلة التي أوردها ابن القيم في الفصل المشار إليه، وصرح بأنه لم يَرِدْ مثالٌ واحدٌ فيها قُدِّمَت فيه مصلحةٌ على نص. (351)
فكل حكم تغير كان إما نصاً بنص ، أو مصلحة بمصلحة راجحةٍ، أو إلحاقُ حكمٍ اجتهاديٍ بأصلٍ مَنصوصٍ عليه. (352)
ثم يُقال لهم : هل المقصود من تغيير الحكام بتغير الزمان والأحوال ... أن الحادثة التي تَغَيَّر حُكْمُها هي هي عند تغير حكمها بجميع خصائصها وحيثياتها، أم أنه طرأ عليها اختلافٌ في بعض الخصائص والحيثيات؟
فإن كان الجواب بالأول فهو باطلٌ ؛ إذ ذلك نَسْخٌ للحكم، ولا نسخ بعد عصر الرسالة.(1/396)
وإن كان الجواب بالثاني فمقبولٌ ؛ إذ أنهما حادثتان لا حادثة واحدة، وكل حادثة لها حكمها المستَقِلُّ عن حكم الأخرى، ومثال ذلك حكم المُؤَلَّفة قلوبُهم، وهم نَفَرٌ من الناس لم يستقِرّ الإيمان في قلوبهم ، جعلت لهم الشريعة حقًا في مال الصدقة، يتألفهم به الإمام ، للثبات على الإسلام، فيُسْلِم مَن وَرائِهم ويَسْلَم المسلمون من شرهم ، وهذا المعني لا يُخْشَى إلا في حالة ضعف الإسلام، وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم.
فالنص يوجب إعطاء المؤلفة قلوبهم لهذا المعنى.
وفي حالة تطبيق النص يجد الإمام أمامه حالتين:
الأولى : حالة ضعف الإسلام ، وقوم يحتاجون لهذا التأليف.
الثانية : حالة قوة الإسلام ، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم. فيطبق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم ، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم ، لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا هو تحقيق المناط (353) .
وعند تحليل كلام الدكتور القرضاوي- المتقدم- نجد إشادة بما أشار إليه ابن القيم من تغير الفتوى...، ووصف ذلك بالمنار الذي يهتدي به السائرون، وينوه به المصلحون والمجددون... دون توضيح لمقصد ابن القيم من التغيير، وبيان محل التغيير وحدوده وكيفيته ، وهل يشمل الأحكام المنصوص عليها أم لا يكون إلا فيما لم يُنَصُّ عليه؟ كل ذلك لم يذْكُرْه، وإنما ذكر أهمية القول بمثل هذه القاعدة التي تفتح الطريق ، وتنير السبيل!!
وعندما استشهد بكلام القرافي المنقول من كتابه " الإحكام " لاحظ تقييد القرافي بأن التغيير إنما يكون في الأحكام التي مَدْرَكُها العوائد والأعراف ، لا النصوص المُحْكَمَات . في حين يفهم من كلام القرافي إخراج كل الأحكام التي مدركها النصوص قاطعة كانت أو مظنونة.(1/397)
وقد تكون هذه الملاحظة تنبيهًا من القرضاوي على ضرورة إخراج النصوص المحكمات عن قاعدة التغيير والتبديل ، إلا أن إيراده لنصٍ آخر لم يرد فيه هذا القيد، بعد الملاحظة مباشرة، يُوهِم أنه يتبَنَّاه ، خاصةً بعد أن أورد القانون الواجب على أهل الفقه مراعاته، وهو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان لتتغير الأحكام عند ذلك، نزولاً على حكم الضرورة واستجابةً لنداءِ الواقع ، وتطبيقاً لرُوح ِالشريعة.
ونحن نعرف أحكام الضرورات، أما الاستجابة لنداء الواقع، وتطبيق روح الشريعة فما إِِِخَالُ مُنْصِفاً يُخالِفُنِي في ضرورةِ تحديدِ المقصودِ بالاستجابة، وتفسير نداء الواقع، وضبط الواقع ذاته، وقِسْ على هذا القول بتطبيق روح الشريعة.
أما قولُ الدكتور عبد المجيد النجار بالموازنة بين احتمالات الدليل (الظني الدلالة) ليُطَبَّق من الاحتمالات ما يحقق المصلحة في ظرفٍ واقعيٍ معينٍ..
فهو قول المحققين وأئمة السلف . والمهم أن تكون المصلحة المرعية منضبطةً بضوابط الشرع- كما تقدمت الإشارةُ إليها أكثر من مرة- فتحقق المصلحة الشرعية المنضبطة بضوابط الشرع ترجيحٌ لذلك الاحتمال على غيره من الاحتمالات.
وأخيراً فإن القاعدة المشهورة "لا يُنكر تغَيُّر الأحكامِ بتَغَيُّر الزمان" ليست قاعدةٌ مُسْتَمَدَةً من أقوال السلف، فهي قاعدةٌ قرَّرَتْهَا مَجَلَّة الأحكام العدلية، (354) وقد وضعها الفقهاء للأحكام التي لا تستند مباشرةً على نص شرعي، بل مصدرها عُرْفٌ أو مصلحةٌ سَكَتََتْ عنها النصوص.(1/398)
يقول الشيخ مصطفي الزرقا : " مِن المُقَرَّرِ في فِقْه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية وعلى هذا الأساس أُسِّسَتْ القاعدةُ الفقهية القائلةُ "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان" وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية ، وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذكر ، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال " . (355)
وإن كنا نتفق مع الشيخ مصطفي الزرقا في كون القاعدة إنما تتناول الحكام الاجتهادية ، فإننا نختلف معه في مفهوم التبديل والتغيير، فقد أوردنا سابقاً أن التغيير في الحكم لا يمكن أن يقع على صورة واحدة لم تتغير، أما إذا تغيرت الصورة فمن الطبيعي تغير حكمها، إذ أصبح لدينا صورة جديدة تأخذ حكماً آخر.
ونحن نعلم أن المصالح التي لم ينص عليها الشارع ، وكذلك الأعراف والعادات التي لم ينشئها الشارع، كل ذلك يمكن أن يتغير من المصلحة إلى المفسدة، فيأخذ حكماً غير حكمه الأول، لأن الصورة الجديدة ليست تلك الصورة الأولي فتأخذ كل صورة حكمها المناسب لها.
فلماذا الإصرار على أن الحكم قد تغير ، بدلاً من القول أن هناك صورة جديدة تتطلب حكماً جديداً؟
وقد يرى البعض أن الخلاف لفظيٌّ. وهو ليس كذلك . إذ القول بثبوت أحكامٍ شرعيةٍ لكل صورةٍ جديدةٍ دليلٌ على شمول الشريعة واستيعابها لكل المستجدات.
أما القول بتغير الأحكام- مع أنه عند التحقيق ليس تغييراً- فإنه يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع، والجرأة على تبديل وتأويل ما تقرر من أحكام ، وتَنْصِيب الواقع- بأعرافه وعاداته ومصالحه- حاكماً على شرع الله.(1/399)
( المرجع : محاولات التجديد في أصول الفقه ، للدكتور هزاع الحوالي ، ص 605-613).
الشبهة(13) : قولهم : السُّنَّة منها ما هو عملي ومنها ما هو قولي
قال الدكتور هزاع الحوالي :( أشَرْنا في مَبحثٍ سابقٍ إلى أن السُّنَّة منها ما هو عملي , ومنها ما هو قولي. وتَحَدَّثْنا عن أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لَدَى جُمهورِ الأصوليين، (356) مع توضيح ما يتعلق به منها تشريع وغيره.
وقد ذهب بعض الأصوليين إلى تقسيم السُنَّة من جهة وجوب العمل بها ، إلى قسمين:
الأول : ما يجب العمل بِمَدلوله مُطْلَقاً ، وهذا أغلبُ سنته صلى الله عليه وسلم .
الثاني : ما يُلْتَزَم فيه بِخُطته ومبدئه صلى الله عليه وسلم في تَحَرِّي حُكم الله فيما لا شاهد قطعاً فيه، وذلك بتحري الوسائل والأسباب الحكيمة. (357) وهو قولٌ مستندٌ إلى ما أورده القُرافيُّ من التفريق بين مَنْصِبَي الإمامة والفتوى، بقوله إن للإمام أن يقضي وأن يفتي- كما تقدم - وله أن يفعل ما ليس بفُتْيا ولا قضاء كجمع الجيوش وإنشاء الحروب وحَوْز الأموال وصرفها في مصارفها ، وتولية الولاة، وقتل الطغاة؛ وهي أمورٌ كثيرةٌ تختص به، لا يشاركه فيها القاضي، ولا المفتي... وظهر حينئذٍ أن القضاء يَعْتمد الحِجاج، والفُتيا تَعْتمد الأدلة، وأن تَصَرُّف الإمام الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجِحة أو الخاصة في حق الأمة. (358)(1/400)
ثم وضَّح ذلك بم أورده في مسائلَ لاحقة إذ يقول: "إنَّ تَصَرُّفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالفُتيا هو إخْبارُه عن الله تعالى بما يَجِدُه في الأدلة من حُكْم الله تبارك وتعالى ، كما قلناه في غيره من المفتين. وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ هو مُقْتَضى الرسالة. والرسالة هي أمرُ الله تعالي له بذلك التبليغ. فهو صلى الله عليه وسلم ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى، فهو في هذا المقام مُبَلِّغٌ وناقِلٌ عن الله تعالى... فلا يَلْزَم من الفُتيا الرِّواية، ولا من الرواية الفُتيا، من حيث هما روايةً وفُتْيا.
وأما تصرُّفُه صلى الله عليه وسلم بالحُكْم فهو مُغايرٌ للرسالة والفُتيا؛ لأنّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ مَحْضً واتِّباعٌ صِرْفٌ، والحُكم إنشاءٌ وإلزامٌ من قِبَلِه صلى الله عليه وسلم بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجاج...
فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام مُنْشئ، وفي الفُتيا والرسالة متَّبع مبلِّغ وهو في الحكم أيضاً متَّبِعٌ لأمر الله تعالي له بأن يُنْشئ الأحكامَ على وِفْق الحِجاج والأسباب ، لا أنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى ، لأنّ ما فُوِّض إليه من الله تعالى لا يكون منقولاً عن الله تعالى...
وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصفٌ زائدٌ على النُّبوة والرسالة والفثتيا والقضاء، لأنّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد، وقَمْع الجُناة... وهذا ليس داخلاَّ في مفهوم الفُتيا ولا الحُكم ولا الرسالة ولا النُّبوة، بالتَّصَدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة... وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلاّ مجردّ التبليغ عن الله تعالي.
وأما آثار هذه الحقائق في الشريعة فمختلفة :(1/401)
فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش... فلا يجوز لأحدٍ الإقدام عليه إلاّ بإذن إمام الوقت ِالحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة ، وما اسْتُبيِح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقررً لقوله تعالى: { واتَّبِعوهُ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون } (359) .
وما فعله صلى الله عليه وسلم بطريق الحُكم كالتمليك بالشُّفَعة وفُسوخ الأنْكِحة والعقود... فلا يجوز لأحد أن يُقْدَم عليه إلاّ بِحُكم الحاكم في الوقت الحاضر اقتداءَّ به صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام لم يقرر تلك الأمور إلاّ بالحكم، فتكون أمته بعده صلى الله عليه وسلم كذلك.
وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلْزَمُنا أن نَّتَّبِع كلَّ حكم ممّا بلَّغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام " (360) .
والقُرافيُّ من خِلال استعراض كلامِه في هذا المجال يتَّضِح مقصودُه من التفريق بين ما كان حقاً للإمام أو الحاكم فلا يُقْدم عليه إلاّ بإذنه، وما كان غير ذلك ممّا يجب الالتزام به من كل فردٍ من غير اعتبار لحكم حاكمٍ أو إذن إمام. ويؤكد ذلك أيضاً ما أورده من مسائل اختلف فيها الفقهاء حول تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم أَهُوَ من باب التصرف بالأمامة فلابد فيها من إذن الحاكم، أم هو من باب التصرف بالفُتيا فيكون حقاً لكل أحد. ولم يُرِد أنّ تلك المسائل مُخْتَلَفٌ فيها من جهة شرعيتها وعدم الشرعية فيها. ويؤكد ذلك أيضا . ما أشار إليه القرافي في مسائل اجتهاد الحاكم قبل هذه المسألة وضرورة استناده للأدلة الشرعية، وجواز نقضه إذا خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي (361) .(1/402)
فكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من السُّنَّة بِوَصْفِه رسولاً ومبلِّغا أو حاكمًا وإماماً فحُكمُه الاتِّباع والقَبول, إلا أن الاقتداء به فيه على نوعين كما تقدم: عام وخاص ، فالعام ما لم يتوقف فيه على حكم الحاكم أو إذن الإمام وهو كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من جهة كونه مُبَلِّغًا، والخاص هو ما كان حكماً وقضاءً. فالاقتداء به فيه متقرر أيضًا، لكنه واجب ٌفي حق الولاة فقط باعتبار أن ذلك الفعل صدر منه صلى الله عليه وسلم بصفته إمام الأمة ، فهو الذي يقضي بينهم، ويقسم الحقوق والعطايا، ويُجَيِّش الجيوش، ويُقِيم الحدود. فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم مُتَعَيّن في حق الولاة كلٌ بِحَسَبِ المرتبة، فأمير الغزو يُقْتَدي به فيما يتعلق بأمور الحرب وسياستها الشرعية وأحكامها. وليس لكل أحد مباشرة قسمة الغنائم- مثلاً- بنفسه...
والقضاة يَقتدون به فيما كان خاصًا بالقضاء وليس لكل أحدٍ مباشرة الأمر بنفسه وإنما الأمر متعلِقٌ بالقاضي أو الحاكم (362) .
فهل فُهِمَ من كلام القرفي عدم الاقتداء، أم أن المفهوم هو الاقتداء وإن كان على طائفة مخصوصة في مجال مخصوص؟
نقل بعض العقلانيين النص الوارد عن القرافي وفسَّره تفسيراً يتفق وما يريده، فقد ذهب محمد عِماره إلى أن السُّنَّة باعتبار التشريع تنقسم إلى سُنَّة العادة، وسُنَّة العبادة ، مُعَرِّفاً الأولى بأنها ما لا إلزام فيها، والثانية بما لا يتغير حكمها (363) .
ثم يَزيد في توضيح الأمر بأن سُنَّة العادة تشمل كل ما خرج عن دائرة العقائد (الغيبيات) أو العبادات؛ إذ الغيبيات والعبادات- عند عِماره- لا تغيير لحكمها بالاجتهاد، وكذلك إذا هي تعلقت بالثوابت الدنيوية (364) .
أما سُنَّة العادة وهي المُتعَلِّقة بفروع المتغيرات الدنيوية فهي مجرد اجتهادٍ نَبويٍّ مُؤَسَّسٌ على العلة. فهذه لا إلزام فيها كما تقدم، بل المُعَوَّل عليه هنا هو المصلحة المستجَدَََّة.(1/403)
يقول محمد عمارة: " وفي ضَوْء هذه الحقيقة من حقائق المنهج الإسلامي عن العلاقة - علاقة المُزاملَة بين النص وبين الاجتهاد- مَيَّز المحدِّثون والأصوليون في نُصوص السُّنة النبوية بين سُنَّة العادة- وهي التي لا إلزام فيها- وسُنَّة العبادة التي لا تغيير لحكمها- بالاجتهاد- إذا تعلَّقت بالغيبيات التي لا يَسْتقِل العقل بإدراكها، أو بالعبادات ومن ثَمَّ لا يجوز الاجتهاد في تغيير حكمها، وكذلك إذا هي تعلقت بالثوابت الدنيوية، لانتفاء دوران وتغيُّر عللها...ميزوا بينها وبين السنة التي تتعلق بالفروع من المتغيرات الدنيوية، والتي هي اجتهاد نبوي، فهذه تدور أحكامها مع عللها وجوداً وعدماً... فيجوز معها وفيها الاجتهاد الجديد تبعا لما يُسْتَجَدُّ من مصالح" (365) . ثم أورد ما نقلناه من نصٍ متقدمٍ عن القرافي، واستنتج منه ما يلي :
أولاً : أن السُّنَّة تنقسم إلى قسمين:
(أحدهما) : سُنَّةٌ تشريعية (أي من الشرع) وهي شاملة للوضع الإلهي في السُّنَّة الخارج عن إطار اجتهاد الرسول. وحكمها الدوام وعدم الاجتهاد فيها.
(الثاني) : سُنَّةٌ غير تشريعية وهي المتعلقة باجتهادات الرسول في فروع المتغيرات الدنيوية سواء اكان في السياسة أوفى الحرب أو في المال، وكل ما يتعلق بإمامته للدولة الإسلامية، أو بقضائه في المنازعات الذي هو اجتهاد مُؤَسَّسٌ على حُجَج أطراف النزاع، وليس وحْياً معصومًا... وفيها ومعها يجوز الاجتهاد الذي يأتي بجديد الأحكام (366) .
ثانيا : أن تَوَقُّف السُّنة غير التشريعية على حكم الحاكم أو إذن الإمام يعني استئناف الاجتهاد فيها من جديد بواسطة القضاء المعاصر، وإمام الوقت الحاضر لِتَبَيُّنِ مَدَى توافُرِ شروط إِعْمال أحكامها، وموافقة الحال وتحقيق المصلحة (367) .(1/404)
وفي مناقشة محمد عماره نبدأ ببيان ما ذكره عماره في موضع آخر من حصر السُّنَّة التشريعية في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن فقط فهو يقول: "فنحن مطالبون، حتى نكون متبِعين للرسول، بالتزام سنته التشريعية- أي تفسير القرآن- لأنها دِين" (368) فالسُّنة التشريعية التي كانت في النص السابق ما خرج عن اجتهاد الرسول، أصبحت هنا ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم!! أما الأحكام الواردة في السنة ابتداءً فليست من السُّنة التشريعية- عند عِماره- سواءَ تعلَّقت بالعبادات أم المعاملات. وطالما كانت كذلك فالاقتداء بها غير مُلْزِمٌ. يقول محمد عماره: "أما سُنَّتُه غير التشريعية ومنها (469) تصرفاتُه في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء، ومثلها ما شابهها من أمور الدنيا ، فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزامنا بالمعيار الذي يُحقِّق المصلحة للأمة، فإذا حَكَمْنا كساسةٍ بما يحقق مصلحة الأمة كُنَّا مُقْتَدين بالرسول، حتى ولو خالفت نُظُمُنا وقوانينُنا ما رُوِيَ عنه في السياسة من أحاديث لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة" (370) .
إذن نحن هنا أمام مساحة كبيرة نتحرك فيها بعقولنا وبما نراه من مصالح فقط، سواء اتفقت هذه المصالح مع أحكام الشريعة أم خالفتها، وسواء أكانت مصالح حقيقية كلية أم جزئية مُتَوَهَّمَة. فالمهم هو إضفاءُ الشرعية على كل النظم والقوانين - وإن صادمت النصوص- طالما كانت هذه النظم وتلك القوانين متعلقة بميدان السُّنة غير التشريعية ، وما أوسعه من ميدان عند عماره وأصحابه!!(1/405)
" وهكذا يصبح- بناء ًعلى فَهم الدكتور- لزامًا علينا عدم الالتفات إلى كافة النصوص الواردة في السياسة والحرب، كأحكام الجماعة، والإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة، وأحكام المحاربين والبُغاة، وأحكام المرتدين، وأحكام اليهود والنصارى والمشركين، وعامة أحكام دار الحرب، ودار الإسلام، وأحكام السِّلْم من المعاهدات وضوابطها، وكذلك أحكام الاجتماع، وحفظ نُظُم الدولة، وحدود الله، وفيها أحكام الحدود والتعزيرات ونحوها وشروطها، وأحكام الأسرة في النكاح والطلاق والعدة والرضاع والنفقة وغير ذلك، وأحكام القضاء والشهادة واليمين ونحوها، وكذلك أحكام النظام المالي وأحكام النظام واحكام البيوع... طالما أن المقصود هو أن نعمل بما نرى نحن أنه المصلحة لا ما تراه النصوص " (371) .
صحيحٌ أن هناك من السُّنة النبوية ما يتعلق به الاقتداء والإتباع وهو غالب سنته صلى الله عليه وسلم ، ومنه ما لا يتعلق به اقتداءٌ أو إتباع كما تقدم في الحديث عن بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أشار إليه بعض المحققين مما ليس هو من باب تبليغ الرسالة، بل مرده لرأيه صلى الله عليه وسلم في أمور دنيوية مُسْتندُها التجرِبة كتأبير النخل وطلبه يوم بدر النزول في مكان ظَنَّه صالحًا للحرب، وما فعله صلى الله عليه وسلم بحكم الجِبِلَّة والطبيعة، أو كان خاصًا به صلى الله عليه وسلم ... فهذا لا يَلْزَمُ مِنْه الإتباع ولا يتعلق به تشريع، وهو القليل النادر في سنته صلى الله عليه وسلم.(1/406)
وأما ما كان من باب تبليغ الرسالة فلا جدال في وجوب الاقتداء به فيه. وغير صحيح أن كل ما يتعلق بالمتغيرات الدنيوية هو من باب سُنَّة العادة وبالتالي تندرج تحت السُّنة غير التشريعية ، فهي دعوى تفتقر إلى الدليل، بل الدليل يصادمها، إذ أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضي كونه حاكمًا أو إماماً شملت ميادين كثيرة- أشار إليها محمد عماره أيضاً- كالحروب والأموال والحدود والمنازعات والطلاق والنكاح والعقود... فهل تخلو هذه الميادين عن حكم الشرع!!
إن كثيراً من الميادين المتقدم ذكرها مَنْصُوصٌ على حُكْمه في القرآن والسُّنة، وإنما أدخلها القرافي تحت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضي كونه حاكمًا أو إماماً ليؤكد على أن من يتولاها هو الحاكم أو الإمام لا عامة الخلق، لا ليثبت القرافي عدم الإلزام في أحكامها كما حاول عماره تفسير ذلك.
ومحاولات عمارة متعددة في تأويل النص حسب الاتجاه، فعندما أورد قول القرافي "فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بأذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه" قال مُعَلِّقًا ومُؤَوِلا ً"إن ما أُخِذَ عن اجتهاد الرسول، باعتباره إمام الدولة، وليس عن الرسالة المُبَلَّغة، أو الفُتيا المتعلِّقة بها، فمردُه إلى إمام الوقت الحاضر؛ أي الدولة الإسلامية المعاصرة ، التي تَسْتأنف ما ورد فيه من السُّنة غير التشريعية، تُمْضي منها ما لا يزال مُحَقِّقًا للمقاصد، وتَستبدِل أحكاماً جديدةً لما لا تتوافر شروط إعمال حكمه... كل ذلك باجتهاد جديد" (372).(1/407)
فهو قد بدأ التأويل بالقول إن ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إمام الدولة ليس له علاقة بالرسالة المُبَلَّغَة، وهذا افتئاتٌ عليه صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم بوصفه إمامًا كان يُنَفِّذ أحكام الله تعالى الموحَى بها إليه، وما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم من اجتهاداتٍ أقرَّه الله تعالى عليها فهي واجبة الإتباع أيضاً، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماما أو حاكمًا أشرْنا إلى وجوب الاقتداء به فيه من الحكام والولاة.
وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم إتباع لأمر الله له بأن ينشئ الأحكام على وفْق الحجاج والأسباب كما أشار إلى ذلك القرافي وغيره. وذكره عماره دون تعليقٍ عليه، فإذا كان صلى الله عليه وسلم متبِعاً لأمر الله فإن إتباعه في طريقته في الحكم والإمامة واجب علينا حسب التقسيمات والاختصاصات المشار إليها سابقًا.
وقد أصاب عماره في رد تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا إلى إمام الوقت الحاضر، لكنه فسَّر ذلك الردَّ باستئناف ما ورد وإعادة النظر فيه، واستبدال الأحكام... كل ذلك باجتهادٍ جديدٍ. إنه لم يذْهبَ كما ذهب غيره إلى وجوب اقتداء الحكام والأئمة به صلى الله عليه وسلم في هذا المجال، بل ذهب إلى تقرير استئناف النظر وتأسيس الحكم على اجتهادٍ جديدٍ.(1/408)
فلم يكف تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وإخراج جانب كبير من جوانب الحياة عن مظلة الشريعة بادعائه أنها من السنة غير التشريعية، ولا إلزام في أحكامها- أقول لم يكف ذلك بل هو مُصِرٌّ على إعادة النظر واستنباط الأحكام بمنهجٍ واجتهادٍ جديدين عمادهما المصلحة، والمصلحة فقط، وهي مصلحة تُدْرَك بالعقل ولها المرتبة الأولى في عملية النظر والاجتهاد، حتى وإن صادمت نصاً قطعي الدلالة والثبوت، فالنصوص ليست مراده لذاتها؛ وإنما المراد المصالح التي جاءت الشريعة لتحقيقها؛ يقول عماره:"فالنصوص الدينية التي جاءت بها الرسالة لتحقيق مصالح العباد في فروع المتغيرات الدنيوية، ليست - كما تشهد بذلك بداهة الفطرة- ليست مرادهً لِذاتها، وإنما هي مُرادةٌ لعللها وغاياتها ومقاصدها، وهي تحقيق مصالح العباد، فهي- أي أحكامها المُستَنْبَطَة منها- تدور مع هذه العلة الغائية- المصلحة- وجودًا وعَدَمًا ويشهد على ذلك اتفاق أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي على ضرورة الاجتهاد مع الأحكام التي ارتبطت بعلةٍ تغيرت ، أو بعادةٍ تبدَّلت ، أو بِعُرْفٍ تَطَوَّر، الذي سبق تغير العلة، وتبدل العادة، وتطور العرف، فوجود النص لم يمنع من الاجتهاد الذي يُثْمِر حُكْمًا جديداً " (373) ولا يظن القارئ أن النص المُتَقدِّم الظَّنِّي الدلالة أو الثبوت!! يقول:"ثم- وهذا هام جداً في هذه القضية- إن الاجتهاد مع وجود هذا النص ، قطعي الدلالة والثبوت، المتعلق بالمتغيرات من الفروع الدنيوية ليس معناه الاجتهاد الذي يرفع وجود النص رفعاً دائمًا ومُؤَبَّدًا ، فهو اجتهادٌ لا يتجاوز النص فَيُلْغِيه، وإنما يتجاوز الحكم المستنبَطَ منه، وهذا التجاوز للحكم ليس مَوْقِفَاً دائماً وأبدِياً... فالحكم المُجْمَع عليه، المُؤَسَّسُ إجماعه على نصٍ قطعي الدلالة والثبوت إذا كان متعلقاً بعلة غائبةٍ تَبَدَّلت، أو بعادةٍ تغيرت، أو بعُرُفٍ تطور،- أي إذا لم يَعُد مُحَقِّقا(1/409)
للمَقْصِد منه ، وهو المصلحة- فلابد من الاجتهاد فيه ومعه اجتهاداً يُثمر حكماً جديداً يحقق المقصد- المصلحة- فإذا عادت العلة الأولى، أو العادة القديمة فكانت المصلحة مُتَحَقِّقة بالحكم القديم، عاد الاجتهاد إليه من جديد، كل ذلك والنص قائمٌ نَتْلوه، ونتعبد بتلاوته" (374) هذا هو اجتهاد عمارة إذن، وميدانه قطعي الثبوت والدلالة الذي نقل عدم جواز الاجتهاد فيه، لقطعية ثبوته، وقطعية دلالته (375) . وهما الأمران اللذان لا مجال معهما لاجتهاد إلا لمن أراد تجاوز النص وهو ما يؤدي إليه اجتهاد محمد عماره، ولا عبرة بقوله "فهو اجتهاد لا يتجاوز النص فيلغيه" إذ لا معنى لإلغاء النص سوى إلغاء حكمه المستنبط منه بدلالته القطعية، أما إلغاء النص برفعه- أي بنسخه- فليس ذلك لمحمد عماره الذي يقرر أن اجتهاده الجديد في النص قطعي الثبوت والدلالة قد يُلغِي الحكم أو يُعيدُه- حسْب المصلحة- مع بقاء النص للتعبد والتلاوة مما يؤكد أن اجتهاده لم يتجاوزه ويلغيه، فهو قائمٌ ثابتٌ.
فهو يُطَمْئِنُنا على أنه لن يَنْسخ النصوص أو يغيرها، وإنما سَيُغير أحكامها فقط!! فلماذا الهلع والخوف إذن؟!
إنه هلعٌ وخَوفٌ ولَبْسٌ من عَوامِ الفِكر الإسلامي - المقصود أنصار النص- ولا يستند شيئ منه إلى مَنطق أو حُجة يقول: "أما النصوص، قطعية الدلالة والثبوت، والتي تعلقت بأمور هي من الفروع الدنيوية، ومن المتغيرات فيها، والمعللة بعلة غائبة فتلك هي التي يُثير الموقشف منها اللَّبْس الذي نُعالجُه الآن... وفي اعتقادي أن هذا اللَّبْس قائمٌ في نطاق عَوام الفكر الإسلامي وحدهم لأنه- كما سنرى- ليس له منطقٌ أو حجةٌ أو أساس" (376) المنطق هو- إذن- تحكيم العقل وتقديمه على الشرع باعتماد ما يُدْركه العقل وحده من مصالح قد تكون جزئيةً أو مُتَخَيَّلَة، وردُّ النصوص القطعية، أو تأويلها بما يتناسب والواقع المعبِّر عنه بالعادة والعرف.(1/410)
ولابد من الإشارة إلي مستنده ودليله الذي لم يتجاوز شهادة أهل الاختصاص في الفكر الإسلامي أو بعبارةِ عمارة "أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي" فإن كان مقصده- كما هو المتبادَر- المختصين في فكر عماره العقلاني فهذا هو المُتَوَقَّع منهم ، فأين الدليل إذن؟
وإن كان يُشير إلي علماء الشريعة فقد نقلنا الإجماع- في مباحث سابقةٍ- على أن المصلحة لا يجوز اعتبارها عند مخالفة النص. وسيأتي زيادةُ توضيحٍ لهذا في مبحث المصلحة عند العقلانيين من هذا الباب.
وتكفي الإشارة هنا إلى عدم استقلال العقل بإدراك المصالح، مما يترتب عليه - بالضرورة- عدم اعتبار المصلحة العقلية المصادمة للنص. ومن أدلة ذلك:
أولاً : أن معرفة مقاصد الشرع الكلية المراعية لمصالح العباد، إنما عُرِفَت عن طريق تَتَبُّع الجُزئيات، وهي نصوص الشرع المُتَضَمِّنة للأحكام الشرعية المحققة للمصالح؛ وإذا كانت المصالح معروفةً عن طريق النص فإن إِبْعادَه والاكتفاء بالعقل في تحديد المصلحة هدم للمصلحة ذاتها- باعتبارها مقصداً شرعيا- بهدم الطريق المُوَصِّل إليها.
ثانياً : أن العقل في المسائل الشرعية تابعٌ للنَّقْل، فَعَلَيْه الوُقوف عند حدود النقل؛ إذ أن تَعَدِّيْهِ لها إبْطالٌ للشرع (377) .(1/411)
ثالثاً : أن التشريع هو حق الله الخالص لا يشاركه فيه ملَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، وتشريعه عز وجل هديً ونور ومصلحة تتحقق للملتزمين به، المنفذين لأحكامه، فما حسَّنه الشرع فهو حَسَنٌ ومصلحة، وما قَبَّحَهُ فهو قبيحٌ ومَفسدة. ولو كان للعقل أن يحقق الهداية وحده، ويتَّعَرَّف على مصالح الناس وحده ، لما كان إرسال الرسل وإنزال الكتب. صحيحٌ أن العقل يعرف القُبْح والحُسْن في الأشياء ، لكن المؤَكَد أن معرفته لها معرفة ٌإجمالية لا تنفذ إلى التفصيلات المتعلقة بالزمن والمكان والأفراد والجماعات. أما شرع الله العليم الخبير فهو المتضَمِّن للمصلحة الحقيقية الشاملة التي يَقْصُرُ العقل عن الإحاطة بها والتعرف على جميع جوانبها.(1/412)
وقد أشار إلى ذلك ابن القيم (378) - رحمه الله- بقوله: "بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشرع بتفصيله، أو قُبْحَه، فيدركه العقل جملةً ، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حُسْنَ العدل ، وأما كون هذا الفعل المُعَيَّن عدْلاً أو ظلماً فهذا مما يَعْجَز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد. وكذلك يعجز عن إدراك حُسْنِِ كل فعل وقبحه. فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتَبْيِينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي بتقريره. وما كان حسناً في وقت قبيحاً في وقت ، ولم يَهْتَدِ العقل لوقتش حُسْنِه من وقت قبحه أتَتْ الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه. وكذلك الفعل يكون مشتملاً على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك. فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة ، وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعل يكون مصلحةً لشخصً ، مفسدةً لغيره، والعقل لا يدرك ذلك. فتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحةٌ له، وفي ضِمْنِه مصلحةٌ عظيمةٌ، لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشرع: كالجهاد والقتل في الله. ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضِمْنِه مفسدةً عظيمةً لا يهتدِي إليها العقل، فتجئ الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة " (379) .
وهكذا نتأكد من كون العقل قاصراً عن إدراك المصالح في كل الظروف والأحوال. فإذا تقرَّر هذا يتقرَّرُ قَبْلُه ومَعَهُ وبَعْدَهُ أن نصوص الشريعة وأحكامها هي الطريق الحقيقي الموصِّل للمصلحة الحقيقية.
لا نقول هذا تَغْيِيباً للعقل ودوره، بل تقريرًا لحكم العقل نفسه القاضي بأن مصلحة الخلق كامنةٌ في شرع الله. فكيف يبقى هذا الحكم قائماً مع القول بتجاوز النصوص من أجل مصلحة تَوَهَّمَها العقل ولم يتضمنها النص؟(1/413)
ثم إننا ندرك أن العقل يتكَوَّن في أحضان البيئة، فيتأثر بأنماطها وأفكارها وسلوكياتها مما يجعل أحكامه بعيدةً عن الحياد والموضوعية، فتأتي مصالحه على هذا التصور؛ ولذا فإن العقلانيين كثيراً ما يقيسون المصالح بمقاييس الواقع والظروف وملائمة الأحوال ومسايرة العصر، ويدعون أن هذه مصالح تَعَرَّف عليها العقل وحَكَم بها، ثم يَضَعونها في مواجهة مع النص الذي يتضمن مصلحة حقيقية، ولحرصهم على تغليب جانب الواقع والظروف الراهنة ومسايرة العصر، تراهم يُعْلُون من شأن ما تَوَهَّمُوه من مصالح، مُؤَكِّدين على أنها نتاج النظرة العقلية الموضوعية ، وما دامت كذلك فهي مصلحة عامة لقبول كل العقلاء لها ، وطالما كانت عامة فَلْيَغِب النص الجزئي، ولتكن المصلحة الجديدة هي حكم الشرع ومقصده. وهذا هو الاجتهاد الجديد: إلغاء للنصوص بإلغاء أحكامها، بناء ًعلى عدم توافر الشروط المناسبة لتطبيقها، والبحث عن حكم ما من الأحكام ، والبحث عن حكم ما من الأحكام المتماشية مع العصر وأحواله، المحققة للرغبات، والمُضْفِيَة على كل المُمارسات لباسَ التشريع ، بِدعْوَي أن هذه هي المصلحة، والمصلحة مقصد شرعي عظيم!!
أما قول محمد عماره عن تبدل العادة وتطور العرف وأثر ذلك في إلغاء حكم النص- حتى ما كان قطعي الثبوت والدلالة- أو تأخيره...(1/414)
فالرد عليه ببيان أن اختلاف العوائد لا يؤثر في الأحكام المنتظمة لها ، أي أن العوائد لا تخرج عن أحكام الشرع، فإذا تعلق حكم شرعي بعادة ما ظل مرتبطا بها على الدوام، فإذا لاحظنا اختلافا في العادة فلا نقول بأنها العادة الأولي قد تغيرت ليتغير حكمها المرتبط بها ، بل نقول بأنها عادة أخري تعود لأصل شرعي آخر يحكم به عليها ، فتظل كل العوائد محكومة بالشرع . وهو ما أشار إليه الشاطبي بقوله: "واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبَديٌ، لو فُرِض بقاءُ الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد . وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلف رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها، كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مُرْتَفِعٌ عن الصَّبِيّ ما كان قَبْل البلوغ ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف . فسقوط التكليف قبل البلوغ، ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب ، وإنما وقع الاختلاف في العوائد، أو في الشواهد " (380).
أما اختلاف الأحكام باختلاف الأحوال والأزمنة فيكفي هنا ما ذكره الدكتور عابد سُفْياني (381) بقوله : "إنَّ تَغَيُّر الأحوال والأزمنة لم تُغْفِله الشريعة بل وضعت له أحكاماً تخصه... فاختلاف الأزمنة التي تأتي على المسلمين فترة القوة، وفترة الضعف جعل الله لكل زمنٍ حكماً يخصه في حال القوة، وكذلك في حالة المجاعة والحاجة، وفي حال الاكتفاء... ولا تَعْنِي مراعاة الشريعة للأزمان والأحوال والقدرات أنها تركت تحديد المصلحة وتشريع الحكم للعقل البشري، كَلاَّ فإنها لم تَتْرك ذلك له ، لا في العبادات ولا في المعاملات...(1/415)
وإِنَّ تَغَيُّر الفَتْوى إذا تغير تحقيق المَناط لكي تَنْتَظِم كلُّ واقعةٍ تحت حُكمِها الشرعي ، لا صِلةَ لَهُ البَتَّةَ بتغير أحكام الشريعة بزعم تغير المصالح بتغير الأزمنة، ومن هنا فإن الفقه الإسلامي يتجدد ولا يَجْمُد ، حيث يأخذ كل واقعة بخصوصها فيدخلها تحت حكمها الشرعي حسب تحقق منَاطها ، فإن جاء زمنٌ آخر تجددت تلك الواقعة على صورةٍ أخرى وتغير تحقيق مناطها ، وُضِعَت تحت حكمها الخاص بها وهكذا... ولكل واقعةٍ بحسب تحقق مناطها، حكمٌ ثابتٌ يحقق المصلحة في جميع الأزمان " (382) .
وإذا كان محمد عماره يرى أن السُّنة يُؤْخَذُ منها ويُتْرَك وِفْقَ المعيار الذي تبَنَّاه. فإنَّ لمُحَمَّد إقْبال رَأياً آخر أَكْثرَ تَطَرُّفًا:
فهو يُقِرُّ بأنَّ هناك أحاديث تتضمن أحكاماً تشريعية، وأحاديث ليس لها طابعٌ تشريعيٌ. ولم يقف عند القسم الثاني. أما القسم الأول: وهو ما تضمن أحكاماً تشريعية فلم يذهب مذهب "عماره" في عَدِّهِ من السُّنة التشريعية بشرط أن يكون تفسيراً للقرآن الكريم- كما تقدم- بل يرى إقْبالُ عَدَمَ الأخْذِ بالأحاديث مطلقاً في تقنين الأحكام المعاصرة.
وحُجَّتُه أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مُحَاولَته لِبناءِ شريعةٍ عالميةٍ تشمل الشعوب المختلفة، كان لابد له من جعل أُمةٍ مُعَيَّنة نواةً، فَيُعَلِّمَها ويُطَبِّقَ المبادئ التي ينادي بها على حالاتٍ واقعيةٍ، في ضَوءِ العادات المُمَيِّزة للأمة التي هو فيها، وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق هي أحكامٌ خاصةٌ بتلك الأمة، إذ ليست مقصودةً بذاتها، وإنما المقصود ما تهدِفُ إليه من مبادئ، فلا مَجال لفَرْضِها على الأجيال المقبلة (383) .
إنه الادِّعاء ذاته الذي يَشْغُبُ بِه العقلانيون: استلهام المبادئ العامة والمقاصد الكبرى دون النصوص والأحكام الجزئية!!(1/416)
إنه لأمْرٌ عجيبٌ أن نَسْتنَتِْج المبادئ والمقاصد من أحكام الشريعة الجزئية ونصوصها التفصيلية، ثم نَأْبَى تطبيقَها في عَصْرِنا الحاضر بشدَعْوَى أنها لم تَعُدْ مُحَقِّقة للمصالح التي حققتها فيما مضي من الأزمان، وأن المصلحة لا تتحقق إلا من خلال ما نَسُنُّه من أحكامٍ، أو نُقَنِّنُه من قوانين!!
لقد غدا الفكر البشري- عند العقلانيين- أشمل وأهدَى وأرْحَمَ وأنْفَع للبشرية من تشريع الخالق العالم الخبير!!
وتطَرُّف إِقْبال ليس قاصراً على رأيه فقط ، بل يتناول جرأته على الزَّعْم بأنَّ أبا حَنِيفَة- رحمه الله- لم يَعْتمد على الأحاديث التشريعية لِمَا يراه من أنها خاصةٌ بالعرب في عصر الرسالة، وعالميةُ الإسلام تَمْنَعُ من اعتمادِ ما فيها من أحكام.
وقد رُمِيَ أبو حنيفة- رحمه الله- بِمُخالفَةِ السُّنَّة ودافَعَ عنه غير قليلٍ من العلماء (384) .
ولم يَقُلْ أحدٌ- قَبْلَ إِقْبال فيما نعلم- بأن عدَمَ احتجاج أبي حنيفة ببعض الأحاديث كان لرأيه بأنها خاصة بعصر النبي صلى الله عليه وسلم .
ويَخْلُص محمد إقبال إلى أن "موقف أبي حنيفة على الجملة من الأحاديث التي تشتمل على أحكام تشريعية بَحْتَةٍ هو في نظري موقف جد سليم. وإذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري أنه من الأسلم ألا تُتَّخذ هذه الأحاديث من غير أدني تفريق بينها أساساً للتقنين، فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجلٍ من أعظم رجال التشريع بين أهل السُّنة " (385) .
وهكذا يتطور النظر العقلاني في سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم :(1/417)
فبعد أن بدأ الأمر برَدِّ خبرِ الآحاد في مجال العقائد وقبولِه في الفروع بشرط موافقته للقرآن الكريم نجد الشيخ محمد الغزالي يَنْصِبُ مِيزاناً جديداً للاهتداء إلى الصحيح من الأحاديث ، هذا الميزان هو "فِطْرة الشيخ" وهي هنا تعني ذوقه المُنْبَجِسُ من العاطفة والعقل، أو رأيه المستند إلى العقل وضغط الواقع. ومع هذا فليس ما صح بهذا الطريق، أو هذا الميزان، مقبولاً عند الشيخ في بعض القضايا الخطيرة التي لم يذكر تفصيلاً لها، والتي لابد فيها من حديثٍ متواترٍ، أو شبيهٍ بالمتواتر، إذ لا يكفي فيها حديث آحاد حتى مع جلالة راويه!!
ثم نري الدكتور رفيق العجم يُضِيف شَرْطَين آخَرَين لِقَبول الحديث هما: اتفاقه مع رُوح الشريعة، واتفاقه مع مُعْطيات القرآن الكريم. وهما شرطان يقصد بهما رد الأخبار الصحيحة متواترة كانت أم آحاداً. نقول ذلك بعد استعراضنا للتحليل الذي قال به العجم، وأشرنا إليه سابقاً.
ثم أتى محمد عماره لِيُقَسِّمَ السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية جاعلاً القسم الأكبر منها غير تشريعي لتعلقه بالدنيا وأحوالها ومجالاتها، وقَصْرِه للتشريعي على ما تعلق بالعقائد والثوابت من العبادات.
ثم أعلن نظريته المُبْتَكَرة في الاجتهاد القائلة بالاجتهاد في النص قطعي الدلالة والثبوت اجتهاداً يغير حكمه أو يرفعه حيناً دون آخر ، مؤكداً على نجاح النظرية بموافقتها على بقاء النص دون إزالة أو تغيير!! وأظنه يريد منا أن نشكرَه على موافقته على إبقائه على النصوص دون نَسْخٍ لها لِنَتَمَكَّن من التعبُّد بها في صَلواتِنا، كما يقول!!(1/418)
ثم يأتي محمد إقبال لِيُعْلِنَ في جُرْأَةٍ ما خَشِي الآخرون إعلانه؛ إذ يقول بأن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية غير مُجْدٍ البَتَّة، وتَرْكُها، وعدم جعلها أساساً للقوانين هو الأولى؛ لأنها بتفصيلاتها خاصة بالأمة التي عاصرت الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. وكأنه رأى أن هذه الجُرْأة لم تُحْدٍث الاستجابةَ المرغوبة، أو حتى الهِزَّة الفكرية التي يريدها ، فتَمادَى في تضجرئه ليؤكد أن هذا ليس رأيًا له فحسب ، بل قال به الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- وجعله أساس مذهبه!!
وباطلاعٍ يسيرٍ على أصولِ مذهبِ الإمام أبي حنيفة- رحمه الله- ينكشف هذا الزيف، وتَبْطُل تلك الافتراءات.
وكثيرون أولئك الذين نهجوا هذا النهج ممن يُوصَفُون بالمُفَكرين الإسلاميين وقد تَتَبَّع أقوالهم باحثٌ مُعاصِرٌ وعَقَّب عليها بما يلي: "ونكْتفي بما أوردنا من أمثلةٍ
تدل على هذا المُنْعَطَفِ الخطر في طريق ديننا وعقيدتنا، من أبناء جِلْدَتنا، والناطقين بِلُغَتِنا، وهذا الفريق من الكُتَّاب المسلمين الذين رَكَّزُوا جهودهم على مُخالفة الأئمة الأعلام السابقين، وأعْطَوا أنْفُسهم حق الاجتهاد تفسيراً وتأويلاً ، وقد أعطوا أنفسهم حرية القول وفق أفهامهم فوصلوا إلى الخطأ في القول ، والشطط في الاجتهاد في مذهبهم الذي تمذهبوه. وذلك ليصلوا إلى مرتبة النُّبوغِ الذي من أعظم وأسهل شروطه ضعف الدين. وضعف الدين أضمن للنجاح في مضمار الثقافة العصرية من قوة العلم " (386) .
( المرجع : محاولات التجديد في أصول الفقه ودعواته ، للدكتور هزاع الحوالي ، ص 344-360).
الشبهة(14) : ادعاؤهم أن الشريعة مجرد مقاصد(1/419)
( لقد ظن اليَسارُ الإسلاميُّ أنَّ الشريعة مَقَاصِد، وأنَّ العقل هو المُكَلَّف بإِيجادِ الطريقة التي يَراها مُلائمةً، والأحكام التي يراها كَفْيلةً بتَحقيق هذه المقاصد الكُبْرى، مُعْتَبِرًا بذلك أنَ ما وَرَد في الشريعة مِن أحكامٍ تفصيليةٍ لا يُمَثِّل إلاَّ المرحلة الأولى من تطبيق الشريعة، يَقَع تَجَاوُزُها بِتَجاوُزِ المرحلة. وهنا نَتَساءَل: هل يُمْكن للعقل وحْدَه أن يُجَدِّد هذه الأحكام والوسائل المُحَقِّقَة للمقاصد؟
الإجابة لا تحتاج في نظرنا إلى تحاليلَ مُطَوَّلة، إذْ يُمكِن الاكْتِفاءُ بإِلْقاءِ نظْرةٍ على تاريخ المَذاهب القديمة والمعاصِرة، فَكُلها تدعو إلى الحرية والعدل والتقدم، لِنَعْرِف إلى أيِّ مَدَى تَمَكَّنَت من التَّلاؤُم مع الإنسان في مَطالِبه وطُموحاته. فبِاسْم الحُرية يَقع ما يَقع: يموت الناس جُوعًا، ويُلْقَى بأَطْنان المَزْرُوعات والثِّمار في البحار والمحيطات حِفْظًا للأسْعار مِن الانْخِفاض....، وبِاسْم الدَّعوة إلى المُساواة والعدالة، تُكَمَّم الأفْوَاه ويُمْنَع الناس من حقوقِهم في التَّعبير، ويُرْمَى بهم في غَيَاهِب المناطق المُتَجَمِّدة، وباسْم التقدم يُرْمَى بِكُل سَلَفٍ مُتَمَسِّكٍ بمبادئه، ويُتَّهَم بالرَّجْعِيةِ والمَاضَوِيَّة والجُمود... كان ذلك ولا يزال، ولنا من الواقع أكثر من شاهد.
* الفَهْم المَقاصِدِيُّ يَخْتَزِل الشريعة في خَمْسَة مَقاصِد:(1/420)
هذا الفهم " التقدمي " للإسلام يَنْفِي عن الشريعة أنْ تكون مَنْهجًا يَتَضمَّن الوسائل الكبرى وبعض التفصيلات. فَنَظْرةُ اليَسار إلى الشريعة نظرةٌ اخْتزالية تَسْطيحيةٌ للشريعة، رغم ما تَدَّعيه لِنَفْسها من عُمْقٍ وغَوْصٍ في "روح" الشريعة. ولعلنا. لا نُجَانِب الصواب إذا قلنا بأنَّ هذه النظرة تُؤْمِن بِبَعض الكِتابِ وتَكْفُر بالبعض الآخر، ما دامت أحكام الوحي- في نظرهم- قابلةً للنَّسْخ المُتواصِل وِفْقًا للتطَوِّر التاريخيِّ والاجتماعيِّ. وهنا نسأل: لماذا وَرَدت تلك الأحكام التفصيلية في القرآن؟ هل كان ذلك فقط للعصر الذي نزل فيه القرآن واستجابةً لظَرْف ٍتاريخي مُحَدَد؟
لو كان الأمر كذلك لما كانت بنا حاجَةٌ إلى نصوص الكِتاب، ولأَمْكَنَنَا أنْ نقوم بتلخيصٍ للقرآن في خمسة مَقاصدٍ نَحْفظها- إنْ لم نَقُل نتْلُوها في الصلاة!! - ثم ما حاجة الإسلاميِّ التقدُّمِيِّ اليومَ إلى سِتِّين حِزْبًا من القرآن، وآلاف الأحاديث النبوية؟.. إنَّ كل هذه النصوص ستُصْبِح في أحسَن الحالات مادةً للتَّثقيف التاريخيِّ والتَّسْليةِ الفكرية، أيْ: تُراثًا لا غَيْر. فَالْفَهْم المَقاصِدِيُّ يَنْتَهِي بِنَا إلى اعْتِبار الإسلام تُراثًا (الإسلام من حيث هو شريعة)؛ بل إنَّ حَسَن حَنَفِي يُطالِبنا بأكثرَ من ذلك، يُطالِبنا بتغْيير المُصْطَلحات التي تتضمَّن العقائد...(1/421)
إن هذه النظرة إلى الإسلام تَجَاوَزَت حتى نظرةَ المُعتزِلة التي يَنْتَسِب إليها اليَسار الإسلاميُّ. ذلك أنَّ المُعْتزلَة وإنْ أَعْطَوْا قِيمةً كُبرى للعقل، فإنَّهم لم يقولوا بِتَعْطيل النصوص، ولم يَقُولوا بِقُدَرة العقل المُطْلقَة على التَّصَرف في الشريعة، فَالمعتزلة يقولون بأن العقل قادرٌ على مَعْرفَة الحَسَنِ والقَبِيح، والخَيْر والشَّر. وإذا أرَدْنا القيام بِقياسٍ أوْ تَشْبيهٍ فإِنَّنا نقول بأنَّ العقل رُّبَّما يكون قادرًا على تَعْيِين المَقاصِد الكبرى للشريعة، ولكنه غير قادرٍ على التفصيل في أحكامها والوسائلِ المُوَصِّلة إِليْها، وذلك خِلافًا لما يَراه اليَسار الإسلامي، فَلَعلَّ مُعْتَزِلة العصر الحديث أكثرُ تقدُّمًا في العقلانية من المعتزلة الأوائل.
* الفَهْم المَقاصِديُّ دَعْوةٌ إلى العَلْمانية:
إضافةً إلى اختزالِه الشريعة في خمسة مقاصد، يُمَهِّد هذا الفَهْمُ المَقاصِدِيُّ إلى العَلْمانية؛ بل يدعو لها بطريقةٍ أو بأُخْرَى كما سبَقَ بَيانُ ذلك في فصْل الانتماء السياسيِّ للمُسلم. وليس في ذلك غَرابةٌ أو تَناقُضٌ ما دُمْنا مُطالَبِين بِضَبْط طريقنا بأنْفُسِنا، وبما نَنْقُلُه من تَجَارِب الآخَرِين، كما يقول خالد محُيْىِ الدِّين الذي يَنْتَمِي إلى حِزْب التَّجَمُّع ومعَه حَسَن حنفي وبعض "الإخوة في الوطن والثورة والحرية..."(1/422)
معنى ذلك بعبارةٍ أوضَحَ، أنَّ مقاصد الشريعة كَشِعاراتٍ عامةٍ يُمكن أنْ يحققها القَوْمِيُّ، والماركسِيُّ، والليبرالي، والمسلم.. سَواءً بسواء، أي ليس من الضروري أن تكون مُؤْمِناً بالله ومُسْلِماً لِكَي تُحَقِّق مَقاصد شرع الله، فَبِالإمْكان أنْ تكون غير ذلك وتُحَقِّق مقاصِدَه... ولسنا ندري بعد ذلك إنْ كان الأمر يتعلق بأسْلَمَة الماركسيِّ واللِّيبرالي والقومي أم بِتَمَرْكُسِ المُسلِم... أم بشيٍ آخَر!... وبذلك يتحوَّل الإسلام إلى شِعاراتٍ عامةٍ، وكأَنَّه لافِتَةٌ يُمْكِن أنْ نَجِدَها على كل الواجهات. وقديماً قال شاعِرُ الغَزَل:
وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بِِلَيْلَى وَلَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاك
* الفَهْم المَقَاصِدِيُّ نَفْيٌ لِمَقاصِد الشريعة:
إنَّ الفَهْم المقاصدِيّ، إضافةً إلى ما سبق (اختزال الشريعة والدعوة إلى العلمانية)، يَلْزَم عنه إِلْغَاءُ الشَّريعة، وهُو يُؤَدِّي إلى ذلك مَنْطِقِيًا.
ذلك أنَّ مَقاصِدَ الشريعة التي حَدَّدَها الفَهْمُ التقدُّمي للإسلام، لا نَجِد مِن الدَّعَوات والمَذاهب مَن يُنْكِرها. فَكُلُّ الأحْزاب تَدْعو إلى الحرية والعدالة والتقدم، وتقول بأنها تُحَارِب الظُّلم والاستغلال. وهذا معناه بلغة أُخْرَى، إذا أرَدْنا أنْ نُواصِل الاستِنْتاجَ، أنَّ الشريعة لم تأْتِ بِجَديد. فهذه المبادئ والشِّعارات العامة مُتَضَمَّنَةٌ في كتب الفلاسفة والحُكماء القُدامى والمُعاصِرين، فما الدَّاعِي إذَنْ إلى أن تأتِيَ عن طريق الوَحْي؟ وهل يكون مَقْصِد الشرع من ذلك مجرد تَكْرارٍ أو إِقْرارٍ لما تَوَصَّل إليه العقل، أيْ: مُجرَّد تَزْكِيةٍ ومُصادَقَةٍ على ما تَوَصَّل إليه الإنسان؟ ذلك ما يراه حنفي بِصِفةٍ ضِمْنِية وصريحة.
وإذا كان ذلك كذلك فإننا نَتَوصل إلى النتيجة التالية .:(1/423)
إما أنْ يكون الوَحْيُ مُجَرَّد استجابَةً لِظُروفٍ تاريخيةٍ، نَزَل على العرب البَدْو قَبْل تَحَضُّرِهم، والإسلام يكون تَبَعًا لذلك صالِحًا لِلْبَدَوِيِّ وغيرَ صالحٍ لِلْحَضَرِيِّ: وهذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات.
وإما أن يكون نُزول الوحْي عَبَثاً؛ لأنه لم يأتِ بجديد، وإنْ أتَى بجديدٍ في عصره فإنَّنا غيرُ ملْزَمِين إلاَّ بِمَقاصِدِه وهي ليست جديدة..
إذن ألا تَرى معنا أنَّ الفَهْم المَقاصِدِيَّ للشريعة- على النحو الذي رآه اليَسار- هو نَفْيٌ لمِقاصد الشريعة وقضاءٌ عليها. فهل مِن مَقاصد الشريعة أن ننْسَخ أحكامَها ونعَطِّلها ونتجاوَزَها بِاسْم الفَهْم المَقاصِدِي، أيْ: بِاسْم التقدُّم المُسْتمِر نَحْوَ الأفضل..؟!!
يقول الإمام الشاطِبِي: "إنَّ عامَّة المُبْتَدِعة قائلةٌ بالتَّحْسين والتَّقْبيح العَقْلِيَّينِ، فَهُوَ عُمْدتُهم وقاعدتهم التي يَبْنُون عليها الشرع، فهو المُقَدَّم في نِحَلِهم بحيث لا يَتَّهِمون العقل، وقد يَتَّهِمون الأدِلَّة إنْ لمْ تُوافِقهم في الظاهر حتى يَرُدُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وليس كل ما يَقْضِي به العقل يكون حقاً، بدليل أنَّهم يَرَوْن اليوم مَذْهَباً ويَرْجِعون عنه غداً، وهكذا... ولو كان كل ما يَقْضِي به العقل حقاً، لكان العقل وحْدَه كافِياً للناس في المَعاشِ والمَعاد، ولَكَانَ بَعْثُ الله لِلرُّسُل عَبَثاً وعِبْئاً لا مَعْنَى له، وهذا كله باطل فما أدَّى إليه مِثْلُه" (387) .(1/424)
ثُمَّ إنَّنا إذا نَفَيْنا عن الشريعة كَوْنَها مَنْهجاً- كما يفعل اليَسار- نَصِل إلى إقْرارِ مبدأ " الغاية تُبَرِّر الوسيلة" ، أيْ: أنَّ المُهِم هو تحقيق المَقْصِد بأيِّ الوسائل أرَدْنا... إنَّ في الإسلام غاياتٍ، ولكن هناك ضوابط وأخلاقيات ووسائل علمية كبرى تَضْمَن تحقيق هذه المقاصد بطريقةٍ تتَكامَل فيها ولا تَتَعارَض، فالْغايةُ السَّامِية لا نَتَوصَّل إليها بوسائل غيرَ شريفةٍ، وليس مِن باب المَصْلَحَة أنْ نفْعل كلَّ ما نُريد للوُصول إلى غاية. فما عند الله لا يُنالُ بِالمَعاصِي والمُحَرَّمات. وأحياناً تكون الوسائل التي نَسْتَعْمِلها تُؤَدِّي إلى خِلاف الغاية التي قَصَدْناها، فَيُصْبح عملُنا إفْساداً لِمَقاصِدنا. ونحن لم نَقُل أن َّالشريعة حدَدَّت جميع الوسائل التفصيلية، ولكننا قُلنا إنها حددت المَنْهَج في َمبادئه وقواعده، وحددَت الوسائل الكبرى كما حدَّدت بعض الجوانب التفصيلية، وتَرَكَت البَقِيَّة لِتَصَرُّف العقل بالاستقراء والاستنباط، "ذلك أن المُجتهِد ليس مُخْتَرِعاً للأحكام بحسْب عقله حتى يكون مُتَحَرِّرًا مِن مَعانٍ قَبْلِيَّة، وإنما هو باحثٌ عن حُكم شرعي يَرْتَضِيه الله - تعالى-، وهو ما يَقْتَضِي مَوْضُوعِياً أنْ يكون مُتَعَمِّقاً في الشرع، مُسْتوعِباً لِمَقاصِده ووسائله، وأقَلُّ ما يَتِمُّ بِه ذلك الأمْرانِ المُتَقَدِّمان: فَهْمُ المَقاصِد والتَّمَكُن من الاستنباط " (388) .(1/425)
وبين الوسائل والغايات هناك مُرُونةٌ وثَبَاتٌ، تَطَوُّرٌ ومَبْدَئِيَّة، دُون تَحَلُّلٍ وتَمَيُّعٍ وانْهِزامٍ أمام الآخَر. أمَّا أنْ نُحاوِل تَطْوِيع النصوص وإِحْناءَ رأْسِها أمام الواقع فإن ذلك لا يُعَدُّ واقِعيةً، وإنما هو تَكْرِيسٌ للواقع. يقول المفكر الإسلامي سيد قُطْب:"والدِّين لا يُواجِه الواقِع أيَّاً كان لِيُقِرَّه ويبحث له عن سَنَدٍ منه وعن حُكمٍ شرعيٍّ يُعَلِّقُه عليه، كاللاَّفِتَة المُسْتَعارَة، إنما يُواجِه الواقع لِيَزِنَه بِمَيْزانِه، فَيُقِرُّ منه ما يُقِرُ،، ويُلْغِي منه ما يُلْغِي، ويُنْشِئُ واقعاً غيره إن ْكان لا يَرْتَضِيه" (389) . ويتِِمُّ كل ذلك في حُدودِ الانْسجامِ بينَ الوحْيِ والواقع والعقل. وهذا الحديث يَجُرُّنا إلى الحديث عن المَصْلَحة ومَوقِعِها من التشريع.
ج- هل تكون المصلحة أصْلاً مُستقِلاً في التشريع:
ما مِنْ شكٍّ في أنَّ الأحكام الشرعية مُرَاعَى فيها مَصالح العباد كما سبق بَيانه. ولكن هل تكون المصلحة في غير ما شرع الله، وهل يُمكن أن تَسْتَقِل في التشريع ولو خالفَتْ نَصاً شرعياَ؟
إنَّ المُراد بِالمصْلحة عُموماً جَلْبُ المَنْفَعة ودَفْعُ المَفْسَدة والضَّرَر. ومن أقْسام المصالح "ما يَشْهَد الشرع على اعْتِبار كوْنِه حِكْمةً نَبْنِي عليها الحُكْم كالإِسْكار، فَقَد فُهِمَ من الشرع بِناءُ تَحْريمِ الخَمْر عليه لِمَصلحة حِفْظِ العقل، فَيَحْرُم كلُّ مَطْعُومٍ أو مَشْروبٍ مُسْكِرٍ لِنَفْس المَعْنَي" (390) ومِن الأقسام كذلك: "ما لم يَشْهَد نَصٌّ مُعَيَّنٌ من الشرع باعْتبارِه ولا بِإلْغائِه، ويُسْمَى هذا القِسْم المصلحة المُرْسَلَة أو الاستِصْلاح، وإنما كانت مُرْسلةً لأنها أُطْلِقَت، فَلَمْ يَرِد في نَصِّ الشرع اعتبارُها ولا إلْغاؤُها " (391) .(1/426)
وقد اسْتَهْدفَت الشريعة المُحَافَظَة على " الكُلِّيات ِالخَمْس "، وهي: الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والعقل والمال. والمحافظة على هذه الأمور تَتِم بوسائل مُتَدَرِّجة في الأهمية والخُطورة: الضروريات - الحاجِيَّات- التَّحْسِيِنَّات. والمصلحة تشمل هذه الأقسام الثلاثة المذكورة.
وقد ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أنَّ الاحْتِجاجَ بالمصلحة المُرْسَلة التي في رُتْبَة الضَّروريات، حُجَّةٌ وإنْ لم يُعاضِدْها دَليلٌ مُعَيَّنٌ، لأنه بِمَثابَة بِناءِ الأحْكام على مَقاصد الشريعة. كما احْتَجَّ الإمام مالكٌ كذلك بالمصلحة التي في رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وخالَف في ذلك عامَّة أهل َالعِلْم. أمَا المصلحة التي في نَوْع التَّحْسينيَّات والكماليَّات فقد اتَّفَق جُمْهور العلماء على أنَّه لا يَجُوز الاحْتجاجُ بها إلاَّ إذا عاضَدْها دليلٌ من الشرع، إذ لو احْتُجَّ بها لأَدَّى ذلك إلى تَغْيِير الشرائع، خاصةً وأنَّ الناس يَخْتَلِفون في مُيُولهِم وأغْراضهِم، فلا يَجوز الاحْتجاج بمَصالح مُتَعارِضة.(1/427)
* وإذا كان الإسلام قد اعْتَرَفَ بالواقع والعُرْف والمَصالح، فذلك لأنه تشريعٌ واقِعِيٌّ قابلٌ للتطبيق، ولكنه يَخْتَلف عن غيره من التشريعات في كَوْنه حددَ ضوابطَ لهذه المصالح، لأن الكثير من الناس أصبحوا يَتَمَسَّكون بمبدأِ الضرورة، ويُفْتُون لأنْفُسِهم بِإباحَة ما حَرَّم الله مُتَناسِينَ مَعْنَى الضرورة الذي يتَمَثَّل - كما يقول العلماء - في "أنْ تَطْرَأ على الإنسان حالةٌ من الخَطَر أو المَشَقَّة الشديدة بحيث يَخَاف حُدوثَ ضررٍ، أو أَذَىً بالنَّفْس، أو بالعُضْو، أو بالعِرْض، أو بالعقل، أو بالمال، وتَوابعها، ويَتَعيَّن أو يُباح عندئذٍ ارْتكابُ الحرامِ، أو تَرْكُ الواجِبِ أو تأخيره عن وقته، دَفْعاً للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيودِ الشرع " (392) . فليس كلُّ مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الضَّرورة يباح له فِعْله. ومِن هذه الضوابط نذكر بعضها إجمالاً لا تفصيلاً:
- أن تكون الضرورة قائمةً (مُتَحَقَّقةَ الوُقوع) لا مُنْتَظَرَة.
- أن يَتَعيَّن على المُضْطَرِّ مُخالَفَة الأوامِرِ أو النَّواهي الشرعية، أو ألا يكون لِدَفْع الضَّرَر وسيلةٌ أُخْرَى من المُباحات إلاَّ المُخالَفَة، كأَنْ يوجَد في مكانٍ لا يَجِدُ فيه إلاَّ ما يَحْرُمُ تَناوُله.
- الإكْراه إلى حَدٍّ يُخْشَى معَه تَلَفُ النَّفْس أو الأعضاء...
- ألا يُخالِفَ المُضْطرُّ مَبادِئ الشريعة من حِفْظ حُقُوق الآخَرين، وتحقيق العدْل، وأداء الأمانات، ودَفْع الضَّرَر، والحِفاظِ على مبْدأ التَّدَيُّن، فلا تَحِلُّ المَفاسدُ في ذاتها، كالزِّنا والقتْل والكُفْر، لأنَّ ما خالَفَ قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة.
- أنْ يَقْتَصِر فيما يُباح تناوُله ُللضرورة، في رأْيِ جُمْهور العلماء، على الحَدِّ الأدْنَى أو القَدْر اللازِم لِدَفْع الضرر.(1/428)
- أنْ يَصِف المُحَرَّم- في حالة ضرورة الدواء - طبيبٌ عدْلٌ ثِقَةٌ في دينه وعلمه، وألاَّ يوجَد من غير المُحَرَّم عِلاج ٌآخَرَ يقومُ مَقَامَه... (393) .
كما أنَّ مُراعاة الإسلام للعُرْف والعادات مَشْروطةٌ هي الأُخْرَى بضوابط. فالعرف في اعتبار الشرع نوعان: صحيحٌ وفاسدٌ. فالعُرف الصحيح: هو ما تَعَارَف عليه الناس دُون أنْ يُحِلَّ حراماً أو يُحَرِّمَ حلالاً، والعرف الفاسد: هو ما تَعَارَفَهُ الناس ولكنَّه يُحِل حرامًا ويُحَرِّم حلالاً. وقد اشترط العلماء في العرف شروطاً لجوازه، أهمها: ألاَّ يُعارِض نَصاً تشريعياً آمِراً بِنَقِيض المُتَعارَف عليه، أو ناهِياً عنه، أو مَمْنوعًا بنَصٍّ خاصٍّ واردٍ فيه..
وبناءً على ما تَقَدَّم، فإنَّ الشرع قصَد إلى مُراعاة مَصالح العباد، فأحَلَّ لهم الطَّيْباتِ وحَرَّم عليهم الخَبائث. ولكنه حدَّد لهذه المصالح ضوابط حتى لا يتَساهَل الناس في الإفْتاء لأنْفُسِهِم بِفِعْل ما يَحْلُو لهم بِدَعْوَى الظروف والضرورة والمصالح... والمُتأمِّل في مُجتمعِنا يُلاحِظ هذه الالْتِباساتِ والشُّبُهات الكثيرة التي يقع فيها الناس بِوَعْيٍ أو بدون وَعْي. وبعض الناس تَشْتَبِه أمامهم السُّبُل والاختيارات، فيَرْتَكبون المُحَرَّمات ويتساهلون في " الإفتاء " لغيرهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون.(1/429)
وأحيانا يكون الفساد مَغْموراً بِصلاحٍ، والصلاحُ مَغموراً بفساد. فأحْكام الإسلام في القِصاص والرَّجْم وقطْع يدِ السارِق قد تَبْدو لِلْبعض هَمَجِيَّةً لا تُناسِب مَصالح البَشَر، أو قد يَعُدُونها امْتِهاناً للكرامة الإنسانية... والتَّعاملُ بالرِّبا قَدْ يُغْرِي البعض بالقيام بِمَشاريعَ إسلاميةٍ... وقد يكون ذلك من الهَوَى أو مِن قُصورٍ في النَظَر والتأمُّل، أو مِن إِرادَةٍ مُتَحَمِّسةٍ لِنُصْرَةِ الإسلام... ولكن هؤلاء مُخْطِئون في نَظْرَتِهم لِلمصالح ِ، فما هو مَصلحةٌ بالنسبة إليهم هو في أغلب الأحيان سبيلٌ إلى فسادٍ أكبرَ منه، فالذين لا يتحَرَّجون من التَّعامُل بالرِّبا يُعَمِّقون هذه المُمَارَسة الاستغلالية ويَزيدون الأوضاع تأزُّماً، والذين يخافون من القِصاص يَجْعلون المُجْرمِين يَسْتَسْهِلون هذه الكبائر، فيكون ذلك سبيلاً مَباشِراً لامْتِهان كرامة الإنسان، ولقد بَيَّنَت التَّجارِب التاريخيةُ القديمةُ والحديثةُ فَعالِية نِظام ِالعُقُوبات ِفي الإسلام... وما يقال في نظام العقوبات يقال كذلك في مجال تنظيم المجتمع والعائلة.(1/430)
والحِكْمَة مِن الحُكم الشرعي قد لا تَتَجَلَّى أمامنا في كل وقت؛ لأنها قد تكون ضِمْنِية غير صريحة، فقد لا نُدرِك بِوُضوحٍ الحِكْمة من بعض الشعائر التَّعَبْدِية، ومن الطريقة التي يُطالِبنا الشرع فيها بأدائها. فلقد أنْبَأَنا الله بِبَعض الحِكَم العامَّة من العِبادات (التَّقْوَى - الانْتهاء عن الفَحْشاء والمُنْكَر..) ولكن عدد ركَعَات الصلاة، أو صيام شهر رمضان، أو بعض مَناسِك الحَجّ.. لم يُفَصّل لنا وجْهَ الحِكْمة في كل جوانبها. وفي المعاملات: سَنَّ الإسلام أحْكاماً وحَرَّم أشياءَ وأحَلَّ أُخْرَى، وسَكَتَ عن أشياءَ رحْمةً بِنا غير نِسْيانٍ. وقد نَقِف على الحِكمة بسَهولة وقد لا نقف؛ فإذا وقَفْنا انتَهَت المُشكِلة، وإذا لم نقف فإنَّ علينا أنْ نعملَ بتلك الأحكام مُعْتَقِدين في حِكْمَة المُشَرِّع. فالمسلمون الأوائل صَدَّقوا بهذه الأحكام وعمِلوا بها "تَعَبُّداً لله"، فامْتَنَعوا عن أكْلِ لحْم الخِنزير لِمُجَرَّد أنْ أنْبأَهُم القرآن بأنه (رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، ولم يكونوا عارفين بِمَضارِّه المادِّيةِ. واليوم وقد بدَأَ العِلْمُ يقف على بعض الأضرار الموجودة في لحم الخِنزير، لا نقول إنَّه عَرَفها كلَّها، ولا نستطيع أن نقول إننا اكتشفْنا عِلَّة التَّحْريم، ولا نتَطاوَل فنقول: إنه يُمْكن القضاءُ على بعض الجراثيم ثُم نأكلُ هذا اللحم، لأن العِلة الصريحة والمُجَسّمة لم يَقَع اكتشافها ولذلك فإن الحُكْمَ سيبْقَى قائماً ما دامت السماوات والأرض... وما يقال في هذا المثال يقال في غيره من الأحكام الشرعية، فلا نقول: إن المرأة اليوم أصبحت تعمل خارج البيت، فلا حاجة لنا إذن بالنص القرآني الذي يقول: +فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ"..(1/431)
إنَّ تَصَرُّفا مِثْل هذا يُؤدي مُباشَرةً إلى نَقْض كافَّة أحْكام الشرع، فَضْلاً عن كَوْنِه يَتَضَمَّن مَعْنَىً مُؤَدَّاه أنَّ الله لا يعْلَم مَصالح عباده، وهذا باطل: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (394) . وهناك فريقٌ آخَرَ يقِفُ مَوْقِفاً آخَر مِن هذه المسألة، حين يَعْتَبِر أنَّ الأحْكام قابلةٌ للتَّغَيُّر، ويُمكن الاكْتفاءُ ببعض المبادئ التي جاء بها الإسلام. وبالنسبة لهذا الرأي "إنَّ الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشْكال التَّطْبيقية لهذا المبدأ فمَوْكُولَةٌ لِكلِّ عصرٍ على حسْب أوْضاعِه وأعْرافِه وقِيَمه. وبهذا يَسْتَوْعِب القرآن مُتَغَيِّرات العصور، ويَبْقَى كما أرادَ لَه الله صالحاً لكل زمان ومكان " (395) .
وهذا الرأي يُريد الدِّفاع عن الإسلام وإبْرازَه في صورةٍ تجْعلُه حسْب ظَنِّ صاحِبِه، مُتلائماً مع كل الظروف. ولكنه يُؤَدي هو الآخَر إلى اخْتزالِ الشريعة في بعض المبادئ، ونقول لِصاحِبِه: إنَّ الشريعة لم تَكْتَفِ بِسَنِّ مَبادئ العقوبات؛ بل سَنَّت كذلك الأحْكام، فلَمْ يكْتَفِ القرآن بمبدأ عُقوبة جَرِيمَة الزِّنا أو السرقة، وإنما حدَّد هذه العُقوبة، ولو كان يُمْكِن الاكْتِفاءُ بالمبادئ لَقُلْنا:إنَّ الإسلام لم يُضِف - تبْعاً لذلك - أشياءَ جديدةً وتشريعاتٍ مميزةً، ويكون بذلك قد اقْتَصر على تأْيِيد بعض العقوبات التي في عصره، فجميع القوانين أو أغلبها تُعاقِب على جريمة السَّرقة والخِيانةِ والزِّنا... وليس المُهِمُّ في المبدأ فقط، وإنما في الشكل كذلك .
إن هذا الرأي بِقَطْع النَّظر عن خلفِيَّاته ,لأننا لا نُناقِش الخَلْفِيات، يؤدي كذلك إلى تأْويل أحكام الشريعة الواضحة تأويلاً يُمَزِّقُها ويُفْسِدُها.(1/432)
لا شك في أن الشريعة جاءت لِترْفَع الحَرَجَ والمَشَقَّة، وقد أدْرك علماء الأمة هذه المعاني فَبَيَّنُوا سَماحة الشريعة، وغيَّر بعضُهم فَتْواهُ بتَغَيُّر الزمان والمكان، يقول ابن القيِّم: "فَصْلٌ في تَغَيُّر الفَتْوَى واختلافِها بحسْب تَغيُّر الأزْمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعَوائد؛هذا فَصْلٌ عظيمٌ جداً، ووَقَع بِسَبَب الجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة أَوْجَبَ مِن الحَرَجِ والمَشقَّة وتكْلِيف ما لا سبِيل إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأْتِي به" (396) .
وقد قال الإمام مالك ردَّاً على الخليفة أبي جعفر المنصور عندما طَلب منه تأْليفَ كِتابٍ يَتَوسَّط فيه بينَ رُخَصِ ابنِ عباسٍ وشدائدِ ابنِ عمر، قال: "لا تَفْعَل يا أميرَ المؤمنين، فقَد سَبَقَت إلى الناس أقاوِيل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قومٍ بما سَبَق إليهِم، فَدَعِ الناس وما اختارَ كلُّ قَوْمٍ لأنْفُسِهم" وفي روايةٍ أنه قال: "إنَّ أصْحابَ رسول الله تَفَرَّقوا في الأمْصار، وعِنْدَ كل قومٍ علمٌ، فإنْ حَمَلْتَهم على رأْيٍ واحدٍ تكون فتنة" (397) .
وبذلك يَتَبَيَّن أنَّ شريعة الإسلام مُتَوافِقَةٌ مع الإنسان في ثَباتِه وتَطَوُّرِه دُون أنْ تَتَحوَّل إلى " مَرْكوبٍ سهْلِ الامْتِطاء" يَتَطَاولُ عليه كلُّ إنسانٍ ).
( المرجع : " ظاهرة اليسار الإسلامي " ، محسن الميلي ، ص 145-158) .
الشبهة(15) : رد الدكتور عابد السفياني على شبهة تغير الأحكام بسبب الزمان وشبهات أخرى
توطئة :
يكثر الكلام عند بعض الباحثين على أن هناك قاعدة شرعية اسمها "تغير الأحكام بتغير الزمان" ويقصدون بعض (398) الأحكام المتصلة بالمعاملات دون العبادات، والتغير أوجبه عندهم تغير المصالح والأعراف والعادات.(1/433)
فالأحكام الشرعية المتصلة بمعاملات الناس وعاداتهم وأعرافهم جاءت لتحقق مصالح معينة، وهذه المصالح تتغير في كثير من الأحيان بسبب تغير الزمان، وحينئذ ينبغي - كما يرى أصحاب هذا الرأي - أن تتغير تلك الأحكام ما دام قد تغيرت مصالحها، ومن هنا وضعوا تلك المقالة وسموها قاعدة.
وفي هذا الفصل نحدد موضع النزاع بيننا وبينهم ونحرره وخاصة أنه شديد الالتباس، واهتم بعد ذلك بتصوير رأي المخالفين وذكر مستندهم ومناقشتهم مع تتبع كثير من التطبيقات التي هي موضع النزاع وبيان وجه الصواب في تفسيرها، وبذلك أصل إلى تحديد حجم هذه المقالة وما فيها من حق أو باطل، وسأحاول الوصول إلى المقصود دون إغراق البحث بالتفصيلات التي لا حاجة لنا بها.
المطلب الأول : تحرير موضع النزاع
المقصود " بالتغير" في الحكم الشرعي هو انتقاله من حالة كونه مشروعًا فيصبح ممنوعًا، أو ممنوعًا فيصبح مشروعًا باختلاف درجات المشروعية والمنع.
فهذه حادثة حكمها الشرعي المنصوص عليه أو المستنبط كذا، ثم تصبح في زمن آخر تحت حكم مخالف للحكم الأول، هذا هو جملة ما يصوره البحث عند المطلقين لتلك القاعدة أو المقيدين لها . (399)
وإلى هنا يبقى كثير من اللبس في تحرير موضع النزاع، أكشف عنه بإضافة أمر مهم جدًا ألا وهو النظر في تلك الحادثة التي تغير حكمها هل هي في الحالين سواء؟ هل الحادثة التي أخذت الحكم الأول ثم أخذت الحكم الثاني هي بالخصائص نفسها وبجميع الملامح والاعتبارات والحيثيات أم أنها تختلف في خصائصها.. من حالة إلى حالة؟.
وبالجواب عن هذا السؤال ينكشف لنا اللبس الذي أحاط بهذه القضية حتى كثر فيها القول وتشعب.
إن تلك الحادثة التي تغير حكمها إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما إن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها.(1/434)
فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها لأن ذلك هو النسخ والتبديل المنهي عنهما كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع، لأنها حينئذ حادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما وحادثتان لهما حكمان ليس غريبًا ولا عجيبًا، ولا يقال له تغيّر ولا تبدل.
فإذا خرجت الثانية عن موضع البحث رجعنا لدراسة الأولى، وهي أساس القول ومحل النزاع والدعوى التي عنون لها أصحابها بقولهم: "تغيّر بعض الأحكام بتغير الزمان" ومقصدهم حادثة وواقعة لها حكم منصوص عليه أو مستنبط تغير حكمها في وقت آخر والحادثة هي الحادثة بجميع خصائصها واعتباراتها.
فإن قيل كلا لا يتغير حكمها إن لم تتغير خصائصها واعتباراتها، قتل: فإذا تغيرت خصائصها واعتباراتها أصبحت حادثتين لا حادثة واحدة وهذه لا ينازع في اختلاف حكمها أحد البتة.
ونرجع مرة أخرى لمحل النزاع وننظر في أدلة القائلين بالتغير بعد تصوير مذهبهم.
وإنما قدت بهذه المقدمة رجاء أن تحدد نقطة البحث ويمسك القارئ القضية من أول خيط فيها، ونضرب مثالاً يوضح المقصود، فأقول: قتل زيد خالدًا عمدًا عدوانًا فحكم هذه الحادثة أن زيدًا عليه القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، تكررت هذه الحادثة بين رجلين آخرين بالصورة نفسها في أي عصر من العصور، يكون حينئذ الحكم هو القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم.
فها هنا حادثتان بخصائص واحدة تحفهما اعتبارات واحدة أخذت حكمًا واحدًا، لا سبيل لتغييره أبدًا.(1/435)
خذ الحادثة بطرفيها القاتل والمقتول وافرض وقوعها مرة أخرى لكن بدون عمد ولا عدوان، بل خطأ، يختلف الحكم حينئذ فلا قصاص بل دية مسلمة، ولكن الحادثتين ها هنا مختلفتان فاختلف حكمهما، في الأولى قصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، وفي الثانية لا قصاص بل دية مسلمة إلى أولياء الدم إلا أن يصدقوا، فلا عجب إذن أن يكون لحادثتين تختلف خصائصهما حكمان مختلفان، وإن كانت الصورة بادئ ذي بدء تبدو واحدة (400).
وهذه ليست في محل النزاع قطعًا، لأنه لا ينازع أحد فيها على الإطلاق، فحادثتان- وإن كانتا في الصورة واحدة- لكنهما في الجوهر مختلفتان - طبيعي أن يختلف حكمهما.
ونعود مرة أخرى لتحديد موضع النزاع فأقول: إن تغير حكم الحادثة إذا تغير جوهرها وأصبح لها خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى أمر طبيعي لا ينبغي أن ينازع فيه أحد.
ويبقى النزاع في تغير حكم الحادثة التي لم يتغير جوهرها ولا شيء من خصائصها وحيثياتها.(1/436)
نقول هذا ونؤكد عليه لأن هناك خلطًا بين هاتين القضيتين لا يمكن أن نخلص من آثار السلبية إلا أن ندخل في دراستنا لهذه المسألة من هذا المدخل وحينئذ نستطيع أن نفرق بين حكم الحادثة الواحدة ذات الخصائص والحيثيات الواحدة، وإن مرت عليها عصور متتابعة- ونجزم بأن حكمها الأول في العصر الأول ينبغي أن يكون هو حكمها نفسه في العصور الأخرى، لأن شيئًا من خصائصها وحيثياتها لم يتغير، وإذا أردنا أن نغير حكمها من المشروعية إلى المنع علمنا أنه لابد لنا من القول بالنسخ، والنسخ ليس لأحد من البشر، وإنما الذي ينسخ الأحكام هو الشارع، وقد انقطع بعد انقطاع الوحي، وبهذا نستطيع أن نفرق بين هذه الصورة - وبين الصورة الأخرى وهي انتقال الحادثة في الزمن الأول - لتصبح ذات خصائص أخرى تختلف عن خصائصها الأولى وهذه يختلف حكمها ويتغير لأن الأولى تعتبر حادثة مستقلة لها حكم خاص وذلك مثل حكم المؤلفة قلوبهم، وهو نفر من الناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم، جعلت الشريعة لهم حقا في مال الصدقة، يتألفهم الإمام به، ليثبتوا على الإسلام فَيُسْلِم من ورائهم ويَسْلَم المسلمون من فتنتهم وشرهم، وهذا المعنى لا يخاف منه إلا عند ضعف الإسلام وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم، فالنص يوجب إذا إعطاء هؤلاء المؤلفة لهذا المعنى، فيأتي الإمام ليطبق هذا المعنى فيجد أمامه حالتين:
الأولى : حالة ضعف الإسلام، وقوم يحتاجون لهذا التأليف.
الثانية : حالة قوة الإسلام، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم.
فيطلق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا ما يسميه العلماء تحقيق المناط (401) .
فهما إذا حادثتان لكل حادثة حالة خاصة تحتاج إلى حكم خاص ثابت لها لا يتغير، وحادثتان لهما حكمان كما قلنا ليس غريباً ولا عجيباً، وكلا الحكمين من الشرع.(1/437)
ومن خلال هذا التحليل ينكشف لنا خطأ من أراد أن يفرق بين التغيير والنسخ (402) ، حيث جعل النسخ حق الشارع، وقد انقطع بانقطاع الوحي، وعلل ذلك بأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل، وأما التغيير فيكون إلى بدل، وفرق آخر وهو أن النسخ يمكن أن يكون في جوانب متعددة في الشريعة، وأما التغيير فمحصور في بعض الجوانب كالمعاملات ونحوها، وذلك لأن التغيير هنا يكون سببه تغير المصالح والأعراف والعادات، فإذا انقطع النسخ لا ينقطع التغيير.
وبمراجعة ما تقدم ذكره يتبين أن هذا التفريق لا ينبني عليه فقه ولا يحمل شيئاً من الصحة.
وندلل على ذلك بما يلي إضافة لما ذكرته آنفاً :
1- أن التغير عند المؤلف هو التبديل والتحويل (403)، والنسخ هو التبديل، أي تبديل الحكم الأول بحكم آخر، فالمشروع يُجعل ممنوعاً والممنوع مشروعاً، أو نسخه مطلقاً إلى غير بدل، وهذا تغيير لصفته الشرعية، فبعد أن كان شرعاً صار غير ذلك، فمن جهة المعنى الأصلي لهما لا تجد كبير فرق بينهما.
وقد جعل المؤلف التغيير مضمونه "عبارة عن ترك الحكم الأول إلى الحكم الثاني " (404).
2- ما سبق وقد ذكرته من أن تغير خصائص الحادثة لتغير الأزمنة إنما هو عبارة عن تجدد حادثة أخرى غير الحادثة السابقة، وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً كما أسلفت ولا يسمى ذلك نسخاً ولا تغييراً.
أما أنه لا يسمى نسخاً فظاهر ذلك أن النسخ هو رفع حكم الحادثة نفسها أما إلى بدل- والحادثة هي الحادثة- وأما إلى غير بدل.
وأما أنه لا يسمى تغييراً في الحكم فظاهر أيضاً لأن حكم تلك الحادثة نفسها لم يتغير كما قلنا في مشروعية إعطاء المؤلفة قلوبهم، وإنما الذي تغير هو طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة لها حكم جديد، ولا يقال هنا تغير في الحكم، وإنما يقال تغير في طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة، فالمجموع حادثتان مختلفتان فيكون لهما حكمان مختلفان.
ولم يبق سوى هاتين الصورتين:(1/438)
* إما أن تكون الحادثة هي مع اختلاف الأزمان فلا يمكن تغير حكمها إلا بالقول بالنسخ ولا سبيل إلى ذلك.
* وإما أن تكون الحادثة في الزمن الجديد غير الحادثة في الزمن القديم واختلاف حكمهما حينئذ لا يقال له نسخ ولا تغيير، وهنا يتضح ما قلته أن مقابلة النسخ بالتغيير لا ينبني عليه فقه، والقول بأن النسخ قد انقطع والتغيير لم ينقطع لأن هناك فروقًا بينهما ليس صحيحًا.
ومن هنا يتبين موضع النزاع وهو الصورة الأولى والتغيير فيها هو النسخ والتبديل المنهي عنهما.
وأما الصورة الثانية فليست في موضع النزاع ولا ينبغي أن تقترب منه.
وبهذا يتضح لنا السبيل ونحن ندرس هذه المسألة الخطيرة في الدين.. ونستطيع أن نعلم السبب في عدم التفات فقهاء السلف إلى أمثال هذه المقالة، التي أسماها بعض الباحثين " قاعدة "، ذلك أنهم من الفقه والبصيرة، بحيث لا يلتفتون إلى القول بالتغير، لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون نسخًا وتبديلاً وهذا ليس لأحد من البشر، وإما أن لا يكون تغيرًا ولا نسخًا ولا تبديلاً، وإنما هو اختلاف وقائع وتحقيق مناط، ومن هنا نبدأ مناقشة هذه المقالة، لنتعرف على صحة القول بتغير الأحكام بتغير الزمان، وننظر هل هو قاعدة شرعية، وما هو موقف فقهاء الصحابة وفقهاء السلف منها ونقدم لذلك بذكر أسباب التغير عند هؤلاء الباحثين، ثم بعد ذلك نفصل القول في تصوير حقيقة هذه المقالة، ونعتمد في ذلك على أهم الكتب التي انتصرت لها، ثم نناقش ذلك ونتبعه بمناقشة بعض الباحثين فيما نسبوه إلى الإمامين الجليلين ابن القيم والشَّاطِبي.
المطلب الثاني :أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين :
التغير عندهم سببه تغير المصالح والأعراف (405) والعوائد (406) .
وقبل أن أتحدث عن صلاحية هذه الأسباب لتغير الأحكام يحسن بي أن أصور مذهب المخالفين.
تصوير مذهب المخالفين :(1/439)
يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة- وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيروا بعض الأحكام تبعًا لتغير المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة.
والسر في ذلك - والله أعلم - أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (407) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو ما دل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم: "كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله"، أو "كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا" الخ.. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم " (408).
والأحكام - فيما سوى العبادات - تتغير بتغير المصالح والأزمان (409) ، ويقول في موضع آخر: "وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها، والسبب في ذلك - على ما يظهر والله أعلم- أن هذا النوع من الأحكام مفوض لرأي الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا للمسلمين...". (410)(1/440)
ثم يتحدث عن هذا التبدل فيقول أنه تبدل في التطبيق فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم فُوض إليه الحكم في كثير من الأشياء "وخاصة ما يتعلق بالهيئة الاجتماعية كالمعاملات والعادات وما شابههما حسبما يراه ملائمًا للمصلحة، وهو مع ذلك لم يخرج عن كونه شرعًا أصله محكم لا يتبدل، والذي يتبدل فيه إنما هو التطبيق فقط...". (411)
وقال في موضع آخر تحت عنوان تبدل الأحكام بتبدل المصالح: نتيجة البحث: "عُلم مما سبق موقف المصلحة من النص، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها وليس هذا إهدارًا للنص بمجرد الرأي بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلاً، وأنه لا يتصور تعارض بينهما فضلاً عن أن يترك النص بها... " (412) .
ثم استدل على إثبات مراده هنا بأن هذا هو مذهب الصحابة وذكر لذلك تطبيقات من فروعهم أراد بها إثبات هذه النسبة، واستدل بوقائع كثيرة وقرر مستنبطًا منها ما يلي:
1- "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم " (413) .
2- "أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة" ويقصد إجماعهم على تغير الأحكام تبعًا لتغير المصالح (414) .
3- قال عن عمر رضي الله عنه: "فقد منعهم - أي أهل الذمة من العمل - أي في الذبح للمسلمين- مع نص الكتاب على حل ذبائحهم " (415) . ويقصد أن عمر أوقف العمل بنص الآية.(1/441)
ومع أنه يصف الصحابة بمعارضة الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلا أنه يفسر مقصوده فيقول: "والذي نقصده هو إثبات أنهم - أي الصحابة- فعلوا شيئًا لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعًا لاقتضاء المصلحة ولا يليق بهم أ، يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لم سلّم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم " (416) .
5- ".. أن من تتبع أحوال الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن" (417) .
وقد جاء كلامه هذا في معرض الرد على من اشترط إرجاع المصلحة إلى أصل معين ليشهد لها مبينًا أن هذا أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة (418) .
6- ".. ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، وإن كانت في مقابلة النصوص، واشتهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة. كيف وهم الذين أقامهم الله حرساً عليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة من ورائهم ! " .
"فإن قيل إن ما وقع من ذلك لم يصح النص فيه عند الصحابي ولا الإمام،أو صح ولكنه رآه غير حتم، أو كان حتمًا ولكن المخالفة راجعة إلى وصف منفك، قلنا مجرد احتمالات ممكنة، وليس كل ما ورد من هذا النوع يمكن تخريجه على هذه الوجوه وتلك الدعوى لا تسلم إلا إذا صحبها استقراء وحصر لذلك، وهو لم يوجد بعد " (419) .(1/442)
ويفهم المؤلف بعد ذلك كله أن المصلحة دليل كباقي الأدلة، فهو لا يتصور وجود مصلحة ملغية في هذا الباب "لأن المصلحة- كما يقول هو- إذا ثبت كونها دليلاً شرعيا في الجملة- كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي - كانت كباقي الأدلة الأخرى، في أن مجرد المعارضة لا يسوغ تسمية الدليل بالملغي.." (420).
وحاصل ما في هذه النصوص أن المؤلف يقرر الآتي:
أولاً : أن الصحابة عللوا الأحكام وعملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، وكانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، مع اضطراب في تقرير هذه القضية عنده ستأتي الإشارة إليه.
ثانياً : أن الصحابة عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات، وما يتعلق بالنظام الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص، وهذا يدل على أن المصلحة دليل كباقي الأدلة الأخرى.
ثالثاً : أن من المصالح ما يتغير بتغير الزمان؛ ولذلك فإن الصحابة بدلوا بعض الأحكام لتبدل الزمان والمصالح، وتارة يقول: أن هذا التبديل إنما هو في التطبيق، ويستدل على ذلك بوقائع متفرقة، ويرى مخالفة النص بهذه المصلحة لأنه قد ثبت حجية المصلحة كدليل شرعي بمجموع نصوص.
رابعاً : يعتبر هذا المنهج- الذي فهمه من تلك التطبيقات- هو المنهج الحق وأن الأصوليين حادوا عنه، واشترطوا شروطًا لم يثبت عليها دليل.
ومما تنبغي الإشارة إليه أن الاعتماد على تصوير هذا المذهب من هذا الكتاب خاصة سببه أن هذا الكتاب يعتبر عمدة في الانتصار لهذا الرأي، ومنه يغترف أولئك الباحثون الذين جاءوا من بعده، وستكون المناقشة في المطلب الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن حسب الترتيب الآتي (421) والله المستعان.
المطلب الثالث :(1/443)
مناقشة القول بأن الصحابة عملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، بل اتبعوا وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، وأنهم منعوا العمل ببعض الأحكام، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غيروا بعض الأحكام لتغير المصالح واشتهر ذلك بينهم فكان إجماعاً:
1- منع عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم: قال الدكتور مصطفى شلبي: " أحكام وردت مطلقة أو معللة بعلة فلما بحثوها وجدوا تلك العلل قد زالت، أو ما شرع له الحكم قد تغير، فغيروا الأحكام تبعًا لذلك.. من ذلك: حكم المؤلفة قلوبهم شرع الله إعطائهم من الزكاة وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الله كثيراً، وقال في بعض المواضع: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي تأليفاً لقلبه". هؤلاء المؤلفة قلوبهم منهم من كان مسلماً ضعيف الإيمان، ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإسلام، مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم حدث في زمن أبي بكر رضي الله عنه ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليهما كتاباً فاشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله ثم تفل فيه فمحاه!، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما. لا يرعى الله عليكما إن رعيتما...! فترك أبو بكر الإنكار عليه " (422) .
قال الدكتور: "وهذا دليل على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة الذي كثيراً ما يحتج به، وقد اعترف بكون إجماعهم حجة كل من قال بحجية الإجماع.(1/444)
مناقشته : نسلم أن إجماع الصحابة حجة، ونخالف في تفسير النص المنقول عن عمر بهذا التفسير، والاستنتاج السابق من المستدل غير صحيح.
والدليل على ذلك أن الآية الواردة في المؤلفة قلوبهم والتي أمرت بإعطائهم تتضمن حكمين في آن واحد وهما:
الأول : أن المؤلفة قلوبهم يعطون من بيت المال.
الثاني : وهو ضده أن غير المؤلفة قلوبهم لا يعطون.
فعاد الأمر إلى تحديد من هم المؤلفة؟.. والمؤلفة: هم أولئك الذين يكون الإسلام بحاجة إليهم لأنهم زعماء في قومهم فإذا أسلموا أسلم من ورائهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقد كانا من زعماء تميم فإذا أسلم أمثال هؤلاء تقوَّى الإسلام بمن ورائهم.
ولعلة يدخل في هذا المعنى ما أشار إليه المستدل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه حتى لا يضعف أويفتن وَيَكِلُ الآخرين إلى إيمانهم.
فالأول من معنى التأليف لتقوية الإسلام.. والثاني من معنى التأليف لمنع الفتنة أو الضعف.
وإذا وقفنا عند القصة المذكورة نجد أن التأليف لتقوية الإسلام غير متحقق، فالإسلام حينئذ كثير، وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، أما أنتما اليوم فتريدان أن نتألفكما والإسلام كثير، فأنتما لستما من المؤلفة قلوبهم اليوم وإن كنتم منهم من قبل، وهذا من عمر هو الفقه، وهو ما يسميه الأصوليون "بتحقيق المناط"(423).
فإذا أراد الفقيه أن يطبق النص على حادثة حقق مناطها سواء أكان الفقيه صحابيًا أو غير صحابي، فإذا وجد أنها تدخل في حكم النص أعطاها حكمه، وإلا منعها من الدخول تحته، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه.
فقد حقق في شأن الرجلين، وشأن الإسلام فعلم أنهما ليسا من المؤلفة قلوبهم، فمنعهم من الدخول تحت الآية ولم يعطهم..(1/445)
والنص الوارد في القرآن هو هو لم يُبَدل ولم يغير، فمن أعطى المؤلفة قلوبهم كما فعل رسول الله، أو ظنهم مؤلفة كما فعل أبو بكر فقد أعمل الآية.
ومن منعهم لأنهم غير مؤلفة فقد أعمل الآية، ولا تغيير ولا تبديل.
ومناط الآية ثابت إلى يوم القيامة، وهو: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومنع غير المؤلفة، والتطبيق بحسب الواقعة والحال، فأين التبديل والتغيير للحكم؟ بل أين الإجماع على ذلك؟
فهذا المثال لا يثبت من دعوى المؤلف شيئاً، وهو مثال يكثر الباحثون من استعماله على الدعوى نفسها..
وأضرب مثالاً آخر يوضح المقصود ولا أحد يخالف فيه إن شاء الله، فأقول: لو أن إنسانًا وقف مالاً على الفقراء من طلبة العلم في مسجد معين وجعل لكل منهم قسمًا محددًا، ثم إن الناظر أعطى الفقراء ومنع غير الفقراء فهل يعتبر نغيرًا لشرط الواقف ومطلبه؟ كلا.
ثم لو أن بعض هؤلاء الفقراء أصبح غنياً فارتفع عنه وصف الفقر، فلم يعطه الناظر شيئاً هل يعتبر قد غير من شرط الواقف أو مطلبه شيئاً؟ كلا.
ثم إن هؤلاء الذين ارتفع وصف الفقر عنهم، لو أنه عاد لهم، ثم عاد الناظر فأعطاهم أفلا يكون ذلك عملاً بشرط الواقف وقصده؟
إن عمل عمر رضي الله عنه لا يعدو هذه الصورة، ولم يغير ولم يبدل.
إذا عُلم ذلك فلا يجوز لمسلم أن يقول أن عمراً أوقف حكم الآية، ولا أنه ألغاه فالحكم هو الحكم، وعمر هو عمر الوقاف عند كتاب الله رضي الله عنه وأرضاه..
2- استدل على دعوى تغير الأحكام بتغير الزمان فقال:" مثال آخر: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات "(424) .(1/446)
هذا ما كان في زمن رسول الله، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصر النبوة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رواه أبو داود: "لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل" قال: "فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق، حينما كان الصلاح عاماً والقلوب عامرة بالإيمان، ولم يوجد الدخل في بعض النفوس فلو استمر الحكم مع تغير الحال لأدي إلى مفسدة عظيمة تزيد على ما يجلبه الخروج من المصلحة من تعليم الدين وإدراك فضل الجماعة..
ثم ذكر محاورة بين عبد الله بن عمر وابن له رواها أبو داود: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل" فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلاً والله لا نأذن لهن!! فسبه وغضب، وقال: "أقول قال رسول الله: ائذنوا لهن وتقول: لا تأذن لهن "(425).
قال المؤلف:" ولا غرابة في موقف ابن عمر هذا فذلك موقفه غالبًا إزاء النصوص فلم يكن من أهل المعاني عكس والده رضي الله عنه، وذاك ابنه قد سلك مسلك جده من اعتبار المعاني التي شرعت لها الأحكام، فيشرح لوالده السبب مع قسمه بالله، فهل ترى أنه يقسم مرتين وهو يسمع قول رسول الله ويرى غضب والده عليه وسبه له من أجل المخالفة من غير فائدة؟ لا شيء إلا أنه دين الله والمحافظة عليه بدفع المفاسد عنه.
فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف؟ لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر!!! ويقولون مقالته، وقد رأوا فساد الأخلاق عم كل مكان وتهتك النساء فاق كل حد وتنطع الشبان بلغ الغاية "(426)..
مناقشته: نسلم مع المؤلف الرد على نفاة التعليل ونعمل بالقياس والمصلحة التي شهد الشرع لها، ونسلم معه السعي للمحافظة على دين الله بدفع المفاسد عنه، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى ذلك، وبيانه:(1/447)
1- أن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين، ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟ والجواب: من الشارع لأنه كما تقدم لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة، فإذا قلنا هذا مفسدة فلابد من شهادة الشرع لما نقول، وكذلك إذا قلنا أنه مصلحة.
2- موقف ابن عبد الله عمر يدل على أن الخروج إذا ترتب عليه مفسدة يمنع، وهذا لم يدركه بالعقل، بل شهد له الشرع.
وهذه الشهادة موجودة في النص نفسه، ألا ترى إلى اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعدم منع النساء من الخروج- خروجهن غير متزينات حيث قال: "ولكن ليخرجن تفلات". فإذا لم يتحقق الشرط وهو الخروج تفلات لا يؤذن لهن لأنهم لم يلتزمن به.
فمن منع من الخروج علم أن الخروج غير تفلات مفسدة بالنص..
فالقول إذا بأن هذا مفسدة ليس اعتمادًا على العقل وإنما هو بشهادة الشرع..
فلا يقال: " فقد رأيت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق"؛ لأن الحكم السابق هو: عدم جواز منع النساء من الخروج إلى المساجد إذا خرجن تفلات وأما إذا لم يخرجن كذلك فقد تركن العمل بالشرط الذي يجيز الخروج لهن فيمنعن، وهذا حكم ثابت لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة..
بقي تحقيق المناط هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج.. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم.. وإذا تبين هذا سقطت دعوى المؤلف وغيره ممن يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان..
بقي أن نشير هنا إلى خطأ المؤلف في تصويره لمذهب ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: "فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف، لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر ويقولون مقالته" وهذا الكلام لا ينبغي أن يقال في حق أحد من الصحابة، بل الواجب على كل مسلم التأدب معهم.
ومع أن نفاة التعليل لا يملكون هذا فإن ابن عمر ليس ممن لا يتبع المعاني، حاصل ما في الأمر أنه شديد الحرص على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في مواطن صلاته في سفره ونحو ذلك.(1/448)
أما أنه معروف بأنه "لم يكن من أهل المعاني" فهذا ليس في النص المذكور دليلاً على ذلك.. ويدل على ذلك أن الصحابة يعملون بقاعدة سد الذرائع.. قال أستاذي الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة تعليقاً على محاورة ابن عمر لأبيه: "وهذا لا يفسر خلاف الصحابة حول قاعدة الذرائع، فإن أحدًا لا يقول بأن الشارع إذا نهى عن مفسدة فإنه يبيح لعباده الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليها، وإلا كان ذلك تناقضًا، وكان مؤديًا إلى مخالفة مقصود الشارع من دفع المفاسد ما أمكن الدفع، وسد كل طرق الشر ومسالكه، ولكنه يفسر الخلاف- والله أعلم- في تحقيق مناط هذه القاعدة، فبينما ترى عائشة وابن ابن عمر أن الزمن قد تغير، وأن الدين قد ضعف سلطانه على النفوس وأن الخروج إلى المساجد بالليل يتخذ ذريعة إلى المفاسد غالبًا، ولذلك يجب أن يمنع محافظة على قصد الشارع الذي عرف من نصوصه، يرى ابن عمر أن العصر الذي يعيش فيه لا زال عصر طهر وعفاف، وأن حصول مفسدة من خروج النساء نادر أو في حكم المعدوم، وأن في شهود النساء المساجد والجماعات مصالح محققة لا تترك لمفاسد معدومة، ولا يمكن القول بأن ابن عمر يجيز خروج النساء إلى المساجد بالليل، وإن كثر حدوث الفسق وغلب وقوع الفاحشة ممن يتذرعن بهذا الخروج إلى أغراضهن الخبيثة، فإن الشارع لا يرضي بالفاحشة ولا يفتح الطرق إلى الفسق قط..
فالخلاف في تحقيق مناط القاعدة وتطبيقها على الجزيئات(427).. فابن عمر رضي الله عنهما من أتباع المعاني والمحافظين على نصوص الشرع ومقاصده.
ثم إن أتباع الصحابة رضي الله عنهم أمثال ابن عمر وغيره والتمسك بآثارهم ليس فيه ما يدعو للعجب، فهم أولى بالا تباع لأن الحق لا يخرج عنهم، وكل واحد منهم لنا فيه قدوة.(1/449)
وأما موقف ابن عمر مع ابنه فهو الحق في بيان أدب التربية والتعليم، فإن طالب الحق مجتهداً أو غير مجتهد إذا تبين له نص أو معنى شرعي يوجب تخصيص نص آخر أو تقييده لا يجيز له ذلك أن يقسم ويصرح بالمخالفة.. بل عليه أن يبين أن ذلك النص قد خصصه أو قيده أو نسخه نص آخر، فإنكار ابن عمر في موضعه فكيف يقال لأحد أن رسول الله أمر أو نهي أو أذن، فيقول لا آذن والله، بل الحق أن يقول أن هذا الإذن له شروط مذكورة في موضع آخر ثم يستكمل الاستدلال هذا بالنسبة لبيان وجهة ابن عمر.. أما ابنه رضي الله عنه فإنما أخذته الغيرة الشديدة على الدين كما قال ابن حجر (428) فحملته على أمر غيره أولى منه وأسلم - والله أعلم.
3- حد الخمر: قال مستدلاً على أن الأحكام تتبدل بتبدل المصالح: "حرم الشارع الخمر وبين ما فيها من مفاسد، وما يعقب اجتنابها من مصالح كما سبق بيانه، ولكن ليس كل النفوس تتمثل خوفًا من عقاب أخروي أو رغبة في ثواب كذلك بل منها من لا يزجره إلا أن يرى العذاب رأي العين، فشرع الشارع الحكيم لمن يشرب الخمر فأمر بضربه، كما رواه أبو داود بسند عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال: "اضربوه" قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان". وفي بعض الروايات تقدير ذلك بأربعين، وفي بعضها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثا في وجهه التراب"، وفي بعضها بعد الضرب قال لهم "بكتوه " (429) .(1/450)
وروى البيهقي بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس: "أن الشُرَّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال والعصي. قال وكانوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا فتوخى نحو مما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر رضي الله عنه فجلدهم أربعين إلى أن قال: ثم كثروا فشار فقالوا: ثمانين " (430) .
والمشاورة رواها البيهقي أيضًا بسنده إلى الزهري قال: ".. أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة الكلبي قال: "أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فاسألهم فقال علي: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا " (431).
ثم قال المؤلف تعليقاً على هذه النصوص: "والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلمتبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق أن يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناها مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شئ من فعلهم " (432) .
المناقشة :
أولاً: إذا كان المؤلف يريد في كتابه "تعليل الأحكام" إثبات تعليل الأحكام فذلك مسلم، بل هو مذهب أكثر أهل السنة ما عدا نفاة القياس (433).(1/451)
ثانياً : أما إذا كان يريد أن يثبت أن بعض الأحكام يتبع المصلحة، وأن هذه الأحكام تتبدل بتبدل الزمان، وأن هذا إجماع الصحابة فهذا غير مسلم، وقد مر بيان أن ما استدل به سابقًا لا يدل له البتة.
أما استدلاله بهذا المثال فلا يدل له على دعواه، وبيان ذلك أن هذه المسألة وإن كان سندها العمل بالمصلحة، إلا أنها ترجع إلى أصل كلي، وهذه شهادة من الشارع لها بالاعتبار، ولنتعرف الآن على الأصل الكلي وعلى المصلحة المعتبرة هنا، والأصل الكلي- كما مر بيانه- هو أن الشارع اعتبر المظنة في الأحكام أصلاً شرعياً كليًا، والدليل عليه الاستقراء، فتأخذ المظنة حكم المظنون (434) .
ويبقى النظر بعد ذلك في دخول مسألة "حد الشرب" تحت هذا الأصل فقد تشاور الصحابة فعلموا أن الشرب مظنة القذف فأعطوه حكمه فقال علي- والصحابة له موافقون:"تراه إذا سكر هذى وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك ".
فهي مسألة كان لها حد مقدر في الشرع، وإنما كان يطبق الحد المقدر الذي يتم به الردع والزجر، وورد في بعض الأحاديث أن الصحابة حرزوه أربعين لما سألهم أبو بكر رضي الله عنه عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم (435) ، ثم ضرب هو أربعين، ثم اجتمع الصحابة وتشاوروا واعتمدوا في ذلك على المصلحة الشرعية التي شهد الشرع لجنسها، فجعلوه ثمانين كحد القذف؛ لأن المظنة تأخذ حكم المظنون..
فأين اتباع مجرد المصلحة؟ وأين تغير الحكم؟ وليس في النص مخالفة لفعل رسول الله ولا لقوله، ولا يجوز تسميته مخالفة لا في موضع الحِجَاج ولا في غيره..(1/452)
ومن الأسباب التي حملت المؤلف على الدخول في هذه الإطلاقات هو أنه يقارن بين طرفين: الأول القول بإثبات التعليل، والثاني القول بنفيه، وينتصر للطرف الأول دون أن يلتزم بشروطه، فإن مثبتي التعليل من أهل السنة لا يتبعون مجرد المصلحة، وإنما يشترطون أن تكون هذه المصلحة التي يجب اتباعها مصلحة لم يشهد الشارع بردها، فلابد أن تعرض عليه فينظر فيها أيقبلها أم لا؟
فهم يعللون الأحكام ويعتبرون النظير بالنظير، ويعملون بالمصالح المرسلة، وهم مجمعون بعد ذلك على رد كل مصلحة لا يقبلها الشرع.
والمؤلف غفل عن هذا وانتصر لمبدأ التعليل، وأدخل معه- شعر أم لم يشعر بخطورة ذلك- قوله " وإن بعض الحكام يتبع المصلحة".
والواجب أن يقيدها بالقيد الذي اتفق عليه القائلون بالتعليل، أما أن يطلقها هكذا من غير قيد ثم يرتب على ذلك أن بعض الحكام تتغير بتغير الزمان، وأن الصحابة كانوا يبدلون هذه الأحكام وأنهم مجمعون على ذلك، فذلك أمر لم يثبته بعد، ولا يمكن لأحد أن يثبته لوضوح بطلانه وفساده.
4- حد السارق: "يروي لنا مالك في الموطأ بسنده عن يحيي بن عبد الرحمن بن حاطب "أن غُلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر أراك تجيعهم، ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم " (436).
" وقد روى ابن وهب هذا الأثر في موطئه مُفسَرا وفيه: فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ثم أرسل وراءه من يأتيه بهم فجاء بهم فقال لعبد الرحمن: "أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذْ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك "(437).(1/453)
قال صاحب كتاب " تعليل الأحكام": "فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع، وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم، وهو أنهم جاعوا فأخذوا مال الغير، وذلك لفهمه أن القطع عقاب للجاني من غير حاجة ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات " (438).
المناقشة: اشترط الشارع لوجوب القطع شروطاً وهي:
1- أن يكون المسروق نصاباً.
2- أن يكون من حرز.
3- أن لا يكون فيه شبهة ملك.
4- أن لا يكون آخذه محتاجاً إليه لسد رمقه.
فإذا تحققت هذه الشروط وجب الحد، وإذا تخلف أحدها لم يجب (439) .
وعلى كل شرط من هذه الشروط دليل شرعي، فأما شرط النصاب والحرز فظاهر، وأما شرط انعدام شبهة الملك والحاجة إليه لسد رمقه فلأن من أخذ مالاً له فيه شبهة ملك لا يعتبر سارقاً لمال غيره، وكذلك من أخذ ما يحتاج إليه لسد رمقه إنما أخذ مالاً له فيه حق، كما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة وقد كان عمر يظن أنه يجيعهم فلذلك امتنع عمر عن قطعهم لوجود هذه الشبهة (440) .
فإذًا الحد الذي أوقفه عمر رضي الله عنه إنما أوقفه لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، بل إن عمر لا يستطيع أن ينفذ الحد الذي لم تحقق شروط تنفيذها لأن في ذلك مخالفة للشارع.
فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها- كما هو صنيع عمر - لا يقال له أنه خالف الآية.
وأيضًا فإن عدم القطع ليس سببه تعلق عمر بمطلق مصلحة أو دفع مطلق مفسدة أو اتباعًا لحكم العقل، بل سببه مراعاة نصوص أخرى وردت في السنة.(1/454)
وأما قول صاحب تعليل الأحكام: "لو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات " (441).
فيلاحظ عليه أمران:
الأول : إن كان مقصوده بالنص المجرد النص بدون النظر إلى معناه، فليس ما نحن فيه من هذا القبيل، ذلك لأن النصوص التي وردت في حد السرقة منها ما هو عام كالآية ومنها ما هو مخصص لهذا العموم.
فإذا كانت الآية توجب قطع كل سارق سواء سرق من حرز أو من غير حرز أو سرق نصابًا أو دونه أو تحققت شبهة بسبب ملك أو مجاعة، فإن السنة خصصت هذا العموم فلا يقطع إلا من سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة.
فتبين بعدئذ أن النص الوارد في القرآن مخصوص لم يأت لجميع الأوقات، بل يستثني منه وقت المجاعة لورود نص آخر يمنع القطع عند تحقق الشبهة.
فيصبح أن يقال أن تطبيق الحدود يتبع فيها النصوص بعد الجمع بينهما والنظر فيها، ومن فعل ذلك فقد وافق القرآن والسنة كما فعل عمر رضي الله عنه (442).
وأما عبارة المؤلف بأن الحدود لا يُتبع فيها النص المجرد وأن عمر خالف الآية فلا وجه لها. والله أعلم.
الثاني : أن الحكم: وهو وجوب القطع لمن سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة ثابت إلى يوم القيامة، وأما تحقيق مناطه وهو تطبيقه، فبحسب الحادثة الواقعة فإذا سرق غلمان ناقة بلا شبهة كاضطرار لسد الرمق قطعوا، وإذا سرقوا كما سرق غلمان حاطب لم يقطعوا لتلحق الشبهة، والحكم ثابت مع ذلك لا يتغير.(1/455)
5- استدل على قوله بأن من الحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها بأن:"أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم، من هذا ما رواه البخاري بسنده عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا (443) فأتوا النبي في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي الله عنه فأخبروه: فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتسى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" (444) . فقد عارض عمر إذن رسول الله بالنحر بالمصلحة وأقره الرسول على ذلك (445) .
مناقشته: إن هذا النص الذي استدل به على جواز معارضة حكم الشرع بالمصلحة مثل النصوص السابقة لا تدل على شئ من ذلك.
وقد ادعى الدكتور شلبي هنا دعوى عريضة لا برهان عليها وهي قوله: "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره..." مع أن كل مسلم يعلم أنه ليس لأحد من المسلمين أن يعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ } (446) .
ويقول سبحانه: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (447)
وقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (448) .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(449)(1/456)
ومعلوم أن الصحابة من أتبع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكيف يقال إنا "وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره".
وهذا المعلوم عن الصحابة من المحكم الذي لا يقبل الجدل.. وأما ما نقله فإنه في الحقيقة لا يعارضون ما قررته آنفا..
وحاصل ما في هذه الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه القوم في نحر إبلهم فأذن لهم في ذلك، ومثله ما علمناه من الشارع من الإذن في عمل المباحات، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعد ذلك أنهم إن نحروا إبلهم لم يبق لهم شيء بعدها فلم يأذن لهم وأمر الناس أن يتصدقوا عليهم، و"توالى المشي ربما أدى إلى الهلاك " (450).
وما فعله عمر إنما هو بيان لحقيقة المسألة، فلما ذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم بين حكمها وأمر الناس بالصدقة، فأين المعارضة؟
ثم إننا قد علمنا من السنة في مواضع كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، فيببينون له حاجتهم واستفساراتهم ثم يجيب عليها حسب الواقعة، ثم إذا تجدد له علم بحقيقة الواقعة بين حكمها بحسب ما يتجدد على جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم تتقدم منه الاستشارة (451) .
ألم تر إلى منزله صلى الله عليه وسلم في بدر حيث بين له بعض أصحابه أن هذا لا يصلح منزلاً لقتال القوم، فأمر رسول الله باتخاذ منزل آخر، ولم يكن في قول الحباب بن المنذر معارضة لرسول الله.
وكذلك قصة تأبير النخل فإنه أمرهم أن لا يؤبروا النخل، لظنه أن ذلك لا ينفعه فلما عُلِم أن النخل لم يثمر فاشتكى له أصحابه أجاز لهم ذلك، وأخبرهم أنه لا يعلم بحقيقة الواقعة؛ حيث قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهذه الحوادث مشهورة معلومة.. وكذلك ما نحن فيه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بأنهم إذا نحروا لإبلهم لا يبقى لهم شيء، فلما علم أمر لهم بالصدقة.(1/457)
وفي هذه الحادثة نفسها لو أن رسول الله أمر بذبح الإبل- بعد أن بين له عمر أنه لا يبقى لهم شئ- لما عارضه أحد من الصحابة، فكيف يتصور أحد أن في هذا معارضة..
ومن المعلوم أن المفتي قد يفهم الواقعة التي استفتي فيها على غير وجهها -أما لعدم العلم بحقيقتها أصلاً أو لعدم وضوحها- ثم يفتي فيها بحسب ما فهم فإذا بين له أن الواقعة ليست كذلك، بل هي كذا وكذا نظر في حكمها بهذا الاعتبار فكان لها حكم آخر، ولا يقال أن الحكم قد تغير.. ولا يقال أن البيان لحقيقة الواقعة معارضة.. والله أعلم.
ولنأتي بمثال تطبيقي نرد به على القائلين بتقديم المصلحة على النص، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة؛ حيث تظهر فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة التي يحسبها شرعية.. ولننظر أيقبل ذلك منه أو لا؟
روى البخاري بسنده عن عبدالله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله".
قال أبو بكر:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر لقتال فعرفت أنه الحق " (452).(1/458)
وقد سأل الناس أبا بكر في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى.. والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، إذ المصلحة في الظاهر إبقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين أهل الردة، بل إن عمر ظن أن المصلحة في ترك قتال أهل الردة، فلما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة- وهم مجتهدون- وعملوا بما ورد في النص.
وفي هذا دليل على أن المصلحة التي تعارض النص مردودة، وحتى وإن ظن المجتهد أنها مصلحة، وآية قبولها شهادة الشرع لها، فإذا لم يقبلها، فكيف يتصور أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من أحد معارضة النصوص بالمصلحة، التي يدعوا لها هؤلاء الكتاب!
ولذلك لم يقبل أبو بكر من أحد شيئًا من ذلك حتى مع أنهم مجتهدون بل بين ووضح، قال الإمام الشَّاطِبي:" ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (453) .
فهذه القصة تصلح مثالاً لمقابلة المصلحة للنص، وفي النهاية تحمل دلالة قوية على أن المصلحة المقابلة للنص لا عبرة بها، حتى وإن كانت من كبار المجتهدين.
وبعد هذا لا ينبغي لأحد أن يتصور أن المصلحة يمكن أن يعارض بها النص، وأن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض أمره- وهو يعلم- بالمصلحة فضلاً أن يقره رسول الله على ذلك، والله أعلم.(1/459)
ومن المفيد هنا أن نقول إن كل ما في جيل الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه، موضع للقدوة المباركة، حتى اجتهادهم الذي يعلمون أنه بعد ذلك مخالف للصواب فيرجعون عنه، هو موضع قدوة، لأن فيه معنى الرجوع إلى الحق واطِّراح مجرد التفكير البشري، والصبر عن متابعة رغبات النفس وحظوظها. وما أشد حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الإيمانية والمواقف العظيمة التي لا يتحقق الصدق في الدين إلا بها.
6- استدل المؤلف أيضاً على ما سبق- من قوله: إن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها وأن الصحابة مجمعون على ذبك بما روى أبو داود بسنده إلى جنادة بن أبي أمية قال:"كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته" (454) . وفي رواية الترمذي والدارمي "في الغزو" بدل السفر" (455) .
قال صاحب تعليل الأحكام:"هكذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجردًا من بيان سبب هذا النهي، فماذا فهم أصحابه فيه من بعده؟ أوقفوا عند النصوص وقصروا النهي على حد السرقة، وقالوا إن الشريعة نصوص تعبدنا الشارع بها، أم فهموا أن هذا النهي معلل بعلة قصد به دفع مفسدة عن الأمة أو جلب مصلحة لها ؟ " (456) .(1/460)
قال د. شلبي: "ولو تأملت هذه التعليلات في تلك الآثار لو جدت اختلافاً حسب اختلاف الأشخاص، فعمر وزيد رضي الله عنهما عللا بخوف اللحاق، وهذا يكون في الرجل العادي من الجيش، وأبو مسعود وحذيفة لم يعللا بذلك؛ لأن مثل أمير الجيش لا يلحق بالعدو عادة، بل يطمع العدو فيهم ويظهر ضعفهم أمامه إذا أقاموا عليه الحد، وإن كان الكل يلتقي عند شئ واحد وهو لحوق الضرر بسبب ذلك الفعل... وهذا التعليل لم يخالف نصًا ولا قياسًا ولا إجماعًا، وليس فيه إلا تأخير الحد لمصلحة راجحة، أما من حاجة المسلمين إليه أومن خِيف ارتداده ولحوقه بالكفار، ومثل هذا التأخير لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر الحد عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، وهو لمصلحة المحدود خاصة، فما بالك بما هو لمصلحة الإسلام عامة؟ فهذا النوع ورد الحكم فيه غير معلل فعللوه بما يترتب على الفعل من ضرر" (457).
مناقشته : أُسَلِّم للمؤلف ما ذكره من هذه الروايات، وأخالفه في النتيجة التي رتبها على ذلك..
وبيان ذلك: أن المسألة الفقهية وهي " أن الحدود لا تقام في أرض العدو، منقولة عن الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد، وقال الشافعي يؤخره حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحد إليه (458).
واستدل من قال بالتأخير بالأدلة التي سبق ذكرها وهي حجة لهم (459) ، وهو الصحيح.. وبقي أن نتعرف على سند هذه المسألة هل هو المصلحة المجردة؟ وهل يؤدي القول بأن الحدود لا تقام في أرض العدو إلى تغير الحكم الذي دل عليه النص الشرعي وهو وجوب إقامة الحدود؟(1/461)
والجواب أن سند هذه المسألة هو القاعدة المعروفة بقاعدة "سد الذرائع" وهي قاعدة عمل الصحابة والسلف الصالح بها، قال الإمام الشَّاطِبي: " أن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها،وكإتمام عثمان الصلاة في حجة بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة (460) إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هو أمور خاصة كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا } (461)
وقوله: { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ } (462) .
وفي الحديث : " إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه " (463) وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلافى مع ما حكموا به إلا في سد الذريعة " (464) .
وهذه القاعدة لها في الشريعة أدلة كثيرة وقد أحصى منها الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين تسعة وتسعين وهي تدل على أن وجوب سد الذريعة قاعدة من القواعد الشرعية قال: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف" (465) .
والاستقراء كما عبر عنه الشَّاطِبي هو: " استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ" (466) . ومن فوائد هذه القاعدة البناء والتفريغ، ذلك أنها تتضمن معنى - وهو السد - وقد استقرأت الأدلة من الكتاب والسنة فأفادت اعتبار الشارع له، بحيث لم يعد المجتهد يحتاج إلى دليل خاص إذا أراد أن يحكم على نازلة خاصة، بل يدخلها تحت عموم المعنى...(1/462)
يقول الإمام الشَّاطِبي: " ولهذه المسألة فوائد تنبي عليها أصلية وفرعية، وذلك أنه إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرئ معنى عامًا من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تَعِنُ، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذا صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه" (467).
وقرر الإمام الشَّاطِبي على هذا أن الإمام الشافعي والإمام أبا حنيفة يعتبران سد الذريعة، وما وقع الخلاف فيه من المسائل الجزئية لا يدل على عدم اعتبار هذه القاعدة عندهم، بل امتنع دخول بعض المسائل تحتها لوجود عارض يمنع من ذلك (468) ، وهذا ما قرره الدكتور حسين حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة؛ حيث استند على أدلة كثيرة في بيان أن الشافعي وأبا حنيفة وأحمد يسدون الذريعة فقال: "والخلاصة أن قاعدة الذرائع قاعدة متفق عليها بين الأئمة " (469) ..
فإذا أنضاف إلى ذلك عمل السلف بها من الصحابة ومن بعدهم تقرر عند المجتهد أن هذه القاعدة تدخل تحتها مفردات كثيرة ومن هذه المفردات مسألتنا هذه وهي منع إقامة الحدود في أرض العدو، وهذا من تطبيقات سد الذرائع فهو في الأصل فعل مأذون فيه، بل يجب تطبيق الحدود إذا تحققت الشروط الشرعية، ومنع تطبيق الحدود في الغزو سدًا للذريعة الفساد، وهذا الفساد متحقق إما في لحوق المحدود بالعدو، وإما بطمع الأعداء في المسلمين إن كان المحدود أميراً فيهم (470) .
فرجوع هذه المسألة إلى قاعدة سد الذرائع المعمول بها عند الصحابة والتابعين والأئمة هو السند الحقيقي لها.(1/463)
ولا تفتقر بعد ذلك إلى نص خاص ولا قياس ولا إجماع.. فمنع إقامة الحدود في أرض العدو ليس مستنداً إلى مصلحة مجردة، وليس مؤدياً إلى تغير الحكم الذي جاءت به النصوص وهو حكم ثابت لا يتغير، ومن شروط تطبيقه أن تنتفي الشبهة كما مر سابقًا، وأن تؤخر الحامل والمرضع ولا يكون الوقت شديد الحر أو شديد البرد، وأن يكون في أرض العدو..
وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص، ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا.. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهو يستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً.
وبعد: فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة..
ومثال الأول قول الشارع: " كل مسكر حرام " ، ومثال الثاني قولنا : هذا الشراب مسكر.
فإذا نظر الفقيه في شرابٍ ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع، فعمله هذا يسمى "تحقيق المناط"، وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه، فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكرًا أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإسكار عنه- كأن أصبحت الخمر خلاً- فأتى بجواز استعمالها، فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت.
ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة، ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (471).(1/464)
وكذلك مسألة تطبيق الحدود فإنه مشروط بشرط فإذا لم تتحقق فلا تطبق ، وليس ذلك لوجوب إقامة الحد.
ومثل ذلك منع خروج النساء إلى المساجد..
وأما مسألة حد الخمر فإنما اتبع الصحابة فيها المصلحة التي شهد لها أصل كلي، ولم يتبعوا فيها مجرد المصلحة، ولم يغيروا بها شيئاً، وكما أن هذه المسألة سندها المصلحة التي شهد لها الشارع، فإن سد الذريعة هي سند الصحابة في منع حد السكر ونحوه في الغزو.
وهكذا فقي مسألة قصر عثمان رضي الله عنه الصلاة في الحج وترك الأضحية فإنها من باب سد الذريعة، والمؤلف لم يشر إلى هذا، وكأن الصحابة يتصرفون في الأدلة بغير ضابط شرعي(472) ..
المطلب الرابع : بيان موقف الصحابة رضوان الله عليهم من النصوص
إذا تقرر ذلك يحسن بي أن ألم بموقف الصحابة من النص، وهو معلوم عند العلماء المعتبرين، فإنهم لم يكونوا يتركون النص إلى رأي أو مجرد مصلحة، بل كانوا يتشاورون ويردون المسائل إلى النصوص.. فاستدلالهم لا يخرج عن العمل بالنص أو الحمل عليه، وإذا استنبطوا منه معنى واحتجوا به فلا يلزم من ذلك أن يصرحوا بالطريق الذي استنبطوه به، لكن المقطوع به أنهم لم يكونوا يستنبطون الأحكام بمجرد الرأي، وقد سبق ذكر إجماعهم على ذم الرأي الذي لا دليل عليه (473) . فقول صاحب تعليل الأحكام " ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن"مخالف للإجماع المنقول عنهم، إذ كيف يذم الرأي من لا يلتفت إلى الأصول أو لم تكن ويتبع "وجوه الرأى " على حد قول المؤلف!
وبسبب اتباعه هذا الوهم المخالف للإجماع أخذ يطلق المصلحة من ضوابطها، ويحاول الاستدلال بها دون أن يقيدها بكونها مصلحة شرعية لا تعارض مقصود الشارع، ومقصوده يعرف من النص أو الإجماع.(1/465)
وبسبب هذا الوهم أيضًا نجد عباراته مضطربة فبينما هو ساع في تقرير مسلكه- الذي ليس له فيه وليّ إلا الطوفي (474) - تجده يضطرب أما سيل الحقائق العلمية التي تثبت أن المصلحة المعارضة للنص مردودة وملغاة، وأن ذلك هو منهج الصحابة والأئمة (475) .
ومن المواضع التي اضطرب فيها: قوله: "... إن المصالح التي عمل السلف بها في مقابلة النصوص لم تبلغ رتبة الضرورة، وأن العمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركاً للنص بالرأى في الواقع، وإنما ترك للنص بالنص بل بالنصوص الكثيرة.." (476) فهو هنا يقرر أن السلف لم يقدموا المصلحة على النص، وأنهم اعتبروا المصلحة التي شهدت لها نصوص كثيرة، فالمقابلة ليست بين مصلحة مجردة ونص، بل بين مجموعة نصوص ونص، ويستوي أن يكون هذا رأيًا للمؤلف، أو نقلاً عن السلف فإنه قد أقره كما هو ظاهر كلامه، ويحاول أن يجمع بين مذهب الصحابة ومذهب التابعين، فيقول:"... وبعد: فتلك طريقة هؤلاء الفقهاء السابقين في التعليل، وهو فيها لم يخرجوا عن طريقة صحابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: عللوا أحكام الله رغم أنف المنكرين (477) وحكموا المصلحة في التشريع، ولكن في دائرة المعتدلين، فلم يجمدوا على النصوص تعبداً بألفاظها، بل فتشوا وأخرجوا كنوزاً ثمينة من وادي معانيها، وزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد فأباحوا الأول، ومنعوا من الثاني، جعلوا عمادهم في ذلك التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف في كل شيء كما فعل الفقهاء والأصوليون المتأخرون، ومع هذا فلم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة، وإن صادم قاطعًا في شرع الله، أو قاعدة من قواعد الدين، بل رأيناهم في غير موطن يردون هذا المصلحة ويشددون النكير على من رام العمل بها" (478) .(1/466)
والذي أقوله هنا: أنه ما دام أن الصحابة والتابعين لا يجرون وراء الأوصاف في كل شيء، ولم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة وإن صادم قاطعًا من الشرع، أو نافى قاعدة من قواعده، إذا كان الأمر على هذا الحال فما بال المؤلف يقول عنهم مقالته السابقة؟ وحاصلها أنهم لا يتبعون الأوصاف- هكذا على الإطلاق- بل يتبعون وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت قواطع أو قواعد أو لم تكن!!!
ثم إذا تركنا هذا الأمر إلى غيره، فلماذا ينفر من اشتراط الفقهاء والأصوليين شهادة الشارع للمصلحة حتى تكون معتبرة وإلا فهي ملغاة، لماذا ينفر من هذا، وهو يحكي مذهب الصحابة والتابعين بأنهم ما كانوا يقرون مصلحة تصادم قاطعًا أو قاعدة..؟!
والدليل على نفوره منم الاشتراط وقوعه في ضده أنه نقل مذاهب الأصوليين وانتصر لمذهب الطوفي... وذكر هذه المذاهب كما يلي:
(أ) أن المصلحة المعتبرة هي التي لها أصل معين، ونسبه للقاضي.
(ب) أن المصلحة المعتبرة هي المشابهة للمصالح المتفق عليها أو المنصوص عليها، ونسبه للإمام الشافعي وجمهور الحنفية.
(ج) أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تصادم نصًا ولا إجماعًا تحققت المشابهة أم لم تتحقق، قربت من مورد النصوص أو بعدت، ونسبه للإمام مالك.
(د) المصلحة معتبرة على الإطلاق مرسلة أو غير مرسلة في المعاملات، وما شابهها حتى وإن عارضت نصًا أو إجماعًا متى ما كانت راجحة!!!
قَالَ: " وهناك مذهب رابع خلاصته أن المصالح يعمل بها مطلقًا مرسلة أو غير مرسلة، ويعني بها التي عارضت نصًا أو إجماعًا متى كانت راجحة لكن في صنف من الأحكام "المعاملات وما شابهها"، أما العبادات والمقدرات فلا وزن للمصلحة فيها وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً" (479) .(1/467)
وقد حاول مناقشة الأصوليين- ما عدا رأى الطوفي فإنه مر عليه سريعًا وبنى له مسألة أخرى نصره بها -كما يظن (480)- وليس المقصود هنا مناقشته فيما نسبه إلى الأصوليين فمثل هذه البحوث لا تكفي فيها وريقات كما صنع هو (481) ، وكذلك لا تكفي فيها ما قد أسجله هنا من ملاحظات، ذلك أن نسبة المذاهب إلى الأصوليين تحتاج إلى بحوث متخصصة في هذا الموضوع، وأكتفي هنا بالرد عليه فيما نسبه إلى فقهاء الصحابة- كما صنعت سابقًا- مع بيان اضطرابه وتفنيد خطئه في تفريقه بين مذهب الصحابة والأصوليين مع مناقشته خاصة فيما نسبه إلى الشَّاطِبي وحاول الرد عليه انتصارًا للطوفي.
أما نسبة مذاهب الأصوليين إلى كتبهم وتحرير موقفهم من المصلحة فذلك لا يحتاج مني إلى بحث- فلقد حرر تحريرًا حسناً، وأكتفي بما حرره أستاذي الدكتور حسين حامد حسان وأبني عليه (482). ومن ذلك قوله: "كل ضروب الاجتهاد المستندة إلى أصل اعتبار المصالح في الأحكام تعتبر استدلالاً بالنصوص الشرعية وليس فيها عمل بمصلحة مجردة ولا ترك لنص من نصوص الشريعة " (483) .
ويقول: وقد " أبطلنا دعوى أن مالكًا يقدم رعاية المصلحة على النص أو يترك بها خبر الآحاد، وأثبتنا أن جميع الفتاوى التي نسبت إليه واتخذت دليلاً على هذه الدعوى غير مفيدة في هذا المطلوب وبينا أسباب ذلك" (484) .
" أثبتنا أن المصلحة التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار مصلحة مردودة باتفاق... وهي المصلحة الغريبة التي حكى الغزالي والشَّاطِبي الإجماع على عدم الأخذ بها.. وقلنا أن المصلحة التي يقول بها الطوفي لا تختلف عن هذا النوع من المصالح المردودة إلا في الطوفي يقدمها على النص والإجماع " (485).
وقد حاول محمد شلبي الانتصار له - مع أن الطوفي إنما اتبع المصالح المردودة وحاول تقديمها على النص والإجماع، وقد أثبت العلماء المعتبرون قديمًا وحديثًا مخالفته لسائر الأئمة وشذوذه عن الإجماع .(1/468)
ومن عجب أن ترى صاحب تعليل الأحكام يحاول أن يسند رأي الطوفي
بقوله: "... وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً " (486).
وأنت ترى أنه لم يصرح بأسمائهم ولا بفتاويهم مع أنه كثيراً ما مجد بحثه هذا واعتبره تجديداً في علم الأصول ودعا فيه إلى مراجعة ما كتبه الأصوليون بعد أن وصففهم بما يكره وستأتي الإشارة إلى ذلك..
فأين هذه الجماعة من العلماء الذين وافقوا الطوفي أهي جماعة الصحابة التي ينسب إلى فقهائها معارضة الرسول ومخالفته، والتي ينسب إلى فقهائها تبديل بعض الأحكام بسبب اتباع المصالح!!!
أم أن هذه الجماعة من الأصوليين. وقد زعم الطوفي بأن رأيه الذي قَالَ به لم يسبقه إليه أحد قبله!!
أمَّا بعد الطوفي فلم بلق هذا الرأي إلا النقد والرد وبيان أن صاحبه خرق الإجماع وتولى غير سبيل المؤمنين، حتى أن بعض الباحثين في هذا العصر فندوه وبينوا أنه رأي ساقط لا عبرة به، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (487) .
ثم جاء آخرون فأعجبهم هذا الشذوذ عن الإجماع وظنوه علمًا معتبرًا فاتبعوه- وما علموا أن فائدة الإجماع هو القطع في المسألة فلا تعد تحتاج إلى بحث وخاصة وقد تقرر هذا الإجماع في قرون متطاولة- فلما تبعوه أخذوا ينتصرون له مزينين له بشبه متكاثرة، بل ذهبوا إلى أكثر مما ذهب إليه الطوفي، فإنه شهد على نفسه بنفسه أنه لم يسبق إلى هذا الرأي، ومعني هذا أنك إذا بحثت لِتَجِد من ينصره قبله فلن تجد أحدًا.
ومع ذلك فقد حاول بعض الباحثين نصرته ببعض النقول والتطبيقات التي سبقت الطوفي - كما صنع صاحب رسالة تعليل الأحكام- فإنه قَالَ بتبدل الأحكام في المعاملات وما شابهها؛ لأنها بزعمه تتبع المصلحة، وأن ذلك هو إجماع الصحابة، مع أن هذا هو رأي الطوفي- الذي يزعم أنه لم يسبق له، فأين تجد عليه إجماعاً.(1/469)
وقد تتبعت أبرز تطبيقاته (488) وأثبت أنه إنما يتعلق بشبه لا بدليل وأن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يتبعوا مجرد المصلحة، ووجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، فإذا أضفت هذا مع ما قرره الباحثون من أن أحدًا من الأئمة لا يقدم رعاية المصلحة على النص وبقي الطوفي على زعمه وخروجه عن الإجماع واتباعه غير سبيل المؤمنين وسقطت محاولة الشلبي وغيره من الباحثين الذين بذلوا جهدًا جبارًا لإحياء سقطة الطوفي وجعلها (489) دينًا يتبع، يريد صاحب رسالة التعليل أن يستمسك به ويخالف عليه علماء الأصول المعتبرين.
المطلب الخامس : مناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصوليين
قَالَ: " والأصول في نظري غالبها بحوث نظرية جاءت وليدة الزمن، اضطر إلى وضعها أتباع المذاهب المقلدون ضبطاً لمذاهب أئمتهم ودفاعاً عنها في مجالس المناظرات فجاءت ملتوية حسبما يوجه إليها من الطعون والاعتراضات " (490) .
ويقارن بين طريقة الصحابة والأصوليين فيقول :
".. إن الصحابة رضي الله عنهم عللوا بالمصالح ابتداء من غير تقييد بأصل معين يردون إليه الحوادث، وهؤلاء - أي الأصوليين- عنوا عناية تامة بالبحث عن الأصول المعينة بل كانوا يبحثون عن علل تلك الأصول لأجل القياس عليها ما قع وما لم يقع وشتان بين الأمرين " (491).
ثم أخذ في ذكر السبب الذي يراه تفسيرًا لاعتماد الأصوليين على أصل معين:(1/470)
فقال : ".. هذا - في نظري- هو سر عناية الأصوليين بالرد إلى أصل معين في تعليلهم فعلوا ذلك ليدفعوا عن أنفسهم تهمة التشريع بالهوى أولاً، وليوفروا على ذلك الفقه التقديري أحكامه ثانياً، وليأمنوا الخطأ في الاستنباط والتخريج ثالثاً، كما قَالَ إمام الحرمين:"إنه لم يصح عن أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ضبط المصالح التي تنتهض عللاً للأحكام، ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأي، فمسالك الضبط النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها، فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة، وليس حائدًا عن المآخذ المضبوطة، فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعني في ضبط الشرع، ولهذا رد الحذاق (يعني من الأصوليين) إلى أصل معين، فإن صاحبه يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشارع بمثلها" (492) ويعتبر الشلبي أن كلام الجويني اعتذارًا عن منهج الحذاق من الأصوليين يمكن أن يقبله هو مع أنه لا يسلم ولا يرجع عما ونصف الأصوليين نبه، فالخطأ متحقق فيما فعلوه من طلب الأوصاف الظاهرة واتباعها، وطلب أصل معين يردون إليه العمل بالمصلحة، يقول مناقشًا القائلين باشتراط رد المصلحة إلى أصل معين: "ويرد على هؤلاء أن الأدلة قامت على اعتبار المصلحة وإن لم تستند إلى أصل معين، فدعوى قيام الدليل على انتقاء العمل بها بناء على عدكم الدليل الدال على اعتبارها مجرد كلام لا يسنده برهان، (وكلامه هذا مع الأصوليين) وأما مسألة الضبط التي قالوا، فاحتياط يسلم لهم لو كان له ركن يعتمد عليه، أما وأنه أمر مخترع لم ينقل لنا عن أحد من الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن " (493).(1/471)
وبناء عليه فإنه يرى أن اعتماد الضبط أمر مخترع لم ينقل عن أحدد من الصحابة فلا حرج عليه في رده.
ويعتبر أن الأصوليين جافوا منهج الصحابة وسعوا إلى ضبط منهج الاستدلال رغبة منهم في هذه الأمور:
1- ليدفعوا عنهم تهمة التشريع بالهوى.
2- ليأمنوا الخطأ في الاستنباط.
3- ليأمنوا الخطأ في التخريج.
هذا هو الذي يسعي المؤلف إلى إثباته- رفع ضوابط المصلحة واتباع وجوه الرأي دون التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن.
وفيما ذكرناه من منهج أهل السنة في الاستدلال - عند مفردات المسائل الأصولية التي تحدثت عنها فيه كفاية لنقض هذه الدعوى.
ولننتقل نقلة أخرى نصحح فيها نصوص أهل العلم التي تعجل المؤلف في نقلها وفهمها، كما صححنا نقله عن الإمام الشَّاطِبي عند دراسة موضوع القياس.
فنقول- وبالله التوفيق- إن النص الذي نقله عن الجويني قد عزله عن بقية النصوص التي وردت في كتاب البرهان، وأمر آخر وهو أنه نقل هذا النص نقلاً غير صَحِيح واجتهد في تصحيح النسخة التي نقل عنها..
وإليك النص كما جاء في "البرهان" مع الاكتفاء بالإحالة على بقية نصوص الكتاب التي تسنده:
قَالَ الجويني: " فإنه لم يصح عن أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ضبط المصالح التي تنهض عللاً للأحكام، ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأي، فمسلك الضبط: النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها، فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة، وليس حايداً عن المآخذ المضبوطة.
فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع، ولهذا رد الحذاق (الاستدلال الذي لا يستند) إلى أصل، فإن صاحبه لا يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشرع بمثلها" (494) .
والسبب الذي أوقع المؤلف في الخطأ، أنه حذف من كلام الجويني قوله: "فإن صاحبه لا يأمن من وقوعه.." حذف كلمة "لا" ليصبح الكلام: "فإن صاحبه يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشارع بمثلها".(1/472)
وأقول إن النص الذي نقله- مع أنه اجتهد فيه كما أشار هو (495) إلا أنه مع ذلك لا يدل على ما أراد، وإليك تحليل نص البرهان سواء بقراءة محققه الأستاذ عبد العظيم الذيب، أو بقراءة صاحب كتاب تعليل الأحكام وذلك في النقاط التالية:
1- أن القراءة واحدة ما عدا حذف كلمة " لا " أو عدم حذفها.
2- أن النص ورد فيه صراحة أن الصحابة لا يتبعون كل مصلحة تظهر للناظر ولا يطلقون ذلك، وليس عندهم ضبط للمصالح يمنع من اتباع كل مصلحة تظهر لذي رأي إلا إتباعهم لمواقع الأحكام ومعانيها، فإذا لاح لهم المعنى وسلم عن المعارضة تبين أنه متلقي من أصول الشريعة، وليس حائداً عن المآخذ المضبوطة.
وهذا الذي نقول إن النص دل عليه هو نص كلام الجويني في موضع قريب من هذا فقد قَالَ عن الصحابة:"أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها، فإذا ظنوها، ولم يناقض رأيهم فيها أصل من أصول الشريعة أجروها" (496) .
3- أن الزيادة التي بين المعكوفين قد وردت في نسخة أخرى كما أشار المحقق، وهي تفيد المعني السابق آنفاً وكذلك النص الذي نقله "شلبي" فما أورد المحقق يفيد أن الحذاق من الأصوليين ردوا الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل، وذلك لأن صاحبه لا يأمن وقوعه في الخطأ، وكذلك النص الآخر يفيد المعنى نفسه، وهو أن الحذاق ردوا إلى أصل معين؛ لأن صاحبه يأمن وقوعه في الخطأ.
وهذا معنى ما قلته آنفا أن المعنى متسق على كلتا القراءتين، والنصوص الأخرى تؤكد ذلك كما أسلفت، ولا نكتفي بما نقلناه، من البرهان، بل نشير إلى ما نقله صاحب تعليل الأحكام في كتابه حيث نقل كلام الجويني من أن الصحابة "كانوا يرسلون الأحكام ويعقلونها في مجالس الاستشوار بالمصالح الكلية" (497) ويقصد الجويني بالمصالح الكلية الشرعية التي دلت عليها النصوص، فلابد من البناء على أصل شرعي إذًا..(1/473)
ومن هنا نعلم فساد قول المؤلف:"بقي أن يقال أن الصحابة رضي الله عنهم عللوا بالمصالح ابتداء من غير تقييد بأصل معين يردون إليه الحوادث، وهؤلاء (يعني الأصوليين) عنوا عناية تامة بالبحث عن الأصول المعينة، بل كانوا يبحثون عن علل تلك الأصول لأجل القياس عليها ما وقع وما لم يقع، وشتان ما بين الأمرين " (498) .
وهذا كله منه إنكار على الأصوليين الرد إلى أصل معين، ورغبة منه في تفسير هذا الأمر الذي يتعجب منه (499) ويعتبره - كما مر معنا قوله من قبل - أمرًا مخترعًا لا حرج عليه في رده.
بقي أن نفسر السبب الذي حمله على الاعتماد على كلام الجويني ظنًا منه أنه يساعده على مسلكه الفاسد، وعنده ندرك سبب الاضطراب الذي يظهر من مجموع نصوصه.
فنقول إن الإمام ابن الجويني وهو بعرض منهج الإمام الشافعي في الاستدلال بالمصالح، نسب إليه أنه يقول:"من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهو القدوة والأسوة في النظر لم يكن لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، كانت أو لم تكن " (500).
فأخذ الدكتور شلبي هذا النص وعزاه لابن الجويني (501) .
وهذا يفسر اضطرابه، وفيما مضى كفاية للرد عليه، ولا بأس أن نشير هنا إلى أن ما نسبه ابن الجويني إلى الشافعي يخالف المشهور عنه في كتابة الرسالة فإنه شديد الضبط لعملية الاجتهاد بحيث تكون اعتمادًا على نص أو معناه (502) ، فكيف ينسب إليه مثل هذا.
على أنه قد ثبت أنه ليس أحدًا من الأئمة يعارض النصوص بالمصلحة، ويبنها على غير أصل(503)
والصحابة هم أشد حرصًا منهم ومحافظة على مقصود الشارع، والأئمة مدركون لذلك، وملتزمون به (504).(1/474)
قَالَ الدكتور حسين حامد مبينًا مقصد الجويني: "قوله أن أحدًا من الصحابة لم يكن يعمد إلى تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه يعني - والله أعلم - الأصل الذي يدل على الحكم نصًا، أو المعنى الجزئي الذي يشهد النص لعينه لا مطلق الأصل والمعنى، وإلا فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون على الأصول التي شهدت لجنس المصلحة التي يستندون إليها في الفتوى بمصلحة جزئية، وإن كانوا لا يذكرون هذه الأصول، وذلك لمعرفة الصحابة، وقد تذوقوا الشريعة، بمثل هذه الأصول، فالذي يقصده إمام الحرمين أن الصحابة ما كانوا يذكرون الأصل الذي يدل لفظاً على الحكم، وما كانوا يلجأ ون إلى بيان مصلحة جزئية منن نوع المصلحة التي يفتون بها وإنما كانوا يكتفون بالمصلحة الكلية" (505).
وهذا التفسير حسن، فمن استحسنه فذاك، ومن لم يستحسنه فليعد على عبارة الجويني بالتصحيح، لأن المعنى الذي ذكر آنفًا لا يخالف فيه أحد، ولا يقبل المراجعة، إذ هو المعلوم من فقه الصحابة والأئمة.
وقد أحسن أئمة السلف، لما ضبطوا أصولهم في الاستدلال وميزوها عن مسالك أهل الأهواء، ونحن نذكر ببعض البدهيات التي كانوا يجتمعون عليها لنرد مقالة الدكتور "شلبي" التي اعتدى فيها على الأصوليين، من ذلك:
1- ألا يقدم بين يدي الله ورسوله، وأن العبرة بما دلت عليه النصوص ولا عبرة بما يخالفها من رأي ومصلحة.
2- إذا لم يوجد نص في المسألة اتبع المجتهد المعنى الشرعي ورده إلى الأصول الشرعية، وأن من رد إلى غير أصل فقد ابتع الهوى.
3- أن العقل ليس بشارع، وأن الرأي الذي يعارض الشريعة مذموم بالإجماع ولو زعم له الناس أنه المصلحة والمنفعة.
4- وأن ترك هذا المنهج الذي نقله الأئمة من الصحابة والتابعين وحكوا عليها الإجماع - رمى في عماية واتباع لغير سبيل المؤمنين (506) .(1/475)
ولذلك لما انحرفت عنه الفرق الضالة (507)، ضلت وأضلت وهلكت، فلم تبق في يديها شريعة ثابتة ولا شاملة، وإنما استحوذت عليها الأهواء فكانت هي بضاعتها فورثتها لمن بعدهم ممن اتبع ضلالتهم.
ومن علم حال الفرق- كيف هلكت وأهلكت- وعلم أن سبب ذلك هو اتباع مسلك في الاستدلال لا قرار له ولا ضابط من الشرع، علم خطورة عبارة صاحب "تعليل الأحكام" فيما ينسبه إلى الصحابة، وعلم عظم خطئه، أيضاً في استغرابه على الأصوليين اتباعهم للأصول المعلومة، وردهم المصلحة إليها، مبتعدين عن الوقوع في التشريع بالهوى، سالمين من الخطأ في الاستنباط.
ومن عجب أن يرى أن صنيع الأصوليين هذا حدث يستحق التنبيه والنقد، وأن صنيعه وصنيع الطوفي يستحق الإشادة والمدح، وأنه هو الطريق لتحقيق شمول الشريعة.
والحق أن رفع ضوابط منهج الاستدلال - سواء ما يخص المصلحة أو غيرها- عمل جد خطير، ولا يهون من خطورته الخوف من أخطاء بعض الأصوليين الذين غرقوا في الجدل، وابتاع مسائل لا يبنى عليها عمل (508) ، ولا الخوف من القائلين بمنع التعليل ونفي القياس، ولا الرغبة في أن تكون الشريعة شاملة لجميع المدنيات (509) ولا أي شئ آخر.
ذلك أن معالجة المسائل الشرعية ينبغي أن تضبط بمنهج متوازن وأن الأطراف المذمومة لا سبيل إلى الخروج عن أخطائها إلا بإلتزام منهج وسط هو منهج أهل السنة في الاستدلال، ومن أبرز معالمه:
1- أنه الطريق إلى المحافظة على ما كان عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
2- أنه الطريق المحقق في عالم الواقع ثبات الشريعة وشمولها.
3- أن فيه الجواب الشافي عن الآراء التي ترفض القياس.
4- أن فيه الجواب الشافي عن الآراء التي تتبع المصالح التي تعارض النص والإجماع وتقول بتبديل الأحكام وتغييرها.
5- أن فيه السلامة من الوقوع في مسالك الفرق الضالة أو التأثر بها في التفكير والاستنباط(510).(1/476)
وهذا المنهج هو الذي نحتاج إلى التعرف عليه، والتعريف به ورد ما يخالفه لأنه هو الطريق الوسط الذي يحفظ لنا تلك المعالم.
وأن هذا الذي نقول به وندعو إليه، ليس فيه حجرًا على من يريد التصحيح لما تضمنته كتب الأصول من أخطاء، لأنا نقول أن ذلك واجب ومتعين، وقد بينت نفي هذه الرسالة أن هناك من الأمور ما يحتاج إلى تصحيح، واخترت في ذلك سبيل السلف الأول في تلك الأمور التي درستها (511)، ولكن الذي أنبه عليه هنا أن حاجتنا لتصحيح أصول الفقه حتى نميز أصول أهل السنة عن أصول أهل الأهواء لا تعني أننا سنخبط خبط عشواء، ونقول أن الجدل غلب على أصول الفقه فلننصرف عن الضوابط ونتبع المصالح والآراء التي غلب على أصول الفقه فلننصرف عن الضوابط ونتبع المصالح والآراء التي لا تشهد لها الشريعة بالقبول، كلا، لأن أصول الفقه عند أهل السنة هو الأداة التي يحفظ بها العقل المسلم من الأهواء، ولذلك ضلت الفرق لما حادت عن أصول أهل السنة في ذلك واتبعت المسالك الفاسدة، ولا سبيل إلى سلامة الهدف - الذي هو تصحيح مسار أصول الفقه وإخراجه من آثار أهل الأهواء وطبيعتهم في الجدل ومخالفة السنة، لا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى الأمر الأول الذي كان قبل نشوء الأهواء، وفيه من الصحة والسلامة وحسن الأداء ووضوح الغاية واتباع السنة الخير الكثير، وقد وسع والحمد لله من قبلنا في أمورهم جميعاً فليسعنا ما وسعهم، ولنستمر في بيانه والبناء عليه دون أن نضل عنه.(1/477)
فمن طلب هذا الهدف وجب على كل أحد معونته، وقد حاولت أن أذكر بأصول أهل السنة في الاستدلال في كل موضع بحسبه، وفي ذلك رد تطبيقي على مقالة صاحب كتاب "تعليل الأحكام" ومن سلك مسلكه، وطلبه التصحيح- بزعمه- ليرفع الضوابط وينشر المسالك الفاسدة، ويحيي الآراء الشاذة- متخذًا من الجدل الذي غلب على أصول الفقه- سلمًا يصل بها إلى مبتغاه، فهذا لن نقبل منه هذه الوسيلة ولن ننخدع بهذه الغاية، فإنه لابد من صدق الغاية وسلامة الوسيلة.
المطلب السادس : مناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً
يقول المؤلف: "إن المصلحة إذا ثبت كونها دليلاً شرعياً في الجملة-- كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي- كانت كباقي الأدلة الأخرى.." (512).
أدلته:
1- أن القرآن دل على اعتبار المصالح مطلقًا.. من ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (513).
فهي كما قَالَ العز بْن عبد السلام أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها، والزجر عن المفاسد بأسرها، فإن اللام والأنف في الألفاظ الواردة فيها للعموم والاستغراق (514)..
2- وقوله لرسول صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (515).
".. ومن الرحمة الأذن لهم على لسانه صلى الله عليه وسلم في جلب المصالح ودفع المفاسد عنهم، ومعلوم أن للناس مصالح تتجدد بتجدد الأيام، فلو وقف الاعتبار على المنصوص فقط لوقع الناس في الحرج الشديد، وهو مناف للرحمة لأنه نقمة.." (516) .
ثم استدل بأدلة أخرى- من مثل التطبيقات التي سبق ذكرها - ليقرر أن الصحابة كانوا يفتون بالمصلحة في مقابلة بعض النصوص ولم ينكر أحد منهم ذلك فكان إجماعاً (517) .(1/478)
3- دليل عقلي: حاصله أن الشارع راعى مصالح الخلق في المعاش فكيف لا يراعي لذلك في الأحكام الشرعية، إذ هي بالمراعاة أولى، فوجب القول بأن الشارع راعى المصلحة في الأحكام الشرعية، فحينئذ لا يجوز إهمالها بوجه من الوجوه.
وإذا تتبعنا مقاصد الشارع في جلب المصالح ودرء المفاسد، قطعنا بأن المصلحة لا يجوز إهمالها، والمفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص.
ومثل ذلك - ولله المثل الأعلى- كمن عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم عنه ما يحبه وما يكرهه، في كل ورد وصدر، ثم جاءته قضية فيها مصلحة أو مفسدة لا يعرف فيها قوله: "فإنه يعرفه بمجموع ما عهد من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة، هذه الأدلة مجتمعة تنادي باعتبار المصلحة منصوصاً عليها أو غير منصوص، وليس لنفاة المصالح هنا متمسك.." (518).
المناقشة : نسلم معه القول بأن نفاة العمل بالمصالح الشرعية مخطئون، ونسلم معه أن الشارع جاء بمصالح العباد، وأن هذا أمر مقطوع به، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى المصلحة الشرعية..
فأقول : إن الشارع كما جاء بمصالح العباد، جاء بالطريق الذي يدلنا على ذلك، فجعل النصوص محققة للمصلحة ابتداء، وذلك لأنها هي رحمة للعالمين، فإن القرآن هدى ورحمة، فلو لم تحقق نصوصه المصلحة فكيف يكون هدى ورحمة.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فلو لم تكن أحاديثه تحقق المصلحة والرحمة، فكيف يكون هو رحمة للعالمين، ومن ثم فإن أدلة المؤلف - وهي أدلة القائلين بالمصالح المرسلة - تدل دلالة قاطعة على أن هذه النصوص من الكتاب والسنة هي الهدى والرحمة والمصلحة.(1/479)
ألم يقل المؤلف أن الله أقام للناس مصالحهم في معاشهم، وهذا يقتضي أن يقيم لهم مصالحهم في الأحكام الشرعية؟ فكيف يتصور بعد ذلك أن النص يمكن أن لا يحقق المصلحة، ما دام أن الأحكام الشرعية تحقق المصالح في اعتقادنا وأن هذه النصوص من الكتاب والسنة هدى ورحمة فإذا لم تحقق المصلحة للناس فمن يحققها!!
فالمصالح إذن جاءت بها الشريعة، والطريق للتعرف عليها جاءت ببيانه الشريعة أيضاً، ألم يبين الله لنا أن كتابه هو الصراط المستقيم وأن سنة نبيه هي البيان له، وأن من اتبع هذا النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام هُدي إلى ذلك الصراط المستقيم.
أفلا يقتضي هذا إتباع نصوصه ورفض الأهواء وعدم تحكيم العقول المخالفة لمقتضى تلك النصوص.
كيف وقد جاءت هذه الشريعة بذم الأهواء، وذم التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وجعلت المفارق للإجماع المشاق للرسول صلى الله عليه وسلم متبعًا غير سبيل المؤمنين.. أفلا يكفي كل ذلك للقطع بأن الهدى والخير والمصلحة والرحمة في ابتاع هذه النصوص، فكيف تنكص أقلام هؤلاء الكتاب على أعقابها ثم يقولون أن المصلحة تقدم على النص، أو لم يكفهم إقرارهم أن الشريعة جاءت لإقامة المصالح وأنها هدى ورحمة، فكيف يطلبون مصلحة فيما يخالفها..
وإذا قالوا: إن الوقوف عند المنصوص لا يكفي فإن هناك وقائع جديدة، قيل لهم هذا لا يعذركم في تقديم المصلحة على النص، لم تصنعوا صنيع الصحابة والتابعين والمجتهدين من بعدهم، ألم يرجعوا إلى النصوص فيستشهدونها على ما ظنوه مصلحة، فإن شهدت قبلوا شهادتها راضين، أليست شهادة من شريعة الرحمة والعدل، وإن لم تشهد بل ردتها، فلم لا يرضون بحكمها، أليست هي شهادة من شريعة الرحمة والعدل.
ألم يقولوا: إن معاشرتك للإنسان الفاضل الحكيم يدلك على مقصوده إذا جاءت واقعة جديدة وظننت أن هناك مصلحة ألا ترجع إلى استشهاد طريقته وعادته وإلفه فإن شهد لك أقدمت ولم يشهد أحجمت.(1/480)
أفلا يرجعون إلى نصوص الشرع يستشهدونها فيما ظنوه مصلحة، فإن شهدت النصوص بالموافقة شهدوا وقبلوا، وإن شهدت بالرد شهدوا وردوا..
- وهذا هو المنهج الذي سار عليه الصحابة والتابعون وأئمة الاجتهاد وأجمعت عليه العلماء- فإن صنعوا ذلك تحقق لهم إدخال الوقائع المستجدة تحت نصوص الشارع وتحقق لهم شمول هذه الشريعة، والتزموا بمنهج الحق في الاستنباط وتركوا عقولهم وما تزينه لهم من الأهواء والشبهات..
وها هنا شبه متولدة عن الشبه السابقة، فإن المقدمين للمصلحة على النص- بطريق البيان والتخصيص كما يفعل الطوفي، أو بتعطيله كما يفعل الشلبي- إذا احتدم النقاش قالوا: تقدم المصلحة إذ كيف تهدرون الأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة وهي في مجموعها تفيد القطع (519) .
وإني لشديد العجب أن يرى أمثال هؤلاء الكتاب أن تقديم مصلحة - ظنوا أنها مصلحة - سببه عندهم هو أن الأدلة دلت على اعتبار المصالح، وأن هذا يبرر لهم تقديمها على النص.
وما علموا أن الاستدلال لم يتم لهم، وإلا فكيف علموا أن المصلحة هذه قد دخلت في المصالح التي دلت الأدلة على اعتبارها، هل قَالَ الشارع اعتبرت المصالح التي تدركها عقولكم بدون شهادتي لها، أم قَالَ إن النصوص جاءت بالمصالح فانظروا كيف تتعرفون عليها من طريق هذه النصوص.
ثم إن الأمر أسهل من ذلك كله، أفلا يلتفتون إلى أمر آخر، يقولون كيف نهدر الأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة ؟ أفلا يقولون كيف نهدر الأدلة التي أوجبت اتباع النصوص وجعلته دينًا وحذرت من سواه.(1/481)
أفلا يعلمون أنه كتاب أنزل من لدن حكيم عليم، وبيانه من رَسُول كريم رحيم بوحي من الله، يحدد الخير والمصلحة ويرسم طريق السعادة، ويفضل بين الحق والباطل، ويكشف تزين الشيطان وشبهه للخلق- حيث يدعوهم إلى الفساد باسم المصلحة، وإلى الشرك باسم اتباع الآباء والأجداد، فما ترك الوحي شيئاً من شبه الشيطان إلا وكشفه، ثم يقال: إن المصلحة يمكن أن تكون في غيره، عجيبة من عجائب الفكر، وضلالة بينة حملها وزرها الطوفي وتبعه عليها من تبعه وذلك كله دليل على قصر العقل البشري وإن من ظن بنفسه أنه سيأتي بعلم جديد يخالف به الإجماع، فإنما يحكم على نفسه بالوقوع في الآراء الساقطة ويذهب يخبط في عماية، ونسأل الله العافية والسلامة..
المطلب السابع :عدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشَّاطِبي :
يعتبر صاحب تعليل الأحكام أن الشارع قصد بالعبادات- التي كلف بها الناس- الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها.
وأما المعاملات: فإنه نظر إليها أولاً من جهة تحصيل المصالح للأنام وهو الأصل فيها.. ثم أخذ في الاستدلال على التقسيم بثلاثة أدلة وهي:
1- الاستقراء: فقد وجدنا أحكام المعاملات تحفظ على الناس مصالحهم وتدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يحرم في حال ويباح في حال أخرى كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويباح في القرض (520).
2- " أن الشارع توسع في بيان العلل والمصالح في تشريع هذا النوع، عكس العبادات، وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة، وبطائفة خاصة وبإقليم خاص، وفي زمن خاص، وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الأصر والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رفع عنهم (521) .(1/482)
3- "إن أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإصلاح والإفساد، ولم تبطل إلا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات وأما عبادتهم فقد ضلت فيها عقولهم، ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلا ما نقل لهم من شريعة الخليل عليه السلام.
بعد اتفاق العلماء على هذا القدر، اختلفت أنظارهم في أمر وراء هذا هو اعتبار التعبد فيها أولا، فمنهم من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط، بيد أنه لا يدعي خروجها عن التشريع، بل يعترف أنه ماض فيها، ولكن من هذا الطريق حسبما أرشدنا الشارع إجمالاً وتفصيلاً، ويرى فريق آخر أن التعبد له نصيب في هذا النوع لا يليق بالمكلف إهداره، فإذا ظهر التعبد في شيء وجب التسليم به والوقوف مع النصوص... استند هذا الفريق في مدعاه "وهو أن التعاملات ملاحظ فيها التعبد إلى أمور منها":
ثم أخذ في ذكرها ومناقشتها..
وقبل ذكر هذه الأدلة ومناقشتها نحصّل ما يريد قوله من كلامه السابق، وهو كما يلي:
1-أن العبادات قصد بها في الشرع- أولاً وأخراً- الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها.
2- أن المعاملات قصد بها في الشرع تحصيل المصالح أولاً، وهو الأصل فيها.
3- أن العلماء اتفقوا على هذا القدر واختلفوا فمنهم:
(أ) "من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط..".
(ب) "ويرى فريق آخر أن التعبد له نصيب.. فإذا ظهر التعبد في شيء وجب التسليم به والوقوف مع المنصوص".
وقبل أن أفصّل القول في ذكر أدلته ومناقشتها أقول أن حاصل ما ذكر في ست صفحات هو نقل عن كتاب الموافقات (522) للإمام الشَّاطِبي قسمه إلى أقسام:(1/483)
قسم استدل به على أن المعاملات الأصل فيها إتباع المصالح، وذكر الأدلة كما هي من الموافقات، وقسم استدل به على أن المعاملات ملاحظ فيها معنى التعبد- منكرًا لهذا الرأي- وقد ذكر أدلة الشَّاطِبي وناقشها (523) .
وفي كل ذلك لم ينسب شيئًا من ذلك إلى الإمام الشَّاطِبي لا في القسم الأول الذي استند عليه، ولا في الثاني الذي ناقشه.
وأجمل ملاحظاتي على ترتيبه لهذا الذي نقله مع بيان مقصود الإمام الشَّاطِبي.
1- أنه قال إن قصد الشارع أولاً وأخراً في العبادات الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها.
ونضيف إلى ذلك أن الشريعة جاءت لمصالح العباد سواء ما يسمى بالعبادات أو بالعاديات، وأن هذه المصالح متحققة في شريعة العبادات علمنا منها ما علمنا وجهلنا منها ما جهلنا، ومقصود المؤلف هنا أنه لا يجري فيها القياس ونحوه، والتنبيه هنا إنما هو تنبيه على العبارة، ذلك أن الشارع قصد في العبادات تحقيق مصالح الخلق، وأمرهم فيها بالامتثال، وعبارة الإمام الشَّاطِبي، هي: "الأصل في العبادات- بالنسبة إلى المكلف- التعبد دون الالتفات إلى المعاني، فيقف عند مجرد ما حده الشارع: "ولذلك كان الواقف من مجرد الإتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح.." (524).
مع التسليم بعد هذا كله أن العبادات جاءت رحمة للعباد محققة للمصالح في الدنيا والآخرة.
2- أنه قال: إن المعاملات نظر الشارع فيها من جهة تحصيل الأصل فيها، فينبغي أن تتبع بها المصالح فقط.
ومع التسليم بأنها جاءت لتحقق المصالح، إلا أنه لا يقال أنها تتبع المصالح فقط، فإن من المعلوم أن الشارع أنزل شريعته لتحقيق مصالح العباد، ولم يقل أنها تتبع المصالح، ولم يستنبط أحد من المجتهدين هذه القاعدة فيقول: إن أحكام المعاملات تتبع المصالح: "ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط..".
وانظر إلى ما يقوله الإمام الشَّاطِبي:(1/484)
" الأصل في العبادات- بالنسبة إلى المكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني".
ومعنى الالتفات إلى المعاني: جواز التعدية إما بطريق القياس أو بطريق العمل بالمصلحة المعتبرة شرعًا.
فإذا عُلم المعنى الذي من أجله شُرع الحكم، وعلم وجوده في الفرع، عرف هذا المعنى بطريق من طرق الاستنباط المعلومة..
أما أن فريقًا من العلماء قال أن المعاملات تتبع المصالح، والمصالح فقط وهي الميزان الصحيح، لأن الشارع نظر في تشريعه للمعاملات من جهة تحصيل المصالح، فهذا أمر لم ينسبه المؤلف إلى أحد من العلماء، وإنما هو مذهب الطوفي، الذي حاول الانتصار له بنصب هذه المسألة للبحث(525)
والصواب كما تبين من قبل، أن الأئمة المجتهدين- نظروا في المعاملات فوجدوا أن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني، فإذا علموا معنى معتبراً في الشرع عدوه إلى الفرع بطريق معتبر من طرق الاستنباط.
أما اتباع المعاملات المصالح فقط وبلا ضبط فهذا لم يقل به أحد من العلماء كما أشرت آنفاً، وما زعمه المؤلف فيما سبق أن الضبط أمر مخترع قد تبين بطلانه، وهو ما يزال يجادل على ذلك، ويستنكر أن تخضع المصالح إلى ضبط المسالك المعلومة في أصول الفقه، كما سيأتي معنا في مناقشته لكلام الشَّاطِبي مع أنه لم ينسبه إليه.
وإذا علم هذا- تبين خطؤه في قوله: وهذا القدر اتفق عليه العلماء، ومقصوده بالقدر الذي اتفق عليه العلماء هو أن العبادات قصد بها الشارع الامتثال أولاً وآخر ولا دخل لاعتبار المصالح فيها، وأن المعاملات شرعت أولاً من جهة تحصيل المصالح للأنام وهو الأصل فيها.(1/485)
بقي أن نقف عند قوله: "فمنهم من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط بيد أنه لا يدعي خروجها عن التشريع، بل يعترف أنه ماض فيها، ولكن من هذا الطريق حسبما أرشدنا الشارع إجمالاً وتفصيلاً (526) . ويقصد بذلك أن هذا الفريق من العلماء يوافقه على أن المعاملات تتبع المصالح فقط وهو الميزان الصحيح، وهذا واضح من عبارته..
أما الطريق الذي نعرف به هذه المصالح فيحتاج إلى بيان، فإن كان مقصوده أن المصلحة لا ينبغي أن تخرج عن التشريع، بمعنى أنها لا تكون مصلحة إلا إذا وافق عليها الشرع فهذا حق، وأن المصلحة هي ما أرشدنا الشارع إليها إجمالاً وتفصيلاً، فما فصلته النصوص من المصالح فلا نحيد عنه، إذ المصلحة متوفرة فيه، وما لم ينص عليه يعرف بمراجعة نصوص الشارع فما شهدت له بأنه مصلحة قبلناه وإن شهدت برده رددناه.
فإن كان هذا مقصوده من هذه العبارة، فالصواب فيه ظاهر ويقتضي هدم ما ردده في رسالته هذه من أن بعض النصوص لا تحقق المصلحة، وأنها لهذا لابد من تعطيلها مؤقتاً، لأن من الأحكام ما يتبدل بتبدل المصالح، وأن دعوى الأصوليين في اشتراط الضابط أمر مخترع، إلى آخر ما ردده في كتابه
والظاهر -والله أعلم- كما هو وارد في النصوص التي جاءت بعد ذلك أنه ما زال ينافح عن دعواه السابقة (527) ، وأن عبارته هذه ما هي إلا علامة بينة على اضطرابه، إذ يقال له: إذا كانت المصلحة لا تخرج عن التشريع، فما بالك تصرح بأن النص قد لا يحقق المصلحة، وأن هذا يقتضي تعطيله مؤقتاً، وإذا كان الطريق الذي تعرف به المصالح في المعاملات هو طريق الشارع إجمالاً وتفصيلاً، فما بالك تصرح بأن الضبط أمر مخترع عند الأصوليين، وحاصل ما عندهم هو أن المصلحة لابد من اعتبارها، إذا أرشدنا إليها الشارع إجمالاً كأن يشهد لها بالاعتبار، فإن لم يشهد لها فلا تعتبر، لأنا لم نعرف طريقاً شرعياً يعتبرها.(1/486)
ومقابل هذا الخلط والاضطراب وعدم الضبط ننقل عبارات الإمام الشَّاطِبي - التي نقل المؤلف بحثه الرابع منها انتصاراً لمذهب الطوفي- لنرى هل أحسن النقل حين نقل أم لا؟ وهل أحسن الفهم؟ وهل أحسن المناقشة؟
حاصل ما يريد الشَّاطِبي تقريره في المسألة الثامنة عشر والتاسعة عشر أن :
1- الأصل في العبادات- بالنسبة للمكلف- التعبد دون الالتفات إلى المعاني.
2- الأصل في العادات- بالنسبة للمكلف- الالتفات إلى المعاني (528) .
3- الأول يقتضي الوقوف عند ما حده الشارع وهذا معنى التعبد.
4- الثاني - وهو أن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني فإذا وجد فيها التعبد فلابد من التسليم والوقوف مع المنصوص، وذلك لأن التعبديات علتها مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان(529).
5- "أن العاديات وكثير من العبادات لها معنى مفهوم وهو "ضبط وجوه المصالح" إذ لو ترك الناس والنظر، لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل..." . (530)
6- كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع عليه.
7- كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلابد من اعتبار التعبد فيه.
ثم أخذ في الاستدلال على ذلك وقال بعده: "... وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد، وإنْ عُقِلَ المعنى الذي لأجله شُرع الحكم، فقد صار إذن كل تكليف حقاً لله، فإن ما هو لله فهو لله، وما كان للعبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله، إذ كان لله أن لا يجعل للعبد حقاً أصلاً".(531)
وتبين من كلام الإمام الشَّاطِبي، أن مقصوده من بحث هذه المسألة، هو إثبات أن التكليف هو حق لله، سواء أكان من العبادات أو المعاملات، ولهذا ذكر الأدلة على أن "كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلابد من اعتبار التعبد ثم ذكر أربعة أوجه تدل على ذلك..(1/487)
وبعد معرفة ما يريد الشَّاطِبي تقريره في الموافقات، أعود إلى المقارنة بين ما هو موجود في الموافقات وما نقله الشلبي مع بيان الفوارق:
أولاً : كذكر الإمام الشَّاطِبي ثلاثة أدلة على أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني:
أولهما : الاستقراء: وهو ما ذكره الشلبي سابقاًَ.
والفارق بينهما أن الشَّاطِبي جعله دليلاً على ما ذكره وحرر الضوابط فقال مبيناً: إنا فهمنا من العادات اعتبار المصالح، وذكر لذلك أمثلة منها: جواز الدرهم بالدرهم في القرض مع حرمته في المبايعة، وحديث "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، "ونهى عن بيع الغرر"، "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"... إلى غير ذلك مما لا يحصى وجميعه يشير- بل يصرح- باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني" . (532)
والشَّاطِبي - كما هو واضح من عبارته- أحسن الاستدلال على مقصوده وحرر ضوابط إتباع المصالح، وهو أن الشارع إذن في ذلك، وضوابطه هي إتباع مسالك العلة.
والشلبي بضد ذلك نقل أو كلام الشَّاطِبي وترك آخره الذي فيه هذه الضوابط.
وقد سبق في أكثر من موضع استنكاره لها وزعمه أن الضبط أمر مخترع.
ثانياً : استدل الشَّاطِبي بأن "الشارع، توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلفته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد منها إتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص (533) ، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك..". (534)(1/488)
وأضاف الشلبي- بعد أن لخص الدليل الذي ذكره الشَّاطِبي - قوله: "وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح، ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة وبطائفة خاصة، وبإقليم خاص وفي زمن خاص، وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الإصرار والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رفع عنهم " (535).
وهذه الإضافة من المؤلف تخدم القضية التي ينافح عنها في كتابه، وما زال يمهد لها، ويقوّي من شأنها، والشبهة التي أصابته ما زالت تلاحقه وهي ظاهرة في قوله: "... ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة..." فهو يرى أن النص قد لا يحقق المصلحة، وبذلك يجب أن نتعرف عليها ولو خارج النصوص، ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح هكذا بغير حرمة للنص وبغير شهادة من الشرع لهذه المصالح المزعومة.
بل إنه يرى أن وضع هذه الضوابط نوع من الإصر والأغلال.
أما مسألة خصوص بعض الأحكام فلم يقل أحد من العلماء إن خصوصيات الرسول عليه الصلاة والسلام تلزم المكلفين..
أمّا بقية الأحكام وهي معظم الشريعة فلم يقل أحد من أهل العلم أن من نصوصها ما ورد لمصلحة خاصة، وبطائفة خاصة، وبإقليم خاص، وفي زمن خاص وهذه الدعوى-مع خطورتها- لم يقدم لها المؤلف دليلاً إلاّ قوله أن بعض المصالح تتغير، وأن النص لا يحقق المصلحة في بعض الأحيان، وهذه كما ترى دعوى أخرى، فلم يبق في يديه إلا قوله: إن هذا عمل الصحابة فكان إجماعاً، وقد بنيت في البحوث السابقة أن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا وما فهمه واتبعه ما هو بيقين، ولكن شبه له.
والحاصل أن هذه الإضافة على كلام الشَّاطِبي - مع خطورتها - ليس لها وزن علمي لأنها مجرد دعوى، ووسعت البيان هنا ضرورة لإبطال قوله بعد ذلك أن هذا قدر اتفق العلماء عليه!!!(1/489)
وفكرته هذه وما ينبني عليها لا يزيدها إدخالها مع كلام الشَّاطِبي إلاّ خذلانا، وذلك لما بينته من الفرق بين ما نقلته عن الأصوليين، ومنهم الشَّاطِبي وهو الالتزام بالضوابط الشرعية، وتوقير النصوص، والشعور بحرمتها وأنها رحمة متضمنة للعدل والمصلحة والخير واتباع المعاني تحت العمل بالضوابط وبين شذوذ صاحب رسالة التعليل الذي يرى المصلحة... خارجة عن النص في بعض الأحيان ويصر على عدم الضبط (536) ، ويعطل بعض النصوص مؤقتاً، تجديداً لشذوذ الطوفي، بل وزيادة عليه.
ثالثاً : قال الإمام الشَّاطِبي إن العقول قد تدرك بعض المصالح كما كان يصنعه أهل الفترات، حيث اتبعوا بعض الأحكام- - اتباعًا لبعض المعاني- فجرت بذلك مصالحهم، وذلك ما كانوا يعملونه في الجاهلية، كالدية والقسامة، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة للوعظ- والقراض وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك، ومع ذلك فإنهم قصروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتمّ مكارم الأخلاق، وأما في التعبديات فكان الصحيح منها نادراً، وهو ما أخذوه من ملة إبراهيم عليه السلام. (537)
ثم جاءت الشريعة وأقرت من هذه الأحكام ما أقرت، ورفضت منها ما رفضت، وما قبلته أصبح من نظامها لا على أنه حكم الجاهلية خالط حكم الإسلام، وأن الإسلام تأثر به، بل لأن الإسلام اختاره وأقره، ولو لم يكن منه البتة، وهو بهذا الإقرار أصبح من شريعة الإسلام، وأخذ شرعيته من إقرار الإسلام به.
وقد صرح الإمام الشَّاطِبي أن هذا الإقرار لهذه المصالح من الشارع حيث قال: "ومن هنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة...". (538)
ونحن نطالب من يريد إتباع المصالح حيث كانت أن يأتي بإقرار من الشارع، على أن هذا الأمر مصلحة وليس بمفسدة لا نريد منه أكثر من ذلك.
والمصالح حينئذ قسمان كما قرره الشَّاطِبي نفسه:(1/490)
الأول : ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بالمسالك المعهودة- ويقصد بالمسالك الإجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها- ولا يطلع عليه إلا بالوحي، فهو موقوف على التعبد المحض، ومعنى هذا أن من زعم أنه يدرك المصلحة منه، ويريد أن يعديها إلى غير محلها فهو مخطئ وأمره مردود عليه لأنه لا سبيل إلى إدراكها.
الثاني : " ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها- وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول أن شرعية الأحكام لأجله" . (539)
وهذه الضوابط المذكورة هنا هي من معنى قول الشَّاطِبي سابقاً " ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام".
نعم لابد من الإقرار من الشارع، وقد علمنا أنه قد كفنا عن طلب القسم الأول، وأمرنا بالقياس على القسم الثاني، والعمل به شريطة أن لا يخالف إجماعاً أو نصاً ذلك أن الإجماع والنص.. وغيره هي الطرق التي بها تعرف المصلحة وهي الدلالة عليها فكيف يتصور أن تعارضها المصلحة أو تطلب خارجاً عنها.
وإذا تحصل مقصود الشَّاطِبي ننظر بعد ذلك في الدكتور الشلبي فإنه ذكر هذا الدليل مختصراً فقال:
"إن أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات، فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير، وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإصلاح والإفساد، ولم تبطل إلا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات، وأما عباداتهم فضلت فيها عقولهم ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلا ما نقل لهم من شريعة الخليل عليه السلام" ثم قال إن هذا القدر اتفق عليه العلماء. (540)
والفارق بين معالجة الإمام الشَّاطِبي لهذه المسألة ومعالجة الشلبي واضح جداً، فإن الإمام الشَّاطِبي بين إلتفات الشارع إلى المعاني في باب العادات فإذا علمنا المعنى اتبعناه تحقيقاً للمصلحة، وأنه لابد من إقرار الشارع وشهادته لهذا المعنى بالمناسبة، وإلاَ تبينا أن هذا ظنناه مصلحة ليس كذلك..(1/491)
وأما الشلبي فإنه يسير فيما يخدم دعواه، ولذلك تجده لم يذكر الضوابط التي ذكرها الإمام الشَّاطِبي، ولم يحرر المسألة كما حررها، فبينما تجد الشَّاطِبي يصرح بما أقرته الشريعة، ويبين أنه جملة من الأحكام، تجد الشلبي يقول: " أقرت منها الشيء الكثير... ولم تبطل إلا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات" هكذا على سبيل الحصر.. لم تبطل إلا المصلحة التي حمل عليها هوى النفس وطغيان الشهوات، وأما التي حمل عليها العقل فشيء آخر، فإذا ما جاء أحد من العقلاء- في غير طغيان ولا هوى- وقال إن هذه مصلحة فاتبعوها فينبغي أن نتبعها لأن بعض المصالح التي جاءت بها بعض النصوص تتغير وما دام إقرار الشارع لها ليس شرطاً والضبط أمر مخترع فلابد من إتباع العقل بدون الرجوع إلى أصل معين.
والحق أنه لا عبرة بمثل هذا النوع من المصالح ما لم يشهد له الشرع بعدم الرد، فإن رده فهو مردود سواء أكان الحامل عليه هوى نفس أو طغيان أو نية خالصة تريد النفع والخير(541) وذلك أنه قد تقرر على سبيل القطع أن العقل ليس بشارع، وأنه لا يستقل بإدراك المصالح ودفع المفاسد، وأنه لابد من شهادة الشارع للمصلحة بأحد المسالك المعروفة فإن لم يشهد ورد - ذلك الذي ظنناه مصلحة - فإنه مردود بالإجماع، والعبرة بما حده الشرع وبينه..
وأستطيع هنا أن أقول- نقضًا لما زعمه شلبي وبيانًا للحق- أن هذا هو القدر الذي اتفق عليه العلماء، حاشا الطوفي الذي شذ عن الإجماع، ثم جاء الشلبي من بعده فطم الوادي على القرى..
هذا بالنسبة للقسم الأول نقله عن الشَّاطِبي واتجه به إلى معنى آخر - لم يقصده الشَّاطِبي ولا غيره من الأئمة- أراد به نصرة رأي الطوفي، وقد تبين الفرق بين منهج الشَّاطِبي وصنيع المؤلف.
المطلب الثامن : الفرق بين العبادات والعاديات
تشمل الشريعة الإسلامية هذين القسمين :
الأول: هو العبادات، ويدخل فيها من الشرائع أداء الصلوات والحج والنذر والصيام ونحو ذلك.(1/492)
الثاني : وهو العاديات أو المعاملات، ويدخل فيها من الشرائع القرض والقضاء والحكم في الخصومات ونحو ذلك.
والأول يغلب عليه كونه حقًا خالصًا لله أي بين العبد وربه، والثاني يغلب عليه كونه حقاً للآدمي.
هذا هو معنى التقسيم ورثناه عن الفقهاء، بقي أن نتعرف على الفرق بينهما لصلة هذا البحث بما نحن فيه..
والفرق بينهما: أن العبادات توقيفية ليس للعبد معها إلا مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (542) ، وأن المعاملات والعاديات إذا علم المعنى الذي شرعت من أجله وعلم وجوده في محل آخر نقل إليه ذلك الحكم بطرق من طرق مسالك العلة المعلومة...
أما موضع الاتفاق بين العبادات والعادات فيظهر فيما يلي:
1- أنهما جميعاً من أحكام الشريعة الإسلامية، ويجب الالتزام بها لأنها من الدين الذي أمرنا الله بإتباعه، ولا يجوز تبديلها ولا تغييرها ولا تعطليها بل الواجب توقيرها وتعظيمها والانقياد لها لأنها من عند الله العزيز الحكيم.
2- أن المطيع لأمر الله في العبادات والعادات مثاب، لأنه أدى حق الله عليه، سواء بأداء الصلوات أو بأداء حقوق الناس كما أمره الله، فحق الله فيها ظاهر، ولذلك تشترك في معنى التعبد من هذه الجهة، فهي عبادة لله، فكما تتحقق عبادة الله بالتوحيد تتحقق بأداء الصلوات والحج والصوم والزكاة، وتتحقق بالتزام حكم الله في الاقتصاد والاجتماع والحكم والسياسة.
فمن التزم في ذلك كله أمر الله- يرجوا بذلك وجه الله - فهو متعبد مأجور، ومن خالف فبحسب مخالفته، وإنما يتحقق الأجر في كل ذلك لأن فيه معنى التعبد أي معنى عبادة الله، ليقول لنا أن كل تكليف فيه حق لله . (543)
وبملاحظة مواضع الاتفاق والاختلاف يمكن معالجة هذه الشبهة التي يمكن أن يقع فيها بعض الناس وهي: أن ملاحظة معنى "التعبد" في العاديات من تلك الجهة وبذلك المقصود، مانع من إتباع القياس الشرعي والمصلحة المعتبرة أو بلفظ آخر مانع من التعدية.(1/493)
وهذا ما فهمه الشلبي حيث قال: "استند هذا الفريق في مدعاة أن المعاملات ملاحظ فيها التعبد" إلى أمور منها، ثم ذكر أدلة الإمام الشَّاطِبي على المسألة التاسعة عشرة التي أشرت إليها آنفًا، ثم حاول الإجابة عنها. (544)
ولا نحتاج هنا إلى مناقشته، فضلاً عن ذكر أدلة الشَّاطِبي وتعليقه هو فإن ذلك لا ضرورة له، وذلك أن الإمام الشَّاطِبي لم يقصد بإثبات معنى التعبد في العاديات منع التعدية فيها، لأنه يقر الفرق الذي ذكرته بين العبادات والعاديات وبمواضع الخلاف، فهو يرى في وقت واحد أن: العاديات الأصل فيها اتباع المعاني، فيعدي المجتهد الحكم إلى غير محله بشرط أن يلتزم مسالك العلة فلا يؤدي به اجتهاده إلى رد ما جاء به الشرع، وسواء عدى الحكم أو لم يعده فإن أحكام العاديات كلها فيها معنى التعبد من جهة- لا تمنع التعدية- وإنما هي ضرورية لربط قلب المؤمن بالله، فهو إذ يلتزم بأحكام العاديات إنما يلتزم أمر الله فإذا أخذ ما أخذ، وترك ما ترك من تحت الإذن الشرعي فإنه عابد متبع مؤد حق الله وهذا معنى قول الشَّاطِبي: الأصل في العاديات الالتفات إلى المعاني وذلك لتتحقق التعدية، وأن فيها معنى التعبد وذلك لتحقق معنى العبادة والأجر والثواب عليها.
فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لباحث أن يناقش أدلة الشَّاطِبي على أن العاديات وأن اعتبر فيها إتباع المعاني - فلابد فيها من اعتبار التعبد، وذلك ليقول: إن الأدلة السابقة - ويقصد أدلة الشَّاطِبي - فيها ضعف ظاهر ولا يصلح التمسك بها في مقام الحجاج. (545)
وأدلة الإمام الشَّاطِبي التي ناقشها د. شلبي هي الأدلة التي ذكرها على المسألة التاسعة عشرة لإثبات أن "كل تكليف فيه حق لله" (546) ومن يناقش في هذا أو يجادل؟!
وهذا دليل على أن الشلبي لم يفهم مما يريد الشَّاطِبي أن يقوله في المسألة التاسعة عشرة فأخذ يناقشه في أربعة صفحات. (547)(1/494)
فأن قيل: إذا كان الشَّاطِبي يقول بالتعدية والشلبي يجادل عنها ليثبت أن في العاديات تعدية فما الفرق بينهما؟ والجواب أن الشَّاطِبي متبع للإجماع في الالتزام بالضوابط، وعدم التقديم على النص أي مصلحة، ولو اجتمعت عليها عقول العقلاء وإفهام الحكماء، ولا تغير ولا تبديل في المعاملات وأحكام النظام الاجتماع، وأما الشلبي فبضد ذلك وقد مر بيانه.
وأختم الجواب عن هذه الشبه بالإشادة بمجهود الشَّاطِبي المبارك في كتابه، ذلك أنه يتكلم عن الإسلام وهو يلاحظ عقيدته ومنهجه في الاستدلال وأحكامه ومقاصده.
فإن شئت أن تجد في كلامه إتباعاً للسلف ومفارقة للبدعة والمبتدعين وجدته، وإن شئت أن تجد - سلامة من آثار علم الكلام- يترتب عليه ضبطاً لمنهج الاستدلال وجدته، وإن شئت أن تجد إبرازاً لمقاصد الشارع، وإظهاراً لمعنى التعبد في جميع أحكامه وجدته، كما هو الحال في مسألتنا هذه. (548) .
ومن يعلم مدى ما أدت إليه أمثال الشبهة حتى فهم الإسلام على أنه عبادات لها الاحترام، ومعاملات يمكن أخذها من غير الشريعة أو يمكن التزامها بدون الشعور بمعنى العبادة فيها، حتى أصبح مفهوم التعبد مقصوراً على نوع خاص من الأحكام، من علم ذلك شعر بالجهد المبارك الذي بذله الشَّاطِبي.. وشعر في الوقت نفسه بشدة حاجتنا إلى التعرف عليه وإظهاره.
وهذا الجهد المبارك هو المدد الذي ييسره الله على أيدي العلماء الربانيين، فينقلونه من جيل إلى جيل، فيحفظ الله بهم الفهم الصحيح لهذا الدين، الذي عاش به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان غير مبدلين ولا مغيرين في غير ما حرج ولا ضيق {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً لقوم عَابِدُينَ}.(1/495)
وكلما أردنا أن نفهم هذا الدين.. كما فهمه جيل الصحابة والتابعين فلابد من أن نأخذه عن أولئك العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين تابعوا الجيل القدوة وسلموا من آثار الفرق الضالة قديمًا وآثار الغزو الفكري حديثًا، وتحققوا بهذا الدين ونصروه، وهؤلاء هم العلماء الربانيون الراسخون نفعنا الله بهم ورزقنا ما رزقهم . (549)
المطلب التاسع : مناقشة ما نسبه بعض الباحثين
إلى الإمامين : ابن القيم والشَّاطِبي
الفرع الأول : فيما نسبوه إليهما :
نسب بعض الباحثين المحدثين إلى هذين الإمامين القول بقاعدة تغير بعض الأحكام بتغير الزمان، معتمدين في ذلك على ما فهموه من نصوص وردت في كتاب أعلام الموقعين وكتاب الموافقات.
وأبدأ بما ذكر الدكتور صبحي الصالح بعد أن ذكر بعض نصوص ابن القيم فقال: "وحين نذكر أن "المصلحة العامة" في القوانين الحديثة هي أساس كل تشريع، ونضع في مقابل ذلك ما اشترطه فقهاؤنا لسلامة الأخذ بالمصلحة المرسلة (المطلقة من كل قيد إلا قيد النفع) (550) لا يسعنا ونحن نسبر روح الشريعة وأساسها، فحيثما كان العدل والرحمة والحكمة والمصلحة فثم شرع الله". (551)
وهذا الذي نقلته هنا هو نتيجة بحثه للفصل الخامس بعنوان "روح الشريعة الإسلامية" وقد نسب فهمه هذا إلى الإمام الشَّاطِبي حيث ابتدأ حديثه بتقرير أن الإمام الشَّاطِبي هو من أفضل الأئمة الذين تعرفوا على روح الشريعة.
وقد أحسن الدكتور صبحي الصالح وهو يتحدث عن ثبات الشريعة حيث اعتبر انقطاع الوحي موجب لثبات الشريعة "غير قابلة للتعديل أو التطوير إلا ما كان منها في حياة الرسول - أو في عصر الوحي (552)- دخلاً في اعتبار الناسخ والمنسوخ أو التخصيص بعد التعميم أو التقييد بعد الإطلاق أو التفضيل بعد الإجمال ثم اتخذ في النهاية صورة "ثابتة" في جميع الأحوال كالآيات التي تعاقبت نزولها بشأن الخمر على سبيل المثال" (553).(1/496)
ثم انتقل إلى أمر مهم جداً ألا وهو كيفية التعرف على شمولية الشريعة واعتبر "المصلحة والعرف" هي من أهم الوسائل المؤدية إلى ذلك.
وبعد هذا مباشرة انتقل إلى الحديث عن دور المصلحة وأخذ في التعريف بموقف ابن القيم منها - ونقل عنه قوله: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها" ثم يضيف قائلاً:"فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجوار وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه" (554).
ثم قال د. صبحي: وقد نصر ابن القيم رأيه في المصلحة بطائفة من الأمثلة في كتابه "أعلام الموقعين"...
وإليك بعضاً منها:
1- عدم مقطع الأيدي في الغزو.
2- إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه لا يسوغ إنكاره (555).
ثم أكد المؤلف ما يذهب إليه من نسبة تلك القاعدة إلى ابن القيم بأن ذلك هو منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كثير من اجتهاداته مثل: إسقاط الحد عن السارق عام المجاعة، وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، ونحو ذلك (556) وقرر على هذا نتيجة بحثثه التي ذكرتها في أول هذا المطلب.
وعلى هذا المسلك سار بعض الباحثين؛ حيث نسب إلى ابن القيم الانتصار لهذه المقالة "تغير بعض الأحكام بتغير الزمان" (557).(1/497)
هذا ما فهموه عن الإمام ابن القيم، فماذا عن فهمهم لنصوص الإمام الشَّاطِبي، ينقل بعض الباحثين نصًا طويلاً للإمام الشَّاطِبي ويستنبط منه "أن أحكام الشريعة (عند الإمام الشَّاطِبي) إنما هي عبارة عن كليات وجزيئات، وأن الكليات تعتبر أصولاً باقية لا تتبدل ولم يحدث فيها نسخ بخلاف الجزئيات التي تجري فيها المشاحنات والمنازعات، وأن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة بمكة، وكانت هذه الأحكام المدنية شاملة للرخص والتحقيقات وتقرير العقوبات في كل ذلك في الجزئيات لا الكليات التي أحكمت في مكة وبقيت على حالها"(558).
وحاصل ما فهمه الباحث من كلام الشَّاطِبي ما يلي:
1- أن الجزئيات تخالف الكليات من حيث تبدلها وتغيرها.
2- أن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة بمكة.
وكلام الباحث هذا في معرض حديثه عن قاعدة تغير الأحكام وصلتها بنقض الاجتهاد (559) ، ونحن نناقشه في فهمه لكلام الإمام الشَّاطِبي وذلك بعد مناقشة فهمه وفهم الدكتور صبحي لكلام ابن القيم.
الفرع الثاني : المناقشة :
إن مما أناقش فيه هذين الباحثين أمرين مهمين:
الأول منهما: أن المصلحة - التي أخذ بها فقهاؤنا واشترطوا شروطاً لسلامة الأخذ بها هي المصلحة المرسلة (المطلقة من كل قيد إلا قيد النفع). وأسندا العمل بالمصلحة المرسلة إلى الإمام ابن القيم ومن قبله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومما ذكر من الأمثلة عدم قطع الأيدي في الغزو وعدم إنكار المنكر إذا أدى إلى مفسدة عظيمة.. وإسقاط الحد عام المجاعة.
الثاني منهما : إن الأحكام المدنية في الغالب غير منزلة على وقائع الكليات المقررة بمكة، وأن تلك الأحكام الجزئية التي نزلت بالمدينة تخالف الكليات المكية من حيث البقاء والتبدل، هكذا على الإطلاق.
مناقشة الأمر الأول:(1/498)
نبدأ في المناقشة في هذا الموضع من حيث انتهينا سابقاً حيث تقرر أن ما قيل عن "تغير الأحكام بتغير المصالح والأعراف والعادات والأزمنة" ليس مبنياً على أساس علمي، وحاصل ما عند القائلين به أنه "قاعدة" حدثت عند نشوء المجلة العدلية، وكان يكفيهم ذلك، لو أنهم تريثوا وتساءلوا لمَ لمْ ينص السلف على أنها قاعدة؟ وحينئذ سيعلمون الجواب الذي سيحملهم على إعادة النظر فيها والتعرف على حقيقتها، غير أنهم لم يصنعوا شيئاً من ذلك، بل سارع بعضهم إلى محاولة إضافة معناه إلى فقه السلف، وقد تبين لنا بما فيه الكفاية، أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يغيروا الأحكام ولم يبدلوها، وبقي هنا أن نناقش ما نسب إلى ابن القيم سواء من هذين الباحثين أو من غيرهما (560) ، ونقول هنا كما قلنا من قبل إن إطلاق المصلحة من ضوابطها مخالف لوضع الشريعة ولفهم السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء من بعدهم، وما يقوله الأستاذ صبحي الصالح هنا يأخذ الحكم نفسه.(1/499)
وإن مما يعفيه من المؤاخذة أن يقيد تفسيره للمصلحة المرسلة بما أشرت إليه سابقاً من كلام الأئمة، فليس عند فقهاء السلف مصلحة مرسلة (مطلقة من كل قيد إلا قيد النفع) إن هذه المصلحة هي المصلحة التي تدور عليها القوانين الوضعية كما يقول الباحث، والشرط الذي تضيفه الشريعة هنا هو أن تشهد نصوصها الجزئية أو الكلية لهذا النفع بعدم الرد، ذلك أن هذه الشريعة وضعت في الأصل لتكون صراطاً مستقيماً يهتدي به الناس، ومن مقتضى اهتدائهم بها أن يستشهدوها على ما يظنونه "نفعًا" فإن شهدت بأنه كذلك ولم ترده فهو كذلك، ويترتب على ذلك أن يتبعوه ويعتبروه، لأن الشريعة أمرتهم بذلك، ومن هنا يتحقق الخير وتتحقق العبودية وذلك باتباع هذه الشريعة، وإن لم تشهد له بل ردته، فهو حينئذ ليس "نفعًا" ويجب عليهم أن يبتعدوا عنه مهما شهدت له العقول القاصرة والعادات المتكاثرة، أما أن يقال المصلحة المرسلة- التي أمرت الشريعة باتباعها- هي المطلقة من كل قيد إلا قيد النفع- ثم نتبع ما يقال أنه " نفع" فليس ذلك بصواب، ولا يضرنا إذا اهتدينا أن تتبع القوانين الوضعية المصلحة التي أطلقت من كل قيد إلا قيد النفع، لا يضرنا ذلك لأن هؤلاء القانونيين ليس عندهم صراطٌ مستقيمٌ من لدن العزيز الحكيم يهتدون به، بل غاية ما عندهم صراط مستقيم من لدن العزيز الحكيم يهتدون به، بل غاية ما عندهم اتباع الأعراف والعادات والأفكار البشرية، فالنفع عندهم ما حددته أعرافهم وعاداتهم وعقولهم والنفع عندنا ما لم ترده الشريعة وهذا فرق عظيم بيننا وبينهم، ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } (561).
وكان ينبغي على الباحث أن يختم بحثه بما ذكره هو نفسه من شروط الفقهاء (562) ، لا أن يختم بحثه بما يتبعه القانونيون من المصلحة.(1/500)
وما ذكره من شروط الفقهاء لاتباع المصلحة يرجع في النهاية إلى اشتراط عدم معارضة الشريعة لها، فإذا لم تشهد الشريعة بالرد فقد أصبح لتلك المصلحة موضعاً فيها، ولو أكد ذلك وختم به بحثه لعلم حينئذ أن المرسلة ليست هي المطلقة من كل قيد إلا قيد النفع، بل هي التي لا تعارض الشريعة، وليس النفع هو ما يحدده البشر بل هو ما يحدده رب البشر..
وبهذا الذي أقول كان يمكنه تفسير ما ذهب إليه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وما قاله ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين.
ولقد تحدثنا عن مسألة عدم قطع الأيدي في الغزو وفي عام المجاعة، وما بنا حاجة إلى إعادته، وتقرر هناك أن هذا ليس فيه تغيير ولا اتباع لمصلحة مطلقة من شهادة الشرع (563) - ولا مطلقة من كل قيد إلا قيد النفع- ليس شيء من ذلك كله، بل إن ذلك تحقيق مناط الأدلة الشرعية بدون تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير- وأما عدم إنكار المنكر إذا أدى إنكاره إلى منكر أعظم منه فذلك إعمال لقاعدة سد الذريعة، وقد سبقت الإشارة إليها (564).
ونحن مع جميع هذه الأمثلة وغيرها نجزم أن ذلك الاجتهاد من الصحابة والتابعين وأئمة السلف من الفقهاء من بعدهم، ليس فيه تغيير ولا تبديل، ولا اتباع لمطلق النفع، أو العرف والعادة، أو الاحتكار إلى العقل، بل هو اتباع لهذه الشريعة وتحقيق لمناطات أحكامها.
مناقشة الأمر الثاني :
وهو ما نُسب إلى الإمام الشَّاطِبي من أن الأحكام المدنية، غير منزلة على وقائع الكليات المقررة بمكة، وأنها تخالفها من حيث البقاء، وأناقش هذه النسبة من خلال نصوص الإمام الشَّاطِبي ومن كتابه الذي اعتمد "صاحب رسالة تغير الأحكام" على نص واحد منه ولم يتبين المعنى الحقيقي له (565) .
ولا بأس بأن نتذكر بعض المعالم البارزة في منهج الإمام الشَّاطِبي والتي أشرت إليها من قبل ومنها :
1- إدراكه العميق لحاكمية هذه الشريعة وثباتها وشمولها وأنها قطعية.(2/1)
2- إدراكه لخطورة مسلك المبتدعة وأنه مؤد إلى رفع الضوابط الشرعية وتحكيم العقل والهوى في الشريعة؛ ومن ثم مؤد إلى تبديلها وتغيرها كلها أو بعضها.
وأضيف هنا ما يكشف حقيقة ما نسب إليه، وأبدأ بنقل النص نفسه الذي اعتمده "صاحب رسالة تغير الأحكام" مع الإشارة إلى موضع آخر من كتاب الموافقات ولابد من نقل النص كاملاً مع ما فيه من طول (566) :
يقول الإمام الشَّاطِبي في معرض حديثه عن معالم منهج التربية الإسلامية وعن حقيقة الاجتهاد الخاص بالعلماء، والعام لجميع المكلفين:(2/2)
"إن المشروعات المكية- وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها، فكان أكثر ذلك موكولاً إلى أنظار المكلفين في تلك العادات، ومصروفاً إلى اجتهادهم، ليأخذ كل بما لاَقَ به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها، حسبما بينه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين، ومواساة الفقراء والمساكين، من غير تقدير مقرر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد، وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات، والفواحش على مراتبها في القبيح فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن، فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد وفاته، في زمان التابعين، إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجاً ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يَحِقُّ لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضي أحكاماً خاصة، أو بدت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين(2/3)
الواجبات والمندوبات، والمحرمات والمكروهات، إذ كان أكثرها جزيئات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلاً عن غيرها، كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وجرى على استحسانها فَرِيقُهُ ومال إليها طَبْعهُ، وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كان لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم، وطلبوا بدمائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان، تارة بالقرآن، وتارة بالسنة، فتفضلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المجملات، وقيدت تلك المطلقات، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانوناً مطرداً وأصلاً مستناً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تماماً لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلاً من الله ونعمه، فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ، لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات، وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين.(2/4)
وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات، وتقرير العقوبات في الجزيئات لا الكليات؛ فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها وذلك يؤتي بها في السور المدنيات تقريرًا وتأكيدًا فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} وإنما عني الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزيئات التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط للفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في جزئية آخذين بحجزهم، تارة بالشدة وتارة باللين" (567) .
ويشتمل هذا النص على المعاني الآتية :
1- المشروعات المكية غير محددة، لكي يجتهد المكلفون ويأخذ كل بما يليق به من المقدار الذي يستطيعه، وقد كان يثابرون عليها ويبلغون بها غاية مجهودهم.
2- أنه لما اتسعت خطة الإسلام ودخل فيه الناس أفواجاً ووقعت منهم بعض المخالفات لبعض المشروعات وارتكاب بعض المنهيات، ولاحت بينهم المشاحات والخصومات، انتقل منهج التربية الإسلامية - المتمثل في الكتاب والسنة- إلى مراعاة هذه الوقائع الجديدة، ونزلت أحكام الشريعة بما يفض الخصومات، ويفصل أحكام المكروهات والمحرمات والمندوبات والواجبات.(2/5)
3- أن الفقهاء عنوا أشد العناية بهذه المرتبة، وهو التي تليق بالجمهور فاستنبطوا الأحكام الجزئية الخاصة بها، وقاموا بحماية الحد الفاصل بين الحلال والحرام، وأما ما يخص الأخلاق والارتفاع إلى المنازل العالية فيها، وبذل غاية الجهد في تحقيقها والمحافظة عليها، فقد تركه الفقهاء رحمهم الله لجهد المكلف لأنه في أكثر الأحيان يستقل بمعرفته وتطبيقه، ومتروك لجهده الذاتي وقوة إيمانه ولا تلزمه الشريعة بالمراتب العالية، إلا أن يلتزمها بنفسه.. وهذه مراتب الإحسان التي حققها الصحابة، وتابعهم فيها أئمة الهدى من التابعين وتابعيهم ومن اقتدى بهم فيها، وبهذا النوع اهتم الزهاد والعباد من أهل العلم، من أمثال مالك وأحمد وغيرهم كثير من العلماء ومن اقتدى بهم (568)، وهذه المراتب هي ما يسميه الشَّاطِبي العزائم المكيات، وهذه هي التي ثبت عليها الصحابة رضوان الله عليهم وأولو العزم ممن اقتدى بهم من بعدهم، ولم تزحزحهم عنها الرخص المدنيات، واستمروا في بذل الجهد على التمام (569) .
هذا هو مقصود الإمام الشَّاطِبي الذي أدرك بعمق حقيقة منهج التربية الذي دعت إليه هذه الشريعة، وحددت جميع معالمه بما اشتملت عليه من أحكام، والذي واكبت فيه القدرات الفذة للنفس البشرية التي بلغت الذروة في إقامة الحق والإحسان، وواكبت فيه أيضاً في المرحلة المدنية طبيعة النفس البشرية، وهي وإن لم تلزمها بمراتب الإحسان إلا أنها لم تقبل منها تضييع الحق والإعراض عنه.(2/6)
وهذا كلام محكم دقيق تلوح منه معالم منهج التربية الإسلامية ممتزج بأصول الفقه وهذا ليس فيه أن الكليات ثابتة والجزئيات متغيرة كما فهم بعض الباحثين، بل في النص المنقول ما هو صريح بثبات النوعين، حيث يقول الإمام الشَّاطِبي عن المرحلة المدنية التي تبعت المرحلة المكية "... فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المجملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانوناً مطرداً وأصلاً مستناً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تماماً لتلك الكليات المتقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلاً من الله ونعمة..." (570).
فالمجموع من الكلي والجزئي، محفوظ ثابت، وقانون مطرد في جميع العصور والأزمان، والمدني مبني على الكليات المكية المتقدمة ومتمم له.
بقي أن ننظر في السبب الذي تحمل الباحث على أن يستنتج ذلك المعني الفاسد فنجد ذلك يرجع إلى عدم فهمه لقول الأمام الشَّاطِبي: "... وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن تقدم من بعض المنازعات والمشاحات..." (571).
فنقل النص من معنى صحيح إلى معنى فاسد، والمعنى الصحيح كما قدمت آنفًا، أن من أسباب تفصيل الأحكام الجزئية في المدينة هو حدوث وقائع لم تكن فيما تقدم- في المرحلة المكية- وقد علل الشَّاطِبي ذلك تعليلاً حسنًا.
والمعنى الفاسد الذي استنتجه الباحث هو كما قال:"إن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة لمكة..." (572)، وأنها تخالفها من حيث الثبات (573) .
ودخل عليه الفساد من أوجه عدة منها :
1- عدم ملاحظته للمعنى الجلي الذي يدل عليه كلام الشَّاطِبي ومنه:
(أ) أن الأحكام الكلية بمكة والجزئية بالمدينة أصبحت بعد انقطاع الوحي قانوناً مطرداً وأصلاً ثابتاً إلى يوم القيامة (574) .
(ب) أن الأحكام المدنية الجزئية إنما جاءت لتكون تماماً لتلك الكليات المكية المتقدمة (575).(2/7)
2- عدم ضبطه لمعنى النص وذلك لزيادته فيه عبارة أخلت بالمعنى المقصود عند الشَّاطِبي، فالنص الذي في الموافقات هو: "وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم" وبالمقارنة مع استنتاج الباحث يتبين أنه أدخل فيه معنى زائد وهو قوله: "وقائع غير الكليات المقررة بمكة" وخطأه يعرف بأن نفرق بين ارتباط الأحكام المدنية بالكليات المكية، وبين عدم تنزل الأحكام المدنية على وقائع مكية، وذلك يعرف بالوجهين الثالث والرابع.
3- عدم فهمه لمقصود الإمام الشَّاطِبي من التفريق بين المكي والمدني في هذا الموضع ومقصوده أمران:
(أ) أن أحوال الصحابة رضوان الله عليهم في مكة من حيث قلة العدد وانشغالهم الكامل بإقامة الحق، وكونهم قاعدة الحق الذي أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم على تربيتها بنفسه، وكونهم في أعلى المنازل عبادة وجهاداً وكونهم مطاردين معذبين، يتوقد إيمانهم ويتوهج، وهم في ذات الوقت متحابون متآلفون لم يخالطهم مخلط ولا منافق فكانت أمورهم حينئذ تجري على الصلاح والتوفيق، والأخذ بالعزائم والإيثار والصبر، فلم يكن بينهم ما يتقضي نزول الأحكام الخاصة لفض المنازعات والخصومات، لأن وقائعها لم تكن في الغالب في المرحلة المكية، ثم كانت بعد في المرحلة المدنية.
(ب) أن هذا لا يعني أن ما نزل بالمدينة لم يكن له صلة بالكليات المكية، كلا. ومما يؤكد ارتباط ما بينهما ما ذكر الشَّاطِبي مفصلاً من أن الأحكام التي نزلت ترجع إلى الأصول المكية (576) .(2/8)
وتفسير كونها مرتبطة بتلك الأصول مع أنها لم تكن لها وقائع بين الصحابة يسير جداً والحمد لله، فالمنازعات والخصومات التي نزلت بخصوصها أحكام في المدينة مرتبطة بالكليات المكية وإن لم توجد بين الصحابة بالمرحلة المكية، وارتباطها يظهر من أن المنازعات والخصومات فيها ظلم واعتداء ولا شك، فنزلت لها تفصيلات مدنية، وأصلها في مكة موجود وذلك في الكليات التي تنهي عن الظلم والبغي والعدوان. ومن هنا تكون مرتبطة بالكليات المكية، وتكون غير واقعة بين الصحابة في المرحلة المكية، ومن هنا يصح قول الشَّاطِبي: "وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات" ومن هنا نعلم مقصده رحمه الله، وتبين لنا أنه لم يفرق في الثبات بين ما نزل بمكة وما أنزل بالمدينة، أي بين الكليات والجزئيات ولا بين ما يدخله الاجتهاد الخاص، ولا بين ما يدخله الاجتهاد العام.
4- عدم فهمه لقول الشَّاطِبي: "... فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات " (577).
فليس فيه ما يدل على أن الجزيئات يقع عليها التغير بعد انقطاع الوحي، وحاصل ما فيه أن النسخ وقع بالمدينة ولم يقع بمكة.
أما بعد انقطاع الوحي ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نسخ ولا تغيير لا في الكليات ولا في الجزئيات.. وإليك ما قاله الإمام الشَّاطِبي وقد سبق:(2/9)
يقول رحمه الله وهو يتحدث عن أوصاف الشريعة: "الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقيداً لإطلاقها ولا رفعاً لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً، أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" (578) .
وبهذا يتبين الصبح لكل ذي عينين، لنعلم بعد ذلك أن ما نسب إلى هذين الإمامين الجليلين الشَّاطِبي وابن القيم ليس بشيء وإن إلصاق ما يسمى " بقاعدة تغير بعض الأحكام بتغير الزمان" بهما لا دليل عليه بل شُبه على هذين الباحثين كما شبه على غيرهما، ودعوى اتباع المصالح أو الأعراف أو العوائد لا تصلح لتأسيس هذه " القاعدة" المحدثة، ولابد أن يعلم جميع الخلق علماؤهم وعوامهم أن جميع الأحكام التي جاءت بها هذه الشريعة لا زوال لها ولا تبدل ولا تغير في جميع العصور والأزمان.
وإن في هذه الشريعة المباركة منهجاً أصيلاً يحدد موقفها من إصلاح المجتمعات البشرية، وجميع ما فيها من انحرافات كلية أو جزئية- سواء انتشرت هذه الانحرافات تحت دعوى اتباع المصالح، أو اتباع العادات والأعراف.
( المرجع : رسالة " الثبات والشمول في الشريعة " للدكتور عابد السفياني ، ص 448-533) .
شبهات الرافضة
الشبهة(1): احتجاجهم بحديث " أنت مني بمنزلة هارون من موسى - عليه السلام "
قال عبدالله بن الحسين السويدي في مناظرته مع أحد علماء الشيعة :
قال - أي الشيعي - : قبل تحرير البحث أسألك هل قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" ثابت عندكم؟
فقلت : نعم، إنه حديث مشهور.(2/10)
فقال : هذا الحديث بمنطوقه ومفهومه يدل دلالةً صريحة على أن الخليفة بالحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.
قلت : ما وجه الدليل من ذلك؟
قال : حيث أثبت النبي لعليٍّ جميع منازل هارون، ولم يستثن إلا النبوة - والاستثناء معيار العلوم - فثبتت الخلافة لعلي لأنها من جملة منازل هارون. فإنه لو عاش لكان خليفة عن موسى.
فقلت : صريح كلامك يدل على أن هذه القضية موجبة كلية، فما سُور هذا الإيجاب الكلي؟
قال : الإضافة التي في الاستغراق بقرينة الاستثناء.
فقلت : أولاً إن هذا الحديث غير نص جلي، وذلك لاختلاف المحدِّثين فيهن فمن قائل إنه صحيح، ومن قائل إنه حسن ومن قائل إنه ضعيف، حتى بالغ ابن الجوزي فادعى أنه موضوع. فكيف تثبتون به الخلافة وأنتم تشترطون النص الجلي؟!
فقال : نعم، نقول بموجب ما ذكرت. وإن دليلنا ليس هذا، وإنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: "سلموا على عليّ بإمرة المؤمنين"، وحديث الطائر. ولأنكم تدعون أنهما موضوعان فكلامي في هذا الحديث معكم. لمَ لم تثبتوا أنتم الخلافة لعلي به؟(2/11)
قلت : هذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً.. من وجوه: منها أن الاستغراق ممنوع؛ إذ من جملة منازل هارون كونه نبياً مع موسى، وعليّ ليس بنبي باتفاق منا ومنكم، لا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده، فلو كانت المنازل الثابتة لهارون - ما عدا النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم - ثابتة لعلي لاقتضى أن يكون علي نبياً مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبوة معه لم تستثنَ وهي من منازل هارون عليه السلام وإنما المستثنى النبوة بعده. وأيضاً من جملة منازل هارون كونه أخًّا شقيقاً لموسى، وعلي ليس بأخ، والعام إذا تخصص بغير الاستثناء صارت دلالته ظنية، فليحمل الكلام على منزلة واحدة كما هو ظاهر التاء التي للوحدة، فتكون الإضافة للعهد وهو الأصل فيها، و"إلا" في الحديث بمعنى "لكن" كقولهم: فلان جواد إلا أنه جبان، أي لكنه. فرجعت القضية مهملة يراد منها بعض غير معين فيها وإنما نعينه من خارج، والمعين هو المنزلة المعهودة حين استخلف موسى هارون على بني إسرائيل، والدال على ذلك قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} ومنزلة عليّ هي استخلافه على المدينة في غزوة تبوك.
فقال الملا باشي : والاستخلاف يدل على أنه أفضل وأنه الخليفة بعد.
فقلتُ : لو دلّ هذا على ما ذكرتَ، لاقتضى أن ابنَ أمَّ مكتوم خليفةٌ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه استخلفه على المدينة. واستخلف أيضاً غيره، فلمَ خصصتم عليًّا بذلك دون غيره مع اشتراك الكل في الاستخلاف؟ وأيضاً لو كان هذا من باب الفضائل لما وجد عليٌّ في نفسه وقال "أتجعلني مع النساء والأطفال والضعفة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ".
فقال : قد ذكر في أصولكم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قلت : إني لم أجعل خصوص السبب دليلاً، وإنما هو قرينة تعين ذلك البعض المهم.
فانقطع...(2/12)
( المرجع : الخطوط العريضة ، محب الدين الخطيب ، ص 76-78) .
وقال أبو حامد المقدسي ردًا على هذه الشبهة :
جوابه: سلمنا أن هذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره وليس للرافضة حديث صحيح غيره ولكن معناه أن التشبيه له بهارون (عليه السلام إنما هو) في الاستخلاف خاصة لا من كل وجه وهو أمر مشترك بينه وبين غيره. قد شبّه النبيصلى الله عليه وسلم (في الحديث الصحيح) أيضاً أبا بكر رضي الله عنه بإبراهيم وعيسى عليهما السلام وشبه عمر رضي الله عنه بنوح وموسى عليهما السلام كما أشارا عليه في أسارى بدر هذا بالفداء وهذا بالقتل ولا شك أن هذا أعظم من تشبيه علي بهارون ولم يوجب ذلك أن يكون بمنزلة أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام مطلقاً ولكن شابه في شدته في الله وهذا في لينه في الله وتشبيه الشيء بالشيء لمشابهته في بعض الوجوه كثيرة في الكتاب والسنة وكلام العرب.
وأما هو معارض بما رواه الشيخ الإمام العارف بالله العلي أبو محمد روزبهان البقلي رحمه الله عليه في كتابه المكنون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: أنتما مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. كما قال ذلك لعلي. وحينئذ فلا خصوصية (وقال فيه إشارة إلى أن هؤلاء السادة الثلاثة أعطاهم الله تعالى ما أعطى نبي الله هارون عليه السلام دون النبوة وجبريل وميكائيل دون الملائكة. كما قال عليه السلام: "إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض فوزيرا السماء جبريل وميكائيل، ووزيرا الأرض أبو بكر وعمر" وفيه أن الولاية قريب من النبوة والملكية).(2/13)
وكذلك هو معارض لقوله صلى الله عليه وسلم: "خلقت أنا وأبو بكر وعمر من طينة واحدة" وهذا حديث صحيح رواه الشيخ الإمام محي الدين أبو محمد إبراهيم الفاروقي الواسطي رحمه الله ويعضده حديث "ما من ميت يموت إلا يدفن بالتربة التي خلق منها" وإذا خلقا رضي الله عنهما من طينة صلى الله عليه وسلم فهما أولى بمماثلته باعتبار الخلقة وهذا فضيلة لا يشاركهما فيها غيرهما. فإن قيل ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت أنا وعلي من نور واحد" وهو يدل على أفضلية هذا، وإن ثبت فهو لنا لأن النور أمر بالسجود لمن خلق من الطين كما في قصة الملائكة وآدم عليهم السلام، وهو يعارض بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة في الإسلام" أفضل ففيه دليل على تخصيص أبي بكر في أخوة الإسلام، وإلا لم يكن ثم فضيلة لأحد من المسلمين على أحد من المسلمين، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم له: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" إنما ورد على سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي (في غزوة تبوك في سنة تسع) لما استخلفه على المدينة فطعن بعض الناس وقالوا: إنما استخلفه لأنه يبغضه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من المدينة استخلف عليها رجلاً من أمته، فلما كان عام تبوك لم يأذن لأحد من المؤمنين القادرين على الغزو في التخلف عنها بلا عذر، ولم يتخلف بلا عذر إلا عاص لله ورسوله فكان استخلافه عليًّا رضي الله عنه فيها استخلافاً ضعيفاً، فطعن فيه المنافقون لهذا السبب فبين له صلى الله عليه وسلم: أني لم أستخلفك لبغض لك عندي فإن موسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام وهو شريكه في الرسالة، أَمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فتخلفني في المدينة كما خلف هارون أخاه موسى. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان قد استخلف غيره قبله وكان أولئك منه بهذه المنزلة يكن هذا من خصائص علي رضي الله عنه ولو كان هذا الاستخلاف(2/14)
أفضل من غيره لم يخف فيه عليه ولم يخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ويقول: تخلفني في النساء والذرية والصبيان. ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة أمر أبا بكر رضي الله عنه على الحج في أواخر سنة تسع ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فلما لحقه قال له أبو بكر رضي الله عنه: أميراً أو مأموراً؟ فقال علي: بل مأموراً فكان أبو بكر يصلي بعلي وغيره ويأمر عليًّا وغيره من الصحابة رضي الله عنهم يطيعون أبا بكر رضي الله عنه وأما علي رضي الله عنه فنبذ العهود والتي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لأن العادة من العرب كانت جارية أنه لا يعقد العقود ولا يحلها إلا رجل من أهل بيت المطاع ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي لأجل العادة الجارية بذلك [ وفي رواية نزل جبريل وقال: يبلغ رجل منك. قالوا: هذا يدل على تقدم علي]. ولم يكن هذا أيضاً خصائص علي رضي الله عنه بل أي رجل من المعترة نبذ العهد حصل به المقصود، ولكن علي رضي الله عنه كان أفضل بني هاشم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان أحق بالتقدم من سائر الأقارب ولما أمر أبا بكر عليه علي أنه لا دلالة فيه على أنه بمنزلة هارون من موسى من كل وجه إذ لو كان كذلك لم يقدم عليه أبا بكر رضي الله عنه في الحج ولا في الصلاة كما أن هارون لم يكن موسى يقدم عليه غيره فالتشبيه به في الاستخلاف خاص كما قررنا.
وقال الإمام الحافظ البيهقي رضي الله عنه في كتاب الاعتقاد عقب الحديث المذكور لا يعني به (موسى عليه السلام) استخلاف (عليًّا) بعد وفاته وإنما يعني به استخلافه على المدينة عند خروجه إلى الطور وكيف يكون المراد به الخلافة بعد موته وقد مات هارون قبل موسى عليهما السلام؟!(2/15)
وكذا قال شيخ الإسلام محي الدين النووي في شرح صحيح مسلم في هذا الحديث: "إثبات فضيلة لعلي رضي الله عنه لا يعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعلي رضي الله عنه حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى نحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص وقالوا إنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة".
قال الشيخ الإمام أبو محمد إبراهيم الفاروقي رحمه الله: إن مفهوم الحديث يدل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن يوشع بن نون كان الخليفة بعد موسى عليهما السلام فكذلك أبو بكر رضي الله عنه. وليس معناه أن عليًّا أخًّا للنبي صلى الله عليه وسلم من النسب إذ لو كان كذلك لما جاز أن يتزوج من ابنته فاطمة رضي الله عنها فلم يبق إلا ما ذكرنا.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 201 - 212 ) .
وقال شيخ الإسلام ردًا على هذه الشبهة :
قال الرافضي : الثالث: قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. [أثبت له "عليه السلام" جميع منازل هارون من موسى - عليه السلام - للاستثناء]. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضاً، وإلا [لزم] تطرّق النقض إليه، ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغَيْبَة، أَوْلى بأن يكون خليفته".(2/16)
والجواب : أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في غزوة تبوك. وكان صلى الله عليه وسلم كلما سافر في غزوة أو عُمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أَمَرّ عثمان، وفي غزوة بني قَيْنُقاع بشير بن [عبد] المنذر، ولما غزا قريشاً ووصل إلى الفُرْع استعمل ابن أم مكتوم، وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره.
وبالجملة فمن المعلوم أنه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف. ؟؟؟؟ المسلمون من كان يستخلفه، فقد سافر من المدينة في عُمرتين: عمرة الحديبية وعمرة القضاء. وفي حجة الوداع، وفي مغازيه - أكثر من عشرين غزاة - وفيها كلها استخلف، وكان بالمدينة رجال كثيرون مستخلف عليهم من يستخلفه، فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد استخلف عنها، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلف الثلاثة الذين تِِيبَ عليهم، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه، لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً، كما كان يبقي في جميع مغازيه، فإنه كان بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف، فكل استخلاف استخلفه في مغازيه، مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى، وغزوة بني المصطلق، والغابة، وخيبر، وفتح مكة، وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال، ومغازيه بضع عشرة غزوة، وقد استخلف فيها كلها إلا القليل، وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك.(2/17)
وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون عليٌّ أفضل ممن استخلف عليه عليًّا. فلهذا خرج إليه عليٌّ - رضي الله عنه - يبكي، وقال: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟
وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه، وقال: إنما خلّفه لأنه يبغضه. فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم: إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي، وهذا الاستخلاف ليس بنقص ولا غضٍّ، فإن موسى استخلف هارون على قومه، فكيف يكون نقصاً وموسى لَيَفْعَله بهارون؟ فطيَّب بذلك قلب عليّ، وبيّن أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وإمامته، لا يقتضي إهانته ولا تخوينه، وذلك لأن المستخلَف يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرج معه جميع الصحابة.
والملوك - وغيرهم - إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به، ومعاونته لهم، ويحتاجون إلى مشاورته والانتفاع برأيه بلسانه، ويده وسيفه.
والمتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا منه فظن من ظن أن هذا غضاضة من عليٍّ، ونقص منه، وخفض من منزلته، حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة، التي تحتاج إلى سعي واجتهاد، بل تركه في المواضع التي لا تحتاج إلى كثير سعي واجتهاد فكان قول النبي صلى الله عليه وسلم مبيّناً أن جنس الاستخلاف ليس نقصاً ولا غضًّا، إذ لو كان نقصاً أو غضاً لما فعله موسى بهارون، ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده.
وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فجميع العسكر كان معه، ولم يُخَلَّف بالمدينة - غير النساء والصبيان - إلا معذورٌ أو عاصٍ.(2/18)
وقول القائل: "هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا" هو كتشبيه الشيء بالشيء. وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلَّ عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء. ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى لمّا استشار أبا بكر، وأشار بالفداء، واستشار عمر، فأشار بالقتل. قال: "سأخبركم عن صاحبيكم. مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة إبراهيم: 36]، ومثل عيسى إذ قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة المائدة: 118]. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [سورة نوح: 26]، ومثل موسى إذ قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [سورة يونس: 88]".
فقوله لهذا : مثلك كمثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى - أعظم من قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى؛ فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.
وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق، وهو في استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون. وهذا الاستخلاف ليس من خصائص عليّ، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها. وقد استخلف مَنْ عليّ أفضل منه في كثير من الغزوات، ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف عَلَى علي إذا قعد معه، فكيف يكون موجباً لتفضيله على عليّ؟(2/19)
بل قد استخلف على المدينة غير واحد، وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف عليّ، بل كان ذلك استخلاف يكون عَلَى أكثر وأفضل ممن استخلف عليه عام تبوك، استدعت الحاجة إلى الاستخلاف أكثر، فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة.
فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز، وفُتحت مكة، وقوي الإسلام وعزّ. ولهذا أمر الله نبيّه أن يغزو أهل الكتاب بالشام، ولم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو. ولهذا لم يَدَع النبي صلى الله عليه وسلم عند عليّ أحداً من المقاتلة، كما كان يَدَع بها في الغزوات، بل أخذ المقاتلة كلهم معه.
وتخصيصه لعليّ بالذكر هنا هو مفهوم اللقب، وهو نوعان: لقب هو جنس، ولقب يجري مجرى العلم، مثل زيد، وأنت. وهذا المفهوم أضعف المفاهيم، ولهذا كان جماهير أهل الأصول والفقه على أنه لا يُحتج به. فإذا قال: محمد رسول الله، لم يكن هذا نفياً للرسالة عن غيره، لكن إذا كان في سياق الكلام ما يقتضي التخصيص، فإنه يحتج به على الصحيح.
كقوله: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [سورة الأنبياء: 79]، وقوله: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين: 15].
وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس فهذا من ذلك؛ فإنه إنما خصَّ عليًّا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان.
ومن استخلفه سوى عليّ، لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصًا، لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام. والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتضِ الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى، كما أنه لما قال للمضروب الذي نَهَى عن لعنه: " دعه؛ فإنه يحب الله ورسوله" لم يكن هذا دليلاً على أن غيره لا يحب الله ورسوله، بل ذكر ذلك لأجل الحاجة إليه لينهي بذلك عن لعنه.(2/20)
ولما استأذنه عمر - رضي الله عنه - في قتل حاطب بن أبي بلتعة، قال: "دعه؛ فإنه قد شهد بدرًا" ولم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدراً، بل ذكر المقتضى لمغفرة ذنبه.
وكذلك لما شهد للعشرة بالجنة، لم يقتض أن غيرهم لا يدخل الجنة، لكن ذكر ذلك لسبب اقتضاه.
وكذلك لما قال للحسن وأسامة: " اللهم! إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما" لا يقتضي أنه لا يحب غيرهما، بل كان يحب غيرهما أعظم من محبتهما.
وكذلك لما قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة" لم ينفي أن من سواهم يدخلها.
وكذلك لما شبّه أبا بكر بإبراهيم وعيسى، لم يمنع ذلك أن يكون من أمته وأصحابه من يشبه إبراهيم وعيسى. وكذلك لمّا شبّه عمر بنوح وموسى، لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحاً وموسى.
فإن قيل: إن هذين أفضل من يشبههم من أمته.
قيل: الاختصاص بالكمال لا يمنع بالمشاركة في أصل التشبيه.
وكذلك لما قال عن عروة بن مسعود: "إنه مثل صاحب ياسين".
وكذلك لما قال للأشعريين: "هم مني وأنا منهم" لم يختص ذلك بهم، بل قال لعليّ: "أنت مني وأنا منك" وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" وذلك لا يختص بزيد، بل أسامة أخوهم ومولاهم.
وبالجملة الأمثال والتشبيهات كثيرة جداً، وهي لا توجب التماثل من كل وجه، بل فيما سيق الكلام له، ولا تقتضي اختصاص المشبَّه بالتشبيه، بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك.
قال الله تعالى: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [سورة البقرة: 261].
وقال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [سورة يس: 13].
وقال: { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [سورة آل عمران: 117].
وقد قيل: إن في القرآن اثنين وأربعين مثلاً.(2/21)
وقول القائل: إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل؛ فإن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟" دليل على أن يسترضيه بذلك ويطيِّب قلبه لِمَا توهم من وهن الاستخلاف ينقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له.
وقوله: "بمنزلة هارون من موسى" أي مثل منزلة هارون، فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره، وإنما يكون له ما يشابهها، فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر: مثل نوح وموسى.
ومما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك، ثم بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الموسم، وأردفه بعليّ، فقال [عليّ]: أمير أم مأمور؟ [فقال: بل مأمور]، فكان أبو بكر أميراً عليه، وعليّ معه كالمأمور مع أميره: يصلّي خلفه، ويطيع أمره وينادي خلفه مع الناس بالموسم: أَلاَ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان.
وإنما أردفه به لينبذ العهد إلى العرب، فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود وينبذها إلا السيد المطاع، أو رجل من أهل بيته. فلم يكونوا يقبلون نقض العهود إلا من رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يبيّن ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده، لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به، ولا كان أخَّره حتى يخرج إليه عليّ ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم، بلفظ يبين المقصود.
ثم من جهل الرافضة أنهم يتناقضون، فإن هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب عليًّا بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك، فلو كان عليّ قد عرف أنه المستخلَف من بعده - كما رووا ذلك فيما تقدم - لكان عليّ مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده وفي حياته، ولم يخرج إليه يبكي، ولم يقل له: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟(2/22)
ولو كان عليّ بمنزلة هارون مطلقًا لم يستخلف عليه أحدًا. وقد كان يستخلف عَلَى المدينة غيره وهو فيها، كما استخلف على المدينة عام خيبر غير عليّ، وكان عليّ بها أرمد، حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم، وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: "لأعطين الراية [غدًا] رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
وأما قوله: "لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة أَوْلى بأن يكون خليفته".
فالجواب: أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير عليّ استخلافاً أعظم من استخلاف عليّ، واستخلف أولئك عَلَى أفضل من الذين استخلف عليهم عليًّا، وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير عليّ في حجة الوداع، فليس جعل عليّ هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأَوْلى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه، وأعظم مما استخلفه، وآخر الاستخلاف كان عَلَى المدينة كان عام حجة الوداع، وكان عليّ باليمن، وشهد معه الموسم، لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير عليّ.
فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف، فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أَوْلى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.(2/23)
وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه، ولا تدل على الأفضلية، ولا على الإمامة، بل قد استخلف عدداً غيره. ولكن هؤلاء جهّال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين عليّ وغيره. خاصة بعليّ، وإن كان غيره أكمل منه فيها، كما فعلوا في النصوص والوقائع. وهكذا فعلت النصارى: جعلوا ما أتى به المسيح من الآيات دالاً على شيء يختص به من الحلول والاتحاد، وقد شاركه غيره من الأنبياء فيما أتى به، وكان ما أتى به موسى من الآيات أعظم مما جاء به المسيح، فليس هناك سبب يوجب اختصاص المسيح دون إبراهيم وعيسى، لا بحلول ولا اتحاد، بل إن كان ذلك كله ممتنعاً، فلا ريب أنه كله ممتنع في الجميع، وإن فُسِّر ذلك بأمر ممكن، كحصول معرفة الله والإيمان به، والأنوار الحاصلة بالإيمان به ونحو ذلك، فهذا قدر مشترك وأمر ممكن.
وهكذا الأمر مع الشيعة: يجعلون الأمور المشتركة بين عليّ وغيره، التي تعمّه وغيره، مختصة به، حتى رتّبوا عليه ما يختص به من العصمة والإمامة والأفضلية. وهذا كله منتفٍ.
فمن عرف سيرة الرسول، وأحوال الصحابة، ومعاني القرآن والحديث: علم أنه ليس هناك اختصاص بما يوجب أفضليته ولا إمامته، بل فضائله مشتركة، وفيها من الفائدة إثبات إيمان عليّ وولايته، والرد على النواصب الذين يسبّونه أو يفسّقونه أو يكفرونه ويقولون فيه من جنس ما تقوله الرافضة في الثلاثة.
ففي فضائل عليّ الثابتة ردٌّ على النواصب، كما أن في فضائل الثلاثة ردًّا على الروافض.
وعثمان - رضي الله عنه - تقدح فيه الروافض والخوارج، ولكن شيعته يعتقدون إمامته، ويقدحون في إمامة عليّ. وهم في بدعتهم خير من شيعة عليّ الذين يقدحون في غيره. والزيدية الذين يتولون أبا بكر وعمر ومضطربون فيه.(2/24)
وأيضاً فالاستخفاف في الحياة نوع نيابة، لا بد منه لكل ولي أمر، وليس كل [مَنْ] يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يُستخلف بعد الموت؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في حياته غير واحد، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته، وذلك كبشير بن [عبد] المنذر وغيره.
وأيضاً فإنه مطالب في حياته بما يجب عليه من القيام بحقوق الناس، كما يُطالَب بذلك ولاة الأمور. وأما بعد موته فلا يطالب بشيء، لأنه قد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، نصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربّه. ففي حياته يجب عليه جهاد الأعداء، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، واستعمال العمّال، وغير ذلك مما يجب على ولاة الأمور بعده، وبعد موته لا يجب عليه شيء من ذلك.
فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت. والإنسان إذا استخلف أحداً في حياته عَلَى أولاده وما يأمر به من البرّ، كان المستخلف وكيلاً محضاً يفعل ما أَمَر به الموكِّل وإن استخلف أحداً على أولاده بعد موته، كان وليًّا مستقلاً يعمل بحسب المصلحة، كما أمر الله ورسوله، ولم يكن وكيلاً للميّت.
وهكذا أولو الأمر إذا استخلف أحدهم شخصاً في حياته، فإنه يفعل ما يأمره به في القضايا المعيّنة. وأما إذا استخلفه بعد موته، فإنه يتصرف بولايته كما أمر الله ورسوله، فإن هذا التصرف مضاف إليه لا إلى الميت، بخلاف ما فعله في الحياة بأمر مستخلِفه، فإنه يُضاف إلى من استخلَفه لا إليه. فأين هذا من هذا!؟
ولم يقل أحد من العقلاء: إن من استخلَف شخصاً على بعض الأمور. وانقضى ذلك الاستخلاف: إنه يكون خليفة بعد موته على شيء، ولكن الرافضة من أجهل الناس بالمعقول والمنقول.
فصل(2/25)
قال الرافضي: الرابع: " أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغَيْبة، فيجب أن يكون خليفة له بعد موته. وليس غير عليّ إجماعاً، ولأنه لم يعزله عن المدينة، فيكون خليفة [له] بعد موته فيها، وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعاً".
والجواب: أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة، التي هي من جنس بيت العنكبوت. والجواب عنها من وجوه:
أحدها: أن نقول على أحد القولين: إنه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم. وإذا قالت الرافضة: بل استخلف عليًّا. قيل: الراوندية من جنسكم قالوا: استخلف العبّاس، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالّة على استخلاف أحدٍ بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر، ليس فيها شيء يدل على استخلاف عليّ ولا العباس، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحداً منهما. فيقال حينئذ: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أحداً فلم يستخلف إلا أبا بكر، وإن لم يستخلف أحداً فلا هذا ولا هذا.
فعلى تقدير كون الاستخلاف واجباً على الرسول، لم يستخلف إلا أبا بكر، فإن جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير أبي بكر، وإنما يدل ما يدل منها على استخلاف أبي بكر. وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة.
الوجه الثاني: أن نقول: أنتم لا تقولون بالقياس، وهذا احتجاج بالقياس، حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب. وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول: الفرق بينهما ما نبّهنا عليه في استخلاف عمر في حياته، وتوقفه في الاستخلاف بعد موته، لأن الرسول في حياته شاهد على الأمة، مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه، وبعد موته انقطع عنه التكليف.(2/26)
كما قال المسيح: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [سورة المائدة: 117] الآية، لم يقل: كان خليفتي الشهيد عليهم. وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف، فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فأقول كما قال العبد الصالح: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [سورة المائدة: 117].
وقد قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 144].
فالرسول بموته انقطع عنه التكليف، وهو لو استخلف خليفة في حياته ثم يجب أن يكون معصومًا، بل كان يولّي الرجل ولايةً، ثم يتبين كذبه فيعزله، كما ولَّى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو لو استخلف رجلاً لم يجب أن يكون معصوماً، وليس هو بعد موته شهيداً عليه، ولا مكلَّفاً بردّه عما يفعله، بخلاف الاستخلاف في الحياة.(2/27)
الوجه الثالث: أن يُقال: الاستخلاف في الحياة واجبٌ على كل وليّ أمر؛ فإن كل ولي أمر - رسولاً كان أو إماماً - عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور، فلا بد له من إقامة الأمر: إما بنفسه، وإما بنائبه. فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه، فيولّي عَلَى مَنْ غاب عنه مِن رعيته مَنْ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذ منهم الحقوق، ويقيم فيهم الحدود، ويعدل بينهم في الأحكام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولِّي الأمراء على السرايا: يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمِّر أمراء على الأمصار، كما أمّر عتاب بن أسيد على مكة، وأمّر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذاً وأبا موسى على قرى عُرينة وعلى نجران وعلى اليمن، وكما كان يستعمل عمالاً على الصدقة، فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحلّ له، كما استعمل غير واحد.
وكان يستخلف في إقامة الحدود، كما قال لأنيس: "يا أُنَيْس، اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها" فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
وكان يستخلف على الحج، كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك، وكان عليّ من جملة رعية أبي بكر: يصلّي خلفه، ويأتمر بأمره، وذلك بعد غزوة تبوك.
وكما استخلف على المدينة مراتٍ كثيرة، فإنه كان كلما خرج في غزاة استخلف. ولما حج واعتمر استخلف. فاستخلف في غزوة بدر، وبني المصطلق، وغزوة خيبر، وغزوة الفتح، واستخلف في غزوة الحديبية، وفي غزوة القضاء، وحجة الوداع، وغير ذلك.(2/28)
وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجباً على متولّي الأمر وإن لم يكن نبياً، مع أنه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته، لكون الاستخلاف في الحياة أمراً ضروريًّا لا يؤدَّى الواجب إلا به، بخلاف الاستخلاف بعد الموت، فإنه قد بلَّغ الأمة، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته، فيمكنهم أن يعينوا من يؤمِّرونه عليهم، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معيّن - عُلم أن لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت.
الرابع : أن الاستخلاف في الحياة واجبٌ في أصناف الولايات، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب، ويستخلف في الحج، وفي قبض الصدقات، وحفظ مال الفيء، وفي إقامة الحدود، وفي الغزو وغير ذلك.
ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء، بل ولا يمكن، فإنه لا يمكن أن يعيِّن للأمة بعد موته من يتولّى كل أمر جزئي، فإنهم يحتاجون إلى واحدٍ بعد واحد، وتعيين ذلك متعذر، ولأنه لو عيَّن واحداً فقد يختلف حاله ويجب عزله، فقد كان يولّي في حياته من اشتكى إليه فيعزله، كما عزل الوليد بن عقبة، وعزل سعد بن عبادة عام الفتح وولَّى ابنه قيساً، وعزل إماماً كان يصلِّي بقوم لما بصق في القبلة، وولَّى مرة رجلاً فلم يقيم بالواجب، فقال: "أعجزتم إذا ولّيت من لا يقوم بأمري أن تولّوا رجلاً يقوم بأمري" فقد فوّض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته، فكيف لا يفوض إليهم ابتداءً تولية من يقوم بالواجب؟!
وإذا كان في حياته من يولّيه ولا يقوم بالواجب فيعزله، أو يأمر بعزله، كان لو ولّى واحداً بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب، وحينئذ فيحتاج إلى عزله، فإذا ولّته الأمة وعزلته، كان خيرًا لهم من أن يعزلوا من ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف، وعلى هذا فنقول في:(2/29)
الوجه الخامس: أن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أَوْلى من الاستخلاف، كما اختاره الله لنبيه، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور، وذلك؛ لأنه: إما أن يُقال: يجب أن لا يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، وكان يصدر من بعض نوّابه أمور منكرة فينكرها عليهم، ويعزل من يعزل منهم. كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم، فَودَاهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف دياتهم، وأرسل عليّ بن أبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال: "اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصفيه" ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا.
واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قومٍ، فرجع فأخبره أن القوم امتنعوا وحاربوا، فأراد غزوهم، فأنزل الله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [سورة الحجرات: 6].
وولّى سعد بن عبادة يوم الفتح، فلما بلغه أن سعداً قال :
اليوم يوم الملحمة . . اليوم تستباح الحرمة
عزله، وولى ابنه قيساً، وأرسل بعمامته علامةً على عزله، ليعلم سعد أن ذلك أمرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان يُشْتَكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به، كما اشتكى أهل قباء معاذًا لتطويله الصلاة بهم، لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال: " أفتَّان أنت يا معاذ؟ اقرأ سبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، ونحوها".
وفي الصحيح أن رجلاً قال له: إني أتخلّف عن صلاة الفجر مما يطوِّل بنا فلان، فقال: "يا أيها الناس! إذا أمَّ أحدكم فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والكبير وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطوّل ما شاء".
ورأى إماماً قد بصق في قبلة المسجد، فعزله عن الإمامة، وقال: "إنك آذيت الله ورسوله".(2/30)
وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يعلّم خلفاءه ما جهلوا، ويقوِّمهم إذا زاغوا، ويعزلهم إذا لم يستقيموا. ولم يكونوا مع ذلك معصومين. فعُلم أنه لم يكن يجب عليه أن يولّي المعصوم.
وأيضاً فإن هذا تكليف ما لا يمكن؛ فإن الله لم يخلق أحداً معصوماً غير الرسول صلى الله عليه وسلم. فلو كُلِّف أن يستخلف معصوماً لكُلِّف ما لا يقدر عليه، وفات مقصود الولايات، وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا.
وإذا عُلم أنه كان يجوز - بل يجب - أن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم، فلو استخلف بعد موته كما استخلف في حياته، لاستخلف أيضاً غير معصوم، وكان لا يمكنه أن يعلّمه ويقوّمه كما كان يفعل في حياته، فكان أن لا يستخلف خيرًا من أن يستخلف.
والأمة قد بلغها أمر الله ونهيه، وعلموا ما أمر الله به ونهى عنه، فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله، ويعاونونه على إتمامهم القيام بذلك، إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك، فما فاته من العلم بيّنه له من يعلمه، وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة، وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم، وليس على الرسول ما حُمِّلوه، كما أنهم ليس عليهم ما حُمِّل.
فعُلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف، وأن من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس.
وإذا عَلٍمَ الرسول أن الواحد مِنَ الأُمَّة هُوَ أَحَقُّ بِالْخِلاَفَةِ، كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره، كان في دلالته للأمة على أنه أحق، مع علمه بأنهم يولُّونه، ما يغنيه عن استخلافه، لتكون الأمة هي القائمة بالواجب، ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول.(2/31)
وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر، وخاف أن لا يولُّوه إذا لم يستخلفه لشدته، فولاّه هو - كان ذلك هو المصلحة للأمة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن الأمة يولُّون أبا بكر، فاستغنى بذلك عنْ توليَتِه، مَع دلالته لهم عَلَى أنه أحق الأمة بالتولية. وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر. فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السادس: أن يقال: هب أن الاستخلاف واجب، فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، على قول من يقول: إنه استخلفه، ودلّ على استخلافه على القول الآخر.
وقوله : " لأنه لم يعزله عن المدينة ".
قلنا : هذا باطل؛ فإنه لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم انعزل عليٌّ عند رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع. وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه الموسم في حجة الوداع، واستخف عَلَى المدينة في حجة الوداع غيره.
أفترى النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقيماً وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة؟!
ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، كأنهم ظنّوا أن عليًّا ما زال خليفة عَلَى المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن عليًّا بعد ذلك أرسله النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر. ثم عند رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذًا وأبا موسى.
ثم لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع استخلف عَلَى المدينة غير عليٍّ، ووافاه عليّ بمكة، ونحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، نحر بيده ثُلُثيها، ونحر علي ثلثها.(2/32)
وهذا كله معلوم عند أهل العلم، متفق عليه بينهم، وتواترت به الأخبار، كأنك تراه بعينك. ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية.
والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته. فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها، كما أن سائر من استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع انقضت خلافته. وكذلك سائر ولاة الأمور: إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلِف.
ولهذا لا يصلح أن يُقال: إن الله يستخلف أحداً عنه، فإنه حيٌّ قيوم شهيد مدبّر لعباده، منزّه عن الموت والنوم والغَيْبة.
ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله. قال: لست خليفة الله، بل خليفة رسول الله، وحسبي ذلك.
والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم! أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل". وقال في حديث الدجَّال: "والله خليفتي على كل مسلم".
وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان فيه.
كقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم} [سورة يونس: 14]، { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [سورة الأعراف: 69]، { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [سورة النور: 55].
وبذلك قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: 30]، خليفة عن خلقٍ كان في الأرض قبل ذلك، كما ذكر المفسرون وغيرهم.
وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية وغيرهم أن الإنسان خليفة الله، فهذا جهل وضلال.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 325-353) .
الشبهة(2) : احتجاجهم بآية المباهلة
قال عبدالله بن الحسين السويدي في مناظرته مع أحد علماء الشيعة :(2/33)
ثم قال - أي الشيعي - : عندي دليل آخر لا يقبل التأويل، وهو قوله تعالى: { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }.
قلت له :- ما وجه الدليل من هذه الآية؟
فقال :- إنه لما أتى نصارى نجران للمباهلة، احتضن النبي صلى الله عليه وسلم الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة من ورائهم وعلي خلفها، ولم يقدّم إلى الدعاء إلا الأفضل.
قلت : هذا من باب المناقب، لا من باب الفضائل. وكل صحابي اختص بمنقبة لا توجد في غيره، كما لا يخفى على من تتبع كتب السير. وأيضاً إن القرآن نزل على أسلوب كلام العرب، وطرز محاوراتهم. ولو فرض أن كبيرين من عشيرتين وقع بينهما حرب وجدال، يقول أحدهما للآخر. ابرز أنت وخاصة عشيرتك، وأبرز أنا وخاصة عشيرتي، فنتقابل ولا يكوّن معنا من الأجانب أحد، فهذا لا يدل على أنه لم يوجد مع الكبيرين أشجع من خاصتهما. وأيضاً الدعاء بحضور الأقارب يقتضي الخشوع المقتضي لسرعة الإجابة.
فقال : ولا ينشأ الخشوع إذ ذاك إلا من كثرة المحبة.
فقلت : هذه محبة مرجعها إلى الجبلَّة والطبيعة، كمحبة الإنسان نفسه وولده أكثر ممن هو أفضل منه ومن ولده بطبقات فلا يقتضي وزراً ولا أجراً إنما المحبة المحدودة التي تقتضي أحد الأمرين المتقدمين إنما هي المحبة الاختيارية.
فقال : وفيها وجه آخر يقتضي الأفضلية، وهو حيث جعل نفسه صلى الله عليه وسلم نفس علي، إذ في قوله: " أبناءنا " يراد الحسن والحسين، وفي "نساءنا" يراد فاطمة، وفي " أنفسنا " لم يبق إلا علي والنبي صلى الله عليه وسلم.(2/34)
فقلت : الله أعلم أنك لم تعرف الأصول، بل ولا العربية. كيف وقد عبر بأنفسنا، و" الأنفس" جمع قلة مضافاً إلى " نا " الدالة على الجمع ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي تقسيم الآحاد، كما في قولنا: "ركب القوم دوابهم" أي ركب كل واحد دابته. وهذه مسألة مصرحة في الأصول، غاية الأمر أنه أطلق الجمع على ما فوق الواحد وهو مسموع كقوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان - رضي الله تعالى عنهما -، وقوله تعالى: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولم يكن لهما إلا قلبان. على أن أهل الميزان يطلقون الجمع في التعاريف على ما فوق الواحد، وكذلك أطلق الأبناء على الحسن والحسين، والنساء على فاطمة فقط مجازاً. نعم لو كان بدل أنفسنا "نفسي" لربما كان له وجه ما بحسب الظاهر.
وأيضاً لو كانت الآية دالة على خلافة عليّ لدلت على خلافة الحسن والحسين وفاطمة مع أنه بطريق الاشتراك، ولا قائل بذلك لأن الحسن والحسين إذ ذاك صغيران وفاطمة مفطومة كسائر النساء عن الولايات، فلم تكن الآية دالة على الخلافة.
فانقطع..
( المرجع : الخطوط العريضة ، محب الدين الخطيب ، ص 78-81) .
الشبهة(3): احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق حيث ما دار"
وجوابه :
أولاً : ما قاله الإمام الحافظ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا الحديث بهذا اللفظ ليس في شيء من الكتب الأمهات إلا في الترمذي وليس فيه إلا قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه خاصة" وأما الزيادة فليست فيه.(2/35)
(كذلك قال الشيخ الإمام مجد الدين الفيروز آبادى، أنه لا يصح من طريق الثقات أصلاً والزيادة التي ألحقوها به كذب وقوله: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه ليس بصريح في حكمه كما يزعمه الرافضة لا من التصريح هو الذي لا يتحمل التأويل، وأيضاً اللفظ "المولى" مشتركة في محامل يطلق على العبد والسيد وعلى المعتق وعلى الزعيم وعلى الناصر وعلى الأولى فليست بصريحة كما يدعوه) وأما الزيادة كوفية، ولا ريب أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه.
أحدها: أن الحق لا يدور مع أحد، شخص معين بعد رسول صلى الله عليه وسلم حيث ما دار لا مع أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم؛ لأنه لو كان كذلك لكان بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم يجب إتباعه في كل ما يقول. ومعلوم أن عليًّا رضي الله عنه كان ينازعه أصحابه وأتباعه في مسائل كثيرة ولا يرجعون فيها إلى قوله، بل فيها مسائل كثيرة وجد فيها نصوص النبي صلى الله عليه وسلم توافق من نازعه لا قوله. منها المرأة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً فإن عليًّا أفتى بأنها تعتد أبعد الأجلين وعمر وابن مسعود وغيرهما أفتوا بأنها تعتد بوضع الحمل وبهذا جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل بن بعكك، أفتى بمثل قول علي رضي الله عنه وقال صلى الله عليه وسلم: كذب أبو السنابل قد حللت فانكحي. يقول لسبيعة الأسلمية لما سأله عن ذلك.(2/36)
وقوله عليه السلام (فيما زعموا): أُنصر من نصره، واخذل من خذله؛ فإن الواقع ليس كذلك فقد قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا وأقوام لم يقاتلوا معه فما خذلوا. كسعد بن أبي وقاص الذي فتح العراق لم يقاتل معه وكذا أصحاب معاوية رضي الله عنه وبنو أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيراً من بلاد الكفار ونصرهم الله تعالى. لاسيما من كان على رأي الشيعة فإنهم دائماً مخذولون وأهل السنة منصورون. وهم يقولون: أنهم ينصرونه وأهل السنة يخذلونه. ويسمون أنفسهم المؤمنين وهم متصفون بصفات بغير صفات المؤمنين فإن سيماهم التقية وهو أن يقول أحدهم بلسانه ما ليس في قلبه وهذا من صفات المنافقين. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
وللمنافقين الذلة لا العزة وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} والنصر والغلبة لأهل السنة لا للشيعة.
وقوله: " اللهم! والِ من والاه وعاد من عاداه " مخالف لأصول الإسلام. فإن القرآن قد بيَّن أن المؤمنين مع اقتتالهم وبغى بعضهم على البعض هم إخوة مؤمنون كما قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا...} الآية.
فكيف يجوز أن يقول عليه السلام لواحد من أمته: " اللهم والِ من والاه.." الخ، والله تعالى قد أخبر أنه ولي المؤمنين والمؤمنون أولياءه وبعضهم أولياء بعض، وأنهم إخوة، وإن اقتتلوا أو بغوا؟! على أن حديث " من كنت مولاه " قد طعن فيه علماء الحديث كالبخاري.(2/37)
وإبراهيم الحربي وغيرهما. وحسنه أحمد والترمذي، وغيرهما، فإن كان قاله فما أراد به ولاية يختص بها بل لم يرد به إلا الولاية المشتركة وهي ولاية الإيمان التي جعلها الله تعالى بين عباده المؤمنين وبيَّن بهذا أن عليًّا رضي الله عنه من المؤمنين الذين يجب موالاتهم، وليس هو كما يقول النواصب من: أنه كافر أو فاسق فلا يستحق الموالاة. والموالاة ضد المعاداة ولا ريب أنه يجب الموالاة لجميع المؤمنين وعلي رضي الله عنهم وسائر المهاجرين والأنصار ولا يجوز معاداة أحد من هؤلاء فمن لم يولهم فقد عصى الله ورسوله .قال أهل السنة وسبب: قوله عليه السلام: من كنت مولاه فعلي مولاً له " أن أسامة بن زيد أنكر ولاية علي.
وأما حديث التصدق بالخاتم في الصلاة فكذب موضوع باتفاق أهل المعرفة، وأما ما يظن الرافضة من أن في الآية والحديث دلالة أن عليًّا رضي الله عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الجهل المقطوع. بخطأ صاحبه فإن الولاء بالفتح وهو ضد العداوة والاسم منه مولى ولي. والولاية بالكسر والاسم منها والي ومتولي.
قال سبحانه: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} والوالي من الموالاة وكذلك الولي، وهي ضد المعاداة، وهي من الطرفين لقوله تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ}. فمعنى الحديث إن صح "من كنت مولاه": يواليني ويواليه، فعلي مولاه، يوالي عليًّا وعليّ يواليه، وهذا واجب لكل مؤمن.(2/38)
قال البيهقي في كتاب " الاعتقاد": " ليس في الحديث إن صح إسناده نص على ولاية علي رضي الله عنه بعد (النبي صلى الله عليه وسلم) فقد ذكرنا من طرق في كتاب "الفضائل" ما دلَّ على مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأكثروا بغضه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم بذلك على مودته وموالاته وترك معاداته فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". وفي رواية "من كنت وليه فعلي وليه" والمراد به ولاء الإسلام ومودته، وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضاً ولا يعادي بعضهم بعضاً، وهو في معنى ما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ نسمته أنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. وكذا قال الإمام الشافعي أن المراد به في الحديث ولاء الإسلام.
ذلك كقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} ولما سأل عنه الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم فقال له: لو يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين وقال: يا أيها الناس! هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، والله لئن كان الله عز وجل ورسوله اختارا عليًّا لهذا الأمر وجعله القائم به للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله، لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله وأعظم الناس خطيئة وجرماً في ذلك.
قال الإمام البيهقي وكذا قال أخوه عبد الله بن الحسن وروينا عنه أنه قال: مَن هذا الذي يزعم أن عليًّا رضي الله عنه كان مقهوراً وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأمور لم ينفذها فكفى به أزراً على علي رضي الله عنه ومنقصه بأنه يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأمر فلم ينفذه.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 212 - 224 ) .(2/39)
الشبهة(4): احتجاجهم بحديث ( غدير خُم )
وهو قوله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خُمّ: " أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" وهو حديث رواه مسلم في صحيحه.
وخُمّ بضم المعجمة والميم المشددة اسم الغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة.
وجوابه أن هذا الحديث ليس من خصائص علي رضي الله عنه بل هو مشترك بين جميع أهل البيت آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس.
وأبعد الناس عن قبول هذه الوصية الطائفة الرافضة فأنهم يعادون العباس وبنيه وذريته رضي الله عنهم بل يعادون جمهور أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويعاونون الكفار الذين يعادون أهل البيت وأهل الإسلام.
وأما أهل السنة فإنهم يعرفون حقوق أهل البيت ودرجاتهم ويحبونهم كلهم ويوالونهم ويلعنون من ينصب لهم العداوة.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 224 - 225 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: الثاني: الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [سورة المائدة: 67] خطب الناس في غدير خُم وقال للجمع كله: يا أيها الناس، ألست أَوْلى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه. اللهم! والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فقال عمر: بخٍ، بخٍ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. والمراد بالمولى هنا: الأوْلى بالتصرف لتقدّم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ألست أَوْلى منكم بأنفسكم؟
والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدّم، وبيَّنا أن هذا كذب، وأن قوله: { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [سورة المائدة: 67] نزل قبل حجة [الوداع] بمدة طويلة.(2/40)
ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث. ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولاً قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[سورة المائدة: 3] وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم.
وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام، فكيف يكون قوله: { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [سورة المائدة: 67] نزل ذلك الوقت، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، وإن كان ذلك في سورة المائدة، كما أن فيها تحريم الخمر، والخمر حُرِّمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد، وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله: { فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [سورة المائدة: 42]. وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء. ورجم اليهوديين كان أول ما فعله بالمدينة، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق.
والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية، وقبل فتح خيبر. وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين، وذلك كله قبل حجة الوداع، وحجة الوداع قبل خطبة الغدير.
فمن قال: إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفترٍ باتفاق أهل العلم.(2/41)
وأيضاً فإن الله تعالى قال في كتابه: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [سورة المائدة: 67] فضمن له سبحانه أن يعصمه من الناس إذا بلّغ الرسالة ليؤمّنه بذلك من الأعداء. ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يُحرس، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك.
وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ، وفي حجة الوداع تم التبليغ.
وقال في حجة الوداع: "ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟" قالوا: نعم قال: "اللهم! اشهد" وقال: "أيها الناس، إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله. وأنتم تسألونه عني فما أنتم قائلون؟" قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" وهذا حديث جابر في صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة.
وقال : "ليبلِّغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلَغٍ أوعى من سامع".
فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدّم، فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجّة الوداع، لأنه قد بلًَّغ قبل ذلك، ولأنه حينئذ لم يكن خّائِفاً من أحدٍ يَحْتَاجُ أَنْ يُعصم مِنْه، بل بَعْد حَجَّة الوَدَاع كان أهلْ مَكَّة والمدينة وما حَوْلَهُما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم كافر ، والمنافقون مقموعون مُسِرُّون للنفاق، ليس فيهم من يحاربه ولا من يخاف الرسول منه. فلا يُقال له في هذه الحال: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [سورة المائدة: 67] .(2/42)
وهذا مما يبيّن أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أُمر بتبليغه، الذي بلًَّغه في حجة الوداع؛ فإن كثيراً من الذين حجُّوا معه - أو أكثرهم - لم يرجعوا معه إلى المدينة، بل رجع أهل مكة إلى مكة، وأهل الطائف إلى الطائف، وأهل اليمن إلى اليمن، وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى وديانهم. وإنما رجع [معه] أهل المدينة ومن كان قريباً منها.
فلو كان ما ذَكَرَهُ يَوْمَ الغَدِيْر مِمَّا أُمر بتبليغه، كالذي بلَّغه في الحج، بلغه في حجة الوداع كما بلَّغ غيره، فلما لم يذكر في حجّة الوداع إمامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلاً، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعف أنه في حجّة الوداع ذكر إمامة عليّ، بل ولا ذكر عليًّا في شيء من خطبته، وهو المجمع العام الذين أُمر فيه بالتبليغ العام - عُلم أن إمامة عليّ لم تكن من الدين الذي أُمر بتبليغه، بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يُذكر في إمامته.
والذي رواه مسلم أنه بغدير خم قال: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله" فذكر كتاب الله وحضَّ عليه ثم قال: "وعترتي أهل بيتي، أذكِّركم الله [في أهل بيتي]" ثلاثاً. وهذا مما انفرد به مسلم، ولم يروه البخاري، وقد رواه الترمذي وزاد فيه: " وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض".
وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة، وقال: إنها ليست من الحديث. والذين اعتقدوا صحتها قالوا: إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالةٍ. وهذا قاله طائفة من أهل السنّة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلي وغيره.(2/43)
والحديث الذي في مسلم، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، فليس فيه إلا الوصية باتِّباع كتاب الله. وهذا أمر قد تقدّمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر بإتِّباع العترة، ولكن قال: "أذكّركم الله في أهل بيتي" وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدّم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم، والامتناع من ظلمهم. وهذا أمر قد تقدّم بيانه قبل غدير خُم.
فعلم أنه لم يكن في غدير خُم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حق عليّ ولا غيره، لا إمامته ولا غيرها.
لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه". وأما الزيادة وهي قوله: "اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه.." إلخ، فلا ريب أنه كذب.
ونقل الأثرم في "سننه" عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر، إنه حدّث بحديثين: أحدهما: قوله لعليّ: إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ. والآخر: اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه. فأنكره أبو عبيد جداً، لم يشك أن هذين كذب.
وكذلك قوله: أنت أَوْلى بكل مؤمن ومؤمنة، كذب أيضًا.
وأما قوله: "من كنت مولاه فعليّ مولاه" فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنُقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعَّفوه، ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه حسَّنه كما حسَّنه الترمذي. وقد صنَّف أبو العباس بن عُقْدة مصنَّفًا في جميع طرقه.
وقال ابن حزم: "الذي صح من فضائل عليّ فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" وقوله: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليًّا: "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق". وقد صحَّ مثل هذا في الأنصار أنهم "لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر".(2/44)
قال: "وأما "من كنت مولاه فعليّ مولاه" فلا يصح من طريق الثقات أصلاً. وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض موضوعه، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها".
فإن قيل : لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: "أنت مني وأنا منك" وحديث المباهلة والكساء.
قيل : مقصود ابن حزم: الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يُذكر إلا عليّ. وأما تلك ففيها ذكر غيره، فإنه قال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي" وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر عليّ وفاطمة وحسن وحسين - رضي الله عنهم -، فلا ورد هذا على ابن حزم.
ونحن نجيب بالجواب المركّب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه. ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلَّغ بلاغًا مبينًا.
وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة. وذلك أن المولى كالولي. والله تعالى قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [سورة المائدة: 55]، وقال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [سورة التحريم: 4]، فبيَّن أن الرسول وليَّ المؤمنين، وأنهم مواليه أيضاً، كما بيَّن أن الله وليّ المؤمنين، وأنهم أولياؤهم، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدراً، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه. فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفّار لا يحبون الله ورسوله، ويُحادّون الله ورسوله ويعادونه.(2/45)
وقد قال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [سورة الممتحنة: 1]. وهو يجازيهم على ذلك، كما قال تعالى:{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [سورة البقرة: 279].
وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.
والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن. فعليُّ - رضي الله عنه - من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
وفي هذا الحديث إثبات إيمان عليّ في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره، فكيف رسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين، فعلي أيضًا له مولى بطريق الأَوْلى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولونه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أسلم وغفاراً ومزينة وجهينة وقريشاً والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جعل صالح المؤمنين مواليه والله ورسوله مولاهم.
وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي. فباب الولاية - التي هي ضدّ العداوة - شيء، وباب الولاية - التي هي الإمارة - شيء.
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعليّ واليه، وإنما اللفظ "من كنت مولاه فعليّ مولاه".
وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين؛ فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.(2/46)
وأما كونه أَوْلى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أَوْلى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قُدِّر أنه نصَّ على خليفة من بعده، لم يكن ذلك موجباً أن يكون أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال من كنت أَوْلى به من نفسه فعليّ أَوْلى به من نفسه، وهذا لم يقله، ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعاً؛ لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة عليّ - لو قدر وجودها - لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون عليٌّ خليفة في زمنه، فلا يكون حينئذ أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين، إذا أُريد [به] الخلافة.
وهذا مما يدل على أنه لم يُرِد الخلافة؛ فإن كونه وليّ كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتأخر حكمه إلى الموت. وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت. فعُلم أن هذا ليس حقًّا.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحدًا على بعض الأمور في حياته، أو قُدِّر أنه استخلف أحداً على بعض الأمور في حياته، قُدِّر أنه استخلف أحداً بعد موته، وصار له خليفة بنص أو إجماع، فهو بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم، فلا يكون قط غيره أولى كل مؤمن من نفسه، لاسيما في حياته.
وأما كون عليّ وغيره مولى كل مؤمن، فهو وصف ثابت لعليّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليّ، فعلي اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متولياً على الناس. وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتًا .
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 313-325) .
الشبهة(5): احتجاجهم بحديث : "أقضاكم علي"
وجوابه :(2/47)
أولاً : فقد قال الإمام الحافظ تقي الدين ابن تيمية أنه حديث غير معروف ولم يروه أحد من كتب السنة وأهل المسانيد المشهورة لا أحمد ولا غيره لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب. نعم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أُبيّ أقرأنا وعلي أقضانا" وقال ذلك بعد موت أبي بكر رضي الله عنه. وروى الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمها بالفرائض زيد ابن ثابت. وليس فيه ذكر علي ،ضعّفه بعض وحسّنه بعض ، والحديث الذي فيه ذكر علي مع ضعفه اتفاقاً فيه أن معاذ بن جبل أعلم بالحلال والحرام وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض. فلو قدر صحة هذا الحديث لكان الأعلم بالحلال والحرام أوسع علماً من الأعلم بالقضاة؛ لأن الذي يختص بالقضاة إنما هو فصل الخصومات في الظواهر مع جواز أن يكون الباطن بخلافه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون الحق بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار".
فقد أخبر سيد القضاة أن قضاه لا يحل الحرام ، بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضاء منا قضى له به من حق الغير، وعلم أن الحلال والحرام يتناول الباطن والظاهر فكان الأعلم به أعلم بالدين وأيضاً أن القضاء نوعان.
أحدهما : عند تجاحد الخصمين مثل أن يدعي أحدهما أمراً ينكره الآخر فيه فيحاكم فيه بالبينة ونحوها.(2/48)
الثاني : ما لا يتجاحدان فيه بل يتصادقان ولكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسمة فريضة أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر أو ما يستحقه كل من الشريكين، ونحو ذلك. فهذا الباب وهو من باب والحلال والحرام، فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك ولم يحتاجا إلى من يحكم، وإنما يحتاجان عند التجاحد وذلك إنما يكون في الأغلب مع الفجور، وقد يكون مع النسيان. وأما الحلال والحرام فيحتاج إليه كل أحد من بر وفاجر وما يختص بالقضاء ولا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار.
وهذا لما أمر أبو بكر عمر رضي الله عنهما أن يقضي بين الناس مكث حولاً لم يتحاكم اثنان في شيء ولوعد مجموع ما قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ عشر حكومات، فأين هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام الذي هو قوام دين الإسلام ويحتاج إليه الخاص والعام.
وقوله صلى الله عليه وسلم أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله: "أقضاكم علي" لو كان مما يحتج به. وإذا كان أصح سنداً وأظهر دلالة علم أن المحتج به على أن عليًّا أعلم من معاذ بن جبل جاهل فكيف من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الذين هما أعلم من معاذ بن جبل. والله أعلم.
وثانياً نقول: هذا إن ثبت لا حجة فيه لهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف كل صحابي بما فيه فقال: "أفرضكم زيد، وأقرأكم أبي" ثم لم يكفهم هذا حتى يعدوا وطعنوا في كبار الصحابة طعناً يقتضي التكفير والظلم وهو بهتان، فإن القرآن العزيز قد شهد بعد التهم .
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 226 - 229 ) .
الشبهة(6): احتجاجهم بحديث : "أنا مدينة العلم وعلي بابها"(2/49)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو أضعف وأوهى من الذي قبله، ولهذا أعده ابن الجوزي في الموضوعات المكذوبات وبيّن وضعه من سائر طرق. والكذب يعرف من نفسه متنه لا يحتاج إلى النظر في إسناده. فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد. ولا يجوز أن المبلغ للعلم عنه واحد بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب دون الواحد. وخبر رواية الواحد لا يفيد العلم إلا مع القرائن فتلك القرائن إما أن تكون متيقنة وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام.
وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل ظنه مدحاً وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة رضي الله عنهم، ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير طريق علي.
أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهم ظاهر وكذلك أهل الشام والبصرة فإن هؤلاء لم يكونوا يرون عن علي رضي الله عنه إلا قليلاً، وإنما غالب علمه كان في أهل الكوفة ومع هذا فقد كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان بن عفان، فضلاً عن خلافة علي وكان أفقه أهل المدينة وأعلمهم، تعلموا الدين في خلافة عمر رضي الله عنه. وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي إلا من تعلم منه لما كان باليمن كما تعلموا من معاذ بن جبل وكان مقام معاذ في أهل اليمن وتعليمه أكثر من مقام علي وتعليمه ورووا عن معاذ أكثر مما رووا عن علي وشريح وغيره من أكابر التابعين، إنما تفقهوا على معاذ ولما قدم على الكوفة كان شريح قاضياً فيها قبل ذلك، وعلي وجه على القضاء في خلافته شريحاً وعبيدة السلماني وكلاهما تفقه على غيره.(2/50)
فإذا كان علم الإسلام بالحجاز والشام واليمن والعراق وخراسان ومصر والمغرب قبل أن يقدم على الكوفة. لما صار إلى الكوفة عامة ما بلغه من العلم غيره من الصحابة رضي الله عنهم ولم يختص علي رضي الله عنه بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه فالتبليغ للعلم الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أكثر مما حصل لعلي رضي الله عنه، وأما الخاص فابن عباس رضي الله عنه كان أكثر فتيا من علي رضي الله عنهما، وأبو هريرة رضي الله عنه كان أكثر رواية منه، وعلي رضي الله عنه أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا أعلم منهما.
فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان لناس أحوج إليه مما بلغه بعض أهل العلم الخاص.
وأما ما يرويه بعض أهل الجهل والكذب من اختصاص علي رضي الله عنه بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قيل له هل عندكم من رسول الله ؟ صلى الله عليه وسلم فقال: " لا والذي فلق الحبة وبرأ نسمة إلا فهم يؤتيه الله تعالى عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة" وكان فيها عقول الديات أي أسنان الإبل التي يجب في الدية وفيها فكاك الأسير وفيها أن لا يقتل المسلم بكافر. وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ فنفى ذلك. إلى غير ذلك من الأحاديث الثابتة عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصَّه بعلم فقد كذب عليه.(2/51)
وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي صلى الله عليه وسلم فأورثه علم الأولين والآخرين. من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع ولا شرب علي رضي الله عنه شيئاً، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه فيه كل من حضر، ولم يرو هذا أحد من أهل العلم وكذا قولهم: أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما. فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية الذين هم أكفر من الرافضة بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى كالذين يعتقدون ألوهيته ونبوته، أو أنه كان أعلم من النبي × أو أنه كان معلماً للنبي صلى الله عليه وسلم في الباطن ونحو هذه المقالات الشنيعة السخيفة التي لا تصدر إلا من الغلاة في الكفر والإلحاد".
قلت : على أن هذا الحديث قد روي غيره في بقية الخلفاء الأربعة.
فروى صاحب مسند الفردوس وغيره مرفوعاً: "أن دار الحكمة وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعلى ومعاوية خلفها".
فينبغي تأمل هذا الحديث وإن كان ضعيفاً كحديث علي. كيف جعل الصدِّيق والفاروق وذي النورين من أصل بناء الدار وعليًّا باب ذلك البناء الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لا يتم البناء إلا بالأساس والحيطان والسقوف والباب يدخل فيه إليهما؟!. والله أعلم.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 229 - 235 ) .
الشبهة(7): احتجاجهم بحديث الطير
المروي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده يوماً طير فقال: "اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطير" فجاء علي رضي الله عنه فأكل معه. رواه الترمذي وقال: حديث غريب.(2/52)
واستطابه وقال: " اللهم أدخل إليّ أحب خلقك إليك". وأنس رضي الله عنه بالباب فجاء علي بن أبي طالب فقال: يا أنس! استأذن لي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه على حاجة فدفع، في صدره ودخل فقال: يوشك أن يحال بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم والِ من والاه". وفي الكامل لابن عدي في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي أن الطير المشوي كان حجلاً وفي ترجمة جعفر بن ميمون أنه كان حيارى. قال الحاكم: قد رواه عن أنس أكثر منه.
وجوابه:
قال الشيخ العلامة ابن قيم الجوزية في كتابه "الرد على الرافضة": أن هذا حديث لم يرد في الصحيح ولا صححه أحد من الأئمة، وهو من الكذب الموضوع عند أهل المعرفة بالنقل، قال الحافظ أبو موسى المديني: قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق حديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري وأبى نعيم وابن مردويه وسئل عنه الحاكم فقال: لا يصح.
ثانياً : وهو معارض بالأحاديث الصحيحة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً " الحديث.
وقوله عليه السلام لما سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قيل: فمن الرجال؟ قال: أبوها. الحديث.
وبقول الصحابة رضي الله عنهم: " أبو بكر خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن قاله عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره عليه أحد.
ثالثاً: نقول لا يخفى على البصير أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه على أن إطعام الطعام مشروع مطلوب للبر والفاجر.(2/53)
رابعاً : ما قاله الشيخ أبو محمد إبراهيم الفاروقي رحمه الله: وهو أنه لا شك أن في ذلك الوقت كانا اليأس والخضر عليهما السلام، كانا يأكلان الطعام وما حضرا وإنما المعنى بأحب خلقك إليك أن يأكل معي، ولا شك أن كل علوي وعلوية يأكل من طعمه النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من طعمه الصديقين والعمريين والعثمانيين فدل ذلك على أن مراده صلى الله عليه وسلم مراد الحق سبحانه وتعالى.
وهذا كما يقال: هذه الشربة أعذب الشراب، أي: عندي، وهذا الفاكهة ألذ الفاكهة، أي: في مساغي. وهذه الجمل التفضيلية كقولنا أحب وأفضل ما لم يكن مؤكدة فهي محتملة وإن أكدت أو أدخل في أولها ففي قوله: ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر، فهذا لا احتمال فيه إذ النفي أزال الاحتمال إلى آخر ما قاله.
وقال الإمام العلامة خاتم المحققين سعد الدين التفتازاني رحمه الله في شرح المقاصد: قوله: "بأحب خلقك" يحتمل تخصيص أبي بكر رضي الله عنه عملاً بالأدلة على أفضليته. قال: ويحتمل أن يراد بأحب الخلق في أن يأكل الطير معي. وقيل: بأحب الخلق من ذوي القرابة القريبة. وإنما طلب ذلك لأن أبر البر ذي رحم. أو نقول: المراد: ائتني بمن هو من أحب الخلق إليك، كما يقال: أعقل الناس وأفضلهم، أي: من أعقلهم وأفضلهم.(2/54)
وقال العلامة التوربشتي: ومما يبين لك عن حمله على العموم غير جائز إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حمله خلق الله عز وجل، ولا يجوز أن يكون علي رضي الله عنه أحب إليه منه. فإن قيل ذلك شيء عرف بأصل الشرع. قلنا: ما نحن فيه أيضاً شيء عرف بالنصوص الصريحة وإجماع الأمة فلا يتخذ الجاهل المبتدع هذا الحديث وسيلة إلى الطعن في خلافة أبي بكر رضي الله عنه التي هي أول حكم أجمع عليه المسلمون في هذه الأمة، وأقوم عماد أقيم به الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابي الذي نسب إليه رواية حديث الطير ممن دخل في هذا الإجماع واستقام عليه مدة عمره ولم ينقل عنه خلافه.
ثم قال ابن تيمية: اعلم أن كل ما يظن أن فيه دلالة على فضيلة غير أبي بكر رضي الله عنه، فإما أن يكون كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون لفظاً مجملاً لا دلالة فيه. وأما النصوص المفضلة لأبي بكر فصحيحة صريحة مع دلالات أخرى من القرآن والإجماع. والاعتبار والاستدلال كما ذكرنا. والله أعلم.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 236 - 243 ) .
وقال شيخ الإسلام ردًا على هذه الشبهة :(2/55)
قال الرافضي: الثامن: خبر الطائر. روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بطائر، فقال:" اللهم! ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ، يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ، فدق الباب، فقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم على حاجة، فرجع. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أولاً، فدق الباب، فقال أنس: ألم أقل لك إنه على حاجة؟ فانصرف، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عليّ فدق الباب أشد من الأولين، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالدخول، وقال: ما أبطأك عني؟ قال: جئت فردني أنس، ثم جئت فردني [أنس]، ثم جئت فردني الثالثة، فقال: يا أنس! ما حملك على هذا؟ فقال: رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار، فقال: يا أنس! أو في الأنصار خير من عليّ؟ أو في الأنصار أفضل من عليّ؟ فإذا كان أحب الخلق إلى الله، وجب أن يكون هو الإمام".
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وقوله: "روى الجمهور كافة" كذب عليهم؛ فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صححه أئمة الحديث، ولكن هو مما رواه بعض الناس، كما رووا أمثاله في فضل غير عليّ، بل قد رُوي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصُنِّف في ذلك مصنفات. وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا.
الثاني : أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل. قال أبو موسى المديني: "قد جمع غير واحد من الحفَّاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة، كالحاكم النيسابوري، وأبي نُعيم، وابن مروديه. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: "لا يصح".
هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع، وقد طُلب منه أن يروي حديثاً في فضل معاوية فقال: ما يجئ من قلبي، ما يجيء من قلبي، وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل.(2/56)
وهو يروي في "الأربعين" أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث، كقوله: بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما، لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر، فلا يعرف في علماء الحديث من يفضِّله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان، أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك، لأن علماء الحديث قد عصمهم وقيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية الشيخين، ومن ترفّض ممن له نوع اشتغال بالحديث كابن عُقدة وأمثاله، فهذا غايته أن يجمع ما يُروى في فضائله من المكذوبات والموضوعات، لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين، فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث أكثر مما صح في فضائل عليّ وأصح وأصرح في الدلالة.
وأحمد بن حنبل لم يقل: إنه صحّ لعليّ من الفضائل ما لم يصح لغيره، بل أحمد أجلّ من أن يقول مثل هذا الكذب، بل نُقل عنه أنه قال: "رُوي له ما لم يُرو لغيره" مع أن في نقل هذا عن أحمد كلاماً ليس هذا موضعه.
الثالث: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله؟!
الرابع: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة؛ فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده. وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.(2/57)
الخامس: أن يقال: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، أو ما كان يعرف. فإن كان يعرف ذلك، كان يمكنه أن يرسل يطلبه، كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول: اللهم! ائتني بعليّ فإنه أحب الخلق إليك. فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك؟! ولو سَمَّى عليًّا لاستراح أنس من الرجاء الباطل، ولم يغلق الباب في وجه عليّ.
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك، بطل ما يدَّعونه من كونه كان يعرف ذلك، ثم إن في لفظه: "أحب الخلق إليك وإليّ" فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه؟!
السادس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح، التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقّيها بالقبول، تناقض هذا، فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه؟!
يبيّن هذا لكل متأملٍ ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم، كما في الصحيحين أنه قال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً". وهذا الحديث مستفيض، بل متواتر عند أهل العلم بالحديث؛ فإنه قد أُخرج في الصحاح من وجوه متعددة، من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر؛ فإنه الخلة هي كمال الحب، وهذا لا يصلح إلا لله، فإذا كانت ممكنة، ولم يصلح لها إلا أبو بكر، عُلم أنه أحب الناس إليه.
وقوله في الحديث الصحيح لما سئل: "أيّ الناس أحب إليك؟ قال: عائشة" قيل: من الرجال؟ قال: "أبوها".
وقول الصحابة: "أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار، ولا ينكر ذلك منكر.
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم محبته تابعة لمحبة الله، وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى، فهو أحبهم إلى رسوله.(2/58)
وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم [وأكرمهم]، وأكرم الخلق على الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة. وإنما كان أتقاهم؛ لأن الله تعالى قال: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [سورة الليل: 17-21].
وأئمة التفسير يقولون: إنه أبو بكر.
ونحن نبيّن صحة قولهم بالدليل فنقول: الأتقى قد يكون نوعاً، وقد يكون شخصاً. وإذا كان نوعاً فهو يجمع أشخاصاً. فإن قيل: إنهم ليس فيهم شخص هو أتقى، كان هذا باطلاً؛ لأنه لا شك أن بعض الناس أتقى من بعض، مع أن هذا خلاف قول أهل السنة والشيعة، فإن هؤلاء يقولون: إن أتقى الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة هو أبو بكر، وهؤلاء يقولون: هو عليّ. وقد قال بعض الناس: هو عمر. ويُحكى عن بعض الناس غير ذلك. ومن توقف أو شَكَّ لم يقل: إنهم مستوون في التقوى. فإذا قال: إنهم متساوون في الفضل، فقد خالف إجماع الطوائف. فتعين أن يكون هذا أتقى.
وإن كان الأتقى شخصًا، فإما أن يكون أبا بكر أو عليًّا، فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه، وهو النوع، وهو القسم الأول، أو معيناً غيرهما. وهذا القسم منتفٍ باتفاق أهل السنة والشيعة، وكونه عليًّا باطل أيضًا؛ لأنه قال: { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [سورة الليل: 17-21].
وهذا الوصف منتفٍ في عليّ لوجوه:
أحدها : أن هذه السورة مكية بالاتفاق، وكان عليٌّ فقيراً بمكة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له مالٌّ ينفق منه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمّه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة.(2/59)
الثاني : أنه قال: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} [سورة الليل: 19].
وعليّ كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة تجزى، وهو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله. بخلاف أبي بكر؛ فإنه لم يكن له عنده نعمة دنيوية، لكن كان له عنده نعمة الدين، وتلك لا تُجزى؛ فإن أجر النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الله، لا يقدر أحد يجزيه. فنعمة النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر دينية لا تجزى، ونعمته عند عليّ دنيوية تجزى، ودينية.
وهذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تُجزى، وهذا الوصف لأبي بكر ثابت دون عليّ.
فإن قيل : المراد به أنه أنفق ماله لوجه الله، لا جزاء لمن أنعم عليه، وإذا قُدِّر أن شخصًا أعطى من أحسن إليه أجرًا، وأعطى شيئًا آخر لوجه الله، كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى.
قيل: هب أن الأمر كذلك، لكن عليّ لو أنفق لم ينفق إلا فيما يأمره به النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي له عنده نعمة تجزى، فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة، كما يخلص إنفاق أبي بكر.
وعليّ أتقى من غيره لكن أبا بكر أكمل في وصف التقوى، مع أن لفظ الآية أنه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تُجزى، وهذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه، فلا يبقى لمخلوق عليه منّة، وهذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقاً لا يساويه فيه أحد من المهاجرين؛ فإنه لم يكن في المهاجرين: - عمر وعثمان وعليّ وغيرهم - رجل أكثر إحساناً إلى الناس، قبل الإسلام وبعده، بنفسه وماله من أبي بكر. كان مؤلفاً محبباً يعاون الناس على مصالحهم، كما قال فيه ابن الدُّغُنَّة سيد الفارة لما أراد أن يخرج من مكة: "مثلك يا أبا بكر لا يَخْرُج ولا يُخْرَج؛ فإنك تحمل الكلَّ، وتًقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود: "امصص بظر اللات، نحن نفر عنه وندعه؟ قال لأبي بكر: لولا يَدٌ لك عندي لم أجزك بها أجبتك".(2/60)
وما عُرف قط أن أحداً كانت له يدٌ على أبي بكر في الدنيا، لا قبل الإسلام ولا بعده، فهو أحق الصحابة: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى}، فكان أحق الناس بالدخول في الآية.
وأما عليّ - رضي الله عنه - فكان للنبي صلى الله عليه وسلم نعمة دنيوية. وفي المسند لأحمد أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يَسْقُط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه. ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا.
وفي المسند والترمذي وأبي داود حديث عمر، قال عمر: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوماً. فجئت بنصف مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أبقيت لأهلك؟ " فقلت: مثله. قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبدًا".
فأبو بكر - رضي الله عنه - جاء بماله كله، ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد: لا صدقةً ولا صلةً ولا نذراً، بل كان يتّجر ويأكل من كسبه، ولما تولى الناس واشتغل عن التجارة أكل من مال الله ورسوله الذي جعله الله له، لم يأكل من مال مخلوق.
وأبو بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه شيئاً من الدنيا يخصه به، بل كان في المغازي كواحد من الناس، بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وما عُرف أنه أعطاه عمالة، وقد أعطي عمر عمالة وأعطي عليًّا من الفيء، وكان يعطى المؤلَّفة قلوبهم من الطلقاء وأهل نجد، والسابقون الأولون المهاجرين والأنصار لا يعطيهم، كما فعل في غنائم حُنين وغيرها، يقول: "إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي، أعطي رجالاً لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِل رجالاً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير".(2/61)
ولما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه، فقالوا: يا رسول الله! أما ذوو الرأي منّا فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر يألِّفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. قال: " فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض" قالوا: سنصبر".
وقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [سورة الليل: 17-21] استثناء منقطع. والمعنى: لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك؛ فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض، بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة. وهذا واجب لكل أحد على كل أحد، فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة، فيكون عطاؤه خالصاً لوجه ربه الأعلى، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه لها، فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة له على ذلك، وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكّى، فإنه في معاملته للناس يكافئهم دائماً ويعاونهم ويجازيهم، فحين أعطاه الله ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى.
وفيه أيضاً ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات. كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [سورة البقرة: 219]، ومن تكون عليه ديون وفروض وغير ذلك أداها، ولا يقدّم الصدقة على قضاء هذه الواجبات، ولو فعل ذلك: فهل ترد صدقته؟ على قولين معروفين للفقهاء.(2/62)
وهذه الآية يحتج بها من تُرد صدقته، لأن الله إنما أثنى على من آتى ماله يتزكّى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى، فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزيها قبل أن يؤتى ماله يتزكّى، فأما إذا آتى ماله يتزكّى قبل أن يجزيها لم يكن ممدوحاً، فيكون عمله مردوداً، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
الثالث: أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر"، وقال: "إن أمنّ الناس علينا في صحبته ذات يده أبو بكر"، بخلاف عليّ - رضي الله عنه - فإنه لم يذكر عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من إنفاق المال، وقد عُرف أن أبا بكر اشترى سبعة من المعذَّبين في الله في أول الإسلام، وفعل ذلك ابتغاءً لوجه ربّه الأعلى، لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب، الذي أعان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل نسبه وقرابته، لا لأجل الله تعالى ولا تقرباً إليه.
وإن كان "الأتقى" اسم جنس، فلا ريب أنه يجب أن يدخل فيه أتقى الأمة، والصحابة خير القرون، فأتقاها أتقى الأمة، وأتقى الأمة [إما] أبو بكر وإما عليّ وإما غيرهما. والثالث منتفٍٍ بالإجماع، وعليّ إن قيل: إنه يدخل في هذا النوع، لكونه بعد أن صار له مال آتى ماله يتزكّى، فيقال: أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه، فيكون أكمل في الوصف، الذي يكون صاحبه هو الأتقى.
وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقدّم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة، كاستخلافه في الصلاة والحج، ومصاحبته وحده في سفر الهجرة، ومخاطبته وتمكينه من الخطاب، والحكم والإفتاء بحضرته ورضاه بذلك، إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها.
ومن كان أكمل في هذا الوصف، كان أكرم عند الله، فيكون أحب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة أن أبا بكر هو أكرم الصحابة في الصدِّيقية. وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصدِّيقون، ومن كان أكمل في ذلك كان أفضل.(2/63)
وأيضاً فقد ثبت في النقل الصحيح عن عليّ أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" واستفاض ذلك وتواتر عنه، وتوعّد بجلد المفتري من يفضّله عليه، وروي عنه أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن عليًّا لا يقطع بذلك إلا عن علم.
وأيضاً فإن الصحابة أجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر أفضل منه وأبو بكر أفضل منهما. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع، يقدّم بعض ذلك، ولكن ذُكر هذا لنبين أن حديث الطير من الموضوعات.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 369-385) .
الشبهة(8): احتجاجهم بقوله تعالى: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ }
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه: أنها نزلت في المختصمين يوم بدر وأول من برز من المؤمنين علي وحمزة وعبيدة بن الحارث. لعتبة وشيبة والوليد بن عتبة.
وجوابه:
إن هذه الآية ليست أيضاً من خصائص علي رضي الله عنه بل هي مشتركة بينه وبين حمزة وعبيدة بن الحارث بل سائر البدريين يشاركون في هذه الخصومة، ولو فرضنا أنها نزلت في المبارزين فلا تدل أنهم أفضل من غيرهم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين وأبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم أفضل من عبيدة بن الحارث باتفاق أهل السنة. والشيعة ليسوا من أهل السنة فهذه منقبة لهم وفضيلة. وليست من الخصائص التي يوجب كون صاحبها أفضل من غيره. والله أعلم.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 247 - 248 ) .
الشبهة(9): احتجاجهم بسورة: { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ }
حيث ادعت الرافضة أنها نزلت لما تصدقت فاطمة على مسكين ويتيم وأسير.(2/64)
وجوابه: إن هذا كذب محض؛ لأن سورة {هَلْ أَتَى} مكية بالإجماع، والحسن والحسين ولدا بعد أن تزوج علي بفاطمة رضي الله عنهم، وهو إنما تزوجها بعد غزوة بدر بالمدينة باتفاق أهل العلم. وبتقدير صحتها ليس فيه ما يدل على أن من أطعم مسكيناً ويتيماً وأسيراً كان أفضل الأمة، ولا أفضل الصحابة رضي الله عنهم بل الآية متناولة لكل من فعل هذا الفعل وهي تدل على استحقاقه لثواب الله عز وجل، وغير هذا العمل من الإيمان والصلوات في مواقيتها والجهاد في سبيل الله عز وجل وغير ذلك أفضل من هذا العمل بالإجماع. والله أعلم.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 248 - 250 ) .
الشبهة(10): ادعاؤهم أن عليًا رضي الله عنه أعلم الصحابة
أورد الخبيث الضال المعروف بابن المطهر الرافضي في رسالته المسماة " منهاج الكرامة " من شبههم شيئاً كثيراً ؛وقد ردَّ عليه الأئمة الأعلام من مشايخ الإسلام بالنصوص القواطع جم غير ونثراً ونظماً منهم السبكي وابن تيمية ومجد الدين الفيروز آبادى صاحب القاموس وغيرهم.
فمما قاله ابن المطهر هذا وأتباعه أن عليًّا رضي الله عنه كان أكثر الصحابة علماً فردَّ عليه الشيخ مجد الدين الفيروز آبادى فقال في رسالته المسماة "بالقضاب المشتهر على رقاب ابن المطهر" : هذه الدعوى كذب صراح وافتراء. لأن علم الصحابي رضي الله عنه إنما يعرف بأحد وجهين:(2/65)
أحدهما: كثرة روايته وفتاواه. والثاني: كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فمن المحال أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له، وهذا أكبر الشهادات وأبينها على العلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر للصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة رضي الله عنهم حضور كعلي وعمر وعثمان وابن مسعود وأبي وغيرهم فآثره على جميعهم. وهذا بخلاف استخلافه صلى الله عليه وسلم عليًّا في الغزو؛ لأنه ما استخلفه إلا على النساء والصبيان وذوي الأعذار فوجب ضرورة أن يعلم أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم الناس بالصلاة وشرائعها. وأعلم من المذكورين بها وهي عمود الدين. ووجدنا صلى الله عليه وسلم قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات، كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل منه. وربما كان أكثر أما ترى الفقهاء قاطبة. إنما اعتمدوا على الحديث الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه في الزكاة جعلوه أصلاً فيها. ولم يعرجوا على ما رواه غيره.
وأما الحديث الذي رواه علي رضي الله عنه فأعرضوا عنه بالكلية، وطريقة مضطرب وفيه ما لم يقل به أحد من الأئمة؛ فإن فيه في كل خمس وعشرين من الإبل خمس شاة لا غيره، وهذا مما لا قائل به أحد من الأئمة فكان أبو بكر رضي الله عنه أعلم بالزكاة التي هي أحد أركان الدين.
وأما الحج فإنه لما فرض سنة تسع على الصحيح بادر صلى الله عليه وسلم وجهز المسلمين حيث لم يتفرغ بنفسه، ولبيان جواز التأخير وأمر عليهم أبا بكر رضي الله عنه ليعلم الناس المناسك ومن المستحيل تقديمه في هذا الأمر الخطير المشتمل على علوم لا يشتمل عليها شيء من قواعد الدين. وثم من هو أعلم منه.(2/66)
فلما حج وكانت سورة براءة مشتملة على كثير من المناسك وعلى مناقب أبي بكر رضي الله عنه أرسل عليًّا رضي الله عنه ليقرأها على الناس، فلما قدم علي قال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، فقرأه على الناس ليستمع الناس مناقب أبي بكر من لسان علي رضي الله عنه ليكون أوقع في النفوس وأدخل في القلوب والرؤوس ويكون أعلى في إظهاره لفضل أبي بكر رضي الله عنه وأدل على علو قدره.
وأما قوله هذا المارق الخبيث أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر لدفع شره والمنع من إذاعة شره، فلا دليل فيه على شرفه وفخره، فهو كلام يشم منه رائحة الكفر والعناد وبرهان على جهل قائله بالأحاديث الصحيحة المشحونة بها دواوين الإسلام المبينة بها للمقصود من استصحابه المبينة بها مضاعفة أنسه ووده وحسانه كما سنبينه قريباً إن شاء الله ونعوذ بالله من الخذلان. ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد استعمله على البعوث فصح أن عنده علم أحكام الجهاد ومثل ما عند سائر من استعمله صلى الله عليه وسلم على البعوث في الجهاد فعند أبي بكر رضي الله عنه من الجهاد والعلم به كالذي عند علي رضي الله عنه وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل فقد صح التقدم لأبي بكر رضي الله عنه على علي رضي الله عنه وعلى سائر الصحابة رضي الله عنهم في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم.(2/67)
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسافرته وظعنه وإقامته أبا بكر رضي الله عنه فشاهد أحكامه وفتاواه أكثر من مشاهدة علي رضي الله عنه فصح أن أبا بكر أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية ألا وهو المقدم فيها فبطل دعواهم في العلم. وأما الرواية والفتاوى فأمر واضح من الشمس أظهر من ضوء النهار أنه كان أرسخ قدماً فيها، ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول صلى الله عليه وسلم غير سنتين وستة أشهر وهو لم يبرح من طيبة إلا للحج أو عمرة ولا شرق ولا غرب ولا طاف البلاد كغيره. والصحابة رضي الله عنهم إذ ذاك متوافرون وقريبو العهد بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وعند كل أحد من العلم والرواية ما يحتاج إليه غالباً.
ومع ذلك روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وستة وثلاثون حديثاً.
وعلي رضي الله عنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين سنة شرقاً ومغرباً من بلد على بلد ومن قطر إلى قطر، وسكن الكوفة أعواماً وكثر الاحتياج إلى الأحاديث والعلم وتزاحم عليه السؤال والمقبلون وتراكم طالبوا الرواية والمسترشدون، ولم يرد مع ذلك إلا خمسمائة حديث وخمس وثمانين حديثاً يصح منها خمسون حديثاً. فإذا نسبت مدته وعدد أحاديثه إلى أحاديثه تبين لك أن أبا بكر رضي الله عنه أكثر حديثاً وأكثر رواية من علي رضي الله عنه بشيء كثير وهذا مما لا يخفى على أحد.(2/68)
دع هذا. عاش علي رضي الله عنه بعد عمر رضي الله عنه تسعة عشر سنة وسبعة أشهر. ومسند عمر رضي الله عنه خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً يصح منها خمسون حديثاً، مقدار ما صح من حديث علي إلا حديثاً واحداً أو حديثين، فأنظر هذه المدة الطويلة ولقاء الناس إياه وكثرة الحاجة من المسلمين إلى الرواية ولم يزد علي عمر رضي الله عنه إلا حديثاً واحداً فعلم أن عمر رضي الله عنه كان أضعاف علم علي رضي الله عنه بذلك. وبرهان أن كل من طال عمره من الصحابة رضي الله عنهم تجد الرواية عنه أكثر ومن قصر عمره قلَّت روايته. فعلم أن علم أبي بكر رضي الله عنه كان أضعاف ما كان عند علي رضي الله عنه من العلم.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 251 - 256 ) .
الشبهة(11): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أكثر الصحابة جهادًا
ومما قالوه أيضاً: كان علي رضي الله عنه أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وخبيراً في الجهاد. والجهاد أفضل الأعمال فكان علي أفضل.
وجوابه :
الأول : قلت: هذا خطأ؛ لأن الجهاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
الأول: الدعاء إلى الله عز وجل باللسان.
الثاني: الجهاد بالتدبير والرأي.
الثالث : الجهاد باليد والسنان.
فالقسم الأول : الجهاد بالدعوة فإنه لا يلحق أحد فيه أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ فإنه أسلم على يديه أكابر الصحابة وليس لعلي من هذا كثير حظ.
وأما عمر رضي الله عنه فمن يوم أسلم أعز الله به الإسلام وعبد الله تعالى جهاراً وهذا من أعظم الجهاد، وهذان الرجلان رضي الله عنهما خُصا بهذا القسم لا يشاركهما في ذلك أحد وانفردا بذلك .
وأما القسم الثاني : فقد جعل الله تعالى خاصًّا لأبي بكر رضي الله عنه ثم لعمر رضي الله عنه.(2/69)
وأما القسم الثالث : وهو الجهاد بالضرب والطعن والمبارزة فوجدناه أقل مراتب للجهاد المذكورة ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشك مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، ووجدنا جهاده إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأوليْن من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والرأي للمصالح، وكان أقل عمله صلى الله عليه وسلم الطعن والمبارزة لا عن جبن ؛ بل كان صلى الله عليه وسلم أشجع أهل الأرض قاطبة، وهو مما لا يتردد فيه ذو دين وعقل ولكنه صلى الله عليه وسلم كان مؤثراً الأفضل فالأفضل فيقدمه ويشغل به ووجدناه صلى الله عليه وسلم يوم بدر كان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك استظهاراً برأيه في الحرب وأُنساً بمكانه، ثم كان عمر رضي الله عنه ربما شُورك في ذلك.
وقال الإمام محي الدين النووي في شرح مسلم: إن قوله رضي الله عنه " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة "، أجمع أهل السنة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقدمهم في الشجاعة والعلم رضي الله عنه .
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 257 - 258بتصرف يسير ) .
الشبهة(12): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أقرأ الصحابة للقرآن
ومما قالوا أيضاً: كان علي رضي الله عنه أقرأ الصحابة للقرآن فكان أفضل. قلنا هذا فرية بلا مرية لوجوه أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن استووا في القراءة، فأفقههم فإن استووا، فأقدمهم هجرة" ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة أيام مرضه فصح أنه رضي الله عنه أقرأهم وأفقههم وأقدمهم هجرة.(2/70)
وقد يكون من لم يحفظ القرآن كله عن ظهر قلبه أقرأ وأعلم بالقراءة ممن حفظه كله جمعه فيكون أفصح لفظاً وأحسن ترتيلاً وأعرف بمواقف الآي ومبادئها على أن أبا بكر وعمر وعليًّا رضي الله عنهم لم يستكمل واحد منهم سواد القرآن فعلمنا يقيناً أنه كان أقرأ من علي لتقديمه صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة مع حضور علي وغيره، وما كان صلى الله عليه وسلم ليقدم الأقل علماً بالقراءة على الأقرأ ولا الأقل فقهاً على الأفقه فبطل ما ادعوه. والله أعلم.
قال جامعه : ومن هذا الشأن نشأ لبعض الزائغين من الرافضة في عصرنا سؤال باستفهام إنكار وهو: هل كان أبو بكر يحفظ القرآن يريد بذلك تنقيصه عند من لا يعلم؟ فأجبته. إن قصد بذلك استنقاصه فهو كافر، وليس حفظ جميع القرآن شرطاً في كمال الإيمان ولا في صحته قال الله تعالى: { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وأيضاً علي رضي الله عنه لم يكن يحفظ القرآن، ولا عمر ولا أكثر الصحابة المشهور المخرج في الصحيحين وغيرهما. إن الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أنفار فقط.أعني كما حفظوه بكماله وجمعوا بين طرفيه وهم معاذ بن جبل، أبي بن كعب، زيد بن ثابت وأبو زيد رضي الله عنهم وليس عليّ منهم .
بل نقول: كان أبو بكر رضي الله عنه أقرأ الصحابة وأفقههم؛ فلهذا قدمه صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليهم وكان رضي الله عنه أكثر رواية للحديث من علي بالنسبة إلى بقائه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومكث علي بعد أبي بكر وعمر نحو من ثمانية عشر سنة، وإنما قلَّت روايته للحديث مع قدم صحبته وكثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره من الصحابة. قرب عهده بالوفاة من النبي صلى الله عليه وسلم ، واشتغاله في قتال أهل الردة ، ولم تكن الأحاديث انتشرت حينئذٍ ولا اعتنى التابعون بتحصيلها وحفظها.(2/71)
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام" وفي رواية "ولا فتوى لكن بشيء وقر في صدره وفي رواية وقر في القلب" أي سكن فيه وثبت. رواه الغزالي في الإحياء وابن الأثير في النهاية والترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن بكر بن عبد الله المزني.
وروى البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه: "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح" وفي رواية "بإيمان أهل الأرض" ورواه أيضاً ابن عدي عن ابن عمر قال الإمام أبو القاسم البغوي في فتاويه: ولا يشك عاقل في أن إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان أرسخ من إيمان أحاد الناس؛ ولهذا قال ليلة الإسراء ما قال وقال يوم الحديبية ما قال حين كاد غيره يتحير في ذلك.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 258 - 267 ) .
الشبهة(13): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أزهد الصحابة
ومما قاله ابن المطهر وأتباعه من الرافضة أن عليًّا رضي الله عنه كان أزهد الصحابة فكان أفضل.
قلنا : هذا بهتان : يبين هذا أن الزهد غروب النفس عن حب الصور وعن المال واللذات وعن الميل إلى الأولاد والحواشي.(2/72)
أما غروب النفس عن المال فقد عُلم أن أبا بكر رضي الله عنه أسلم وله مال كثير. وجاهر بقلة الحياء من أنكر ذلك وقال كان فقيراً محتاجاً وكان أبوه أجيراً لابن جدعان على مد يقتات به! بل كان رضي الله عنه ذا مال جزيل ينيف على أربعين ألف فأنفقها كلها في الله عز وجل وأعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيداً ذا معونة، بل كل معذب ومعذبة في الله إلى أن أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وما كان بقي لأبي بكر من المال غير ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لأهله منها درهماً ثم أنفقها في سبيل الله حتى لم يبق له شيء ما ، وصارت له عباءة إذا نزل فرشها وإذا ركب لبسها، وأما غيره من الصحابة رضي الله عنهم فقد تمولوا واقتنوا الضياع والرباع من حلها وطيبها إلا من آثر بذلك في سبيل الله أزهد ، ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في المال وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوفِ منه إلا بعض حقّه ثم أمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي والمغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو الزهد في الذات والمال الذي لا يدانيه أحد من الصحابة رضي الله عنهم إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقهما عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسع من سواهم في المباح الذي أحله الله تعالى لهم إلا من آثر على نفسه أفضل. ولقد تبع أبا بكر عمرُ رضي الله عنهما في هذا الزهد.(2/73)
وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشر أم ولد سوى الخدام والعبيد، وتوفي عن أربعة وعشرين ولداً من ذكر وأنثى وقيل عن بضع وثلاثين وقيل عن أربعين ولداً إلا واحداً، أما هي ذكر أو أنثى هذا ما ذكره المزي والذهبي وهو الأصح. وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به أغنياء قومهم ومن جملة عقاره ينبع التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمراً سوى زرعها. فأين هذا من ذاك ؟
وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر فيه بين ، وقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من ذوي القرابة مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين ومثل ابنه عبد الرحمن ابن أبي بكر وله مع النبي صلى الله عليه وسلم محبة قديمة وفضل ظاهر. ما استعمل أحداً منهم على شيء من الجهات ، ولو استعملهم لكانوا أهلاً لذلك ؛ لكن خشي وتوقع أن يميله إليهم معنى من الهوى وجرى عمر رضي الله عنه مجراه في ذلك لم يستعمل من بني عدي أحداً على سعة البلاد ، وقد فتح الشام ومصر وممالك الفرس وخراسان إلا النعمان بن عدي على ميسان ثم أسرع في عزله ولم يستخلف ابنه عبد الله بن عمر وهو من أفاضل الصحابة وقد رضي الناس به.
وأما علي رضي الله عنه فلما ولي استعمل أقاربه عبد الله بن عباس على البصرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقثم ومعبد ابني عباس على مكة والمدينة، وجعدة بن هبيرة وهو ابن أخت أم هاني بنت أبي طالب على الطائف، وأمر ببيعة الناس للحسن ابنه للخلافة بعده.
ولا يشك مسلم في استحقاق الحسن للخلافة ولا لاستحقاق ابن عباس الخلافة فكيف إمارة البصرة؟! لكنا نقول: من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وفي تأمير مثل طلحة وسعيد بن زيد فإنه أتم زهداً ممن أخذ منها ما أبيح له أخذه ؛ فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد الصحابة رضي الله عنهم كافة ثم عمر بعده.(2/74)
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 267 - 275 ) .
الشبهة(14): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أكثر الصحابة صدقة
ومما قالوه: أن عليًّا رضي الله عنه كان أكثر الصحابة صدقة.
قلنا : هذه قحة وقلة حياء ومجاهرة بالباطل؛ لأنه لا يعرف لعلي مشاركة ظاهرة في المال، وأمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق جميع ماله أشهر من أن يخفى ، ولعثمان رضي الله عنه من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره ؛ فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة في الإسلام من علي رضي الله عنهما.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 275 - 276 ) .
الشبهة(15): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أسوس الصحابة
ومما قالوه: كان علي رضي الله عنه أسوس الصحابة فكان أحق بالإمامة.
قلنا: هذا بهتان لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالسير والتواريخ ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي وارتدت العرب الممتنعون عن أداء الزكاة واختل نظام الإسلام وركب كل رأسه واختلفت آراء الصحابة في قتالهم ولم يتزلزل أبو بكر رضي الله عنه وصمم على قتالهم وقال: "والله لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه حتى ينفذ الله أمره" ولم يزل على ذلك حتى ردهم إلى الإسلام حتى حكم على رقاب الأكاسرة وملوك الفرس على سرير ملكهم، فأخضعهم وأذلهم وفتح الله تعالى عليه ما فتح من الأمصار والمدن الكبار وهو مقيم بالمدينة لم يبرح منها ، ثم من بعده عمر رضي الله عنه حذا حذوه وقفا أثره وسار سيره وساس ساسته مقتدياً بأثاره ومهتدياً بأنواره، إلى أن فتح الممالك وآمن المسالك واتصل الإسلام من مبتدئ مصر والشام إلى أقصى بلاد الهند وملكوا بلاد العجم من أذربيجان وخراسان وفارس وكرمان ، ثم عثمان كذلك.(2/75)
ولما صارت الخلافة لعلي رضي الله عنه كان في أيامه ما كان وحصل للمسلمين من الاضطراب في كل قطر ومكان ، ووقعت الفتن ونصب القتال حتى قتل بين الصحابة والتابعين ما ينيف على مائة ألف أو يزيدون وشغلهم ذلك عن فتح مدينة بل ولا قرية ، وربما وصل الحال إلى أن استولى الكفار ؛ فأيهما أولى بالسياسة ؟!
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 276 - 277 بتصرف) .
الشبهة(16): زعمهم أن عليًا رضي الله عنه أتقى الصحابة
ومما قالوه أيضاً كان علي رضي الله عنه أتقى الصحابة فيكون أفضل.
قلنا : بطلان هذا ظاهر لمن له أدنى معرفة بالصحابة ، ورد لقول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في جميع الكتب الصحاح ، ولقد كان علي رضي الله عنه تقيًّا نقيًّا، إلا أن الفضائل يتفاضل أهلها ،وما كان أتقاهم إلا أبا بكر ؛ وبرهانه أنه رضي الله عنه ما خالف إرادته في شيء قط ، ولا تردد عن الائتمار لأمره يوم الحديبية إذ تردد من تردد، وقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر إذ أراد نكاح ابنة أبي جهل بما عُرف وما وجدنا قط لأبي بكر موقفاً عن شيء أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذ قد صح أنه أعلمهم فقد وجب أنه أخشاهم لله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}. والتقوى هي الخشية لله سبحانه وتعالى.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 277 - 279 ) .
الشبهة(17): قولهم: لو كانت إمارة أبي بكر حقًّا لما تأخر علي عن بيعته إلى ستة أشهر
قلنا : إن عليًّا رضي الله عنه بايع أولاً ؛ وهذه البيعة التي بعد ستة أشهر بيعة ثانية ، وعن علي رضي الله عنه : كنت أول من بايع من بني عبد المطلب، وسلمنا تأخره عنها ؛ فيحتمل أنه لما ظهر له الحق رجع إليه وتاب واعترف بالخطأ .
وبيانه : أنه لو تأخر كما قالوا: لا يخلو ضرورة من أحد وجهين:(2/76)
إما أن يكون مصيباً في تأخره فقد أخطأ إذ بايع ، وإما أن يكون مصيباً في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها !
وأما الممتنعون من بيعة علي رضي الله عنه فهم جمهور الصحابة رضي الله عنهم ؛ فلم يعترفوا بالخطأ بل منهم من كان عليه ومنهم من لا له ولا عليه وما بايعه أحد منهم إلا الأقل ومن امتنع من بيعته أزيد من مائتي ألف مسلم بالشام ومصر والعراق والحجاز إذ قد بطل كل ما ادعاه الرافضة الضلال المردة الجهال.
فصح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الذي فاز بالسبق والحظ في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والطاعة والسياسة، وهذه وجوه الفضل كلها ؛ فهو بلا شك أفضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ؛ ولم نحتج بالأحاديث؛ لأنهم لا يصدقون أحاديثنا وإن كانت مما يجب تصديقه لكونه كالمتواتر ؛ فإن صحيحي البخاري ومسلم قد تلقتهما الأمة بالقبول والأمة معصومة عن الإجماع على ضلال وباطل؛ وأما نحن فلا نصدق حديثهم أيضاً التي انفردوا بها؛ لأن بطلانها وفريتها ثابت عندنا بشهادة من طعن فيها من الأئمة الثقات، والأئمة الأثبات ؛ كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام أبي عبد الله البخاري وأضرابهم، بل قد اقتصرنا في الرد عليهم على البراهين الضرورية بنقل الكواف عن الكواف ؛ فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها فكيف والنص على خلافه صحيح .
وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه بما ذكرناه وبإجماع المسلمين عليها ثم أجمعت الأمة بلا خلاف على صحة إمامة عثمان رضي الله عنه.
وأما خلافة علي رضي الله عنه فحق لا شك فيه ولا ريب، لكن لا بنص ولا إجماع بل ببرهان آخر وهو أنه إذا مات الإمام ولم يعهد إلى أحد فبادر رجل مستحق ودعا إلى نفسه ولا معارض له، فاتباعه والانقياد لبيعته فرض التزام إمامته وطاعته، وهكذا فعل علي رضي الله عنه فوجب اتباعه.(2/77)
وكذلك فعل عبد الله بن الزبير، وقد فعل مثلها خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة وأخذ خالد اللواء من غير إمرة وصوّب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( المرجع : رسالة " الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 279 - 285 ) .
الشبهة(18): زعمهم أن صحبة أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار نقيصة؛ لأنه نهاه عن الحزن
والحزن إما أن يكون طاعة أو معصية ؛ لا جائز أن يكون طاعة، وإلا لما نهاه صلى الله عليه وسلم ؛ فتعين أن تكون معصية.
قلنا : نعوذ بالله من الهوى ونسأل الله التوفيق إلى الحق، ونعوذ بالله من الضلالة : يا هؤلاء! تجاهلتم أو جهلتم حقائق الأمور والاستعمال.
أما الحقائق فإن النهي لا يقتضي أن يكون المنهي فاعلاً ما قد نهي عنه، فإن النهي عن المستقبل وقد يكون نهي قبل أن يقع الفعل، ما الذي يمنع عن ذلك فيكون نهاه عن الحزن ولم يحزن بعد، بل ربما يتوقع أن يحزن.
وقد نهى الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام عما لم يفعلوه، قال تعالى: { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ }، وقال: { فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } .
وأما الاستعمال ؛ فقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ؛ إذ قال له: { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ }، وقال له: { وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} فمن نظر بالبصر والبصيرة علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: لا تحزن إنما هو على سبيل التسلية والرفق.(2/78)
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي وغيره: قد ظهر سر قوله تعالى: { إذ يقولُ لصاحبه لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا } في أبي بكر في اللفظ كما ظهر في المعنى، وكانوا يقولون: محمد رسول الله وأبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع هذا الاتصال بموته فلم يقولوا لمن بعده: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قالوا: أمير المؤمنين.
( المرجع : " رسالة في الرد على الرافضة " لأبي حامد المقدسي ، ص 289-292).
الشبهة(19): زعمهم أن الإمامة أهم مطالب الدين
إن قول القائل: "إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين"، كذب بإجماع المسلمين سنيِّهم وشيعيِّهم، بل هذا كفر.
فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة، وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فالكافر لا يصير مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار أولاً، كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها أنه قال: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله". وفي رواية: "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
وقد قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ } [سورة التوبة: 5]. فأمر بتخلية سبيلهم إذا تابوا من الشرك وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة. [وكذلك قال لعليّ لما بعثه إلى خيبر].(2/79)
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في الكفار؛ فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر، لا يذكر لهم الإمامة بحال. وقد قال تعالى بعد هذا: { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: 11]، فجعلهم إخواناً في الدين بالتوبة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولم يذكر الإمامة بحال.
ومن المتواتر أن الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الإسلام ولم يذكر لهم الإمامة بحال، ولا نقل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من أهل العلم: لا نقلاً خاصاً ولا عاماً. بل نحن نعلم بالاضطرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول فيه دينه الإمامة لا مطلقاً ولا معيناً، فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين؟
ومما يبين ذلك أن الإمامة - بتقدير الاحتياج إلى معرفتها - لا يحتاج إليها من مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولا يحتاج إلى التزام حكمها من عاش منهم إلى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين لا يحتاج إليه أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أوليس الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته واتبعوه باطناً وظاهراً، ولم يرتدوا ولم يبدِّلوا، هم أفضل الخلق باتفاق المسلمين: أهل السنة والشيعة؟ فكيف يكون أفضل المسلمين لا يحتاج إلى أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين؟
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في حياته، وإنما يُحتاج إلى الإمام بعد مماته، فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين في حياته، وإنما صارت أهم مسائل الدين بعد موته.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه:(2/80)
أحدها : أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال: إنها أهم مسائل الدين مطلقاً، بل في وقت دون وقت، وهي في خير الأوقات ليست أهم المطالب في أحكام الدين ولا أشرف مسائل المسلمين.
الثاني: أن يقال: الإيمان بالله ورسوله في كل زمان ومكان أعظم من مسألة الإمامة، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم ولا الأشرف.
الثالث : أن يقال: فقد كان يجب بيانها من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الباقين [من] بعده، كما بين لهم أمور الصلاة والزكاة والصيام والحج، [وعين] أمر الإيمان بالله وتوحيده واليوم الآخر. ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة كبيان هذه الأصول.
فإن قيل: بل الإمامة في كل زمان هي الأهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان نبياً إماماً، وهذا كان معلوماً لمن آمن به أنه [كان] إمام ذلك الزمان.
قيل: الاعتذار بهذا باطل من وجوه:
أحدها : أن قول القائل: الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين: إما أن يريد به إمامة الاثني عشر، أو إمام كل زمام بعينه في زمانه، بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمد المنتظر، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة عليّ عندهم، والأهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإمامته. وإما أن يراد به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقاً غير معين. وإما أن يراد به معنى رابعاً.
أما الأول : فقد عُلم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوماً شائعاً بين الصحابة ولا التابعين، بل الشيعة تقول: إن كل واحد إنما يُعيّن بنص مَنْ قبله، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين.(2/81)
وأما الثاني : فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان، ويكون الإيمان من سنة سِتين ومائتين إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ومن الإيمان بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الواجبات. وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين المسلمين، فليس هو مذهب الإمامية، فإن اهتمامهم بعلي وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر، كما ذكره هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الشيعة.
وأيضاً: فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين فالإمامية أخسر الناس صفقة في الدين، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم والذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا، فلم يستفيدوا من أهم الأمور الدينية شيئاً من منافع الدين ولا الدنيا.
فإن قالوا: إن المراد [أن] الإيمان بحكم الإمامة مطلقاً هو أهم أمور الدين. كان هذا أيضاً باطلاً للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها.
وإن أريد معنى رابع فلابد من بيانه لنتكلم عليه.
الوجه الثاني : أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم تجب طاعته على الناس لكونه إماماً، بل لكونه رسول الله إلى الناس. وهذا المعنى ثابت له حيًّا وميتاً، فوجوب طاعته على من بعده، كوجوب طاعته على أهل زمانه. وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ونهيه، وفيهم الغائب الذي بلَّغه الشاهد أمره ونهيه، فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة أمره ونهيه، يجب ذلك على من يكون بعد موته.(2/82)
وهو صلى الله عليه وسلم أمره شامل عام لكل مؤمن شهده أو غاب عنه في حياته وبعد موته، وليس هذا لأحد من الأئمة ولا يستفاد هذا بالإمامة حتى أنه صلى الله عليه وسلم إذا أمر ناساً معينين بأمور، وحكم في أعيان معينة بأحكام، لم يكن حكمه وأمره مختصاً بتلك المعينات، بل كان ثابتاً في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة. فقوله صلى الله عليه وسلم لمن شهده: "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود"، هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ولا بالسجود. وقوله لمن قال: لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي. قال: "ارم ولا حرج". ولمن قال: نحرت قبل أن أحلق.
قال: "احلق ولا حرج"، أمر لمن كان مثله. وكذلك قوله لعائشة - رضي الله عنها - لما حاضت وهي معتمرة: "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، وأمثال هذا كثير، بخلاف الإمام إذا أطيع.
وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ونهيه كخلفائه في حياته، فكل آمر بأمر يجب طاعته [فيه] إنما هو منفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله أرسله إلى الناس وفرض عليهم طاعته، لا لأجل كونه إماماً له شوكة وأعوان، أو لأجل أن غيره عهد إليه بالإمامة [أو غير ذلك]. فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله أو موافقة ذوي الشوكة أو غير ذلك، بل تجب طاعته صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن معه أحد وإن كذبه جميع الناس.(2/83)
وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أنصار وأعوان يقاتلون معه، فهو كما قال سبحانه [فيه]: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 144]، بيَّن سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ولا قتله ينتقض حكم رسالته كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالداً لا يموت، فإنه ليس هو ربًّا وإنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل، وقد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فطاعته واجبة بعد مماته وجوبها في حياته وأوكد، لأن الدين كمل واستقر بموته فلم يبق فيه نسخ، ولهذا جُمع القرآن بعد موته كماله واستقراره بموته.
فإذا قال القائل : إنه كان إماماً في حياته، وبعده صار الإمام غيره. إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظريه يُطاع كما يطاع الرسول، فهذا باطل. وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ونهيه، فهذا كان حاصلاً في حياته فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه.
وإن قيل: إنه بعد موته لا يباشر معيناً بالأمر بخلاف حياته.
قيل : مباشرته بالأمر ليست شرطاً في وجوب طاعته، بل تجب طاعته على من بَلَغه أمره [ونهيه]، كما تجب طاعته على من سمع كلامه، وقد كان يقول: "ليُبَلِّغ الشاهد الغائب فرب مُبلَّغ أوعى من سامع".
وإن قيل: إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة، مثل إعطاء شخص بعينه، وإقامة الحد على شخص بعينه، وتنفيذ جيش بعينه.(2/84)
قيل: نعم. وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة بخلاف الأئمة، لكن قد يخفى الاستدلال [على نظير ذلك] كما يخفى العلم على من غاب عنه. فالشاهد أعلم بما قال وأفهم له من الغائب، وإن كان فيمن غاب وبُلِّغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين، لكن هذا التفاضل الناس في معرفة أمره ونهيه، لا [لتفاضلهم] في وجوب طاعته عليهم، فما تجب طاعة ولي الأمر بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته. فطاعته واجبة شاملة لجميع العباد شمولاً واحداً، وإن تنوعت طرقهم في البلاغ والسماع والفهم. فهؤلاء يبلغهم من أمره ما لم يبلغ هؤلاء، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لم يفهمه هؤلاء.
وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته طاعة الله ورسوله لا له، وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة فيأمر بما يأمر ويحكم بما يحكم، انتظم الأمر بذلك، ولم يجز أن يُوَلَّى غيره، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله، إنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به والنهي عما نهى عنه، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب الطاعة، كما لم يُطع أمره في حياته طاعة [ظاهرة] غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره.
فالدين كله طاعة لله ورسوله، وطاعة الله ورسوله هي الدين كله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله. ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله، وطاعتهم لولي الأمر فيما أُمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به وقَسْمُه وحكمه هو طاعة لله ورسوله، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها كلها طاعة لله ورسوله، ولهذا كان أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(2/85)
فإذا قيل : هو كان إماماً، وأُريدَ بذلك إمامة خارجة عن الرسالة، أو إمامة يُشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة، أو إمامة تعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول، فهذا كله باطل. فإن كل ما يطاع به داخل في رسالته، وهو أن كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله، ولو قُدِّر أنه كان إماماً مجرداً لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر، فالطاعة إنما تجب لله ورسوله ولمن أَمَرت الرسل بطاعتهم.
فإن قيل : أُطيع بإِمامته طاعة داخلة في رسالته. كان هذا عديم التأثير، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته، بخلاف الإمام فإنه إنما يصير إماماً بأعوان ينفذون أمره، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين، إن كان من أهل العلم والدين.
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم لما صار له شوكة بالمدينة، صار له مع الرسالة إمامة القدرة.
قيل : بل صار رسولاً له أعوان وأنصار ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه. وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله ويجاهد في سبيله، له أعوان وأنصار ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه، فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة، مثل كونه إمامًا أو حاكمًا أو ولي أمر، إذا كان هذا كله داخلاً في رسالته، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدره، أوجبت عليه من الأمر والجهاد ما لم يكن واجباً بدون القدرة. والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة والعجز والعلم وعدمه، كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض. والمؤمن مطيع لله في ذلك كله، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله، ومحمد رسول الله فيما أمر به ونهى عنه، [مطيع لله] في ذلك كله.
وإن قالت الإمامية: الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة، فهي أهم من هذا الوجه.
قيل : الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي. وعلى القول بالوجوب العقلي، فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية، وغير الإمامة أوجب من ذلك، كالتوحيد والصدق والعدل وغير ذلك من ا لواجبات العقلية.(2/86)
وأيضاً : فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب، فمقصودها جزء من مقصود الرسالة، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة في حياته وبعد مماته، بخلاف الإمامة.
وأيضاً : فمن ثبت عنده أن محمداً رسول الله، وأن طاعته واجبة عليه، واجتهد في طاعته حسب الإمكان. إن قيل: إنه يدخل الجنة، فقد استغنى عن مسألة الإمامة.
وإن قيل : لا يدخل الجنة، كان هذا خلاف نصوص القرآن. فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع، كقوله - تعالى -: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [سورة النساء: 69]، وقوله: { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة النساء: 13].
وأيضاً: فصاحب الزمان الذي يدعون إليه، لا سبيل للناس إلى معرفته، ولا معرفة ما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه، وما يخبرهم به. فإن كان أحد لا يصير سعيداً إلا بطاعة هذا الذي لا يُعرف أمره ولا نهيه لزم أنه لا يتمكن أحد من طريق النجاة والسعادة وطاعة الله، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، وهم من أعظم الناس إحالة له.
وإن قيل : بل هو يأمر بما عليه الإمامية.
قيل : فلا حجة إلى وجوده ولا شهوده، فإن هذا معروف سواء كان هو حيًّا أو ميتًا وسواء كان شاهدًا أو غائبًا. وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق ممكناً بدون هذا الإمام المنتظر، عُلم أنه لا حاجة إليه ولا يتوقف عليه طاعة الله ورسوله ولا نجاة أحد ولا سعادته. وحينئذ فيمتنع القول بجواز إمامه مثل هذا. فضلاً عن القول بوجوب إمامة مثل هذا، وهذا أمر بيّن لمن تدبره، لكن الرافضة من أجهل الناس.(2/87)
وذلك أن فعل الواجبات العقلية والشرعية، وترك المستقبحات العقلية والشرعية، إما أن يكون موقوفاً على معرفة ما يأمر به وينهى عنه هذا المنتظر، وإما أن لا يكون موقوفاً. فإن كان موقوفاً، لزم تكليف ما لا يطاق، وأن يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفاً على شرط لا يقدر عليه عامة الناس، بل ولا أحد منهم، فإنه ليس في الأرض من يدَّعي دعوى صادقة أنه رأى هذا المنتظر أو سمع كلامه. وإن لم يكن موقوفاً على ذلك أمكن فعل الواجبات العقلية والشرعية. وترك القبائح العقلية والشرعية، بدون هذا المنتظر، فلا يُحتاج إليه، ولا يجب وجوده ولا شهوده.
وهؤلاء الرافضة علَّقوا نجاة الخلق وسعادتهم، وطاعتهم لله ورسوله، بشرط ممتنع لا يقدر عليه الناس، بل ولا يقدر عليه أحد منهم، وقالوا للناس: لا يكون أحد ناجياً من عذاب الله إلا بذلك، ولا يكون سعيداً إلا بذلك، ولا يكون أحداً مؤمناً إلا بذلك.
فلزم أحد أمرين: إما بطلان قولهم. وإما أن يكون الله قد آيس عباده من رحمته، وأوجب عذابه لجميع الخلق المسلمين وغيرهم. وعلى هذا التقدير فهم أول الأشقياء المعذبين، فإنه ليس لأحد منهم طريق إلى معرفة أمر هذا الإمام الذي يعتقدون أنه موجود غائب، ولا نهيه ولا خبره، بل عندهم من الأقوال المنقولة عن شيوخ الرافضة ما يذكرون أنه منقول عن الأئمة [المتقدمين على هذا المنتظر]، وهم لا ينقلون شيئاً عن المنتظر، وإن قٌدِّر أن بعضهم نقل عنه شيئاً عُلم أنه كاذب. وحينئذ فتلك الأقوال إن كانت كافية فلا حاجة إلى المنتظر، وإن لم تكن كافية فقد أقروا بشقائهم وعذابهم، حيث كانت سعادتهم موقوفة على آمر لا يعلمون بماذا أمر.
وقد رأيت طائفة من شيوخ الرافضة كابن العود الحلي يقول: إذا اختلفت الإمامية على قولين، أحدهما يُعرف قائله والآخر لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله هو القول الحق الذي يجب إتباعه، لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة.(2/88)
وهذا غاية الجهل والضلال، فإنه بتقدير وجود المنتظر المعصوم، لا يُعلم أنه قال ذلك القول، إذ لم ينقله عنه أحد، ولا عمَّن نقله عنه. فمن أين يجزم بأنه قوله؟ ولم لا يجوز أن يكون القول الآخر هو قوله، وهو لغيبته وخوفه من الظالمين لا يمكنه إظهار قوله، كما يدَّعون ذلك فيه؟
فكان أصل دين هؤلاء الرافضة مبنيًّا على مجهول ومعدوم، لا على موجود ولا معلوم، يظنون أن إمامهم موجود معصوم، وهو مفقود معدوم، ولو كان موجوداً معصوماً، فهم معترفون بأنهم لا يقدرون أن يعرفوا أمره ونهيه، كما [كانوا] يعرفون أمر آبائه ونهيهم.
والمقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره، فإذا كان العلم بأمره ممتنعاً، كانت طاعته ممتنعة، فكان المقصود [به] ممتنعاً. وإذا كان المقصود [به] ممتنعاً، لم يكن [في] إثبات الوسيلة فائدة أصلاً، بل كان إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها من باب السفه والعبث والعذاب القبيح باتفاق أهل الشرع، و[باتفاق] العقلاء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها، بل باتفاق العقلاء مطلقاً. فإنهم إذا فسروا القبح بما يضر كانوا متفقين على أن معرفة الضار يُعلم بالعقل، والإيمان بهذا الإمام الذي ليس فيه منفعة، بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك، قبيح شرعاً وعقلاً.
ولهذا كان المتبعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ولا دنياهم إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم، كاليهود الذين لا تنتظم لهم مصلحة إلا بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم. فهم يوجبون وجود الإمام المنتظر المعصوم، لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به عندهم، وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ولا في الدنيا، والذين كذَّبوا به لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه.(2/89)
فعلم بذلك أن قولهم في الإمامة، لا ينال به إلا ما يورث الخزي والندامة، وأنه ليس فيه شيء من الكرامة، وأن ذلك إذا كان أعظم مطالب الدين، فهم أبعد الناس عن الحق والهدى في أعظم مطالب الدين، وإن لم يكن أعظم مطالب الدين، ظهر بطلان ما ادَّعوه من ذلك، فثبت بطلان قولهم على التقديرين، وهو المطلوب.
فإن قال هؤلاء الرافضة: إيماننا بهذا المنتظر المعصوم، مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين بإلياس والخضر والغوث والقطب [ورجال الغيب]، ونحو ذلك من الأشخاص الذين لا يعرف وجودهم، ولا بماذا يأمرون، ولا عمَّاذا ينهون، فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلاء أن ينكر علينا ما ندعيه؟
قيل: ا لجواب من وجوه:
أحدها : أن الإيمان بوجود هؤلاء ليس واجباً عند أحد من علماء المسلمين وطوائفهم المعروفين، وإذا كان بعض الغلاة يوجب على أصحابه الإيمان بوجود هؤلاء، ويقول: إنه لا يكون مؤمناً وليًّا لله إلا من يؤمن بوجود هؤلاء في هذه الأزمان، كان قوله مردوداً كقول الرافضة. فإن من قال من هؤلاء الغلاة: إنه لا يكون وليًّا لله إن لم يعتقد الخضر، ونحو ذلك، كان قوله مردوداً، كقوله الرافضة.
الوجه الثاني : أن يقال: من الناس من يظن أن التصديق بهؤلاء يزداد به الرجل إيماناً وخيراً وموالاة لله، وأن المصدِّق بوجود هؤلاء أكمل [وأشرف] وأفضل عند الله ممن لم يصدِّق بوجود هؤلاء. وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه، بل هو مشابه له من بعض الوجوه، لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفاً على ذلك.(2/90)
وحينئذ فيقال: هذا القول أيضاً باطل باتفاق علماء المسلمين وأئمتهم. فإن العلم بالواجبات والمستحبات، وفعل الواجبات والمستحبات كلها ليس موقوفاً على التصديق بوجود أحد من هؤلاء، ومن ظن من أهل النسك والزهد والعامة أن شيئاً من الدين - واجبة أو مستحبة - موقوفاً على التصديق بوجود هؤلاء، فهو جاهل ضال باتفاق أهل العلم والإيمان العالمين بالكتاب والسنة، إذ قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء، ولا أصحابه كانوا يجعلون ذلك من الدين، [ولا أئمة المسلمين].
وأيضاً، فجميع هذه الألفاظ: لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها، لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ولا أصحابه. ولكن لفظ الأبدال تكلم به بعض السلف، ويُروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع].
الوجه الثالث : أن يقال: القائلون بهذه الأمور منهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى [أحد من] البشر، مثل دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم، فإن هذا لا يصل إلى أحد من أهل الأرض إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص، وهذا باطل بإجماع المسلمين، وهو من جنس قول النصارى في الباب.
وكذلك ما يدَّعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء قد يعلم كل وليٍّ لله كان ويكون، واسمه واسم أبيه، ومنزلته من الله، ونحو ذلك من المقالات الباطلة، التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه، مثل أنه بكل شيء عليم، أو على كل شيء قدير، ونحو ذلك. كما يقول بعضهم في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شيوخه: إن علم أحدهم ينطبق على علم الله، وقدرته منطبقة على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه.(2/91)
فهذه المقالات وما يشبهها من جنس قول النصارى والغالية في عليٍّ، وهي باطلة بإجماع علماء المسلمين. ومنهم من ينسب إلى الواحد من هؤلاء ما تجوز نسبته إلى الأنبياء وصالحي المؤمنين من الكرامات، كدعوة مجابة، ومكاشفة من مكاشفات الصالحين، ونحو ذلك.
فهذا القدر يقع كثيراً من الأشخاص الموجودين [المعاينين]، ومن نسب ذلك إلى من لا يُعرف وجوده، فهؤلاء وإن كانوا مخطئين في نسبة ذلك إلى شخص معدوم، فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلاني رجالاً من أولياء الله وليس فيه أحد، أو اعتقد في ناس معينين أنهم أولياء الله ولم يكونوا كذلك. ولا ريب أن هذا خطأ وجهل وضلال يقع فيه كثير من الناس، لكن خطأ الإمامية وضلالهم أقبح وأعظم.
الوجه الرابع : أن يقال: الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا، وأنه ليس أحد من البشر واسطة بين الله وبين خلقه في رزقه وخلقه، وهداه ونصره، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته، لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل. وأما خلقه ورزقه، وهداه ونصره [فلا يقدر عليه إلا الله تعالى]، فهذا لا يتوقف [على حياة الرسل وبقائهم. بل ولا يتوقف نصر الخلق ورزقهم على وجود الرسل أصلاً]، بل قد يخلق الله ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة [أو غيرهم]، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر.
وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة البشر، أو أن أحداً من البشر يتولى ذلك كله، ونحو ذلك، فهذا كله باطل. وحينئذ فيُقال للرافضة إذا احتجوا بضلال الضلال: { وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: الآية 39] .(2/92)
وأيضاً: فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين، وأهم المطالب في الدين، ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها. والقرآن مملوء بذكر توحيد الله، وذكر أسمائه وصفاته وآياته، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقصص والأمر والنهي، والحدود الفرائض، بخلاف الإمامة. فكيف يكون القرآن مملوءً بغير الأهم الأشرف؟
وأيضاً: فإن الله تعالى قد علَّق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة فقال: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [سورة النساء: 69] ، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ* وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة النساء: 13، 14]. فقد بيَّن الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيداً في الآخرة، ومن عصى الله ورسوله كان سعيداً في الآخرة، ومن عصى الله ورسوله وتعدَّى حدوده كان معذباً، فهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء، ولم يذكر الإمامة.
فإن قال قائل: إن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله.
قيل : غايتها أن تكون كبعض الواجبات: كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين؟
فإن قيل: لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة إمام فإنه هو الذي يعرف الشرع.(2/93)
قيل : هذا [هو] دعوى المذهب ولا حجة فيه. ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دلّ على سائر أصول الدين. [وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة].
الوجه الثاني:
أن يقال : أصول الدين عن الإمامية أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة. فالإمامة هي آخر المراتب، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك. وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة. ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر، وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يقدر أن يضل من يشاء، وأنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وغير ذلك. فلا يقولون: إنه خالق كل شيء، ولا إنه على كل شيء قدير، ولا إنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. لكن التوحيد والعدل والنبوة مقدم على الإمامة، فكيف تكون [الإمامة] أشرف وأهم؟
وأيضاً : فإن الإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفاً في الواجبات، فهي واجبة وجوب الوسائل، فكيف تكون الوسيلة أهم وأشرف من المقصود؟
الوجه الثالث :
أن يقال: إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين، وأشرف مسائل المسلمين، فأبعد الناس عن هذا الأهم الأشرف هم الرافضة. فإنهم [قد] قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين، كما سنبينه إن شاء الله تعالى [إذا تكلمنا عن حججهم]. ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم يكون لطفاً في مصالح دينهم ودنياهم، وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم، فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم لا يُرى له عين ولا أثر، ولا يُسمع له حس ولا خبر، فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء.(2/94)
وأي من فرض إماماً نافعاً في بعض مصالح الدين والدنيا، كان خيراً ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامة. ولهذا تجدهم لما فاتهم مصلحة الإمامة، يدخلون في طاعة كافر أو ظالم لينالوا به بعضهم مقاصدهم. فبينما هم يدعون الناس إلى طاعة إمام معصوم، أصبحوا يرجعون إلى طاعة ظلوم كفور. فهل يكون أبعد عن مقصود الإمامة، وعن الخير والكرامة، ممن سلك منهاج الندامة؟
وفي الجملة، فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا، سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن. والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم، فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين.
ولقد طلب [مني] أكابر شيوخهم أن يخلو بي وأتكلم معه في ذلك، فخلوت به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب. كقولهم: إن الله أمر العباد ونهاهم لينالوا به عض مقاصدهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح، لأن من دعا شخصاً ليأكل طعامه، فإذا كان مراده الأكل فعل ما يعين على ذلك من الأسباب، كتلقيه بالبشر وإجلاسه في مجلس يناسبه، وأمثال ذلك. وإن لم يكن مراده أن يأكل، عبس في وجهه وأغلق الباب، ونحو ذلك. وهذا أخذوه من المعتزلة، ليس هو من أصول شيوخهم القدماء.
ثم قالوا: والإمام لطف، لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح، كانوا أقرب إلى فعل المأمور وترك المحظور، فيجب أن يكون لهم إمام، ولا بد أن يكون معصوماً، لأنه إذا لم يكن معصوماً لم يحصل به المقصود. ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا لعليّ، فتعين أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه العبارة في هذه المعاني.
ثم قالوا: وعلى نصَّ على الحسن، والحسن على الحسين، إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب.
فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال.(2/95)
قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر. فهذا المنتظر: هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو سمعت له بخبر؟ أو تعرف شيئاً من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذاً عنه كما يؤخذ عن الأئمة؟
قال: لا.
قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟ ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمرنا به ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟!
فقال: إثبات هذا مبني على تلك المقدمات.
قلت: لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهي. وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يُحَصِّلُ لنا فائدة ولا لطفاً، ولا يفيدنا إلا تكليف ما لا يُقدر عليه، عُلم أن الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال، لا من باب المصلحة واللطف.
والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى: إن كان حقًّا يحصل به سعادتهم فلا حاجة بهم إلى المنتظر. وإن كان باطلاً فهم أيضاً لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل. فلم ينتفعوا بالمنتظر [لا] في إثبات: حق، ولا في نفي باطل، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولم يحصل لواحد منهم به شيء من المصلحة واللطف المطلوب من الإمامة.
والجُهَّال الذين يعلِّقون أمورهم بالمجهولات، كرجال الغيب والقطب [والغوث] والخضر ونحو [ذلك، مع جهلهم وضلالهم] وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا، أقلّ ضلالاً من الرافضة.(2/96)
فإن الخضر كان موجوداً، وقد ذكره الله في القرآن، وفي قصته عبرة وفوائد. وقد يرى أحدهم شخصاً صالحاً يظنه الخضر فينتفع به وبرؤيته وموعظته، وإن كان غالطاً في اعتقاده أنه الخضر، [فقد يرى أحدهم بعض الجن فيظن أنه الخضر، ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك، فيكون الرجل أُتي من نفسه لا من ذلك المخاطب له. ومنهم من يقول: لكل زمان خضر. ومنهم من يقول: لكل وليٌّ خضر. وللكفار كاليهود مواضع يقولون إنهم يرون الخضر فيها، وقد يُرى الخضر على صور مختلفة وعلى صورة هائلة وأمثال ذلك. وذلك لأن هذا الذي يقول إنه الخضر هو جني، بل هو شيطان يظهر لمن يرى أنه يضله. وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها].
وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالاً من هؤلاء. فإن منتظرهم ليس عندهم نقل ثابت عنه، ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر، ولما دخل السرداب كان عندهم صغيراً لم يبلغ سنَّ التمييز، وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء، ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنة أكثر من إعراض هؤلاء ويقدحون في خيار المسلمين قدحاً يعاديهم عليه هؤلاء. فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة، فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه.
الوجه الرابع :
أن يقال: قوله: "التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة" كلام باطل. فإن مجرد معرفة الإنسان إمام وقته وإدراكه بعينه، لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه. وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عرف أن محمداً رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره، لم يحصل له شيء من الكرامة. لو آمن بالنبي وعصاه فضيع الفرائض وتعدى الحدود، كان مستحقاً للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض متعد للحدود!(2/97)
وكثير من هؤلاء يقول: حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة. وإن كانت السيئات لا تضر مع حب عليّ، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد، إنما توجد سيئات ومعاص. فإن كان حب عليّ كافياً، فسواء وجد الإمام أو لم يوجد.
الوجه الخامس :
قوله: "وهي أحد أركان الإيمان، المستحق بسببه الخلود في الجنان".
فيقال له: من جعل هذا من الإيمان، إلا أهل الجهل والبهتان؟ وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكره من ذلك.
والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الإيمان وذكر شعبه، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان ففي [الحديث] الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان. قال [له]: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت". قال: والإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، [واليوم الآخر]، والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره". ولم يذكر الإمامة. قال: "والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وهذا الحديث متفق على صحته، مُتلقى بالقبول، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه، فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة، وفي [أفراد] مسلم من حديث عمر.(2/98)
وهؤلاء وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث، فالمصنف [قد] احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة، فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم، أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم. فإن تركوا الرواية رأساً أمكن أن نترك الرواية. وأما إذا رووا هم، فلا بد من معارضة الرواية [بالرواية]، والاعتماد على ما تقوم به الحجة. ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه.
وهب أنَّا لا نحتج بالحديث، فقد قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سورة الأنفال: 2-4]، فشهد هؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة.
وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات: 15]، فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة.(2/99)
وقال تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[سورة البقرة: 177] ولم يذكر الإمامة.
وقال تعالى: { الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة: 1- 5]، فجعلهم مهتدين مفلحين ولم يذكر الإمامة.
وأيضاً: فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد [بن عبد الله] صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يَجْعل إيمانهم موقوفاً على معرفة الإمامة، ولم يذكر لهم شيئاً من ذلك. وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم [به] الإيمان. فإذا عُلم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان، عُلم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان.
فإن قيل: قد دخلت في عموم النصوص، أو هي من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو دلّ عليها نص آخر.(2/100)
قيل: هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين، لا تكون من أركان الإيمان، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين، فلا يكون الرجل مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فلو كانت الإمامة ركناً في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به، لوجب أن يبين ذلك الرسول بياناً عاماً قاطعاً للعذر، كما بين الشهادتين والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر. فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الناس الذين دخلوا في دينه أفواجاً، لم يشترط على أحد منهم في الإيمان بالإمامة لا مطلقاً ولا معيناً!؟
الوجه السادس :
قوله : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات مِيتة جاهلية.
يقال له أولاً: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يُحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف؟!
إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع، قال: جاء [عبد الله] بن عمرو إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله. سمعته يقول: "من خلع يدًّا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية".
وهذا حدَّث به [عبد الله] بن عمر لعبد الله بن مطيع [بن الأسود] لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد، مع أنه كان فيه من الظلم ما كان. ثم إنه اقتتل هو وهم، وفعل بأهل الْحَرَّة أموراً منكرة.(2/101)
فعُلم أن هذا الحديث دلّ على ما دلّ عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يُخْرَج على ولاة أمور المسلمين بالسيف، وأن من لم يكن مطيعاً لولاة الأمور مات ميتة جاهلية. وهذا ضد قول الرافضة، فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرهاً.
ونحن نطالبهم أولاً بصحة النقل، ثم بتقدير أن يكون ناقلة واحداً، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بحبر مثل هذا [الذي] لا يُعرف له ناقل؟! وإن عُرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي؟!
الوجه السابع :
أن يقال: إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فليس فيه حجة لهذا القائل. فإن النبي صلى الله عليه وسلم [قد] قال: "من مات ميتة جاهلية" في أمور ليست من أركان الإيمان التي من تركها كان كافراً.
كما في صحيح مسلم عن جُندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قُتل تحت راية عُمِّيَّة يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقِتْلَته جاهلية". وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية، والرافضة رءوس هؤلاء. ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، فكيف يكفر بما هو دون ذلك؟!
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية". وهذا حال الرافضة فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية". وفي لفظ: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإن من خرج من السلطان شبراً، مات ميتة جاهلية".
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة، فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم، لا بذلك اللفظ الذي نقله.
الوجه الثامن :(2/102)
أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم، فإنهم يدَّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامرَّا سنة سِتين ومائتين أو نحوها ولم يميز بعد، بل كان عمره إما سنتين أو ثلاثاً أو خمساً أو نحو ذلك، وله الآن - على قولهم - أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ولم يُر له عين ولا أثر، ولا سُمع له حس ولا خبر. فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته، لكن يقولون إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم. ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام.
ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئاً من أحواله، فهذا لا يعرف ابن عمه. وكذلك المال المُلْتَقَط إذا عَرف أن له مالكاً ولم يعرف عينه لم يكن عارفاً لصاحب اللقطة. بل هذا أعرف، لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب [عليه]، وأما المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة.
فإن معرفة الإمام الذي يُخرِج الإنسان من الجاهلية، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم، والله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وهداهم به إلى الطاعة والجماعة. وهذا المنتظر لا يحل بمعرفته طاعة ولا جماعة، فلم يُعرف معرفة تخرج الإنسان من [حال] الجاهلية، بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية وأشبههم بالجاهلية، وإن لم يدخلوا في طاعة غيرهم - إما طاعة كافر وإما طاعة مسلم هو عندهم من الكفار أو النواصب - لم ينتظم لهم مصلحة، لكثرة اختلافهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة والجماعة.
وهذا يتبين
بالوجه التاسع :(2/103)
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين [المعلومين]، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقاً، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين.
ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من وُلِيّ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة".
وفي [صحيح] مسلم عن أم سَلَمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع". قالوا: [يا رسول الله]، أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلُّوا".
وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يُكره ويُنكر ما يأتونه من معصية الله، ولا تنزع اليد من طاعتهم، بل يطاعون في طاعة الله، وأن منهم خياراً وشراراً، من يُحَب ويُدعى له ويُحِب الناس ويدعو لهم، ومن يبغض ويدعو على الناس ويبغضونه ويدعون عليه.
وفي الصحيحين [عن أبي هريرة]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمر؟ قال: يفُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عمّا استرعاهم". فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين، وأمر أن يوفي ببيعة الأول فالأول وأن يعطوهم حقهم.(2/104)
وفي الصحيحين عن [عبد الله] بن مسعود، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون بعدي أََثَرة وأموراً تنكرونها". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم". وفي لفظ: "ستكون أثرة وأمور تنكرونها". قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وعلى أَثَرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
وفي الصحيحين عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
فإن قال: أنا أردت بقولي: إنها "أهم المطالب في الدين، وأشرف مسائل المسلمين" المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي مسألة الإمامة.
قيل له: فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح. فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى، بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقاً، وأشرف مسائل المسلمين مطلقاً.
وبتقدير أن يكون هذا مرادك فهو معنى باطل، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل أشرف من هذه. وبتقدير أن تكون هي الأشرف، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب، وأفسد المطالب.
وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي - رضي الله عنه - [وأما] على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة، وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يُعد نزاعاً. ولو قُدِّر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله عليه وسلم، يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل.(2/105)
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن مسائل القدر والتعديل والتجوير والتحسين والتقبيح والتوحيد والصفات والإثبات والتنزيه، أهم وأشرف من مسائل الإمامة. ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، والعفو والشفاعة والتخليد، أهم من مسائل الإمامة.
ولهذا كل من صنَّف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر، حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد والعدل والنبوة قبل مسائل الإمامة. وكذلك المعتزلة يذكرون أصولهم الخمس: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والخامس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه تتعلق مسائل الإمامة.
ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة، فإنهم يُقرُّون بأن الإمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد، وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك، وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، فهم في هذه المدّة لم ينتفعوا بإمامته لا في دين ولا في دنيا، بل يقولون: إن عندهم علماً منقولاً عن غيره.
فإن كانت أهم مسائل الدين، وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها، فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل، لأنه يكون ناقصاً بالنسبة إلى مقصود الإمامة، فيسحقون العذاب. كيف، وهم يسلِّمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع الشرعية، وأما الأصول العقلية فلا يُحتاج فيها إلى الإمام، وتلك هي أهم وأشرف!(2/106)
ثم بعد هذا كله، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا، فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل، ويكثر القال والقيل، ويفارق جماعة المسلمين، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين، ويحتال بأنواع الحيل، ويسلك ما أمكنه من السبل، ويعتضد بشهود الزور، ويُدلي أتباعه بحبل الغرور، ويفعل ما يطول وصفه، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه، ويعرّفه ما يقربه إلى الله [تعالى]؟!
ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه، لم يظفر بشيء من مطلوبه، ولا وصل إليه [شيء] من تعليمه وإرشاده، ولا أمره ولا نهيه، ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلاً، إلا إذهاب نفسه وماله، وقطع الأسفار، وطول الانتظار بالليل والنهار، ومعاداة الجمهور لداخل في سرادب، ليس له عمل ولا خطاب، ولو كان موجوداً بيقين، لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين. فكيف وعقلاء الناس يعلمون، أنه ليس معهم إلا الإفلاس، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يُعْقِبَ، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري، وعبد الباقي بن قانع، وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟!
وهم يقولون إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان وإما ثلاث، وإما خمس، وإما نحو ذلك. ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يُحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه، فإذا صار له سبع سنين أُمر بالطهارة والصلاة. فمن لا توضأ ولا صلى، وهو تحت جحر وليِّه في نفسه وماله بنص القرآن، لو كان موجوداً يشهده العيان، لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدوماً أو مفقوداً مع طول هذه الغيبة؟!(2/107)
والمرأة إذا غاب عنها وليُّها، زوَّجها الحاكم أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الوليِّ المعلوم الموجود، فكيف تضيع مصلحة الأمة مع طول هذه المدَّة، مع هذا الإمام المفقود؟!
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 1 / 75-123).
الشبهة(20): ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها
والجواب من وجوه :
أحدها : أن ما ذكر من قول فاطمة - رضي الله عنها -: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صحّ فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [كأبيها]، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضاً ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورِّثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوها لورثتهم. وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.
الثاني : أن قوله: "والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها" كذب؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة" رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.(2/108)
الثالث : قوله "وكان هو الغريم [لها]" كذب، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقها، كما أن المسجد حق للمسلمين. [والعدل] لو شهد على رجل أنه وصَّى بجعل بيته مسجداً، أو بجعل بئره مسبلة، أو أرضه مقبرة، ونحو ذلك، جازت شهادته باتفاق المسلمين، وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد، ويشرب من تلك البئر، ويدفن في تلك المقبرة. فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة، والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين، ومثل هذا لا يكون خصماً.
ومثل هذا شهادة المسلم بحق لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق، وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال، وشهادته على الذميّ بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئاً لبيت المال، ونحو ذلك.
ولو شهد عدل بأن فلاناً وقّف ماله على الفقراء والمساكين قُبلت شهادته، وإن كان [الشاهد] فقيراً.
الرابع : أن الصديق - رضي الله عنه - لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنياً عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصَّى بصدقة للفقراء؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق.
الخامس : أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكماً عاماً يدخل فيه الراوي وغيره. وهذا من باب الخير، كالشهادة برؤية الهلال؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه.
وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة - رضي الله عنها -، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتِّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة.(2/109)
السادس : أن قوله: "علي أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [سورة النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وسلم.
فيقال: أولاً : ليس في عموم لفظ الآية [ما يقتضي] أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [سورة النساء: 11]، وفي الآية الأخرى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ{ إلى قوله: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} [سورة النساء: 12]، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بها.
و"كاف" الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص [فكيف بضمير المخاطب؟] فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد. ولو قُدِّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وسلم من المخاطبين بهذا.(2/110)
فإن قيل: هب أن [الضمائر] ضمائر التكلم والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه، لكن بحسب ما يقترن بها؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطِب بالخطاب، وضمائر التكلم لمن يتكلم كائناً من كان. لكن قد عرف أن الخطاب بالقرآن هو للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعاً، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [سورة البقرة: 183] وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [سورة المائدة: 6] ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [سورة النساء: 11].
قيل: بل "كاف" الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه. كقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات: 7] ؛ فإن هذه "الكاف" للأمة دون النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله تعالى: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة التوبة: 128].(2/111)
وكذلك قوله تعالى: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد:33]، وقوله تعالى: }كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [سورة آل عمران: 31] ونحو ذلك؛ فإن كان الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تناولت من أُرسل إليهم. فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [سورة النساء: 11] مثل هذه الكافات، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [سورة النساء: 3 - 4]، فإن الضمير هنا في "خفتم" و"تقسطوا" و"انكحوا" و"طاب لكم" و"ما ملكت أيمانكم" إنما يتناول الأمة دون نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن [النبي صلى الله عليه وسلم] له أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج بلا مهر، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول وخاطبهم بطاعته ومحبته، وذكر بعثه إليهم، عُلم أنه ليس داخلاً في ذلك.(2/112)
قيل: وكذلك آية الفرائض لما قال: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [سورة النساء: 11]، وقال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [سورة النساء: 11]، ثم قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة النساء: 13- 14]، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب، وإن خالفوا الله والرسول استحقُّوا العقاب، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه - دلّ ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [لما ذكر]، الموعودين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدّى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كما لم يدخل في نظائرها.
ولما كان ما ذكره من تحريم تعدّى الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة، دلّ على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قُدِّر له، ودلّ على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخاً لما أُمر به أولاً من الوصية للوالدين والأقربين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، [ورواه أهل السير]، واتفقت الأمة عليه، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نُسخت بهذا الخبر، لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ.(2/113)
وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ هو آية الفرائض، لأن الله تعالى قدَّر فرائض محدودة، ومنع من تعدّي حدوده، فإذا أعطى الميت لوارثه أكثر مما حدَّه الله له، فقد تعدّى حدّ الله، فكان ذلك محرّماً، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالماً له.
ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب: هل يردّ عليه أم لا؟ فمن منع الردّ قال: الميراث حق لبيت المال، فلا يجوز أن يعطاه غيره. ومن جوَّز الرد قال: إنما يوضع المال في بيت المال، لكونه ليس له مستحق خاص، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " ذو السهم أَوْلى ممن لا سهم له".
والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً.
فإن قيل: فلو مات أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ورثه، كما ماتت بناته الثلاث في حياته، ومات ابنه إبراهيم؟
قيل : الخطاب في الآية للموروث دون الوارث، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين.
يوضح ذلك أنه قال: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [سورة النساء: 11]، فذكره بضمير الغَيْبة لا بضمير الخطاب، وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث، فكل من سوى النبي صلى الله عليه وسلم من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي صلى الله عليه وسلم وراثاً لمن خوطب، ولم يخاطب هو بأن يورث أحداً شيئاً، وأولاد النبي صلى الله عليه وسلم ممن شملهم كاف الخطاب فوصَّاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ففاطمة - رضي الله عنها - وصَّاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس.
فإن قيل: ففي آية الزوجين قال: (ولكم)، (ولهن).(2/114)
قيل : أولاً: الرافضة يقولون: إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس، وإنما ورثته البنت وحدها.
الثاني: أنه بعد نزول الآية لم يُعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثاً لها. وأما خديجة - رضي الله عنها - فماتت بمكة، وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة، لكن من أين نعلم أنها خلَّفت مالاً، وأن آية الفرائض كانت قد نزلت. فإن قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [سورة النساء: 12] إنما تناول من ماتت له زوجة ولها تركة، فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم يخاطب بهذه الكاف.
وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى، بل ذلك موقوف على الدليل.
فإن قيل: فأنتم تقولون: إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس. فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة، وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع. ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [سورة الأحزاب: 37]، فذكر أنه أحل ذلك له، ليكون حلالاً لأمته. ولما خصّه بالتحليل قال: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأحزاب: 50] فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله؟
قيل: من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه، كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أميراً بأمر أن نظيره مخاطَب بمثل ذلك، فهذا يُعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب، كما يُعلم معاني الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة: أنهم يريدون ذلك المعنى.(2/115)
وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القرآن فيها: تارة تتناول الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة لا تتناوله، فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله، وغاية ما يدّعي المدّعي أن يقال: الأصل شمول الكاف له، كما يقول: الأصل مساواة أمته له في الأحكام، ومساواته لأمته في الأحكام، حتى يقوم دليل التخصيص. ومعلوم أن له خصائص كثيرة خُصَّ بها عن أمته. وأهل السنة يقولون: من خصائصه أنه لا يورث، فلا يجوز أن يُنكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص، لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص. ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة [عنه] في أنه لا يورث، أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه، مثل اختصاصه بالفيء وغيره.
وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام: هل هو من خصائصه؟ كتنازعهم في الفيء والخمس، هل كان ملكاً له أم لا؟ وهل أُبيح له من حُرِّم عليه من النساء أم لا؟(2/116)
ولم يتنازع السلف في أنه لا يُورث، لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه. وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة الأنفال: 1]، وقال في [كتابه]: }وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الأنفال: 41]، وقال في كتابه: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة الحشر: 7]. ولفظ آية الفيء كلفظ آية الخمس، وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر، فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب، وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار. كما أن لفظ "الفيء" قد يُراد به كل ما أفاء الله على المسلمين، فيدخل فيه الغنائم، وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليهم مما لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
ومن الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمُس، والخمس مردود عليكم". فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من العلماء أن [هذه] الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول صلى الله عليه وسلم كسائر أملاك الناس، ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين، وخُمُسها لمن سمى، وبقي الفيء، أو أربعة أخماسه، ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يقول ذلك الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وإنما ترددوا في الفيء، فإن عامة العلماء لا يخمِّسون الفيء، وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي. وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفيء، وهو ما أُخذ من المشركين بغير قتال، كالجزية والخراج.(2/117)
وقالت طائفة ثانية من العلماء: بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكاً للرسول، بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول، فالرسول ينفقها فيما أمره الله [به].
كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إني والله لا أُعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت".
وقال أيضاً في الحديث الصحيح: "تسُّموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أُقسم بينكم".
فالرسول مبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فالمال المضاف إلى الله ورسوله، هو المال الذي يُصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، بخلاف الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإن لهم صرفها في المباحات.
ولهذا لما قال الله في المكاتبين:}وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ{ [سورة النور:33] ذهب أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما، إلى أن المراد: آتاكم [الله] من الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإنه لم يضفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول، فإنه لا يُعطي إلا فيما أمر الله به ورسوله.
فالأنفال لله والرسول، لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين. وكذلك مال الخُمس ومال الفيء.(2/118)
وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء، فقال مالك [وغيره من العلماء]: مصرفهما واحد، وهو فيما أمر الله به ورسوله، وعيَّن ما عيَّنه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصاً لهم بالذكر. وقد رُوي عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك، وأنه جعل مصرف الخُمس من الركاز مصرف الفيء، وهو تبع لخمس الغنائم. وقال الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة: الخمس يقسم على خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة، فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته صلى الله عليه وسلم. وقال داود بن على: بل مال الفيء [أيضاً] يُقسَّم [على خمسة أقسام]. والقول الأول أصح [الأقوال] كما قد بُسطت أدلته في غير هذا الموضع، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين.
فقوله: (لله وللرسول) في الخمس والفيء، كقوله في الأنفال: (لله والرسول) فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسِّم هذه الأموال بأمر الله، ليست ملكاً لأحد. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت" يدل على أنه ليس بمالك للأموال، وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها، وذلك لأن الله خيَّره بين أن يكون ملكاً نبيًّا وبين أن يكون عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وهذا أعلى المنزلتين، فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أُمر به، فيكون فيما يفعله عبادة لله وطاعة له، ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يُثاب عليه، بل يُثاب عليه كله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" يؤيد ذلك، فإن قوله: "لي" أي أمره إليّ، ولهذا قال: "والخمس مردود عليكم". وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفَدَك وخُمس خيبر وغير ذلك، هي كلها من مال الفيء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه، وإنما يورث عنه ما يملكه.(2/119)
بل تلك الأموال يجب أن تُصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال. وكذلك قال [أبو بكر] الصديق - رضي الله عنه -. وأما ما قد يظن أن مَلَكَه، كمال أوصى له به [مخيريق] وسهمه من خيبر، فهذا إما أن يُقال: حُكمه حكم المال الأول، وإما أن يُقال: هو ملكه، ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال حاجته، وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يُورث.
كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة". وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركناه فهو صدقة" أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة - رضي الله عنه-، ورواه مسلم عنه وعن غيره.
يبيِّن ذلك أن هذا مذكور في سياق قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [ سورة النساء: 3، 4] إلى قوله: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [ سورة النساء: 11].(2/120)
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بهذا، فإنه ليس مخصوصاً بمثنى ولا ثلاث ولا رباع، بل له أن يتزوج أكثر من ذلك، ولا مأموراً بأن يوفِّي كل امرأة صداقها، بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ} [سورة الأحزاب: 50] إلى قوله: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [سورة الأحزاب: 50].
وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية.
فإن قيل: بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية، لكن خُصَّ هو من آية النكاح والصداق.
قيل : وكذلك خص من آية الميراث، فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل: إن لفظ الآية شمله وخُصَّ منه، أو قيل: إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاطبين: يقال مثله هنا.
السابع: أن يقال: هذه الآية لم يُقصد بها بيان من يورث [ومن لا يورث]، ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قُصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل. فالمقصود هنا بيان مقدار أنصبة هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة. ولهذا لو كان الميت مسلماً وهؤلاء كفّاراً لم يرثوا باتفاق المسلمين، وكذلك لو كان كافراً وهؤلاء مسلمين لم يرثوا بالسنة وقول جماهير المسلمين، وكذلك لو كان عبداً وهم أحرار، أو كان حرًّا وهم عبيد. وكذلك القاتل عمداً عند عامة المسلمين، وكذلك القاتل خطأ من الدية. وفي غيرها نزاع.(2/121)
وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده، وفيهم من لا يرثه أولاده، والآية لم تفصِّل: من يرثه ورثته ومن لا يرثه، ولا صفة الوارث والموروث، عُلم أنه لم يُقصد بها بيان ذلك، بل قُصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة.
وحينئذ فالآية إذا لم تبيِّن من يورث ومن يرثه، لم يكن فيها دلالة على كون [غير] النبي صلى الله عليه وسلم يرث أو لا يورث، فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطريق الأَوْلَى والأحرى.
وهكذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العُشر، فيما سُقِيَ بالدوالي والنواضح فنصف العُشر" فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر، ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما، فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات.
وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: 275] قصد فيه الفرق بين البيع والربا: في أن أحدهما حلال والآخر حرام، ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فلا يُحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء. ومن ظن أن قوله: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك - كان غالطاً.
الوجه الثامن: أن يقال: هب أن لفظ الآية عام، فإنه خصَّ منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دلّ على خروج النبي صلى الله عليه وسلم منها؛ فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر، وأنه ليس لقاتل ميراث، وأن من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.(2/122)
وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع، كان تخصيصها بنص آخر جائزاً باتفاق علماء المسلمين. بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملاً. وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القرآن إذا لم يكن مخصوصاً [بخبر الواحد]، فأما العام المخصوص فيجوز تخصيصه بخبر الواحد عند عوامهم، لاسيما الخبر المتلقى بالقبول؛ فإنهم متفقون على تخصيص عموم القرآن به.
وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول، وأجمعوا على العمل به، كما سنذكره [إن شاء الله تعالى].
والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه. ومن سلك هذا المسلك يقول: ظاهر الآية العموم، لكنه عموم مخصوص. ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن عُلم أن هؤلاء يرثونه، ولا يُقال: إن ظاهرها متروك، بل نقول: لم يُقصد بها إلا بيان نصيب الوارث، لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث، فالآية عامة في الأولاد والموتى، مطلقة في [الموروثين. وأما] شروط الإرث فلم تتعرض له الآية، بل هي مطلقة فيه: لا تدل عليه بنفي ولا إثبات.
كما في قوله تعالى:{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [سورة التوبة: 5] عام في الأشخاص، مطلق في المكان والأحوال. فالخطاب المقيِّد لهذا المطلق يكون خطاباً مبتدأً مبيِّناً لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه، لا يكون رافعاً لظاهر خطاب شرعي، فلا يكون مخالفاً للأصل.
الوجه التاسع : أن يقال: كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً، فلا يعارض القطعي؛ إذ الظني لا يعارض القطعي.(2/123)
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقَّاه بالقبول والتصديق. ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأُخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ، فلم يغير شيئاً من ذلك ولا قسم له تركة.
الوجه العاشر: أن يقال: إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليًّا وأولاده من المال أضعاف، أضعاف ما خلَّفه النبي صلى الله عليه وسلم من المال. والمال الذي خلّفه صلى الله عليه وسلم لم ينتفع واحد [منهما] منه بشيء، بل سلَّمه عمر إلى عليّ والعباس - رضي الله عنهم ـ يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك.
الوجه الحادي عشر : أن يقال: قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك إذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربُّوهم، وقد انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك، استعطفوهم وأعطوهم ليكفُّوا عنهم منازعتهم، فلو قُدِّر - والعياذ بالله - أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - متغلبان متوثِّبان، لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة [في المال]، بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية. وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يُعلم أنه فعله أحد من الملوك، وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم. فعُلم أن الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك، كما هو خارج عن العادات الشرعية في المؤمنين، وذلك لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة، إذ الأنبياء لا يورثون.(2/124)
الوجه الثاني عشر : أن قوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل: 16]، وقوله تعالى [عن زكريا]: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم: 5، 6] لا يدل على محل النزاع؛ لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. فإذا قيل: هذا حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير.
وذلك أن لفظ "الإرث" يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال، قال تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [سورة فاطر: 32].
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة المؤمنون:10، 11].
وقال تعالى: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
وقال تعالى: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا} [سورة الأحزاب: 27].
وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف: 128].
وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سورة الأعراف: 137].
وقال تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء: 105].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أبو داود وغيره.
وهكذا لفظ "الخلافة" ولهذا يقال: الوارث خليفة الميت، أي خلفه فيما تركه. والخلافة قد تكون في المال، وقد تكون في الملك، وقد تكون في العلم، وغير ذلك.(2/125)
وإذا كان كذلك فقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل: 16]، وقوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم: 6] إنما يدل على جنس الإرث، لا يدل على إرث المال. فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة، كما لو قيل: هذا خليفة هذا، وقد خلفه - كان دالاً على خلافة مطلقة، لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور.
الوجه الثالث عشر : أن يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال. وذلك لأنه قال: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [سورة النمل: 16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله.
وأيضاً فليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان، فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة.
وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل، والشرب، ودفن الميت. ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد، وإلا فقول القائل: "مات فلان وورث ابنُه ماله" مثل قوله: "ودفنوه" ومثل قوله: "أكلوا وشربوا وناموا" ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن.
وكذلك قوله [عن زكريا]: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [سورة مريم: 6] [ليس المراد به إرث المال؛ لأنه لا يرث من آل يعقوب شيئاً من] أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا، ولأن النبي لا يطلب ولداً ليرث ماله؛ فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره: سواء كان ابناً أو غيره، فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله، كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد.(2/126)
وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلاً وشحًّا على من ينتقل إليه المال، فإنه لو كان الولد موجوداً وقصد إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد، وليس مراده بالولد إلا أن يحوز المال دون غيره، كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال، وقصد الولد بالقصد الثاني، وهذا يقبح نم أقل الناس عقلاً وديناً.
وأيضاً فزكريا - عليه السلام - لم يُعرف له مال، بل كان نجاراً. ويحيى ابنه - عليه السلام - كان من أزهد الناس.
وأيضاً فإنه قال: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي} [سورة مريم: 5] ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله [من بعده] إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف.
فصل(2/127)
قال الرافضي: "ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبها فدك قال [لها]: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لكِ وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور [معه] حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة - عليها السلام - عند ذلك وانصرفت، وحلفت أن لا تكلمه ولا تصاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلاً ولا يدع أحداً منهم يصلِّي عليها، وقد رووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة! إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك. ورووا جميعاً [أنه قال]: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. ولو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة التي خلَّفها النبي صلى الله عليه وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز، لأن الصدقة عليهم محرَّمة. وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: "إذا أتى مال البحرين حثوت لك، ثم حثوت لك، [ثلاثاً]، فقال له: تقدم فخذ بعددها، فأخذ [من بيت] مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله".
والجواب: أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً [إن شاء الله تعالى].(2/128)
أحدها: أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة - رضي الله عنها - فَدَك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله صلى الله عليه وسلم منزّه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وسلم فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما؟
الوجه الثاني: أن ادّعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، [وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد، واحتجّ بما احتجّ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان، قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن عليّ أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فَدَك، وأنها جاءت برجل وامرأة، فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: لا نُورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: "إن فاطمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أَيِّمَهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2/129)
ولم يُسمع أن فاطمة - رضي الله عنها - ادّعت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها. ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسَّان يحكي عن زيد شيئاً لا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر. وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف وقد جاءت؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر بخلافه، إن هذا من أبي بكر - رحمه الله - كنحو ما كان منه في الجدّة، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه.
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة، لأن فاطمة لم تقل: إني أحلف مع شاهدي فمنعت. ولم يقل أبو بكر: إني لا أرى اليمين مع الشاهد.
قالوا: وهذا الحديث غلط؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، قال: كان مما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه. وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءً نفقة لأهله، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين.(2/130)
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نُورَث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغيّر شيئاَ من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث. قال: وفاطمة - رضي الله عنها - حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خًمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال، يعني مال الله - عز وجل -، ليس لهم أن يزيدوا على المال.
ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاَ من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس، فغلب عليّ عليها. وأما خيبر وفَدَك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها إلى من وَلِيَ الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم.(2/131)
فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة - رضي الله عنها - طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله فسلّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبّر، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.
وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك؟ قال: لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت: لا غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أُنزل عليه: "أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى". قال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت، فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبيّن أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده.
الوجه الثالث: أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين، ولا رجل وامرأة. نعم يُحكم في [مثل] ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز [وفقهاء أصحاب] الحديث. وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تُقبل، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم.(2/132)
والثانية: تُقبل، وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم. فعلى هذا لو قُدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين، لاسيما وأكثرهم يجيزون شهادة الزوج، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يُحكم للطالب حتى يحلّفه.
الوجه الرابع : قوله: "فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يُقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أم أيمن امرأة من أهل الجنة".
الجواب : أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها، فإن هذا القول لو قاله الحجَّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقًّا، فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حُكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؟!
وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعاً، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة، لكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم. وقول القائل: "رووا جميعاً" لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يُورث، وقد رواه أكابر الصحابة، ويقول: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق.(2/133)
وبتقدير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها من أهل الجنة، فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة، وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة، وقد قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة" وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث، وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من غير وجه، من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد. فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث. ثم هؤلاء يكذِّبون من عُلِمَ أن الرسول شهد لهم بالجنة، وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة، فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم؟!
ثم يُقال: كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته، لجواز أن يغلط في الشهادة. ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن، ممن يُعلم أنهن من أهل الجنة، لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل، كما حكم بذلك القرآن. كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل، وديَّتها نصف ديّة رجل. وهذا كله باتفاق المسلمين، فكون المرأة من أهل الجنة لا يُوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها، فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة؟
الوجه الخامس : قوله: "إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها" فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ.(2/134)
الوجه السادس : قولهم: إنهم رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" من أعظم الكلام كذباً وجهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً على ا لنبي صلى الله عليه وسلم؟!.
بخلاف إخباره أن أيمن في الجنة، فهذا يمكن أنه قاله، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق [وأن الحق] يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أولاً : فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص، كما قال للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال: "إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوساً الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء" رواه مسلم وغيره.
وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض. وقد رُوي [نه قال]: "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه [إن شاء الله].
ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القرآن. أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صِدْقٌ وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق.(2/135)
وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو دار الحق مع عليّ حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم من جهلهم يدَّعون ذلك، ولكن من عُلم أنه لم يكن بأَوْلى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وليس فيهم من هو معصوم، عُلم كذبهم، وفتاويه من جنس فتاوى عمر وعثمان ليس هو أَوْلى بالصواب منهم، ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله، ولا كان ثناء النبي صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم، بل لو قال القائل: إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنه عتب على عثمان في شيء، وقد عتب على عليّ في غير موضع لما أَبْعَدَ، فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك، فقام [رسول الله صلى الله عليه وسلم] خطيباً وقال: "إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإني لا آذن ثم لا آذن، ثم لا آذن: إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني [يريبني ما رابها] ويؤذيني ما آذاها" ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فقال: "حدثني فصدَّقني ووعدني فوفى لي" والحديث ثابت صحيح أخرجاه في الصحيحين.
وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: "ألا تصليان؟" فقال له عليّ: إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول: "وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً".
وأما الفتاوى فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين، وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل" وأمثال ذلك كثير. ثم بكل حال فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده، كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه.(2/136)
الوجه السابع : أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه، إذ لم يحكم - لو كان ذلك صحيحاً - إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه. ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم، بل هذا إلى أن يكون جرحاً أقرب منه إلى أن يكون مدحاً. ونحن نعلم أن ما يُحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين. وإذا كان بعضها ذنباً فليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه، أمر لا يليق أن يُذكر عن فاطمة - رضي الله عنها -؛ فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى، كما قال العبد الصالح: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} [سورة يوسف: 86]، وفي دعاء موسى - عليه السلام -: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، ولم يقل: سلني ولا استعن بي.
وقد قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح: 7، 8].(2/137)
ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالاً من ولي أمر فلم يعطها [إياه] لكونها لا تستحقه عنده، وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه، بل أعطاه لجميع المسلمين، وقيل: إن الطالب غضب على الحاكم - كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالاً، وقال الحاكم: إنه لغيرك لا لك، فأي مدح للطالب في هذا الغضب؟ لو كان مظلومًا محضًا لم يكن غضبه إلا للدنيا. وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه، فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالاً، ولا تحال على من يطلب لنفسه المال؟
وذلك الحاكم يقول: إنما أمنع لله؛ لأني لا يحل لي أن آخذ المال من يستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه، والطالب يقول: إنما أغضب لحظي القليل من المال. أليس من يذكر [مثل] هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلاً؟!
أوليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة: 58، 59] فذكر الله قوماً رضوا إن أُعطوا، وغضبوا إن لم يعطوا، فذمهم بذلك، فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحاً فيها؟ فقاتل الله الرافضة، وانتصف لأهل البيت منهم؛ فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين ما لا يخفى على ذي عين.(2/138)
ولو قال قائل : فاطمة لا تطلب حقها، لم يكن هذا بأولى من قول القائل: أبو بكر لا يمنع يهوديًّا ولا نصرانيًّا حقه فكيف يمنع سيدة نساء العالمين حقها؟ فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله، فكيف يمنع الناس أموالهم؟ وفاطمة - رضي الله عنها - قد طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، فلم يعطها إياه. كما ثبت في الصحيحين عن عليّ - رضي الله عنه - في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم يعطها خادماً وعلَّمها التسبيح. وإذا جاز أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنعها [النبي صلى الله عليه وسلم] إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه، جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه. وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموماً بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحاً. فأما إذا قدّرنا أن الإعطاء ليس بمباح، فإنه يستحق أن يُحمد على المنع. وأما أبو بكر فلم يُعلم أنه منع أحداً حقه، ولا ظلم أحد حقه: لا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته.(2/139)
وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلاً ولا يُصلِّي عليها أحد منهم، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أَوْلى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي [ويسلم عليه] الأبرار والفجار بل والمنافقون، وهذا إن لم ينفعه لم يضره، وهو يعلم أن في أمته منافقين، ولم ينه أحداً من أمته عن الصلاة عليه، بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه، مع أن فيهم المؤمن والمنافق، فكيف يُذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل، ولو وصَّى موصٍ بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفَّذ وصيته، فإن صلاتهم عليه خيرٌ له بكل حال.
ومن المعلوم أن إنساناً لو ظلمه ظالم، فأوصى بأن لا يصلِّي عليه ذلك الظالم، لم يكن هذا من الحسنات التي يُحمد عليها، ولا هذا مما أمر الله به ورسوله. فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها، كيف يذكر مثل هذا الذي مدح فيه، بل المدح في خلافه، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؟!.(2/140)
وأما قوله: "ورووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة! إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك" فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا صحيح ولا حسن. ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة، وبأن الله يرضى عنها، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن [بن عوف] بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع، كقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [سورة التوبة: 100]، وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [سورة الفتح: 18]. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائناً من كان، بل من رضي الله عنه ورضي عن الله، يكون رضاه موافقاً لرضا الله، فإن الله راضٍ عنه، فهو موافق لما يرضي الله، وهو راضٍ عن الله، فحكم الله موافق لرضاه، وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه، فإن من رضي بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه، فإن الغضب إذا كان مرضياً لك، فعلت ما هو مرضٍ لك، وكذلك الرب [تعالى - وله المثل الأعلى] - إذا رضي عنهم غضب لغضبهم، إذ هو راضٍ بغضبهم.(2/141)
وأما قوله: "رووا جميعاً أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني، ومن آذاني آذى الله" فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ، بل [روي] بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل، لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إلا أن يريد أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم" وفي رواية: "إني أخاف أن تفتن في دينها" ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه فقال: "حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي. وإني لست أحلّ حراماً، ولا أحرم حلالاً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً" رواه البخاري ومسلم [في الصحيحين] من رواية عليّ بن الحسين والمسور بن مخرمة، فسبب الحديث خِطبة علي - رضي الله عنه - لابنة أبي جهل، والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.
وقد قال في الحديث: "يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيداً لاحقاً بفاعله، لزم أن يلحق هذا الوعيد عليَّ بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من عليّ.
وإن قيل: إن عليًّا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها.
قيل : فهذا يقتضي أنه غير معصوم. وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها، يذهب ذلك بتوبته، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية، فإن ما هو أعظم من هذا الذهب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفِّرة.(2/142)
وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، ولو كان كذلك لكان عليٌّ - والعياذ بالله - قد ارتد عن [دين] الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله تعالى نزَّه عليًّا من ذلك والخوارج الذين قالوا: إنه ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقولوا: إنه ارتد في حياته، ومن ارتد فلا بد أن يعود على الإسلام أو يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يقع. وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [سورة النساء: 48] .
وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب كفر ليكفِّروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير عليّ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وهم دائماً: يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفِّرونهم بأمور قد صدر من عليّ ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أَوْلى بالأجر والعذر، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقاً أو كفراً، كان استلزام الأغلظ لذلك أَوْلى.
وأيضاً فيقال: إن فاطمة - رضي الله عنها - إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب. وهذا حال أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء، فإنه عهد عهداً وأمر بأمر، فخافا إن غيّرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك. وكل عاقل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم، وطلب فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم، كان مراعاة حكم النبي صلى الله عليه وسلم أََوْلى، فإن طاعته واجبة، ومعصيته محرّمة، ومن تأذَّى لطاعته كان مخطئاً في تأذِّيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته. وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله.(2/143)
ومن تدبَّر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما قصد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا أمراً آخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل [وأعلى] من حال عليّ - رضي الله عنهما -، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، [وعباد الله الصالحين]، ومن السابقين الأوَّلين، ومن أكابر المقربين، الذين يشربون بالتسنيم. ولهذا كان أبو بكر - رضي الله عنه - يقول: "والله لَقَرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليَّ أن أصلْ من قرابتي". وقال: "ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته" رواه البخاري عنه.(2/144)
لكن المقصود أنه لو قُدِّر أن أبا بكر آذاها، فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله، ويوصِّل الحق إلى مستحقه. وعليٌّ - رضي الله عنه - كان قصده أن يتزوج عليها، فله في أذاها غرض، بخلاف أبي بكر. فعُلم أن أبا بكرٍ كان أبعد أن يُذمَّ بأذاها من عليّ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه، بخلاف عليّ؛ فإنه كان له حظ فيما رابها به. وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها. والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله، وإن تأذَّى من تأذَّى من أهله وغيرهم، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله. وهذا الإطلاق كقوله: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" ثم قد بيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف". فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف، فقوله: "من آذاها فقد آذاني" يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأَوْلى والأحرى، لأن طاعة أمرائه فرض، وضدها معصية كبيرة. وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لزم أن يكون عليّ قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله، فإن معصية أمرائه معصيته، ومعصيته معصية الله. ثم إذا عارض معارض وقال: أبو بكر وعمر وليا الأمر، والله قد أمر بطاعة أولي الأمر، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه.(2/145)
ثم أخذ يشنِّع على عليّ وفاطمة - رضي الله عنهما - بأنهما ردّا أمر الله، وسخطا حكمه، وكرها ما أرضى الله، لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله، والله يسخط لمعصيته، ومعصية ولي الأمر معصيته، فمن اتّبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه. وهذا التشنيع ونحوه على عليّ وفاطمة - رضي الله عنهما - أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر، وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة، بل لو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا، والصبر على جَوْرهم، وقال: "إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال: "أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم" وأمثال ذلك. فلو قُدِّر أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما، لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما.(2/146)
ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في عليّ وفاطمة - رضي الله عنهما - ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة، بل جزعوا وفرَّقوا الجماعة، وهذه معصية عظيمة - لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجباً، ولا فعلا محرماً أصلاً، بخلاف غيرهما، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر. وما ينزَّه علي وفاطمة - رضي الله عنهما - عن ترك واجب أو فعل محظور، إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أَوْلى بكثير، ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجباً أو تعدّيهما حدًّا، إلا والشبهة التي تقوم في عليّ وفاطمة أقوى وأكبر، فطلب الطالب مدح عليّ وفاطمة - رضي الله عنهما - إما بسلامتهما من الذنوب، وإما بغفران الله لهما، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة، من أعظم الجهل والظلم، وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في عليّ ومعاوية - رضي الله عنهما -، إذا أراد مدح معاوية - رضي الله عنه -، والقدح في عليّ - رضي الله عنه -.
الوجه الثامن : أن قوله: "لو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس".
فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد، أو تركا ذلك عند أحد، على أن ذلك ملك له، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند ما يُترك عنده، كما تركا صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية.
وأما قوله: " ولكان أهل البيت الذين طهَّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز".(2/147)
فيقال له: أولاً إن الله لم يخبر أنه طهَّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله. كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب، ولا أذهب عنهم الرجس، لاسيما عند الرافضة، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فليس بمطهَّر، والآية إنما قال فيها: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [سورة الأحزاب: 33]. وقد تقدم أن هذا مثل قوله: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة المائدة:6]، وقوله: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [سورة النساء: 26]، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم، ويرضاه لكم، ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضي، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك.
وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن أن هذا ألزم لهؤلاء الرافضة القدرية؛ فإن عندهم [أن] إرادة الله بمعنى أمره، لا بمعنى أنه يفعل ما أراد، فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهّر، ولا يجوز عندهم أن يطهِّر الله أحداً، [بل من أراد الله تطهيره، فإن شاء طهّر نفسه، وإن شاء لم يطهرها]، ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد.
وأما قوله: "لأن الصدقة محرَّمة عليهم".(2/148)
فيقال له: أوّلا المحرّم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبَّلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حُرِّم علينا الفرض، ولم يحرَّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع، فانتفاعهم بصدقة النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أوساخ الناس التي حُرِّمت عليهم، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء حلال لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، إذ غايته أن يكون ملكاً للنبي صلى الله عليه وسلم تصدَّق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته؛ فإن الصدقة [على المسلمين صدقة، والصدقة] على القرابة صدقة وصلة.
الوجه التاسع : في معارضته بحديث جابر - رضي الله عنه - فيقال: جابر لم يدع حقًّا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له، وإنما طلب شيئاً من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه، ولو لم يعده به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وعده به كان أَوْلى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة. ومثال هذا أن يجئ شخص إلى عقار بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية، وآخر طلب شيئاً من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين [من مال بيت المال]؛ فهذا يجوز أن يُعطى بلا بيِّنة. ألا ترى أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقوفة، وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد [من المسلمين] أن يملك أصلها، ويجوز أن يُعطى من ريعها ما ينتفع به، فالمال الذي أُعطى منه جابر هو المال الذي يقسَّم بين المسلمين، بخلاف أصول المال.(2/149)
ولهذا كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يعطيان العباس [وبنيه] وعليًّا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر [بن عبد الله] من المال الذي يقسم بين الناس، وإن لم يكن معهما وعد من النبي صلى الله عليه وسلم.
فقول هؤلاء الرافضة الجهّال: إن جابر [بن عبد الله] أخذ مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرد الدعوى، كلام من لا يعرف حكم الله، لا في هذا ولا في ذاك؛ فإن المال الذي أُعطى [منه] جابر مال يجب قسمته بين المسلمين. وجابر أحد المسلمين، وله حقٌّ فيه، وهو أحد الشركاء، والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفيء ونحوه من مال المسلمين، لا يقال: إنه أعطاه مال المسلمين من غير بيّنة؛ لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بيِّنة بخلاف من يدَّعي أن أصل المال له دون المسلمين.
نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم المال بالحثيات. وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه، وهو نوع من الكيل باليد. وجابر ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بثلاثة حثيات، وهذا أمر معتاد مثله من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر إلا ما عُهد من النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وما يجوز الإقتداء به فيه، فأعطاه حثية، ثم نظر عددها فأعطاه بقدر مرتين، تحرياً لما ظنه موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في القسم، فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان، فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحرّي والاجتهاد.
أما قصة فاطمة - رضي الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح .
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 194-264).
الشبهة(21): زعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن علي رضي الله عنه : إنه فاروق أمتي ، وأن المنافقين ماكانوا يُعرفون إلا ببغضه(2/150)
والجواب أن يقال : كلٌّ من الحديثين يُعلم بالدليل أنه كذب، لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه يُقال: ما المعنى بكون عليّ أو غيره فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل؟ إن عنى بذلك أنه يميّز بين أهل الحق وأهل الباطل، فيميز [بين] المؤمنين والمنافقين، فهذا أمر لا يقدر عليه أحدٌ من البشر: لا نبي ولا غيره. وقد قال تعالى لنبيه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [سورة التوبة: 101]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم عين كل منافق في مدينته وفيما حولها، فكيف يعلم ذلك غيره؟
وإن قيل: إنه يذكر صفات أهل الحق وأهل الباطل، فالقرآن قد بيَّن ذلك غاية البيان، وهو الفرقان الذي فرَّق الله فيه بين الحق والباطل بلا ريب.
وإن أُريد بذلك أن من قاتل معه كان على الحق ومن قاتله كان على الباطل.
فيقال: هذا لو كان صحيحاً لم يكن فيه إلا التمييز بين تلك الطائفة المعينة. وحينئذ فأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أَوْلى بذلك لأنهم قاتلوا بالمؤمنين أهل الحق الكفار أهل الباطل، فكان التمييز الذي حصل بفعلهم أكمل وأفضل؛ فإنه لا يشك عاقل أن الذين قاتلهم الثلاثة كانوا أَوْلى بالباطل ممن قاتلهم عليّ، وكلما كان العدو أعظم باطلاً كان عدوه أولى بالحق.
ولهذا كان أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبيًّا أو [من] قتله نبي، وكان المشركون الذين باشروا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والمعاداة، كأبي لهب وأبي جهل، شرًّا من غيرهم. فإذا كان من قاتله الثلاثة أعظم باطلاً، كان الذين قاتلوهم أعظم حقاً، يكونون أَوْلى بالفرقان بهذا الاعتبار.
وإن قيل: إنه فاروق لأن محبته هي المفرّقة بين أهل الحق ولا باطل.
قيل: أولاً: هذا ليس من فعله حتى يكون هو به فاروقاً.(2/151)
وقيل: ثانيًا: بل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم تفريقاً بين أهل الحق والباطل باتفاق المسلمين.
وقيل: ثالثًا: لو عارض هذا معارض فجعل محبة عثمان هي الفارقة بين الحق والباطل لم تكن دعواه دون دعوى ذلك في عليّ، مع ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله لما ذكر الفتنة: "هذا يومئذ وأصحابه على الحق". وأما إذا جعل ذلك في أبي بكر وعمر، فلا يخفى أنه أظْهَرُ في المقابلة. ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله.
وإن أُريد بذلك مطلق دعوى المحبة، دخل في ذلك الغالية كالمدَّعين لألوهيته ونبوته، فيكون هؤلاء أهل حق، وهذا كفر باتفاق المسلمين.
وإن أريد بذلك المحبة المطلقة فالشأن فيها، فأهل السنة يقولون: نحن أحق بها من الشيعة، وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي كمحبة اليهود لموسى، والنصارى للمسيح، وهي محبة باطلة. وذلك أن المحبة الصحيحة أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر، فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء، أو أنه من السابقين الأوَّلين فأحبه، لكان قد أحب ما لا حقيقة له، لأنه أحب ذلك الشخص بناءً على أنه موصوف بتلك الصفة، وهي باطلة، فقد أحب معدوماً لا موجودًا، كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها، ثم تبيَّن أنها دون ما ظنه بكثير، فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده، إذْ الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.
فاليهودي إذا أحب موسى بناء على أنه قال: تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض، وأنه نهى عن إتّباع المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موسى كذلك، فإذا تبين له حقيقة موسى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب موسى على ما هو عليه، وإنما أحب موصوفًا بصفات لا وجود لها، فكانت محبته باطلة، فلم يكن مع موسى المبشِّر بعيسى المسيح ومحمد.(2/152)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب". واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج، فلا يكون مع موسى المبشِّر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحب موسى هذا. والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد، فهو فرع الشعور، فمن اعتقد باطلاً فأحبه، كان محباً لذلك الباطل، وكانت محبته باطلة فلم تنفعه، وهكذا من اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك، كمن اعتقد إلهية فرعون ونحوه، أو أئمة الإسماعيلية، أو اعتقد الإلهية في بعض الشيوخ، أو بعض أهل البيت، أو في بعض الأنبياء أو الملائكة، كالنصارى ونحوهم، ومن عرف الحق فأحبه، كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [سورة محمد: 1- 3]. وهكذا النصراني مع المسيح: إذا أحبه معتقداً أنه إله - وكان عبداً - كان قد أحب ما لا حقيقة له, فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول لم يكن قد أحبه، فلا يكون معه.(2/153)
وهكذا من أحب الصحابة [والتابعين] والصالحين معتقداً فيهم الباطل، كانت محبته لذلك الباطل باطلة. ومحبة الرافضة لعليّ - رضي الله عنه - من هذا الباب؛ فإنهم يحبون ما لم يوجد ما لم يوجد، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته، الذي لا إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هو، الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ظالمان معتديان أو كافران، فإذا تبيّن لهم يوم القيامة أن عليًّا لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء، وإنما غايته أن يكون قريباً من أحدهم، وأنه كان مقرًّا بإمامتهم وفضلهم، ولم يكن معصوماً لا هو ولا هم، ولا كان منصوصاً على إمامته، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليًّا، بل هم من أعظم الناس بغضاً لعلي - رضي الله عنه - في الحقيقة، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في عليّ أكمل منها في غيره: من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم، فإن عليُّا - رضي الله عنه - كان يفضِّلهم ويقرُّ بإمامتهم. فتبيَّن أنهم مبغضون لعليّ قطعاً.
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عليّ - رضي الله عنه - أنه قال: إنه لعهد النبي الأميّ إليَّ أنه "لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق" إن كان هذا محفوظاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى، بل الرافضة تبغض نعوت عليّ وصفاته، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانا مقرين بها - صلى الله عليهم أجمعين -.
وهكذا كل من أحب شيخاً على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر، كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه يوم القيامة، وأنه يرزقه وينصره ويفرج عنه الكربات ويجيبه في الضرورات، كم اعتقد أن عنده خزائن الله، أو أنه يعلم الغيب، أو أنه مَلَك، وهو ليس كذلك في نفس الأمر، فقد أحب ما لا حقيقة له.(2/154)
وقول عليّ - رضي الله عنه - في هذا الحديث: لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق، ليس من خصائصه، بل قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" وقال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" وقال: "لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق". وفي [الحديث] الصحيح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، قال: فلا تجد مؤمناً إلا يحبني وأمِّي.
وهذا مما يُبين به الفرق بين هذا [الحديث] وبين الحديث الذي روي عن ابن عمر: "ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم عليًّا" فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب، لأن النفاق له علامات كثيرة وأسباب متعددة غير بغض عليّ، فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض عليّ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "آية النفاق بغض الأنصار" وقال في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان".
وقد قال تعالى في القرآن في صفة المنافقين: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} [سورة التوبة: 58]، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [سورة التوبة: 61]، {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ} [سورة التوبة: 75]، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} [سورة التوبة: 49]، {فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [سورة التوبة: 124].
وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه.(2/155)
بل لو قال: كنا نعرف المنافقين ببغض عليّ لكان متوجهاً، كما أنهم أيضاً يُعرفون ببغض الأنصار، [بل] وبُبغض أبي بكر وعمر، وببغض غير هؤلاء، فإن كل من أبغض ما يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويواليه، وأنه كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويواليه، كان بغضه شعبة من شعب النفاق، والدليل يطَّرد ولا ينعكس. ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقاً المبغضين لأبي بكر، لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا كان فيهم أعظم حبَّا للنبي صلى الله عليه وسلم منه، فبغضه من أعظم [آيات] النفاق. ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم.
وإن قال قائل: فالرافضة الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوًّا للنبي صلى الله عليه وسلم لما يُذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فأبغضوه لذلك.
قيل: إن كان هذا عذراً يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلاً وتأويلاً، فكذلك المبغضون لعليّ الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد، أو ظالم فاسق، فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام، أو لما أحبه الله وأمر به من العدل، ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق، وأراد علوًّا في الأرض وفساداً، وكان كفرعون ونحوه؛ فإن هؤلاء وإن كانوا جهالاً فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة، فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقاً لجهلهم وتأويلهم، فكذلك بغض هؤلاء لعليّ بطريق الأَوْلى والأحرى، وإن كان بغض عليّ نفاقاً وإن كان المبغض جاهلاً متأولاً فبغض أبي بكر وعمر أَوْلى أن يكون نفاقاً حينئذ، وإن كان المبغض جاهلاً متأولاً.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 290-301).
الشبهة(22): طعوناتهم في عائشة رضي الله عنها
قال شيخ الإسلام في رده على الرافضي :(2/156)
وأما الحديث الذين رواه وهو قوله لها: "تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له" فهذا لا يُعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أَوْلى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها.
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعليّ - رضي الله عنهم - أجمعين، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم، فإنه لما تراسل عليّ وطلحة والزبير، وقصدوا الاتفاق على المصلحة، وأنهم إذا تمكّنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة، وكان عليّ غير راض بقتل عثمان ولا مُعِيناً عليه، كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله، وهو الصادق البار في يمينه، فخشي القتلة أن يتفق عليٌّ معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير، فظن طلحة والزبير أن عليًّا حمل عليهم، فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن عليّ أنهم حملوا عليه، فحمل دفعاً عن نفسه، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم، وعائشة - رضي الله عنها - راكبة: لا قاتلت، ولا أمرت بالقتال. هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار.(2/157)
وأما قوله: "وخالفت أمر الله في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[سورة الأحزاب: 33]" فهي - رضي الله عنها - لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفرة، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن [رسول الله صلى الله عليه وسلم] بعد ذلك، [كما سافر] في حجة الوداع بعائشة - رضي الله عنها - وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن كما كن يحججن معه في خلافة عمر - رضي الله عنه - وغيره، وكان عمر يوكّل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأوّلت في ذلك.
وهذا كما أن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء: 29]، [وقوله]: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [سورة النساء: 29] يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم بعضًا، كما في قوله:{وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [سورة الحجرات: 11]، وقوله: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [سورة النور: 12].
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "كان حريصاً على قتل صاحبه".(2/158)
فلو قال قائل: [إن] عليًّا ومن قاتله قد التقيا بسيفيهما، وقد استحلّوا دماء المسلمين، فيجب أن يلحقهم الوعيد.
لكان جوابه: أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأوّل وإن كان مخطئاً، فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة: 286] قال: "قد فعلت". فقد عُفِيَ للمؤمنين عن النسيان والخطأ، والمجتهد المخطئ مغفور له خطؤه، وإذا غُفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقرّ في بيتها إذا كانت مجتهدة أَوْلى.
وأيضاً فلو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المدينة تنفي خَبَثَها وينصع طِيبُها". وقال: "لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه" أخرجه في الموطأ. [كما في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها طَيْبة (يعني المدينة) وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد"، وفي لفظ: "تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الحديد، وفي لفظ: "تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة"]. وقال: إن عليًّا خرج عنها ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله، ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة. لكان الجواب: أن المجتهد إذا كان دون عليّ لم يتناوله الوعيد، فعليّ إلى أن لا يتناوله الوعيد لاجتهاده، وبهذا يجاب عن خروج عائشة - رضي الله عنها -. وإذا كان المجتهد مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة.
وأما قوله: "إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليًّا على غير ذنب".(2/159)
فهذا أولاً: كذب عليها. فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضاً طلحة والزبير قصدهما قتال عليّ، ولو قدر أنهم قصدوا القتال، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات: 9، 10] فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتًا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أَوْلى وأحرى.
وأما قوله: "إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان، وتقول في كل وقت: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتله فرحت بذلك".
فيقال له: أولاً: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟
ويقال: ثانياً: المنقول الثابت عنها يكذّب ذلك، ويبين أنها أنكرت قتله، وذمّت من قتله، ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك.
ويقال: ثالثاً: هب أن واحداً من الصحابة: عائشة أو غيرها قال ذلك على وجه الغضب، لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة، ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليَّا لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظن كفره، وهو مخطئ في هذا الظن.(2/160)
كما [ثبت] في الصحيحين عن عليّ وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وكان من أهل بدر والحديبية. وقد ثبت في الصحيح أن غلامه قال: يا رسول الله، والله! ليدخلن حاطب النار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كذبت، إنه قد شهد بدراً والحديبية". وفي حديث عليّ أن حاطباً كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعليّ والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب". فلما أتيا بالكتاب، قال: "ما هذا يا حاطب؟" فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتداداً ولا رضاً بالكفر، ولكن كنت امرئ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وأنزل الله تعالى أوّل سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} الآية. [سورة الممتحنة: 1]. وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم، معروفة عند علماء التفسير، وعلماء الحديث، وعلماء المغازي والسير والتواريخ، وعلماء الفقه، وغير هؤلاء. وكان عليّ - رضي الله عنه - يحدّث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبيّن [لهم] أن السابقين مغفور لهم، ولو جرى منهم ما جرى.(2/161)
فإن عثمان وعليًّا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئاً إلى مماليكه، وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء، ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، وكذََََّب من قال: إنه يدخل النار، لأنه شهد بدراً والحديبية، وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر. ومع هذا فقد قال عمر - رضي الله عنه -: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فسمَّاه منافقاً، واستحلَّ قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحدٍ منهما، ولا في كونه من أهل الجنة.
وكذلك في الصحيحين [وغيرهما] في حديث الإفك لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ فقال: "من يعذرني من رجل [قد] بلغني أذاه في أهلي، والله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً". فقام سعد بن معاذ سيد الأوس، وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن، وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم، بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". فقال: يا رسول الله! نحن نعذرك منه. إن كان من إخواننا من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أُسَيْد بن حضير، فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وخفَّضهم.(2/162)
وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأوَّلين، وقد قال أُسيد بن حضير لسعد بن عبادة: "إنك منافق تجادل عن المنافقين" وهذا مؤمن وليٌّ لله من أهل الجنة، وذلك مؤمن وليٌّ لله من أهل الجنة؛ فدل على أن الرجل قد يكفِّر آخر بالتأويل، ولا يكون واحداً منهما كافر.
وكذلك في الصحيحين حديث عتبان بن مالك لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزله في نفر من أصحابه، فقام يصلِّي وأصحابه يتحدثون بينهم، ثم أسندوا عظم ذلك إلى مالك ابن الدُّخْشُم، وودوا أن النبيصلى الله عليه وسلم دعا عليه فيهلك، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته وقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟" قالوا: [بلى] وإنه يقول ذلك، وما هو في قلبه. فقال: "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله فيدخل النار أو تَطْعَمَهُ".
وإذا كان ذلك فإذا ثبت أن شخصاً من الصحابة: إمّا عائشة، وإمّا عمار بن ياسر، وإما غيرهما: كفّر آخر من الصحابة: عثمان أو غيره، أو أباح قتله على وجه التأويل - كان هذا من باب التأويل المذكور، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما، ولا في كونه من أهل الجنة؛ فإن عثمان وغيره أفضل من حاطب بن بلتعة، وعمر أفضل من عمَّار وعائشة وغيرهما، وذنب حاطب أعظم، فإذا غُفر لحاطب ذنبه، فالمغفرة لعثمان أَوْلى، وإذا جاز أن يجتهد مثل عمر وأُسيد بن حضير في التكفير أو استحلال القتل، ولا يكون ذلك مطابقاً، فصدور مثل ذلك من عائشة وعمّار أَوْلى.(2/163)
ويقال: رابعاً: [إن] هذا المنقول عن عائشة من القدح في عثمان: إن كان صحيحاً فإما أن يكون صواباً أو خطأً، فإن كان صواباً لم يُذكر في مساوئ عائشة، وإن كان خطأ لم يذكر في مساوئ عثمان، والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعاً. وأيضاً فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان، والذم لقتلته، وطلب الانتقام منهم ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك، كما ظهر منها الندم على مسيرها إلى الجمل؛ فإن كان ندمها على ذلك يدل على فضيلة عليّ واعترافها له بالحق، فكذلك هذا يدل على فضيلة عثمان واعترافها له بالحق، وإلا فلا.
وأيضاً فما ظهر من عائشة وجمهور الصحابة وجمهور المسلمين من الملام لعليّ أعظم مما ظهر منهم من الملام لعثمان؛ فإن كان هذا حجة في لوم عثمان فهو حجة في لوم عليّ، وإن لم يكن حجة في لوم عليّ، فليس حجة في لوم عثمان. وإن كان المقصود بذلك القدح في عائشة لمَّا لامت عثمان وعليًّا، فعائشة في ذلك مع جمهور الصحابة، لكن تختلف درجات الملام.
وإن كان المقصود القدح في الجميع: في عثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعائشة، واللائم والملوم.
قيل : نحن لسنا ندّعي لواحد من هؤلاء العصمة من كل ذنب، بل ندَّعي أنهم من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وأنهم من سادات أهل الجنة، ونقول: [إن] الذنوب جائزة على من هو أفضل منهم من الصدِّيقين، ومن هو أكبر من الصدِّيقين، ولكن الذنوب يُرفع عقابها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك، وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس لمن هو دونهم، وابتلوا بمصائب يكفِّر الله بها خطاياهم، لم يبتل بها من دونهم، فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم.(2/164)
والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع؛ فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة، تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا، والآخر مأثوماً فاسقاً أو كافراً، فيظهر جهلهم وتناقضهم، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوّة موسى أو عيسى، مع قدحه في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه، فإنه ما من طريق يثبت بها نبوّة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بمثلها أو بما هو أقوى منها، وما من شبهة تعرض في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى - عليهما السلام - بما هو مثلها أو أقوى منها، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين، أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه، أو أولى بالمدح منه أو بالعكس، أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل. وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره، أو يفضّل أحدهم على الآخر بمثل هذا الطريق.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 290-322) ، ( 4 / 329-337).
الشبهة(23): قولهم : "إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان" !!
وجوابه من وجوه :
أحدها : أن يقال: أولاً: هذا من أظهر الكذب وأَبْينه؛ فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقلته، ولا شاركوا في قتله، ولا رضوا بقتله.
أما أولاً: فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة، بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة وخراسان، وأهل المدينة بعض المسلمين.(2/165)
وأما ثانياً : فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان [لا قتل] ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان عليّ - رضي الله عنه - يحلف دائماً: "وإني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله" ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل". وغاية ما يقال: إنهم لم ينصروه حق النصرة، وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان، حتى تمكن أولئك المفسدون، ولهم في ذلك تأويلات، وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ، ولو علموا ذلك لسدّوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة.
ولهذا قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال:25]، فإن الظالم بظلم فيبتلى الناس بفتنة تصيب من لم يظلم، فيعجز عن ردها حينئذ، بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً، فإنه كان يزول سبب الفتنة.
الثاني : أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب؛ فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله؛ فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض. فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر، فيجب أن تكون بيعته حقًّا لحصول الإجماع عليها. وإن لم يجز الاحتجاج به، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله. ولاسيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة. ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته، ويقولون: إنما بايع أهل الحق منهم خوفاً وكرهاً. ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله، وقال قائل: كان أهل الحق كارهين [لقتله لكان سكتوا خوفاً وتقيَّة على أنفسهم، لكان هذا أقرب إلى الحق،] لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه، بخلاف من يريد مبايعة الأئمة، فإنه لا يخيف المخالف، كما يخيف من يريد قتله، فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة.(2/166)
فهذا لو قُدِّر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله، فكيف وجمهورهم أنكروا قتله، ودافع عنه من دافع في بيته، كالحسن بن عليّ وعبد الله بن الزبير وغيرهما؟
وأيضاً فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة عليّ وعَلَى قتل عثمان وعلى غير ذلك، فإنه لم يتخلف عنها إلا نفر يسير كسعد بن عبادة، وسعد قد عُلم سبب تخلفه، والله يغفر له ويرضى عنه. وكان رجلاً صالحاً من السابقين الأوّلين من الأنصار من أهل الجنة، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك لما أخذ يدافع عن عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، [قالت]: "وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية".
وقد قلنا غير مرة: إن الرجل الصالح المشهود له بالجنة قد يكون له سيئات يتوب منها، أو تمحوها حسناته، أو تكفَّر عنه بالمصائب، أو بغير ذلك؛ فإن المؤمن إذا أذنب كان لدفع عقوبة [النار] عنه عشرة أسباب: ثلاثة منه، وثلاثة من الناس، وأربعة يبتديها الله: التوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين له، وإهداؤهم العمل الصالح له، وشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، والمصائب المكفِّرة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي عرصات القيامة، ومغفرة الله له بفضل رحمته.(2/167)
والمقصود هنا أن هذا الإجماع ظاهر معلوم، فكيف يَدَّعي الإجماع على مثل قتل عثمان من ينكر مثل هذا الإجماع؟ بل من المعلوم أن الذين تخلّفوا عن القتال مع عليّ من المسلمين أضعاف الذين أجمعوا عل قتل عثمان؛ فإن الناس كانوا في زمن عليّ على ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا معه، وصنف لا قاتلوه ولا قاتلوا معه. وأكثر السابقين الأوّلين كانوا من هذا الصنف، ولو لم يكن تخلّف عنه إلا من قاتل مع معاوية - رضي الله عنه -، فإن معاوية ومن معه لم يبايعوه، وهم أضعاف الذين قتلوا عثمان أضعافاً مضاعفة، والذين أنكروا قتل عثمان أضعاف الذين قاتلوا مع عليّ. فإن كان قول القائل: إن الناس أجمعوا على قتال عليّ باطلاً، فقوله: إنهم أجمعوا على قتل عثمان أبطل وأبطل.
وإن جاز أن يُقال: إنهم أجمعوا على قتل عثمان، لكون ذلك وقع في العالم ولم يُدفع. فقول القائل: إنهم أجمعوا على قتال عليّ [أيضًا] والتخلف عن بيعته أجوز وأجوز؛ فإن هذا وقع في العالم ولم يدفع [أيضًا].
وإن قيل: إن الذين كانوا مع عليّ لم يمكنهم إلزام الناس بالبيعة له، وجمعهم عليه، ولا دفعهم عن قتاله، فعجزوا عن ذلك.
قيل: والذين كانوا مع عثمان لما حُصِر لم يمكنهم أيضًا دفع القتال عنه.
وإن قيل: بل أصحاب عليّ فرّطوا وتخاذلوا، حتى عجزوا عن دفع القتال، أو قهر الذين قاتلوه، أو جمع الناس عليه.
قيل: والذين كانوا مع عثمان [فرَّطوا وتخاذلوا حتى تمكن منه أولئك. ثم دعوى المدّعي الإجماع على قتل عثمان] مع ظهور الإنكار [من] جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله، أظهر كذبًا من دعوى المدّعي إجماع الأئمة على قتل الحسين - رضي الله عنه -.(2/168)
فلو قال قائل: إن الحسين قُتل بإجماع الناس، لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد عن ذلك، لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدّعي للإجماع على قتل عثمان؛ فإن الحسين - رضي الله عنه - لم يَعْظُم إنكار الأمة لقتله، كما عظم إنكارهم لقتل عثمان، ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان، ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه، ولا حصل بقلته من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان، ولا كان قتله أعظم إنكارًا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان؛ فإن عثمان من أعيان السابقين الأوّلين من المهاجرين من طبقة عليّ وطلحة والزبير، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته بل لم يُشهِر في الأمة سيفاً ولا قتل على ولايته أحداً، وكان يغزو بالمسلمين الكفّار بالسيف، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفَّار، مكفوفا عن أهل القبلة، ثم إنه طُلب قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعاً عن نفسه حتى قتل، ولا ريب أن هذا أعظم أجراً، وقتله أعظم إثمًا، ممن لم يكن متولياً فخرج يطلب الولاية، ولم يتمكن من ذلك حتى قاتله أعوان الذين طلب أخذ الأمر منهم، فقاتل عن نفسه حتى قُتل.
ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب؛ لأن يأخذ الأمر من غيره، وعثمان ترك القتال دفعًا عن ولايته، فكان حاله أفضل من حال الحسين، وقتله أشنع من قتل الحسين. كما أن الحسن - رضي الله عنه - لما لم يقاتل على الأمر، بل أصلح بين الأمة بتركه القتال، مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".(2/169)
والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام، والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد [الثقفي] وأعوانه. ولا يشك عاقل أن معاوية - رضي الله عنه - خير من المختار؛ فإن المختار كذَّاب ادّعى النبوة. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون في ثقيف كذَّاب ومبير". فالكذَّاب هو المختار، والمبير هو الحجاج بن يوسف. وهذا المختار كان أبوه رجلاً صالحاً، وهو أبو عبيد الثقفي الذي قُتل شهيداً في حرب المجوس، وأخته صفيّة بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر امرأة صالحة، وكان المختار رجل سوء.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 322-329).
…
الشبهة(24): احتجاجهم بحديث : " أنت أخي ووصيي "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: الخامس: ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأمير المؤمنين: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي دَيْني، وهو نص في الباب".
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها، ولا صححه إمام من أئمة الحديث.
وقوله: "رواه الجمهور": إن أراد بذلك أن علماء الحديث رووه في الكتب التي يُحتج بما فيها، مثل كتاب البخاري ومسلم ونحوهما. وقالوا: إنه صحيح - فهذا كذب عليهم.
وإن أراد بذلك أن هذا يرويه مثل أبي نُعيم في "الفضائل" والمغازلي وخطيب خوارزم ونحوهم، أو يُروى في كتب الفضائل، فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع، فكيف في مسألة الإمامة، التي قد أقمتم عليها القيامة؟!(2/170)
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وقد تقدّم كلام ابن حزم أن سائر هذه الأحاديث موضوعة، يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها. وقد صدق في ذلك؛ فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث وضعيفه، ليعلم أن هذا الحديث ومثله ضعيف، بل كذب موضوع. ولهذا لم يخرجه أحد من أهل الحديث في الكتب التي يحتج بما فيها، وإنما يرويه في الكتب التي يُجمع فيها بين الغثِّ والسمين، التي يعلم كل عالم أن فيها ما هو كذب، مثل كثير من كتب التفسير: تفسير الثعلبي والواحدي ونحوهما، والكتب التي صنّفها في الفضائل من يجمع الغثَّ والسمين، لاسيما خطيب خوارزم، فإنه من أروى الناس للمكذوبات، وليس هو من أهل العلم بالحديث، ولا المغازلي.
قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "الموضوعات" لما روى هذا الحديث من طريق أبي حاتم البستي، حدثنا بن سهل بن أيوب حدثنا عمّار بن رجاء، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أخي ووزيري وخليفتي من أهلي، وخير من أترك بعدي يقضي دَيني، وينجز موعدي: عليّ بن أبي طالب" قال: هذا حديث موضوع. قال ابن حبّان: مطر بن ميمون يروي الموضوعات عن الإثبات، لا تحل الرواية عنه".
رواه أيضاً من طريق أحمد بن عدي بنحو هذا اللفظ، ومداره على عبيد الله بن موسى، عن مطر بن ميمون. وكان عبيد الله بن موسى في نفسه صدوقاً روى عنه البخاري، لكنه معروف بالتشيع، فكان لتشيعه يروي عن غير الثقات ما يوافق هواه، كما روى عن مطر بن ميمون هذا، وهو كذب وقد يكون علم أنه كَذَب ذلك، وقد يكون لهواه لم يبحث عن كذبه، ولو بحث عنه لتبين له أنه كَذَب هذا، مع أنه ليس في اللفظ الذي رواه هؤلاء المحدِّثون: "وخليفتي من بعدي" وإنما في تلك الطريق: "وخليفتي في أهلي" وهذا استخلاف خاص.(2/171)
وأما اللفظ الآخر الذي رواه ابن عدي فإنه قال: "حدثنا ابن أبي سفيان، حدثنا عدي بن سهل، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا مطر، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليّ أخي وصاحبي وابن عمي وخير من أترك من بعدي، يقضي دَيْني وينجز موعدي".
ولا ريب أن مطراً هذا كذّاب، لم يرو عنه أحد من علماء الكوفة، مع روايته عن أنس، فلم يرو عنه يحيى بن سعيد القطَّان، ولا وكيع، ولا معاوية، ولا أبو نُعيم، ولا يحيى بن آدم، ولا أمثالهم، مع كثرة من الكوفة من الشيعة، ومع أن كثيراً من عوامّها يفضّل عليًّا على عثمان، روى حديثه أهل الكتب الستة، حتى الترمذي وابن ماجه قد يرويان عن ضعفاء، ولم يرووا عنه، وإنما روى عنه عبيد الله بن موسى، لأنه كان صاحب هوى متشيعاً، فكان لأجل هواه يروي عن هذا ونحوه، وإن كانوا كذَّابين.
ولهذا لم يكتب أحمد عن عبيد الله بن موسى، بخلاف عبد الرزاق، ذكر أحمد أن عبيد الله كان يظهر ما عنده بخلاف عبد الرزاق.
ومما افتراه مطر هذا ما رواه أبو بكر الخطيب في "تاريخه" من حديث عبيد الله بن موسى، عن مطر، عن أنس، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليًّا مقبلاً، فقال: "أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة" قال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع، والمتهم بوضعه مطر قال أبو حاتم : يروي الموضوعات عن الإثبات لا تحل الرواية عنه".
الوجه الثالث: أن دَيْن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقضه عليّ، بل في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير ابتاعها لأهله، فهذا الدين الذي كان عليه يقضى من الرهن الذي رهنه، ولم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم دَيْن آخر.
وفي الصحيح عنه أنه قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة". فلو كان عليه دَيْن قُضِيَ مما تركه، وكان ذلك مقدَّماً على الصدقة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.(2/172)
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 353-358) .
الشبهة(25): احتجاجهم بحديث المؤاخاة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: السادس: حديث المؤاخاة. روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم المباهلة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعليٌّ واقف يراه ويعرفه، ولم يؤاخ بينه وبين أحد، فانصرف باكياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين، [قال: يا بلال! اذهب فأتني به، فمضى إليه، ودخل منزله باكي العين] فقالت فاطمة: ما يبكيك؟ قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بيني وبين أحد. قالت: لا يخزيك الله، لعله إنما ادخرك لنفسه، فقال بلال: يا عليّ! أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى فقال: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فأخبره، فقال: إنما أدَّخرك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى، فأخذ بيده، فأتى المنبر، فقال: اللهم! هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه، فانصرف فاتبعه عمر، فقال: بخٍ، بخٍ يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فالمؤاخاة تدل على الأفضلية، فيكون هو الإمام".
والجواب .. أولاً: المطالبة بتصحيح النقل، فإنه لم يعز هذا الحديث إلى كتابٍ أصلاً، كما عادته يعزو، وإن كان عادته يعزو إلى كتبٍ لا تقوم بها الحجة، وهنا أرسله إرسالاً على عادة أسلافه شيوخ الرافضة، يكذبون ويروون الكذب بلا إسناد. وقد قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا سُئل: وقف وتحيّر.
الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث، لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع، وواضعه جاهل، كذب كذباً ظاهراً مكشوفاً، يعرف أنه كذب من له أدنى معرفة بالحديث، كما سيأتي به.(2/173)
الثالث: أن أحاديث المؤاخاة لعليّ كلها موضوعة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ أحداً، ولا آخى بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أبا بكر وعمر، ولا بين أنصاري وأنصاري، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار في أول قدومه المدينة.
وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة.
الرابع : أن دلائل الكذب على هذا الحديث بيّنة، منها: أنه قال: "أما يوم المباهلة وآخى بين المهاجرين والأنصار". والمباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى، وأنزل الله سورة آل عمران، وكان ذلك في آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع، لم يتقدّم على ذلك باتفاق الناس والنبي صلى الله عليه وسلم لم يباهل النصارى، لكن دعاهم إلى المباهلة، فاستنظروه حتى يشتوروا، فلما اشتوروا قالوا: هو نبيٌّ، وما باهل قومٌ نبياً إلا استؤصلوا. فأقرُّوا له بالجزية، ولم يباهلوا. وهم أول من أقرّ بالجزية من أهل الكتاب. وقد اتفق الناس على أنه لم يكن في ذلك اليوم مؤاخاة.
الخامس: أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار، وبين المباهلة وذلك عدة سنين.
السادس: أنه كان قد آخى بين المهاجرين والأنصار. والنبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ كلاهما من المهاجرين، فلم يكن بينهما مؤاخاة، بل آخى بين عليّ وسهل بن حنيف. فعُلم أنه لم يؤاخ عليًّا. وهذا مما يوافق ما في الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين والأنصار، لم تكن بين مهاجري ومهاجري.
السابع : أن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة، لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلاً باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأما حديث الموالاة فالذين رووه ذكروا أنه قاله بغدير خم مرة واحدة، لم يتكرر في غير ذلك المجلس أصلاً.(2/174)
الثامن : أنه قد تقدم الكلام على المؤاخاة، وأن فيها عموماً وإطلاقاً يقتضي الأفضلية والإمامة، وأن ما ثبت للصدِّيق من الفضيلة لا يشركه غيره، كقوله: "لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وإخباره: أن أحب الرجال إليه أبو بكر، وشهادة الصحابة له أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يبيّن أن الاستدلال بما روي من المؤاخاة باطل نقلاً ودلالة.
التاسع : أن من الناس من يظن أن المؤاخاة وقعت بين المهاجرين بعضهم مع بعض، لأنه روي فيها أحاديث، لكن الصواب المقطوع به هذا لم يكن، وكل ما روي في ذلك فإنه باطل: إما أن يكون من رواية يتعمد الكذب، وإما أن يكون أخطأ فيه، ولهذا لم يخرِّج أهل الصحيح شيئاً من ذلك.
والذي في الصحيح إنما هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. معلوم أنه لو آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، وبين الأنصار بعضهم مع بعض، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، إذ كان يذكر في أحاديث المؤاخاة، ويذكر كثيراً، فكيف وليس في هذا حديث صحيح، ولا خرّج أهل الصحيح من ذلك شيئاً.
وهذه الأمور يعرفها من كان له خبرة بالأحاديث الصحيحة والسيرة المتواترة، وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب المؤاخاة وفائدتها ومقصودها، وأنهم كانوا يتوارثون بذلك، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، ليعقد الصلة بين المهاجرين والأنصار، حتى أنزل الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [سورة الأنفال: 75] وهي المحالفة التي أنزل الله فيها: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [سورة النساء: 33].(2/175)
وقد تنازع الفقهاء: هل هي محكمة يورث بها عند عدم النسب أو لا يورث بها؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، الأول: مذهب أبي حنيفة. والثاني: مذهب مالك والشافعي.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 359-364) .
الشبهة(26): احتجاجهم بحديث " لأعطين الراية .. "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي : السابع: ما رواه الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر خيبر تسعاً وعشرين ليلة، وكانت الراية لأمير المؤمنين عليّ، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، وخرج مرحب يتعرض للحرب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال له: "خذ الراية، فأخذها في جمع من المهاجرين، [فاجتهد] ولم يغن شيئاً، ورجع منهزماً، فلما كان من الغد تعرَّض لها عمر، فسار غير بعيد، ثم رجع يخبر أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: جيئوني بعليّ، فقيل: إنه أرمد، فقال: أرونيه، أروني رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرَّار، فجاءوا بعليّ، فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرئ، فأعطاه الراية، ففتح الله على يديه، وقتل مرحباً. ووَصْفُهُ عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره، وهو يدل على أفضليته، فيكون هو الإمام".(2/176)
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل. وأما قوله: "رواه الجمهور" فإن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا، بل الذي في الصحيح أن عليًّا كان غائباً عن خيبر، لم يكن حاضراً فيها، تخلَّف عن الغزاة لأنه كان أرمد. ثم إنه شقَّ عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقه صلى الله عليه وسلم، فلحقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه". ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر، ولا قربها واحدٌ منهما، بل هذا من الأكاذيب. ولهذا قال عمر: "فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وبات الناس كلهم يرجون أن يعطاها، فلما أصبح دعا عليًّا" فقيل له: إنه أرمد، فجاءه فتفل في عينيه حتى برأ، فأعطاه الراية".
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء عليّ مع الرمد، وكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعليّ ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه وسلم، فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً.
الثاني : أن إخباره أن عليًّا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله حق، وفيه ردٌّ على النواصب. لكن الرافضة الذين يقولون: إن الصحابة ارتدُّوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا، لأن الخوارج تقول لهم: هو ممن ارتد أيضاً، كما قالوا لمَّا حكم الحكمين: إنك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه.
قال الأشعري في كتاب "المقالات": "أجمعت الخوارج على كفر عليّ".
وأما أهل السنة فيمكنهم الاستدلال على بطلان قول الخوارج بأدلة كثيرة، لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة، والرافضة تقدح فيها، فلا يمكنهم إقامة دليل على الخوارج عَلَى أن عليًّا مات مؤمناً، بل أيّ دليل ذكروه قَدَح فيه ما يبطله على أصلهم، لأن أصلهم فاسد.(2/177)
وليس هذا الوصف من خصائص عليّ، بل غيره يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لكن فيه الشهادة لعينه بذلك، كما شهد لأعيان للعشرة بالجنة، وكما شهد لثابت بن قيس بالجنة، وشهد لعبد الله حمار أنه يحب الله ورسوله، وقد كان ضربه في الحد مرات.
وقول القائل: "إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره".
فيه جوابان: أحدهما: أنه إن سلَّم ذلك، فإنه قال: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه"، فهذا المجموع اختصّ به، وهو أن ذلك الفتح كان على يديه، ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعيّن على يديه أن يكون أفضل من غيره، فضلاً عن أن يكون مختصاً بالإمامة.
الثاني: أن يقال: لا نسلِّم أن هذا يوجب التخصيص. كما لو قيل: لأعطين هذا المال رجلاً فقيراً، أو رجلاً صالحاً، ولأدعون اليوم رجلاً مريضاً صالحاً، أو لأعطين هذه الراية رجلاً شجاعاً، ونحو ذلك - لم يكن في هذه الألفاظ ما يوجب أن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد، بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك.
ولهذا لو نذر أن يتصدَّق بألف درهم على رجل صالح أو فقير، فأعطى هذا المنذور لواحدٍ، لم يلزم أن يكون غيره ليس كذلك. ولو قال: أعطوا هذا المال لرجلٍ قد حجَّ عني، فأعطوه رجلاً، لم يلزم أن غيره لم يحج عنه.
الثالث: أنه لو قُدِّر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت، فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك.
الرابع: أنه لو قدَّرنا أفضليته، لم يدل ذلك على أنه إمام معصوم منصوص عليه، بل كثير من الشيعة الزيدية ومتأخري المعتزلة وغيرهم يعتقدون أفضليته، وأن الإمام هو أبو بكر، وتجوز عندهم ولاية المفضول. وهذا مما يجوّزه كثير من غيرهم، ممن يتوقف في تفضيله بعض الأربعة على بعض، أو ممن يرى أن هذه المسألة ظنّية لا يقوم فيها دليل قاطع على فضيلة واحدٍ معيّن، فإنّ من لم يكن له خبرة بالسنة الصحيحة قد يشك في ذلك.(2/178)
وأما أئمة المسلمين المشهورون فكلهم متفقون على أن أبا بكر وعمر أفضل من عثمان وعليّ. ونقل هذا الإجماع غيرُ واحد، كما روى البيهقي في كتاب "مناقب الشافعي" [مسنده عن الشافعي]، قال: "ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر، وتقديمهما على جميع الصحابة".
وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر".
وقد تقدم نقل البخاري عن عليّ هذا الكلام.
والشيعة الذين صحبوا عليًّا كانوا يقولون ذلك، وتواتر ذلك عن عليّ من نحو ثمانين وجهاً. وهذا مما يقطع به أهل العلم، ليس هذا مما يخفى على من كان عارفاً بأحوال الرسول والخلفاء.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 364-369) .
الشبهة(27): احتجاجهم بحديث " إن عليًا مني وأنا منه "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: التاسع: ما رواه الجمهور: "أنه أمر الصحابة بأن يسلّموا عَلَى عليّ بإمرة المؤمنين، وقال: إنه سيد المسلمين، وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين. وقال: هذا وليّ كل مؤمن بعدي. وقال في حقّه: إن عليًّا مني وأنا منه، أولى بكل مؤمن ومؤمنة، فيكون عليّ وحده هو الإمام لذلك. وهذه نصوص في الباب".
والجواب من وجوه :
أحدها : المطالبة بإسناده وبيان صحته، وهو لم يعزه إلى كتاب على عادته. فأما قوله: "رواه الجمهور" فكذب، فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة: لا الصحاح، ولا المساند، ولا السنن وغير ذلك فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يُروى أمثاله، فعِلْم مثل هذا ليس بحجة يجب إتباعها باتفاق المسلمين.
والله تعالى قد حرّم علينا الكذب، وأن نقول عليه ما لا نعلم. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كَذَب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".(2/179)
الوجه الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه: لا الصحاح، ولا السنن ولا المساند المقبولة.
الثالث : أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قائل هذا كاذب، والنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن الكذب. وذلك أن سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين.
فإن قيل: عليّ هو سيدهم بعده.
قيل: ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا [التأويل]، بل هو يناقض لهذا؛ لأن أفضل المسلمين المتّقين المحجّلين هم القرن الأول، ولم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولا إمام ولا قائد غيره، فكيف يخبر عن شيء بعد أن لم يحضر، ويترك الخبر عمّا هم أحوج إليه، وهو حكمهم في الحال؟
ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يقود عليّ؟
وأيضاً فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجّلين كفّار أو فسّاق، فلمن يقود؟
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وددت أني قد رأيت إخواني". قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد". قالوا: كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: "أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غرٌّ محجّلة بين ظهري خيل دُهم بُهم، ألا يعرف خيله؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض" الحديث.(2/180)
فهذا يبين أن كل من توضأ وغسل وجهه ويديه ورجليه فإنه من الغرّ المحجلين، وهؤلاء جماهيرهم إنما يقدّمون أبا بكر وعمر. والرافضة لا تغسل بطون أقدامها ولا أعقابها، فلا يكونون من المحجّلين في الأرجل، وحينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم، ولا يُقادون مع الغرّ المحجلين؛ فإن الحجلة لا تكون إلا في ظهر القدم، وإنما الحجلة في الرجل كالحجلة في اليد.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ويل للأعقاب من النار وبطون الأقدام من النار". ومعلوم أن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجّلاً، وإنما الحجلة بياض اليد أو الرجل، فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين، فيكون قائد الغر المحجلين بريئاً منه كائناً من كان.
ثم كون عليّ سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يُعلم بالاضطرار أنه كذب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من ذلك، بل كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيّناً ظاهراً عرفه الخاصة والعامة، حتى أن المشركين كانوا يعرفون [منه] ذلك.
ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان، وكان حينئذ أمير المشركين: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ ثلاثاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال أبو سفيان لأصحابه: أمّا هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء، وقد بقي لك ما يسوءك. وقد ذكر باقي الحديث، رواه البخاري وغيره.(2/181)
فهذا مقدّم الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، لعلمه وعلم الخاص والعام أن هؤلاء الثلاثة هم رءوس الأمر، وأن قيامه بهم، ودلّ ذلك على أنه كان ظاهراً عند الكفار أن هذين وزيراه وبها تمام أمره، وأنهما أخص الناس به، وأن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما.
وهذا أمر كان معلوماً للكفّار، فضلاً عن المسلمين. والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا. وكما في الصحيحين عن ابن عباس قال: وُضع عمر على سريره فتكنّفه الناس يدعون له ويُثنون [عليه] ويصلُّون عليه قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت، فإذا هو عليّ فترحّم على عمر، وقال: ما خلّفت أحداً أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك. وأيمُ الله! إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كثيراً ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما".
فلم يكن تفضيلهما عليه وعلى أمثاله مما يخفى على أحد؛ ولهذا كانت الشيعة القدماء الذين أدركوا عليًّا يقدّمون أبا بكر وعمر عليه، إلا في الحد منهم. وإنما كان نزاع من نازع منهم في عثمان.
وكذلك قوله: "هو وليّ كل مؤمن بعدي" كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كل مؤمن وليُّه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان. وأما الولاية التي هي الإمارة فيقال: والي كل مؤمن بعدي، كما يقال في صلاة الجنازة: إذا اجتمع الوليّ والوالي قُدِّم الوالي في قول الأكثر. وقيل: يقدّم الولي.
فقول القائل: "عليّ ولي كل مؤمن بعدي" كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول: بعدي. وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول: والٍ على كل مؤمن.(2/182)
وأما قوله لعلي: "أنت مني وأنا منك" فصحيح في غير هذا الحديث. ثبت أنه قال له ذلك عام القضية، لما تنازع هو وجعفر وزيد بن حارثة في حضانة بنت حمزة، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها لخالتها، وكانت تحت جعفر. وقال: "الخالة أم". وقال لجعفر: "أشبهت خَلْقي وخُلُقي". وقال لعليّ: "أنت مني وأنا منك". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا".
وفي الصحيحين عنه أنه قال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في السفر، أو نقصت نفقة عيالاتهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد فقسموه بينهم بالسوية، هم مني وأنا منهم" فقال للأشعريين: "هم مني وأنا منهم" كما قال لعليّ: "أنت مني [وأنا منك]" وقال لجليبيب: "هذا مني وأنا منه" فعُلم أن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة، ولا على أن من قيلت له كان هو أفضل الصحابة.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 385-392) .
الشبهة(28): احتجاجهم بحديث الثقلين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: "العاشر: ما رواه الجمهور من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. وقال: أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته، وعليٌّ سيدهم، فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون هو الإمام".
والجواب من وجوه :
أحدها : أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بماءٍ خُمًّا بين مكة والمدينة، فقال: "أما بعد، أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ربي، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به" فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه. ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".(2/183)
وهذا اللفظ يدل على أن الذي أُمرنا بالتسمك به وجُعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله.
وهكذا جاء في غير هذا الحديث، كما في صحيح مسلم عن جابر في حجّة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال: "قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بإصبعه السبّابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: "اللهم اشهد" ثلاث مرات.
وأما قوله: "وعترتي [أهل بيتي] وأنها لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" فهذا رواه الترمذي. وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعّفه، وضعّفه غير واحد من أهل العلم، وقالوا: لا يصح. وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة. قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره.
لكن أهل البيت لم يتفقوا - ولله الحمد - على شيء من خصائص مذهب الرافضة، بل هم المبرّءون المنزّهون عن التدنس بشيء منه.
وأما قوله: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح" فهذا لا يعرف له إسناد لا في الصحيح، ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يُعتمد عليها، فإن كان رواه مثل من يروي أمثاله من حطّاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا مما يزيده وَهْنًا.
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو الصادق المصدوق، يدل على أن إجماع العترة حجة. وهذا قول طائفة من أصحابنا، وذكره القاضي في "المعتمد". لكن العترة هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد عليّ، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب وغيرهم. وعليٌّ وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/184)
يبيّن ذلك أن علماء العترة - كابن عباس وغيره - لم يكونوا يوجبون إتّباع عليّ في كل ما يقوله، ولا كان عليّ يوجب على الناس طاعته في كل ما يُفتي به، ولا عُرف أن أحداً من أئمة السلف - لا من بني هاشم ولا غيرهم - قال: إنه يجب إتّباع عليّ في كل ما يقوله.
الوجه الثالث : أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته، بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدّمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية، وكذلك سائر بني هاشم من العباسيين والجعفريين وأكثر العلويين وهم مقرّون بإمامة أبي بكر وعمر، وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية.
والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت، من بني هاشم، من التابعين وتابعيهم، من ولد الحسين بن عليّ، وولد الحسن، وغيرهما: أنهم كانوا يتولّون أبا بكر وعمر، وكانوا يفضلونهما عَلَى عليّ. والنقول عنهم ثابتة متواترة.
وقد صنّف الحافظ أبو الحسن الدارقطني كتاب "ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة" وذكر فيه من ذلك قطعة، وكذلك كل من صنّف من أهل الحديث في السنة، مثل كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد و"السنة" للخلال، و"السنة" لابن بطة، و"السنة" للآجري واللالكائي والبيهقي وأبي ذرّ الهروي والطلمنكي وأبي حفص بن شاهين، وأضعاف هؤلاء الكتب التي يحتج هذا بالعزو إليها، مثل كتاب "فضائل الصحابة" للإمام أحمد ولأبي نُعيم وتفسير الثعلبي، وفيها من ذكر فضائل الثلاثة ما هو من أعظم الحجج عليه. فإن كان هذا القدر حجة فهو حجة له وعليه، وإلا فلا يحتج به.(2/185)
الوجه الرابع : أن هذا معارض بما هو أقوى منه، وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع. والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة، وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي، وإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب إتّباع قول أفضلها مطلقاً، وإن لم يكن هو الإمام ثبت أن أبا بكر هو الإمام، وإن لم يجب أن يكون الأمر كذلك بطل ما ذكروه في إمامة عليّ. فنسبة أبي بكر إلى جميع الأمة بعد نبيها كنسبة عليّ إلى العترة بعد نبيها على قول هذا.
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 393-397) .
الشبهة(29): احتجاجهم بحديث " من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: الحادي عشر: ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته. روى أحمد ابن حنبل في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين، فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة.
وروى ابن خالويه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها: كوني، فكانت، فليتولّ عليّ بن أبي طالب من بعدي. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: حبك إيمان وبغضك نفاق، وأول من يدخل الجنة محبّك، وأول من يدخل النار مبغضك، وقد جعلك الله أهلاً لذلك، فأنت مني وأنا منك، ولا نبي بعدي. وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عليّ وهو يقول: هذا وليّي وأنا وليّه، عاديت من عادى، وسالمت من سالم. وروى أخطب خوارزم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءني جبريل من عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها ببياض: إني قد افترضت حجة عليّ على خلقي فبلغهم ذلك عني. والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين، وهي تدل على فضيلته واستحقاقه للإمامة".(2/186)
والجواب من وجوه:
أحدها: المطالبة بتصحيح النقل، وهيهات له بذلك. وأما قوله: "رواه أحمد" فيقال: أولاً: أحمد له المسند المشهور، وله كتاب مشهور في "فضائل الصحابة" روى فيه أحاديث، لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف، لكونها لا تصلح أن تُروى في المسند، لكونها مراسيل أو أضعافاً بغير الإرسال. ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي - الذي رواه عن ابنه عبد الله - زاد عن شيوخه زيادات، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة.
وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهّال، فهم ينقلون من هذا المصنف، فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه أحمد عنه، ولا يميّزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي. ثم يظنون أن أحمد إذا رواه فقد رواه في المسند، فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط، كما فعل ابن البطريق، وصاحب "الطرائف" منهم، وغيرهما بسبب هذا الجهل منهم. وهذا غير ما يفترونه من الكذب، فإن الكذب كثير منهم.
وبتقدير أن يكون أحمد روى الحديث، فمجرد [رواية] أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به، بل الإمام أحمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها. وهذا في كلامه وأجوبته أظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط، لاسيما في مثل هذا الأصل العظيم.
مع أن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي، رواه عن نصر بن علي الجهضمي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر. والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وبيّن أنه موضوع. وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على أن هذا الحديث صحيح باتفاق أهل العلم. وكذلك رواية خطيب خوارزم؛ فإن في روايته من الأكاذيب المختلفة ما هو من أقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم.(2/187)
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث وأهل المعرفة، يعلمون علماً ضروريًّا يجزمون به أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه ليست في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها علماء الحديث: لا الصحاح، ولا المساند، ولا السنن، ولا المعجمات، ولا نحو ذلك من الكتب.
الثالث: أن من تدبّر ألفاظها تبين له أنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: من أحب أن يتمسّك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده، ثم قال لها: كوني، فكانت. فهذه من خرافات الحديث. وكأنهم لما سمعوا أن الله خلق آدم بيده من تراب ثم قال له: كن، فكان، قاسوا هذه الياقوتة على خلق آدم، وآدم خلق من تراب، ثم قال له: كن، فكان، فصار حيًّا بنفخ الروح فيه. فأما هذا القصب فبنفس خلقه كمل، ثم لم يكن له بعد هذا حال يُقال له فيها: كن، ولم يقل أحد من أهل العلم إن الله خلق بيده ياقوته، بل قد رُوي في عدة آثار: أن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء: آدم، والقلم، وجنة عدن، ثم قال لسائر خلقه كن فكان. فلم يُذكر فيها هذه الياقوتة.
ثم أيّ عظيم في إمساك هذه الياقوتة حتى يَجْعَل على هذا وعداً عظيماً.
وكذلك قوله: أول من يدخل النار مبغضك. فهل يقول مسلم: إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام وفرعون وأبي لهب وأمثالهم من المشركين؟!
وكذلك قوله: أول من يدخل الجنة محبّك. فهل يقول عاقل: إن الأنبياء والمرسلين سبب دخولهم [الجنة] أولاً هو حب عليّ دون حب الله ورسوله وسائر الأنبياء ورسله، وحب الله ورسله ليس هو السبب في ذلك. وهل تعلّق السعادة والشقاوة بمجرد حب عليّ دون حب الله ورسوله، إلا كتعلقها بحبّ أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية - رضي الله عنهم -؟ فلو قال قائل: من أحب عثمان ومعاوية دخل الجنة، ومن أبغضهما دخل النار - كان هذا من جنس قول الشيعة.(2/188)
( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 7 / 397-402) .
الشبهة(30): طعوناتهم في أبي بكر رضي الله عنه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
قال الرافضي: ".. منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني. وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟!".
والجواب أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن [يريد علواً في الأرض ولا فساداً، فلم يكن] طالب رياسة، ولا كان ظالماً، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله، فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوّموني. كما قال أيضاً: [أيها الناس] أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم؛ فإنه ما من أحد إلا [وقد] وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.
والشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من أحد إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن". قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير".
وفي الصحيح عنه قال: لما مرّ به بعض الأنصار وهو يتحدث مع صفية ليلاً، قال: "على رسلكما، إنها صفية [بنت حيي]". ثم قال: "إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً؛ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا حق.(2/189)
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة. فإن الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتّبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه. لكن إذا كان أكملهم علماً وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلُّوا بصلاته، وإن سها سبَّحوا به فقوَّموه إذا زاغ.
وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه، وإن غلط قوَّموه.
والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة.
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة، بل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} الآية. [سورة النساء: 59]؛ فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعاً لطاعة الرسول.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الطاعة في المعروف". وقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وقال: "من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه".
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟
وارد في كل متعاونَيْن ومتشاركَيْن يحتاج كل منهما إلى الآخر، حتى الشركاء في التجارات والصناعات. وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة؛ فإن المأمومين يحتاجون إليه، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقوّمونه، ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتَّبعوه فيها. ونظائره متعددة.(2/190)
ثم يُقال: استعانة عليٍّ برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم عليّ لرعيته وطاعتهم له. فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكانوا إذا أمرهم أطاعوه. وعليّ - رضي الله عنه - لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يُبعن، ثم رأى أن يُبعن، فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.
وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون؛ فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.
وكانت رعيته كثيرة المعصية له، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي يخالفهم فيه، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم. كما أشار عليه الحسن بأمور، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة، وأن لا يخرج إلى الكوفة، وأن لا يقاتل بصفِّين، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية، وغير ذلك من الأمور.
وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعليّ - رضي الله عنهم -، فإن كان هذا لكمال المتولِّي وكمال الرعية، كانوا هم ورعيتهم أفضل. وإن كان لكمال المتولِّي وحده، فهو أبلغ في فضلهم. وإن كان ذلك لفرط نقص رعية عليٍّ، كان رعية عليّ أنقص من رعية أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر وعثمان.
ورعيته هم الذين قاتلوا معه، وأقرُّوا بإمامته، ورعية الثلاثة كانوا مقرِّين بإمامتهم. فإذا كان المقرّون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرّين بإمامة عليّ، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه.(2/191)
وأيضاً فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعليّ، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيراً من رعية عليّ، ورعية معاوية شيعة عثمان، وفيهم النواصب المبغضون لعليّ، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ، فيلزم على كل تقدير: إما أن يكون الثلاثة أفضل من عليّ، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة عليّ والروافض.
وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة؛ فإنهم يدَّعون أن عليًّا أكمل من الثلاثة، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة، فضلاً عن أصحاب معاوية.
والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعليّ. فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة - على رأيهم - أعظم اضطراباً وأقل انتظاماً من الإمام الناقص والرعية الناقصة؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم؟
ولم يكن في أصحاب عليّ من العلم والدين والشجاعة والكرم، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة، فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين، ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من عليّ، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أَوْلى وأحرى، فعُلم أنهم شر وأنقص من غيرهم.
وهم يقولون: المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلَّفين والمصلحة لهم، فإذا عُلم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة، عُلم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل.
وتبيَّن حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره.
فصل
قال الرافضي: "وقال: أقيلوني فلست بخيركم، وعليٌّ فيكم. فإن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية، وإن كانت باطلة لزم الطعن".(2/192)
والجواب: أن هذا كذب، ليس في شيء من كتب الحديث، ولا له إسناد معلوم. فإنه لم يقل: "وعليٌّ فيكم" بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة: بايعوا أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح. فقال له عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: كنت والله لأن أُقدَّم فتُضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من تأمُّري على قوم فيهم أبا بكر.
ثم لو قال: "وعليٌّ فيكم" لاستخلفه مكان عمر؛ فإن أمره كان مطاعاً.
وأما قوله: "إن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية".
فيقال: إن ثبت أنه قال ذلك، فإن كونها حقًّا إما بمعنى كونها جائزة، والجائز يجوز تركه. وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه. وأما إذا أقالوه وولُّوا غيره لم تكن واجبة عليه.
والإنسان قد يعقد بيعاً أو إجارة، ويكون العقد حقًّا، ثم يطلب الإقالة، وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة، وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه. وتواضع الإنسان لا يسقط حقه.
فصل
قال الرافضي: "وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عُمر. وإن كانت باطلة، لزم الطعن عليهما معًا".
والجواب : أن لفظ الحديث سيأتي. قال فيه: "فلا يغترن امرؤ أن يقول: "إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت. ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى اللهُ شرَّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر". ومعناه أن أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار، لكونه كان متعيّناً لهذا الأمر. كما قال عمر: "ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر".(2/193)
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً. فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغني عن مشاورة وانتظار وتريث، بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث، فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك.
وهذا قد جاء مفسَّراً في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح، التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره. وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم، وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: "كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين: منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليَّ عبد الرحمن بن عوف، فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت؟ فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فقال عبد الرحمن: فقتل: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرّها عنك كل مطيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول مقالتك متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجّلت بالرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسًا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً قلت(2/194)
لسعيد بن زيد [بن عمرو بن نفيل]: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليَّ، وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يَدَيْ أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلّ لأحد أن يكذب عليّ. إن الله بعث محمّداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: [والله] ما ندد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى [إذا أُحصن] من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: [أن] لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله". ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله! لو مات عمر لبايعت فلاناً، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وَقَى شرَّها، وليس فيكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا عليٌّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر. فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار. فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان،(2/195)