شبهات
حول الإسلام
تأليف الأستاذ
محمد قطب
مقدمة الطبعة الحادية عشرة
لقد هممت أكثر من مرة أن ألغي هذا الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد طبعه!
وإني لأعلم أن هذا الكتاب بالذات هو أوسع كتبي انتشاراً وأكثرها طباعة، سواء في طبعته العربية أو في ترجماته التي ترجم إليها، باللغة الإنجليزية وبأكثر من لغة من لغات العالم الإسلامي، وسواء في طبعاته المشروعة التي طبعت بإذني وعلمي، أو طبعاته الأخرى التي طبعت بغير إذن مني ولا علم!
وإني لأعلم كذلك أن أكثر قراء هذا الكتاب هم من الشباب المسلم المتحمس بالذات، لأنهم يجدون فيه الرد على بعض الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام في طريقهم، ولا يجدون الرد عليها حاضراً في أذهانهم، وأن الكتاب - لهذا - كان من بين أسلحة الشباب المسلم التي يخوض بها معركة الجدل مع أولئك الأعداء.
ومع علمي بهذا وذلك فقد هممت أكثر من مرة أن ألغي الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد إصداره!
ولم يكن ذلك لأنني غيرت موقفي من " المعلومات " الواردة فيه - فيما عدا تعديلاً واحداً في فصل " الإسلام والرق " - ولكن لأنني غيرت موقفي من " منهج " الكتاب ذاته.
إن المنهج الذي يسير عليه الكتاب في صورته الراهنة هو إيراد الشبهة التي يثيرها أعداء الإسلام، ثم الرد عليها بما يبطلها. وذلك هو المنهج الذي تغير موقفي منه، فأصبحت أجد نفسي اليوم غير موافق عليه. ذلك لأنه يعطي الشبهة لونا من الأهمية لا تستحقه، ولوناً من الشرعية يستوجب منا الاحتفال والاهتمام. ثم.. كأنما دين الله المنزل في حاجة إلى جهد منا - نحن البشر - لإثبات أنه بريء من العيوب!(1/1)
وحقيقة أنني حين قمت بتأليف الكتاب على هذا النحو منذ أكثر من عشرين عاماً كنت أستند - بيني وبين نفسي - إلى أن القرآن قد أورد شبهات المشركين وأهل الكتاب فيما يتعلق بالقرآن والوحي والرسول صلى الله عليه وسلم، بل بالذات الإلهية كذلك، ثم رد عليها بما يبطلها، دون أن يكون الرد قد أعطى لتلك الشبهات اعتباراً ولا شرعية، ولا أعطى شعوراً بأن الإسلام متهم يقف في موقف الدفاع!
وحقيقة كذلك أن الكتاب - وإن أخذ من حيث الشكل صورة الدفاع - فإنه في الواقع لم يكن دفاعاً بالمعنى المعروف، وإنما كان في مضمونه الحقيقي مهاجمة لتلك الأفكار الضالة التي تثير الشبهات حول الإسلام لجهلها بحقيقة الإسلام من جهة، ووقوعها من جهة أخرى في جاهلية فكرية وشعورية تزين لها الباطل المنحرف الذي تعيش فيه. وقد كانت حقيقة الهجوم هذه - لا صور الدفاع - هي التي أثارت المستشرق المعاصر " ولفرد كانتول سميث " في كتابه " الإسلام في التاريخ الحديث " فقال عن كتاب الشبهات ومؤلفه ما قال من عبارات حانقة مصحوبة بالسباب! وما كان ليثور هذه الثورة لو أن المسألة مجرد " دفاع " عن الإسلام! بل إنه هو ذاته قد أقر في عبارة صريحة بأن الذي يثيره هو هجوم المؤلف على حضارة الغرب ومفاهيمه في أثناء الحديث عن القضايا التي يثيرها أعداء الإسلام.
ومع ذلك فإن تجربتي في حقل الكتابة الإسلامية والدعوة الإسلامية خلال تلك الفترة من الزمان، قد دلتني على أن الرد على الشبهات ليس هو المنهج الصحيح في الدعوة ولا في الكتابة عن الإسلام.(1/2)
إن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا رداً على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر. وإنما من أجل " البيان " الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين. ثم لا بأس - في أثناء عرض هذه الحقائق - من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قبل الأعداء أو الأصدقاء سواء! وفي مثل هذا الجو في الحقيقة كانت ترد ردود القرآن على شبهات المشركين وأهل الكتاب!
ثم إن التجربة قد دلتني على شيء آخر.. إن معركة الجدل التي يخوضها الشباب المسلم المتحمس مع أعداء الإسلام، لا تستحق في الحقيقة ما يبذل فيها من الجهد!
إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة ولا رغبة في المعرفة، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة.
والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول في معركة جدلية معهم، ولو أفحمهم الرد في لحظتهم!
إنما الرد الحقيقي على خصوم الإسلام هو إخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام، فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة، يراه الناس فيحبونه، ويسعون إلى الإكثار منه، وتوسيع رقعته في واقع الحياة.
هذا هو الذي " ينفع الناس فيمكث في الأرض "، وهذا هو مجال الدعوة الحقيقية للإسلام.
* * *
لهذه الأسباب كلها هممت أكثر من مرة أن ألغي الكتاب من قائمة كتبي ولا أعيد إصداره، رغم ما أعرف من إقبال الشباب عليه في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، وفي أكثر من لغة من لغاته.
ولكن الأمر خرج من يدي بالنسبة لهذا الكتاب! فإن أنا منعت طبعته المشروعة، فلن آمن أن يطبع هنا وهناك بغير إذن مني، وبغير علم!
لذلك أكتفي ببيان هذه الحقيقة للناس، وبيان المنهج الصحيح الواجب الاتباع، ثم أعيد إصداره كما هو بغير تعديل، فيما عدا هذا التعديل الواحد الذي أشرت إليه في فصل " الإسلام والرق " تصحيحاً لبعض ما ورد فيه من مفاهيم.(1/3)
والله أسأل أن ينفعنا بما نعمل وما نقول، وأن يهدينا إلى سواء السبيل. " وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ".
محمد قطب
مقدمة الكتاب
يعاني كثير من " المثقفين " اليوم أزمة عنيفة بإزاء الدين.
هل الدين إحدى حقائق الحياة؟ وإذا كان كذلك في الماضي، أفما يزال كذلك اليوم، وقد غيّر العلم وجه الحياة، ولم يعد في الأرض مكان لغير العلم والحقائق العلمية؟
هل الدين حاجة بشرية؟ أم هو " مزاج شخصي "، فمن شاء تدين، ومن شاء ألحد، وهذا وذاك سيان؟
ثم هم في أزمة عنيفة كذلك بشأن الإسلام.
إن دعاة الإسلام يقولون للناس: إن هذا الدين نسيج وحده. إنه ليس مجرد عقيدة، ليس مجرد تهذيب للروح، وتربية للفضائل، بل هو إلى جانب ذلك نظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، وتشريع مدني، وتشريع جنائي، وقانون دولي، وتوجيه فكري، وتربية بدنية: كل أولئك على أساس من العقيدة، وفي مزاج من التوجيه الخلقي والتهذيب الروحي.
و " المثقفون " في أزمتهم حائرون، فقد كانوا ظنوا أن الإسلام قد انتهى واستنفد أغراضه، ثم ها هم أولاء يفاجأون بأصحاب الدعوة الإسلامية يقولون لهم: إن هذا الدين ليس شيئاً من تراث الماضي السحيق يوضع اليوم في متحف الأفكار والنظم والعقائد، إنما هو كائن حي في هذه اللحظة، ويملك من مقومات الحياة في المستقبل ما لا يملكه أي نظام آخر عرفته البشرية حتى اليوم، بما في ذلك الاشتراكية والشيوعية.(1/4)
عند ذلك تهزهم المفاجأة، فلا يملكون أنفسهم. ويصرخون: أهذا النظام الذي أباح الرق والإقطاع والرأسمالية.. النظام الذي يجعل المرأة نصف الرجل ويحبسها في دارها. النظام الذي يجعل عقوباته الرجم والقطع والجلد.. النظام الذي يترك أهله يعيشون على الإحسان، ويقسمهم طبقات بعضها يستغل بعضا، ولا يملك الكادحون فيه ضمانات العيش الكريم.. النظام الذي صنع كذا وكذا.. أيمكن أن يعيش اليوم، فضلا عن المستقبل؟ أهو نظام يستطيع في الصراع الجبار الذي يقوم اليوم بين النظم الاجتماعية والاقتصادية القائمة على أسس " علمية! " أن يقف على رجليه، فضلا عن المصارعة والكفاح؟!
وينبغي أولاً أن يعرف هذا اللون من " المثقفين " من أين جاءتهم هذه الشبهات، ليعرفوا إن كانوا وهم يرددونها أصلاء في التفكير، أم مقلدين، يرددون ما لا يفهمون.
إنها قطعاً ليست شبهاتهم الخاصة، ولا هي نتيجة تفكيرهم الذاتي، ولنرجع خطوات إلى الوراء لنعرف شيئاً من التاريخ الحديث.
في العصور الوسطى قامت الحروب الصليبية بين أوربا والعالم الإسلامي، واستعر أوارها. ثم سكتت بعد فترة من الزمان، ولكن يخطئ من يظن أنها انتهت حينذاك. فها هو ذا اللورد ألنبي يقول في صراحة كاملة حين استولى على بيت المقدس في الحرب العظمى الأولى: (الآن انتهت الحروب الصليبية)!!(1/5)
وفي القرنين السابقين أخذت أوربا المستعمرة تزحف على العالم الإسلامي، وفي سنة 1882 دخل الإنجليز مصر، بعد خيانة توفيق وتآمره مع جيش الاحتلال ضد الثورة الشعبية بزعامة عرابي. ولم يكن بد للإنجليز من سياسة يثبتون بها أقدامهم في العالم الإسلامي، ويأمنون بها الروح الإسلامية أن تشتد فتعصف بهم في يوم قريب. وهنا ندع مستر جلادستون رئيس الوزارة البريطانية في عهد الملكة فكتوريا يتحدث في صراحة ووضوح عن هذه السياسة، فيمسك بيده المصحف ويقول لأعضاء مجلس العموم: " إنه ما دام هذا الكتاب بين أيدي المصريين، فلن يقر لنا قرار في تلك البلاد ".
وإذن فقد كانت السياسة المطلوبة هي توهين عُرَى الدين، ونزع قداسته من نفوس أهله، وتشويه صورته في أفكارهم وضمائرهم، لينسلخوا منه وينفروا من التمسك بأحكامه وآدابه، حتى يستطيع المستعمرون أن يستقروا في هذه البلاد!
وكذلك صنع الإنجليز في مصر. فقد وضعوا سياسة تعليمية لا تدرس شيئاً عن حقيقة الإسلام، سوى أنه عبادات وصلوات، وأذكار ومسابح وطرق صوفية، وقرآن يقرأ من أجل " البركة "، ودعوات نظرية إلى مكارم الأخلاق! أما الإسلام كنظام اقتصادي واجتماعي، أما الإسلام كنظام للحكم ودستور للسياسة الداخلية والخارجية، أما الإسلام كنظام للتربية والتعليم.. أما الإسلام كحياة ومهيمن على الحياة.. فلم يدرس منه شيء للطلاب، وإنما درست لهم بدلاً منه الشبهات الي وضعها المستشرقون وغيرهم من الصليبيين الأوربيين. 1ليفتنوا بها المسلمين عن دينهم، تنفيذاً لغرض الاستعمار الخبيث.
وفي مكان هذا كله درسوا لهم أوربا.
النظم الاجتماعية الحقة هي التي قامت في أوربا. والنظم الاقتصادية الحقة هي التي ابتدعها الفكر الأوربي. والنظم الدستورية الصالحة هي التي صقلتها تجارب الأوربيين. حقوق الإنسان قررتها الثورة الفرنسية.(1/6)
والديمقراطية قررها الشعب الإنجليزي. و " الحضارة " وضعت أسسها الإمبراطورية الرومانية. وباختصار، صورت لهم أوربا على أنها مارد جبار لا يقف في طريقه شيء، والشرق على أنه قزم ضئيل لا يرجى له قيام إلا أن يكون خاضعا لأوربا، مستمدا كيانه كله من هناك.
وفعلت تلك السياسة فعلها. ونشأت أجيال من المصريين لا تحس لها وجوداً ذاتياً ولا كياناً خاصاً. أجيال قد استعبدت لأوربا، وغرقت في العبودية إلى آخر قرارها. أجيال لا تبصر بعيونها ولا تفكر بعقولها، ولا ترى إلا ما يراه لها الأوربيون، ولا تعتنق إلا ما يريدون لها من أفكار! والذي حدث في مصر حدث مثله أو شبيه له في كل قطر من أقطار الإسلام.
و " المثقفون "، اليوم هم خلاصة هذه السياسة المرسومة التي وضعها الاستعمار في العالم الإسلامي كله من المحيط إلى المحيط!
إنهم لا يعرفون عن الإسلام إلاَّ الشبهات، ولا يعرفون عن الدين كله إلا ما لقنهم الأوربيون. ولذلك فهم ينادون - كالأوربيين - بفصل الدين عن الدولة، وفصل العلم عن الدين.
وهم ينسون - في غفلتهم - أن الدين الذي انسلخت منه أوربا شيء، والدين الذي يدعو إليه أصحاب الدعوة الإسلامية شيء آخر. وأن الملابسات التي أحاطت بأوربا، وأدت بها إلى معاداة الدين والنفور منه، ملابسات خاصة بالقوم هناك، لم يحدث مثلها في الشرق الإسلامي، ولا يمكن أن يحدث. فهم في دعوتهم إلى نبذ الدين، أو تركه في عزلة عن تدبير الحياة وتصريف شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد، إنما يستوردون أفكاراً جاهزة، ويرددون ما يردده القوم هناك.(1/7)
لقد نشأ الصراع في أوربا بين العلم والدين، لأن الكنيسة هناك احتضنت أفكاراً " علمية " ونظريات معينة، وقالت إنها حقائق مقدسة، لأنها كلمة السماء! فلما أثبت العلم النظري والتجريبي فساد هذه الأفكار والنظريات، لم يكن بد من أن يؤمن الناس بالعلم ويكفروا بالكنيسة، ويكفروا بالدين كما يصوره لهم رجال الدين. وزاد في حدة هذا الصراع والرغبة في التحرر من " ربقة " الدين، أن الكنيسة في أوربا فرضت لنفسها سلطة إلهية، واشتطت في تطبيقها إلى حد الدكتاتورية، فصارت غولاً بشعاً يطارد الناس في يقظتهم ومنامهم، يفرض عليهم الإتاوات، والخضوع المذل لرجال الدين، كما يفرض عليهم الأوهام والخرافات، باسم كلمة الله!
وكان تعذيب العلماء وتحريقهم بالنار، لانهم قالوا بكروية الأرض - مثلاً - من البشاعة بحيث يفرض على كل صاحب فكر حر، وضمير متحرر أن يساعد في تحطيم هذا الغول البشع، أو تكبيله بحيث لا يعود له على الناس سلطان. وصار تجريح الدين - كما صورته الكنيسة - وتلمس العيوب فيه، واجباً مقدساً هناك على المفكرين الأحرار.
أما نحن هنا في الشرق الإسلامي فما بالنا؟ لماذا نفصل بين العلم والدين، ونقيم بينهما النزاع والصراع؟ أي حقيقة علمية خالصة مجردة من الهوى اصطدمت بالدين والعقيدة؟ ومتى وقع اضطهاد على العلماء في ظل الإسلام؟ هذا هو التاريخ يشهد بقيام علماء في الطب والفلك والهندسة والطبيعة والكيمياء، نبغوا في ظل الإسلام، فلم يقم في نفوسهم الصراع بين العلم والعقيدة، ولا قام بينهم وبين السلطات الحاكمة ما يدعو إلى الحرق والتعذيب.
فما الذي يدفع أولئك " المثقفين " إلى فصل الدين عن العلم، وتجريح الدين، وتلمس العيوب فيه - دون وعي ولا دراسة، وبما يشبه صراخ المحمومين - إلا السم الاستعماري الذي تجرعوه وهم لا يشعرون؟(1/8)
هذا الصنف من المثقفين لم يكن في حسابي على أي حال وأنا أكتب هذا الكتاب. فهم لا يفيئون إلى صواب، حتى يفيء الذين يقلدونهم في الغرب، بعد أن ييأسوا من حضارتهم المادية الملحدة، ويعرفوا أنها ليست طريق الخلاص، فيعودوا إلى نظام مادي روحاني في ذات الوقت. نظام يشمل العقيدة والحياة في آن.
وإنما كان في حسابي طائفة أخرى من الشباب المخلص المفكر المستنير. شباب صادق الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، ولكن هذه الشبهات تعترض طريقه فلا يعلم لها رداً، لأن الاستعمار الماكر قد حجب عن عيونه النور، وتركه حائراً في الظلمات. ولأن عبيد الاستعمار وشياطين الشيوعية يمعنون في تضليله خشية أن يهتدي إلى الطريق الصحيح، طريق الحرية والكرامة والاستعلاء. فإلى هذا الشباب المخلص المفكر أقدم هذا الكتاب، وأرجو الله أن يوفقني لأزيل من طريقه الشبهات.
الدّين هل استنفد أغراضه؟
ظن كثير من الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في نشوة الانتصارات العلمية، أن الدين قد استنفد أغراضه، وأخلى مكانه للعلم!
وعلى هذا الظن معظم " علماء " الاجتماع و " علماء " النفس في العالم الغربي. فهذا فرويد مثلاً يقسم حياة البشرية إلى ثلاث مراحل سيكلوجية: الأولى مرحلة الخرافة، والثانية مرحلة التدين، والثالثة والأخيرة هي مرحلة العلم!
وقد شرحنا في المقدمة الأسباب والملابسات التي أدت بعلماء أوربا إلى اعتناق هذه النظرة المعادية للدين، المنفرة منه، وقلنا أن الصراع الذي قام بين الكنيسة والعلماء قد جعلهم يشعرون - بحق - أن ما تقول الكنيسة رجعية وانحطاط وتأخر وخرافة. وأنه يجب أن يخلي مكانه للعلم، حتى يتاح للبشرية أن تتقدم في طريق المدنية.(1/9)
ثم كانت عدوى التقليد في الشرق الإسلامي المغلوب على أمره، هي التي خيلت للمساكين من أهله، أن طريقهم الوحيد إلى التقدم هو طريق أوربا الظافرة - لأنها اليوم ظافرة! - وأن عليهم أن ينبذوا دينهم، كما نبذت أوربا دينها، وإلا فسيظلون سادرين في الرجعية والانحطاط والتأخر والخرافة!
ولكن علماء أوربا وكتابها مع ذلك ليسوا كلهم من أعداء الدين! وفيهم قوم معقولون تحررت نفوسهم من مادية أوربا الملحدة، وعرفوا ان العقيدة حاجة نفسية وحاجة عقلية في ذات الوقت. ومن أبرز أمثلتهم جيمس جينز العالم الفلكي الذي بدأ حياته ملحداً شاكاً، ثم انتهى عن طريق البحث العلمي إلى أن مشكلات العلم الكبرى لا يحلها إلا وجود إله! وجينز برج عالم الاجتماع الشهير الذي يشيد بالدين الإسلامي خاصة لجمعه بين المادي والروحي في فكرة واحدة ونظام واحد. ثم ها هو ذا الكاتب المشهور سومرست موم يقول كلمته الصادقة البارعة: " إن أوربا قد نبذت اليوم إلهها، وآمنت بإله جديد هو العلم، ولكن العلم كائن متقلب، فهو يثبت اليوم ما نفاه بالأمس، وهو ينفي غداً ما يثبته اليوم، لذلك تجد عبّاده في قلق دائم، لا يستقرون "!
إنها حقيقة. هذا القلق الدائم الذي يعيش فيه الغرب المضطرب، القلق الذي يفسد أعصاب الناس هناك، ويصيبهم بمختلف الأمراض النفسية والعصبية، هو نتيجة الصراع الدائم في الأرض، دون الاستناد إلى قوة ثابتة في الأرض أو السماء. كل شيء من حولهم يتغير. النظم الاقتصادية تتغير. والنظم السياسية تتغير. وعلاقات الدول والأفراد تتغير. وحقائق العلم تتغير. فإذا لم تكن هناك قوة ثابتة يستند إليها الأفراد في صراعهم الجبار مع الحياة والناس والأشياء، فهناك نتيجة حتمية واحدة: هي القلق والاضطراب.(1/10)
ولو لم يكن للعقيدة مهمة تؤديها في حياة البشر إلا هذا الأمن الذي يجده الإنسان في رحاب الله، وهو يتوجه إليه بأعماله، ويقاوم قوى الشر والطغيان ابتغاء مرضاته، ويكدح لتعمير الأرض تنفيذاً لإرادته وانتظاراً لمثوبته، لكفى ذلك مبرراً للتمسك بالعقيدة، والتزود منها بخير زاد.
وما الإنسان بغير عقيدة؟ ما هو بغير الإيمان بعالم آخر خالد الحياة؟
إنه لا بد أن يستولي عليه شعور الفناء. الشعور بقصر العمر وضآلته بالقياس إلى أحلام الفرد وآماله. وعندئذ يندفع وراء شهواته، ليحقق في حياته القصيرة أكبر قدر من المتاع. ويتكالب على الأرض، ومنافع الأرض، وصراع الأرض الوحشي، ليحقق في هذه الفرصة الوحيدة المتاحة له كل ما يقدر عليه من نفع قريب ...
ويهبط الناس. يهبطون في أحاسيسهم وأفكارهم، ويهبطون في تصوراتهم لأهداف الحياة ووسائل تحقيقها. يهبطون إلى عالم الصراع البغيض الذي لا ينبض بآصرة إنسانية رفيعة، ولا تخطر فيه خاطرة من ود أو رحمة أو تعاون صادق. ويهبطون إلى نزوات الجسد وضرورات الغريزة، فلا يرتفعون لحظة إلى عاطفة نبيلة ولا معنى إنساني كريم.
ولا شك أنهم - في الطريق، في صراعهم الجبار - يحققون شيئاً من النفع، وشيئاً من المتاع. ولكنهم يفسدون ذلك كله بالتكالب الذي يتكالبونه على النفع والمتاع. فأما الأفراد فإن الشهوات تتملكهم إلى الحد الذي يصبحون فيه عبيداً لها، خاضعين لنزواتها، محكومين بتصرفاتها، لا يملكون أنفسهم منها، ولا يخلصون من سلطانها. وأما الأمم فمصيرها إلى الحروب المدمرة التي تفسد المتاع بالحياة، وتحول العلم - تلك الأداة الجبارة الخطيرة - من نفع الإنسانية إلى التحطيم المطلق، والدمار الرهيب.(1/11)
فلو لم يكن للعقيدة مهمة تؤديها في حياة البشرية إلا الفسحة التي تمنحها للأحياء، والأمل في حياة خالدة يحققون فيها كل آمالهم، ويستمتعون فيها بكل ما يخطر في نفوسهم من متاع ... ولو لم يكن لذلك من نتيجة إلا تخفيف حدة الصراع في الأرض، وإتاحة الفرصة لمشاعر الحب والمودة والرحمة والإخاء، لكفى ذلك مبرراً للتمسك بالعقيدة والتزود منها بخير زاد.
وأصحاب المبادئ العليا والأفكار الإنسانية والعقائد الرفيعة، من ذا الذي يهبهم الصبر على الكفاح، والصمود لقوى الشر والطغيان في سبيل هذه المبادئ والأفكار؟ وما النفع الذي ينتظرونه؟ لقد يقضي بعضهم - بل أغلبهم - حياته دون أن يحصل على النفع المنشود. ولن تفلح العقيدة المبنية على النفع الشخصي إلا ريثما يتحقق هدفها الصغير، ثم تكتسحها الأعاصير، لانها تقوم بغير جذور.
ليس النفع القريب إذن هو الدافع إلى الصبر والصمود.
حقيقة أن بعض " المصلحين " يستمدون القوة والصبر من الأحقاد! أحقادهم الشخصية، أو أحقاد طائفة من الناس، أو أحقاد الجيل كله الذي يعيشون فيه. ولقد يصلون إلى بعض أهدافهم في " الإصلاح ". ولقد تكون أحقادهم من الحدة والعنف بحيث يحتملون كل عذاب في سبيل الهدف الذي ينشدون. ولكن العقائد المبنية على الحقد - لا على الحب - لا يمكن أن تسير بالبشرية إلى الخير الحق. قد تحل مشكلة موقوتة. وقد ترفع ظلماً واقعاً. ولكنها لن تكون قط علاجاً صالحاً لكل ما تعانيه البشرية من الآلام، ولا بد أن تنحرف - بما فيها من أحقاد وسخائم - فتستبدل شراً بشر، وظلماً بظلم، وهبوطاً بهبوط.
العقيدة التي لا تقوم على النفع القريب، والتي لا تستمد غذاءها من السخائم والأحقاد، والتي تستهدف الحب النبيل والإخاء الحق، والتي تحارب الشر لأنها تحب للناس الخير.. هذه العقيدة وحدها هي التي تنفع الناس، وتدفع بهم إلى الأمام في ركب المدنية.(1/12)
فكيف السبيل إليها بغير الإيمان " بالحب " الأكبر المنبثق من حب الله، و " الخير " الأكبر الموصول بالله، و " الحق " الأكبر الذي تقاس به حقائق الحياة؟ وكيف السبيل إليها بغير الإيمان بالعالم الآخر الذي ينفي عن الروح خاطر الفناء في الأرض، ويمنحها الإحساس بالدوام والخلود، وينفي عنها الإحساس بضياع الجهد بلا ثمرة، وضياع المشاعر النبيلة بلا جزاء؟
هذا عن العقيدة.. كل عقيدة في الله واليوم الآخر.
ولكن الإسلام له حساب آخر.
والذين يخطر في بالهم أن الإسلام قد استنفد أغراضه، لا يعرفون لماذا جاء الإسلام.
إنهم - كما حفظوا في دروس التاريخ التي وضعها الاستعمار لتدرس في المدارس المصرية (1) - يعرفون أن الإسلام قد نزل لمنع عبادة الأصنام وتوجيه الناس إلى عبادة الله الواحد. وكان العرب يعيشون قبائل متفرقة متناحرة فألف بينهم، وجعلهم أمة واحدة. وكانوا يشربون الخمر، ويلعبون الميسر ويرتكبون المفاسد الخلقية، فنهاهم عن ذلك، وحرمه عليهم. كما حرم عليهم بعض العادات السيئة، كالأخذ بالثأر ووأد البنات و ... الخ. ودعا الإسلام المؤمنين به لنشر الدعوة فقاموا بنشرها، وقامت الحروب والغزوات التي انتهت بانتشار الإسلام إلى حدوده المعروفة اليوم.
فقط. تلك كانت مهمة الإسلام! وإذن فهي مهمة تاريخية قد انتهت اليوم واستنفدت أغراضها.. ليس في العالم الإسلامي اليوم من يعبد الأصنام. والقبائل قد ذابت - قليلاً أو كثيراً - في أمم وشعوب. والخمر والميسر والمسائل الخلقية متروك أمرها " لتطور " المجتمع. وقد وجدت رغم تحريم الأديان لها، فلا فائدة من المحاولة.. ونشر الدعوة قد انتهى، ولم يعد له مكان في التاريخ الحديث.. وإذن فقد استنفد الإسلام أغراضه، وعلينا اليوم أن نتجه إلى " المبادئ الحديثة " ففيها وحدها الغناء.(1/13)
ذلك وحي الدراسات التي ندرسها لأبنائنا في المدارس، وهو كذلك وحي ما يسمونه " الأمر الواقع " كما يتبدى في الأذهان الضعيفة والنفوس المستعبدة لسلطان الغرب.
ولكن هؤلاء ووأأأيسبتششيسبشسيشيسبشبتنشيسبفتب
أولئك لا يدركون فيم نزل الإسلام.
إن الإسلام في كلمة واحدة هو " التحرر ". التحرر من كل سلطان على الأرض، يقيد انطلاق البشرية أو يقعد بها عن التقدم الدائم في سبيل الخير (2).
التحرر من سلطان الطغاة الذين يستعبدون البشر لأنفسهم، ويستذلونهم بالقهر والتخويف. فيفرضون عليهم ما يخالف الحق، ويسلبون كرامتهم أو أعراضهم أو أموالهم أو أنفسهم. التحرر من طغيانهم برد السلطان كله إلى الله وحده، وتقرير تلك الحقيقة العظمى التي ينبغي أن تكون بديهية في أذهان الناس وضمائرهم، وهي أن الله وحده مالك الملك، وهو وحده القاهر فوق عباده، وكلهم عباده، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. عند ذلك يتحرر الناس من خوف بشر مثلهم لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وهو وإياهم خاضع لإرادة الواحد القهار.
والتحرر من سلطان الشهوة - حتى شهوة الحياة - وهي السلاح الذي يستخدمه الطغاة عن قصد أو عن غير قصد في استذلال البشر. فلولا حرص الناس على هذه الشهوات ما قبلوا الذل، ولا قعدوا عن مقاومة الظلم الذي يقع عليهم. ولذلك عني الإسلام عناية شديدة بتحرير الناس منها، ليقفوا من الشر موقف القوي المجاهد، لا موقف الخانع المستخذي: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين " (3).(1/14)
وبذلك يجمع الشهوات كلها في كفة، ويضع في الكفة الأخرى حب الله - الذي يتمثل فيه الحب والخير والحق - والجهاد في سبيل الله، وفي سبيل هذه المعاني النبيلة كلها. ثم يجعل حب الله راجحاً لهذه الشهوات، ويجعل ذلك شرط الإيمان!
وليس التحرر من سلطان الشهوات مقصوداً لمقاومة الطغاة والجبارين فحسب، ولكنه إلى جانب ذلك هدف شخصي لكل فرد، لينقذ نفسه من استعباد الغرائز والوقوع تحت سلطانها الجائر المذل.
إن الذي يغرق في شهواته يظن بادئ الأمر أنه يستمتع بلذائذ الحياة أكثر مما يستمتع غيره. ولكن هذا الظن الخاطئ يسلمه بعد قليل إلى عبودية لا خلاص منها، وشقاء لا راحة فيه. فالشهوة لا تشبع أبداً بزيادة الانكباب عليها، ولكنها تزداد تفتحاً واستعاراً، وتصبح الشغل الشاغل لمن تملكه فلا يستطيع التخلص من ضغطها عليه، فضلاً عن التفاهة التي يهبط إليها حين يصير همه كله أن يستجيب لصياح الشهوات. والحياة لا يمكن أن تتقدم، والبشرية لا يمكن أن ترتفع، إلا حين تتخلص من ضغط الضرورة، لتعمل في الميدان الطليق. سواء كان عملها علما ييسر الحياة، أو فنا يجملها، أو عقيدة ترتفع بها إلى آفاق المشاعر العليا.
ومن هنا كان حرص الإسلام الشديد على تحرير البشر من شهواتهم، لا بفرض الرهبنة عليهم، ولا بتحريم الاستمتاع بطيبات الحياة، وإنما بتهذيب استجابتهم إليها، وإتاحة القسط المعقول من المتاع، الذي يرضي الضرورة ويطلق الطاقة الحيوية تعمل لإعلاء كلمة الله في الأرض. وكان الإسلام في ذلك يهدف إلى فائدة شخصية للفرد بتحقيق قسط من المتعة وراحة البال، وفائدة أخرى للمجتمع كله، يتوجيه طاقته إلى الخير والتقدم والارتقاء، حسب نظريته الكبرى في التوفيق بين الفرد والمجتمع في نظام(4).(1/15)
وتحرير العقل من الخرافة.. فقد كانت البشرية غارقة في خرافات عدة، بعضها صنعه البشر ونسبوه إلى آلهتهم التي صنعوها بأيديهم، وبعضها صنعه رجال الدين ونسبوه إلى الله! وكلها نشأ من الجهالة التي كان يعيش فيها العقل البشري في طفولته، فجاء الإسلام ليخلص البشرية من الخرافة ممثلة في الآلهة المزعومة، وفي أساطير اليهود وخرافات الكنيسة، ويردهم إلى الله الحق، في صورة بسيطة يفهمها العقل ويدركها الحس ويؤمن بها الضمير؛ ويدعوهم إلى إعمال عقلهم لتفهم حقائق الحياة، ولكن في صورة فريدة لا تقيم خصومة بين العقل والدين، ولا بين الدين والعلم. لا تضطر الإنسان إلى الإيمان بالخرافة ليؤمن بالله، ولا تضطره إلى الكفر بالله ليؤمن بحقائق العلم. وإنما تقر في ضميره في استقامة ووضوح أن الله قد سخر للناس ما في الكون جميعاً. وأن كل حقيقة علمية يهتدون إليها، أو نفع مادي يحصلون عليه فإنما هو توفيق من الله، يستحق أن يشكروا الله من أجله ويحسنوا عبادته، وبذلك يجعل المعرفة جزءاً من الإيمان، لا عنصراً مخالفاً للإيمان.
وتلك كلها أهداف لم تستنفد أغراضها، ولا يمكن أن تستنفد أغراضها ما دام البشر على الأرض!
فهل تخلصت البشرية من الخرافة؟ هل تخلصت من سلطان الطغاة والجبارين؟ هل تخلصت من ضغط الجسد وصراخ الشهوات؟
نصف سكان العالم ما يزالون وثنيين يعبدون الأصنام، في الهند والصين والقبائل المتفرقة في أنحاء الأرض. وما يقرب من نصفهم يعبدون خرافة أخرى لا تقل انحرافاً بالناس عن الحق، ولا إفساداً لضمائرهم ومشاعرهم وعلاقات بعضهم ببعض، بل ربما كانت أكثر انحرافاً وأشد خطراً: تلك الخرافة هي العلم!!(1/16)
العلم أداة جبارة من أدوات المعرفة، وقد خطا بالبشرية كلها خطوات واسعة في سبيل التقدم والرقي، ولكن إيمان الغرب به على أنه الإله الأوحد، وإغلاق كل منافذ المعرفة سواه، قد ضلل البشرية عن مقصدها، وضيق آفاقها وحصر مجالها في الميدان الذي يستطيع العلم التجريبي أن يعمل فيه، وهو ميدان الحواس. ومهما يكن من سعة هذا الميدان فهو ضيق بالنسبة لطاقات البشرية؛ ومهما يكن من رفعته فهو أدنى مما يستطيع الإنسان أن يرتفع إليه، حين يرتفع بفكره وروحه جميعاً، فيتصل بحقيقة الألوهية ويقبس من نور المعرفة الحقة ببصره وبصيرته في آن. وذلك فضلاً عن الخرافة التي تخيل للمؤمنين بها أن العلم يستطيع أن يصل بهم إلى كل أسرار الكون والحياة، والتي تخيل لهم أن ما يثبته العلم هو وحده الحق، وأن ما لا يستطيع إثباته هو الخرافة! والعلم ما يزال في طفولته، وما يزال يضطرب في كثير من الحقائق بين النفي والإثبات، وما يزال عاجزاً عن النفاذ إلى حقائق الأشياء، يكتفي بوصف مظاهرها دون كنهها. ولكن عبّاده يتعجلون أمرهم وأمره، فينفون وجود الروح، وينفون قدرة هذا المخلوق البشري المحدود الحواس على تخطي حواجز المادة، والاتصال بالغيب المجهول في ومضة من ومضات التليباثي (5)، أو في رؤيا صادقة، لا لأن هذا ليس حقيقة، ولكن لأن العلم التجريبي لم يستطع بعد إثباته! ولما كان الله - سبحانه - لا يخضع للبحث التجريبي فقد استغنوا عنه، وأعلن بعضهم أنه غير موجود!!(1/17)
فما أحوج العالم اليوم إلى الإسلام، كما كان محتاجاً إليه قبل ألف وثلاثمائة عام! ما أحوجه إليه ينقذه من الخرافة، ويرفع عقله وروحه من التردي فيها، سواء كانت الخرافة هي عبادة الأوثان، أو عبادة العلم على الصورة الزرية التي يمارسها أهل الغرب " المتقدمون ". بل ما أحوجه إليه يعيد السلم بين الدين والعلم، ليعيد الاستقرار إلى الكائن البشري الذي تمزقه عقائد الغرب الفاسدة، فتفصل بين عقله ووجدانه، وتخالف بين حاجته إلى العلم وحاجته إلى الله!
ما أحوجه إليه يزيل بقية الروح الإغريقية الخبيثة، التي ورثتها أوربا الحديثة من تاريخها القديم في عصر الإحياء، والتي كانت تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة خصام وصراع، وتجعل كل سر من أسرار المعرفة أو كل خير يتوصل إليه بشر، شيئا منتزعا من الآلهة قسراً عنهم، لو استطاعوا لمنعوه، وبذلك يعتبر كل كشف علمي انتصاراً على هؤلاء الآلهة وتشفيا فيهم!
تلك الروح الخبيثة ما تزال في العقل الباطن الأوربي والغربي عامة، تتبدى حيناً في بعض تعبيراتهم مثل " قهر الإنسان للطبيعة " أو " العلم ينتزع الأسرار ".. الخ. وتتبدى في طريقة إحساسهم بالله، وشعورهم بأن عجز الإنسان هو - وحده - الذي يضطره للخضوع لله، فكل كشف علمي يتوصل له الإنسان يرفعه درجة، ويخفض الإله درجة، وهكذا حتى يعرف الإنسان كل أسرار العلم، ويخلق الحياة (وهو الحلم الذي يخايل " للعلماء " اليوم) وعندئذ يتخلص نهائيا من الخضوع لله، ويصبح هو الإله!
ما أحوج العالم للإسلام اليوم، ينقذه من هذه الضلالة، ويرد لروحه الأمن والسلام. ويشعره بعطف الله عليه ورحمته، وأن كل معرفة يصل إليها أو خير يصيبه إنما هو منحة من الله يمنحها له، وهو راض عنه - مادام يستخدمها في خير المجموع - وأن الله في الإسلام لا يغضب على الناس حين " يعرفون " ولا يخشى منافستهم له سبحانه! وإنما يغضب عليهم فقط حين يستغلون معرفتهم في الضرر والإيذاء.(1/18)
وما أحوج الناس إلى الإسلام اليوم ينقذهم من الطغاة والجبارين كما كان ينقذهم منهم قبل ألف وثلثمائة عام!
والجبارون اليوم كثيرون، بعضهم ملوك، وبعضهم أباطرة، وبعضهم رأسماليون يمتصون دماء الكادحين ويقهرونهم بذل الفقر والحاجة، وبعضهم دكتاتوريون يحكمون بالحديد والنار والتجسس، ويقولون: إنهم ينقذون إرادة الشعوب أو إرادة البروليتاريا!
والإسلام ينقذ الناس من الجبابرة في عالم الواقع لا في عالم الأحلام. ولقد يطيب لبعض الناس أن يسأل: فما بال الإسلام لم ينقذ أهله من حكامه الجبابرة الذين ما يزالون يكتمون أنفاسه ويمتصون دماءه وينتهكون حرماته، باسم الإسلام؟
والجواب أن الإسلام لا يحكم في هذه البلاد، وأن أهلها ليسوا مسلمين إلا بالاسم، ينطبق عليهم قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (6) وقوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما " (7).
والإسلام الذي ندعو إليه ليس بطبيعة الحال ذلك الإسلام الذي يزاوله الحكام في الشرق الإسلامي، ويخالفون به كل شرائع الله، ويحكمون بدساتير أوربا مرة، وبنظرية الحق الإلهي مرة، ولا يعدلون بين الناس في هذا ولا ذاك.
الإسلام الذي ندعوا إليه هو الإسلام الذي يهز العروش، ويطيح من فوقها بجبابرتها، وينزلهم على حكمه أو ينفيهم من الأرض: " فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " (8).
وحين يحكم هذا الإسلام - وهو لا بد حاكم بإذن الله وتأييده - فلن يكون جبار في أرض الإسلام، لأن الإسلام لا يقبل الجبابرة، ولا يسمح لأحد أن يحكم بأمره في الأرض. وإنما بأمر الله ورسوله. والله يأمر بالعدل والإحسان.(1/19)
وحين يحكم هذا الإسلام، أي حين يتربى جيل من الشباب يؤمن به ويجاهد في سبيله، لن يكون للحاكم إلا تنفيذ شريعة الله، وإلا فلا طاعة له على الناس بصريح قول الخليفة الأول: " أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ". ولن يكون للحاكم حق في المال أو في التشريع زائد على حقوق أي فرد من أفراد الشعب، ولن يتولى ذلك الحاكم سلطانه إلا بانتخاب الناس له انتخاباً حراً طليقاً من كل قيد، إلا قيد الرشد والعدل والإحسان.
وحين يحكم هذا الإسلام فلن يخلص المسلمين من الجبروت الداخلي فحسب، بل يخلصهم كذلك من الطغيان الأجنبي في صورة استعمار أو تهديد بالاستعمار. ذلك أن الإسلام دين عزة ومنعة، يأبى الخضوع لهذا الاستعمار ويستنكره، ويجعل حساب الله عسيراً على الرضا به أو الخنوع لسلطانه. ويدعو لمقاتلته بكل ما في الطاقة من وسائل الجهاد.
فما أحوجنا إلى الإسلام اليوم، نقف تحت رايته، فنطهر أرضنا من دنس الاستعمار، ونستخلص من قبضته الخبيثة أرواحنا وأموالنا وأعراضنا وعقائدنا وأفكارنا، لنصير جديرين باسم الله الذي نعبده، وبدينه الذي ارتضاه لنا يوم قال سبحانه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " (9).
ولكن دور الإسلام لا يقف عند هذا الحد، فتحرير هذا الجزء من العالم من قبضة الطغاة في الداخل والخارج لا يقتصر أثره على أهله فحسب، بل هو نعمة كبرى للعالم كله، المثخن بجراح الحرب، والذي تتهدده الحرب القادمة بالفناء المدمر الرهيب.(1/20)
فهذا العالم اليوم قد انقسم كتلتين كبيرتين، الكتلة الرأسمالية من جانب، والكتلة الشيوعية من جانب، وهما تتنازعان النفوذ والموارد والنقط الاستراتيجية، ولكنهما في الواقع تتنازعاننا نحن... نحن هذا العالم الممتد من المحيط للمحيط، الغني بالموارد المادية والبشرية والنقط الاستراتيجية، وهما تتصارعان علينا، كأننا كمٌّ مهمل لا يحسب له حساب، وإنما ينقاد للظافر انقياد العبيد، وينتقل من ملكية سيد لسيد، كما ينتقل المتاع والأشياء.
ولو استرد العالم الإسلامي كيانه - وهو في طريقه إلى ذلك بإذن الله - لبطل الصراع الجبار الذي يهدد الأرض بالخراب، ولبرزت في العالم كتلة ثالثة تمسك ميزان القوة الدولية من منتصفه، وتملك بموقفها أن ترجح قوة هذه الكتلة أو تلك. عندئذ لا تتصارع علينا روسيا وأمريكا في وقاحة كما تصنعان اليوم، وإنما تتسابق كلتاهما إلى استرضاء الإسلام والمسلمين.
وإذن فالعالم اليوم في حاجة إلى انتصار الإسلام، ولو لم يؤمن به إلا أهله القائمون اليوم؛ لأن انتصاره يريح العالم من الخوف الدائم من الحرب، والفزع المقلق للأعصاب.
* * *
وما أحوجه إليه ينقذه من سلطان الشهوات.
هذه هي أوربا قد غرقت في شهواتها الدنسة لا تفيق منها. فماذا كانت نتيجة ذلك في العالم كله؟ لقد تقدم العلم، نعم، ولكن البشرية لم تتقدم، ولم يحدث قط أن تقدمت البشرية وهي مستعبدة لشهواتها، غارقة في المتاع الحسي الغليظ.
ولقد يبهر التقدم العلمي بعض الناس في الشرق والغرب، فيحسبون أن الطائرة الصاروخية والقنبلة الذرية وجهاز الراديو والغسالة الكهربائية هي التقدم! ولكن ذلك ليس مقياسه الحق، وإنما المقياس الذي لا يخطئ هو مقدار استعلاء الإنسان على ضروراته: فهو مرتفع كلما استطاع، وهو هابط كلما أخفق، مهما ارتقت علومه ومعارفه.(1/21)
وليس هذا مقياساً تحكمياً تضعه الأديان، أو علم الأخلاق، بغير مبرر ولا رصيد من الواقع. فلنستعرض التاريخ: كم أمة استطاعت أن تعيش قوية متماسكة، تعمل لخير البشرية وتقدمها، بينما أهلها مشغولون بالمتاع الزائد عن الحد؟ ما الذي حطم مجد اليونان القديمة؟ وروما القديمة؟ وفارس القديمة؟ما الذي حطم العالم الإسلامي في نهاية العصر العباسي؟ وكيف صنعت فرنسا الداعرة في الحرب الأخيرة؟ ألم تسلم عند أول ضربة، لأنها أمة مشغولة بمباذلها وشهواتها عن الاستعداد النفسي والمادي للدفاع عن بلادها؟ أمة تخاف على عمائر باريس ومراقصها من تدمير القنابل، أكثر مما تخاف على كيانها وكرامتها " التاريخية "؟!
وربما كانت أمريكا هي المثل الذي يخايل للمستغفلين في الشرق، فهي أمة غارقة في المتاع الدنس، ومع ذلك فهي قوية مسيطرة ذات سلطان، وإنتاجها المادي هو أضخم إنتاج في الأرض. كل ذلك صحيح. ولكن الذين تخايل لهم أمريكا ينسون أنها أمة فتية مذخورة القوة ما تزال في عنفوانها النفسي والجسدي. والشباب دائماً أقدر على احتمال المرض،بحيث يبدو من الظاهر كأنه لا يترك أثراً فيه. ولكن عين الخبير تستطيع - مع ذلك - أن تبصر أعراض المرض من وراء مظاهر القوة الخادعة. ويكفي أن نذكر هذين الخبرين الصارخين اللذين وردا في الصحف ليعرف المخدوعون أن سنة الله في خلقه لا تتغير. وأن العلم بكل مخترعاته لا يغير طبائع النفوس، ولا طبائع الأشياء، لأنه هو ذاته جزء من سنة الله " ولن تجد لسنة الله تبديلاً ".
الخبر الأول هو طرد 33 موظفاً من وزارة الخارجية الأمريكية لأنهم مصابون بالشذوذ الجنسي، ولأنهم بهذه الصفة لا يؤتمنون على أسرار الدولة!
والخبر الثاني هو فرار مائة وعشرين ألفاً من التجنيد الإجباري في أمريكا، وهو عدد ضخم بالنسبة لمجموع الجيش الأمريكي، وبالنسبة لأمة فتية تريد أن تكافح للسيادة على العالم!(1/22)
والبقية تأتي- ولا بد أن تأتي- إذا استمر القوم على المتاع الدنس الذي هم غارقون فيه.
هذه واحدة. والثانية أن إنتاج أمريكا الضخم هو إنتاج في عالم المادة وحدها. ولكنها على ثرائها وفتوتها وعظم الطاقة المذخورة في أرضها وناسها لم تنتج شيئاً يذكر في عالم المبادئ والقيم العليا، لأنها غارقة في انطلاقة جسدية فارهة، ولا ترتفع كثيراً عن محيط الحيوان، وتهبط كثيراً إلى ما يشبه اندفاعات الآلات! ويكفي أن تكون هي الأمة التي تعامل الزنوج تلك المعاملة الوحشية البشعة، لكي نعرف مستواها النفسي، وآفاقها البشرية.
كلا! لا يرتفع العالم بالهبوط في حمأة الشهوات.
وما أحوج العالم إلى الإسلام اليوم، كما كان في حاجة إليه قبل ألف وثلاثمائة عام، لينقذه من العبودية للشهوة، ويطلق طاقته الحيوية إلى آفاقها العليا، لتنشر الخير، وتصبح جديرة بما كرمها الله!
ولا يقولن أحد إنها محاولة فاشلة ميئوس من نتائجها! فمن قبل جربت الإنسانية أنها تستطيع أن ترتفع , وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى. والناس هم الناس. وقد كان العالم قبل الإسلام مباشرة قد هبط إلى درجة من العبودية للشهوات تشبه إلى حد كبير ما هبط إليه اليوم، بغير فارق سوى تغير أدوات المتاع. وكانت روما القديمة لا تقل دعارة عن باريس ولندن ومدن أمريكا، وكانت فارس القديمة غارقة في فوضى خلقية كالتي يصفون بها العالم الشيوعي، ثم جاء الإسلام فبدل هذا كله إلى حياة رفيعة فاضلة ذاخرة بالنشاط والحركة، عاملة على الخير، معمرة للأرض، دافعة بالإنسانية كلها في الشرق والغرب إلى التقدم الفكري والروحي، ولم يستعص الشر الذي كان الناس يومئذ غارقين فيه، على الإصلاح الذي عمل عليه الإسلام.(1/23)
وظل العالم الإسلامي مصدر النور والخير والتقدم في العالم كله فترة طويلة لم يشعر خلالها أنه محتاج إلى التبذل الخلقي والفوضى والإباحية، لكي يحصل على القوة المادية والتقدم العلمي والفكري! وإنما كان أهله مثلاً رفيعة في كل ميدان. حتى هبط عن أخلاقه القياسية، واستعبدته الشهوات، فجرت عليه سنة الله.
والدفعة الإسلامية الجديدة التي تتجمع اليوم لتتحرك، دفعة هائلة تستمد من ذخيرة الماضي، وتأخذ بأسباب القوة الحاضرة، وتتطلع إلى المستقبل، فتتوفر لها كل عوامل النماء والقوة. فهي كفيلة بأن تعيد المعجزة التي قام بها الإسلام أول مرة، فترفع الناس من حضيض الشهوة إلى مستوى الإنسانية الكريمة التي تعمل في الأرض وهي تتطلع للسماء.
* * *
ولكن الإسلام إلى جانب هذا كله، أو بسبب من هذا كله، لم يكتف بأن يكون عقيدة روحية، أو محاولة للتهذيب الخلقي، أو دعوة للتجرد الفكري والتأمل في ملكوت الله، وإنما كان ديناً عملياً ينظر في شؤون الأرض، فلا تفوته كبيرة ولا صغيرة في علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية إلا اهتم بها ووضع لها تشريعاتها وتطبيقاتها، ولكن في صورة فريدة تربط بين الفرد والمجتمع، بين العقل والوجدان، بين العمل والعبادة، بين الأرض والسماء، وبين الدنيا والآخرة كلها في نظام.
ولا يتسع هذا الفصل للحديث المفصل عن النظام الإسلامي في السياسة والاقتصاد والاجتماع. والفصول التالية كلها عرض لبعض مظاهر هذا النظام من نواحيه المختلفة، في أثناء مناقشة الشبهات التي تثيرها أوروبا وعبّادها ضد هذا الدين. ولكنا نكتفي هنا بالإشارة إلى الحقائق التالية:
أولاً: أن الإسلام لم يكن دعوة نظرية. وإنما كان نظاماً عملياً يعرف حاجات الناس الحقيقية ويعمل على تحقيقها.(1/24)
ثانياً: أنه في سبيل تحقيق هذه الحاجات يسعى إلى التوازن المطلق بقدر ما تطيقه طبائع البشر، فيوازن أولاً في نفس الفرد بين حاجات الجسد وحاجات العقل وحاجات الروح، ولا يترك جانباً منها يطغى على جانب آخر. فلا يكبت الطاقة الحيوية في سبيل الارتفاع بالروح، ولا يبالغ في الاستجابة لشهوات الجسد إلى الحد الذي يهبط بالإنسان إلى مستوى الحيوان، ويجمع بين ذلك كله في نظام موحد لا يمزق النفس الواحدة بين الشد والجذب، ولا يوجهها وجهات شتى متناقضة. ثم يوازن ثانياً بين مطالب الفرد ومطالب المجتمع، فلا يطغى فرد على فرد، ولا يطغى الفرد على المجتمع، ولا المجتمع على الفرد، ولا طبقة على طبقة، ولا أمة على أمة. وإنما يقف الإسلام بين هؤلاء جميعاً يحجز بينهم أن يتصادموا، ويدعوهم جميعاً إلى التعاون في سبيل الخير الإنساني. ثم هو أخيراً يوازن في نظام المجتمع بين مختلف القوى: يوازن بين القوى المادية والقوة الروحية، وبين العوامل الاقتصادية والعوامل " الإنسانية ". فلا يعترف - كما تصنع الشيوعية - بأن العوامل الاقتصادية أو القوى المادية هي وحدها المسيطرة على الإنسان. ولا يؤمن - كما تصنع الدعوات الروحية الخالصة أو المذاهب المثالية - بأن العوامل الروحية أو المثل العليا تستطيع وحدها أن تنظم حياة البشر. وإنما يؤمن بأن هذه جميعاً عناصر مختلفة يتكون من مجموعها " الإنسان ". وأن النظام الأفضل هو النظام الأشمل، الذي يستجيب لمطالب الجسد ومطالب العقل ومطالب الروح في توازن واتساق.(1/25)
ثالثاً: أن للإسلام فكرة اجتماعية ونظاماً اقتصادياً قائما بذاته، قد تلتقي به عَرَضاً بعض مظاهر الرأسمالية أو الشيوعية، ولكنه على وجه التأكيد شيء آخر غير الرأسمالية والشيوعية، يجمع كل مزاياهما دون أن يقع في أخطائهما وانحرافاتهما. نظام لا يبالغ في الفردية إلى الحد البغيض الذي يقوم في الغرب، والذي يعتبر الفرد هو الأساس، وهو الكائن المقدس الذي تصان حرياته، ولا يجوز للمجتمع أن يقف في سبيله.. فتنشأ هناك الرأسمالية القائمة على أساس حرية الفرد في استغلال الآخرين. ولا يبالغ في الاتجاه الجماعي الذي يقوم في شرق أوروبا، ويعتبر المجتمع هو الأساس، والفرد ذرة تائهة لا كيان له بمفرده، ولا وجود له إلا في داخل القطيع، فالمجتمع وحده هو صاحب الحرية وصاحب السلطان، وليس للفرد أن يحتج عليه أو يطالبه بحقوقه.. وهناك تنشأ الشيوعية القائمة على سلطان الدولة المطلق في تكييف حياة الأفراد. وإنما هو نظام وسط بين هذا وذاك، يعترف بالفرد ويعترف بالمجتمع، ويوازن بينهما. فيمنح الفرد قدراً من الحرية يحقق به كيانه ولا يطغى به على كيان الآخرين، ويمنح المجتمع - أو الدولة ممثلة المجتمع - سلطة واسعة في إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية كلما خرجت عن توازنها المنشود. وكل ذلك على أساس الحب المتبادل بين الأفراد والطوائف، لا على أساس الحقد والصراع الطبقي الذي تقيم عليه الشيوعية فلسفتها النظرية وتطبيقاتها العملية.(1/26)
وهذا النظام الفريد لم يجئ به الإسلام تحت ضغط الضرورات الاقتصادية، ولا نتيجة لاحتكاك المصالح المتصارعة، وإنما أتى به تطوعاً وإنشاءً، في وقت لم يكن العالم كله يقيم وزناً للعمل الاقتصادي أو يعرف شيئاً حقيقياً عن العدالة الاجتماعية كما نفهمها اليوم. ولا يزال هذا النظام إلى هذه اللحظة نظاماً تقدمياً بالنسبة للرأسمالية والشيوعية وهما آخر ما عرف العالم الحديث في عالم الاجتماع والاقتصاد.. وإن " المطالب الأساسية " التي نادى بها كارل ماركس واعتبر الدولة مسئولة عن تحقيقها، فأحدث بذلك ثورة عظمى في التاريخ: وهي الغذاء والمسكن والإشباع الجنسي، لهي بعض مما قاله الإسلام من قبل ألف وثلاثمائة عام! يقول نبي الإسلام الكريم: " من كان لنا عاملاً ولم يكن له زوجة فليتخذ زوجة، وليس له مسكن فليتخذ مسكنا ً، وليس له خادم فليتخذ خادما ً، وليس له دابة فليتخذ دابة " فيلمّ بكل " المطالب الأساسية " التي نادى بها ماركس ويزيد عليها، في غير ما أحقاد طبقية، ولا ثورات دموية، ولا إنكار لكل مقومات الحياة الإنسانية التي تتجاوز هذه الضروريات.
* * *
تلك بعض الجوانب البارزة في النظام الإسلامي.
وإن ديناً تلك قواعده وأركانه، ديناً يحيط بهذا المدى الواسع من حياة البشر في حركاتهم، وسكناتهم، في أفكارهم ومشاعرهم، في عملهم وعبادتهم. في اقتصادياتهم واجتماعياتهم، في نزعاتهم الفطرية وأشواقهم الروحية، ويضع لذلك كله نظاماً متوازناً فريداً في التاريخ.. هذا الدين لا يمكن أن يستنفد أغراضه، لأن أغراضه هي الحياة كلها، ما دامت الحياة.
وإن العالم بأحواله التي يعيش عليها اليوم، ليس هو الذي يستغني عن وحي الإسلام وتنظيم الإسلام.(1/27)
العالم الذي يصل فيه التعصب العنصري إلى صورته الوحشية في أمريكا وجنوب أفريقيا في القرن العشرين، ما زال يحتاج إلى وحي الإسلام الذي سوى قبل ثلاثة عشر قرناً في واقع الحياة لا في عالم المثل والأحلام بين الأسود والأبيض والأحمر، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى.
ومنح العبيد السود: لا المساواة في الإنسانية فحسب، بل أرفع ما يطمح إليه مسلم وهو ولاية أمر المسلمين! يقول الرسول الكريم: اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله تعالى " (10).
والعالم الغارق في الاستعمار والاستعباد، الذي يصل إلى درجة الوحشية، ما يزال يحتاج إلى وحي الإسلام الذي حرم الاستعمار بقصد الاستغلال، وعامل البلاد التي فتحها - بقصد نشر الدعوة - معاملة ما تزال في نظافتها وارتفاعها قمة لا تصل إليها أبصار الأقزام في أوروبا " المتحضرة ". فيقرر عمر بن الخطاب ضرب ابن عمرو بن العاص، ويكاد يضرب عَمراً نفسه، وهو القائد المظفر والحاكم المبجل، لأن ابنه ضرب شاباً مصرياً قبطياً بغير وجه حق!
والعالم الغارق في مفاسد الرأسمالية، ما يزال يحتاج إلى نظام الإسلام الذي حرم الربا والاحتكار، وهما الركنان اللذان تقوم عليهما الرأسمالية، قبل القرن العشرين بثلاثة عشر من القرون!
والعالم الذي غشيته الشيوعية المادية الملحدة ما يزال يحتاج إلى نظام الإسلام الذي يحقق أقصى حد للعدالة الاجتماعية، دون أن يحتاج إلى تجفيف المنابع الروحية في الإنسان، ولا حصر عالمه في الميدان الضيق الذي تدركه الحواس، ودون أن يحتاج إلى فرض عقيدته على الناس بالدكتاتورية، إنما يقول لهم: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ".
والعالم المفزع من الحرب ما يزال يحتاج إلى قيام الإسلام، لأن ذلك وحده هو سبيله الواقعي إلى السلام، لفترة طويلة من الزمان.(1/28)
كلا! لم يستنفذ الإسلام أغراضه. وإن دوره في مستقبل البشرية لا يقل بحال عن دوره الهائل الذي أنار به وجه الأرض، حينما كانت أوروبا ما تزال في عصر الظلمات.
الإسلام.. والرق
ربما كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب!.. لو كان الإسلام صالحاً لكل عصر - كما يقول دعاته - لما أباح الرق.. وإن إباحته للرق.. وإن إباحته للرق لدليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة، وأنه أدى مهمته وأصبح في ذمة التاريخ!
وإن الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك! كيف أباح الإسلام الرق؟ هذا الدين الذي لا شك في نزوله من عند الله، ولا شك في صدقه، وفي أنه جاء لخير البشرية كلها في جميع أجيالها.. كيف أباح الرق؟ الدين الذي قام على المساواة الكاملة. الذي رد الناس جميعاً إلى أصل واحد، وعاملهم على أساس هذه المساواة في الأصل المشترك.. كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع له؟ أَوَ يريد الله للناس أن ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض؟ أَوَ يرضى الله للمخلوق الذي أكرمه إذ قال: " ولقد كرمنا بني آدم " أن يصير طائفة منه سلعة تباع وتشترى كما كان الحال مع الرقيق؟ وإذا كان الله لا يرضى بذلك، فلماذا لم ينص كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما كرهه الإسلام؟
وإن الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق، ولكنه كإبراهيم: " قال: أولم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي! ".
أما الشباب الذي أفسد الاستعمار عقله وعقائده، فإنه لا يتلبث حتى يتبين حقيقة الأمر، وإنما يميل به الهوى فيقرر دون مناقشة أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه!(1/29)
وأما الشيوعيون خاصة فأصحاب دعاوى " علمية " مزيفة، يتلقونها من سادتهم هناك، فينتفشون بها عجبا ً، ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا جدال، وهي المادية الجدلية، التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا معدى عنها ولا محيص. وهي الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية الثانية (وهي نهاية العالم!) وأن كل ما عرفته البشرية من عقائد ونظم وأفكار، إنما كانت انعكاساً للحالة الاقتصادية، أو للطور الاقتصادي القائم حينئذ، وأنها صالحة له، متلائمة مع ظروفه، ولكنها لا تصلح للمرحلة التالية التي تقوم على أساس اقتصادي جديد. وأنه - من ثم - لا يوجد نظام واحد يمكن أن يصلح لكل الأجيال. وإذا كان الإسلام قد جاء والعالم نهاية فترة الرق ومبادئ فترة الإقطاع، فقد جاءت تشريعاته وعقائده ونظمه ملائمة لهذا القدر من التطور، فاعترفت بالرق، وأباحت الإقطاع (11)! ولم يكن في طوق الإسلام أن يسبق التطور الاقتصادي، أو يبشر بنظام جديد لم تتهيأ بعد إمكانياته الاقتصادية! لأن كارل ماركس قال إن هذا مستحيل!
ونريد هنا أن نضع المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية، بعيداً عن الغبار الذي يثيره هؤلاء وأولئك، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا علينا حينئذ من دعاوي المنحرفين، و " العلماء " المزيفين!(1/30)
نحن ننظر اليوم إلى الرق في ظروف القرن العشرين، وننظر إله في ضوء الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة، والمعاملة الوحشية البشعة التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة، فنستفظع الرق، ولا تطيق مشاعرنا أن يكون هذا اللون من المعاملة أمراً مشروعاً يقره دين أو نظام. ثم تغلب علينا انفعالات الاستبشاع والاستنكار فنعجب كيف أباح الإسلام الرق، وكل توجيهاته وتشريعاته كانت ترمي إلى تحرير البشر من العبودية في جميع ألوانها وأشكالها، ونتمنى في حرارة الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول الصريح.
وهنا وقفة عند حقائق التاريخ. ففظائع الرق الروماني في العالم القديم لم يعرفها قط تاريخ الإسلام، ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية، كفيلة بأن ترينا النقلة الهائلة التي نقلها الإسلام للرقيق، حتى لو لم يكن عمل على تحريره - وهذا غير صحيح!
كان الرقيق في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا. شيئا لا حقوق له البتة، وإن كان عليه كل ثقيل من الواجبات. ولنعلم أولا من أين كان يأتي هذا الرقيق. كان يأتي من طريق الغزو. ولم يكن هذا الغزو لفكرة ولا لمبدأ.
وإنما كان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة الرومان.
فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ والترف، يستمتع بالحمامات الباردة والساخنة، والثياب الفاخرة، وأطايب الطعام من كل لون، ويغرف في المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات، كان لا بد لكل هذا من استعباد الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها. ومصر مثل لذلك حين كانت في قبضة الرومان، قبل أن يخلصها من نيرهم الإسلام. إذ كانت حقل قمح للإمبراطورية، وموردا للأموال.(1/31)
في سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني، وكان الرق الذي نشأ من ذلك الاستعمار. أما الرقيق فقد كانوا - كما ذكرنا - أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر. كانوا يعملون في الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار. ولم يكونوا يُطْعَمون إلا إبقاء على وجودهم ليعملوا، لا لأن من حقهم - حتى كالبهائم والأشجار - أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء. وكانوا - في أثناء العمل - يساقون بالسوط، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي يحسها السيد أو وكيله في تعذيب هذه المخلوقات. ثم كانوا ينامون في " زنزانات " مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة - بأصفادهم - فلا يتاح لهم حتى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات.
ولكن الشناعة الكبرى كانت شيئاً أفظع من كل ذلك، وأدل على الطبيعة الوحشية التي ينطوي عليها ذلك الروماني القديم، والتي ورثها عنه الأوربي الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال.
تلك كانت حلقات المبارزة بالسيف والرمح، وكانت من أحب المهرجانات إليهم، فيجتمع إليها السادة وعلى رأسهم الإمبراطور أحياناً، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية، توجه فيها طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل. بل كان المرح يصل إلى أقصاه، وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف بالتصفيق، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملاً، فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد الحياة!
ذلك كان الرقيق في العالم الروماني. ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ، وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى، ودون أن تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها، فذلك لغو بعد كل الذي سردناه.(1/32)
ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها، تختلف كثيراً عما ذكرنا من حيث إهدار إنسانية الرقيق إهداراً كاملا ً، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها، وإن كانت تختلف فيما بينها قليلاً أو كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها.
ثم جاء الإسلام ...
جاء ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم.جاء ليقول للسادة عن الرقيق:
" بعضكم من بعض " (12). جاء ليقول: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه " (13). جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " (14)، وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد. وإنما الفضل للتقوى: " ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى " (15).
جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: " وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " (16). وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة. فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم. بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف " (17)، وهم إخوة للسادة: " إخوانكم خولكم.. فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " (18). وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي " (19). ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: " احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك ".(1/33)
ولم يكن ذلك كل شئ. ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل القفزة الهائلة التي قفزها الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة.
لم يعد الرقيق " شيئاً ". وإنما صار بشراً له روح كروح السادة. وقد كانت الأمم الأخرى كلها تعتبرالرقيق جنساً آخر غير جنس السادة، خلق ليستعبد ويستذل، ومن هنا لم تكن ضمائرهم تتأثم من قتله وتعذيبه وكيه بالنار وتسخيره في الأعمال القذرة والأعمال الشاقة (20). ومن هنالك رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة، لا في عالم المثل والأحلام، بل في عالم الواقع. ويشهد التاريخ - الذي لم ينكره أحد، حتى المتعصبون من كتاب أوربا - بأن معاملة الرقيق في صدر الإسلام بلغت حداً من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي مكان آخر. حداً جعل الرقيق المحررين يأبون مغادرة سادتهم السابقين - مع أنهم يملكون ذلك بعد أن تحرروا اقتصادياً وتعودوا على تحمل تبعات أنفسهم - لأنهم يعتبرونهم أهلاً لهم، يربطهم بهم ما يشبه روابط الدم! وأصبح الرقيق كائناً إنسانياً له كرامة يحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل. فأما القول فقد نهى صلى الله عليه وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء. وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وقال لهم في معرض هذا التوجيه: " إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " (21) فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً، وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة! وبذلك يغض من كبرياء هؤلاء، ويردهم إلى الآصرة البشرية التي تربطهم جميعاً، والمودة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض. وأما الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل: " ومن قتل عبده قتلناه.. " وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من البشر - التي لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها(1/34)
البشرية الأصيلة - وهي ضمانات كاملة ووافية، تبلغ حداً عجيباً لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق في التاريخ كله، لا قبل الإسلام ولا بعده، إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب (وللتأديب حدود مرسومة لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه) مبرراً شرعياً لتحرير الرقيق.
ثم ننتقل إلى المرحلة التالية، مرحلة التحرير الواقعي.
لقد كانت الخطوة السابقة في الواقع تحريراً روحياً للرقيق، برده إلى الإنسانية ومعاملته على أنه بشر كريم لا يفترق عن السادة من حيث الأصل، وإنما هي ظروف عارضة حدت من الحرية الخارجية للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كل حقوق الآدميين.
ولكن الإسلام لم يكتف بهذا، لأن قاعدته الأساسية العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر، وهي التحرير الكامل لكل البشر. ولذلك عمل فعلاً على تحرير الأرقاء، بوسيلتين كبيرتين: هما العتق والمكاتبة.
فأما العتق فهو التطوع من جانب السادة بتحرير من في يدهم من الأرقاء، وقد شجع الإسلام على ذلك تشجيعاً كبيراً، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى في ذلك إذ أعتق من عنده من الأرقاء، وتلاه في هذا أصحابه، وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء العبيد من سادة قريش الكفار، ليعتقهم ويمنحهم الحرية؛ وكان بيت المال يشتري العبيد من أصحابهم ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال. قال يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم".(1/35)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء من يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، أويؤدي خدمة مماثلة للمسلمين. ونص القرآن الكريم على أن كفارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العتق تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان، وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع، وكل ابن آدم خطاء كما يقول الرسول. ويحسن هنا أن نشير إشارة خاصة إلى إحدى هذه الكفارات لدلالتها الخاصة في نظرة الإسلام إلى الرق، فقد جعل كفارة القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " (22). والقتيل الذي قتل خطأ هو روح إنسانية قد فقدها أهلها كما فقدها المجتمع دون وجه حق، لذلك يقرر الإسلام التعويض عنها من جانبين: التعويض لأهلها بالدية المسلمة لهم، والتعويض للمجتمع بتحرير رقبة مؤمنة! فكأن تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ. والرق على ذلك هو موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام، على الرغم من كل الضمانات التي أحاط بها الرقيق، ولذلك فهو ينتهز كل فرصة " لإحياء " الأرقاء بتحريرهم من الرق (23)!
ويذكر التاريخ أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق، وأن هذا العدد الضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام، ولا بعده بقرون عدة حتى مطلع العصر الحديث. كما أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة، تنبع من ضمائر الناس ابتغاء مرضاة الله، ولاشيء غير مرضاة الله.
أما المكاتبة، فهي منح الحرية للرقيق متى طلبها بنفسه، مقابل مبلغ من المال يتفق عليه السيد والرقيق. والعتق هنا إجباري لا يملك السيد رفضه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه. وإلا تدخلت الدولة (القاضي أو الحاكم) لتنفيذ العتق بالقوة، ومنح الحرية لطالبها.(1/36)
وبتقرير المكاتبة، فتح في الواقع باب التحرير في الإسلام، لمن أحس في داخل نفسه برغبة التحرر، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في فرصة قد تسنح أو لا تسنح على مر الأيام.
ومنذ اللحظة الأولى التي يطلب فيها المكاتبة - والسيد لا يملك رفض المكاتبة متى طلبها الرقيق، ولم يكن في تحريره خطر على أمن الدولة الإسلامية - يصبح عمله عند سيده بأجر، أو يتاح له - إذا رغب - أن يعمل في الخارج بأجر، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه.
ومثل ذلك قد حدث في أوربا في القرن الرابع عشر - أي بعد تقرير الإسلام له بسبعة قرون - مع فارق كبير لم يوجد في غير الإسلام، وهو كفالة الدولة للأرقاء المكاتبين - وذلك إلى جانب مجهود الإسلام الضخم في عتق الأرقاء تطوعاً بلا مقابل، تقرباً إلى الله ووفاء بعبادته.
تقول الآية التي تبين مصارف الزكاة: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها... وفي الرقاب ... " (24) فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال - وهو الخزانة العامة في العرف الحديث - لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير، إذا عجزوا بكسبهم الخاص عن أدائه.
وبهذا وذاك يكون الإسلام قد خطا خطوات فعليه واسعة في سبيل تحرير الرقيق، وسبق بها التطور التاريخي كله بسبعة قرون على الأقل، وزاد على هذا التطور عناصر - كرعاية الدولة - لم يفىء إليها العالم إلا في مطلع تاريخه الحديث. وعناصر أخرى لم يفىء إليها أبداً، سواء في حسن معاملة الرقيق، أو في عتقه تطوعاً، بغير ضغط من التطورات الاقتصادية أو السياسية التي اضطرت الغرب اضطراراً لتحرير الرقيق كما سيجيء.(1/37)
وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون ودعاواهم " العلمية " الزائفة، التي تزعم أن الإسلام حلقة من حلقات التطور الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية - فها هي ذي قد سبقت موعدها بسبعة قرون - والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا انعكاس للتطور الاقتصادي القائم وقت ظهوره، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور وتستجيب له، ولكنها لا تسبقه، ولا تستطيع أن تسبقه، كما قرر العقل الذي لا يخطىء ولا يأتيه الباطل من فوقه ولا من تحته، عقل كارل مارس تقدست ذكراه! فها هو ذا الإسلام لم يعمل بوحي النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب وفي العالم كله، لا في شأن الرقيق، ولا في توزيع الثروة، ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو المالك بالأجير (25)، وإنما كان ينشئ نظمه الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء على نحو غير مسبوق، ولا يزال في كثير من أبوابه متفرداً في التاريخ.
وهنا يخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلها نحو تحرير الرقيق، وسبق بها العالم كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه، فلماذا لم يخط الخطوة الحاسمة الباقية، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من حيث المبدأ؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية ونفسية وسياسية أحاطت بموضوع الرق، وجعلت الإسلام يضع المبادئ الكفيلة بتحرير الرقيق، ويدعها تعمل عملها على المدى الطويل.
يجب أن نذكر أولاً أن الحرية لا تمنح وإنما تؤخذ. وتحرير الرقيق بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق! والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد أبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن - من الخارج - بالتشريع، لم يطيقوا الحرية، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل - لم يكونوا قد تحرروا بعد.(1/38)
والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة. والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية (26). والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد..
فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ. ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها، ولا لأن فكره - في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار!
ولعل الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية - والشرقية - في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم للغرب. يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطلها - في كثير من الأحيان - إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً انجليزياً أو أمريكياً (27).. الخ. ليحتمل عنها مسؤولية المشروع ويصدر الإذن بالتنفيذ! والشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة " السيد " الوزير، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار!(1/39)
هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده. وهو ناشىء في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال، ولكنه يستقل عنها، ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد جذوراً خاصة به ويستقل عن الأصل. وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق. بل ينبغي أن يغير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر، وتنمي الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه الممسوخ.
وذلك ما صنعه الإسلام
فقد بدأ أولا بالمعاملة الحسنة للرقيق. ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون.
وقد وصل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ضربنا أمثلة منها من قبل في آيات القرآن وأحاديث الرسول، ونسرد هنا أمثلة أخرى في التطبيق الواقعي.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب. فآخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقية تعدل رابطة الدم وتصل إلى حد الاشتراك في الميراث!
ولم يكتف بهذا الحد ...
فقد زوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد. والزواج مسألة حساسة جداً وخاصة من جانب المرأة، فهي تقبل أن تتزوج من يفضلها مقاماً ولكنها تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب والنسب والثروة، وتحس أن هذا يحط من شأنها ويغض من كبريائها. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشرية الظالمة إلى مستوى أعظم سادة العرب من قريش.
ولم يكتف كذلك بهذا الحد.(1/40)
فقد أرسل مولاه زيداً على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب، فلما قتل ولى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش، وفيه أبو بكر وعمر وزيرا الرسول وخليفتاه من بعده، فلم يعط المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانية، بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على " الأحرار ". ووصل في ذلك إلى أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى (28) ". فأعطى الموالي بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة، وهو ولاية أمر المسلمين. وقد قال عمر وهو يستخلف: " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته " فيسير على نفس المبدأ الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ويضرب عمر مثلاً آخر من الأمثلة الرائعة على احترام الموالي؛ إذ يعارضه بلال بن رباح في مسألة الفيء فيشتد في معارضته، فلا يجد سبيلاً في رده إلا أن يقول: " اللهم اكفني بلالاً وأصحابه "! ذلك وهو الخليفة الذي كان يملك - لو أراد - أن يأمر فيطاع!
هذه النماذج التي وضعها الإسلام كان المقصود بها تحرير الرقيق من الداخل - كما قلنا في مبدأ هذا الفصل - لكي يحس بكيانه فيطلب الحرية، وهذا هو الضمان الحقيقي للتحرير.
وصحيح أنه شجع على العتق وحث عليه بكل الوسائل، ولكن هذا نفسه كان جزءاً من التربية النفسية للرقيق، لكي يشعروا أن في إمكانهم أن يحصلوا على الحرية ويتمتعوا بكل ما يتمتع به السادة من حقوق، فتزداد رغبتهم في الحرية ويتقبلوا احتمال التبعات في سبيلها، وهنا يسارع في منحها لهم، لأنهم حينئذ مستحقون لها، قادرون على صيانتها.
وفرق كبير بين النظام الذي يشجع الناس على طلب الحرية ويهيء لها الوسائل، ثم يعطيها لهم في اللحظة التي يطلبونها بأنفسهم، وبين النظم التي تدع الأمور تتعقد وتتحرج، حتى تقوم الثورات الاقتصادية والاجتماعية وتزهق الأرواح بالمئات والألوف، ثم لا تعطي الحرية لطلابها إلا مجبرة كارهة.(1/41)
وقد كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق، أنه قد حرص على التحرير الحقيقي له من الداخل والخارج، فلم يكتف بالنية الطيبة كما فعل لنكولن بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل النفوس؛ مما يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية، وفطنته إلى خير الوسائل لمعالجتها. وهذا إلى جانب تطوعه بإعطاء الحقوق لأصحابها، مع تربيتهم على التمسك بها واحتمال تبعاتها - على أساس الحب والمودة بين جميع طوائف المجتمع - قبل أن يتصارعوا من أجل هذه الحقوق، كما حدث في أوربا، ذلك الصراع البغيض الذي يجفف المشاعر ويورث الأحقاد. فيفسد كل ما يمكن أن تصيبه البشرية من الخير في أثناء الطريق.
والآن نتحدث عن العامل الأكبر الذي جعل الإسلام يضع الأساس لتحرير الرقيق ثم يدعه يعمل عمله من خلال الأجيال.
لقد جفف الإسلام منابع الرق القديمة كلها، فيما عدا منبعاً واحداً لم يكن يمكن أن يجففه، وهو رق الحرب. ولنأخذ في شيء من التفصيل.
كان العرف السائد يومئذ هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم (29). وكان هذا العرف قديماً جداً، موغلاً في ظلمات التاريخ، يكاد يرجع إلى الإنسان الأول، ولكنه ظل ملازماً للإنسانية في شتى أطوارها.
وجاء الإسلام والناس على هذا الحال. ووقعت بينه وبين أعداءه الحروب، فكان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام، فتسلب حرياتهم، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب، يشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم، بلا ضابط ولا نظام، ولا احترام لإنسانية أولئك النساء أبكاراً كن أم غير أبكار. أما الأطفال - إن وقعوا أسرى - فكانوا ينشأون في ذل العبودية البغيض.(1/42)
عندئذ لم يكن جديراً بالمسلمين أن يطلقوا سراح من يقع في أيديهم من أسرى الأعداء. فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء. والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه، أو هي القانون الوحيد. ومع ذلك فينبغي أن نلاحظ فروقاً عميقة بين الإسلام وغيره من النظم في شأن الحرب وأسرى الحرب.
كانت الحروب - وما تزال - في غير العالم الإسلامي لا يقصد بها إلا الغزو والفتك والاستعباد. كانت تقوم على رغبة أمة في قهر غيرها من الأمم، وتوسيع رقعتها على حسابها، أو لاستغلال مواردها وحرمان أهلها منها؛ أو لشهوة شخصية تقوم في نفس ملك أو قائد حربي، ليرضي غروره الشخصي وينتفش كبراً وخيلاء، أو لشهوة الانتقام.. أو ما إلى ذلك من الأهداف الأرضية الهابطة. وكان الأسرى الذين يسترقون، لا يسترقون لخلاف في عقيدة، ولا لأنهم في مستواهم الخلقي أو النفسي أو الفكري أقل من آسريهم، ولكن فقط لأنهم غلبوا في الحرب.
وكذلك لم تكن لهذه الحرب تقاليد تمنع من هتك الأعراض أو تخريب المدن المسالمة , أو قتل النساء والأطفال والشيوخ، وذلك منطقي مع قيامها لغير عقيدة ولا مبدأ ولا هدف رفيع.
فلما جاء الإسلام أبطل ذلك كله، وحرم الحروب كلها. إلا أن تكون جهاداً في سبيل الله.. جهاداً لدفع اعتداء عن المسلمين، أو لتحطيم القوى الباغية التي تفتن الناس عن دينهم بالقهر والعنف. أو لإزالة القوى الضالة التي تقف في سبيل الدعوة وإبلاغها للناس ليروا الحق ويسمعوه.
(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (30). (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) (31).(1/43)
فهي دعوة سلمية لا تكره أحداً: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (32) وبقاء اليهود والمسيحيين في العالم الإسلامي على دينهم حتى اللحظة برهان قاطع لا يقبل الجدل ولا المماحكة، يثبت أن الإسلام لم يكره غيره على اعتناقه بقوة السيف (33).
فاذا قبل الناس الإسلام، واهتدوا إلى دين الحق، فلا حرب ولا خصومة ولا خضوع من أمة لأمة، ولا تمييز بين مسلم ومسلم على وجه الأرض، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
فمن أبى الإسلام وأراد أن يحتفظ بعقيدته في ظل النظام الإسلامي - مع إيمان الإسلام بأنه خير من هذه العقيدة وأقوم سبيلاً - فله ذلك دون إكراه ولا ضغط، على أن يدفع الجزية مقابل حماية الإسلام له، بحيث تسقط الجزية أو ترد إن عجز المسلمون عن حمايته (34) فإن أبوا الإسلام والجزية فهم إذن معاندون متبجحون، لا يريدون للدعوة السلمية أن تأخذ طريقها، وإنما يريدون أن يقفوا بالقوة المادية في طريق النور الجديد يحجبونه عن عيون قوم ربما اهتدوا لو خلي بينهم وبين النور.
عند ذلك فقط يقوم القتال، ولكنه لا يقوم بغير إنذار أو إعلان، لإعطاء فرصة أخيرة لحقن الدماء ونشر السلم في ربوع الأرض: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (35).
تلك هي الحرب الإسلامية، لا تقوم على شهوة الفتح ولا رغبة الاستغلال، ولا دخل فيها لغرور قائد حربي أو ملك مستبد، فهي حرب في سبيل الله وفي سبيل هداية البشرية، حين تخفق الوسائل السلمية كلها في هداية الناس.
ولها مع ذلك تقاليد؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته: "اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" (36).
فلا قتل لغير المحارب الذي يقف بالسلاح يقاتل المسلمين، ولا تخريب ولا تدمير ولا هتك للأعراض، ولا إطلاق لشهوة الشر والإفساد: (إن الله لا يحب المفسدين).(1/44)
وقد راعى المسلمون تقاليدهم النبيلة هذه في كل حروبهم، حتى في الحروب الصليبية الغادرة، حين انتصروا على عدوهم الذي كان في جولة سابقة قد انتهك الحرمات واعتدى على المسجد الأقصى فهاجم المحتمين فيه بحمى الله - رب الجميع - وأسال دماءهم فيه أنهاراً، فلم ينتقموا لأنفسهم حين جاءهم النصر، وهم يملكون الإذن من الدين ذاته بالمعاملة بالمثل: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (37). ولكنهم ضربوا المثل الأعلى الذي يعجز عنه غير المسلمين في كل الأرض حتى العصر الحديث.
ذلك فارق أساسي في أهداف الحرب وتقاليدها بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان الإسلام يملك لو أراد - والحق يسنده في ذلك - أن يعتبر من يقع في يديه من الأسرى - ممن يعاندون الهدى ويصرون على وثنيتهم الهابطة وشركهم المخرف - قوماً ناقصي الآدمية، ويسترقهم بهذا المعنى وحده. فما يصر بشر على هذه الخرافة - بعد إذ يرى النور - إلا أن يكون في نفسه هبوط أو في عقله انحراف، فهو ناقص في كيانه البشري، غير جدير بكرامة الآدميين، وحرية الأحرار من بني الإنسان.
ومع ذلك فإن الإسلام لم يسترق الأسرى لمجرد اعتبار أنهم ناقصون في آدميتهم، وإنما لأنهم - وهذه حالهم - قد جاءوا يعتدون على حمى الإسلام، أو وقفوا بالقوة المسلحة يحولون بين الهدى الرباني وبين قلوب الناس.
وحتى مع ذلك فلم يكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى. فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء، وأطلق بعضهم لقاء فدية، وأخذ من نصارى نجران جزية ورد إليهم أسراهم، ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه البشرية في مستقبلها.(1/45)
ومما هو جدير بالإشارة هنا أن الآية الوحيدة التي تعرضت لأسرى الحرب: (فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) (38) لم تذكر الاسترقاق للأسرى، وإنما ذكرت الفداء وإطلاق السراح دون مقابل، حتى لا يكون الاسترقاق تشريعاً دائماً للبشرية ولا ضربة لازب، إنما هو أمر يلجأ إليه الجيش الإسلامي المحارب إذا اقتضته الظروف والملابسات.
يضاف إلى ذلك أن الأسرى الذين كانوا يقعون في يد الإسلام كانوا يعاملون تلك المعاملة الكريمة التي وصفناها من قبل، ولا يلقون الهوان والتعذيب، وكان يفتح أمامهم باب التحرر حين تسعى نفوسهم إليه وتحتمل تبعاته، وإن كان معظمهم في الواقع لم يكن حراً قبل أسره، إنما كان من الرقيق الذي استرقه الفرس والرومان ودفعوه إلى قتال المسلمين.
فكأن الأمر في الحقيقة لم يكن استرقاقاً من أجل الاسترقاق. ولا كان الرق أصلاً دائماً يهدف الإسلام إلى المحافظة عليه، فاتجاه الإسلام إلى تحرير الرقيق هو الاتجاه البارز الذي تشير كل الدلائل إليه.
وإنما هو وضع موقوت يؤدي في النهاية إلى التحرير.
تقوم الحرب بين المسلمين وأعداء الإسلام فيقع بعض الأسرى من الكفار في يد المسلمين، فيصبحون - في بعض الحالات، لا في كل الحالات ولا بصورة حتمية - رقيق حرب، فيعيشون فترة من الزمن في جو المجتمع الإسلامي، يبصرون عن كثب صورة العدل الرباني مطبقاً في واقع الأرض، وتشملهم روح الإسلام الرحيمة بحسن معاملتها واعتباراتها الإنسانية، فتتشرب أرواحهم بشاشة الإسلام، وتتفتح بصائرهم للنور.. وعندئذ يحررهم الإسلام بالعتق في بعض الأحيان، أو بالمكاتبة إن تاقت نفوسهم إلى الحرية وسعوا إليها.
وبذلك تصبح الفترة التي يقضونها في الرق في الحقيقة فترة علاج نفسي وروحي، قوامه إحسان المعاملة لهم، وإشعارهم بآدميتهم المهدرة، وتوجيه أرواحهم إلى النور الرباني بغير إكراه.. ثم في النهاية يكون التحرير..(1/46)
وذلك كله في حالة الاسترقاق. وليست هي السبيل الوحيد الذي يسلكه الإسلام، كما يتضح من آية التشريع، ومن السلوك العملي للرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف الغزوات.
أما النساء فقد كرمهن - حتى في رقهن - عما كن يلقين في غير بلاد الإسلام. فلم تعد أعراضهن نهباً مباحاً لكل طالب على طريقة البغاء (وكان هذا هو مصير أسيرات الحروب في أغلب الأحيان) وإنما جعلهن ملكاً لصاحبهن وحده، لا يدخل عليهن أحد غيره، وجعل من حقهن نيل الحرية بالمكاتبة، كما كانت تحرر من ولدت لسيدها ولداً ويحرر معها ولدها، وكن يلقين من حسن المعاملة ما أوصى به الإسلام.
* * *
تلك قصة الرق في الإسلام: صفحة مشرفة في تاريخ البشرية. فالإسلام لم يجعل الرق أصلاً من أصوله، بدليل أنه سعى إلى تحريره بشتى الوسائل، وجفف منابعه كلها لكي لا يتجدد، فيما عدا المنبع الواحد الذي ذكرناه وهو رق الحرب المعلنة للجهاد في سبيل الله. وقد رأينا أن الرق فيها ليس ضربة لازب، وأنه - إن حدث - فلفترة موقوتة تؤدي في النهاية إلى التحرير..
أما ما حدث في بعض العهود الإسلامية من الرق في غير أسرى الحروب الدينية، ومن نخاسة واختطاف وشراء لمسلمين لا يجوز استرقاقهم أصلاً، فإن نسبته إلى الإسلام ليست أصدق ولا أعدل من نسبة حكام المسلمين اليوم إلى الإسلام بما يرتكبونه من موبقات وآثام!
وينبغي أن نجعل بالنا إلى عدة أمور في هذا الموضوع.
الأول: هو تعدد منابع الرق عند الدول الأخرى بغير ضرورة ملجئة سوى شهوة الاستعباد، من استرقاق أمة لأمة، وجنس لجنس، واسترقاق للفقر. واسترقاق بالوراثة من الميلاد في طبقة معينة، واسترقاق بسبب العمل في الأرض إلخ، وإلغاء هذه المنابع كلها في الإسلام، فيما عدا المنبع الوحيد الذي شرحنا ظروفه من قبل.(1/47)
والثاني: أن أوربا مع تعدد موارد الرق فيها بغير ضرورة، لم تلغ الرق حين ألغته متطوعة، وكتابهم يعترفون بأن الرق ألغي حين ضعف إنتاج الرقيق - لسوء أحوالهم المعيشية وفقدان الرغبة أو القدرة على العمل - بحيث أصبحت تكاليف العبد من إعاشة وحراسة أكثر من إنتاجه!! فهي إذن حسبة اقتصادية لا غير، يحسب فيها المكسب والخسارة، ولا ظل فيها لأي معنى من المعاني الإنسانية التي تشعر بكرامة الجنس البشري، فتمنح الرقيق حريته من أجلها! هذا بالإضافة إلى الثورات المتتابعة التي قام بها الرقيق فاستحال معها دوام استرقاقه.
ومع ذلك فإن أوربا حينئذ لم تمنحه الحرية. ولكنها حولته من رقيق للسيد إلى رقيق للأرض، يباع معها ويشترى، ويخدم فيها، ولا يجوز له أن يغادرها، وإلا اعتبر آبقاً وأعيد إليها بقوة القانون مكبلاً بالسلاسل مكوياً بالنار. وهذا اللون من الرق هو الذي بقي حتى حرمته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، أي بعد أن قرر الإسلام مبدأ التحرير بما يزيد على ألف ومائة عام.
والأمر الثالث: أنه لا يجوز أن تخدعنا الأسماء. فقد ألغت الثورة الفرنسية الرق في أوربا، وألغى لنكولن الرق في أمريكا، ثم اتفق العالم على إبطال الرق.. كل ذلك من الظاهر. وإلا فأين هو الرق الذي ألغي؟ وما اسم ما يحدث اليوم في كل أنحاء العالم؟ وما اسم الذي كانت تصنعه فرنسا في المغرب الإسلامي؟ وما اسم الذي تصنعه أمريكا في الزنوج، وانجلترا في الملونين في جنوب افريقيا؟
أليس الرق في حقيقته هو تبعية قوم لقوم آخرين، وحرمان طائفة من البشر من الحقوق المباحة للآخرين؟ أم هو شيء غير ذلك؟ وماذا يعني أن يكون هذا تحت عنوان الرق، أو تحت عنوان الحرية والإخاء والمساواة؟ ماذا تجدي العناوين البراقة إذا كانت الحقائق التي وراءها هي أخبث ما عرفته البشرية من الحقائق في تاريخها الطويل؟(1/48)
لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس فقال: هذا رق، وسببه الوحيد هو كذا، والطريق إلى التحرر منه مفتوح.
أما الحضارة الزائفة التي نعيش اليوم في أحضانها، فلا تجد في نفسها هذه الصراحة، فهي تصرف براعتها في تزييف الحقائق وطلاء اللافتات البراقة. فقتل مئات الألوف في تونس والجزائر والمغرب لغير شيء سوى أنهم يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية: حريتهم في أن يعيشوا في بلادهم بلا دخيل، وأن يتكلموا لغتهم، ويعتقدوا عقيدتهم، ولا يخدموا إلا أنفسهم. وحريتهم في التعامل المباشر مع العالم في السياسة والاقتصاد... قتل هؤلاء الأبرياء وحبسهم في السجون القذرة بلا طعام ولا ماء، وانتهاك أعراضهم والسطو على نسائهم، وقتلهن بلا مبرر وشق بطونهن للتراهن على نوع الجنين.. هذا اسمه في القرن العشرين حضارة ومدنية ونشر لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة. أما المعاملة المثالية الكريمة التي كان يمنحها الإسلام للرقيق قبل ثلاثة عشر قرناً، تطوعاً منه وإكراماً للجنس البشري في جميع حالاته، مع إعلانه العملي بأن الرق وضع مؤقت وليس حالة دائمة، فهذا اسمه تأخر وانحطاط وهمجية.
وحين يضع الأمريكان على فنادقهم ونواديهم لافتات تقول: " للبيض فقط " أو تقول في وقاحة كريهة: " ممنوع دخول السود والكلاب "، وحين يفتك جماعة من البيض " المتحضرين " بواحد من الملونين، فيطرحونه أرضاً ويضربونه بأحذيتهم حتى يسلم الروح، ورجل الشرطة واقف لا يتحرك ولا يتدخل، ولا يهم لنجدة أخيه في الوطن وفي الدين واللغة
. فضلاً عن الأخوة في البشرية، كل ذلك لأنه - وهو ملون - تجرأ فمشى إلى جانب فتاة أمريكية بيضاء لا عرض لها - وبإذنها لا كرها عنها - يكون هذا هو أقصى ما وصل إليه القرن العشرون من التحضر والارتفاع.(1/49)
أما حين يتهدد العبد المجوسي عمر بالقتل، ويفهم عنه عمر ذلك، ثم لا يحبسه ولا ينفيه من الأرض، ولا نقول يقتله، وهو مخلوق ناقص الآدمية حقا لأنه يعبد النار ويصر على عبادتها تعصباً منه للباطل بعد أن رأى الحق بعينيه، فما أشد همجية عمر، وما أشد ازدراءه لكرامة الجنس البشري لأنه قال: " تهددني العبد "! ثم تركه حراً حتى ارتكب جريمته فقتل خليفة المسلمين، لأنه لم يكن يملك عليه سلطاناً قبل أن يقترف الجريمة.
وقصة الملونين في أفريقيا، وحرمانهم من حقوقهم البشرية وقتلهم أو " اصطيادهم " حسب تعبير الجرائد الإنجليزية الوقحة، لأنهم تجرأوا فأحسوا بكرامتهم وطالبوا بحريتهم، هذا هو العدل البريطاني في قمته، والحضارة الإنسانية في أوجها، والمبادئ السامية التي تجيز لأوربا الوصاية على العالم. أما الإسلام فهو همجي جداً لأنه لم يتعلم " اصطياد " البشر، والتلهي بقتلهم لأنهم سود البشرة. بل وصل توغله في التأخر والانحطاط أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.. "
* * *
أما المرأة فلها حساب آخر.
كان الإسلام قد أباح للسيد أن يكون عنده عدد من الجواري من سبى الحرب (39) يستمتع بهن وحده، ويتزوج منهن أحياناً إذا شاء. وأوربا تستنكر هذا اليوم وتتعفف عن هذه الحيوانية البشعة التي تعتبر الجواري متاعاً مباحاً، وأجساداً لا حرمة لها ولا كرامة، كل مهمتها في الحياة إشباع لذة بهيمية بغيضة، لرجل لا يرتفع عن مستوى الحيوان.(1/50)
وجريمة الإسلام الحقيقية في هذا الأمر أنه لا يبيح البغاء! فقد كانت أسيرات الحرب في البلاد الأخرى يهوين إلى حمأة الرذيلة بحكم أنه لا عائل لهن، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية العرض، فيشغلونهن في هذه المهمة البغيضة، ويكسبون من هذه التجارة القذرة: تجارة الأعراض. ولكن الإسلام - المتأخر - لم يقبل البغاء، وحرص على حفظ المجتمع نظيفاً من الجريمة، فقصر هؤلاء الجواري على سيدهن، عليه إطعامهن وكسوتهن وحفظهن من الجريمة، وإرضاء حاجتهن الجنسية - عرضاً - وهو يقضي حاجته.
أما ضمير أوربا فلا يطيق هذه الحيوانية... ولذلك أباحت البغاء ومنحته رعاية القانون وحمايته! وراحت تنشره عامدة في كل بلد وطئته أقدامها مستعمرة. فما الذي تغير من الرق حين تغير عنوانه؟ وأين كرامة البغي وهي لا تملك رد طالب - وما يطلبها أحد إلا لأقذر معنى يمكن أن تهبط إليه البشرية: دفعة الجسد الخالصة التي لا تلطفها عاطفة، ولا ترتفع بها روح؟ وأين من هذه القذارة الحسية والمعنوية ما كان بين السادة والجواري في الإسلام؟
لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس، فقال: هذا رق. وهؤلاء جوار. وحدود معملتهن هي كذا وكذا. ولكن الحضارة المزيفة لا تجد في نفسها هذه الصراحة، فهي لا تسمي البغاء رقا، وإنما تقول عنه إنه " ضرورة اجتماعية "!
ولماذا هو ضرورة؟
لأن الرجل الأوربي المتحضر لا يريد أن يعول أحداً: لا زوجة ولا أولاداً. يريد أن يستمتع دون أن يحتمل تبعة. يريد جسد امرأة يفرغ فيه شحنة الجنس. ولا يعنيه من تكون هذه المرأة، ولا تعنيه مشاعرها نحوه ولا مشاعره نحوها. فهو جسد ينزو كالبهيمة، وهي جسد يتلقى هذه النزوة بلا اختيار، ويتلقاها لا من واحد بعينه، ولكن من أي عابر سبيل.
هذه هي " الضرورة " الاجتماعية التي تبيح استرقاق النساء في الغرب في العصر الحديث. وما هي بضرورة لو ارتفع الرجل الأوربي إلى مستوى " الإنسانية " ولم يجعل لأنانيته كل هذا السلطان عليه.(1/51)
والدول التي ألغت البغاء في الغرب المتحضر لم تلغه لأن كرامتها أوجعتها، أو لأن مستواها الخلقي والنفسي والروحي قد ارتفع عن الجريمة. كلا! ولكن لأن الهاويات قد أغنين عن المحترفات. ولم تعد الدولة في حاجة إلى التدخل!
وبعد ذلك يجد الغرب من التبجح ما يعيب به نظام الجواري في الإسلام، ذلك النظام الذي كان قبل ألف وثلثمائة عام - وعلى أنه نظام غير مطلوب له الدوام - أكرم بكثير وأنظف بكثير من النظام الذي يقوم اليوم في القرن العشرين، وتعتبره المدنية نظاماً طبيعيا ً، لا يستنكره أحد، ولا يسعى في تغييره أحد، ولا يمانع أحد في أن يظل باقياً إلى نهاية الحياة!
ولا يقل قائل إن هؤلاء " الهاويات " يتطوعن دون إكراه من أحد وهن مالكات لحريتهن الكاملة. فالعبرة بالنظام الذي يدفع الناس بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والروحية إلى قبول الرق أو الوقوع فيه. ولا شك أن " الحضارة " الأوربية هي التي تدفع إلى البغاء وتقره، سواء كان البغاء الرسمي أو بغاء المتطوعات الهاويات!
تلك قصة الرق في أوربا حتى القرن العشرين: رق الرجال والنساء والأمم والأجناس. رق متعدد المنابع متجدد الموارد، في غير ضرورة ملجئة، اللهم إلا خسة الغرب وهبوطه عن المستوى اللائق لبني الإنسان.
ودع عنك استرقاق الدولة الشيوعية لأفراد شعبها حتى لا يملك أحدهم حرية اختيار العمل الذي يريده، ولا المكان الذي يعمل فيه، واسترقاق أصحاب رؤوس الأموال للعمال في الغرب الرأسمالي حتى لا يملك أحدهم سوى اختيار السيد الذي يستعبده.
دع عنك هذا وذاك، فقد تجد المجادلين عنه والمنافحين. ويكفي ما سردناه من ألوان الرق الصارخة الصريحة، التي تتم باسم المدنية وباسم التقدم الاجتماعي! ثم انظر هل تقدمت البشرية في أربعة عشر قرناً، بعيداً عن وحي الإسلام، أم إنها ظلت تنحدر وتتأخر، حتى لتحتاج اليوم إلى قبس من هدي الإسلام، يخرجها مما هي فيه من الظلام؟!(1/52)
الإسلام... والإقطاع
سمعت أخيراً (40) أن طالباً قدم للجامعة بحثاً يثبت فيه أن الإسلام نظام إقطاعي، وأنه نال على هذا البحث درجة الماجستير! وعجبت للطالب والأساتذة في آن واحد. وقد يكون الطالب جاهلاً، أو قد يكون سيِّء النية. أما الأساتذة العظام الأجلاء فما بالهم؟ وكيف ينحدرون إلى هذا المستوى في فهم النظم الاجتماعية والاقتصادية، وفهم وقائع التاريخ؟
ولكن العجب زال حين تذكرت من هم أولئك الأساتذة الأجلاء. أليس هؤلاء من الجيل الذي صنعه الاحتلال على عينه، ليفسدوا مَنْ بعدهم من الأجيال؟ أليسوا هم الذين عنى بهم دنلوب عناية خاصة، فحرص على إرسالهم إلى أوربا ليزدادوا " علماً " أو ليزدادوا في الحقيقة بعداً عن مقوماتهم الحقيقية، ونفوراً من دينهم وتقاليدهم، واحتقاراً لذواتهم وتاريخهم وعقائدهم؟
بلى، إنهم أولئك. فلا عجب ولا استغراب!
ما هو الإقطاع أيها السادة الأجلاء، وما هي مقوماته؟
ننقل هنا وصفاً له، كتبه الدكتور راشد البراوي في كتابه " النظام الاشتراكي " منقولاً بطبيعة الحال عن المصادر الأوربية:(1/53)
" ونظام الإقطاع عبارة عن أسلوب من الإنتاج، الصفة المميزة له هي التبعية الدائمة serfdom ويعرفونه بأنه نظام في ظله يلتزم المنتج المباشر نحو سيده أو مولاه بأداء مطالب اقتصادية معينة، سواء أكانت تلك المطالب تؤدي على هيئة خدمات يقوم بها، أم على شكل مدفوعات " أو استحقاقات " يؤديها نقداً أو عيناً. ولتوضيح ذلك نقول: إن المجتمع الإقطاعي كان ينقسم إلى طبقتين: الأولى وتشمل ملاك الأبعاديات الإقطاعية. والثانية وتتكون من المزارعين على اختلاف مراتبهم، فمنهم الفلاحون والعمال الزراعيون والعبيد، وإن كان عدد الآخرين ظل يتناقص باطراد وسرعة. فهؤلاء الفلاحون، أي المنتجون المباشرون، لهم الحق في حيازة مساحة من الأرض يعتمدون عليها بوسائلهم في كسب معاشهم وإنتاج ما يلزمهم من أسباب العيش، كما يمارسون في بيوتهم الصناعات البسيطة التي تتصل بالزراعة. ولكنهم مقابل ذلك يلزمون بأمور عدة مثل الخدمة الأسبوعية في أرض الشريف مع آلاتهم وماشيتهم، والخدمة الإضافية في المواسم الزراعية، وتقديم الهدايا في الأعياد والمناسبات الخاصة، وعليهم كذلك أن يطحنوا غلالهم في المطاحن التي يقيمها الشريف وأن يعصروا كرومهم في معصرته ...
" وكان الشريف يمارس أمور الحكم والقضاء، أي أنه يشرف على تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالنسبة إلى أهل منطقته.(1/54)
" ... غير أن هذا المنتج المباشر في ظل النظام الإقطاعي لم يكن حراً بالمعنى الذي نعرفه فيما بعد، فهو لا يملك الأرض ملكية كاملة، ولا يستطيع التصرف فيها بالبيع والتوريث أو الهبة، وكان يؤدي أعمال السخرة في أرض الشريف الخاصة رغماً عنه وضد مصلحته، وعليه أن يؤدي ضريبة- غير محدودة المقدار- اعترافاً بعلاقة التبعية، وهو ينتقل مع الأرض إذا ما انتقلت هذه من يد إلى أخرى. وليست له الحرية المطلقة في مغادرة مكان العمل أو محاولة الالتحاق بخدمة سيد آخر. فهو إذن يمثل حلقة متوسط بين العبد في العصور القديمة، والمزارع الحر في العصر الحديث.
"... فالمالك هو الذي يحدد مساحة الأرض التي يهبها للفلاح، وهو الذي يحدد مقدار الخدمات التي يطلب من الأجير أداءها وهو في قراراته هذه لا يتقيد بتصرفات الملاك الآخرين، ولا يستجيب لمطالب الفلاحين.
ثم يقول: " وهنا بدأت في القرن الثالث عشر حركة هجرة غير مشروعة من جانب العمال الزراعيين، وهي الحركة المعروفة باسم " فرار الفلاحين ". وحاول الملاك استرداد الفلاحين الهاربين، فعقدوا فيما بينهم اتفاقات تقضي بأن يقبض كل مالك على العمال الذين يصلون إلى إقطاعيته، غير أن عملية الفرار هذه كانت ظاهرة عامة، وشعر كل مالك بحاجته إلى العمال لمزاولة الزراعة، فبدأ التحرر من هذه الاتفاقات، وهكذا أخفقت محاولة التعاون بين الملاك، وهنا رأى الأخيرون أنه لا بد من علاج آخر، فاتجه التفكير إلى إحلال الأجور النقدية محل السخرة الإجبارية.
" وتمكن كثيرون من الفلاحين من تكوين فائض. واستغلوا حاجة الأمراء والملاك الإقطاعيين، فاشتروا حريتهم الشخصية. وإذا كانت هذه الظواهر لم تصبح تقاليد شائعة حتى القرن الرابع عشر، فالمهم أن الأسس التي كان يقوم عليها المجتمع الإقطاعي قد أخذت تتقوض، وهي عملية اطرد تقدمها في القرون التالية (41) ".(1/55)
تلك مقومات الإقطاع، نقلناها بتفصيلاتها لتتضح صورتها في أذهاننا ولا تختلط علينا بغيرها من المظاهر والأشكال. فمتى وأين يا ترى حدث في الإسلام مثل هذا الإقطاع؟
لعل المظهر الذي يشتبه على بعض الباحثين، أو الذي يستغله المغرضون ليقلوا منه الشبهات حول الإسلام، هو انقسام المجتمع الإسلامي لفترة من الوقت إلى ملاك للأبعاديات، وفلاحين يعملون في هذه الأبعاديات. ولكن هذا مجرد مظهر، وهو خال من الدلالة الزائفة التي يلصقها به هؤلاء وهؤلاء. ولنعد إلى المقومات الأساسية للإقطاع لنوازن بينها وبين ما حدث في المجتمع الإسلامي. إنها:
أولاً: التبعية الدائمة Serfdom.
ثانياً: الالتزامات التي يلتزم بها الفلاح نحو السيد، وتشمل:
أ) الخدمة المجانية الإجبارية في أرض الشريف يوماً كل أسبوع.
ب) الخدمة المجانية الإجبارية في المواسم.
ج) تقديم الهدايا في الهدايا والمناسبات (ويلاحظ هنا أن الفلاح الفقير هو الذي يقدم الهدايا للسيد الغني!)
د) طحن الغلال في مطحنة الشريف (ونغض النظر عن عصر الكروم فالخمر محرمة في الإسلام).
ثالثاً: تحديد الشريف - حسب هواه - لمقدار الأرض الممنوحة لرقيق الأرض والخدمات والضرائب المطلوبة منه.
رابعاً: ممارسة الشريف لأمور الحكم والقضاء حسبما يقضي به مزاجه الخاص لعدم وجود قانون عام.
خامساً: اضطرار الفلاحين إلى شراء حريتهم بالمال حين آذن هذا النظام بالانهيار..
وبعد فهذا هو التاريخ الإسلامي مفتوحاً للجميع، فليبحثوا فيه عن مثل هذه المقومات!(1/56)
أما التبعية الدائمة فمسألة لم يعرفها الإسلام قط في خارج دائرة الرق، وقد شرحنا في الفصل السابق أصوله وأسبابه ووسائل التحرر منه. وليس في الإسلام رق للأرض. وإنما كان الأرقاء الذين جاءوا عن طريق الحرب وهم قلة على أي حال بالنسبة لمجموع السكان، يعملون في أرض السادة إذا كانوا لم يعتقلوا تطوعاً ولم يطلبوا الحرية مكاتبة. ولكن هذا ليس المقصود بالتبعية الدائمة في الإقطاع الأوروبي. وإنما المقصود - إلى جانب وجود الأرقاء - تبعية الفلاحين والعمال الزراعيين جميعاً. وهم ليسوا أرقاء للسادة، ولكنهم أرقاء للأرض، لا يملكون تركها ولا التحرر من الالتزامات الملقاة على عاتقهم لأصحابها.
وهذا اللون من الرق أو التبعية هو الذي لم يوجد أبداً في الإسلام.
ذلك أن الإسلام - من حيث المبدأ - لا يعترف بعبودية ولا تبعية إلا لله خالق الحياة. أما التبعية لمخلوقات الله فليست أصلاً من أصوله. وإذا كانت قد وجدت في الرق - لظروف خاصة وعارضة - فهي حالة موقوتة يعمل الإسلام على إزالتها بكل الوسائل، ويشجع الأرقاء أنفسهم على التخلص منها، ويمنحهم معاونة الدولة ورعايتها.
ثم إن الإسلام - من الوجهة الاقتصادية - لا يقيم بنيانه الاقتصادي على تبعية إنسان لإنسان، فيما عدا حالة الرق التي أشرنا إليها، والتي لم يكن لها مخلص اقتصادي في ذلك الحين، حتى تتحرر نفوس الأرقاء من الداخل ويحتملوا تبعة أنفسهم فيعملوا أحرارا ً، وعند ذلك يمنحهم الإسلام حريتهم. وإنما يقيم الإسلام بنيانه على أساس حرية العمل، مع التعاون التام وتبادل الخدمات بين الجميع. والدولة دائماً موجودة تعول من تقصر به موارده عن الحياة الكريمة، أو يعجز عن العمل لأي سبب من الأسباب.
وما دامت كفالة الدولة موجودة ومتاحة للجميع، فليس هناك ما يدفع أحداً إلى استرقاق نفسه لأصحاب الأرض، وهو يملك الحرية والكرامة ومطالب الحياة الأساسية عن غير هذا الطريق.(1/57)
فمن الوجهة الروحية والوجهة الاقتصادية معاً منع الإسلام الإقطاع بصورته المعروفة، وأدرك الناس قبل أن يصبحوا رقيقاً للأرض فحررهم من وبال الإقطاع.
وأما الالتزامات التي يلتزم بها الفلاح لصاحب الأرض فلم يعرفها كذلك تاريخ الإسلام. لم يحدث قط - والإسلام إسلام - أن كان الفلاح ملزماً بشيء تجاه صاحب الأرض، وذلك لانتفاء التبعية، وقيام علاقة حرة بين هذا وذاك.
كانت العلاقة الوحيدة التي عرفها الإسلام بين الفلاح وصاحب الأرض هي الإيجار أو المزارعة. وبمقتضاها يستأجر الفلاح جانباً من الأرض قل أو كثر بحسب ما تستطيع موارده، ويكون حراً حرية كاملة في زراعته على نفقته وجني محصوله كله لنفسه، أو يشارك صاحب الأرض، فيدفع الأخير كل النفقات ويقدم الأول جهده، ثم يقتسمان الناتج آخر العام.
وفي كلتا الحالتين لا توجد التزامات إجبارية نحو " السيد " ولا سخرة، ولا أية خدمة بلا ثمن. وإنما هو التزام متبادل بين طرفين متكافئين في الحرية وفي الحقوق والواجبات. فالفلاح حر أولاَ في اختيار الأرض التي يستأجرها، أو المالك الذي يزارعه. وحر ثانياً في التفاوض مع صاحب الأرض على قيمة الإيجار، فإذا لم يجدها صفقة كاسبة فله ألا يعمل في الأرض، وليس للمالك أن يلزمه بشيء. فإذا ارتضى نظام المزارعة فالتزاماته فيه مكافئة لالتزامات المالك ومتوقفة عليها وربحه كذلك مناصفة مع صاحب الأرض.
ثم إننا نجد - على العكس مما حدث في الإقطاع - أن المالك الغني هو الذي يبر فلاحيه بالهدايا والعطايا المختلفة في الأعياد والمناسبات، وخاصة في شهر رمضان، وهو شهر ذو منزلة خاصة عند المسلمين، يكثر فيه التزاور عند المسلمين بين الأحباب والأصدقاء، وتكثر المآدب التي تجمع الشمل وتبر المحتاجين. وهذا هو الأمر المنطقي الذي يتلاءم مع طبائع الأشياء فالغني هو الذي ينفق وهو الذي يتحمل العطايا والهدايا وليس الفقير هو المكلف بإهداء الغني، كما اقتضت " إنسانية " أوروبا!(1/58)
أما الطواحين فقد جرى العرف في البلاد الإسلامية أن يقوم بها الفقراء، يكتسبون عن طريقها، ولم تكن في أيدي الملاك يفرضون استخدامها على الفلاحين!
ومن هنا نجد أن الالتزامات التي تأخذ صورة السخرة لم توجد في النظام الإسلامي. وإنما قامت مكانها علاقة حرة مبنية على الاحترام المتبادل والمساواة الكاملة في الكرامة الإنسانية. أما " الالتزامات " التي كان يقوم بها الشريف في أوروبا من حماية فلاحيه ورعايتهم، ويقتضي ثمنها هذه السخرة الظالمة والاستعباد المذل، فقد كان الأغنياء في الإسلام يقومون بها تطوعاً بدون مقابل، لأنهم يأخذون مقابلها التقرب إلى الله ووفاء حقه في العبادة، وهذا فارق حاسم بين النظام الذي يقوم على عقيدة والنظام الذي يقوم خواء منها. ففي الأول تصبح الخدمات الاجتماعية عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله، وفي الثاني تصبح عملية تجارية يحاول كل طرف فيها أن يأخذ أكبر كسب ويدفع أقل ما يستطيع، وتصبح الغلبة في النهاية للقوي لا لصاحب الحق.
ثم ننتقل إلى السمة الثالثة من سمات الإقطاع، وهي تحديد السيد للقدر " الممنوح " من الأرض، وتحديده كذلك للخدمات المطلوبة من الفلاح. وهما أمران يتمشيان مع السيادة والتبعية هناك، ولم يكن لهما وجود في النظام الإسلامي الذي يقوم على أساس آخر، غير سيادة المالك وتبعية الفلاح. فالقدر الذي يستأجره الفلاح تحدده مقدرته المالية ورغبته الحرة؛ وهنا تكون الخدمة من الفلاح وإليه، ولا شأن للمالك بها غير استيفاء قيمة الإيجار. أما في المزارعة فمقدار الأرض التي يزرعها الفلاح يتوقف على مقدرته البدنية، وعدد الأيدي العاملة التي يملكها (أولاده في الغالب)، والخدمة المطلوبة هي ما تحتاج إليه هذه الأرض التي تعتبر مشتركة بين الفلاح والمالك حتى تؤتي ثمارها، أما بقية أرض المالك التي لم تدخل في المزارعة فلا شأن للفلاح بها، وليس مكلفاً بأي خدمة فيها.(1/59)
ولكن أهم ما يفرق بين الإقطاع والنظام الإسلامي في الواقع، هو ممارسة الشريف لأمور الحكم والقضاء في نظام الإقطاع، أي إشرافه على تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالنسبة لأهل منطقته، وانتفاء ذلك من أساسه في الإسلام.
لم يكن لدويلات أوربا قانون عام بالمعنى المفهوم، وحتى القانون الروماني الذي أصبح فيما بعد أساس التشريعات القانونية في أوربا كلها، قد أباح للإقطاعيين أن يكونوا هم الحكام المطلقين في إقطاعياتهم، يشرعون لها، ويحكمون بين أهلها، وينفذون الأحكام بمعرفتهم، فاجتمعت لهم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في آن واحد، وكان كل منهم دولة داخل دولة، لا شأن للحكومة به في داخل إقطاعيته طالما أنه يؤدي " التزاماته " المالية والحربية عند الاقتضاء.
ولم يكن كذلك الحال في الإسلام. فقد كانت هناك دولة مركزية ذات قانون عام، تشرف على تنفيذه في كل الأرض التابعة لها، وتعين قضاة لكل منهم سلطته المستقلة المستمدة من تعيين الحاكم له، ليقوم بتنفيذ الشريعة في حدود اختصاصه، وليس لأحد عليه من سلطان إلا حين يخطئ أو يسيء. وحتى حين فسدت صورة الحكم فصار ملكاً وراثياً لا بيعةً حرة، فقد بقيت المقومات الأخرى لنظام الحكم الإسلامي قائمة راسخة، فظلت الدولة تهيمن على كل كبيرة وصغيرة داخل أجزائها، وظل القانون العام مرعياً في كل مكان يتحاكم الناس إليه في مشارق الأرض ومغاربها بطريقة واحدة - في حدود اختلاف الفقهاء بطبيعة الحال، وهو أمر يحدث في كل قانون على ظهر الأرض - لذلك لم يكن هوى الشريف ولا مشيئته الخاصة هي القانون الذي ينفذ على الفلاحين، بل إرادة الله، وشرعه الذي وضعه لجميع الناس يطبق عليهم بالسوية وبصورة واحدة، لا بين الفلاح وصاحب الأرض فقط وكلاهما من الأحرار، بل بين العبد والسيد، حتى في الحالة الاستثنائية التي يكون فيها بشر ملكاً لبشر آخر.(1/60)
ولا شك انه حدثت حالات قضى فيها قضاة بما يخالف ضميرهم، وما يخالف الشرع، إرضاء لصاحب الأرض أو صاحب السلطان. ولكن هذه الأمثلة لا يجوز أن تؤخذ على أنها القاعدة السارية. لأن الواقع التاريخي - الذي اعترف به الأوربيون أنفسهم - يخالف ذلك. كما أنه لا يجوز أن تؤخذ وحدها وتهمل تلك الأمثلة الرائعة في تاريخ البشرية كلها، حين كان القاضي يحكم للرجل الفقير الذي لا حول له ولا قوة، لا ضد صاحب الأرض، ولا ضد الوالي ولا ضد واحد من الوزراء. بل ضد الخليفة نفسه صاحب الأمر كله والسلطان.. ثم لا يعزل القاضي، ولا ينتقم السلطان!
كذلك لم تحدث حركة فرار بين الفلاحين كما حدث في أوربا، لأن الفلاحين كانوا أحرارا في الانتقال لا من مزرعة إلى مزرعة فحسب، بل من قطر إلى قطر في داخل العالم الإسلامي الواسع الممتد من المحيط إلى المحيط، لا يحبسهم عن حرية التنقل شيء إلا أن يكون رغبتهم الخاصة في البقاء في بقعة معينة من الأرض، كما هي طبيعة الفلاحين المصريين مثلاً. ولكن غيرهم من الفلاحين في العالم الإسلامي كانوا أقل شعوراً برابطة الأرض وأكثر قدرة على التنقل، فلم يقف في سبيلهم مانع من الموانع التي وقفت في سبيل الفلاحين الأوربيين من تبعية والتزامات.
وأما شراء الفلاحين لحريتهم بالمال فإنه لم يحدث بطبيعة الحال في العالم الإسلامي، لسبب بسيط هو أنهم كانوا أحراراً بالفعل، فلا حاجة بهم إلى شراء الحرية.(1/61)
يضاف إلى ذلك كله، أن العالم الإسلامي كان يشتمل على عدد كبير من الملكيات الصغيرة التي يستقل بها أصحابها ويكفون بها حاجتهم، إلى جانب العمل في التجارة البرية والبحرية، وفي أنواع الحرف الصناعية التي كانت معروفة في ذلك الحين، مما ينفي نفياً باتاً صورة الإقطاع المظلمة الحالكة التي خيمت على أوربا في العصور الوسطى، وظلت تنشر معها الظلام الفكري والجهالة الروحية، حتى أنقذها منها الاتصال بالعالم الإسلامي في الحروب الصليبية مرة، وفي الأندلس مرة أخرى، فأفاقت من غشيتها في عصر النهضة، وبدأت تخرج من الظلمات إلى النور.
* * *
وهكذا نجد أن الإقطاع لم يقم قط في العالم الإسلامي، طالما كان الإسلام هو الذي يحكم المجتمع، لأنه بروحانياته واقتصادياته، وعقائده وتشريعاته، لا يسمح بقيام الإقطاع، ولا يسكت عن الوسائل التي تؤدي إليه. وحتى مظاهر الإقطاع التي كانت تحف بالأسر المالكة من بني أمية وبني العباس، فقد كانت محدودة النطاق ولم تكن تبلغ أن تكون سمة عامة للمجتمع، فضلاً على كونها مخالفة في جوهرها لحقيقة الإقطاع.(1/62)
وإنما وجد الإقطاع حقاً في البلاد الإسلامية في العصر الحديث في أواخر الحكم العثماني، حين جفت ينابيع العقيدة في النفوس، وتوالى على الحكم أقوام لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه. من الباشوات العثمانيين، من أمثال محمد علي (الكبير!) وأبناءه في مصر، والبيوت المالكة في شتى البلاد الإسلامية، وزاد الأمر سوءاً حين طغت الروح الأوربية المادية الجاحدة على ربوع العالم الإسلامي بتأثير الاحتلال، فأفسدت روح البر والتكافل في المجتمع، وحولتها إلى استغلال بشع من الأغنياء، وذل وعبودية للفقراء، في التفاتيش الملكية وتفاتيش الأمراء وغيرهم من كبار الإقطاعيين، وما يزال هذا الإقطاع يعيش بكل مقوماته - الأوربية - في كل مكان لم تشمله روح الإصلاح، وهو ليس من الإسلام، وليس الإسلام مسئولاً عنه، لأنه لا يكون مسئولاً إلا حين يحكم. والذي يحكم اليوم هو الدساتير الأوروبية التي جاء بها قوم من تلاميذ الاستعمار يتشبثون بها كما يتشبث العبيد بذل الاسترقاق!
* * *
ومن هذا البحث نستطيع أن نستخلص جملة حقائق تنفعنا ونحن نستعرض صراع المبادئ والمذاهب الذي يشتد أواره اليوم في العالم الحديث.
من هذه الحقائق:
أولاً: انه ليست الملكية في ذاتها هي التي تنشئ الإقطاع بطريقة حتمية لا إرادة للإنسان فيها. و إنما هي طريقة التملك وطبيعة العلاقة بين الملاك وغير الملاك. ولذلك وجدت الملكية في العالم الإسلامي ولم يوجد الإقطاع، لان النظام الإسلامي بنظرياته وتطبيقاته ينشئ بين الناس علاقات لا تسمح بقيام الإقطاع.(1/63)
ثانياً: أن أوربا حين وقعت في الإقطاع تقع فيه لأنه طور اقتصادي طبيعي لا بد أن تمر فيه البشرية أرادت أم لم ترد، وإنما هي انحدرت إليه بسبب عدم وجود نظام ولا عقيدة تنظم مشاعر الناس وتنظم علاقاتهم. ولو وجد النظام والعقيدة - كما حدث في الإسلام - لما استعصت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية على التنظيم، ن ولما كان التطور الاقتصادي قوة جبرية على الأفكار والمشاعر تمنع توجيهها إلى حيث يراد لها من التحرر والارتفاع.
ثالثاً: أن الأطوار الاقتصادية التي ترسمها نظرية المادية الجدلية على أنها تاريخ عام للبشرية، وهي: الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية الثانية، لا تمثل في الواقع إلا تاريخ أوربا فقط، ولا تتقيد بها إلا أوربا، أما بقية العالم فليس حتماً أن يسير في هذه الأطوار- وقد رأينا أن العالم الإسلامي لم يمر بالإقطاع في دورة التاريخي - وليس حتماً كذلك أن يصل إلى الشيوعية في نهاية المطاف!
الاسلام... والرأسمالية
لم تنشأ الرأسمالية في العالم الإسلامي لأنها نشأت بعد اختراع الآلة. وهذا تم - كما نعلم - في العالم الغربي. ولم يكن ذلك حتماً، لأنه كان يمكن أن يحدث في الأندلس على يد العرب المسلمين، لو استمرت الدولة الإسلامية قائمة هناك، ولم يقتلها التعصب الديني، ومحاكم التفتيش التي تمثل أبشع ما حدث في تاريخ العالم من اضطهاد بسبب العقيدة، والتي كانت موجهة في حقيقتها إلى المسلمين.
نعم. كانت الحركة العلمية في الأندلس سائرة في طريقها الطبيعي إلى اختراع الآلة، ولكن الظروف السياسية التي طردت المسلمين من هناك أخرت التقدم العلمي عن موعده بضعة قرون حتى أفاقت أوربا من غشيتها، وتسلمت علوم المسلمين، وعلوم الإغريق التي كانت هي الأخرى في رعاية الجامعات الإسلامية، وانطلقت - من ثم - تشق طريقها في متدان الاختراع.(1/64)
وإنما انتقلت الرأسمالية إلى العالم الإسلامي وهو مغلوب على آمره، واقع في قبضة الأوربيين، غارق في الفقر والجهل والمرض والتأخر، فسرت فيه بحكم " التطور "، وظن بعض الناس - لذلك - أن الإسلام يقبل الرأسمالية بخيرها وشرها، وانه ليس في نظمه وتشريعاته ما يعارضها أو يقف دونها، لأنه يبيح الملكية الفردية، وهذه قد صارت بحكم التطور الاقتصادي العالمي إلى ملكية رأسمالية. وما دام الإسلام يبيح الأصل فهو يبيح النتائج بطبيعة الحال!
وكان يكفي للرد على هؤلاء أن نذكر بديهية صغيرة يعرفها كل من درس الاقتصاد. وهي أن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم وتأخذ صورتها الواسعة التي هي عليها اليوم بغير الربا والاحتكار، والإسلام قد حرمهما كليهما قبل نشوء الرأسمالية بأكثر من ألف عام!
ولكنا لا نريد أن نتعجل الرد على أولئك المبطلين، ونريد أن نفترض أن اختراع الآلة قد نشأ في العالم الإسلامي - كما كان يمكن أن يحدث - فكيف كان الإسلام سيواجه التطور الاقتصادي الذي سينشأ لا محالة نتيجة اختراع الآلة، وكيف كان سينظم علاقات العمل والإنتاج في ظل نظمه وتشريعاته؟
يجمع كتاب الاقتصاد حتى المعادون منهم للرأسمالية - وعلى رأسهم كارل ماركس على أن الرأسمالية في نشأتها كانت خطوة تقدمية جبارة، وأنها أدت خدمات هائلة للبشرية في شتى مناحي الحياة، فقد زادت الإنتاج، وأصلحت وسائل المواصلات، واستغلت موارد الطبية على نطاق واسع لم يكن متاحا من قبل، ورفعت مستوى الحياة بالنسبة لطبقة العمال عما كانوا عليه في عهد الاعتماد الكلي أو الرئيسي على الزراعة.(1/65)
ولكن هذه الصفحة المشرقة لم تدم طويلاً، لان الرأسمالية - بتطورها الطبيعي كما يقولون - قد أدت إلى تكدس الثروات في أيدي أصحاب رؤوس الأموال، وتضاؤلها النسبي المتزايد في أيدي العمال. فصار صاحب رأس المال يشغل العامل - وهو وحده المنتج الحقيقي في نظر الشيوعية - لإنتاج أكبر قدر من المنتجات، ويعطيه أجراً ضئيلاً لا يفي بالحياة الكريمة لجمهور العمال - الكادحين - مستخلصاً لنفسه " فائض القيمة " في صورة أرباح فاحشة يعيش بها حياة ترف فاجرة لا تقف عند حد.
هذا فضلاً على حقيقة أخرى: وهي أن ضآلة أجر العامل تمنعه من استهلاك كل إنتاج المصانع في البلاد الرأسمالية، لأنه لو أخذ من الأجر ما يكفي لاستهلاك الناتج كله أو معظمه لانتفى ربح رأس المال أو لتضاءل إلى أقصى حد. وهذا ما لا تسمح به الرأسمالية لأنها تنتج للربح أولاً قبل كل شيء. ومن هنا تتكدس البضائع سنة بعد سنة، وتبحث الدول الرأسمالية عن أسواق جديدة لتصريف بضائعها. فينشأ الاستعمار، وما يتلوه من تطاحن على الأسواق وعلى موارد المواد الخامة ينتهي بالحروب المدمرة..
ومع ذلك كله فلا بد أن تحدث في ظل النظام الرأسمالي أزمات دورية نتيجة الانكماش الذي ينشأ من ضآلة الأجور وضآلة الاستهلاك العالمي بالنسبة للإنتاج المتزايد..
وبغض النظر عن التفكير العجيب الذي يجعل دعاة المادية والمؤمنين بجبرية الاقتصاد يقولون: إن هذا كله لا ينشأ عن سوء نية أصحاب رؤوس الأموال ولا رغبتهم الذاتية في الاستغلال، وإنما هذا من طبيعة رأس المال!! بغض النظر عن هذا التفكير الساذج العجيب الذي يجعل الإنسان كله بأفكاره ومشاعره مخلوقاً سلبياً لا حول له ولا قوة أمام قوة الاقتصاد.. فإننا نعود إلى الفرض الذي افترضناه. وهو نشأة الرأسمالية في العالم الإسلامي.(1/66)
فأما الخطوات الأولى التي يجمع كتاب الاقتصاد بما فيهم كارل ماركس على أنها كانت خيراً عميماً للبشرية، أو على الأقل كان الخير فيها غالباً على الشر فان الإسلام لم يكن ليقف في سبيلها، لأنه لا يكره الخير للبشرية، بل مهمته الدائمة هي نشر الخير في ربوع الأرض.
ومع ذلك فهو لم يكن ليتركها وشأنها بدون تشريع ينظم علاقاتها، ويمنع ما قد يصاحبها من سوء استغلال، سواء كان ناشئاً من نية خبيثة عند صاحب رأس المال، أو كان من طبيعة رأس المال ذاته دون دخل لصاحبه فيه!
والمبدأ التشريعي الذي وضعه الفقه الإسلامي في هذا الباب - وسبق به كل الدول الرأسمالية على الإطلاق - هو اعتبار العامل شريكاً في الربح مع صاحب رأس المال. وذهب بعض فقهاء المذهب المالكي إلى حد تحديد الشركة بالنصف، على أن يدفع صاحب المال جميع التكاليف، ويستقل العامل بعمل يده، فجعل جهد صاحب المال في إنتاج المال مساوياً لجهد العامل في صناعة الإنتاج، وساوى بين نصيبهما في الربح على هذا الأساس.
وأول ما يبدو هنا في هذا المبدأ هو حرص الإسلام العجيب على العدالة، وسبقه في التفكير فيها والعمل عليها، تطوعاً منه وإنشاء، لا خضوعاً للضرورات الاقتصادية - التي لم تكن قد وجدت بعد بصورة فعالة يحس بضغطها الفقهاء - ولا نتيجة للصراع الطبقي الذي يزعم بعض دعاة المذاهب الاقتصادية أنه العامل الوحيد الفعال في تطور العلاقات الاقتصادية!
وقد كانت الصناعة في مبدأ عهدها صناعة يدوية بسيطة، يشتغل فيها القليل من العمال في مصانع بسيطة، فكان هذا التشريع الذي أشرنا إليه كفيلاً بإقامة العلاقات بين العمل ورأس المال على أساس من العدالة لم تحلم بها أوربا في تاريخها الطويل.(1/67)
ولكن الفقه الإسلامي وقف عند هذا الحد - هو حد رفيع في ذاته - لأن العالم الإسلامي بعد ذلك تناوشته المصائب من كل صوب، من التتار مرة، ومن الحكام الجبابرة مرة، ومن نكبة الأندلس، ومن المنازعات الداخلية التي صرفت طاقة المسلمين عن التقدم، وحولتها إلى بلادة ذهنية وروحية وحسية ظل يعاني آثارها إلى وقت قريب.
وفي أثناء وقوف الفقه الإسلامي كان العالم يتطور بسرعة بعد اختراع الآلة الميكانيكية، وكانت تستجد كل يوم أحداث جديدة، وعلاقات جديدة بين طوائف البشر، لم يشترك فيها العالم الإسلامي، ولم يضع لها من الفقه ما يناسب تطورها.
ولكن الفقه شيء والشريعة شيء آخر، الشريعة هي المصدر الثابت الذي يحتوي المبادئ العامة (ويحتوي أحياناً تفصيلات دقيقة كذلك).
أما الفقه فهو التطبيق المتطور الذي يستمد من الشريعة ما يناسب كل عصر، وهو عنصر متجدد لا يقف عند عصر ولا جيل.
على أننا إزاء تطور الرأسمالية لم نكن في حاجة إلى تعب كبير في استنباط التطبيق الفقهي من الشريعة، لأنها أمدتنا بمبادئ صريحة واضحة لا تحتمل التأويل.
يقول مؤرخو الاقتصاد إن الرأسمالية في أثناء تطورها من صورتها البسيطة الخيرة التي كانت عليها في مبدأ الأمر، إلى صورتها الفاحشة التي وصلت إليها اليوم، أخذت تعتمد رويداً رويداً على الديون الأهلية، ومن هذه نشأ نظام المصارف التي تنظم العمليات الرأسمالية الكبرى، وتقرضها ما تحتاج إليه من الأموال لتشغيلها في مقابل ما تأخذه من " الفوائد " والأرباح.
ولا نحتاج هنا أن ندخل في تفصيلات اقتصادية معقدة، فهذه حقيقة مسلم بها، وليرجع لكتب الاقتصاد من يرغب في الاطلاع على التفصيلات. وإنما يهمنا أن نشير إلى أن هذه القروض، وجملة من أعمال المصارف، قائمة على الربا وهو محرم تحريماً صريحاً في الإسلام.(1/68)
كذلك يقول الاقتصاديون - وهو أمر مشاهد في الوقت الحاضر - إن المنافسة الرأسمالية العنيفة تؤدي في النهاية إلى تحطيم الشركات الصغيرة، أو اندماجها بعضها في بعض لتأسيس شركة كبيرة، وهذا وذلك يؤديان حتماً إلى الاحتكار في نهاية المطاف. والاحتكار حرام في الإسلام بنص أحاديث الرسول القاطعة بشأنه. (42)
وعلى ذلك فلم يكن من الممكن أن تتطور الرأسمالية - لو نشأت في أحضان الإسلام - إلى صورتها الفاحشة التي وصلت إليها اليوم، والتي تؤدي إلى سوء الاستغلال، والاستعمار والحروب. وإذن فكيف كان يكتب لها أن تسير؟ هل تقف عند حد الصناعات البسيطة التي وصل إليها الفقه الإسلامي أم تتخذ طريقاً أخر يكون فيه الخير ولا يقع الشر المرهوب؟
أما وقف الصناعة فهو عملية لا يشير بها الإسلام، ولا بد للاختراع أن يأخذ طريقه، ويؤثر حتماً في وسائل الإنتاج الكبير (Mass Production) في النهاية.
وأما تطور علاقات الإنتاج بصورة أخرى غير ما حدث في أوربا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فهذا هو الذي كان يمكن أن يكون، بتنمية التشريعات الاقتصادية وفق نظريات الإسلام الخاصة، كما سبق الإسلام بمسألة نصف الربح في موضوع الأجور.
وبهذا كان الإسلام يتفادى أمرين في وقت واحد: يتفادى اللجوء إلى الربا والاحتكار اللذين تحرمهما شريعته، ويتفادى الظلم الشنيع الذي يقع على العمال حين يتركون فريسة لأصحاب رؤوس الأموال يستغلونهم أبشع استغلال ويمتصون دماءهم، ثم يتركونهم في حمأة الفقر المدقع والحياة المذلة لكبرياء الإنسان. وهو أمر لا يستطيع أن يقره الإسلام.(1/69)
ولا يقولنّ أحد إنه لم يكن من الممكن أن يطفر الإسلام إلى ذلك دفعة واحدة قبل أن يمر بالتجارب القاسية والصراع الطبقي والضغط الاقتصادي الذي يلجئه إلى تعديل تشريعاته، فها قد ثبت لدينا بديل قاطع أن الإسلام قد سبق تطور البشرية في مسألة الرق والرأسمالية البسيطة متطوعاً غير خاضع لضغط، وإنما مدفوعاً بفكرته الذاتية عن الحق والعدل الأزليين اللذين يسخر بهما فردريك إنجلز وغيره من الشيوعيين. كما ثبت أيضاً أن روسيا ذاتها قد انتقلت طفرة من الإقطاع إلى الشيوعية ولم تمر بالمرحلة الرأسمالية، فكانت - وهي الدولة التي اعتنقت آراء كارل ماركس - أكبر مكذب عملي لنظرية ماركس في تحديد المراحل التطورية التي " ينبغي " أن تمر فيها البشرية.
أما الاستعمار والحروب واستغلال الشعوب وكل ما صاحب الرأسمالية من شرور عالمية. فهو خارج من حساب الإسلام أصلاً بطبيعة الحال.(1/70)
فليس من مبادئه أن يستعمر أو يشن حرباً للاستغلال، لأن الحرب الوحيدة التي يقرها هي الحرب لدفع العدوان أو لنشر الدعوة حين تقف القوة المسلحة في سبيل الدعوة السلمية. ولا مجال في الإسلام لما يقوله الشيوعيون وإضرابهم من أن الاستعمار كان مرحلة حتمية في حياة البشرية لا يمكن أن تقف في سبيله المبادئ ولا قضايا الأخلاق، لأنه مسألة اقتصادية ناشئة من تكدس البضائع في البلاد المنتجة والحاجة إلى أسواق خارجية لتصريفها.. لا مجال لهذا الهراء كله لأنهم هم أنفسهم يقولون - أو على الأقل يزعمون - أن روسيا ستتصرف في هذه المشكلة بطريقة أخرى، هي زيادة نصيب العمال من الإنتاج أو تخفيض ساعات العمل، بحيث لا يتبقى فائض يحتاج في تصريفه إلى استعمار. والذي تزعم الشيوعية أنها اهتدت إليه ليس وقفاً عليها وحدها. على أن التاريخ يشهد أن الاستعمار نزعة قديمة في البشرية، ولم ينتج من الرأسمالية، وإنما الرأسمالية زادته حدة في العصر الحديث بما تملك من وسائل جديدة للتخريب، ولكنه كان في عهد الرومان لا يقل بشاعة عما هو اليوم من حيث المبدأ، ومن حيث استغلال الغالب للمغلوب. ويشهد التاريخ كذلك أن أنظف نظام في هذا الباب هو النظام الإسلامي، لأن حروبه - فما عدا قلة نادرة لا تحسب عليه - كانت بريئة من الاستغلال والاستذلال، فكان هو أولى النظم - لو نشأت فيه الصناعات الكبرى -أن يلجأ لحل مشكلة الفائض من الإنتاج بغير الاستعمار والحروب. على أن مشكلة الفائض من الإنتاج ذاتها إنما هي إفراز للنظام الرأسمالي بصورته هذه. فلو تغيرت أسسه ما وجدت المشكلة (43).(1/71)
هذا كله من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن ولي الأمر في الإسلام لا يقف عاجزاً أمام مشكلة تضخم الأموال في يد فئة قليلة من الناس، وبقاء المجموع في حالة من الشظف والحرمان. فهذا مخالف لمبادئه الصريحة التي تحتم توزيع المال بين الجميع: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " (44) وولي الأمر مكلف بتنفيذ الشريعة بكل طريقة يرى أنها توصله إلى ذلك ما دام لا يقع فيها لا ظلم ولا ضرر. وفي يده سلطة واسعة لهذا الشأن لا حدود لها إلا طاعة الله. على أن مجموعة الأنظمة الإسلامية في ذاتها تمنع ابتداء من هذا التضخم. ونشير هنا إلى نظام الإرث وتفتيته للثروة على رأس كل جيل. وإلى نظام الزكاة واقتطاعه واحداً من أربعين من رأس المال وربحه في كل عام. ونظام التكافل الذي يبيح في بعض الحالات التوظيف في رؤوس الأموال بالقدر الذي يحتاج إليه بيت المال للضرورات. ثم تحريم كنز المال. وتحريم الربا الذي هو العامل الأول والأساسي لتضخم رؤوس الأموال. ثم طبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم وقيامها على التكافل العام.(1/72)
ثم أن الضمانات التي كفلها الرسول الكريم لموظفي الدولة مشتملة على المطالب الأساسية للإنسان: " من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتخذ زوجة، أو ليس له خادم فليتخذ له خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة " (45) هذه الضمانات لا يمكن عقلاً أن تكون وقفاً على موظفي الدولة. وإنما هي المطالب الأساسية التي يحتاج إليها كل شخص وينالها بوسيلة من الوسائل مقابل العمل الذي يؤديه، سواء كان للدولة مباشرة، أو في حرفة يحترفها ويعود النفع منها على المجتمع. وإذا كانت الدولة قد تعهدت لموظفيها بكفالة هذه المطالب، فهي مكلفة كذلك أن تضمنها لكل فرد يعمل في أي عمل في الدولة. يؤيدنا في ذلك أن بيت المال يكفل العاجزين عن العمل لسبب من الأسباب - كالمرض أو الشيخوخة أو الطفولة.. الخ - ويكمل الحاجات الأساسية لمن تقصر بهم مواردهم الخاصة عن بلوغها. كل ذلك يدل دلالة واضحة على مسئولية الدولة في أن تكفل لعمال المصانع هذه المطالب الأساسية التي ذكرها الرسول في حديثه، بوسيلة من الوسائل. فليست الوسيلة هي المهمة - وهذه يحددها كل عصر بما يراه - وإنما المهم هو المبدأ الذي يكفل توزيع المغانم والمغارم على طوائف الأمة. وحين يكفل الإسلام هذه المطالب للعمال يكون قد حماهم من الاستغلال السيئ وكفل لهم الحياة الحرة الكريمة.
على أي حال لم يكن يمكن أن يسمح الإسلام بقيام الرأسمالية في صورتها البشعة التي نراها اليوم في الغرب " المتحضر " وكانت تشريعاته، الموجود منها مباشرة في صلب الشريعة، والمستحدث منها لمواجهة الظروف المتطورة في حدود المبادئ العامة للشريعة، كانت هذه التشريعات وتلك ستقف في سبيل شرور الرأسمالية، لا تسمح لها بما ترتكبه اليوم من استغلال لعرق الكادحين ودمائهم، ومن استعمار وحروب واسترقاق للشعوب.(1/73)
ولكن الإسلام - كعادته - لم يكن ليكتفي بالتشريعات الاقتصادية وغير الاقتصادية. فهو يلجأ كذلك إلى الدعوة الخلقية والروحية، التي يسخر بها الشيوعيون لأنهم يرونها - في أوربا - معلقة في الفضاء، غير قائمة على أساس عملي. ولكنها في الإسلام ليست كذلك. فهذا النظام العجيب لا يوجه دعوة للروح وأخرى للتنظيم الاقتصادي منفصلة هذه عن تلك، ولكنه يمزج بطريقته الفريدة بين تهذيب الروح وتنظيم المجتمع، فيوفق بين هذا وذاك، ولا يترك الفرد تائها حائراً يحاول التوفيق بين الواقع والمثال فلا يهتدي ولا يستطيع. إنه يقيم التشريع على أساس خلقي، ويجعل الدعوة الخلقية متمشية مع التشريع، فيلتقي الجانبان في نظام واحد، ويصبح كل منهما مكملاً للآخر موصلاً إليه، بلا تعارض ولا انفصال.
والدعوة الخلقية هنا تحرم الترف وتحاربه. وهل ينشأ من تضخم الأرباح في يد فئة قليلة من الناس إلا الترف البغيض والمتاع الحسي الغليظ؟ وتحرم ظلم الأجير وعدم توفيته أجره، وهل ينشأ تضخم الأرباح إلا من ظلم الأجراء؟ وتدعوا إلى إنفاق المال في سبيل الله - ولو خرج الإنسان عن كل ماله. وهل ينشأ الفقر الذي يعيش فيه أغلب الشعب إلا لأن الأغنياء ينفقون أموالهم على أنفسهم، ولا ينفقونها في سبيل الله (46)؟
والدعوة الروحية تربط الإنسان بالله، وتزهده في كل مغانم الأرض وملذاتها في سبيل مرضاة الله، وانتظاراً لثوابه في الآخرة.. وهل يتكالب الإنسان على تكديس المال ويسلك إلى ذلك سبيل الظلم والاستغلال وبينه وبين الله رابطة، أو في قلبه إيمان باليوم الآخر وما فيه من نعيم وعذاب؟
وهكذا تكون مهمة الدعوة الخلقية والروحية أن تمهد للتشريعات الاقتصادية التي تقف في سبيل الرأسمالية، حتى إذا جاءت هذه التشريعات لم تكن طاعتها ناشئة من خوف القانون، وإنما تنبعث هذه الطاعة كذلك عن رغبة في داخل الضمير.
* * *(1/74)
أما الرأسمالية التي تقوم اليوم في العالم الإسلامي بأبشع مظاهرها، فليست من الإسلام، والإسلام ليس مسؤولاً عنها. لأن الناس لا يحكمون الإسلام في حياتهم في قليل ولا كثير!
الإسلام... والملكية الفردية
هل الملكية الفردية نزعة فطرية؟
يصر الشيوعيون وأضرابهم على أنها ليست كذلك. ويقولون إنه في المجتمع الأول حيث كانت تسود الشيوعية الأولى، لم يكن هناك ملك خاص لأحد، وإنما كان كل شيء ملكاً للجميع، وكانت تسود الجميع روح المحبة والتعاون والإخاء. ولكن هذه الفترة الملائكية لم تدم طويلاً مع الأسف، فمنذ اكتشفت الزراعة دب الخلاف على الأرض المنزرعة وعلى وسائل الإنتاج. وبدأت الحروب.. وصار البشر إلى ما هو عليه اليوم من حب للملكية الفردية وتطاحن عليها. ولا خلاص لهم من هذا الشر المستطير إلا أن يرجعوا إلى حالتهم الأولى، حيث لا يكون هناك ملك خاص لأحد، وإنما يملك الجميع، وتعود روح المحبة والوئام فتسيطر على البشر!
* * *
ونترك الشيوعيين هنيهة، فنجد علماء النفس والاجتماع مختلفين فيما بينهم اختلافاً شديداً في تحديد ما هو فطري وما هو مكتسب في سلوك الإنسان ومشاعره وأفكاره. وهم مختلفون بطبيعة الحال في أمر الملكية الفردية: هل هي نزعة فطرية يولد بها الإنسان بصرف النظر عن الظروف المحيطة به، أم أنها من أثر البيئة، أي أن الذي يدفع الطفل إلى التشبت بلعبة وأشيائه هو عدم كفايتها، ومحاولة غيره أخذها منه، فحين يوجد عشرة أطفال ولعبة واحدة لا بد أن يتنازعوا عليها، ولكن حين يكون للأطفال العشرة عشرة لعب يكتفي كل واحد بلعبته ويبطل النزاع..
* * *
ولنا على هؤلاء وهؤلاء بعض الملاحظات:(1/75)
أولاً: أن أحداً من أولئك العلماء لم يستطع أن يجزم بأن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية، وكل ما قاله اليساريون منهم هو أنه لا يوجد دليل قاطع على أنها نزعة فطرية. وفرق بين هذا وبين النفي البات، ولو قد وجدوا دليلاً يقيناً ينفيها ما ترددوا في نفيها، لأنهم بعواطفهم ينفرون منها.
ثانياً: أن المثل الذي يضربونه - مثل الأطفال واللعب - ليست له الدلالة التي يريدون أن يستخرجوها منه. فحين يوجد عشرة أطفال وعشر لعب ثم يبطل النزاع بينهم، لا يدل ذلك على عدم وجود نزعة فطرية للملكية، وإنما يدل فقط على أن هذه النزعة - في الحالات السوية - يمكن أن ترضي بالمساواة المطلقة بين الجميع. وهذا لا ينفي أصلها، وإنما يحدد مداها. على أن المشاهد في مثل هذه الحالة أن الكثيرين من الأطفال يحاولون الحصول على أكثر مما في أيديهم بسلب زملائهم الآخرين لعبهم، ما لم يكن هنالك مانع خارج عن إرادتهم!
ثالثا ً: أن الفترة الملائكية التي يفترض الشيوعيون وجودها في المجتمع الأول (ونحن لا نملك دليلاً يقينياً عليها) لم تكن فيها وسائل إنتاج، فكيف كان يمكن أن يقوم النزاع على شيء غير موجود؟ كانت الأشجار تمدهم بالغذاء مباشرة وبلا جهد، وكان الصيد الذي يصطادونه يحتاج بطبيعته إلى الاشتراك فيه خوفاً من افتراس الوحوش لمن يخرج بمفرده (ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نجزم بأن أفراداً من الشجعان لم يكونوا يخرجون للصيد بمفردهم إثباتاً لشجاعتهم وتميزهم، وهذه مسألة مهمة جداً سنعود إليها بعد لحظة) ولم يكن في الإمكان تخزين الصيد لأنه ينتن، فلا بد من الإجهاز عليه في ساعته. فعدم التنازع هنا لا يدل بذاته على عدم وجود النزعة للملكية الفردية، وقد يكون ناتجاً من عدم وجود ما يتنازع عليه، بدليل أنه منذ اكتشفت الزراعة بدأ الصراع، أي تحركت النزعة الكامنة التي لم تكن تجد من قبل دافعاً للتحرك.(1/76)
رابعاً: أن أحداً لم ينف لنا قيام الصراع بين الرجال في ذلك الحين على " امتلاك " امرأة. فعلى الرغم من وجود " الشيوعية الجنسية " في تلك الفترة كما يزعم الشيوعيون فإن أحداً لم يزعم أنها كانت سائدة مائة في المائة في هذا المجتمع الأول، ولم يمنع وجودها من قيام المعارك على امرأة بعينها لأنها أجمل من غيرها في نظر المتعاركين. وهنا إحدى العقد التي نبحث عنها، والتي نعتقد أن لها أهميتها العظمى في الموضوع. فحيث تكون كل الأشياء متشابهة ومتساوية قد يبطل الصراع. أما حين تختلف القيم والأشياء علواً وسفلاً في نظر الناس، فهنا ينشأ الصراع والعراك حتى في المجتمع الملائكي الذي يتصوره الشيوعيون، ويبنون على وجوده كل أحلامهم عن المستقبل البعيد.
خامساً: وأخيراً أن أحداً لم ينف وجود الرغبة في التميز في ذلك المجتمع الأول. التميز بالشجاعة أو بالقوة أو بالصبر أو بأي صفة من الصفات. وهذه هي بعض القبائل التي تعيش اليوم في حالتها البدائية، والتي يقيس عليها الشيوعيون المجتمع الشيوعي الأول، تأبى تزويج بناتها إلا لمن يحتمل مائة جلدة بالسوط دون أن يضعف أو يتأوه. فلماذا؟ ولأي سبب يقبل الشاب على هذا الامتحان ويرغبون في إثبات التميز؟ وإذا كان كل شيء يسير على مبدأ المساواة المطلقة، فما الذي يدفع إنساناً أن يقول: أنا لست مساوياً للآخرين، بل أفضل منهم؟ هنا عقدة أخرى من العقد التي نبحث عنها ونعتقد بأهميتها. فعلى فرض أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية في ذاتها، فقد ارتبطت بنزعة فطرية أخرى هي حب التميز، ارتباطاً لم تنج منه منذ أول عصور البشرية.
* * *
ونترك هذه المباحث النظرية لنتحدث عن الملكية الفردية في الإسلام.(1/77)
يقول الشيوعيون إن الملكية الفردية قد صاحبها الظلم على مدار التاريخ، وإنه لا بد من إلغائها إذا أريد للبشرية أن تستقر وتهدأ من الصراع. وبصرف النظر عن إغفال الشيوعيون لأثر النزعات الفردية في تقدم البشرية، وإغفالهم لحقيقة أخرى هي أن البشرية لم تتقدم في فترة الشيوعية الأولى، وإنما بدأت تتقدم بعد النزاع على الملكية، أي أن الصراع ليس شراً خالصاً، وأن وجوده - ولكن في حدود معقولة - (47) ضرورة نفسية واجتماعية واقتصادية.
بصرف النظر عن هذا وذاك.. فإن الإسلام لا يسلم بأن الملكية الفردية في ذاتها هي منشأ الظلم الذي حل بالبشرية.(1/78)
وإنما نشأ الظلم الذي صاحب الملكية في أوربا أو في غير العالم الإسلامي عامة من أن " الطبقة " المالكة هناك هي التي تشرع وتحكم. فكان من الطبيعي أن تحكم لصالح نفسها، وأن تضع التشريعات التي تحمي مصالحها وتجور على مصالح الآخرين. أما في الإسلام فلا يوجد طبقة حاكمة، والقانون ليس من صنع طبقة معينة من طبقات الشعب، وإنما هو من صنع الله خالق الجميع. والناس سواسية في عرف الإسلام لا يتفاضلون فيما بينهم إلا بالتقوى، ولكنهم لا يتفاضلون أمام التشريع الذي يطبق بصورة واحدة على الجميع. (48) والحاكم في الإسلام رجل ينتخب انتخاباً حراً من الأمة المسلمة، فليست له مزية " طبقية " ترشحه للحكم. ثم هو بعد ولايته للأمر لا يملك إلا تنفيذ الشريعة التي لم يضعها هو وإنما وضعها الله. وسلطته على المحكومين مستمدة من قيامه بتنفيذ الشريعة لا أكثر. يقول أبو بكر الخليفة الأول: " أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ". فليس لشخصه مزية قانونية يمنح بها نفسه أو غيره امتيازاً في التشريع. ومن ثم فهو لا يملك أن يميز طبقة من الشعب على طبقة، ولا أن يخضع للنفوذ السياسي للملاك، فبضع لهم تشريعات تحمي مصالحهم بالجور على مصالح غير الملاك. ونحن هنا نتحدث عن الفترة التي طبق فيه الإسلام على حقيقته، ولا ننظر إلى الفساد الذي دخل عليه بعد تحوه إلى ملك عضوض. لأن ذلك ليس إسلاماً، ولا يمكن أن يكون الإسلام مسئولاً عنه. وقصر الفترة التي طبق فيها الإسلام بكل عدالته ومثاليته لا تعني أنه نظام خيالي غير قابل للتطبيق في الواقع، فالذي حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى. والناس مطالبون باستعادة تلك الفترة. وهي اليوم أقرب إلى التحقيق مما كانت على أيدي أجدادهم فيما مضى من التاريخ (49).(1/79)
في النظام الإسلامي إذن لا يشرع الملاك لأنفسهم، وإنما يخضعون كغيرهم لشريعة عامة تسوي بين الجميع في الحقوق الإنسانية والكرامة البشرية. فأما حين يحدث اختلاف في تفسير نص من النصوص - كما يحدث في كل قانون على وجه الأرض - فالفقهاء هم أصحاب الرأي فيه (50). ويشهد التاريخ أن فقهاء الإسلام الكبار لم يشرعوا لطبقة الملاك على حساب الكادحين، وإنما كانوا دائماً أقرب إلى توفية حقوق هؤلاء الكادحين، وتحقيق مطالبهم الأساسية. والمثال الذي ذكرناه في الفصل السابق - والذي يجعل العامل شريكاً بالنصف مع صاحب العمل - صريح فيما نقصد إليه.
والإسلام لا يسوء ظنه بالطبيعة البشرية إلى الحد الذي يسلم فيه بأن الملكية دائماً تعني الظلم والاستبداد. وقد بلغ في تربيته للنفس الإنسانية حداً رفيعاً جعل بعض الناس يملكون ومع ذلك " لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " (51) فيشركون معهم غيرهم في كل ما يملكونه دون ثمن ولا مقابل، ولا انتظار لشيء إلا رجاء عفو الله ومثوبته.
وهذه الأمثلة النبيلة - على ندرتها - لا يجوز إسقاطها من الحساب لأنها قبس النور الذي يشير إلى المستقبل، والذي يبشر بما يمكن أن تصل إليه الإنسانية في يوم من الأيام. وإن كان الإسلام - مع ذلك - لا يغرق في الأحلام، ولا يرع مصالح الأمة رهناً بالنوايا الطيبة التي قد توجد أو لا توجد، وإنما هو مع عنايته البالغة بتهذيب النفوس وتطهيرها يؤمن بالواقع العملي، ويضع التشريعات الكفيلة بتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً فيضمن الأمر من جانبيه، مصدقاً لقول عثمان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وقد وجدت الملكية فعلاً في التاريخ ولم يصحبها الظلم.(1/80)
وقد ضربنا في الفصلين السابقين مثالين من تاريخ الإسلام، أحدهما عن الملكية الزراعية، ورأينا أنها لم تؤد في العالم الإسلامي إلى الإقطاع الذي أدت إليه في أوربا، لوجود التشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي منعت الإقطاع، وكفلت لغير المالكين حياة كريمة تجعلهم بمنأى عن الخضوع لاستغلال المالكين.
والآخر عن الملكية الرأسمالية. وقد رأينا فيه أن الإسلام - على فرض نشوء الرأسمالية في ربوعه - كان سيبيح منها القدر الذي يغلب فيه الخير، وكان سيقف دون الطغيان والاستغلال بكل ما لديه من وسائل التشريع والتهذيب، فلا تؤدي الملكية إلى نتائجها السيئة التي يعانيها الغرب الرأسمالي اليوم. ثم أنه كذلك لم يبح الملكية على إطلاقها، فقد نص على أن الموارد العامة ملك مشترك للجميع. فحرم الملكية الفردية حيثما كانت العدالة تقتضي تحريمها، وأباحها حيث أمن الظلم واستذلال بشر لبشر.
ونضرب هنا مثلاً ثالثاً من غير العالم الإسلامي، هو دول الشمال في أوربا. فقد شهد الإنجليز والأمريكان والفرنسيون - وهم أكثر شعوب الأرض تبجحاً بالتميز العنصري والقومي - أنها أرقى دول العالم وأكثرها توازناً ومودة. وهي مع ذلك لم تلغ الملكية الفردية. وكل ما صنعته هو ضمان توزيع الثروة توزيعاً عادلاً يقرب الفجوة بين طبقات الشعب، ويعادل بقدر الإمكان بين ميزان الجهد والجزاء. فهي في هذا الشأن أكثر دول العالم تحقيقاً لجانب من فكرة الإسلام.(1/81)
ثم إنه لا يمكن الفصل بين نظام اقتصادي وبين الفلسفة الفكرية والاجتماعية التي تقوم وراءه. فإذا استعرضنا النظم الثلاثة التي يدعو لها الدعاة اليوم، وهي الرأسمالية والشيوعية والإسلام، وجدنا نظمها الاقتصادية وفكرة الملكية فيها مرتبطة ارتباطا وثيقاً بفكرتها الاجتماعية. فالرأسمالية - كما قلنا من قبل - تقوم على أساس أن الفرد كائن مقدس لا يجوز للمجتمع أن يحجر على حريته، ومن ثم تباح هناك الملكية الفردية بلا حدود. (52) والشيوعية تقوم على أساس أن المجتمع هو الأصل، والفرد لا كيان له بمفرده، فهي تضع الملكية في يد الدولة ممثلة المجتمع، وتحرم منها الأفراد.
أما الإسلام فله فكرة أخرى، ومن ثم فله اقتصاد آخر.
فأما فكرة الإسلام عن الفرد والجماعة فهي ترى أن الفرد كائن ذو صفتين في وقت واحد: صفته كفرد مستقل، وصفته كعضو في جماعة. وأنه يستجيب أحياناً لهذه الصفة أو تلك بصورة بارزة، ولكنه في النهاية مشتمل عليهما معاً ومستجيب لهما معاً.
وأما فكرته الاجتماعية المستمدة من تلك الفكرة، فهي لا تفصل بين الفرد والجماعة، ولا تضعهما في موضع التقابل كمعسكرين متصارعين يحاول أحدهما أن يغتال الأخر. وما دام كل فرد في ذات الوقت فرداً مستقلاً وعضواً في جماعة، فإن التشريع الذي يتمشى مع الفطرة يوازن بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية، ويوازن بين مصالح كل فرد وغيره من الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع، دون أن يفني إحدى النزعتين لحساب الأخرى، ودون أن يسحق الفرد لحساب المجتمع أو يفكك المجتمع لحساب فرد أو أفراد..(1/82)
ومن ثم فاقتصادياته تمثل هذه النظرة المتوازنة، التي تقع بين الرأسمالية والشيوعية، وتحقق أفضل ما في النظامين دون أن تقع في انحرافاتهما. فهي تبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ. ولكنها تضع لها الحدود التي تمنع بها الضرر. وتبيح للمجتمع - أو ولي الأمر ممثل المجتمع - أن ينظم هذه الملكية أو يعدلها كما ظهر له أن ذلك يحقق مصلحة للمجموع.
لذلك لا يضيق الإسلام بالملكية الفردية ما دام يملك أن يزيل بشتى الوسائل ما قد ينتج عنها من أضرار. وإن إبقاء الملكية من حيث المبدأ مع تقرير حق الجماعة في تنظيمها وتقييدها، خير في معاملة النفوس من إلغائها بتاتاً، على أساس غير صحيح: وهو أن الملكية ليست نزعة فطرية ولا ضرورة بشرية. وإن اضطرار روسيا أخيراً إلى إباحة ألوان من الملكية في حدود معينة لبرهان قوي على أن من الخير الاستجابة إلى الفطرة البشرية: خير للفرد وللمجموع على السواء.
* * *
على أننا نعود فنسأل: لماذا نلغي الملكية الفردية؟ ولأي هدف نطالب الإسلام بإلغائها؟
تقول الشيوعية إن إلغاءها هو السبيل الوحيد للتسوية بين البشر، وإبطال النزعة إلى السيطرة والسلطان. وقد ألغت روسيا ملكية وسائل الإنتاج.. فهل وصلت إلى الهدف الذي تنشده من وراء ذلك؟
ألم تضطر روسيا على يد ستالين إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لمن يجد في نفسه وفرة من النشاط والجهد مقابل أجور إضافية، فنشأ بذلك تفاوت في الأجور بين العمال أنفسهم؟
ثم هل تتساوى أجور الناس جميعاً في الإتحاد السوفييتي؟ هل يأخد المهندس أجراً كالعامل؟ وهل يأخذ الطبيب أجراً كالممرض؟ إن دعاة الشيوعية أنفسهم ليعلنون أن أعلى أجر في روسيا هو أجر المهندس، وأن الفنانين هم أكثر الناس دخلاً هناك. فيعترفون بتفاوت الأجور بين طوائف الشعب الروسي، فضلاً عن تفاوت الطبقة الواحدة كما حدث بين العمال.(1/83)
وأخيراً هل بطلت النزعة إلى السيطرة والرغبة في التمييز عن الآخرين؟ فكيف إذن يختار رؤساء النقابات ورؤساء المصانع ورؤساء الإدارات والقوميسيرات؟ وكيف يميز بين العضو النشيط وغير النشيط في الحزب الشيوعي الذي يحكم روسيا؟
أوَ ليس إذن في بنية الإنسانية هذا النزوع إلى السيطرة والتميز بصرف النظر عن إبقاء الملكية الفردية أو إلغائها؟
فإذا كان إلغاء الملكية لم يخلص البشرية مما تعتبره الشيوعية شراً مستطيراً لا يجوز السكوت عليه، فما الذي يدفعنا يا ترى إلى مصادمة الفطرة والتضييق عليها في سبيل هدف يأبى أن يتحقق من أي سبيل؟
أم يقولون إن الفوارق في روسيا بين طائفة وطائفة، أو بين فرد وفرد، فوارق قريبة لا تصل إلى حد الترف من جانب والحرمان من جانب؟
فنقول لهم: نعم! والإسلام كذلك - ومن قبل الشيوعية بألف وثلاثمائة عام - يجعل من مبادئه تقريب الفوارق بين الناس، وتحريم الترف والقضاء على الحرمان! ولكنه لا يكل هذا إلى التشريعات القانونية وحدها، إنما يكله كذلك إلى عقيدة الناس في الله وحبهم للخير، بجانب القوانين والتشريعات.
الإسلام... ونظام الطبقات
" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق.. " (53)
" ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات.. " (54)
أليس هذا وارداً في القرآن أيها المسلمون؟ فكيف تزعمون بعد هذا
أن الإسلام لايعترف بنظام الطبقات؟
* * *
نحتاج أولاً أن نعرف ما هو نظام الطبقات، لنعرف إن كان الإسلام يبيحه أم لا يبيحه.
فإذا استعرضنا تاريخ أوربا في العصور الوسطى مثلاً وجدنا طبقات النبلاء أو الأشراف، ورجال الدين، والشعب، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف بعضها عن بعض، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر.(1/84)
فرجال الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم. وكان لهم في تلك العصور سطوة كبرى، فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة، يريد أن يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب، ويريدون هم أن ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم. وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي وقفها عليهم المتدينون، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على الناس. بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان.
أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض. بحيث يولد الطفل فإذا هو شريف منذ مولده، ويظل شريفاً حتى يموت، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها في حياته، وقر بها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم!
ما امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على " الشعب " الموجود في الإقطاعية. كانوا هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي القانون الذي ينفذ على الشعب. وكانت تتكون منهم المجالس النيابية التي تشرع للبلاد، فكانت تشريعاتهم بطبيعة الحال تهدف إلى حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء صفة القداسة عليها.
أما الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات، وإنما عليه الواجبات كل الواجبات. وكان يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل.
ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم، هي الطبقة البرجوازية. وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب، قامت الثورة الفرنسية التي ألغت - في الظاهر - نظام الطبقات، وأعلنت - نظرياً - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.(1/85)
وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة ولكن من وراء ستار، ومع بعض التعديلات التي اقتضاها التطور الاقتصادي. ولكن الجوهر لم يتغير، فهي طبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم. وعلى الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات " الديمقراطية " فإن الرأسمالية تعرف طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات، وتنفذ بوسائلها الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف العنوانات.
بل ما يزال في إنجلترا - أم الديمقراطية كما كان يقال لنا - مجلس يسمى بصفة رسمية " مجلس اللوردات ". وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما عدا الابن الأكبر، منعاً لتفتيت الثروة، أي محافظة على ثروات " الأسر " لكي تبقى قائمة لا تزول، ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى.
هذا هو نظام الطبقات، يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان. تملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فتشرع لحماية نفسها، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة.
فإذا أدركنا ذلك فهمنا على الفور أنه لا يوجد نظام طبقات في الإسلام. فليست هناك أولاً مزايا تؤخذ بالميراث كما كان الحال في طبقة الأشراف في أوربا. ونخرج من حسابنا بطبيعة الحال وراثة العرش بغير بيعة حرة وقيام " طبقة " من الأمراء والنبلاء فذلك كله ليس بإسلام. ووجوده في الإسلام لا يزيد على وجود مسلمين يشربون الخمر أو يلعبون الميسر أو يتعاملون بالربا. ومع ذلك لا يمكن أن يزعم أحد أن الإسلام أباح الخمر والميسر والربا في يوم من الأيام.(1/86)
وليس هناك ثانياً قوانين تحتفظ بالثروة في يد قوم معينين يتوارثونها ولا تخرج من أيديهم. فقد كره الإسلام ذلك وقال صراحة: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ". ووضع من جهة أخرى قوانين لتفتيت الثروة بصفة دائمة، وإعادة توزيعها في المجتمع بنسب جديدة على الدوام، تلك هي قوانين الميراث التي توزع الثروة على عدد كبير من الأشخاص فلا يمر جيل حتى تكون قد تفرقت بين الناس. والحالات النادرة التي يرث فيها الثروة كلها ولد واحد لا إخوة له ولا أقرباء حالات شاذة لا يجوز الحكم بها ولا اعتبارها قاعدة ينتقد النظام كله من أجلها. ومع ذلك فإن الإسلام لم يتركها تمر اعتباطاً، فقد جعل في التركة نصيباً للمحرومين من غير أولي القربى يشبه ضريبة التركات في العصر الحديث: " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً " (55).
وبهذه الطريقة يعالج تكتل الثروات، ويجعل أصحاب الثروات أفراداً لا طبقة. أفراداً لا يلبثون أن يجتمعوا حتى يتفرقوا، بحكم توزع الثروة على نسب جديدة. والتاريخ الواقعي يشهد أن الثروات كانت دائمة الانتقال في المجتمع الإسلامي، وأن الغني اليوم قد يفتقر غداً، والفقير اليوم قد تهبط عليه الثروة من أي سبيل، فلا تقوم الحواجز المصطنعة بين أي شخص وبين الغنى أو الفقر حسب تصرفه الخاص وملابسات حياته الخاصة.
وأهم ما يعنينا إثباته هنا هو ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من أن التشريع الإسلامي ليس ملكاً لطبقة معينة. ولا يملك أحد أن يشرع على مزاجه في الدولة الإسلامية، لأن الشريعة السماوية المنزلة هي التي تحكم الجميع بلا محاباة لأحد ولا ظلم لأحد. ومن هنا ينتفي بتاتاً وجود طبقات في الإسلام، لأن وجود الطبقات مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بمزية التشريع. فإذا بطلت هذه المزية، ولم يكن في وسع أحد أن يصنع لنفسه قانوناً يحمي به مصالحه على حساب شخص آخر، فماذا بقي من نظام الطبقات؟(1/87)
وإذاً فما معنى الآيتين اللتين أثبتناهما في مقدمة هذا الفصل؟
إنهما لا تزيدان على إثبات الأمر الواقع في كل الأرض، في ظل الإسلام وفي غير الإسلام: أن الناس متفاوتون في المراتب والأرزاق. وإلا فلنأخذ روسيا مثلاً. هل جميع الناس يتناولون أجراً واحداً، أم إن بعضهم مفضل على بعض في الرزق؟ وهل جميعهم هناك رؤساء أم جميعهم مرؤوسون؟ أو هل جميعهم ضباط أو جميعهم جنود؟ أم إن بعضهم قد رفع درجات فوق بعض؟ إن هذا أمر لا معدي عنه، وهو حقيقة واقعة في كل مكان، والآيتان لا تشرحان سبباً معيناً للتفضيل، ولا تقيدان الناس كذلك بسبب معين. فهما لا تقولان إن التفضيل بسبب الرأسمالية أو بسبب الشيوعية أو بسبب الإسلام. ولا تقولان إن آثاره تكون دائماً عادلة بمقياس الأرض أو تكون ظالمة.. لا شيء من ذلك كله. إنهما فقط تقولان إن هذا هو الأمر الواقع في كل مكان. وكل ما على الأرض بطبيعة الحال داخل في إرادة الله. وإلا هل يعتقد الشيوعيون أن نفوذ الله - سبحانه - محدود بالعالم الإسلامي، كما كان بنو إسرائيل يعتقدون في سذاجة غبية أن نفوذ الله محدود بمصر وفلسطين، وأن ما يقع في بقية الأرض خارج عن نفوذ الله وإرادة الله؟!
* * *
شيء واحد من نظام الطبقات كان في الإسلام بتصريح القرآن، هو وجود طبقة الأرقاء. ولكنا تحدثنا عنهم بما فيه الكفاية، وقلنا إن الرق كله كان نظاماً اقتضته ظروف وملابسات معينة، ولكن الإسلام ليس حريصاً على إبقائه، فهو ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي، ولكنه يوجد بصورة عارضة، ثم يسعى الإسلام دائماً إلى تحريره.
ومع ذلك فكيف كان يعامل الإسلام الرقيق؟
لسنا في حاجة إلى تكرار ما قلناه في فصل الرق، ولكنا نذكر الحادثة الشهيرة التي وضع بها عمر أساس " الطبقات " في الإسلام!(1/88)
تلك قصة الشريف الذي ذهب للحج، يجر أذيال الكبر، ويتيه على عباد الله في عنجهية جاهلية لم يطهره منها دخوله - بالاسم - في الإسلام: " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ". وفي أثناء الطواف وقعت قدم " عبد " على طرف ثوبه الطويل الذي تتمثل فيه العنجهية والكبرياء، فما كان من الشريف إلا أن لطم العبد على وجهه جزاء وقاحته! فذهب العبد إلى عمر يشكو له فعل الشريف. فهل قال له عمر: لا عليك! فهذا شريف وأنت عبد، هو من طبقة وأنت من طبقة! هو يملك من الحقوق ما لا تملك! هل استصدر عمر تشريعاً يحمي به طبقة الأشراف من أن يدوس على ثيابها العبيد، أو تشريعاً يلزم العبيد بقبول لطمات السادة؟
كلا. إن ما حدث معروف في التاريخ، فقد أصر عمر على القصاص. على أن يلطم العبد هذا الشريف المتكبر ليرده إلى شريعة الله التي لا تفرق بين بشر وبشر في التشريع، حتى حين يتفاوتان في الرزق أو في الوضع الاجتماعي لسبب من الأسباب.
وعلم الشريف فكبرت عليه نفسه. وأخذته العزة بالإثم، وظل يحاول أن ينجو من حكم الشريعة الصارم الذي يسوي بينه وبين كل نفس آدمية في الوجود. فلما يئس فر من وجه عمر. وارتد في النهاية عن الإسلام!!
هذا هو الإسلام. لا طبقات ولا مزايا تشريعية للطبقات.
أما الثروة واختلاف الناس فيها فموضوع آخر لا يجوز أن يختلط في أذهاننا بمسألة الطبقات، ما دامت لا ترتب لمالكيها حقوقاً تشريعية أو قضائية ليست لبقية طوائف الشعب. وما دامت الشريعة - في واقع الأمر لا في المثل والخيالات - تطبق بطريقة واحدة على جميع الناس.
وقد رأينا أن الملكية الزراعية لم ترتب للملاك في الإسلام حقوقاً يستعبدون بها الآخرين أو يستغلونهم، وكذلك الحال في الملكية الرأسمالية لو وجدت في مجتمع إسلامي صحيح، ذلك أن الحاكم لا يستمد نفوذه من تأييد طبقة الملاك، وإنما من انتخاب الأمة له وقيامه بتنفيذ شريعة الله.(1/89)
يضاف إلى ذلك كله ما ذكرناه من قبل من أنه لا يوجد مجتمع في الأرض كلها قد تساوت الثروة فيه بين جميع السكان، حتى المجتمع الشيوعي الذي يقول - صادقاً أو كاذباً - إنه ألغى نظام الطبقات، وأبقى طبقة واحدة هي التي تملك وتحكم، وتفني غيرها من الطبقات!
الإسلام... والصدقات
أَوَهذه هي العدالة الاجتماعية التي تمنوننا بها يا دعاة الإسلام؟ أن يعيش الشعب عالة على الصدقات التي يدفعها المحسنون من الأغنياء؟ وتسمون هذه عدالة؟ وترضون لكرامة الناس هذا الهوان؟
كذلك يقول لك الشيوعيون والذين استعبد الاستعمار أرواحهم وأفكارهم فلم يعودوا يفقهون ما يقولون. وأبرز خطئهم وأخطره هو ظنهم أن الزكاة صدقة يتفضل بها الأغنياء على الفقراء. ولا يمكن أن يتصور المسألة على هذا الوضع إنسان له عقل سليم يرى الأمور في واقعها، لا كما يريد له السادة الذين يحركونه كما تحرك لعبة " الأراجوز "! فأبسط قدر من المنطق كفيل بأن يقنعهم أن الإحسان تطوع لا يفرضه حاكم ولا تشريع. والزكاة فريضة يقررها الشرع وتقاتل عليها الدولة الممتنعين عن أدائها، وتقتلهم إذا أصروا على امتناعهم، لأنهم حينئذ يعتبرون مرتدين. فهل يمكن أن يحدث شيء من ذلك في الإحسان المتروك لدافع الضمير؟!
إن الزكاة - من جانبها المالي - هي أول ضريبة نظامية في تاريخ الاقتصاد في العالم. فقد كانت الضرائب قبل ذلك تفرض حسب هوى الحكام وبقدر حاجتهم إلى الأموال لتنفيذ مآربهم الشخصية، وكان حملها يقع دائماً على الفقراء أكثر مما يقع على الأغنياء، أو عليهم وحدهم دون الأغنياء.
وجاء الإسلام فنظم جباية الأموال، فجعل لها نسبة معينة لا تتجاوزها - في الأحوال العادية - وجعل حملها على الأغنياء والمتوسطين وأعفى منها الفقراء.
هذه هي الحقيقة الأولى التي ينبغي أن تقر في أذهاننا بشأن الزكاة. وهي بديهية لا تحتاج في الواقع إلى جدل ولا برهان.(1/90)
والحقيقة الثانية أن الذي يوزع حصيلة الزكاة على الفقراء هو الدولة ذاتها لا الأغنياء بأشخاصهم. الدولة هي التي تجمعها وهي التي توزعها. وليس بيت المال إلا وزارة المالية التي تجمع الميزانية العامة ثم تعيد توزيعها على مختلف مرافق الدولة. فإذا كانت الدولة تقوم بكفالة المحتاجين - بسبب عجزهم الكامل عن الكسب، أوعدم كفاية مواردهم للحياة الكريمة - فليس هذا تفضلاً وإحساناً، وليس فيه ما يغض من كرامة المحتاجين. وهل يحس الموظفون الذين تمنحهم الدولة معاشاً أو العمال الذين تصرف لهم تأميناً أنهم متسولون يعيشون على حساب الأغنياء؟ والأطفال والشيوخ العاجزون عن الكسب.. هل يخدش كرامتهم أن تنفق الدولة عليهم من مالها ما دامت تقوم بذلك أداءً لواجبها؟ إن مبدأ كفالة الدولة هوأحدث المبادئ التي اهتدت إليها البشرية بعد تجارب كثيرة، وبعد تخبط طويل في الظلم الاجتماعي. فمن مفاخر الإسلام أنه قرره في وقت كانت أوربا تعيش في الظلمات. أم إن النظام يصبح جميلاً وبراقاً حين يأتينا من الغرب أو الشرق، ولكنه تأخر وانحطاط حين ينادي به الإسلام؟
والحقيقة الثالثة أنه إذا كانت حياة الناس في صدر الإسلام قد اقتضت أو تقبلت أن يأخذ الفقراء الزكاة نقداً أوعيناً في أيديهم، فليس في الإسلام ما ينص على أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتوزيع الزكاة. وليس هناك ما يمنع من إعطائها لمستحقيها في صورة مدارس مجانية يعلمون فيها أبناءهم، ومستشفيات مجانية يتداوون فيها، وجمعيات تعاونية تسهل لهم وسائل العيش، ومصانع أو مؤسسات يرتزقون منها رزقاً دائماً. إلى آخر ما يوحيه العصر الحديث من وسائل الخدمة الاجتماعية. فلا تعطى الزكاة نقداً إلا للعاجزين بسبب المرض أو الشيخوخة أو الطفولة.
ويأخذها غيرهم في صورة عمل وخدمات تحقق قوله تعالى: " وفي سبيل الله ".(1/91)
والحقيقة الرابعة أنه ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي أن يكون فيه فقراء يعيشون من أموال الزكاة. وقد وصل المجتمع الإسلامي إلى صورته المثالية في عهد عمر بن عبد العزيز حيث كانت الزكاة تجبى فلا يجد عمالها فقراء يوزعونها عليهم أو أحداً يقبلها منهم، وفي ذلك يقول يحيى
ابن سعيد: " بعثتي عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ".
وإنما الفقر أو الحاجة أمر يعرض لكل مجتمع، فلا بد من تشريع لمواجهته؛ وقد كان الإسلام يضم إليه باستمرار مجتمعات جديدة غير متوازنة الثروة، فكان لا بد من هذا التشريع حتى يصل بهذه المجتمعات رويداً رويداً إلى حالتها المثالية التي وصلت إليها في عهد عمر بن عبد العزيز.
* * *
ذلك شأن الزكاة. أما " الصدقات " الحقيقية، أي الأموال التي يخرجها الأغنياء تبرعاً وإحساناً، فقد أقرها الإسلام فعلاً ودعا إليها وجعل لها صوراً شتى. فمن إنفاق على الوالدين والأقربين، إلى إنفاق على المحتاجين عامة، إلى تصدق بالعمل الطيب والكلمة الطيبة.
ولا يقول أحد إن الإنسان حين يكرم أهله يكون مسيئاً لمشاعرهم، محقراً لهم، وإنما هو الود والتعاطف وجمع الشمل وتأليف القلوب. وحين تعطي أخاك هدية أو تولم لأقاربك وليمة تحييهم فيها وتقوم على خدمتهم، فلن تستثير بذلك حقدهم وكراهيتهم، أو شعورهم بالذلة والإنكسار.
أما إعطاء المساكين هبة عينية، فشأنه شأن الزكاة في صدر الإسلام، كانت الحياة تتقبله في ذلك الحين كوسيلة كريمة لإغاثة المحتاج وإعانة المكروب. ولكنه ليس سبيلاً واحدة مكتوبة فلا تبديل لها ولا فرار منها، وإنما السبل إليه شتى. ويمكن أن يأخذ شكل هبات للجمعيات أو المؤسسات التي تقوم بخدمة اجتماعية، ويمكن أن يساعد الدولة المسلمة في كل ما تحتاج إليه من أموال لتنفيذ مشروعاتها.(1/92)
ثم إن شأنه شأن الزكاة في ناحية أخرى. فما دام في المجتمع فقراء فلا بد من إعانتهم بكل السبل للاستمتاع بالحياة. ولكن ليس المفروض في المجتمع الإسلامي أن يكون فيه فقراء. فحين يصل إلى حالته المثالية فيستغني - كما حدث من قبل - عن الزكاة، فهو يستغني كذلك عن الإحسان، وتبقى لهذا وتلك مصارف محدودة لا يستغني عنها أي مجتمع في الأرض، وهي كفالة العاجزين عن العمل لأي سبب من الأسباب.
* * *
وإنما الحقيقة الكبرى التي يجب أن نذكرها هي أن الإسلام لم يجعل حياة أهله قط قائمة على الإحسان. وقد ذكرنا مبدأ كفالة الدولة للعاجزين، وارتفاعه عن أن يكون تفضلاً وإحساناً. ونذكر كذلك أن الدولة في الإسلام مكلفة بإيجاد عمل لكل قادر. ذهب رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله ما يعيش به فأعطاه فأساً وحبلاً وأمره أن يذهب فيحتطب، فيبيع ما احتطبه ويعيش منه، وأمره أن يعود إليه فيخبره بما صنع. وقد يحسب الذين لا يرون الأمور إلا بصورتها في القرن العشرين أن هذا مثال فردي لا دلالة له، فضلاً عن أن كل مشتملاته أته هي فأس وحبل ورجل واحد، بينما الحياة اليوم مصانع هائلة، وملايين من العمال المتعطلين، ودولة منظمة ذات فروع مختلفة الاختصاص! وهذا تفكير ساذج. فلم يكن مطلوباً من الرسول أن يتحدث عن المصانع أو يشرع لها قبل نشأتها بأكثر من ألف عام، ولو فعل ذلك لما فهم عنه أحد. إنما حسبه أن يضع الأسس العامة للتشريع، ويترك لكل جيل أن يستنبط التطبيقات المناسبة له في حدود هذه الأسس. وفي المثال الذي ذكرناه أسس صريحة: هي تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم أن ولي الأمر من واجبه إيجاد عمل لمن يحتاج إليه، وقد أكََّد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسئولية بقيامه بإيجاد العمل لذلك الرجل - حسب طبيعة البيئة يومئذ - وبطلبه منه العودة إليه وإخباره بحاله. وهذه المسئولية هي التي اهتدت إليها أحدث النظريات في السياسة والاجتماع. فأما حين تعجز الدولة عن(1/93)
إيجاد العمل لسبب خارج عن إرادتها، فهناك بيت المال تكفل منه المحتاجين حتى تذهب الحاجة عنهم، وهم كرماء على أنفسهم وعلى الدولة وعلى الناس.
الإسلام... والمرأة
في الشرق اليوم " هيجة " تسمى حقوق المرأة! والمطالبة بالمساواة الكاملة مع الرجل.
وفي وسط هذه " الهيجة " التي تشبه الحمى، يهذي بعض المحمومين والمحمومات باسم الإسلام. بعضهم - للتوريط - يقول إن الإسلام قد سوى بين الجنسين في كل شيء، وبعضهم - جهلاً منه أو غفلة - يقول إن الإسلام عدو للمرأة ينتقص كرامتها ويهين كبرياءها، ويحطم شعورها بذاتيتها، ويدعها في مرتبة أقرب للحيوانية، متاعاً حسياً للرجل وأداة للنسل ليس غير.. وهي في هذا في موضع التابع من الرجل يسيطر عليها في كل شيء، ويفضلها في كل شيء.
وهؤلاء وأولئك لا يعرفون حقيقة الإسلام، أو يعرفونها ثم يلبسون الحق بالباطل ابتغاء الفتنة ونشراً للفساد في المجتمع، ليسهل الصيد لمن يريد الصيد في الأقذار.
وقبل أن نبين حقيقة وضع المرأة في الإسلام، يجدر بنا أن نلم إلمامة سريعة بتاريخ قضية المرأة في أوربا، فهي منبع الفتنة التي فتنت الشرق عن طريق التقليد.
* * *
كانت المرأة في أوربا وفي العالم كله هملاً لا يحسب له حساب. كان " العلماء " والفلاسفة يتجادلون في أمرها. هل لها روح أم ليس لها ورح؟ وإذا كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم حيوانية! وعلى فرض أنها ذات روح إنسانية فهل وضعها الاجتماعي و" الإنساني " بالنسبة للرجل هو وضع الرقيق، أم هو شيء أرفع قليلاً من الرقيق!(1/94)
وحتى في الفترات القليلة التي استمعت فيها المرأة بمركز " اجتماعي " مرموق سواء في اليونان أو في الإمبراطورية الرومانية، فلم يكن ذلك مزية للمرأة كجنس وإنما كان لنساء معدودات، بصفتهن الشخصية، أو لنساء العاصمة بوصفهن زينة للمجالس، وأدوات من أدوات الترف التي يحرص الأغنياء والمترفون على إبرازها زهواً وعجباً، ولكنها لم تكن قط موضع الاحترام الحقيقي كمخلوق إنساني جدير بذاته أن يكون له كرامة بصرف النظر عن الشهوات التي تحببه لنفس الرجل.
وظل الوضع كذلك في عهود الرق والإقطاع في أوربا، والمرأة في جهالتها، تدلل حيناً تدليل الترف والشهوة، وتهمل حيناً كالحيوانات التي تأكل وتشرب وتحمل وتلد وتعمل ليل نهار.
حتى جاءت الثورة الصناعية فكانت الكارثة التي لم تصب المرأة بشر منها في تاريخها الطويل.
لقد كانت الطبيعة الأوربية في جميع عهودها كزة جاحدة، لا تسخو ولا ترتفع إلى مستوى التطوع النبيل الذي يكلف جهداً ولا يفيد مالا أو نفعاً قريباً أو غير قريب. ولكن الأوضاع الاقتصادية في عهدي الرق والإقطاع، والتكتل الذي كانا يستلزمانه في البيئة الزراعية، جعلا تكليف الرجل إعالة المرأة هو الأمر الطبيعي الذي تقتضيه الظروف، فضلاً عن أن المرأة كانت " تعمل " في المنزل في الصناعات البسيطة التي تتيحها البيئة الزراعية، فكانت تدفع ثمن إعالتها بهذا العمل!
ولكن الثورة الصناعية قلبت الأوضاع كلها في الريف والمدينة على السواء. فقد حطمت كيان الأسرة وحلت روابطها بتشغيل النساء والأطفال في المصانع. فضلاً عن استدراج العمال من بيئتهم الريفية القائمة على التكافل والتعاون، إلى المدينة التي لا يعرف فيها أحدٌ أحداً، ولا يعول أحد أحداً، وإنما يستقل كل إنسان بعمله ومتعته؛ وحيث يسهل الحصول على المتعة الجنسية من طريقها المحرم، فتهبط الرغبة في الزواج وكفالة الأسرة، أو تتأخر سنوات طويلة على الأقل (56).(1/95)
وليس همنا هنا استعراض تاريخ أوربا. ولكنا نستعرض العوامل التي أثرت في حياة المرأة فحسب.
قلنا إن الثورة الصناعية شغّلت النساء والأطفال. فحطمت روابط الأسرة وحلت كيانها. ولكن المرأة هي التي دفعت أفدح الثمن من جهدها وكرامتها، وحاجاتها النفسية والمادية. فقد نكل الرجل عن إعالتها من ناحية، وفرض عليها أن تعمل لتعول نفسها حتى لو كانت زوجة وأماً! واستغلتها المصانع أسوأ استغلال من ناحية أخرى، فشغلتها ساعات طويلة من العمل، وأعطتها أجراً أقل من الرجل الذي يقوم معها بنفس العمل في نفس المصنع.
ولا نسأل لماذا حدث ذلك، فهكذا هي أوربا، جاحدة كزة كنود، لا تعترف بالكرامة للإنسان من حيث هو إنسان، ولا تتطوع بالخير حيث تستطيع أن تعمل الشر وهي آمنة.
تلك طبيعتها على مدار التاريخ، في الماضي والحاضر والمستقبل إلا أن يشاء الله لها الهداية والارتفاع.
وإذ كان النساء والأطفال ضعافاً، فما الذي يمنع من استغلالهما والقسوة عليهما إلى أقصى حد؟ إن الذي يمنع شيء واحد فقط، هو الضمير. ومتى كان لأوربا ضمير!؟
ومع ذلك فقد وجدت قلوب إنسانية حية لا تطيق الظلم. فهبت تدافع عن المستضعفين من الأطفال. نعم الأطفال. فقط! فراح المصلحون الاجتماعيون ينددون بتشغيلهم في سن مبكرة، وتحميلهم من الأعمال مالا تطيقه بنيتهم الغضة التي لم تستكمل نصيبها من النمو، وضآلة أجورهم بالنسبة للجهد العنيف الذي يبذلونه. ونجحت الحملات، فرفعت رويداً رويداً سن التشغيل، ورفعت الأجور وخفضت ساعات العمل.
أما المرأة فلم يكن لها نصير. فنصرة المرأة تحتاج إلى قدر من ارتفاع المشاعر لا تطيقه أوربا! لذلك ظلت في محنتها تنهك نفسها في العمل - مضطرة لإعالة نفسها - وتتناول أجراً أقل من أجر الرجل، مع اتحاد الإنتاج والجهد المبذول.(1/96)
وجاءت الحرب العظمى الأولى. وقتل عشرة ملايين من الشباب الأوربيين والأمريكان. وواجهت المرأة قسوة المحنة بكل بشاعتها. فقد وجدت ملايين من النساء بلا عائل. إما لأن عائلهن قد قتل في الحرب، أو شوه، أو فسدت أعصابه من الخوف والذعر والغازات السامة الخانقة، وإما لأنه خارج من حبس السنوات الأربع يريد أن يستمتع ويرفه عن أعصابه، ولا يريد أن يتزوج ويعول أسرة تكلفه جهداً من المال والأعصاب.
ومن جهة أخرى لم تكن هناك أيد عاملة من الرجال تكفي لإعادة تشغيل المصانع لتعمير ما خربته الحرب. فكان حتماً على المرأة أن تعمل وإلاّ تعرضت للجوع هي ومن تعول من العجائز والأطفال. وكان حتماً عليها كذلك أن تتنازل عن أخلاقها. فقد كانت أخلاقها قيداً حقيقياً يمنع عنها الطعام! إن صاحب المصنع وموظفيه لا يريدون مجرد الأيدي العاملة، فهم يجدون فرصة سانحة، والطير يسقط من نفسه - جائعاً - ليلتقط الحب. فما الذي يمنع من الصيد؟ ألعله الضمير!؟ وما دامت قد وجدت - بدافع الضرورة - امرأة تبذل نفسها لتعمل، فلن يتاح العمل إلا للتي تبذل نفسها للراغبين.
ولم تكن المسألة مسألة الجوع إلى الطعام فحسب.
فالجنس حاجة بشرية طبيعية لا بد لها من إشباع. ولم يكن في وسع الفتيات أن يشبعن حاجتهن الطبيعية ولو تزوج كل من بقي حياً من الرجال، بسبب النقص الهائل الذي حدث في عدد الرجال نتيجة الحرب. ولم تكن عقائد أوربا وديانتها تسمح بالحل الذي وضعه الإسلام لمثل هذه الحالة الطارئة، وهو تعدد الزوجات. لذلك لم يكن بدٌّ للمرأة أن تسقط راضية أو كارهة لتحصل على حاجة الطعام وحاجة الجنس، وترضي شهوتها إلى الملابس الفاخرة، وأدوات الزينة، وسائر ما تشتهيه المرأة من أشياء.(1/97)
وسارت المرأة في طريقها المحتوم، تبذل نفسها للراغبين، وتعمل في المصنع والمتجر، وتشبع رغائبها عن هذا الطريق أو ذاك، ولكن قضيتها زادت حدة. فقد استغلت المصانع حاجة المرأة إلى العمل، واستمرت في معاملتها الظالمة التي لا يبررها عقل ولا ضمير، فظلت تمنحها أجراً أقل من أجر الرجل الذي يؤدي نفس العمل في نفس المكان.
ولم يكن بد من ثورة. ثورة جامحة تحطم ظلم أجيال طويلة وقرون.
وماذا بقي للمرأة؟ لقد بذلت نفسها وكبرياءها وأنوثتها، وحرمت من حاجتها الطبيعية إلى أسرةٍ وأولادٍ تحسّ بكيانها فيهم، وتضم حيواتهم إلى حياتها، فتشعر بالسعادة والامتلاء. أفلا تنال مقابل ذلك - على الأقل - المساواة في الأجر مع الرجل: حقها الطبيعي الذي تقرره أبسط البديهيات؟
ولم يتنازل الرجل الأوربي عن سلطانه بسهولة. أو قل لم يتنازل عن أنانيته التي فطر عليها. وكان لا بد من احتدام المعركة، واستخدام جميع الأسلحة الصالحة للعراك.
استخدمت المرأة الإضراب والتظاهر. واستخدمت الخطابة في المجتمعات. واستخدمت الصحافة. ثم بدا لها أنها لا بد أن تشارك في التشريع لتمنع الظلم من منبعه، فطالبت أولاً بحق الانتخاب، ثم بالحق الذي يلي ذلك بحكم طبائع الأشياء، وهو حق التمثيل في البرلمان. وتعلمت على نفس الطريقة التي يتعلم بها الرجل، لأنها صارت تؤدي نفس العمل، وطالبت كنتيجة منطقية لذلك أن تدخل وظائف الدولة كالرجل، ما داما قد أعدا بطريقة واحدة، ونالا دراسة واحدة.
تلك قصة " كفاح المرأة لنيل حقوقها " في أوربا. قصة مسلسلة، كل خطوة فيها لا بد أن تؤدي إلى الخطوة التالية، رضي الرجل أو كره، بل رضيت المرأة أو كرهت، فهي ذاتها لم تعد تملك أمرها في هذا المجتمع الهابط المنحل الذي أفلت منه الزمام (57).(1/98)
ومع ذلك كله فقد تعجب حين تعلم أن انجلترا - أم الديمقراطية - ما تزال إلى هذه اللحظة تمنح المرأة أجراً أقل من أجر الرجل في وظائف الدولة، رغم أن في مجلس العموم نائبات محترمات!!
* * *
ونعود إلى وضع المرأة في الإسلام، لنعرف إن كانت ظروفنا التاريخية والجغرافية والاقتصادية والعقيدية والتشريعية، تجعل للمرأة " قضية " تكافح من أجلها، كما كان للمرأة الغربية قضية، أم إنها شهوة التقليد الخالصة، والعبودية الخفية للغرب - التي تجعلنا لا نبصر الأشياء بعيوننا، ولا نراها في حقيقتها - هي التي تملأ الجو بهذا الضجيج الزائف في مؤتمرات النساء؟!
من البديهيات الإسلامية التي لا تحتاج إلى ذكر ولا إعادة، أن المرأة في عرف الإسلام كائن إنساني، له روح إنسانية من نفس " النوع " الذي منه روح الرجل: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء (58) " فهي إذن الوحدة الكاملة في الأصل والمنشأ والمصير، والمساواة الكاملة في الكيان البشري، تترتب عليها كل الحقوق المتصلة مباشرة بهذا الكيان، فحرمة الدم أو العرض والمال، والكرامة التي لا يجوز أن تلمز مواجهة أو تغتاب، ولا يجوز أن يتجسس عليها أو تقتحم الدور.. كلها حقوق مشتركة لا تمييز فيها بين جنس وجنس. والأوامر والتشريعات فيها عامة للجميع: " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب (59) ".. " ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً (60) ".. " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها (61) ".. " كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله (62) ".
والجزاء في الآخرة واحد للجنسين: " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض (63) ".(1/99)
وتحقيق الكيان البشري في الأرض متاح للجنسين: الأهلية للملك والتصرف فيه بجميع أنواع التصرف من رهن وإجارة ووقف وبيع وشراء واستغلال.. إلخ " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون (64) " " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (65) ".
ولا بد هنا من وقفة عند أمرين بشأن حق الملكية والتصرف والانتفاع. فقد كانت شرائع أوربا " المتحضرة " تحرم المرأة من كل هذه الحقوق إلى عهد قريب، وتجعل سبيلها الوحيد إليها عن طريق الرجل زوجاً كان أو أباً أو ولي أمر. أي أن المرأة الأوربية ظلت أكثر من اثني عشر قرناً بعد الإسلام لا تملك من الحقوق ما أعطاها الإسلام. ثم هي حين ملكتها لم تأخذها سهلة ولا احتفظت بأخلاقها وعرضها وكرامتها، وإنما احتاجت لأن تبذل كل ذلك، وتتحمل العرق والدماء والدموع، لتحصل على شيء مما منحه الإسلام - كعادته - تطوعاً وإنشاء، لا خضوعاً لضرورة اقتصادية، ولا إذعاناً للصراع الدائر بين البشر، ولكن تقريراً منه للحق والعدل الأزليين. وتطبيقاً لهما في واقع الأمر لا في عالم المثل والأحلام.
والأمر الثاني أن الشيوعية خاصة، والغرب عامة، يعتبرون الكيان البشري هو الكيان الاقتصادي. ويقولون صراحة إن المرأة لم يكن لها كيان، لأنها لم تكن تملك، أو لم يكن لها حق التصرف فيما تملك، وإنها صارت مخلوقاً آدمياً فقط حين استقلت اقتصادياً، أي حين صار لها ملك خاص مستقل عن الرجل، تستطيع أن تعيش منه وتتصرف فيه.
وبغض النظر عن إنكارنا لتحديد الكيان البشري بهذه الحدود الضيقة، والهبوط به حتى يصبح عرضاً اقتصادياً لا غير، فإننا نوافقهم - من حيث المبدأ- على أن الاستقلال الاقتصادي له أثره في تكوين المشاعر وتنمية الشعور بالذات.
وهنا يحق للإسلام أن يفخر بما أعطى المرأة من كيان اقتصادي مستقل، فصارت تملك وتتصرف وتنتفع، بشخصها مباشرة بلا وكالة، وتعامل المجتمع بلا وسيط.(1/100)
ولم يكتف الإسلام بتحقيق كيان المرأة في مسألة الملكية، بل حققه في أخطر المسائل المتعلقة بحياتها وهي مسألة الزواج. فلا يجوز أن تتزوج بغير إذنها، ولا يتم العقد حتى تعطي الإذن: " لا تزوج الثيب حتى تستأمر ولا تزوج البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها (66) " ويصبح العقد باطلاً إذا أعلنت أنها لم توافق عليه.
وقد كانت المرأة - في غير الإسلام - تحتاج إلى سلوك طرق ملتوية لتهرب من زواج لا تريده، لأنها لا تملك شرعاً ولا عرفاً أن ترفض. ولكن الإسلام أعطاها هذا الحق الصريح، تستخدمه متى أرادت (67)، بل أعطاها أن تخطب لنفسها، وهو آخر ما وصلت إليه أوربا في القرن العشرين، وحسبته انتصاراً هائلاً على التقاليد البالية العتيقة!
ويبلغ من تقدير الإسلام لمقومات الكيان البشري - في عصور كان يغشيها الجهل والظلام - أن اعتبر العلم والتعلم ضرورة بشرية، ضرورة لازمة لكل فرد لا لطائفة محدودة من الناس، فقرر للملايين حق التعلم، بل جعله فريضة وركناً من الإيمان بالله على طريقة الإسلام. وهنا كذلك يحق له أن يفخر بأنه أول نظام في التاريخ نظر إلى المرأة على أنها كائن بشري، لا يستكمل مقومات بشريته حتى يتعلم، شأنها شأن الرجل سواء بسواء، فجعل العلم فريضة عليها كما هو فريضة على الرجل، ودعاها أن ترتفع بعقلها، كما ترتفع بجسدها وروحها عن مستوى الحيوان، بينما ظلت أوروبا تنكر هذا الحق إلى عهد قريب. ولم تستجب إليه إلا خضوعاً للضرورات.
* * *(1/101)
إلى هذا الحد وصل تكريم الإسلام للمرأة. ولا يستطيع أحد مهما أوتي القدرة على التبجح، أن يقول إن فكرة الإسلام في كل هذه الأمور قائمة على أن المرأة مخلوق ثانوي، أو تابع في وجوده لمخلوق آخر، أو إن دورها في الحياة دور ضئيل لا يؤبه له. فلو كان الأمر كذلك ما عني بتعليمها. والتعليم بالذات مسألة لها دلالة خاصة، وتكفي وحدها - دون حاجة إلى المسائل الأخرى - لتقرير الوضع الحقيقي للمرأة في الإسلام، وهو وضع كريم عند الله وعند الناس.
ولكن الإسلام بعد هذا - بعد تقرير المساواة الكاملة في الإنسانية، والمساواة في جميع الحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك بين الجميع - يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق وبعض الواجبات. وهنا الضجة الكبرى التي تثيرها نساء المؤتمرات، ويثيرها معهن كتاب و " مصلحون " وشباب، يعلم الله كم يريدون بدعوتهم وجه الإصلاح، وكم يريدون بها أن يجدوا المرأة سهلة التناول في المجتمع وفي الطريق!
وقبل الدخول في تفصيل هذه المواضع التي يفرق فيها الإسلام بين الرجل والمرأة، ينبغي أولاً أن نرد المسألة إلى جوهرها الحقيقي، إلى أصولها الوظيفية، الجسمية والنفسية، ثم نستعرض بعد ذلك رأي الإسلام.
هل هما جنس واحد أو جنسان؟ وهل هي وظيفة واحدة أم وظيفتان؟ تلك عقدة الموضوع. فإن أرادت نساء المؤتمرات وكتابهن ومصلحوهن وشبابهن أن يقولوا: ليس بين المرأة والرجل خلاف في التكوين الجسدي والكيان الوجداني ووظائف الحياة البيولوجية، فما عسى أن يرد به عليهم!؟ وإن أقروا بوجود هذا الخلاف فهناك إذن أساس صالح لمناقشة الموضوع.
وقد ناقشت مسألة المساواة بين الجنسين في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام " في فصل طويل عن " المشكلة الجنسية " لا أرى بأساً في أن أنقل منه هنا بضع فقرات:(1/102)
".. وتبعاً لهذا الاختلاف الحاسم في المهمة والأهداف اختلفت طبيعة الرجل والمرأة، ليواجه كل منهما مطالبه الأساسية وقد زودته الحياة بكل التيسيرات الممكنة، ومنحته التكييف الملائم لوظيفته.
" لذلك لا أرى كيف تستساغ هذه الثرثرة الفارغة عن المساواة الآلية بين الجنسين! إن المساواة في الإنسانية أمر طبيعي ومطلب معقول. فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية، وشقا النفس الواحدة. أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؛ ولو أرادتها كل نساء الأرض وعقدت من أجلها المؤتمرات وأصدرت القرارات؟
" هل في وسع هذه المؤتمرات وقراراتها الخطيرة أن تبدل طبائع الأشياء، فتجعل الرجل يشارك المرأة في الحمل والولادة والإرضاع؟
" وهل يمكن أن تكون هناك وظيفة بيولوجية من غير تكييف نفسي وجسدي خاص؟ هل اختصاص أحد الجنسين بالحمل والرضاعة لا يستتبعه أن تكون مشاعر هذا الجنس وعواطفه وأفكاره مهيأة بطريقة خاصة لاستقبال هذا الحادث الضخم، والتمشي مع مطالبه الدائمة؟
" إن الأمومة، بكل ما تحويه من مشاعر نبيلة، وأعمال رفيعة، وصبر على الجهد المتواصل، ودقة متناهية في الملاحظة وفي الأداء.. هي التكييف النفسي والعصبي والفكري الذي يقابل التكييف الجسدي للحمل والإرضاع. كلاهما متمم للآخر متناسق معه، بحيث يكون عجيباً أن يوجد أحدهما في غيبة من الآخر.
" وهذه الرقة اللطيفة في العاطفة، والانفعال السريع في الوجدان، والثورة القوية في المشاعر، التي تجعل الجانب العاطفي، لا الفكري، هو النبع المستعد أبداً بالفيض، المستجاش أبداً بأول لمسة، كل ذلك من مستلزمات الأمومة، لأن مطالب الطفولة لا تحتاج إلى التفكير، الذي قد يسرع أو يبطئ، وقد يستجيب أولا يستجيب، وإنما تحتاج إلى عاطفة مشبوبة لا تفكر، بل تلبي الداعي بلا تراخ ولا إبطاء.
" فهذا كله هو الوضع الصحيح للمرأة حين تلبي وظيفتها الأصيلة وهدفها المرسوم.(1/103)
" والرجل من جانب آخر مكلف بوظيفة أخرى، ومهيأ لها على طريقة أخرى.
" مكلف بصراع الحياة في الخارج. سواء كان الصراع هو مجابهة الوحوش في الغابة، أو قوى الطبيعة في السماء والأرض، أو نظام الحكومة وقوانين الاقتصاد ... كل ذلك لاستخلاص القوت، ولحماية ذاته وزوجه وأولاده من العدوان.
" هذه الوظيفة لا تحتاج أن تكون العاطفة هي المنبع المستجاش، بل ذلك يضرها ولا ينفعها. فالعاطفة تنقلب في لحظات من النقيض إلى النقيض. ولا تصبر على اتجاه واحد إلا فترة، تتجه بعدها إلى هدف جديد. وهذا يصلح لمطالب الأمومة المتغيرة المتقلبة، ولكنه لا يصلح لعمل خطة مرسومة تحتاج في تنفيذها إلى الثبات على وضع واحد لفترة طويلة من الوقت. وإنما يصلح لذلك الفكر. فهو بطبيعته أقدر على التدبير وحساب المقدمات والنتائج قبل التنفيذ. وهو أبطأ عملاً من العاطفة الجياشة المتفجرة. وليس المطلوب منه هو السرعة، بقدر ما هو تقدير الاحتمالات والعواقب، وتهيئة أحسن الأساليب للوصول إلى الهدف المنشود. وسواء كان المقصود هو صيد فريسة، أو اختراع آلة، أو وضع خطة اقتصادية، أو سياسة حكم، أو إشعال حرب، أو تدبير سلم، فكلها أمور تحتاج إلى إعمال الفكر، ويفسدها تقلب العاطفة.
" ولذلك فالرجل في وضعه الصحيح حين يؤدي هدفه الصحيح.(1/104)
" وهذا يفسر كثيراً من أوجه الخلاف بين الرجل والمرأة. فهو يفسر مثلاً لماذا يستقر الرجل في عمله، ويمنحه الجانب الأكبر من نفسه وتفكيره بينما هو في الميدان العاطفي متنقل كالأطفال. في حين أن المرأة تستقر في علاقاتها العاطفية تجاه الرجل، وحينما تتجه إليه فكأنما كيانها كله يتحرك ويدبر الخطط ويرتب الملابسات، وهي في هذا الشأن أبعد ما تكون نظراً وأشد ما تكون دقة. ترسم أهدافها لمسافات بعيدة، وتعمل دائبة على تحقيق أغراضها. بينما هي لا تستقر في العمل إلا أن يكون فيه ما يلبي جزءاً من طبيعتها الأنثوية كالتمريض أو التدريس أو الحضانة. أما حين تعمل في المتجر فهي تلبي كذلك جزءاً من عاطفتها بحثاً عن الرجل هناك. ولكن هذه الأعمال كلها بديل لا يغني عن الأصل، وهو الحصول على رجل وبيت وأسرة وأولاد. وما إن تعرض الفرصة للوظيفة الأولى حتى تترك المرأة عملها لتهب نفسها لبيتها. إلا أن يحول دون ذلك عائق قهري كحاجتها إلى المال.
" ولكن هذا ليس معناه الفصل الحاسم القاطع بين الجنسين، ولا معناه أن كلا منهما لا يصلح أية صلاحية لعمل الآخر.
".. الجنسان إذن خليط، وعلى نسب متفاوتة، فإذا وجدت امرأة تصلح للحكم أو القضاء أو حمل الأثقال أو الحرب والقتال.. وإذا وجد رجل يصلح للطهي وإدارة البيوت أو الإشراف الدقيق على الأطفال أو الحنان الأنثوي، أو كان سريع التقلب بعواطفه ينتقل في لحظة من النقيض للنقيض، فكل ذلك أمر طبيعي، ونتيجة صحيحة لاختلاط الجنسين في كيان كل جنس. ولكنه خلو من الدلالة المزيفة التي يريد أن يلصقها به شذاذ الآفاق في الغرب المنحل والشرق المتفكك سواء.(1/105)
فالمسألة في وضعها الصحيح ينبغي أن توضع على هذه الصورة: هل كل هذه الأعمال التي تصلح لها المرأة زائدة على وظيفتها الطبيعية، تغنيها عن هذه الوظيفة الأصيلة؟ تغنيها عن طلب البيت والأولاد والأسرة؟ وتغنيها عن طلب الرجل قبل هذا وبعد ذلك ليكون في البيت رجل! بصرف النظر عن شهوة الجنس وجوعة الجسد؟ " ....
والآن وقد استعرضنا حقيقة الخلاف بين طبيعة الرجل والمرأة، نعود إلى مواضع التفرقة بينهما في الإسلام.
إن مزية الإسلام الكبرى أنه نظام واقعي، يراعي الفطرة البشرية دائماً ولا يصادمها أو يحيد بها عن طبيعتها. وهو يدعو الناس لتهذيب طبائعهم والارتفاع بها، ويصل في ذلك إلى نماذج تقرب من الخيالات والأحلام، ولكنه في تهذيبه لا يدعو لتغيير الطبائع، ولا يضع في حسابه أن هذا التغيير ممكن، أو مفيد لحياة البشرية حتى إذا أمكن! وإنما يؤمن بأن أفضل ما تستطيع البشرية أن تصل إليه من الخير، هو ما يجيئ متمشياً مع الفطرة بعد تهذيبها، والارتفاع بها من مستوى الضرورة إلى مستوى التطوع النبيل.
وهو يسير في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر، فيسوي بينهما حيث تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيح، ويفرق بينهما كذلك حيث تكون التفرقة هي منطق الفطرة الصحيح. فلننظر أهم مواضع التفرقة: تقسيم الإرث ومسألة القوامة.(1/106)
يقول الإسلام في الإرث: " للذكر مثل حظ الأنثيين ". ذلك حق. لكنه يجعل الرجل هو المكلف بالإنفاق. ولا يتطلب من المرأة أن تنفق شيئاً من مالها على غير نفسها وزينتها (إلا حيث تكون العائل الوحيد لأسرتها وهي حالات نادرة في ظل النظام الإسلامي، لأن أي عاصب من الرجال مكلف بالإنفاق ولو بعدت درجته) فأين الظلم الذي يزعمه دعاة المساواة المطلقة؟ إن المسألة مسألة حساب، لا عواطف ولا ادعاء. تأخذ المرأة - كمجموعة - ثلث الثروة الموروثة لتنفقها على نفسها، ويأخذ الرجل ثلثي الثروة لينفقها أولاً على زوجة - أي على امرأة - وثانياً على أسرة وأولاد - فأيهما يصيب أكثر من الآخر بمنطق الحساب والأرقام؟ وإذا كانت هناك حالات شاذة لرجال ينفقون كل ثرواتهم على أنفسهم ولا يتزوجون ولا يبنون أسرة، فتلك أمثلة نادرة، وإنما الأمر الطبيعي أن ينفق الرجل ثروته على بناء أسرة فيها امرأة بطبيعة الحال هي الزوجة. وهو ينفق عليها لا تطوعاً منه بل تكليفاً. ومهما كانت ثروتها الخاصة فلا يحق له أن يأخذ منها شيئاً البتة إلا بالتراضي الكامل بينهما. وعليه أن ينفق عليها كأنها لا تملك شيئاً، ولها أن تشكوه إذا امتنع عن الإنفاق، أو قتر فيه بالنسبة لما يملك، ويحكم لها الشرع بالنفقة أو بالانفصال. فهل بقيت بعد ذلك شبهة في القدر الحقيقي الذي تناله المرأة من مجموع الثروة؟ وهل هو امتياز حقيقي في حساب الاقتصاد أن يكون للرجل مثل حظ الأنثيين وهو مكلف مالا تكلفه الأنثى؟(1/107)
على أن هذه النسبة إنما تكون في المال الموروث بلا تعب، فهو يقسم بمقتضى العدل الرباني الذي يعطي " لكل حسب حاجته ". ومقياس الحاجة هو التكاليف المنوطة بمن يحملها. أما المال المكتسب فلا تفرقة فيه بين الرجل والمرأة، لا في الأجر على العمل، ولا في ربح التجارة ولا ريع الأرض إلخ. لأنه يتبع مقياساً آخر هو المساواة بين الجهد والجزاء. وإذن فلا ظلم ولا شبهة في ظلم، وليس وضع المسألة أن قيمة المرأة هي نصف قيمة الرجل في حساب الإسلام، كما يفهم العوام من المسلمين، وكما يقول المشنعون من أعداء الإسلام. وقد رأينا بحساب الأرقام أن ذلك غير صحيح.
وليس اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد دليلاً كذلك على أن المرأة تساوي نصف رجل. إنما هذا إجراء روعي فيه توفير كل الضمانات في الشهادة، سواء كانت الشهادة لصالح المتهم أو ضده، ولما كانت المرأة بطبيعتها العاطفية المتدفقة السريعة الانفعال، مظنة أن تتأثر بملابسات القضية " فتضل " عن الحقيقة، روعي أن تكون معها امرأة أخرى " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " وقد يكون المشهود له أو عليه امرأة جميلة تثير غيرة الشاهدة، أو يكون فتى يثير كوامن الغريزة أو عطف الأمومة.. إلى آخر هذه العواطف التي تدفع إلى الضلال بوعي أو بغير وعي. ولكن من النادر جداً حين تحضر امرأتان في مجال واحد، أن تتفقا على تزييف واحد، دون أن تكشف إحداهما خبايا الأخرى فتظهر الحقيقة! على أن شهادة الواحدة تعتبر فيما تعد المرأة خبيرة فيه أو مختصة به من شؤون النساء.(1/108)
أما مسألة القوامة: فالضرورة تقضي أن يكون هناك قيم توكل إليه الإدارة العامة لهذه الشركة القائمة بين الرجل والمرأة، وما ينتج عنها من نسل، وما تستتبعه من تبعات. وقد اهتدى الناس في كل تنظيماتهم إلى أنه لا بد من رئيس مسئول، وإلا ضربت الفوضى أطنابها، وعادت الخسارة على الجميع. وهناك ثلاثة أوضاع يمكن أن تفترض بشأن القوامة في الأسرة: فإما أن يكون الرجل هو القيم، أو تكون المرأة هي القيم. أو يكونا معاً قيمين.
ونستبعد الفرض الثالث منذ البدء، لأن التجربة أثبتت أن وجود رئيسين للعمل الواحد أدعى إلى الإفساد من ترك الأمر فوضى بلا رئيس. والقرآن يقول عن السماء والأرض: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ".. " إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ". فإذا كان هكذا الأمر بين الآلهة المتوهمين فكيف هو بين البشر العاديين؟
وعلم النفس يقرر أن الأطفال الذين يتربون في ظل أبوين يتنازعان على السيادة، تكون عواطفهم مختلة، وتكثر في نفوسهم العقد والاضطرابات.
بقي الفرضان الأولان. وقبل أن نخوض في بحثهما نسأل هذا السؤال: أيهما أجدر أن تكون وظيفته القوامة، بما فيها من تبعات: الفكر أم العاطفة؟ فإذا كان الجواب البديهي هو الفكر، لأنه هو الذي يدبر الأمور في غيبة عن الانفعال الحاد الذي كثيراً ما يلتوي بالتفكير فيحيد به عن الطريق المباشر المستقيم، فقد انحلت المسألة دون حاجة إلى جدال كثير.(1/109)
فالرجل بطبيعته المفكرة لا المنفعلة، وبما يحتوي كيانه من قدرة على الصراع واحتمال أعصابه لنتائجه وتبعاته، أصلح من المرأة في أمر القوامة على البيت. بل إن المرأة ذاتها لا تحترم الرجل الذي تسيره فيخضع لرغباتها بل تحتقره بفطرتها ولا تقيم له أي اعتبار. فإذا كان هذا من أثر التربية القديمة التي تترك طابعها في اللاشعور، وتكيف مشاعر المرأة دون وعي منها، فهذه هي المرأة الأمريكية بعد أن ساوت الرجل مساواة كاملة، وصار لها كيان ذاتي مستقل، عادت فاستعبدت نفسها للرجل. فأصبحت هي التي تغازله وتتلطف له ليرضى! وتتحسس عضلاته المفتولة وصدره العريض، ثم تلقي بنفسها بين أحضانه حين تطمئن إلى قوته بالقياس إلى ضعفها!
على أن المرأة إذا تطلعت " للسيادة " في أول عهدها بالزواج وهي فارغة البال من الأولاد وتكاليف تربيتهم التي ترهق البدن والأعصاب، فسرعان ما تنصرف عنها حين تأتي المشاغل، وهي آتية بطبيعة الحال، فحينذاك لا تجد في رصيدها العصبي والفكري ما تحتمل به مزيداً من التبعات.
وليس مؤدى ذلك أن يستبد الرجل بالمرأة، أو بإدارة البيت. فالرئاسة التي تقابل التبعة لا تنفي المشاورة ولا المعاونة. بل العكس هو الصحيح. فالرئاسة الناجحة هي التي تقوم على التفاهم الكامل والتعاطف المستمر. وكل توجيهات الإسلام تهدف إلى إيجاد هذه الروح داخل الأسرة، وإلى تغليب الحب والتفاهم على النزاع والشقاق. فالقرآن يقول: " وعاشروهن بالمعروف (68) " والرسول يقول: " خيركم خيركم لأهله (69) " فيجعل ميزان الخير في الرجل هو طريقة معاملته لزوجته، وهو ميزان صادق الدلالة، فما يسيء رجل معاملة شريكته في الحياة إلا أن تكون نفسه من الداخل منطوية على انحرافات شتى، تفسد معين الخير أو تعطله عن الانطلاق (70).
ولكن العلاقات " الرسمية " في داخل الأسرة موضع شبهات كثيرة تحتاج إلى بيان.(1/110)
بعض هذه الشبهات خاص بالتزامات المرأة نحو الرجل، وبعضها خاص بموضوع الطلاق وموضوع تعدد الزوجات.
وأنا أعتقد أن الزواج مسألة شخصية إلى حد كبير، وأنه ككل تعامل بين شخصين، يعتمد قبل كل شيء على المميزات الشخصية والخصائص النفسية والعقلية والجسمية لكل من الطرفين، بحيث يصعب جداً أن يحكمه " قانون " عام. فإذا وجدت حالة يسودها الوفاق والوئام فليس من الضروري أن يكون ذلك لأن الزوجين يراعيان " الأصول " الزوجية كل نحو الآخر. وكثيراً ما نسمع عن أزواج لا يشتد بينهم الانسجام والمحبة إلا بعد شجار عنيف قد يتجاوز اليد واللسان! وإذا وجدت حالة من الشقاق والخلاف فليس من الضروري أن يكون السبب غلطة الزوج أو نشوز الزوجة. وكثيراً ما نسمع عن زوجين كل منهما في ذاته مثال كريم للإنسان، ولكن " مزاجهما " لا يتفق، وقد يبكيان حسرة على عدم إمكان التفاهم بينهما، ولكنهما مع ذلك لا يتفاهمان.
ورغم ذلك فلا بد من قانون عام يحكم أمر الزواج؛ فلا يستطيع نظام أن يعلن إحاطته الكاملة بحياة البشر دون أن يشرع لهذه المسألة الحساسة، تشريعاً يضع - على الأقل - الحدود العامة التي لا ينبغي تجاوزها، ثم يترك التفاعل الشخصي ليحكم ما بين هذه الحدود.
وطبيعي أننا لا نلجأ إلى القانون ونحن متحابون متفاهمون.
فالزواج الموفق لا يلجأ إلى نصوص القانون ولا يحتكم إليها. ولا يقول كل من الزوجين لنفسه إن القانون يقتضيني كذا فلأصنعه وإلا صرت مخالفاً لأوامره. وإنما ينشأ التوفيق - في الغالب كما قلنا - من التقاء المزاج، من التقاء شطري النفس الواحدة وتعشق أحدهما بالآخر. ينشا من الحب الذي يجمع القلبين على صورة من الصور، قد لا تكون " عادلة " بالنسبة لأحد الطرفين، ولكنها مع ذلك مستقرة وافية بالغرض المطلوب.
ولكنا حين نختلف نبحث عن القانون، ونحتكم إلى نصوصه لعلها تحسم الخلاف.(1/111)
والمطلوب من القانون أن يكون عادلاً لا يحابي أحد الخصمين على حساب الآخر، وأن يحاول بقدر الإمكان أن يشمل محيطاً واسعاً من الحالات، وإن كنت أكرر أنه لا يمكن لأي قانون أن يشمل كل حالة، أو أن يكون تطبيقه الحرفي صالحاً أو عادلاً في كل حالة.
فلننظر في القانون الإسلامي من جهة التزامات الزوجة، لأنها هي موضع الشكوى ومثار الشبهات. ويهمني بشأنها ثلاثة أمور:
هل هي التزامات قاسية في ذاتها؟
وهل هي التزامات من جانب واحد بلا مقابل؟
وهل هي التزامات " مؤبدة " لا تملك المرأة الفكاك منها حين تريد؟
تلتزم المرأة بثلاثة أمور رئيسية: أن تطيع زوجها في الفراش كلما دعاها إليه، وألا توطئ فراشه من يكره، وأن تحفظ غيبته.
أما المسألة الأولى، فهي في حاجة إلى قدر من الصراحة لتجليتها. والحكمة فيها واضحة. فطبيعة الرجل الجثمانية تجعله في حاجة إلى إفراغ الشحنة الجنسية كلما تجمعت وألحت، لكي يفرغ لوظيفته الأخرى من العمل والإنتاج، ومواجهة مشكلات الحياة بأعصاب لا يرهقها القلق والاضطراب. وقد يكون - في فترة الشباب على الأقل - أكثر طلباً للجنس، في عدد المرات فقط، وإن كانت المرأة أعمق منه استجابة للجنس، وأشد اشتغالاً به بمجموع نفسها وجسدها وروحها في معناه الشامل لا في صورته الجسدية فحسب (71). والزواج منظور فيه بطبيعة الحال إلى تلبية الحاجات الجنسية بجانب المعاني الأخرى الروحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية.. فإذا كان الزوج لا يجد زوجته ملبية حين يلح عليه خاطر الجنس ويشغل أعصابه، فأي شيء يصنع؟ يلجأ إلى الجريمة في خارج البيت؟ لا المجتمع ينبغي أن يسمح، ولا الزوجة ذاتها ترضى أن يتجه زوجها بنفسه أو جسده إلى امرأة أخرى، هي غريمة لها مهما تكن الأوضاع.(1/112)
ولن يخرج موقف الزوجة إذا دعاها زوجها دون رغبة منها عن حالة من ثلاث: أن تكون كارهة لزوجها لا تطيق الاتصال به، أو تكون محبة له ولكنها تكره الاتصال الجنسي عامة وتنفر منه، وتلك حالة نفسية منحرفة ولكنها موجودة في واقع الحياة. أو تكون محبة له غير نافرة من الاتصال به، ولكنها لا تريد - الآن.
أما الحالة الأولى فهي دائمة لا تتعلق بوقت معين، ولا بعمل معين، وهي حالة لا يرجى فيها الإبقاء على الرابطة الزوجية، فيحسن أن تأخذ طريقها الطبيعي إلى الانفصال. والمرأة تملك هذا من أكثر من طريق كما سيجيء بعد قليل.
والحالة الثانية أيضاً دائمة، لا تنشأ من إلحاح الزوج في الطلب. وينبغي علاجها بالاتفاق التام الصريح من مبدأ الأمر، فإما أن يقبل الزوج الامتناع عن تلبية حاجته مهما كلفه ذلك من مشقة، وإما أن تقبل الزوجة تحمل المشقة لأنها تحب زوجها ولا تريد الانفصال عنه. أو ينفصلان - بالمعروف - إذا لم يمكن التوفيق. أما الشرع فهو يلزم المرأة بالطاعة إذا أصر الزوج، لا تحكماً وإعتسافاً ولكن لأن الأمر الطبيعي في الزواج أن يشمل العلاقة الجنسية. ولأن امتناع الزوجة كما قلنا يلجئ الزوج إلى الجريمة الخلقية (أو إلى الزواج بامرأة أخرى وهو ما تكرهه الزوجة). ولكنه لم يلزمها أن تقبل هذا الوضع إذا رأت أنها لا تطيقه، وأن حبها لزوجها قد تلاشى بسبب هذا الأمر وانقلب إلى فتور، فهنا تنفصل بسبب الكراهية.
أما الحالة الثالثة فهي مؤقتة وعلاجها ميسور. إن هذا النفور الوقتي من الاتصال الجنسي قد ينشأ من تعب أو ملل أو انشغال بال. ولكن قدراً من التهيئة النفسية والجسمية كفيل بإزالته. ولذلك اهتم الرسول بتوجيه نظر الرجال إلى المداعبة اللطيفة والأخذ والعطاء قبل العمل ذاته، أولاً ليرفع هذه العلاقة عن بهيمية الجسد الخالصة ويجعلها ألفة نفس وامتزاج روح، ثم ليزيل مثل هذا العارض الذي قد يسبب النفور.(1/113)
أما حين تكون الزوجة هي الراغبة والزوج منصرف لسبب من الأسباب، وهذا نادر الوقوع في فترة شباب الزوج على الأقل، فالمرأة لا تعدم الوسيلة.. ولكنا نقرر أن القانون الذي دعا المرأة لطاعة زوجها، قد اهتم برغبتها وأحلها مكانها الحق، وألزم الزوج بأداء " واجبه الزوجي " إذا طلبت الزوجة. فإذا عجز الزوج وقع الانفصال. وهكذا نرى أن الالتزام واقع من الناحيتين، وليس فيه تعسف بالزوجة ولا إهدار لكيانها الشخصي.
والالتزام الثاني هو ألا توطئ الزوجة فراش زوجها من يكره، أي لا تدخل بيته أحداً يكرهه (وليس المقصود الفاحشة فهذه محرمة حتى لو رضي بها الزوج) وحكمة هذا الالتزام أنه كثيراً ما تنشأ المنازعات في البيت نتيجة دخول أحد بين الزوجين بالسعاية أو الإثارة وسوء التوجيه. فإذا لحظ الزوج ذلك وطلب من زوجته أن تمنع شخصاً معيناً من دخول بيته، فماذا يحدث حين تعارض الزوجة؟ يستمر منبع الفتنة ويستحيل الوفاق. فالإلزام هنا لصالح الشركة القائمة بين الزوجين وما ينتج عنها من أطفال يحتاجون إلى الرعاية وإلى جو من المودة لا يفسده الشجار والشقاق، حتى لا ينشأ الأطفال منحرفي النفوس والأفكار.
ولعل القائل أن يقول: ولماذا لم يلزم القانون الزوج أيضاً بألا يدخل بيته من تكرهه زوجته؟ وطبيعي أنه في حالة الحب والمودة، وفي حالة التهذيب والارتفاع من الجانبين، يمكن التفاهم على جميع الأمور فلا تصل إلى درجة الاحتكاك. ولكنا نفترض أن الشقاق واقع والتفاهم مستحيل، ولذلك نلجأ إلى حكم القانون. وهنا يجب أن نذكر أن انفعالات المرأة ليست في غالب الأحوال منطقية، وأن الغيرة الشخصية البحتة - لا المصلحة - قد تكون هي التي تنفر الزوجة من أم الزوج أو أخته أو إحدى قريباته. فإلزام الزوج في هذه الحالة بإطاعة زوجته في إبعاد من تكره، لن يكون إلزاماً للمصلحة، ولكن لثورة عاطفية قد لا تلبث أن تتحول، أو تكون قائمة على غير أساس.(1/114)
ولست أعني من ذلك أن الزوج دائماً على حق فيما يصنع، فقد ينقلب طفلاً في كثير من الحالات، ويولع بالمكايدة. ولا أعني كذلك أن الزوجة دائماً مخطئة، فقد تكون محقة في النفور من شخص بعينه، وقد يكون هذا الشخص ممن يعملون فعلاً على هدم روابط الزوجية لأي سبب، ولكن القانون موكل بالنسبة الغالبة، ومتمش مع الفطرة التي تفترض أن الرجل أكثر انقياداً لعقله، والمرأة أكثر انقياداً لانفعالاتها العاطفية، ثم إن الباب مفتوح أمام المرأة في كل حالة تجد أنها لا تستطيع الاستمرار على احتمالها، فتنهيها بالانفصال.
أما محافظة الزوجة على عرض زوجها وماله في غيبته فهو التزام طبيعي ومنطقي لا أحسب أحداً يجادل فيه. وهو التزام مشترك يشمل الرجل والمرأة على السواء.
* * *
وننتقل الآن إلى حالة النشوز من جانب الزوجة أو من جانب الزوج:
يتفرع عن قوامة الرجل على المرأة حق الزوج في تأديب زوجته الناشزة، وهو الحق الذي تبينه هذه الآية: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً (72) ".
ويلاحظ أن الآية تدرجت في بيان وسائل التأديب حتى وصلت إلى الضرب - غير المبرح - في نهاية المطاف. ولسنا هنا بصدد الحالات التي يساء فيها استخدام هذا الحق، فكل حق في الدنيا يمكن أن يساء استخدامه، ولا يمكن الحيلولة دون ذلك إلا بالتهذيب الخلقي والارتفاع الروحي، وهي مسألة لا يهملها الإسلام، ولا يني عن توجيه العناية إليها (73) ولكننا بصدد مشروعية هذا الحق وضرورته في صيانة كيان الأسرة ومنعها من التفكك والانحلال.
كل قانون أو نظام في الدنيا تلزمه السلطة التي تؤدب الخارجين عليه، وإلا أصبح حبراً على ورق. وانتفت الفائدة المقصودة من وجوده.(1/115)
والزوجية نظام قائم لصالح المجتمع وصالح الزوج والزوجة على السواء، والمفروض فيه أن يحقق أقصى ما يمكن من المصالح للجميع. وحين يكون الوئام والوفاق سائدين فيه تتحقق جميع المصالح بغير تدخل القانون. ولكن حين يحدث الشقاق ينجم الضرر الذي لا يقف عند شخصي الزوجين، بل يتعداهما إلى الأطفال، وهؤلاء نواة المجتمع المقبلة التي يجب إحاطتها بحير وسائل التنمية والتهذيب.
فحين تتسبب الزوجة في هذا الضرر فمن الذي يتولى ردها إلى الصواب؟ المحكمة؟ إن تدخل المحكمة في خصوصيات العلاقة بين الزوجين إدعى إلى توسيع هوة الخلاف - الذي قد يكون هنياً وموقوتاً - وأدعى إلى إفساد هذه العلاقة لأنه يمس كرامة هذا الطرف أو ذاك علانية، فتأخذه العزة بالأثم ويتشبث بموقفه. فالمحكمة لا يجوز أن تتدخل إلا في كبريات المسائل التي تفشل فيها كل محاولة للتوفيق.
ثم إنه ليس من العقل أن نلجأ إلى المحكمة في حوادث الحياة اليومية التافهة التي تتجدد كل دقيقة، وتنتهي من نفسها كل دقيقة، فذلك خبال لا يقدم عليه العقلاء، فضلاً عن أنه يحتاج إلى إقامة محكمة في كل بيت تعمل ليل نهار!
لا بد إذن من سلطة محلية تقوم بهذا التأديب، هي سلطة الرجل المسؤول في النهاية عن أمر هذا البيت وتبعاته. وهي تبدأ بالوعظ الجميل الذي يرد الشارد عن غيه ولا يجرح كبرياءه، فإن أفلحت هذه الطريقة كان خير، وإلا فهناك درجة أخرى أعنف من السابقة، هي الهجر في المضاجع، وهي لفتة نفسية عميقة من الإسلام لطبيعة المرأة التي تعتز بجمالها وفتنتها، وتدل بهما، حتى يؤدي ذلك أحياناً إلى النشوز. والهجر في المضاجع معناه عدم الخضوع لهذه الفتنة، مما يطامن من كبرياء الزوجة الجامحة ويردها إلى الصواب. فإذا لم تفلح جميع الوسائل، فنحن أمام حالة من الجموح العنيف لا يصلح لها إلا إجراء عنيف هو الضرب، بغير قصد الإيذاء، وإنما بقصد التأديب. لذلك نص التشريع على أنه ضرب غير مبرح.(1/116)
وهنا شبهة الإهانة لكبرياء المرأة، والفظاظة في معاملتها، ولكن ينبغي أن نذكر من جهة أن السلاح الاحتياطي لا يستعمل إلا حين تخفق كل الوسائل " السلمية " الأخرى. ومن جهة ثانية أن هناك حالات انحراف نفسي لا تجدي معه إلا هذه الوسيلة.
أما في الحالات العادية التي لا تصل إلى حد المرض، فالضرب لا ضرورة له. وهو سلاح احتياطي لا غير، لا يجوز المبادرة إليه ولا الابتداء به، والآية بترتيب درجاتها تشير إلى ذلك، والرسول الكريم ينهي الرجال عن استعمال هذا الحق - إلا في الضرورة القصوى التي لا يفلح فيها شيء - ويقول لهم موبخاً: " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العير ثم يجامعها في آخر اليوم (74) ".
أما حين ينشز الزوج فالقانون مختلف: " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير (75) ".
وقد يطيب لبعض الناس لأول وهلة أن يطالب بالمساواة الكاملة! ولكن المسألة هنا هي مسألة الواقع العملي والفطرة البشرية، لا مسألة عدالة نظرية مثالية لا تقوم على أساس. أي امرأة سوية في الأرض كلها تضرب زوجها ثم يبقى له في نفسها احترام، وتقبل أن تعيش معه بعد ذلك؟ وفي أي بلد في الغرب " المتحضر " أو الشرق المتأخر طالبت النساء بضرب أزواجهن؟
ولكن المهم أن الشرع لم يلزمها بقبول نشوز الزوج واحتماله، فأباح لها الانفصال حين لا تطيق.
* * *
في جميع الحالات السابقة رأينا:
أولاً: أن التزامات المرأة نحو الرجل ليست تحكمية، وإنما نظر فيها للمصلحة العامة التي تشمل الزوجة أيضاً بطريق مباشر أو غير مباشر.
ثانياً: أن معظم هذه الالتزامات له مقابل من نفس النوع عند الزوج. أما الحالات القليلة التي اختص فيها الرجل بلون من السلطة ليس للمرأة، فقد روعي فيها فطرة الرجل والمرأة كليهما، ولم يقصد بها إذلال المرأة ولا إهانتها.(1/117)
ثالثاً: أنه في مقابل هذه السلطة منحت المرأة الحق في رفضها إذا كانت نفسها لا تقبلها، أو أحست بأن في قبولها ظلماً لها.
أما الانفصال الذي أشرنا إليه مراراً من قبل، والذي هو طريق المرأة العملي لرفض ما لا تطيق من الالتزامات، فله ثلاث سبل مختلفة:
أن تجعل المرأة عصمتها في يدها، وقد صرح بذلك الشرع وإن كان لا يتمسك به إلا القليلات من النساء، ولكنه حق لها إذا شاءت أن تستخدمه.
أو تطلب الطلاق لأنها كارهة لزوجها غير مطيقة معاشرته. وقد سمعت أن المحاكم لا تأخذ بهذا المبدأ. ولكنه مبدأ صريح أقره الرسول وعمل به، فهو جزء من التشريع، وشرطه الوحيد أن تتنازل المرأة عما تملكته بطريق الزواج، وهو شرط عادل. لأن الزوج حين يطلق زوجته يفقد كل ما ملكه إياها بالزواج، أي أن الطرف الذي يتسبب في الطلاق - سواء كان الرجل أو المرأة - يحتمل خسارة مادية مقابل فصمه لعرى الزوجية.
والطريق الثالث أن تطلب الطلاق - مع الاحتفاظ بمتاعها وأخذ النفقة - على أساس سوء المعاملة أو الإضرار. إذا استطاعت أن تثبت ذلك. والمحاكم تشدد في ذلك لعلمها أن كثيراً من القضايا التي تعرض أمامها ترجع إلى المكايدة. ولكنها تحكم بالطلاق عند ثبوت الأمر.
تلك أسلحة المرأة مقابل سلطة الرجل عليها، وهما في النهاية متكافئان.
* * *
وذلك يجرنا إلى الحديث عن الطلاق...
ونحن نسمع كثيراً من القصص عن المآسي التي تنجم عن الطلاق، من تشريد للزوجة والأطفال، ومنازعات في المحاكم لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد.
تكون المرأة في بيتها هادئة مستقرة، بل مكدودة ناصبة، ترضع طفلاً وتنظر في طلبات طفل آخر، وتعمل مع هذا وذاك على تهيئة راحة الزوج، فإذا هي تفاجأ دون إنذار سابق بوثيقة الطلاق على يد المأذون. لماذا؟ لأن نزوة طارئة خطرت في نفس الزوج: رأى امرأة أخرى ظنها أجمل، أو مل " الروتين " الزوجي فرغب في التغيير، أو لأنه طلب من زوجته أن " تسقيه " فرفضت أو تكاسلت لأنها متعبة..!(1/118)
أما من طريق لتحطيم هذا السلاح الخطر الذي يلهو به الرجل في لحطة غادرة بكيان امرأة صابرة وعش هادئ ومستقبل سعيد كان ينتظر أفراخه الصغار؟
ولا شك في وجود هذه المآسي الكثيرة التي يتحدث بها الناس. ولكن ما السبيل؟
هل نلغي الطلاق؟ وكيف نصنع في المآسي الأخرى التي تنجم من تحريم الطلاق؟ تلك المآسي التي تعرفها جيداً الدول الكاثوليكية التي لم تأخذ بمبدأ الإباحة؟ وهل يصير البيت بيتاً وأحد الطرفين أو كلاهما يكره الآخر ولا يطيق عشرته، ومع ذلك فالقيد مؤبد والخلاص مستحيل؟ أَوَ ليس هذا يؤدي إلى الجريمة؟ يتخذ الزوج عشيقة يلبي معها دوافع الجنس، والزوجة المنبوذة تتخذ نفس الطريق؟ وهل ينفع الأطفال أن ينشأوا في مثل هذا الجو الكابي الملبد بالغيوم؟ ليس المهم هو مجرد حياتهم في كنف الوالدين. ولكن المهم هو الجو الذي يعيشون فيه. وإلا فما أكثر المنحرفين والمنحرفات الذين جاء انحرافهم من حياتهم مع أبوين متخاصمين لا ينتهي لهما خصام.
يقولون: نقيد حق الرجل في الطلاق.
يعني ماذا؟ يعني أنه لا يقع الطلاق بمجرد إلقاء الرجل لكلمة الطلاق، وإنما يقع في المحكمة. والمحكمة ترسل في طلب حكم من أهله وحكم من أهلها، ويبحثون الموضوع، ويراجعون الزوج، ويعظونه ويحاولون الصلح، فلعل ذلك كله أن يرد الرجل عن غيه ويبقي على الأسرة وروابط الزوجية، فإذا لم تجد المحاولة فعند ذلك فقط ينفذ الطلاق على يد القاضي لا على يد الزوج.(1/119)
ولست أجد على أي حال مانعاً من هذا الإجراء الذي ينفذ في جزء منه وصية الشرع في مراجعة الأهل ومحاولة التوفيق، وإن كنت لا أومن بجدواه في كثير، فالاحتياطات التي يريدها هؤلاء المصلحون موجودة بالفعل دون حاجة إلى محكمة. ولنفرض أنه طلقها ووقع الطلاق بنص الشرع فهل يمنع ذلك أن يقوم أهله وأهلها بالتوفيق فترد إليه في الحال بدون إجراء جديد؟ فإذا كانت المرة الثانية ووقع الطلاق أيضاً فهل يتعذر التوفيق إذا كانت هناك رغبة فيه أو فائدة في إتمامه؟ مع تأديب الزوج بعمل إجراءات جديدة ومهر جديد؟
إن الرغبة في التوفيق - حين توجد - لا تتوقف على تدخل المحكمة، وحين تكون عقيمة فماذا يملك القاضي أكثر مما يملك الأهل والأصدقاء؟
وهناك أمم " متحضرة! " لا تعيش على التشريع الإسلامي، ولا يتم الطلاق فيها إلا في المحكمة، وبعد تقديم المواعظ والإرشادات ومحاولة التوفيق، فكم بلغت نسبة الطلاق هناك؟ لقد وصلت في أمريكا إلى 40% وهي أعلى نسبة في العالم كله، بما فيه مصر التي يتهم أهلها بأنهم من هواة الزواج والطلاق!
أما المتطرفون والمتطرفات، الذين يريدون ألا يحكم القاضي للرجل بالطلاق إلا إذا ثبت ثبوتاً قاطعاً أن الزوجة هي المخطئة، وأن الحياة معها - في نظر القاضي- مستحيلة.. فأية كرامة يريدونها للمرأة من هذا السبيل؟ أية كرامة لها في أن تبقى في بيت رجل يكرهها ولا يريدها في بيته؟ ويذكرها صباح ومساء بأنه لا يرغب فيها ولا محل لها في قلبه، وينبذها ويتصل بغيرها وهي تعلم؟
أتبقى هناك للمكايدة؟ وهل هذا هدف يطلب من التشريع أن يقره؟ أو هل سبيل المكايدة الوحيد أن تبقى معه وهو راغم، وهي مسلوبة الكرامة والسلطان؟
أم تبقى لتربية الأولاد؟ أكرم للأولاد وأقوم لتربيتهم أن يكونوا منفصلين مع أمهم، من أن يكونوا ليل نهار في هذا الجو المظلم الكريه.
كلا! ليس هؤلاء المتطرفون على شيء من التوفيق.(1/120)
وإن المشكلة لا تحل بتغيير التشريع، الذي وضع للضرورة، ووجدت البشرية - في غير الإسلام - أنه لا معدى لها عنه ولا فكاك.
إنما تحل بالتربية، برفع المستوى الثقافي والنفسي والروحي لمجموع الشعب. بتهذيب المشاعر حتى يكون الخير هو الغالب، وتكون المودة هي الأصل في الحياة. بتعويد الرجل أن ينظر إلى علاقته الزوجية على أنها رباط مقدس لا ينبغي الإخلال بأمنه لأتفه النزوات.
والتربية طريق طويل وبطيء يحتاج إلى مجتمع يعيش بالإسلام ويحكم شريعة الله في أمره كله، ويحتاج إلى جهد دائم في البيت والمدرسة والسينما والإذاعة والصحافة والكتب والمسجد والطريق.. ولكنها مع ذلك هي الطريق الوحيد المضمون.
أما التشريع فحسبه عدالة أن يعطي الحق للطرفين، فيعطي المرأة كذلك حق الانفصال حين ترى حياتها مع الرجل لا تؤدي إلى الوفاق المنشود.
والطلاق - بعد - هو أبغض الحلال إلى الله.
* * *
أما تعدد الزوجات فتشريع للطوارئ، وليس هو الأصل في الإسلام. " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة (76) ".
المطلوب إذن هو القسط والعدل، وهو غير مضمون التحقيق. وعلى ذلك يكون الأصل في الإسلام هو وحدانية الزوج. ولكن هناك حالات تكون فيها الوحدانية ظلماً لا عدالة فيه. وعند ذلك يلجأ إلى تشريع الضرورة، مع علمه أنّ العدالة المطلقة فيه غير مضمونة، ليتقي ضرراً أكبر بضرر أخف.(1/121)
وأهم الحالات التي يحتاج المجتمع فيها إلى هذا التشريع هي حالات الحروب التي تفني عدداً كبيراً من الشباب، فيختل الميزان ويزيد عدد النساء على عدد الرجال. وعند ذلك يكون تعدد الزوجات ضرورة لاتقاء الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية التي تنشأ لا محالة عن وجود نساء بلا رجل. وقد تعمل المرأة لتعول نفسها وأهلها، نعم، ولكن حاجتها الطبيعية إلى الجنس كيف تقضيها؟ وما لم تكن هذه المرأة قديسة أو ملاكاً فهل أمامها سبيل إلا الارتماء في أحضان الرجال لحظات خاطفة في ليل أو نهار؟ ثم حاجتها إلى الأولاد.. كيف تشبعها؟ والنسل شهوة بشرية لا ينجو منها أحد، ولكنها لدى المرأة أعمق بكثير منها عند الرجل.
إنها كيانها الأصيل الذي لا تشعر دونه بطعم الحياة.
فهل من سبيل إلى قضاء تلك الحاجات كلها بالنسبة للمرأة ذاتها - بصرف النظر عن حاجة المجتمع إلى أخلاق نظيفة تحفظه من التحلل الذي أصاب دولاً كثيرة فأزالها من قائمة الدول التي لها دور في التاريخ - هل من سبيل إلى ذلك بغير اشتراك أكثر من امرأة في رجل واحد، علانية وبتصريح من القانون، على أن تكون كل منهن أصيلة ذات حقوق متساوية في كل شيء (إلا عواطف القلب المضمرة فهذه ليس لأحد عليها سلطان)؟
ذلك بعض هدف الإسلام من هذا التشريع. وما يقول أحد إن اشتراك امرأة في رجل مع امرأة أخرى فضلاً عن اثنتين أو ثلاث، يريح نفسها ويمنحها السعادة التي تهفو إليها. ولكنها ضرورة. ولولا أنها تجد في هذا الاشتراك ضرراً أخف من بقائها عاطلة بلا رجل ما قبلت الإقدام على ما فيه من منغصات.(1/122)
وشبيه بحالة الحرب كل حالة يختل فيها التوازن لسبب من الأسباب. فالرجال أكثر تعرضاً لحوادث العمل وحوادث الطريق، وللموت في الأوبئة لأنهم أقل مناعة بالطبيعة من النساء. أما حين يتساوى العدد فلا يمكن - حسابياً - أن يقوم تعدد الزوجات. ولم يحدث في أي وقت أن أراد شاب أن يتزوج فلم يجد، لأن غيره من الرجال قد استولى على نصيبه في النساء!
وهناك حالات فردية معروفة لدى الفقهاء يكون تعدد الزوجات فيها ضرورة، منها الطاقة الجنسية الحادّة التي لا تكتفي بواحدة ولا يمكن لصاحبها الصبر عليها. فهذه إما أن تأخذ طريقها المشروع إلى زوجة ثانية، وإما أن تتخذ الخليلات في السر، وهو وضع لا يسمح المجتمع النظيف بوجوده.
ومنها حالات عقم الزوجة. والنسل كما قلنا رغبة بشرية عميقة، وهي رغبة رفيعة لا حطة فيها ولا عيب في اشتهائها. وصحيح أنه لا ذنب للزوجة العقيم في عقمها، ولكن من يقول إنه من العدالة حرمان الزوج - كرهاً عنه - من حقه المشروع في إنجاب الأطفال؟ فإذا رضيت الزوجة الأولى الاشتراك مع غيرها كان بها، وإلا فأمامها طريق الانفصال إذا كانت لا تطيق.
أو حالات المرض الدائم الذي يمنع الاتصال. ولا يقولن أحد إن الرغبة الجنسية دنيئة في ذاتها (77) ولا يجوز أن تكون سبباً في هدم سعادة امرأة. ليست المسألة مسألة دناءة أو ارتفاع. إنها ضرورة لا حيلة لأحد فيها. فإذا ارتفع الرجل عليها تطوعاً، ومراعاة لخاطر الزوجة، فذلك نبل مشكور، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، والاعتراف بالأمر الواقع خير من التظاهر بالنبل مع الخيانة في الظلام، كما يحدث في الدول التي لا تبيح تعدد الزوجات.
أو حالات النفور التي لا يملك الإنسان دفعها ولا السيطرة عليها.(1/123)
ويلاحظ في جميع هذه الحالات أن الزوج يبقى على زوجته الأولى كراهة منه أن يطلقها، ووفاء لعشرته الطويلة معها أن تنتهي بالطلاق، وهو شعور كريم وإن كان لا يؤدي إلى سعادة الزوجة. أما إذا كان يمسك بها ضرراً ومكايدة، فذلك حرام عليه عند الله، وسبب موجب للطلاق حين تطلبه الزوجة.
* * *
ونستمر في استعراض الشبهات، فنتحدث عن حق العمل.
وهو حق لا شبهة فيه، وكانت النساء في صدر الإسلام يعملن حيث تقتضي الظروف منهن العمل. ولكن المسألة ليست مسألة تقرير الحق في ذاته، فالواقع أن الإسلام لا يستريح لخروج المرأة تعمل في غير الأعمال الضرورية التي تقتضيها حاجة المجتمع من ناحية أو حاجة امرأة بعينها من ناحية أخرى. فتعليم البنات، والتمريض، وتطبيب النساء، وما إلى ذلك أمور ينبغي أن تقوم بها المرأة. فهي إذن وظائف يحتم المجتمع أن يشتغل بها النساء، ويملك أن يجندهن لها، كما يجند الرجال للحرب سواء بسواء. وحاجة المرأة إلى العمل لعدم وجود عائل لها، أو عدم كفاية ما يعولها به عائلها، حاجة تقرر حق المرأة في العمل لأن ذلك أصون لها من الابتذال في سبيل العيش.
ولكن هذه وتلك ضرورة. والإسلام يبيحها على هذا الوضع. أما أن يكون الأصل في المجتمع أن تخرج المرأة لتعمل - كما ترى دول الغرب والدول الشيوعية سواء - فهي حماقة لا يقرها الإسلام، لأنها تخرج بالمرأة عن وظيفتها الأولى، وتنشئ من المفاسد النفسية والاجتماعية والخلقية أكبر مما تنتج من الخير.(1/124)
ولا يستطيع أحد في الدنيا كلها أن يزعم أن المرأة بتكوينها الجسدي والفكري والوجداني ليست مهيأة لوظيفة معينة هي الأمومة. فإذا لم تقم بها فذلك إهدار لطاقة حيوية مرصودة لغرض معين، وتحويل لها عن سبيلها الأصيل. وحين تقتضي الضرورة ذلك فلا اعتراض. أما اللجوء إليه بغير ضرورة ملحة، ومجرد استجابة لنزوة حمقاء أصيب بها جيل من البشرية، يريد أن يستمتع بغير حد، وليأت من بعده الطوفان، فأمر لا يطلب من الإسلام قبوله، ولو استجاب له لتخلى عن مزيته العظمى، وهي النظر إلى الإنسانية كلها على أنها كيان متصل لا ينقطع عند جيل من الأجيال.
ويقال إن المرأة تستطيع أن تكون أماً وتكون عاملة، والبركة في المحاضن تحل مشكلة الأطفال.
كلام فارغ لا يثبت عند التمحيص.
تستطيع المحاضن أن تمد الطفل بكل رعاية جسدية، وبكل توجيه عقلي ونفسي علمي، ولكنها لا تستطيع أن تمده بالعنصر الواحد الذي لا تقوم الحياة بدونه ولا تستقيم بغيره الأوضاع. ذلك هو الحب. رعاية الأم. والأم بالذات دون غيرها من النساء.
وليس في طوق المدينة المجنونة أو الشيوعية الحمقاء أن تغير طبائع البشر. فالطفل يحتاج إلى أم كاملة لا يشركه فيها أحد - في السنتين الأوليين على الأقل - ولو كان أخاه الشقيق. أمٌّ يشغلها تشغيلاً كاملاً في إجابة مطالبه، ومناغاته، وإحاطته بالرعاية والأمن في حضنها وبين ذراعيها، وبغير ذلك تملأ نفسه العقد والاضطرابات. فأين له الأم في المحضن، وعشرة أطفال أو عشرون يشتركون في " أم " صناعية واحدة، يتصارعون فيما بينهم على تملكها، فينشأون وقد غلبت على عواطفهم شهوة الصراع، وتتحجر قلوبهم فلا تنبت فيها المودة والإخاء..؟
المحاضن للأطفال - كالعمل للمرأة - ضرورة تقضي بها الحاجة. أما أن تكون هي الأصل بغير ضرورة ملجئة فهو جنون لا يلجأ إليه العقلاء.
وأي جدوى للبشرية من أن تزيد إنتاجها المادي وهي تعرض الإنتاج البشري للتلف والبوار؟(1/125)
وقد يكون للغرب المجنون عذره من ظروفه التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية. أما نحن في منطقة الشرق الإسلامي فما عذرنا؟ هل استنفدنا كل الأيدي العاملة من الرجال فوجدنا العمل ما زال في حاجة إلى مزيد؟ هل نكل الرجل المسلم، أباً كان أو أخاً أو زوجاً أو قريباً، عن إعالة المرأة وتركها تعمل لكي تعيش؟
يقولون إن العمل يعطي المرأة كياناً اقتصادياً مستقلاً فتحصل على كرامتها. فهل الإسلام حرم المرأة من الكيان الاقتصادي المستقل؟ إن المشكلة في الشرق الإسلامي ليست مشكلة النظام، وإنما هي مشكلة الفقر الشامل الذي لا يجعل للمرأة - ولا للرجل - موارد كريمة للعيش. وعلاج ذلك زيادة طاقة الإنتاج حتى يغني الشعب كله برجاله ونسائه، فلا يكون فيه فقراء، وليس علاجه أن تزاحم المرأة الرجل على وسائل الحياة!
ويقولون إن اشتراك إيرادين في إقامة أسرة أكفل لها من إيراد واحد.
وقد يكون هذا حقاً في أحوال فردية. ولكن إذا كانت كل امرأة تعمل في غير الوظائف النسوية تعطل رجلاً عن العمل، فتعطل إقامة أسرة جديدة، وتزيد من فترة التعطل الجنسي الذي يؤدي إلى الجريمة، فأي عقل اقتصادي أو اجتماعي أو خلقي يؤيد هذا الاضطرابات؟
لقد كان الإسلام يلحظ الفطرة البشرية وحاجات المجتمع معاً، حين خصص المرأة لوظيفتها الأولى التي خلقت من أجلها، ووهبت العبقرية فيها، وجعل كفالتها واجباً على الرجل لا يملك النكول عنه، ليفرغ بالها من القلق على العيش، وتتجه بكل جهدها وطاقتها لرعاية الإنتاج البشري الثمين. كما أحاطها - في هذه الوظيفة - بالرعاية الكاملة والاحترام الشامل، حتى إن أحد الناس ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: من أولى الناس بحسن صحابتي؟ فيقول: " أُمك " قال: ثم من؟ قال: " ثم أُمك " قال: ثم من؟ قال: " ثم أُمك " قال: ثم من؟ قال: " ثم أبوك " (78)(1/126)
وبعد فأين هي " القضية " التي تشتغل بها المرأة المسلمة؟ وأي هدف بقي لها في الحياة لم يحققه الإسلام، لتسعى إلى استخلاصه عن طريق حق الانتخاب وحق التمثيل في البرلمان؟
تريد المساواة الإنسانية مع الرجل؟ نعم. ويعطيها الإسلام هذه المساواة نظرياً وعملياً أمام القانون.
تريد الاستقلال الاقتصادي وحرية التعامل المباشر مع المجتمع؟ نعم، وكان الإسلام أول من قرر لها هذه الحقوق.
تريد حق العليم؟ نعم، وقد منحها الإسلام هذا الحق، بل جعله فريضة عليها.
تريد ألا تتزوج بغير إذنها بل أن تخطب لنفسها؟
وأن تعامل معاملة كريمة ما دامت تقوم بدورها الزوجي كما ينبغي؟
وأن يكون لها حق الانفصال حين لا تجد المعاملة بالمعروف؟
نعم.. ويعطيها الإسلام كل ذلك حقاً مفروضاً على الرجال.
تريد حق العمل؟ نعم، ولها ذلك في الإسلام.
أم تريد حرية التهتك والابتذال؟ تلك هي الحرية الوحيدة التي حرمها إياها الإسلام، ولكنه كذلك حرم الرجل منها على قدم المساواة. وحتى تقرير هذه الحرية لا يحتاج إلى دخول البرلمان، وإنما يحتاج فقط إلى حل روابط المجتمع وتقاليده، وحينئذ يتبذل من يريد ويطلق له العنان!
إن دخول البرلمان ليس هدفاً في ذاته كما يفهم المغفلون، وكما تفهم الشاردات الفارغات من نساء المؤتمرات. ولكنه وسيلة لهدف آخر. فإذا تحققت الأهداف فما الحاجة إلى هذه الوسيلة إلا التقليد الأعمى للغرب المفتون، وظروفنا غير ظروفه، وقيم الحياة في نظرنا غيرها هناك؟
* * *
ولكن قوماً سيقولون: ما لنا وما للظروف المختلفة والقيم المتباينة؟ إن وضع المرأة في الشرق وضع سيّىء لا يمكن السكوت عليه. وقد تحررت المرأة في الغرب ونالت مكانتها، فعلى المرأة الشرقية أن تسلك سبيلها وتقلدها للحصول على حقوقها المسلوبة.(1/127)
وهذا كلام فيه حق: فالمرأة في البلاد الإسلامية عامة جاهلة متأخرة مهينة لا كرامة لها، تعيش كما يعيش الحيوان، مغلفة بالقذارة الحسية والمعنوية، تشقى أكثر مما تسعد، وتعطي أكثر مما تأخذ، لا ترتفع كثيراً عن عالم الغريزة ولا يتاح لها الارتفاع.
هذه حقيقة. ولكن من المسئول عن هذه الحقيقة؟ أهو الإسلام وتعاليم الإسلام؟
إن الوضع السيىء الذي تعانيه المرأة الشرقية يرجع إلى ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية ينبغي أن نلم بها، لنعلم من أين تأتينا هذه المفاسد، ونكون على هدى ونحن نحاول الإصلاح.
هذا الفقر البشع الذي يعانيه الشرق منذ أجيال عدة. هذا الظلم الإجتماعي الذي يجعل قوماً يغرقون في الترف الفاجر والمتاع الغليظ، وغيرهم لا يجد لقمة الخبز والثوب الذي يكسو به العورات. هذا الكبت السياسي الذي يجعل من الحكام طبقة غير طبقة المحكومين - طبقة لها كل الحقوق وليس عليها واجبات، والمحكومون يدفعون جميع التكاليف بلا مقابل. وهذا الظلام التعس والإرهاق العصبي الذي يعيش فيه سواد الشعب نتيجة هذه الظروف.. هذا كله هو المسئول عما تعيش فيه المرأة من الذل والاضطهاد.
إن ما تحتاج إليه المرأة هو " عواطف " الاحترام والمودة بينها وبين الرجل. وأين تنبت هذه العواطف في الفقر المدقع والكبت المرهق للجميع؟
ليست المرأة وحدها هي الضحية ولكنه الرجل كذلك، وإن بدا أنه في وضع خير منها.
الرجل يعامل امرأته بالعسف والاضطهاد لأنه يريد أن يحقق كيانه المسلوب في الخارج: كيانه الذي يهينه الخفير والعمدة وصاحب الأرض. أو يهينه عسكري البوليس و " الأفندي " وصاحب المصنع. أو يهينه الرئيس في المصلحة. كيانه الذي يهدده الذل والحاجة، والأوضاع الظالمة التي لا يملك مواجهتها ولا التغلب عليها، " فيسقط " غضبه المكظوم على زوجته وأولاده ومن يلوذ به من الأهلين.(1/128)
وهذا الفقر الكافر الذي يشمل المجتمع، والذي يشغل جهد الرجل ويستنفد طاقته النفسية والعصبية، فلا يعود في نفسه تلك السعة التي تنشأ فيها عواطف المحبة والمعاملة الكريمة للآخرين، ولا في أعصابه تلك الطاقة التي تحتمل أخطاء الناس التافهة وتصبر عليها أو تصفح عنها.
هذا الفقر ذاته هو الذي يستعبد المرأة للرجل، ويجعلها تحتمل ظلمه وعسفه لأنه خير من الحياة بلا عائل. هو الذي يغل يدها عن استخدام حقوقها الشرعية المخولة لها، والتي كان يمكن أن توقف الرجل عند حده لو لجأت إليها. فهي في خوف دائم من أن يطلقها زوجها، وعندئذ ماذا تصنع؟ الأولاد قد يكفلهم أبوهم. أما هي؟ من يكفلها؟ أهلها الفقراء المرهقون؟ إنهم لضيقهم بتكاليف الحياة لا يرحبون بانفصالها عن زوجها لئلا تزيد في أعبائهم، فينصحونها باحتمال الذل المهين.
هذه واحدة ...
وفي المجتمع المتأخر - والشرق اليوم متأخر ولا شك، لأنه فقد أهدافه وفقد نفسه وأغرق في الظلمات - في المجتمع المتأخر تهبط القيم الإنسانية كلها، وتصبح الفضيلة الوحيدة هي القوة في جميع صورها وأشكالها. ويصبح الضعف مبرراً للمهانة والتحقير.
وإذ كان الرجل أقوى من المرأة فهو يحتقرها، لأنه هو هابط لا يستطيع الارتفاع إلى المستوى الإنساني الذي يُحترم فيه الإنسان لأنه إنسان. إلا أن يكون لها ملك! فحينئذ تحترم لأنها تملك وسيلة من وسائل القوة والسلطان!
وفي المجتمع المتأخر كذلك يهبط الناس إلى غرائزهم أو قريباً منها. وتستولي على الناس شهوة الجنس خاصة فيرون الحياة من خلالها وفي حدود دائرتها. عندئذ تصبح المرأة في حس الرجل متاعاً ليس غير (79)، ولا يجد فضلة نفسية أو عقلية أو روحية يضفي بها عليها معاني الإنسانية الكريمة التي تولد الاحترام. وإذ كان الاتصال الجنسي في عالم البهائم يمثل لوناً من سيطرة الذكر على الأنثى، فهنا يجتمع مزيج من شعورين هابطين: شعور السيطرة وقت العمل، والإهمال بعد الانتهاء.(1/129)
وفي البيئة المتأخرة تهمل التربية، لأنها تبدو - في وسط الجهل والمسغبة - ترفاً لا تتطلع إليه العيون. والتربية هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل من الإنسان إنساناً، وترفعه عن مستوى الحيوان. وحين لا توجد التربية، أو توجد في صورة فاسدة، فالناس على غرائزهم من عبادة القوة وقياس الحياة بمقياس الشهوات.
وفي هذه البيئة تعمل الأم - بغير وعي منها - على إفساد مشاعر الرجل نحو المرأة وصبغها بالدكتاتورية والتحكم المستبد. ذلك أن الأم التي تدلل طفلها، ولا توقفه عند حد معقول، تعوده أن تكون كلمته هي الأمر المطاع سواء كان على خطأ أو صواب، وتعوده كذلك ألا يضبط شهواته ونزعاته، فإذا أوامره التي يريد أن يفرضها على الآخرين هي وحي هذه الشهوات والنزعات، فإن وقف المجتمع الخارجي بما فيه من اضطراب وكبت وحرمان دون تحقيق الكيان السوي، بله المنحرف، عاد الرجل يصب سوءاته كلها على من دونه من رجال ونساء وأطفال.
* * *
تلك أبرز عوامل الفساد في المجتمع الشرقي. وهي التي تنشيء مشكلة المرأة، وتضعها في وضعها المشين. فأي تلك العوامل قد نشأ من الإسلام وأيها يتمشى مع روح الإسلام؟
آلفقر؟!
أليس الإسلام هو الذي رفع المجتمع إلى الدرجة التي لا يوجد فيها فقير يطلب الزكاة أو يقبلها في عهد عمر بن عبد العزيز؟ هذا هو الإسلام الذي طبق في واقع الأرض، والذي نطلب تطبيقه اليوم. إنه النظام الذي يوزع المال توزيعاً عادلاً بين طوائف الأمة " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ويقرب بين مستويات الناس لأنه يكره الترف ويحرمه، ويكره الفقر ويعمل على إزالته.(1/130)
والفقر هو العامل الأول في مشكلة المرأة الشرقية، فإذا زال فقد انحلت العقدة الكبرى ووجدت المرأة كرامتها. وليس من الضروري أن تعمل المرأة لتكسب - وإن كان ذلك حقاً مباحاً لها - ولكن ارتفاع مستوى الثروة لمجموع الشعب يجعل نصيب المرأة من الميراث - وهو نصيب لا تعول منه أحداً إلا نفسها - كفيلاً باحترام الرجل لها، ومشجعاً لها على التمسك بحقوقها التي تتخلى عنها خوفاً من مواجهة الفقر.
آلظلم السياسي الذي يكبت الرجل فينفس عن حقده الحبيس في المنزل؟!
وهل كان الإسلام إلا ثورة على الظلم ودعوة إلى مقاومة الظالمين؟ أليس هو الذي وصل في تربيته للبشر حكاماً ومحكومين أن يقول عمر: " اسمعوا وأطيعوا " فيقول له رجل من المسلمين: لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به! فلا يغضب عمر، بل يقر السائل على سؤاله ويشرح له حقيقة الأمر حتى يقتنع ويقول: " الآن مر، نسمع ونطع "! هذا هو الإسلام الذي عرفته الأرض مرة، والذي نطلبه اليوم مرة أخرى. وحين يطبق لن يجد الناس الكبت الذي يقع عليهم من أعلى فيضطرهم إلى التنفيس المقلوب. وستكون معاملة الحاكم للمحكوم نبراساً يحتذيه كل شخص في معاملة كل شخص، ويحتذيه الرجل في معاملته لزوجته وأطفاله بالعدل والحسنى، والمودة والإخاء.
آلقيم الإنسانية الهابطة؟!(1/131)
وهل جاء الإسلام إلا ليرفع الناس عن الهبوط، ويضع لهم القيم الحقيقة التي يصبحون بها آدميين؟ " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " لا أغناكم ولا أقواكم ولا أكثركم سلطاناً. وحين ترتفع القيم البشرية إلى هذا المستوى لا يكون هناك مجال لازدراء المرأة لضعفها، بل يكون مقياس الإنسانية هو حسن معاملة الرجل للمرأة وهو المقياس الذي وضعه الرسول صراحة حين قال: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (80) يقصد زوجته بتعبير العرب. وكان بهذه الكلمات، صلى الله عليه وسلم، عميق الإدراك لحقائق النفوس، فما يعامل أحد إنساناً تحت كفالته بالسوء إلا وفي نفسه عقد واضطربات تهبط به في مقياس الآدميين.
آلهبوط إلى عالم الغرائز؟!
ومتى أباح الإسلام للناس أن يعيشوا على غرائزهم بغير تهذيب؟ إنه يعترف بها اعترافاً صريحاً. نعم. ولكنه لا يسايرها في هبوطها ولا يقبل أن تستبد بالناس حتى تصبح هي الكوة التي ينظرون منها إلى الحياة.
وليس إلزامه للمرأة والرجل أن يقوم كل منهما بقضاء حاجة الآخر هبوطاً بالإنسان إلى مستوى الغريزة. وإنما يقصد الإسلام من ذلك إلى إطلاق الناس من ضروراتهم، فلا تشغل هذه الضرورات بالهم وأعصابهم، فتمنعهم من توجيه طاقتهم إلى ميادين الإنتاج العليا، سواء في عمل أو فن أو عبادة، أو تلجئهم إلى الجريمة حين يتعذر إشباعها بالطريق المشروع. ولكنه لم يدع الناس قط إلى أن تستغرقهم شهواتهم ويشغلهم الاستمتاع بها عن الحياة الإنسانية الرفيعة، فشغل الرجل بالجهاد في سبيل الله، جهاداً دائماً لا ينقطع، وشغل المرأة بالجهاد في تربية أطفالها ورعاية منزلها، حتى تصبح لكليهما أهداف لا تقف عند حدود الضرورات والشهوات.
أم سوء التربية؟!
لعل أحداً لا يجرؤ أن يقول ذلك عن الإسلام، والقرآن كله والأحاديث كلها دعوة لتهذيب النفوس وتربيتها على ضبط النفس والتزام العدل واحترام الآخرين وحبّهم كما يحب الإنسان نفسه.(1/132)
أما التقاليد التي يزعم كتاب اليوم أنها هي التي تؤخر المرأة وتغلفها بغلاف الحيوانية والجمود وضيق الأفق والجهالة فما هي في حقيقتها؟
التقاليد التي لا تمنع العلم، ولا تمنع العمل، ولا تمنع التعامل النظيف مع المجتمع ما عيبها وما الضرر منها؟ (81)
إنها تمنع التبذل الخلقي والرقاعة والتفاهة والخروج إلى الشارع لنشر الفتنة والانحلال. فهل بهذه الوسائل وحدها تتقدم المرأة وتنال كرامتها؟
من ذا الذي يقول إن الطريق الوحيد لصقل شخصية المرأة وتزويدها بالخبرة والتجربة هو أن تخرج إلى مهاوي الفتنة، فتبذل نفسها لأحد الشبان ثم تكتشف بعد أن تبذل نفسها، أنه شاب وضيع لا يريدها إلا للمتاع الجسدي، ولا يحترم كيانها كامرأة، فتنصرف عنه إلى شاب جديد. كما تصنع فتيات الغرب المتحضرات المصقولات؟!
من يقول ذلك إلا الذين يودون أن تشيع الفاحشة في المجتمع ليحصلوا على رغباتهم الهابطة من أيسر طريق، دون أن تحول دونهم " التقاليد "؟!
والتعليم ما وظيفته؟ أو ليس يعطي الخبرة النظرية على الأقل بشئون الحياة؟
والزواج؟ أليس هو تجربة عملية نظيفة تنضج النفوس وتزود العقول بالتجارب؟
وفي مصر كاتب غير مسلم كان يكتب كل أسبوع في صحيفة أسبوعية ليتناول الإسلام بالغمز والتجريح بالتلميح أو التصريح، ولا يفتأ يقول للنساء: انبذن تقاليدكن " البالية " واخرجن واختلطن بالرجال في جرأة، واقتحمن المصانع والمتاجر للعمل، لا دفعاً للضرورة، ولكن فقط تحدياً للتقاليد التي تحتجزكن للأمومة ورعاية الإنتاج البشري!
وكان هذا الكاتب يقول إن المرأة تسير في الشارع خافضة البصر لأنها لا تثق بكيانها، ويغمرها الخوف من الرجل ومن المجتمع! ولكنها حين " تصقلها التجربة " ترفع رأسها متحدية، وتنظر إلى الرجال بعينين ثابتتين(82).
ويقول التاريخ إن عائشة، التي اشتركت في السياسة العامة في صدر الإسلام وقادت الجيوش، وخاضت المعارك، كانت تكلم الناس من وراء حجاب!(1/133)
ولم يكن غض البصر خلقاً يختص بالنساء فقط، فإن التاريخ يروي كذلك أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، كان أشد حياء من العذراء. ألعله لم يكن يثق بكيانه، ولا يعرف حقيقة رسالته للبشرية؟!
ألا متى يرتفع الكتاب التافهون عن مثل هذه التفاهات؟!
* * *
إن المرأة في وضع سيىء دون شك، ولكن طريقها لتصحيح وضعها ليس طريق المرأة الغربية التي لها ظروفها الخاصة وانحرافاتها الخاصة.
إن طريقنا لإصلاح الخطأ في حياة المرأة والرجل على السواء هو العودة إلى نظام الإسلام. طريقنا أن ندعو جميعاً رجالاً ونساء وشباناً وفتيات إلى حكم الإسلام وشريعة الإسلام، وأن نؤمن بهذه القضية، ونمنحها جهدنا وتفكيرنا وعواطفنا. وحينئذ.. حين نؤمن ونعمل لتنفيذ ما نؤمن به، يحكم الإسلام، ويرد كل شيء إلى مكان الصحيح بلا ظلم ولا طغيان.
الإسلام... والعقوبات
هل يمكن أن تطبق اليوم تلك العقوبات الهمجية التي كانت تطبق في الصحراء؟ هل يجوز أن تقطع يد في ربع دينار؟ اليوم في القرن العشرين الذي يعتبر المجرم فيه ضحية من ضحايا المجتمع، ينبغي علاجه ولا يجوز أن تمتد إليه يد بالعقاب؟
إن القرن العشرين يجيز لك مثلاً أن تقتل أربعين ألفاً في الشمال الإفريقي في مجزرة واحدة لأنهم أبرياء، ولكن كيف يجيز لك أن تعاقب فرداً واحداً لأنه مجرم أثيم؟
ويل للناس من الألفاظ.. كم تخدعهم عن الحقيقة؟!
فلنترك حضارة القرن العشرين تتخبط في آثامها، ولنبسط فكرة الجريمة والعقاب في الإسلام.
الجريمة في الغالب اعتداء موجه من الفرد إلى الجماعة (83). ولذلك كانت فكرة الجريمة والعقاب وثيقة الصلة بنظرة الأمم لطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع.(1/134)
فالأمم الفردية - كدول الغرب الرأسمالية - تبالغ في تقديس الفرد وتجعله محور الحياة الاجتماعية كلها، كما تبالغ في التحريج على حق المجتمع في فرض القيود على حرية الفرد. وتمتد هذه النظرة إلى الجريمة والعقاب، فتعطف هذه الدول على المجرم عطفاً بالغاً، وتدلله باعتباره ضحية أوضاع فاسدة أو عقد نفسية أو اضطرابات عصبية لم يكن يملك التغلب عليها، ومن ثم تحاول تخفيف العقوبة عنه بقدر الإمكان، وتظل تخففها في الجرائم الخلقية خاصة حتى تكاد تخرج بها من دائرة العقاب.
وهنا يتدخل علم النفس التحليلي ليبرر الجريمة.
وقد كان فرويد بطل هذا الانقلاب التاريخي في النظر إلى المجرم على انه ضحية العقد الجنسية التي تنتج من كبت المجتمع والأخلاق والدين والتقاليد للطاقة الجنسية التي يجب أن تجد منصرفها الطليق! ثم تبعته مدارس التحليل النفسي سواء اعترفت مثله بأن الطاقة الجنسية هي مركز الحياة أم لم تعترف. والمجرم في نظرها جميعاً مخلوق سلبي لا يملك أمره من تأثير البيئة العامة والظروف الخاصة التي نشأ فيها وهو طفل صغير. فهم يؤمنون بما نسميه " الجبرية النفسية " أي أن الإنسان لا إرادة له ولا تصرف في الطاقة النفسية التي تتصرف بطرقة جبرية.
والأمم الجماعية على العكس من ذلك تؤمن بأن المجتمع هو الكائن المقدس الذي لا ينبغي لفرد أن يخرج عليه، ومن هنا تشتد في عقوبة الفرد الخارج على الدولة إلى حد القتل والتعذيب.
والشيوعية خاصة تؤمن بأن الجرائم كلها تنشا من أسباب اقتصادية، لا من أسباب نفسية أصيلة كما يؤمن فرويد وغيره من العلماء التحليليين. ففي المجتمع الذي تختل اقتصادياته لا يمكن أن تنِشأ الفضائل، ولا يجوز أيضاً معاقبة المجرم، أما في روسيا حيث يسير الاقتصاد بالعدالة المطلقة فلست أدري لم تنشأ الجرائم، ولماذا تقام هناك المحاكم والسجون!(1/135)
لا ريب على أي حال في أن كلتا النظرتين تشتمل على شيء من الحق وشيء من المبالغة. فالظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه، والعقد اللاشعورية تدفع أحياناً إلى الجريمة. ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء الظروف. إن عيب المحللين النفسين أنهم - بطبيعة عملهم - ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان - إلى " الدينامو " - ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة - إلى الفرامل - مع انها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج. إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سن معينة - حتى ولو لم يدربه أحد - لهي ذاتها - أو شبيهة بها - الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة أو وراء النزوة الطارئة.
ومن جانب آخر فإن الظروف الاقتصادية ذات أثر في تكوين مشاعر الأفراد وأعمالهم. والجوع يدفع إلى الجريمة كما يدفع إلى السقوط الخلقي، بما يفكك من كيان النفس وما ينمي فيها من الأحقاد. ولكن القول بأن العامل الاقتصادي هو الوحيد الذي يؤثر في سلوك البشر قول مبالغ فيه تكذبه وقائع الحياة، ويكذبه قيام الجرائم في الاتحاد السوفييتي ذاته الذي يقول دعاته إنه قضى على الفقر والجوع.
بقي أن نسأل: ما مدى مسئولية المجرم إذن عن جريمته، لكي نوقع - أو لا نوقع - عليه العقوبات؟
ومن هذا الجانب يأخذ الإسلام مسألة الجريمة والعقاب.
إنه لا يقرر العقوبات جزافاً، ولا ينفذها كذلك بلا حساب. وله في ذلك نظرة ينفرد بها بين كل نظم الأرض، نظرة تلتقي حيناً برأي الدول الفردية، وحيناً برأي الدولة الجماعية، ولكنها تمسك بميزان العدالة من منتصفه، وتحيط بالظروف والملابسات كلها في وقت واحد، وتنظر إلى الجريمة في آن واحد بعين الفرد الذي ارتكبها، وعين المجتمع الذي وقعت عليه، ثم تقرر الجزاء العادل الذي لا يميل مع النظريات المنحرفة ولا شهوات الأمم والأفراد.(1/136)
يقرر الإسلام عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذاً سطحياً بلا تمعن ولا تفكير، ولكنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أولاً أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر ولا شبهة اضطرار.
فهو يقرر قطع يد السارق، ولكنه لا يقطعها أبداً وهناك شبهة بأن السرقة نشأت من الجوع.
وهو يقرر رجم الزاني والزانية، ولكنه لا يرجمهما إلا أن يكونا محصنين، وإلا أن يشهد عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة. أي حين يتبجحان بالدعارة حتى ليراهما كل هؤلاء الشهود، وهما متزوجان.
وهكذا وهكذا في جميع العقوبات التي قررها الإسلام.
ونحن نأخذ هذا من مبدأ صريح قرره عمر بن الخطاب، وهو من أبرز الفقهاء في الإسلام، وهو فوق ذلك رجل شديد التزمت في تنفيذ الشريعة، فلا يمكن اتهامه بالبحبحة في التطبيق.
وعمر لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة، عام الجوع، حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع.
والحادثة التالية أبلغ في الدلالة وأصرح في تقرير المبدأ الذي نشير إليه:
" روى أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر، فأقروا، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم. فلما ولى رده ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم. ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي بلتعة فقال: وأيم الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك! ثم قال يا مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة "
فهنا مبدأ صريح لا يحتمل التأويل، هو أن قيام ظروف تدفع إلى الجريمة يمنع تطبيق الحدود، عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " ادرأوا الحدود بالشبهات " (84).(1/137)
فإذا استعرضنا سياسة الإسلام في جميع العقوبات التي قررها، وجدنا أنه يلجأ أولاً إلى وقاية المجتمع من الأسباب التي تؤدي إلى الجريمة، وبعد ذلك لا قبله يقرر عقوبته الرادعة وهو مطمئن إلى عدالة هذه العقوبة، بالنسبة لشخص لا يدفعه إلى جريمته مبرر معقول. فإذا عجز المجتمع لسبب من الأسباب عن منع مبررات الجريمة، أو قامت الشبهة عليها في صورة من الصور، فهنا يسقط الحد بسبب هذه الظروف المخففة، ويلجأ ولى الأمر إلى إطلاق سراح المجرم أو توقيع عقوبات التعزير - كالضرب والحبس - بحسب درجة الاضطرار أو درجة المسئولية عن الجريمة.
فهو مثلاً يسعى إلى توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وقد وصل في عهد عمر بن عبد العزيز إلى إلغاء الفقر من المجتمع. ويعتبر الدولة مسئولة عن كفالة كل فرد فيها بصرف النظر عن دينه وجنسه ولغته ولونه ومكانه في الحياة الاجتماعية. والدولة تكفل أفرادها بإيجاد العمل الكريم لهم. أو من بيت المال إذا لم يوجد عمل، أو عجز عنه فرد من الأفراد. وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة. ومع ذلك يحقق في كل جريمة تقع، ليتأكد قبل توقيع العقوبة أن مرتكبها لم يرتكبها بدافع الاضطرار.
وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي وعنف إلحاحه على البشر. ولكنه يعمل على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع: طريق الزواج، فيدعو إلى الزواج المبكر، ويعين على إتمامه من بيت المال إذا حالت الظروف الخاصة دون إتمامه. ويحرص كذلك على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء التي تثير الشهوة، وعلى وضع الأهداف العليا التي تستنفد الطاقة الحيوية الفائضة وتوجهها في سبيل الخير، وعلى شغل أوقات الفراغ في التقرب إلى الله، وبذلك كله يمنع الدوافع التي تبرر الجريمة. ومع ذلك فهو لا يبادر بتوقيع العقوبة حتى يكون مرتكبها قد تبجح بها استهتاراً بتقاليد المجتمع وإمعاناً في الهبوط الحيواني حتى ليراه أربعة شهود.(1/138)
وأول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والخلقية الموجودة اليوم، كلها تباعد بين الشباب وبين الزواج، وتقرب بينهم وبين الجريمة. وذلك صحيح. والإسلام ينبغي أن يؤخذ كله وإلا فهو غير مسؤول عن انحرافات الجاهلية. وحين يحكم الإسلام فلن تكون هذه المثيرات الجنونية التي تدفع الشباب دفعاً إلى الهبوط. لن تكون السينما العارية والصحافة الخليعة والأغاني المبتذلة والفتنة الهائجة في الطريق. ولن يكون الفقر الذي يمنع الناس من الزواج. وعندئذ فقط يطالب الناس بالفضيلة وهم قادرون عليها وتوقع عليهم العقوبة وهم غير معذورين.
وهكذا شان الإسلام في بقية العقوبات. يعمل على وقاية المجتمع أولاً من دوافع الجريمة، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط. فأي نظام في الدنيا كلها يبلغ هذه العدالة؟
وإن " الإفرنج " الذين يخشى المسلمون تشنيعهم على الإسلام بسبب تطبيق هذه العقوبات ليستفظعونها ويرون فيها إهداراً لكيان الفرد واستهتاراً بشأنه، لأنهم لم يدرسوا نظرة الإسلام للجريمة والعقاب على حقيقتها. ولأنهم يتصورون خطأ أنها كعقوباتهم " المدنية " ستطبق كل يوم، فيتصورون في المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة: هذا يجلد وهذا يقطع وهذا يرجم. ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة لا تكاد تنفذ.
ويكفي أن نعلم أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات في أربعمائة سنة لنعرف أنها عقوبات قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء. كما أن معرفتنا بطريقة الإسلام في وقاية المجتمع من أسباب الجريمة قبل توقيع العقوبة تجعلنا في اطمئنان تام إلى العدالة في الحالات النادرة التي توقع فيها هذه الحدود.
ولن يجد هؤلاء " الإفرنج " أو غيرهم ما يخشونه من تطبيق الحكم الإسلامي إلا أن يكون كلهم مجرمين بالطبع، مصرين على الإجرام رغم انتفاء المبررات التي تدفعهم إلى الجريمة!(1/139)
وربما خيل لبعض الناس أنها إذن عقوبات صورية لا قيمة لها في الواقع. وهذا غير صحيح. فهي موجودة لتخويف بعض الأفراد الذين لا يلجئهم إلى الجريمة دافع معقول، ولكنهم مع ذلك يحسون ميلاً إليها وإقبالاً على ارتكابها، فمهما تكن أسباب هذا الدافع فسوف يراجع هؤلاء الأفراد أنفسهم مرات عديدة قبل ارتكاب الجريمة خوفاً من العقاب. وإن من حق المجتمع ما دام يعمل في سبيل الخير، ويرعى الجميع بعنايته، أن يطمئن على أرواحه وأعراضه وأمواله أن تمتد إليها يد العدوان. ثم إن الإسلام لا يمتنع عن علاج هؤلاء النزاعين إلى الجريمة بغير مبرر واضح، ولا يتركهم - إذا اكتشفهم - فريسة لما ينطوون عليه من انحراف.
* * *
تلك عقوبات الإسلام التي يخشاها الشباب " المثقف " والتي ينفر منها بعض فقهاء القانون لئلا يصمهم الإفرنج بالهمجية والانحطاط! ألا من يعلّم هؤلاء وهؤلاء حكمة هذا التشريع الإسلامي الرفيع!
الإسلام... والحضارة
أتريدون أن ترجعوا بنا ألف سنة إلى الوراء.. إلى عهد الخيام؟
لقد كان الإسلام صالحاً لأولئك الحفاة الجفاة من الأعراب قبل ألف عام. وكانت سذاجته وبدائيته مناسبة للبيئة البدوية التي نشأ فيها. أما اليوم فهل يصلح في عهد المدنية والحضارة الآلية؟ عصر الطائرات الصاروخية والقنابل الهيدروجينية وناطحات السحاب والسينما المجسمة؟!
إنه دين جامد لا يتفاعل مع الحضارة الحديثة، ولا مناص من نبذه إذا أردنا أن نتحضر كبقية خلق الله!
* * *
شبهة غبية لا يقول بها أحد درس تاريخ هذا الدين. وإلا فأين ومتى وقف الإسلام في طريق الحضارة؟(1/140)
لقد نزل الإسلام - فيما نزل - في قوم نصفهم من الأعراب، بلغ من جفوتهم وغلظة قلوبهم أن يقول فيهم القرآن: " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " فكانت معجزته العظمى أن جعل من هؤلاء الغلاظ الجفاة أمة من الآدميين، لا يكتفون بأنهم اهتدوا بهدى الله فارتفعوا من حيوانيتهم إلى آفاق الإنسانية الرفيعة، بل أصبحوا هم أنفسهم هداة البشرية يدعونها إلى هدى الله. وذلك وحده برهان على ما في هذا الدين من قدرة عجيبة على تحضير الناس وتهذيب النفوس.
ولكن الإسلام لم يكتف بهذا العمل الجبار في داخل النفوس. وهو العملية الحقيقية التي تستأهل الجهد وتستحق التسجيل، لأنها الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات.. لم يكتف الإسلام بهذا التهذيب العميق للأفكار والمشاعر، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لباب الحياة، فتبنّى كل الحضارات التي وجدها في البلاد المفتوحة في مصر وفارس وبلاد الروم، ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد الله. ثم تبنّى كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق المسلمين في البحث، واشتغالهم الجدي بالعلم، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي التي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع.
فمتى؟ متى وقف الإسلام في وجه حضارة نافعة للناس؟
* * *
أما موقف الإسلام من الحضارة الغربية السائدة اليوم فهو موقفه من كل حضارة سابقة. يتقبل كل ما تستطيع أن تمنحه من خير، ويرفض ما فيها من شرور. فهو لا يدعو - ولم يدع قط - إلى عزلة علمية أو مادية، ولا يعادي الحضارات الأخرى معاداة شخصية أو عنصرية، لإيمانه بوحدة البشرية واتصال الوشائج بين البشر من جميع الأجناس وجميع الاتجاهات.(1/141)
وإذن فلا خوف من أن تقف الدعوة الإسلامية دون استخدام ثمار الحضارة الحديثة كما يفهم بعض البلهاء من المثقفين. ولن يشترط المسلمون أن تكون الأدوات والآلات مكتوباً عليها " بسم الله الرحمن الرحيم " حتى يقبلوا استخدامها في منازلهم ومصانعهم ومزارعهم ومختلف مرافق حياتهم! وإنما يكفي أن يستخدموها هم باسم الله وفي سبيل الله. والآلة في ذاتها لا يمكن أن يكون لها دين ولا جنس ولا وطن. ولكن الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بأولئك جميعاً. فالمدفع في ذاته إنتاج بشري لا عنوان له، ولكنك حين تستخدمه لا تكون مسلماً إذا استخدمته في الاعتداء على الآخرين، فشرط استخدامه في الإسلام أن يكون دفعاً لعدوان أو إحقاقاً لكلمة الله في الأرض. والسينما في ذاتها إنتاج بشري كذلك. وتستطيع أن تكون مسلماً حين تستخدمها في عرض العواطف النظيفة والإنسانية الرفيعة وصراع الأحياء في سبيل الخير، ولكنك لا تكون مسلماً وأنت تستخدمها لعرض الأجساد العارية والشهوات العارية والإنسانية الهابطة في حمأة الرذيلة. الرذيلة من كل نوع. خلقية كانت أم فكرية أم روحية. فليس عيب الأفلام التافهة التي تغرق الأسواق هو مجرد استثارة الغرائز الدنيا، ولكنه تهوين الحياة وحصرها في أهداف تافهة رخيصة لا يمكن أن تكون غذاءً لبشرية صالحة.
وكذلك لم تقف الدعوة الإسلامية دون التفاعل مع التجارب العلمية التي تنتجها البشرية في أي مكان على الأرض. فكل تجربة بشرية صالحة هي غذاء يجب أن يجربه المسلمون، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة " واعلم حين يطلق هكذا يشمل كل علم، وقد كانت دعوة الرسول إلى العلم كافة، ومن كل سبيل.(1/142)
كلا! لا خوف من وقوف الإسلام في وجه الحضارة ما دامت نفعاً للبشرية. أما إذا كانت الحضارة هي الخمر والميسر، والدعارة الخلقية، والاستعمار الدنيء، واستعباد البشر تحت مختلف العنوانات، فحينذاك يقف الإسلام حقاً في وجه هذه " الحضارة " المزعومة، ويقيم نفسه حاجزاً بين الناس وبين التردي في مهاوي الهلاك.
الإسلام... والرجعَّية
وتريدون أن نحجز أفكارنا ومشاعرنا فنقف عند أوضاع لم تعد اليوم مقبولة ولا منطقية مع الحياة الجديدة، وتقاليد وضعت لأجيال غير هذه الأجيال، واستنفدت أغراضها، وأصبحت اليوم رجعية تعوق التقدم وقيداً يعوق الانطلاق؟
أما تزالون تصرُّون على تحريم الربا، وهو ضرورة اقتصادية لا غنى عنها في العالم الحديث؟
وتصرون على جمع الزكاة وتوزيعها في محل جبايتها؛ وهي بدائية لا تتفق مع مع نظام الدولة الحديثة، فضلاً عن أنها تشعر الفقراء من أهل القرية أو المدينة أن فلاناً من الأثرياء هو الذي يحسن إليهم، فيظلون أذلاء له خاضعين لسلطانه؟
وتصرون على تحريم الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين والرقص المشترك واتخاذ الخليلات والخلان، وذلك كله ضرورة اجتماعية في العصر الحديث لا يمكن الاستغناء عنها ولا وقفها لأنها " تطور " لا بدّ أن يأخذ طريقه؟
أف لكم! أية رجعية تنادون بها أيها المسلمون!
* * *
وهذا الذي يقولونه صحيح من جانب، وخطأ ومغالطة من جانب آخر.(1/143)
صحيح أن الإسلام يحرم الربا. ولكن ليس صحيحاً أن الربا ضرورة اقتصادية. وفي العالم اليوم نظريتان اقتصاديتان لا تقومان على الربا: هما النظرية الإسلامية والنظرية الشيوعية على اختلاف ما بينهما في الأصل والاتجاه. كل المسألة أن الشيوعية قد وجدت القوة التي تنفذ بها نظامها واقتصادياتها، والإسلام لم يجمع قوته بعد؛ ولكنه في طريقه إلى القوة. وهو صائر إليها بحكم طبائع الأشياء، وبحكم جميع الدلالات الكامنة في الصراع القائم اليوم في مختلف بلاد العالم، وهي دلالات توحي كلها ببعث إسلامي جديد.
وحين يحكم الإسلام فسوف يقيم اقتصادياته على غير الربا، فلا تعجزه ضرورة اقتصادية. كما أقامت الشيوعية نظامها على غير الربا فلم تعجزها هذه الضرورة الوهمية.
ليس الربا إذن ضرورة لا مناص منها للعالم الحديث. وإنما هو ضرورة فقط في العالم الرأسمالي، لأن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم بدونه. ومع ذلك فكبار الاقتصاديين في الغرب الرأسمالي من أمثال الدكتور شاخت ينددون بنظام الربا ويقولون إن نتيجته الحتمية على مر الأجيال هي تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس، وحرمان المجموع منها رويداً رويداً، ووقوع الملايين - تبعاً لذلك - في العبودية لهذه الفئة الصغيرة المالكة للثروة. ونحن نرى مصداق ذلك في الرأسمالية الحالية بغير حاجة إلى تعمق في دراسة الاقتصاد. وقد كان من معجزات النظام الإسلامي أنه حرم الربا والاحتكار - وهما دعامتا الرأسمالية - قبل ظهور الرأسمالية بما يقرب من ألف عام، لأن الله الذي نزّل هذا الدين يرى الأجيال كلها في وقت واحد، ويعلم - وهو العليم الخبير - ما يؤدي إليه الربا من كوارث في عالم الاقتصاد، فضلاً عما يثيره بين طوائف الأمة من الإحن والأحقاد.(1/144)
وإن من أعجب العجب أن كاتباً " مكافحاً! " في إحدى الصحف الأسبوعية يندد بالإسلام لإصراره على تحريم الربا، في الوقت الذي يعتنق هذا الكاتب مبادئ الاشتراكية التي تقوم على غير أساس الربا، وفي الوقت الذي بدأت الرأسمالية ذاتها تتنصل من عواقب الربا وتتحول رويداً رويداً إلى الاشتراكية! فليست المسألة إذن مبادئ يعتنقها صاحبها عن فهم وإيمان. وإنما هي مجرد شهوة في التهجم على الإسلام!
ومن العجب كذلك أن وزيراً " مسلماً " قضى شبابه منتمياً إلى هيئة دينية، يحاول - إرضاء لرؤوس الأموال الأجنبية - أن يتطوع فينفي عن الإسلام تهمة الجمود (!) فيقول إنه آن الأوان لمراجعة تشريع الربا في الإسلام، " لنتطور " به تبعاً للظروف القائمة اليوم! فيشتري رضاء السادة أصحاب رؤوس الأموال بغضب الله، ويتمسح بالتطور الاقتصادي وهو أجهل الناس به إن كان يقصد حقاً ما يقول! وكذلك فعل شيخ للأزهر يحرف الكلم عن مواضعه، بعدما كان له رأي سابق - قبل المشيخة - يحرم فيه الربا بتاتاً، ويقول الحق فيه!
إن الربا ضرورة مذلة بالنسبة إلينا اليوم، لأن اقتصادياتنا ما زالت معتمدة على العون الخارجي. ولكن الخضوع لهذه الضرورة حتى تنتهي شيء، والتطور المزعوم شيء آخر. وفي اليوم الذي تستقل فيه اقتصادياتنا في العالم الإسلامي بأجمعه وتستطيع الوقوف على قدميها، وتكون علاقتنا مع العالم على أساس التبادل الحر لا على أساس الخضوع.. في ذلك اليوم نقيم اقتصادياتنا على قواعد الإسلام، ونحرم الربا، فنكون بالنسبة للعالم كله تقدميين متطورين!
أما الزكاة فقد تحدثنا عنها قي فصل سابق بما لا يدع مجالاً للشك في صفتها، وهل هي إحسان ممنوح للفقراء، أم حق تؤديه الدولة بتكليف من الله منزّل التشريع.
ولكن الشبهة هنا هي محلية الزكاة. أي توزيعها في مكان جبايتها.(1/145)
ويضحك الإنسان من بلاهة " المثقفين " حين يرون النظام الواحد يأتي من الغرب " المتحضر " فيفتحون أفواههم عجباً وإعجاباً بآخر " تطورات " الحضارة، والنظام ذاته يأتي من طريق الإسلام فيكون رمز التأخر والانحطاط والجمود!
آخر تطورات النظام الإداري في أمريكا هو اللامركزية الكاملة. فالقرية وحدة اقتصادية وسياسية واجتماعية مستقلة، في حدود ترابطها بالمدينة وبالولاية، ثم بالحكومة المركزية للولايات المتحدة. وفي هذه الوحدة المستقلة تجبى الضرائب التي يفرضها المجلس القروي بنسب معينة. ثم تنفق في ذات القرية، في شئون تعليمها وصحتها ووسائل مواصلاتها وخدماتها الاجتماعية.. الخ. فإذا فضلت منها فضلة أرسلتها " الحكومة " المدينة أو الولاية. أما إذا احتاجت فهي تستمد من هناك. وهو نظام جميل في ذاته لأنه يوزع العمل ولا يثقل به كاهل الحكومة المركزية التي لا يمكن أن تعرف حاجات الوحدات الصغيرة أو تقوم بها، كما يعرفها ويقوم بها أهلها المحليون.
والمثقفون هنا يهللون لهذا النظام ويكبرون..
والإسلام المتأخر قد اهتدى إلى هذا النظام قبل ألف وثلثمائة عام.
فجعل جباية الضرائب محلية، وجعل صرفها محلياً كذلك، فإذا فضلت منها فضلة أرسلت إلى بيت المال العام، وإذا قصرت أخذ لها من بيت المال.
هذا هو المبدأ الذي قرره الإسلام لحسن توزيع العمل وإقامة اللامركزية في نظام الحكم. وهو الذي يندد المثقفون لأنه تأخر وانحطاط!
أما طريقة توزيع الزكاة فقد أسلفنا الحديث عنها. وقلنا إنه ليس في الإسلام ما يحتم صرفها نقداً وعيناً فحسب، وليس ما يمنع من توزيعها في صورة مدارس ومستشفيات وخدمات اجتماعية، بالإضافة إلى الإنفاق المباشر على العاجزين عن العمل بسبب الضعف والشيخوخة والطفولة.. إلخ.(1/146)
فإذا طبقنا الإسلام في المجتمع الحاضر، فلن نصنع أكثر من إقامة وحدات صغيرة تقوم بشئون نفسها في حدود ارتباطها بمراكزها الإقليمية، وبالدولة، وبالعالم الإسلامي، وبالعالم الواسع كله في نهاية المطاف. ونكون بذلك تقدميين سابقين في التطور لكل أمم الأرض التي تعجب المثقفين.
* * *
أما الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين فحقيقة يحرمها الإسلام، ويصر على تحريمها مهما ندد به التقدميون والتقدميات!
والجدل في أمرها قد يطول. ولكنا نأخذ المسألة من أقرب طريق. ويكفي من أمر الخمر أن تقوم في فرنسا الداعراة التي لا تفيق.. امرأة - نائبة في البرلمان - تطالب بتحريم الخمر!! يكفي ذلك للرد على المخمورين والمخمورات في عصر المدنية الحديثة!
ولست أجد في نفسي في الواقع احتراماً للخمر. ولكني أعلم أنها انعكاس مجتمع مريض في نفس فرد مريض. فالمجتمع الذي تشتد فيه فوارق الطبقات فتعيش طبقة في الترف الفاجر الذي يبلد الحس فيحتاج إلى منشطات صناعية.. وطبقة في الحرمان الكافر الذي يحتاج إلى " مغيبات " يهرب بها الإنسان من الواقع السيئ الذي يعيش فيه. والمجتمع الذي يسوده الإرهاب والحجز على الآراء والأفكار. والمجتمع الذي يحجر مشاعره الصراع على لقمة العيش، أو يضفي عليه الكآبة طنين الآلات المزعج المكرر الوتيرة، والجلسة الطويلة المملة على المكاتب وراء الجدران..
هذا المجتمع يلجأ للخمر وغيرها من المخدرات، ليخلق لنفسه في الأحلام عالماً آخر خالياً من الشقاء.
ولكن هذا كله لا يبرر وجودها.
إن وجودها دليل على المرض، وداع إلى إزالة أسبابه. وحين حرَّم الإسلام الخمر لم يسقط من حسابه " المبررات " التي تدفع إليها، بل عمل على إزالة هذه المبررات أولاً، ثم جاء التحريم بعد ذلك. فلتتعلم المدنية الحديثة من الإسلام كيف يعالج أمراض النفوس بالتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والروحي والجسدي.. قبل أن تفتح فمها بانتقاد الإسلام.(1/147)
والميسر لا يرضى عنه أحد إلا الفارغون والفارغات من التافهين. فلا يحتاج منها إلى إطالة الحديث.
أما الذي يثور بشأنه الجدل فهو مسألة الاختلاط.
إلى متى سنظل متأخرين؟ إلى متى سنقف في سبيل المدنية والتقدم؟! " يا سلام " على مدنية فرنسا؟ هناك يقف العاشقان في الطريق العام متعانقين متشابكين، مستغرقين في قبلة عميقة لذيذة، فلا يكدر صفوهما الأنطاع من دعاة الفضيلة، ويقف رجل البوليس يحميهما من حركة المرور أن تزعجهما قبل الانتهاء من هذا " البوز " الفني الجميل. والويل كل الويل لمن ينظر إليهما نظرة استنكار، فإنه يبوء وحده بالازدراء والاحتقار!
" ويا سلام " على مدنية أمريكا! القوم هناك صرحاء مع أنفسهم، لا يدورون ولا ينافقون. عرفوا أن الجنس ضرورة بيولوجية فاعترفوا بالضرورة، ويسروا سبلها، ومنحوها رعاية المجتمع واهتمامه. فلكل فتى صديقة ولكل فتاة صديق، يخرجان معاً ويدخلان معاً، ويتنزهان معاً نزهات خلوية يقضيان فيها الضرورة، ويتخلصان من ثقلها على الجسم والنفس والأعصاب. فينطلقان في الغداة نشيطين مقبلين على عملهما بالبشر والانشراح، فينتجان، وينجحان، وتتقدم الأمة كلها إلى الأمام.
نعم!
وفرنسا هي التي خرَّت راكعة ذليلة عند أول ضربة وجهها إليها الألمان. لا لنقص معداتها واستعدادها الحربي فقط، ولكن لأنها أمة لا كرامة لها تذود عنها. أمة غرقت في الشهوات الهابطة، واستغرقها المتاع الحسي، فخافت على عمائر باريس الفاخرة ومراقصها الفاجرة أن تحطمها القنابل ويدمرها القتال. فهل هذا هو الذي يدعونا إليه المثقفون؟ أم أنهم قوم مخدوعون، لا يفقهون ما يقولون؟
وأمريكا التي تخايل للمستغفلين في الشرق..
أُجري إحصاء في إحدى المدن هناك فظهر أن 38% من فتيات المدارس الثانوية حبالى! وتقل النسبة بين طالبات الجامعة لأنهن أكثر تجربة وأخبر باستخدام موانع الحمل!
فهل هذا ما يدعو إليه المثقفون؟ أم إنهم مخدوعون، يقولون ما لا يفقهون؟(1/148)
إن التخلص من ثقلة الجنس على الأعصاب هدف صحيح، والإسلام يوليه أكبر عنايته، لأنه يعلم - قبل أن يكتشف الأمريكان ذلك - أن اشتغال المحرومين بمسائل الجنس يعطلهم عن قدر من الإنتاج، ويحبسهم في ميدان الضرورة فلا يرتفعون إلا ريثما يعودون فيهبطون. ولكن الهدف الصحيح ينبغي أن تتخذ له الوسائل الصحيحة. وتلويث المجتمع كله، وإطلاق فتيانه وفتياته كالبهائم ينزو بعضهم على بعض ليس هو الطريق الصحيح. فإذا كان الإنتاج الأمريكي الضخم ناتجاً - كما يفهم المغفلون - من هذه الفوضى الجنسية، فليعلموا أولاً أنه إنتاج مادي بحت، يمكن أن يغني فيه الإنسان الآلي عما قريب عن الإنسان الحي. أما في عالم الأفكار والمبادئ فأمريكا هي التي تسترق الزنوج أبشع استرقاق عرفته البشرية في تاريخها الحديث، وهي التي تؤيد كل قضية استعمار على ظهر الأرض. ولا يمكن الفصل بين الهبوط النفسي المتمثل في حيوانية الغريزة، والهبوط النفسي المتمثل في الاسترقاق والاستعمار، فكلاهما انحدار لا يمكن أن يلجأ إليه " المتحضرون ".
أما البهجة التي تشمل المجتمع حين تخرج إليه المرأة متبرجة خفيفة رشيقة ترف من حولها الأشواق وتهفو إليها الأنظار والقلوب ... هذه البهجة حقيقة واقعة دون شك. فالصحاف المختلفة من الطعام أشهى بلا ريب من اللون الواحد المكرور.(1/149)
ولكنا في حاجة أولاً إلى تحديد الأهداف. هل مهمتنا في الحياة أن نأخذ أكبر نصيب من البهجة والسرور بصرف النظر عن بقية الأهداف؟ وهل أنكر أحد في القديم أو الحديث أن الشهوات لذيذة محببة إلى الناس؟ ولماذا إذن سميت " ملذات "؟ إن هذه البهجة ليست اكتشافاً حديثاً يعثر عليه الغرب في القرن العشرين، فقد عرفتها اليونان من قبل وفارس وروما وغرقت فيها إلى الأذقان. ثم ماذا؟ ثم دالت كل دولة من هؤلاء حين استغرقت في شهواتها المحرمة، فشغلتها في نهاية الأمر عن العمل والإنتاج، وعن النظرة الجدية إلى الحياة، كما حدث في فرنسا، وكما حدث في كل مكان على مدار التاريخ: سنة الله في الأرض " ولن تجد لسنة الله تبديلا ".
والغرب كان يملك القوة المادية منذ العصر الحديث - قوة العلم والتكالب على العَمل والجد في الإنتاج - فظلت هذه الشهوات تنخر فيه حتى تهاوى بعضه والباقي في الطريق. أما نحن فلا نملك القوة، لأن الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بنا في القرنين الأخيرين على الأقل لم تكن في صالحنا، فماذا نفيد من الانكباب على الشهوات باسم التحضر والمدنية، أو نفوراً من تهمة الرجعية والجمود؟ لن يفيدنا شيئاً إلا أن يصيبنا الخمار والدوار، فكلما انطلقنا في سبيلنا كبونا من جديد. وكل كاتب أو " مفكر حر! " يدعو إلى التحلل من التقاليد، مهما يكن العنوان الذي يدعو تحته، وهو رسول من رسل الاستعمار قصد أم لم يقصد. والاستعمار يعرف هؤلاء الكتاب والمفكرين، ويعرف مدى الخدمة التي يؤدونها له بحلِّ أخلاق الأمة، وشغل شبابها بالبحث عن " البهجة " والسرور، ولذلك يحسن مكافأتهم حسب نوع الخدمة التي يملكون أداءها في الصحف والكتب والإذاعة ودواوين الحكم، وهم ماكرون أو مستغفلون!
ويقولون أنظر إلى المرأة هناك.. لقد ارتفعت من أنثى إلى امرأة! انصقلت وصارت مخلوقاً بشرياً له دور يؤديه في المجتمع.(1/150)
وقد تحدثنا عن هذا " الانصقال " في فصل الإسلام والمرأة. ونزيد هنا أن خروج المرأة للعمل وانبثاثها في المجتمع. قد درب فيها دون شك جوانب لم تكن تنال هذه الدربة وهي عاكفة على مهمة الإنتاج البشري ورعايته. ولكنا نسأل أولاً: هل أضافت هذه الدربة إلى كيان المرأة ذاته؟ أم إنها زادت عليه في جانب لتنقص منه في جانب آخر؟ ونسأل ثانياً: هل أضافت هذه الدربة إلى الكيان البشري كله؟ أم إنها كذلك زادت عليه في جانب لتنقص منه في جانب آخر؟!
لقد صارت المرأة في الغرب " صديقة " صالحة، تصادق الرجل، وتتلقى مغازلاته وضروراته الجنسية، وتشترك معه في بعض مشكلاته، ولكنها لم تعد تستطيع أن تكون زوجة صالحة وأُمّاً صالحة. وليس يجدي في إنكار ذلك صياح المحمومين هنا والمحمومات. فهذه حقائق الأرقام تؤيد ما نقول، فقد ارتفعت نسبة الطلاق في أمريكا إلى 40% وهي نسبة بشعة خطيرة الدلالة. أما أوربا فقد تكون نسبة الطلاق فيها أقل. ولكن اتخاذ العشيقات والأخدان أمر شائع هناك ومعروف بين المتزوجين. ولو كانت المرأة زوجة صالحة بمعنى أنها قادرة على الاستقرار في أسرة وإعطائها كل رعايتها، لما حدث هذا الطلاق في أمريكا أو ما يشبهه من الهروب من البيت والزوجية في أوربا. أما الأمومة فقد سبق الحديث عنها، حين قلنا إن اشتغال المرأة بالعمل - وهو الذي يدرب المرأة الحديثة - لا يتيح لها الفرصة الزمنية ولا النفسية للاشتغال بالأمومة. فالمرأة المكدودة المنهوكة من العمل لا تجد في أعصابها طاقة للأمومة الحقة، ولا في نفسها فسحة لاستقبال مزيد من التبعات.(1/151)
أما المجموع البشري فماذا استفاد، بصرف النظر عن البهجة والانشراح؟! وهل حل مشاكل العالم هذا البضع من النساء في برلمانات العالم ووزاراته ودواوينه، أم هذه الألوف والملايين في مصانعه ومتاجره وحاناته ومواخيره؟ وهل لا يكون للمرأة دور تؤديه في المجتمع إلا أن تقف بنفسها تخطب في البرلمان، أو تمضي بنفسها قراراً من قرارات الموظفين؟.. وحين تربي أبناءها رجالاً ونساء تربية ذات هدف معين، فتخرج منهم مواطنين صالحين، وبشراً أسوياء لا تفسدهم الاضطرابات والانحرافات.. لا يكون لها دور في المجتمع؟ لقد تأخذها النشوة وهي تتلقى التصفيق في البرلمان، أو الإعجاب في " الصالون " أو الطريق العام. ولكن هذه النشوة الموقوتة ما قيمتها في حياة البشرية إذا كان يصحبها إخراج أجيال من البشرية بلا أمهات؟! أجيال ينقصها عنصر الحب الذي يوازن شهوة الصراع في نفوس البشر، والذي لا يمكن أن تبذره في النفوس إلا أم تمنح كيانها وعبقريتها لإنتاج البشر.
وليس بنا أن نقسو على المرأة ونحرمها متع الحياة وتحقيق كيانها الشخصي، ولكن متى كانت الحياة تتركنا - رجالاً أو نساء - نستمتع كما نريد، ونحقق كياننا كما نريد؟ وحين تتملكنا الأنانية فنفضل أن نستمتع بذواتنا بغير حد، فما الذي يحدث؟ أليس يحدث أن تخلفنا على الأرض أجيال شقية، تشقى بسبب أنانيتنا نحن وانحرافنا نحن؟ أو ليست هذه الأجيال الشقية تشمل الرجال والنساء؟ فهل ينفع قضية المرأة كجنس دائم على الأرض أن يستمتع بعض أفراده متعة زائدة في جيل من الأجيال، ليشقى بقية أفراده في مقتبل الأجيال؟
وهل يعاب على الإسلام أنه ينظر إلى البشرية كلها باعتبارها سلسلة متصلة الحلقات لا تنتهي عند جيل معين، ولا ينفصل منها جيل عن جيل، فيعمل لما فيه نفع الأجيال كلها، ولا تستهويه شهوة جيل بعينه، فينساق معه على حساب بقية الأجيال؟(1/152)
إنما كان يعاب عليه لو أنه يحرم المتاع في جميع صوره وأشكاله، ويقف في طريق النزعات الفطرية فيكبتها ويمنع إشباعها.
فهل ذلك ما يصنعه الإسلام حقاً؟
ردنا على ذلك في الفصل القادم: " الدين.. والكبت ".
الدين... والكبت
انظروا ماذا قال علماء النفس الغربيون عن الدين؟
قالوا إنه يكبت النشاط الحيوي للإنسان، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم، ذلك الشعور الذي يستولي على المتدينين خاصة فيخيل لهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة. وقد ظلت أوربا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين، فلما نبذت قيود الدين السخيفة، تحررت مشاعرها من الداخل، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج.
أفتريدون إذن أن تعودوا إلى الدين؟ تريدون أن تكبلوا المشاعر التي أطلقناها - نحن التقدميين - وتنكدوا على الشباب المتدفق بقولكم: هذا حرام وهذا حلال؟
* * *
ونترك أوربا تقول في دينها ما تشاء. ولا يعنينا هنا أن نصدقه أو نكذبه، لأننا لا نتحدث عن الدين عامة، وإنما نتحدث عن الإسلام.
وقبل أن نذكر شيئاً عن كبت الإسلام للنشاط الحيوي أو عدم كبته له، ينبغي أولاً أن نعرف ما هو الكبت، لأن هذه اللفظة كثيراً ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين أنفسهم، فضلاً عن العوام والمقلدين.(1/153)
ليس الكبت هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي كما يخيل للكثيرين. إنما ينشأ الكبت من استقذار الدافع الغريزي في ذاته، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره. والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية. وقد لا يعالجها إتيان العمل الغريزي. فالذي يأتي هذا العمل وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به، شخص يعاني الكبت حتى ولو " ارتكب " هذا العمل عشرين مرة كل يوم. لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله. وهذا الشد والجذب في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية.
ونحن لا نأتي بهذا التفسير لكلمة الكبت من عندنا، بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية. فهو يقول في ص82 من كتاب Three Contributions to the Sexual Theory " ": " ويجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا " الكبت الشعوري " وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي، فهذا مجرد " تعليق للعمل ".
والآن وقد عرفنا أن الكبت هو استقذار الدافع الغريزي وليس تعليق التنفيذ إلى أجل معين، نتحدث عن الكبت في الإسلام!
ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أصرح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور. يقول القرآن: " زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث (85) " فيجمع في هذه الآية شهوات الأرض ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس، لا اعتراض عليه في ذاته، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات.(1/154)
صحيح أنه لا يبيح للناس أن ينساقوا مع هذه الشهوات إلى المدى الذي يصبحون فيه مستعبدين لها، لا يملكون أمرهم منها. فالحياة لا تستقيم بهذا الوضع. والبشرية لا تستطيع أن تحقق طبيعتها التي تهدف إلى التطور الدائم نحو الارتفاع، إذا هي ظلت عاكفة على ملذاتها تستنفد فيها كل طاقتها، وتتعود فيها على الهبوط والانتكاس نحو الحيوانية.
نعم لا يبيح الإسلام للناس أن يهبطوا لعالم الحيوان. ولكن هناك فرقاً هائلاً بين هذا وبين الكبت اللاشعوري، بمعنى استقذار هذه الشهوات في ذاتها، ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع.
وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ وعدم كبتها في اللاشعور، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولاً من المتاع، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله.
والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات، هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي، واستعباد الشهوات له بحيث تصبح شغله الشاغل وهمه المقعد المقيم، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً لا يهدأ، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر.
أما الضرر الذي يحدث للمجتمع فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق. فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة، وفك روابط المجتمع، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك: " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " مما يسهل على غيرهم غزوهم وتحطيمهم كما حدث لفرنسا.
وفي هذه الحدود - التي تمنع الضرر - يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة، بل يدعو إليه دعوة صريحة فيقول مستنكراً: " قل: من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (86) "؟ ويقول: " ولا تنس نصيبك من الدنيا (87) " ويقول: " كلوا من طيبات ما رزقناكم (88) " " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا (89) "(1/155)
بل يصل في صراحته في الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة - وهو مدار الحديث عن الكبت في الأديان - أن يقول الرسول الكريم: " حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة " (90). فيرفع الإحساس الجنسي إلى درجة الطيب أزكى رائحة في الأرض، ويقرنها إلى الصلاة أزكى ما يتقرب به الإنسان لله. ويقول في صراحة كذلك: إن الرجل يثاب على العمل الجنسي يأتيه مع زوجته. فإذا قال المسلمون متعجبين: " يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ " قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " (91)!
ومن هنا لا ينشأ الكبت إطلاقاً في ظل الإسلام. فإذا أحس الشباب بالرغبة الجنسية الدافقة فليس في ذلك منكر، ولا يوجد داع لاستقذار هذا الإحساس والنفور منه.
وإنما يطلب الإسلام من هذا الشباب أن " يضبط " هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها. يضبطها في وعيه وبإرادته، وليس في لاشعوره، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب. وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت، وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية.
وليست هذه الدعوة إلى ضبط الشهوات تحكماً يقصد به الإسلام حرمان الناس من المتاع. فهذا هو التاريخ في الإسلام وفي غير الإسلام يقرر أنه ما من أُمة استطاعت أن تحافظ على كيانها وهي عاجزة عن ضبط شهواتها، والامتناع بإرادتها عن بعض المتاع المباح. كما يقرر من الجانب الآخر أنه ما من أُمة ثبتت في الصراع الدولي إلا كان أهلها مدربين على احتمال المشقات، قادرين على إرجاء ملذاتهم - أو تعليقها - حين تقتضي الضرورة ساعات أو أياماً أو سنوات.
ومن هنا كانت حكمة الصوم في الإسلام.(1/156)
والمتحللون اليوم من التقدميين والتقدميات، يحسبون أنفسهم قد اكتشفوا حقيقة هائلة حين يقولون: ما هذا السخف الذي يدعو إلي تعذيب الأبدان بالجوع والعطش، وحرمان النفس مما تتوق إليه من طعام وشراب ومتاع.. في سبيل لا شيء، وإطاعة لأوامر تحكمية لا حكمة لها ولا غاية؟
ولكن.. ما الإنسان بلا ضوابط؟ وكيف يصبح إنساناً وهو لا يطيق الامتناع سويعات عما يريد؟ وكيف يصبر على جهاد الشر في الأرض، وهذا الجهاد يتطلب منه حرمان نفسه من كثير؟
وهل كان الشيوعيون - الذين يسخر دعاتهم في الشرق الإسلامي بالصيام وغيره من " الضوابط " التي تدرب النفوس - هل كانوا يستطيعون الصمود كما صمدوا في ستالنجراد، لو انهم لم يدربوا على احتمال المشقات العنيفة التي تعذب الأبدان والنفوس، أم إنهم " يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً "؟ يحلّونه حين يصدر الأمر به من " الدولة " لأنها سلطة مرئية تملك العقاب السريع، ويحرمونه - هو ذاته - حين يصدر الأمر به من الله خالق الدول والأحياء!
وماذا في الإسلام من العبادات غير الصيام؟ الصلاة؟ كم تستغرق من وقت المسلم التقي؟ هل تستغرق في الأسبوع كله أكثر مما تستغرق زيارة واحدة للسينما في كل أسبوع؟ وهل يضحي الإنسان بهذه الفرصة المتاحة للاتصال بالله، وتلقِّي المعونة منه، والاطمئنان إليه، واسترواح الراحة في رحابه، إلا وفي قلبه مرض وفي نفسه انحراف؟
أما ما يقال من تنكيد الدين على أتباعه، ومطاردتهم بشبح الخطيئة في يقظتهم ومنامهم فما أبعد الإسلام عنه، وهو الذي يمنح المغفرة قبل أن يذكر العذاب!
إن الخطيئة في الإسلام ليست غولاً يطارد الناس، ولا ظلاماً دائماً لا ينقشع. خطيئة آدم الكبرى ليست سيفاً مصلتاً على كل البشر، ولا تحتاج إلى فداء ولا تطهير: " فتلقَّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه (92) ". هكذا في بساطة ودون أيَّة إجراءات.(1/157)
وأبناء آدم كأبيهم ليسوا خارجين من رحمة الله حين يخطئون. فالله يعلم طبيعتهم فلا يكلفهم إلا وسعهم، ولا يحاسبهم إلا في حدود طاقتهم: " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها (93) " " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (94) ".
وآيات الرحمة والمغفرة والتوبة عن العباد كثيرة في القرآن. ولكنا نختار منها واحدة فقط لعمق دلالتها على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " (95).
يا الله، ما أشد رحمتك بعبادك! إن الإنسان لا يملك نفسه من التأثر وهو يرى رحمة الله بالناس. ومتى؟ وهم يفعلون الفاحشة! إنه لا يقبل منهم التوبة فحسب. ولا يقيلهم من ذنبهم فحسب، بل يمنحهم رضاءه ورحمته، ويرفعهم إلى درجة المتقين!!
فهل بعد ذلك شك في عفو الله ومغفرته؟ وأين يطارد العذاب نفوس الناس والله يلقاهم بهذا العطف والترحيب، بكلمة واحدة صادقة يقولونها: التوبة؟!
لسنا نحتاج إلى نصوص أخرى تؤيد ما نقول. ولكنا مع ذلك نذكر هذا الحديث من أحاديث الرسول فهو شاهد عجيب: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم (96) ".
إنها إذن إرادة ذاتية لله أن يغفر للناس ويتجاوز عن سيئاتهم.
وهذه الآية العجيبة: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكراً عليماً (97)"
نعم؟ ما يفعل الله بتعذيب الناس؟ وهو الذي يحب أن يمنحهم الرحمة والغفران!؟!
الإسلام... وحرية الفكر
قال لي أحدهم وهو يجادلني: أنت لست حر الفكر!
قلت: لماذا؟(1/158)
قال: هل تؤمن بوجود إله؟
قلت: نعم.
قال: وتصلي له وتصوم؟
قلت: نعم.
قال: إذن فلست حر الفكر!!
قلت مرة أخرى: ولماذا؟
قال: لأنك تؤمن بخرافة لا وجود لها!
قلت: وأنتم؟ بماذا تؤمنون؟ من الذي خلق الكون والحياة؟
قال: الطبيعة!
قلت: وما الطبيعة؟!
قال: قوة خفية ليس لها حدود، ولكن لها مظاهر يمكن أن تدركها الحواس.
قلت: أنا أفهم أن تمنعني من الإيمان بقوة خفية لتعطيني بدلاً منها قوة محسوسة , ولكن إذا كانت المسألة قوة خفية بقوة خفية، فلماذا تأخذ مني إلهي الذي أجد الأمن والراحة والسلام في الإيمان به، لتعطيني بدلاً منه إلهاً آخر لا يستجيب لي ولا يسمع مني الدعاء؟!
* * *
تلك هي قضية حرية الفكر لدى التقدميين! حرية الفكر تعني الإلحاد! وإذ كان الإسلام لا يبيح الإلحاد، فهو إذن لا يبيح حرية الفكر!
وتسأل هؤلاء القرود أو هؤلاء الببغاوات: ما ضرورة الإلحاد في ظلّ الإسلام؟!
لقد كان الإلحاد ضرورة في أوربا لأسباب محلية ليس من الضروري أن تتكرر في كل مكان. فالصورة التي أعطتها الكنيسة الأوربية للعقيدة المسيحية من جهة، وخنق الكنيسة لحركة العلم، وتحريق العلماء وتعذيبهم، وفرض الخرافات والأكاذيب على الناس باسم كلمة السماء من جهة أخرى.. كل ذلك قد فرض الإلحاد فرضاً على أحرار الفكر من الأوربيين، ومزق سائرهم بين الاتجاه البشري الطبيعي للإيمان بالله، وبين الإيمان بالحقائق العلمية من نظرية وتجريبية.
وكانت فكرة الطبيعية مهرباً يخلص به الناس من هذا الإشكال شيئاً من الخلاص. فكأن الأوربيين يقولون للكنيسة: خذي إلهك الذي تستعبديننا باسمه، وتفرضين علينا الإتاوات المرهقة والدكتاتورية الطاغية، والأوهام والخرافات، والذي يقتضينا الإيمان به أن نتنسك ونتعبد ونترهبن.. وسوف نؤمن بإله جديد، له معظم خصائص الإله الأول، ولكنه إله ليس له كنيسة تستعبد الناس، وليس له عليهم التزامات خلقية أو فكرية أو مادية، فهم في رحابه طلقاء من كل القيود.(1/159)
أما نحن في الإسلام فما حاجتنا إلى الإلحاد؟
ليس في العقيدة إشكال يحير الذهن. إله واحد هو الذي خلق الكائنات كلها وحده، وإليه مرجعها وحده لا شريك له ولا معقب لكلماته. فكرة بسيطة واضحة لا يختلف عليها أحد ولا ينبغي أن يختلف عليها عاقل!
وليس في الإسلام " رجال دين " كالذين كانوا في أوربا: فالدين ملك للجميع. ينهلون منه، كل على قدر ما تطيقه طبيعته ومؤهلاته الفكرية والروحية، والجميع مسلمون " ولكل درجات مما عملوا " وأكرم الناس عند الله أتقاهم، سواء كانت وظيفته أنه مهندس أو مدرس أو عامل أو صانع. وليس الدين حرفة من بين هذه الحرف. فالعبادات كلها تتم بغير وساطة رجال الدين. أما الجانب الفقهي والتشريعي في الإسلام فطبيعي أن يتخصص في أناس باعتباره الدستور الذي يقوم عليه الحكم. ولكن موقفهم هو موقف كل المتخصصين في الفقه الدستوري والتشريعي في كل بلد من البلاد، لا يملكون بصفتهم هذه سلطة على الناس ولا امتيازاً " طبقياً " عليهم. وإنما هم مستشارو الدولة وفقهاؤها فحسب. والذين يسمون أنفسهم " هيئة كبار العلماء " أحرار في أن يتسموا بهذا الاسم أو غيره. ولكن ليس لهم سلطان على أحد. ولا يملكون من أمر الناس شيئاً إلا في حدود الشريعة. والأزهر معهد علمي ديني. ولكنه ليس سلطة تحرق العلماء أو تعذبهم، وكل ما يملكه أن يطعن في فهم أحد الناس للدين ويخطِّئ رأيه. وهو حر في ذلك، لأن الناس أيضاً يملكون أن يطعنوا في فهم رجال الأزهر للدين ويخطئوا آراءهم. لأن الدين ليس حكراً لأحد ولا هيئة، وإنما هو لمن يحسن فهمه وتطبيقه.(1/160)
وحين يقوم الحكم الإسلامي لن ينتشر " علماء الدين " في الدواوين، ولن يتغير في نظام الحكم شيء إلا قيامه على الشريعة الإسلامية. ولكن شئون الهندسة تظل في يد المهندسين، وشئون الطب في يد الأطباء، وشئون الاقتصاد في يد الاقتصاديين (على شرط أن يكون الاقتصاد الإسلامي هو الذي يحكم المجتمع) وهكذا وهكذا في كل شئون الحكم.
وليس في العقيدة الإسلامية ولا النظام الإسلامي ما يقف في طريق العلم بنظرياته وتطبيقاته، ووقائع التاريخ هي الحكم في هذا الشأن. فلم نسمع بأن عالماً حرق أو عذب لأنه اكتشف حقيقة علمية. والعلم الصحيح لا يتعارض مع عقيدة المسلم في أن الله هو الذي خلق كل شيء. ولا يتعارض مع دعوة الإسلام للناس أن ينظروا في السموات والأرض ويتفكروا في خلقها ليهتدوا إلى الله. وقد اهتدى إلى الله كثير من علماء الغرب الملحدين أنفسهم عن طريق البحث العلمي الصحيح.
أي شيء إذن في الإسلام يدعو إلى الإلحاد؟ إلا أن تكون شهوة التقليد الأعمى للسادة المستعمرين؟
يقولون إنهم يريدون أن يكونوا أحراراً في أن يكتبوا ضد العقائد والعبادات، وأن يسخفوها للناس ويدعوهم إلى التحلل منها دون أن يقعوا تحت طائلة القانون.
نعم. ولكن لماذا؟ إن هذا ليس كما يفهم الحمقى هدفاً في ذاته، وإنما هو كان في أوربا وسيلة لهدف آخر هو تحرير الفكر من الخرافة، وتحرير الناس من الطغيان. فإذا كانوا يملكون هذه الحرية وتلك في ظل الإيمان، فما الهدف الذي يريدون تحقيقه؟
يريدون الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية بغير رادع، تلك هي حقيقة المسألة. وليس الجانب الفكري إلا ستاراً يغطون به عبوديتهم للشهوات، ثم يزعمون أنهم أحرار الفكر. وليس الإسلام مكلفاً أن يطيع العبيد وهو يدعو إلى التحرر من كل سلطان بما في ذلك سلطان الشهوات.
* * *(1/161)
ويقولون إن نظام الحكم في الإسلام دكتاتوري بطبعه. لأن الدولة فيه تملك سلطة واسعة، ويزيد الأمر سوءاً أنها تملكها باسم الدين، باسم شيء مقدس له على نفوس الناس سلطان. فما أسهل ما يغري هذا السلطان بالدكتاتورية، وما أسهل ما تستنيم لها الدهماء. وبهذا تختنق حرية الرأي، ويصبح الخارج على الحاكم عرضة للاتهام بالخروج على الدين.
فمن أين جاءوا بهذا القول الغريب على الدين؟
أمن قول الله عزّ وجلّ: " وأمرهم شورى بينهم " (98)؟ وقوله: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " (99).
أم من قول أبي بكر: ".. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم "؟
أم من قول عمر: " فإن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوموه " فيقول له رجل من المسلمين: " والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد السيف " فيغتبط عمر ويرضى ويحمد الله على ذلك؟!
نعم وجد الطغيان باسم الدين في التاريخ، ويمكن أن يقوم في أي وقت. ولكن من ذا الذي يقول إن الدين وحده هو ستار الطغيان في الأرض؟ وهتلر؟ هل كان يطغى باسم الدين؟ وستالين؟ لقد اعترفت الصحافة الروسية ذاتها بدكتاتورية ستالين - بعد موته - وقالت إنه كان يحكم روسيا حكماً بوليسياً فظاً لا يجوز أن يتكرر! وفرانكو؟ ومالان في جنوب افريقيا؟ وشان كاي شك في الصين الوطنية؟ وماوتسي تونج في الصين الشيوعية؟ كل هؤلاء يطغون باسم الدين؟! لقد رأى هذا القرن " المتحرر " من سلطان الدين أبشع دكتاتوريات التاريخ، بعنوانات أخرى لامعة لا تقل قداسة في نفوس أتباعها عن قداسة الدين في نفوس المؤمنين.(1/162)
وما يدافع أحد عن الدكتاتورية، وما يرضاها إنسان حر الفكر والضمير. ولكن استقامة الطبع والفكر تقتضي الإقرار بالحق الخالص دون ميل مع الهوى والشهوات. والحق أن كل معنى جميل يمكن استغلاله والتستر وراءه لقضاء المآرب الشخصية وقد ارتكبت باسم الحرية أفظع الجرائم في الثورة الفرنسية. فهل نلغي الحرية؟ وباسم الدستور سجن الأبرياء وعذبوا وقتلوا، فهل نلغي الدساتير؟ وباسم الدين قام الطغيان حقاً في الأرض فهل يبرر ذلك أن نلغي الدين؟ كان هذا يكون مطلباً معقولاً لو أن الدين في ذاته، بتعاليمه ونظمه يؤدي إلى الظلم والطغيان. فهل يصدق ذلك على الإسلام الذي ضرب من أمثلة العدل المطلق - لا بين المسلمين وحدهم، بل بين المسلمين وأعدائهم من المحاربين - ما أقر به حتى أولئك الأعداء في أكثر من حادث وأكثر من فترة على مدار التاريخ؟
إنما علاج الطغيان أن ننشئ شعباً مؤمناً يقدر الحرية التي ينادي بها الدين ويحرص عليها، فيصد الحاكم عن الظلم، ويقف به عند حده المرسوم. ولست أحسب أن نظاماً يهدف إلى ذلك مثل النظام الذي جعل من واجب الشعب تقويم الحاكم الظالم. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره.. (100) " ويقول: " إن من أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند إمام جائر (101) "..
طريقكم إذن للتحرر أيها التقدميون ليس إلغاء الدين. وإنما هو تعليم الناس هذه الروح الثائرة التي تنفر من الظلم وتقوّم الظالمين. وإنها في صميمها لروح هذا الدين.
الدين أفيون الشعب
تلك قولة كارل ماركس ...
ودعاة الشيوعية في الشرق الإسلامي يرددونها وراءه. ويريدون تطبيقها كذلك على الإسلام.(1/163)
وكارل ماركس أو غيره من الدعاة الأولين للشيوعية ربما كانوا معذورين في ثورتهم على الدين ورجاله. بسبب الملابسات الخاصة التي واجهتهم هناك. فقد كان الإقطاع يمثل أبشع أدواره في أوربا، وفي روسيا بوجه خاص، حيث يموت الألوف جوعاً كل عام، ويموت الملايين بالسل وغيره من الأمراض، والصقيع يقضي على عدد مماثل.. كل ذلك والإقطاعيون يلغون في دماء أولئك الكادحين، ويعيشون في ترف فاجر يستمتعون فيه بكل ما يخطر على القلب من ألوان المتاع. فإذا خطر للكادحين أن يرفعوا رؤوسهم، بل إذا خطر لهم أن يحسوا مجرد إحساس بالظلم الذين يعيشون فيه، أسرع رجال الدين يقولون لهم: " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فاترك له الثوب أيضاً " وذهبوا يخدرونهم عن ثورتهم أو عن إحساسهم بالألم، بما يمنونهم به من نعيم الآخرة الذي أُعد للصابرين على الظلم، والراضين بالشقاء.
فإذا لم تفلح الأماني البعيدة فليفلح التهديد. فمن عصي سيده الإقطاعي فهو عاص لله وللكنيسة ولرجال الدين. ولنذكر أن الكنيسة ذاتها كانت من ذوات الإقطاع، وكان لها ملايين من رقيق الأرض تستعبدهم لحسابها الخاص، فكان طبيعياً أن تقف في صف القيصر والأشراف ضد الشعب المكافح. لأن الملاك جميعاً معسكر واحد ضد المكافحين، ولأن الثورة - يوم تقوم - لن تعفي أحداً من مصاصي الدماء سواء كانوا من الأشراف أو من رجال الدين.
فإذا لم تفلح الأماني والتهديد معاً فلتوقع العقوبات فعلاً على الثائرين، ولتوقع باسم تأديب الخارجين على الدين والملحدين بآيات الله.
ومن هنا كان الدين عدواً حقيقياً للشعب هناك. وكانت قولة في محلها تلك التي قالها كارل ماركس: " الدين أفيون الشعب "..هناك!(1/164)
ولكن الشيوعيين في الشرق الإسلامي يشيرون إلى مسلك " رجال الدين المحترفين " في استرضاء ذوي السلطان على حساب الكادحين من الشعب، وتمنية هؤلاء بالجنة التي أعدت للصابرين، ليرضوا عما هم فيه من هوان وظلم، ويستمتع المجرمون وهم آمنون. ويستشهدون مثلاً بما كان من بعض رجال الأزهر في عهد فاروق، كانوا يقبّلون يده ويلقبونه بالملك الصالح، ويدعون له، ويؤولون آيات القرآن على مزاجهم، ويزيفون معالم الإسلام ليستخرجوا من هذه وتلك ما يثبّت سلطانه، ويمنع الشعب المكافح من الثورة عليه، وإلا اعتبروا خارجين على أوامر الله التي توجب الطاعة " لأولي الأمر منكم "!
ثم يخلط الشيوعيون بهذه الحقيقة شبهةً مؤداها أن الإسلام ذاته يأمر بهذا الفحش إذ يقول: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض (102) " أو يقول: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه. ورزق ربك خير وأبقى (103) " فالإسلام إذن ككل دين، أفيون يخدر المكافحين. وهنا الشبهة التي نريد أن نتناولها بالحديث.
نريد أن نبحث هل هذا السلوك الشائن من رجال الدين المحترفين قد أوحى به الدين ذاته، أم هو فسوق منهم عن أمر الدين الصحيح، ومثلهم فيه كمثل كل فاسق من الشعراء و الكتاب والصحفيين الذين عفروا جباههم بالتراب، ومرغوا كرامتهم في الدنس، ليستمتعوا بشيء من المتاع الزائل فضلاً عن أنه متاع حرام.(1/165)
وأنا مقتنع أشد الاقتناع بأن جريمة رجال الدين هؤلاء أكبر وأفحش من جريمة الفساق من الشعراء والكتاب والصحفيين المرتزقين، لأن في أيديهم كتاب الله، وهم يتلون آياته، ويعرفون حقيقة الدين، وحقيقة موقفهم وهم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً وما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولكني أعود فأكرر أنه ليس في الإسلام رجال دين. وأن كل ما يقولونه ليس حجة على الإسلام. وأن مصيبة هذا الشعب جاءته من الجهل بحقيقة دينه - وليس الجهل من أوامر الإسلام للناس! - وأنه يكفي لدحض تهمة التخدير عن الدين الإسلامي أن الحركة التي ثارت ضد الطاغية هي في حقيقتها الحركة الدينية، التي أحس الملك السابق خطرها على وجوده فقتل داعيتها وفتح المعتقلات لكتم أنفاسها قبل أن تقضي عليه. ولكن الله أراد غير ما كان يريد.
يكفي هذا لدحض الشبهة الجاهلة. كما يكفي كذلك أن نذكر أن جميع الحركات التحريرية في الشرق الإسلامي كانت من وحي الدين. حركة الشعب المصري ضد الاحتلال الفرنسي كانت حركة علماء الدين. والثورة على ظلم محمد علي كان رائدها السيد عمر مكرم الزعيم الديني.
والثورة على الإنجليز في السودان كان زعيمها المهدي الكبير وهو زعيم ديني. والثورة على الطليان في ليبيا، وعلى الفرنسيين في المغرب كلها حركات دينية. وثورة الإندونيسيين على هولندا كانت ثورة باسم الدين وعلى أساس الدين.
في كل مكان ثورة تشهد بأن هذا الدين قوة تحريرية. لا دعوة للاستخذاء والرضى بالظلم والهوان. ولكنا لا نكتفي بهذه الحقيقة الواقعة الواضحة الدلالة، بل نمضي في مناقشة الشبهة الجاهلة التي تتعلق بتخدير الكادحين عن طلب العدالة الاجتماعية والتوزيع الاقتصادي العادل، وهي أهم ما تلوكه ألسنة الشيوعيين.
* * *(1/166)
يقول المفسرون في آية: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " إنها نزلت بشأن إمرأة قالت: لماذا يختص الرجال بالجهاد في سبيل الله وتحرم من ذلك النساء؟ وقيل إنها نهي عن التمني الفارغ مع القعود عن العمل، لأنه يؤدي إلى الحسد - وهو شعور منحرف - دون إنتاج عملي يفيد منه المجموع. أي أنها دعوة للناس أن يعملوا ما ينالون به الفضل، بدل أن يتمنوا وهم قاعدون.
أمّا الآية الأخرى: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم.. " فهي دعوة إلى الاستعلاء على القيم المادية، التي قد تدعو إلى إكبار أصحابها في أعين المحرومين منها. والخطاب فيها على الأرجح موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لإصغار شأن الكافرين الذين في أيديهم من متاع الحياة الشيء الكثير، ولكنه هو أعلى منهم بما معه من الحق القوي. فهي في واد آخر غير ما يفهمه منها السطحيون!
ويظهر أن هؤلاء المفسرين في صدر الإسلام كانوا يعلمون أن الشيوعية ستظهر بعد ألف عام، وأن دعاتها سيتهمون الإسلام، فقاموا ينفون عنه التهمة، وينتحلون التفاسير التي تحول الحق عن وجهته، فأبدوا هذه الآراء التي تحمل الرد الكافي على الشيوعيين وغير الشيوعيين!
ومع ذلك فنحن نفترض جدلاً أن هذه الآيات وأشباهها تدعو للرضى بالواقع وعدم التطلع إلى ما في يد الآخرين. فمتى تصح هذه الدعوة؟ ومتى تتعين إطاعتها؟
إن الإسلام ينبغي أن يؤخذ كله، ولا يجعل أجزاء وتفاريق يؤخذ بعضها ويترك البعض الآخر.
وهذه الدعوة للفقراء والمحرومين أن يصبروا ولا يتطلعوا إلى ما عند الأغنياء، هي إحدى كفتي الميزان. وتقابلها من الجانب الآخر دعوة مثلها أو أشد منها إلى الأغنياء ألا يستأثروا بأموالهم، بل ينفقوها في سبيل الله؛ وتهديد لهم شديد بما ينالهم من العقاب في الآخرة على هذه الأثرة البغيضة.(1/167)
فإذا نظرنا إلى المسألة على هذا الوضع فالكفتان متوازنتان: إنفاق في جانب واحتفاظ بالكرامة عن ذل التطلع، وبنظافة النفس من الحقد في جانبٍ آخر. وبهذا وذاك يعيش المجتمع في سلامٍ نفسي يتمشى مع السلام الاقتصادي الذي يوزع الثروة على الجميع، فلا يوجد مترف هنا ومحروم هناك. وقد تحدثنا من قبل عن " الإنفاق " وصوره المتعددة التي يمكن أن تنفذ في العصر الحديث بما ينفي عنها صفة الإحسان، ويدخلها في باب التعاون الإنساني الكريم. فلا نحتاج إلى العودة إلى هذه المسألة من جديد، ولكنا نقول: إنه حين يعيش المجتمع على هذه الصورة فلن يكون هناك ظلم يطلب من المظلومين الرضاء به، أو حرمان اقتصادي يؤمرون بالخضوع له.
أما حين ينكل الأغنياء عن واجبهم في الإنفاق، وتحمل تكاليف الخدمة الاجتماعية لمجموع الشعب، فمن ذا الذي يدعو الفقراء والمحرومين إلى الرضى بما هم فيه من حرمان؟!
الإسلام يصنع ذلك؟
الإسلام الذي يهدد الراضين بالظلم، القاعدين عن مكافحته، بسوء المصير في الدنيا والآخرة؟
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: قالوا فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً؛ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً (104) ".
إنها إذن جريمة لا ينفع فيها اعتذار. جريمة أن يرضى الإنسان بالظلم بحجة أنه ضعيف في الأرض. والقرآن يسميهم ظالمي أنفسهم، حين رضوا لها غير الوضع الكريم الذي أراده الله للناس، ودعاهم إلى تحقيقه بكل ما يستطيعون من جهد.(1/168)
والدعوة إلى الهجرة كانت لمناسبة خاصة وليست هي السبيل الوحيد لمواجهة الظلم. فللجماعات سبل أُخرى سيأتي بيانها. إنما نريد هنا أن نؤكد استفظاع الإسلام للرضى بالظلم، إلى حد أن تكون عقوبته هي جهنم، ولا ينجو منها إلا المستضعفون حقيقة، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. وذلك لكي لا يقعد عن الجهاد أحد يملك ذرة من القدرة على الجهاد.
أما المستضعفون حقيقة فليسوا متروكين لأمرهم، يحتملون الظلم بلا نصير. فالأُمة الإسلامية كلها مدعوة للجهد في سبيلهم ودفع العدوان عنهم: " وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها (105) ".
فالظلم لا يقع على طائفة من الناس أو على كثرتهم ثم يسكتون عنه فيرضى الله عنهم ولن يرضى الله عنهم حتى يكافحوا الظلم ويردوه عن المظلومين.
وربما ظن البعض أن هذه الآيات خاصة بالعقيدة فحسب، أي بوجود مسلمين في وسط مشركين يجبرونهم على الشرك بالله وعدم القيام بشعائر العبادة الإسلامية.
ولكن الإسلام لا يفرق بين شعائر العبادة وبين تنفيذ النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتفرعة عن هذه العقيدة. ولا يفرق بين أن يكون الذين يمنعون تنفيذها كفاراً بالاسم والفعل. أو مسلمين بالاسم وكفاراً في واقع الأمر: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (106).(1/169)
والإسلام يأمر بألا يكون المال " دولة بين الأغنياء " ويأمر بأن تكفل الدولة رعاياها بكل الطرق الممكنة: إما بإيجاد العمل الكريم لهم، وإما بالإنفاق المباشر عليهم من بيت المال في حالة العجز عن العمل. ويأمر نبي الإسلام بضمانات معينة - ذكرناها من قبل - بالنسبة لموظفي الدولة، وهي تنطبق بالقياس على كل من يؤدي عملاً في مؤسسة خاصة أو عامة.. وكل ذلك جزء من هذا الدين لا يتم إيمان الناس حتى يقرّوا به ويسعوا إلى تنفيذه. وعليه تنطبق الآيات السالفة الذكر التي تذكر الظلم وحكم " ظالمي أنفسهم " الذين يقبلون هذا ولا يكافحونه.
ونفرض أن الناس قد قعدوا عن مكافحة الظلم الاجتماعي إطاعة للمعنى المتوهم من الآيات التي تقول: " ولا تَتَمَنَّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " أو " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم " فما الذي يحدث عند ذاك؟
يحدث أن تتكدس الأموال في يد فئة خاصة من الناس يتداولونها فيما بينهم ويحرمون منها المجموع " كما يحدث في الإقطاع والرأسمالية " وذلك منكر لأنه مخالف لأمر الله: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء ".
ويحدث أن يحبس الأغنياء هذه الأموال، أو ينفقوها على أنفسهم في صورة ترف وملذات. فإن كان الأولى فهي منكر: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " (107) ولا عذاب إلا على منكر لا يرضي الله. وإن كانت الثانية فهي منكر كذلك والآيات التي تحرم الترف كثيرة جداً في القرآن، كلها تصم المترفين بالكفر والفسوق: " وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنَّا بما أرسلتم به كافرون (108) " ... " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميراً (109) ".. " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال: في سموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم، إنهم كانوا قبل ذلك مترفين " (110).(1/170)
لا يمكن إذن أن ينتج من قعود الناس عن مكافحة الظلم الاجتماعي إلا منكر. فكيف يتهم الإسلام بأنه يدعو الناس إلى الرضا بالمنكر والسكوت عليه ابتغاء مرضاة الله! والله يقول: " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون " (111) فيجعل السكوت على المنكر وعدم التناهي عنه علامة من علامات الكفر بالله تستوجب غضبه ولعنته وعقابه؟! والرسول يقول: " من رأى منكم منكراً فليغيره ". ويقول: " أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند إمام جائر ". ولن تحدث هذه المنكرات في المجتمع ويرضى عنها الحاكم أو يتسبب فيها إلا كان إماماً جائرً تجب مقاومته جهاداً في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله؟!
أي عقل ذلك الذي يجيز فهم الإسلام على أنه يأمر بالرضى عن الظلم والسكوت على الحرمان، إلا عقل منحرف لا يستطيع أن يفهم ولا يستطيع التخلص من الهوى والشهوات؟
إنما تنصرف الآيات التي أوردناها في أول الفصل إلى النهي عن التمني الفارغ الذي لا يصحبه عمل منتج؛ وإلى الرضى بما لا يستطيع أحد في الأرض أن يغيره: لا الدولة ولا المجتمع ولا أحد من الناس.
فلنفرض أن إنساناً وهب موهبة حازت له الشهرة وإعجاب الناس، وآخر يتحرق شوقاً إلى مثل هذه الشهرة وهو لا يملك مثل موهبته. فما الذي تصنعه الدولة يا ترى لإرضاء هذا الشوق، ومنعه أن يتحول إلا حقد مريض؟ هل "تصنع" الدولة له موهبة في أحد مصانعها!؟
ولنفرض أن إنسانة جميلة تهفو لها الأفئدة وتتبعها العيون. وأُخرى ليس لها جمالها ولكنها تتلهف إلى الإعجاب وتتطلع إلى الجمال، فما الذي يسع الدولة أن تقدمه إليها لتمنحها " المساواة" التي تنشدها؟(1/171)
ولنفرض أن زوجين يتمتعان فيما بينهما بالحب، أو ينجبان من الأطفال ما تقر به عينهما وتسعد نفسهما، وآخرين لم يكتب لهما الوفاق، أو لم ينجبا الأطفال رغم محاولات الطب الحديث، فماذا تصنع قوى الأرض كلها لتعويضهما عما يفقدانه في هذا الباب؟
أن هذا وأمثاله كثير جداً في الحياة. ولن تحله الحلول الاقتصادية ولا نشر العدالة الاجتماعية، لأنه يتعلق في جوهره بقيم غير اقتصادية. فمن ذا الذي يحله إذن إلا الدعوة إلى الرضى، والإطمئنان إلى رزق الله الواسع الذي يقدر الناس بمقاييس أخرى غير مقاييس الأرض، ويجزي حرمان الأرض بنعيم السماء؟!
بل في الميدان الاقتصادي والاجتماعي ذاته.. من الذي يقول إن المساواة المطلقة قد أمكن أن تطبق في واقع الأرض؟ في أي بلد من بلاد العالم كله تساوت جميع الأجور أو تساوت جميع المناصب؟ فلنفرض أن عاملاً في الاتحاد السوفييتي شديد الطموح عظيم التوق. فهو تواق لأن يكون مهندساً، ولكن مواهبه العقلية تحول دون ذلك رغم إعطائه جميع الفرص العادلة. أو أن عاملاً لا يجد في جسمه طاقة بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى ليقوم بعمل إضافي يأخذ عليه أجراً إضافياً، ولكنه مع ذلك يتحرق شوقاً إلى ما يناله الآخر القوي من أجر زائد ينفقه في متع الحياة. ما الذي تملكه الدولة لهذا وذلك؟ وكيف يستطيع أن يسعد بحياته وهي مشوبة بالقلق المستمر والتطلع الدائم والحقد المرير؟ وكيف - بغير التطلع إلى رحمة الله ونشدان الراحة في رحابها - يستطيع أن يؤدي عمله في كما ينبغي، ليستفيد من جهده المجموع؟ أبالحديد والنار خير، أم بدافع داخلي من الرضا والإقبال؟
هذه هي دعوة الإسلام. العمل لتحقيق الرغبات المشروعة، والرضا بما لا يستطيع تغييره أحد. أما حين يوجد الظلم الذي يمكن تغيره، فلن يرضى الله عن الناس حتى يزيلوا هذا الظلم بالثورة عليه وتحطيمه: " ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً (112) ".(1/172)
فإذا كان في الدنيا كلها دين يصلح أن يكون أفيوناً للشعب، فلن يكون هذا الدين هو الإسلام، الذي يكافح الظلم بجميع صوره وألوانه، وينذر الذين يقبلون الظلم بشر العقاب.
الإسلام... والطائفية
موقف الطوائف غير المسلمة من حكم الإسلام مسألة يقال عنها دائماً إنها شائكة ودقيقة، ويتجنب الناس الحديث فيها مخافة وقوع الفتنة بين المسلمين وغير المسلمين.
ولكني شخص تعودت على الصراحة الكاملة بيني وبين نفسي، وبيني وبين الناس، وبهذه الصراحة الكاملة أحب أن أسأل المسيحيين في الشرق الإسلامي: ما الذي يخشون من حكم الإسلام؟ هل يخشون النصوص أم يخشون التطبيقات؟
أما النصوص فتقول: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين (113) ".
وتقول: " وطعام الذين أتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتو الكتاب (114) ".
والمبدأ الفقهي العام: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا ".
فهي تأمر بالبر بهم والعدل في معاملتهم، والمساواة بينهم وبين المسلمين في الحقوق والواجبات التي لا تتعلق بعبادة أو فريضة، إنما تتعلق بنظام المجتمع وحقوق المواطنين فيه. وتزيد على ذلك أن تسعى إلى توثيق الروابط بينهم وبين المسلمين بالتزاور والمؤاكلة والمشاربة، وهي لا تكون إلا بين الأصدقاء المتحابين، وتتوج ذلك برباط الزواج وهو أوثق رباط.
أما التطبيقات، فيحسن أن نترك الحديث فيها لرجل مسيحي أوربي لا يتهم بالتحيز للإسلام.
يقول سيرت. و. أرنولد في صفحة 48 من كتابه " الدعوة إلى الإسلام " ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي:(1/173)
" ويمكننا أن نحكم من الصِّلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام. فمحمد نفسه قد عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية. كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة ".
ويقول في صفحة 51: " ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام، إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة. وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح ".
ويقول في صفحة 53: " ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن، وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا. أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ".(1/174)
وفي صفحة 54: " وهكذا كانت حالة الشعور في بلاد الشام إبان الغزوة التي وقعت بين سنتي 633، 639م والتي طرد فيها العرب جيش الروم من هذه الولاية تدريجاً. ولما ضربت دمشق المثل في عقد صلح مع العرب سنة 637م، وأمنت بذلك السلب والنهب، كما ضمنت شروطاً أخرى ملائمة، لم تتوان سائر مدن الشام في أن تنسج على منوالها فأبرمت حمص ومنبج وبعض المدن الأخرى معاهدات أصبحت بمقتضاها تابعة للعرب، بل سلم بطريق بيت المقدس هذه المدينة بشروط مماثلة. وإن خوف الروم من أن يكرههم الإمبراطور الخارج على الدين على إتباع مذهبه، قد جعل الوعد الذي قطعه المسلمون على أنفسهم بمنحهم الحرية الدينية أحب إلى نفوسهم من ارتباطهم بالدولة الرومانية وبأية حكومة مسيحية. ولم تكد المخاوف الأولى التي أثارها نزول جيش فاتح في بلادهم تتبدد حتى أعقبها تحمس قوي لمصلحة الفاتحين ".
تلك شهادة رجل مسيحي عن الإسلام. فما الذي يخشاه المسيحيون إذن من الحكم الإسلامي؟
لعلهم يخشون تعصب المسلمين ضدهم. فيظهر إذن أنهم لا يعرفون معنى التعصب. فلنضرب لهم أمثلة منه على مدار التاريخ.
كانت محاكم التفتيش في أسبانيا مقصوداً بها القضاء على المسلمين قبل كل شيء. وقد استخدمت فيها أبشع ألوان التعذيب التي عرفت في التاريخ، من إحراق الناس أحياء، ونزع أظافرهم وسمل عيونهم وتقطيع أوصالهم، لإكراههم على ترك دينهم واتباع مذهب مسيحي معين. فهل لقي المسيحيون في الشرق الإسلامي شيئاً من ذلك طول مقامهم هناك؟
والمجازر تقام للمسلمين في كل بلد أوربي أو واقع تحت سيطرة الأوربيين في يوغوسلافيا وألبانيا وروسيا، وفي الشمال الأفريقي والصومال وكينيا وزنجبار، وفي الهند والملايو، مرة باسم تطهير الصفوف ومرة باسم إقرار الأمن والسلام!(1/175)
ولكنا نترك كل هذا ونأخذ مثلاً واحداً له دلالته الخاصة وهو الحبشة، فهي بلد تربطنا به منذ القدم روابط تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية. فالحبشة - كما هو معلوم - تابعة للكنيسة المصرية. وسكانها خليط من المسلمين والمسيحيين، وأقل الناس تقديراً يقدر المسلمين بـ55% من مجموع السكان. بينما يقدرهم آخرون بـ65%! فلنأخذ أقل التقديرين!
ليس في الحبشة مدرسة واحدة حكومية تدرس الدين الإسلامي لتلاميذها المسلمين. ولا مدرسة واحدة تعلم اللغة العربية. أما المدارس التي يفتحها المسلمون على نفقتهم فإن الحكومة تظل تفرض عليها من الضرائب والمضايقات ما يؤدي إلى إغلاقها في آخر الأمر وتيئيس غيرهم من القيام بمحاولة جديدة. وهكذا يقتصر الأمر هناك بالنسبة للمسلمين على الكتاتيب.
وإلى عهد قريب - إلى ما قبل الغزو الإيطالي - كان المسلم الذي يستدين من مسيحي حبشي ويعجز عن الوفاء بدينه يصبح رقيقاً للحبشي يشترى ويباع ويعذب بمعرفة الدولة.
وبطبيعة الحال ليس في وظائف الحكومة ولا وزاراتها واحد مسلم ليقوم بتمثيل أكثر من نصف السكان. وهذا كله والكنيسة المصرية هي المشرفة على التوجيه الديني هناك!!
فهل رأى المسيحيون في العالم الإسلامي شيئاً من ذلك في تاريخهم؟ أم يرضون المعاملة بالمثل مع هذا القطر الذي تربطنا به روابط الطبيعة وروابط الدين؟!
ذلك هو التعصب الحق. أما في مصر مثلاً فماذا يخشون!
والشيوعيون يقولون إن الكيان الحقيقي للإنسان هو كيانه الاقتصادي. فهل حرم المسيحيون في الإسلام من حق الملك أو التصرف أو تجميع الثروات؟
هذا بشري حنا عندما زار الملك فؤاد الصعيد قد اقتلع من مزرعته من أشجار البرتقال المحملة بالثمار ما زرعه على طول 25 كيلو متراً من الجانبين في طريق الملك! فمن أين له ذلك لو لم يكن له حق الملكية بغير حد؟
وحق التعليم؟ وحق التوظيف؟ وحق الترقية في الوظيفة؟ هل يدخل فيه العنصر الديني؟(1/176)
على أننا لا نوافق الشيوعيين في أن كيان الإنسان هو كيانه الاقتصادي فحسب. ونضيف إليه كيانه المعنوي والروحي.
فهل حدث اضطهاد في العبادة - إلا الأمثلة النادرة التي كان المستعمرون الإنجليز دائماً من ورائها ليثيروا الفتنه التي تمكن لهم في الأرض؟
ويقولون إن هناك تمييزاً في مسألة الجزية. فنرد عليهم بقول سير أرنولد الذي استشهدنا به من قبل، إذ يقول في ص 58: " وقد فرضت الجزية كما ذكرنا على القادرين من الذكور في مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بأدائها لو كانوا مسلمين. ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تعفى من أداء الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي. وكان الحال على هذا النحو مع قبيلة الجراجمة، وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية وسالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عوناً لهم وأن تقاتل معهم في مغازيهم على شريطة ألا تؤخذ بالجزية، وأن تعطى نصيبها من الغنائم ".
وفي ص 59: " ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام. وفرضت عليهم الجزية نظير ذلك كما فرضت على المسيحيين ".
ليست المسألة إذن تفرقة طائفية. وإنما هي الخدمة العسكرية من أداها أعفي من الجزية، ومن لم يؤدها فعليه الجزية بلا تفرقة بين دين ودين.
أما النص الذي يقول: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ". [ سورة التوبة: 29 ].
فهو نص خاص بالمحاربين لدار الإسلام من أهل الكتاب كما لو حاربنا الإنجليز أو الفرنسيين، وليس ينصرف إلى المقيمين في الوطن الإسلامي.
ولكني أعلم أن شياطين الشيوعية ينبثون في كل طائفة فيمنونها بأمنية خاصة.(1/177)
فهم ينبثون بين العمال فيقولون لهم: " اتبعونا وسنملككم المصانع ". وبين الفلاحين فيقولون لهم: " اتبعونا وسنملككم الأرض ". وبين خريجي الجامعات والمدارس المتعطلين فيقولون لهم " اتبعونا وسنمنحكم عملاً يوازي مؤهلاتكم ". وبين الشباب المحروم من الجنس، فيقولون لهم: " اتبعونا وسننشئ لكم مجتمعاً " حراً " يصنع فيه من يشاء ما يشاء بلا تدخل من القانون ولا اعتراض من التقاليد ".
ثم يخلون بالمسيحيين فيقولون لهم: " اتبعونا وسنحطم لكم هذا الإسلام الذي يفرق بين الناس على أساس العقيدة ". كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. ليس الإسلام هو الذي يفرق في نظامه ومعاملاته بين الناس على أساس العقيدة، وهو الذي يمنحهم كل الحقوق الحيوية بلا تفريق. وإنما هو يجمع بينهم على أساس الإنسانية، ثم يترك لهم بعد ذلك كامل الحرية في اعتناق العقيدة التي يريدونها، برضاء الإسلام، بل بحمايته وتحت رعايته.
وإني لأعلم كذلك أن المسيحيين في الشرق، أحرص على روابطهم التاريخية مع المسلمين، وأحرص على مصالحهم المتشابكة، من أن يستمتعوا لدس الدساسين أو وسوسة الشياطين.
الإسلام... والمثالية
أين هو الإسلام الذي تحدثوننا عنه أيها المسلمون؟ ومتى طبق في وضعه الصحيح؟ إنكم دائماً تحدثوننا عن نظام مثالي رائع في ذاته، ولكنه لم يوجد بالصورة التي تصفونها في واقع الأرض. فإذا سألناكم عن التطبيق العملي لم تجدوا إلا فترة قصيرة في حياة الرسول والخلفاء الراشدين، أو بالأحرى الخليفتين الأولين. ورحتم تتشبثون بعمر بن الخطاب خاصة تجلون في شخصه صورة الإسلام، وتعرضونها باهرة تتلألأ في العيون، حتى إذا فتشنا حولها لم نجد إلا ظلمات بعضها فوق بعض، من إقطاع وظلم واستبداد وتأخر ورجعية.
تتحدثون عن حق الشعب في تأديب حكامه، فمتى - في غير عهد الخلفاء الراشدين - أتيح للشعب أن يختار حكامه فضلاً عن تأديبهم؟(1/178)
وتتحدثون عن حق الشعب في تأديب حكامه، فمتى - في غير عهد الخلفاء الراشدين - أتيح للشعب أن يختار حكامه فضلاً عن تأديبهم؟
وتتحدثون عن التوزيع الاقتصادي العادل في الإسلام، فمتى تقاربت الفوارق بين الناس حتى في عهد الخلفاء الراشدين أنفسهم؟
وتتحدثون عن واجب الدولة في إيجاد عمل لكل مواطن. فما بال الألوف والملايين من المتعطلين الذين يعيشون على التسول حيناً، وعلى البؤس والحرمان أبداً؟
وتتحدثون عن حقوق المرأة في الإسلام فمتى نالت هذه الحقوق بالفعل، ومتى مكنتها التقاليد الظالمة أو الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من استعمال هذه الحقوق؟
وتتحدثون عن التربية الإسلامية التي تهذب النفوس وتودع فيها تقوى الله، فتقوم العلاقات بين الحكام والمحكومين وبين طوائف الأمة المختلفة على التعاون في سبيل الخير، فمتى حدث ذلك إلا في تلك الفترات النادرة التي تتمثلون بها، ومتى منعت تقوى الله من أكل حقوق الفقراء والجور عليهم واستئثار الحكام بالمنافع وكبت الحريات وإذلال الشعوب؟
إنكم تحدثوننا عن أحلام لا رصيد لها من الواقع، إلا هذا الرصيد الضئيل الذي لا يؤلف نظاماً واضح المعالم، وإنما هو أمثلة شخصية لم تتكرر في التاريخ.
تلك دعوى الشيوعيين وأشباههم، بل هي شبهة قوية في نفوس المسلمين أنفسهم الذين لم يدرسوا التاريخ الإسلامي إلا على أيدي المستعمرين.
وهنا يجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين أمرين: مثالية النظام ذاته، ومثالية التطبيق.
فهل الإسلام بطبيعته نظام مثالي لا يقبل التطبيق العملي في واقع الأرض، لاعتماده على عناصر خيالية أو مستحيلة. أم هو نظام عملية ولكنه لم يطبق بصورته الكاملة على مدار الأجيال؟
والفرق بين الوضعين كبير..
فحين يكون نظاماً مثالياً في ذاته، فلا أمل في تطبيقه أبداً مهما تبدلت الأحوال والظروف.(1/179)
وإذا كان نظاماً واقعياً، ولكن ظروفاً بعينها قد حالت دون تطبيقه. فالأمر مختلف، والأمل في التطبيق قائم متى زالت هذه الظروف.
فأي الوضعين ينطبق على الإسلام؟
نحسب أن الأمر من الوضوح بحيث لا يختلف في أمره أحد. فمجرد تطبيقه مرة واحدة في تاريخ البشرية يثبت بدليل قاطع أنه نظام قابل للتطبيق، وأنه لا يعتمد على عناصر خيالية ولا مستحيلة. أم يريد التقدميون أن يقولوا إن الناس في صدر الإسلام قد ارتفعوا إلى مستوى تعجز البشرية عن العودة إليه؟ إن ذلك على أي حال مخالف لرأيهم في مسألة التطور الذي يدفع بالبشرية دائماً إلى الأمام!
أما لماذا لم يتكرر عهد الخلفاء الراشدين مرة أُخرى إلا في فترات خاطفة من التاريخ كعهد عمر بن عبد العزيز مثلاً فسؤال وجيه، ورده موجود في ملابسات التاريخ، سواء منها ما كان محلياً في الرقعة الإسلامية أو عاماً في حياة البشرية.
فيجب أن نجعل بالنا إلى أمرين:
الأول: إن القفزة التي قفزها الإسلام بالبشرية من وهدتها التي كانت فيها، إلى مستواها الرفيع الذي تحقق في عهد الخلفاء الراشدين، لم تكن قفزة عادية. فهي معجزة من معجزات الإسلام حققها في واقع الأرض، ولكنها كانت في حاجة إلى إعداد طويل وتربية شخصية للأبطال الذين حققوا المعجزة في أشخاصهم وأعمالهم جميعاً.(1/180)
ولكن الإسلام انتشر بسرعة خاطفة لا مثيل لها من قبل ولا من بعد في كل حركات التاريخ. وتلك معجزة أُخرى من معجزات الإسلام لا تفسرها كل التفسيرات المادية والاقتصادية التي يفسر بها الماديون والشيوعيون تاريخ البشرية. ولكن هذه السرعة ذاتها قد جلبت إلى الإسلام أقواماً متعددين ليسوا كلهم قد تشربوا روح الإسلام، ولا فهموا حقيقة نظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم يكن في الوسع تربيتهم جميعاً بالصورة التي تربى عليها المسلمون الأوائل في الجزيرة العربية. وكان من جراء دخول هذه الأقوام في الإسلام وحسبانها من تعداد المسلمين، أن اتسعت رقعة الإسلام ولكن مبادئه لم تتغلغل في نفوس الناس فسهل الانحراف عنها، واللعب بها على أيدي الحكام الظالمين من بني أمية والعباسيين والأتراك والمماليك وغيرهم ممن لم يستوفوا خصائص الإسلام.
والأمر الثاني: أن هذه القفزة الإسلامية لم تكن طبيعية بالنسبة " للتطور " البشري، فقد رفعت الناس طفرة من الرق إلى صورة من العدل الاجتماعي لا تزال تعتبر خطوة تقدمية بالنسبة لكل النظم التي جربتها البشرية، كما رفعتهم من حضيضهم النفسي الغارق في شهوات الأرض إلى قمة تزهى بها الإنسانية في جميع عصورها.(1/181)
وقد أطاق الناس وقتها هذا الارتفاع الشاهق المفاجىء، لأن الدفعة الروحية الممثلة في الرسول وأصحابه كانت كقوة السحر التي ترفع الإنسان فوق طاقاته العادية وتجعله يصنع ما يشبه المعجزات. فلما انحسرت هذه الدفعة الهائلة ارتد الناس عن آفاقهم العليا، وإن كانوا - مع ذلك - قد احتفظوا بقبسة لامعة من روح الإسلام سنتحدث بعد هنيهة عن آثارها العملية في تاريخ البشر. ولكن هذا ليس معناه كما يقول المزيفون أننا في حاجة دائمة إلى وجود الرسول والصحابة بأشخاصهم لنحقق ما حققه الناس في صدر الإسلام في الجانب العملي على الأقل. فالذي كان يعد معجزة قبل ألف وثلثمائة عام في سياسة الحكم ونظام الاقتصاد وعلاقات المجتمع، أصبح بعد مرور هذه الحقب الطويلة، وبعد التجارب التي مرت بها البشرية - وفي أولها التجربة الإسلامية ذاتها - في حدود المستطاع اليوم في كثير من ربوع الأرض. فإذا أردنا أن نطبق الإسلام اليوم في واقع الحياة، بصرف النظر عن مثله الأخلاقية الرفيعة - وإن كان الإسلام يعني بها عناية خاصة ولا يفصل بينها وبين التطبيق العملي - فلن نقفز قفزات معجزة كتلك التي قفزها العرب في صدر الإسلام، لأن التجارب والسوابق قربتنا من تلك القمة العالية، فصارت النقلة أقرب، وصار الجهد المطلوب أيسر من ذي قبل.
ولنضرب بعض الأمثلة لما نقول:(1/182)
فالأمم التي تعيّن حكامها اليوم بالانتخاب العام، وتعزلهم حين تراهم انحرفوا عن سواء السبيل، لا تزيد على أن تطبق الصورة الإسلامية للحكم في صدر الإسلام من جانبها العملي. وقد كان هذا معجزة في عصر أبي بكر وعمر. ولكنه اليوم في متناولنا حين نريد، أي حين يصير لدينا الوعي الذي تملكه هذه الأمم. فإذا كنا نملك ذلك بتقليد انجلترا أو أمريكا فلماذا نعجز عنه إذا طلبناه باسم الإسلام وهو موجود في الإسلام؟ وضمان المطالب الأساسية لموظفي الدولة - ومن في حكمهم من العمال في المؤسسات العامة والخاصة - تشريع صريح من تشريعات الإسلام. وقد طبقته الشيوعية في القرن العشرين (وإن كانت قد طبقته في مقابل دكتاتورية الدولة والإسلام أراده حراً من الدكتاتورية) فإذا رغبنا في تنفيذه اليوم فهو في متناول يدنا. ولكن لماذا نأخذه من الشيوعية ولا نأخذه من الإسلام؟
وهكذا وهكذا في كل باب.
فتجارب البشرية قد قربتنا اليوم مسافة هائلة من نظم الإسلام. وإن كانت لم تصل إليها كاملة حتى اليوم. فلماذا تصبح هذه النظم واقعية عملية حين تحاولها أوربا، وتصبح خيالية مثالية حين يريدها الإسلام؟!
إن القضية في جوهرها يجب أن توضع على هذا النحو: هل تلك النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ممكنة في ذاتها أم غير ممكنة؟ فما دامت ممكنة في أي مكان وفي أي نظام، فكيف لا تكون ممكنة في الإسلام وهو أول نظام طبقها بالفعل على ظهر الأرض؟!(1/183)
ولا عبرة بالوهم الذي يثيره الشيوعيون وأضرابهم، من أن النظم الحديثة قائمة على أسس علمية! والإسلام قائم على العواطف والنوايا الطيبة! فالجانب التشريعي في الإسلام ليس عواطف. والخلفاء الراشدون حين كانوا يتشاورون في تطبيقه ويضعون له التفسيرات الفقهية لم يكونوا حالمين ولا معتمدين على حسن نوايا الناس. كل المسألة أن الإسلام لا يحب أن يعتمد على القانون وحده، فهو يضع التشريع، ولكنه يهذب النفوس وينظفها حتى تتطوع بما فوق الواجب المفروض، وتنفذه - حين تنفذه - بدافع من الداخل لا خوفاً من سطوة الحاكم فحسب، وهذه أبرع سياسة يمكن أن تطبق في عالم الناس. ولكن القانون موجود دائماً وينفذ دائماً بصرف النظر عن نوايا الناس، على حد قول عثمان: " يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".
وبعض الكتاب يحسبون أنهم يوقعون المسلمين في حرج ما بعده حرج، حين يقولون لأصحاب الدعوة الإسلامية: لا تحاجونا بعمر، فعمر لا يتكرر في التاريخ!(1/184)
وهي تفاهة في التفكير، فنحن لا نحاجّ الناس بشخص عمر - وإن كان عمر بلا شك من صنع الإسلام، ونموذجاً لما تصنعه التربية الإسلامية في تهذيب النفوس - ولكننا نحاجهم بتطبيقاته العملية. فحين يقرر عمر أن يد السارق لا تقطع إذا كانت هناك شبهة في أنه اضطر لارتكاب جريمته نتيجة اضطراب اقتصادي أو اجتماعي، فهذا تطبيق لا يحتاج لشخص عمر لتنفيذه، فعمر إنما استمده من أصل ثابت في الإسلام: " ادرأوا الحدود بالشبهات ". وحين ننفذه اليوم فلن نجد قوة خفية أو ظاهرة تمسك يدنا وتقول لنا: كيف تنفذونه وعمر غير موجود! وحين يقرر عمر حق الإمام في أخذ فضول أموال الأغنياء وردها على الفقراء - كما قررت انجلترا في الضرائب التصاعدية - فهذا تطبيق ينفذ اليوم بصفته اجتهاداً فقهياً لا بصفته نزعة شخصية لعمر، فعمر إنما استمده من أصل ثابت في الإسلام: " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ولن نحتاج إلى شخص عمر لينفذه، وقد نفذته انجلترا دون أن يكون لديها عمر! وحين يقرر عمر مبدأ محاكمة الولاة وسؤالهم: من أين لك هذا؟ ليتبين إن كان من مالهم أم من مال الناس، فهذا مبدأ قانوني ينفذ في كل وقت، وفي غيبة عن شخص عمر! وحين يقرر عمر أن الطفل اللقيط ينفق عليه من بيت المال لأنه لا ذنب له في جريمة أبوية - وهو تشريع عرفته أوربا وأمريكا في القرن العشرين فقط - فلن نحتاج في تنفيذه إلى أكثر من إقراره في صلب القانون!(1/185)
وهكذا معظم احتجاجنا بعمر، بوصفه من أبرز المجتهدين في صدر الإسلام وأفهمهم للروح الإسلامية في تصرفاته، لا بصفته الشخصية الفذة، وإن كان كلام هؤلاء الكتاب لن يمنعنا أن نكرر التمثل بعمر حتى في تصرفاته الشخصية المثالية التي تطوع فيها بما لم يلزمه به أحد، ليبقى مثلاً أعلى يحاول المسلمون على مر الأجيال أن يصلوا إليه أو يقتربوا منه. فإن وصلوا فهو الخير لكل البشرية، وإن لم يقدر لهم، فبحسبهم تطبيقاته العملية الواقعية يطبقونها، بدل التسول على أبواب الدول واستمداد دساتيرها وترقيعها لاستخراج " دستور " منها!!
* * *
على أن هناك مغالطة كبرى تزعم أن الإسلام لم يوجد إلا في عهد الخلفاء الراشدين! وهي شبهة يؤمن بها كثير من المسلمين.
إن الصورة الكاملة للإسلام لم تنفذ بعد الخلفاء الراشدين إلا في فترة خاطفة في عهد عمر بن عبد العزيز. هذا حق. ولكنه لا يعني أن الإسلام قد انتهى بعد ذلك. فقد فسدت الحكومة وحدها فساداً جزئياً أو كاملاً. وبقي المجتمع - في غير العاصمة - إسلامياً حقاً، يعيش بروح الإسلام المتعاونة المتكافلة، التي لا تقسم المالكين وغير المالكين إلى أسياد وعبيد، بل تجعل منهم إخوة مترابطين مشتركين في الجهد وفي الجزاء.
وبقيت الشريعة الإسلامية هي التي تحكم في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي. ولم تقم محاكم خاصة على هوى الإقطاعيين كما حدث في أوربا في نفس الفترة مع التاريخ.
وبقيت التقاليد الإسلامية سارية في حروب الإسلام مع أعدائه، بما شهد به الصليبيون أنفسهم وخاصة في عهد صلاح الدين.
وبقي وفاء المسلمين بتعهداتهم مضرب المثل بين أمم الأرض
وبقي حب المسلمين للعلم وإخلاصهم للثقافة، مما جعل العالم الإسلامي في الأندلس وغير الأندلس كعبة المتعلمين في مختلف الفنون.(1/186)
وفي اختصار بقي الإسلام هو الشعلة المضيئة التي تتعلم منها أوربا، وتستمد منها النظم، وتحاول بكل جهدها أن ترتقي إليها، وإن كانت بعد ذلك قد أدركتها خستها الأصيلة، فأطفأت شعلة الإسلام في الأندلس ومضت بعد نهضتها المستمدة من الإسلام، تحاول تحطيمه وتشويه صورته في الآفاق.
ليس الإسلام إذن نظاماً مثالياً بالمعنى السيء للمثالية. وإنما هو نظام عملي بحت، طبقته البشرية مرة، وهي اليوم أقدر على تطبيقه مما كانت قبل ألف وثلثمائة عام، لأن تجاربها الطويلة قربت ما بينها وبينه من آفاق.
وإنما أولى بتهمة المثالية أن توجه إلى الشيوعية! فالقوم يقولون إنهم لم يصلوا بعد إلى الشيوعية الحقيقية، وإنما هم ما يزالون في طور الاشتراكية، وحين يصل الإنتاج إلى ذروته، ويتوحد العالم تحت حكومة عالمية موحدة، فحينذاك تطبق الشيوعية المبنية على اكتفاء البشرية، وكفها - إلى الأبد - عن الصراع المرذول الموجود اليوم بسبب عدم كفاية الإنتاج!
وهي مثالية لا تتحقق أبداً لأنها تقوم على عناصر خيالية أو مستحيلة. تقوم على تصور أن البشر يمكن أن يكتفوا في يوم من الأيام! بينما هم خلقوا هكذا! لو كفيتهم كل مطالبهم اليوم لقاموا منذ الغد يتطلعون إلى جديد! وتقوم على تصور أن كفاية الإنتاج - على فرض تحققها - ستبطل الصراع على التميز والبروز، وأن هذا - لو تم - يكون في صالح البشرية! مع أن البشرية لم تتقدم إلا من طريق الصراع على التميز والبروز!
تلك هي المثالية الحمقاء تنبع من قلب المادية الواقعية، القائمة على نظريات العلم وحقائقه التجريبية!!
الإسلام... والشيوعية(1/187)
سلمنا لكم بأن الإسلام يشتمل على جميع الأسس الصالحة للحياة، وأنه دين الأجيال كافة والمجتمعات كافة، ولكن الفقه الإسلامي في المسائل الاقتصادية قد تعطل في القرون الأربعة الأخيرة بسبب انكماش العالم الإسلامي. فلماذا لا نأخذ الإسلام عقيدة تهذب الضمائر وتنظف الأفكار، ونأحذ الشيوعية نظاماً اقتصادياً بحتاً لا صلة له بأي شيء آخر في نظام الدولة وكيان المجتمع، فنكون بذلك قد حافظنا على أخلاقنا وتقاليدنا وعاداتنا، وأخذنا بأحدث النظم في عالم الاقتصاد؟
شبهة خبيثة يلعب بها الشيوعيون منذ عهد بعيد. فقد كانوا بدأوا نشاطهم في الشرق بمحاربة الإسلام جهرة، وإذاعة الشبهات حوله، فلما وجدوا ذلك قد زاد المسلمين تمسكاً بإسلامهم لجأوا إلى هذا الباب الماكر فقالوا: إن الشيوعية لا تتعارض مع الإسلام، فهي في صميمها عدالة اجتماعية، وكفالة من الدولة لكل أفراد الشعب، فهل يكره الإسلام العدالة الاجتماعية؟!
نفس الطريقة الماكرة التي اتبعها الاستعمار الغربي من قبل. بدأوا بمهاجمة الإسلام، فتنبه المسلمون وتيقظوا. ولم يكن ذلك هو المطلوب. فلجأوا إلى الطريق الآخر، وقالوا للناس إن الغرب لا يهمه سوى إدخال " الحضارة " في الشرق. فهل الإسلام يكره الحضارة وهو أبو الحضارة؟!
تستطيعون أن تظلوا مسلمين - أي تصلوا وتصوموا وتقيمون الأذكار والطرق الصوفية - وتأخذوا في ذات الوقت بالحضارة الغربية. وكانوا يعلمون علم اليقين أنه حين يأخذ المسلمون بهذه الحضارة فلن يظلوا مسلمين، وستطويهم تلك الحضارة الزائفة في أجيال قليلة فإذا هم على غير وعي منهم مستعبدون. وكذلك كان ... ونشأت أجيال لا تعرف الإسلام بل تنفر منه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.(1/188)
واليوم يكرر الشيوعيون نفس الخدعة. فلتظلوا أيها المسلمون في إسلامكم - تصلون وتصومون وتقيمون الأذكار والطرق الصوفية - ولن نتعرض لعقائدكم. كل همنا هو إدخال الشيوعية الإقتصادية، وهي قطعة من صميم الإسلام تبلورت على يد علماء أوربا وشعوبها فلتتقبلوها مطمئنين! وإنهم ليعلمون علم اليقين أن المسلمين إن أخذوا بالشيوعية فلن يظلوا مسلمين، وستطويهم الشيوعية في سنوات قليلة (فنحن في عصر السرعة) فإذا هم على غير وعي منهم منحرفون عن الإسلام منسلخون.
ومع ذلك فكثير من " المسلمين " تستهويهم هذه الخدعة الماكرة. لأنها تمثل لهم حلاً مريحاً ينقذهم من المشاكل، ويريحهم من البحث والاستنباط وجهد البناء، وهم قاعدون يحلمون، كما يحلم السابحون في الملكوت على دخان الحشيش وانسجام الأفيون!
* * *
ونحب أن نقرر من حيث المبدأ أن الأصول الإسلامية العامة تقبل أن ينشأ على أساسها أي نظام تطبيقي يلبي الحاجات المتجددة للجماعة الإسلامية ما دام لا يخالف هذه الأصول.
ولكن الأمر الواقع أن الشيوعية لا تلتقي مع الأصول الإسلامية وإن التقت معها عرضاً في بعض جزئياتها، وأنه لا يستطيع مجتمع مسلم، يملك النظام الأفضل، وأن يعدل عنه إلى الشيوعية أو غيرها من النظم كالرأسمالية أو الاشتراكية المادية، ولو شابهته في بعض التفصيلات، لأن الله يقول له صراحة: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
ولم يقل: ومن لم يحكم بمثل ما أنزل الله أو بشبيه بما أنزل الله!
* * *
وهل نستطيع حقاً أن نكون شيوعيين ثم نظل مسلمين؟
إننا إذا طبقنا الشيوعية - الاقتصادية كما يسمونها - فلا بد أن تصطدم مع الإسلام من الوجهة التصورية والوجهة العملية كلتيهما، ولا مناص من هذا الاصطدام.
فأما من الوجهة التصورية فهناك عدة أمور:(1/189)
الأمر الأول: أن الشيوعية قائمة على فلسفة مادية بحتة. لا تؤمن إلا بما تراه الحواس فقط. وكل مالا تدركه الحواس فهو خرافة لا وجود لها، أو على الأقل شيء ساقط من الحساب. يقول انجلز " إن حقيقة العالم تنحصر في ماديته " ويقول الماديون: " إن العقل ما هو إلا مادة تعكس الظواهر الخارجية " ويقولون كذلك إن ما يسمونه الروح " ليست جوهراً مستقلاً وإنما هي من نتاج المادة ". وهكذا نعيش مع الشيوعية في جو مادي خالص يسخر بالروحانيات ويعتبرها حقائق غير علمية! والعقيدة الإسلامية تأبى أن تنحصر في هذا المحيط الضيق الذي يهبط بكرامة الإنسان، و يحوله من كائن رفيع يسير على الأرض بجسمه وهو يتطلع إلى السماء بروحه وفكره، إلى مخلوق مادي حيواني كل همه إشباع " المطالب الأساسية " التي حددها كارل ماركس بالغذاء والمسكن والإشباع الجنسي! ولا يقولنّ أحد: إننا غير مقيدين بهذه الفكرة المادية، ولا ملزمين بها إذا أخذنا الاقتصاد الشيوعي، إذ ستظل لنا عقائدنا، وإلهنا ورسلنا، وروحانياتنا، والاقتصاد كيان منفصل عن كل هؤلاء. لا يقولن ذلك أحد، لأن الشيوعيين أنفسهم هم الذين قرروا استحالة، إذا ربطوا ربطاً وثيقاً بين النظام الاقتصادي وبين العقائد والأفكار والفلسفات المصاحبة له، على أساس أن النظام الاقتصادي هو الذي ينشىء العقائد والأفكار والفلسفات، وإذن فلا يمكن لنظام اقتصادي قائم على فلسفة مادية صريحة (كما يقرر إنجلز وماركس) أن ينشىء فلسفة روحية أو ينسجم مع فلسفة روحية.(1/190)
والشيوعيون - مثلاً - يؤمنون بالمادية الجدلية، وبأن صراع المتناقضات هو وحده العنصر الكامن وراء التطور الاقتصادي والبشري، من الشيوعية الأولى إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية والأخيرة، ويقرنون قيام الشيوعية الاقتصادية بصحة هذا المنطق الجدلي، ويربطون ربطاً " علمياً " بين هذا وذاك. وهذه المادية الجدلية لا مكان فيها لتدخل الله في خط سير البشرية، ولا مكان للرسل و رسالاتهم. لأن هذه الرسالات - في وهمهم - لا يكن أن تجيء سابقة للتطور الاقتصادي ولا منشئة له، وإنما هي تجيء فقط في مكانها المرسوم من هذا التطور، وبهذا تفقد قيمتها التوجيهية من وجهة النظر الإسلامية. وفضلاً عن ذلك فهذه المادية الجدلية التي تحصر أسباب كل التطورات البشرية في تغير وسائل الإنتاج تعجز عن تفسير ظهور الإسلام ذاته. فأي شيء كان قد تغيّر في وسائل الإنتاج في الجزيرة العربية أو في العالم أجمع قبل الإسلام، فكان من نتيجته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بنظامه الجديد؟!
كيف إذن يمكن التوفيق بين هذه النظرة وتلك؟ وكيف لا تتأثر عقائد المسلمين الذين يؤمنون برعاية الله لخلقه، وإرشاده لهم على يد رسله، وبأن الإسلام لم يكن خاضعاً للضرورات الاقتصادية.. كيف لا تتأثر عقائدهم حين نأخذ بنظام اقتصادي نقول في كل مرحلة من مراحل تطوره إنه يتطور حسب صراع المتناقضات الذي لا مجال فيه لله، ولا محرك له غير الضرورات الاقتصادية؟!
والأمر الثاني: أن الإنسان في عرف الفلسفة الشيوعية كائن سلبي لا إرادة له إزاء قوة المادة وقوة الاقتصاد. يقول كارل ماركس: " في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى عنها. وهي مستقلة عن إرادتهم. ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم، ولكن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم ".(1/191)
والإنسان في عرف الإسلام كائن إيجابي له إرادة - خاضعة بطبيعة الحال لإرادة الله - يقول القرآن: " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه (115) " فيقرر أن الإنسان هو القوة العليا في الأرض، وأن القوى المادية والاقتصادية مسخرة لإرادته، وليس هو المسخر لإرادتها. ومصداق ذلك هو الإسلام ذاته. فهو لا يسير حسب التطور الحتمي الذي يرسمه مبدأ المادية الجدلية. وحين كان الناس مسلمين - في صدر الإسلام - لم يشعروا أن التطور الاقتصادي قوة جبرية تخضعهم لها وهي " مستقلة عن إرادتهم " كما يقول ماركس. وإنما أحسوا أنهم هم يصنعون الاقتصاد كما وجههم الله على يد رسوله، وهم ينشئون العلاقات الاجتماعية على هدي الإسلام، فيحررون الرقيق بغير موجب اقتصادي يحتم عليهم تحريره ويحولون دون الإقطاع مع أنه ظل قائماً مئات السنين في أوربا وفي غير العالم الإسلامي.
وحين نأخذ الاقتصاد الشيوعي، فسنأخذ معه - حتماً - تلك الفلسفة التي تجعل الإنسان مترقباً للتطور الاقتصادي يأخذ سبيله " مستقلاً عن إرادة الناس " ولا يسعى ولا يفكر في تغييره بإرادته - أو بإرادة الإسلام - لأن هذا مستحيل!(1/192)
والأمر الثالث هو ما أسلفناه في فصل " الملكية الفردية " من إستحالة الفصل بين أي نظام اقتصادي والفلسفة الاجتماعية الكامنة وراءه. فحين نأخذ الاقتصاد الشيوعي لا بد أن نأخذ معه الفلسفة الاجتماعية التي تقوم على أساس أن المجتمع هو الأصل والفرد لا كيان له إلا باعتباره فرداً في القطيع. وذلك مخالف في أساسه للتربية الإسلامية التي تعنى عناية شديدة بالفرد، وتكل إليه - بعد تهذيب ضميره - القيام بتبعات المجتمع وهو شاعر أنه جزء حي مريد موجه، يختار عمله بنفسه، ويختار المكان الذي يعمل فيه، ويملك حرية توجيه الحاكم والخروج عليه إذا خرج هذا الحاكم عن شرع الله. والإسلام - بهذه التربية الفردية داخل رقابة المجتمع - يقيم من كل فرد حارساً أخلاقياً يرعى أخلاق المجتمع ويحول دون وقوع المنكر فيه. وهو مالا يمكن - نفسياً وعملياً - أن يحدث حين يصبح الفرد ذرة تائهة في كيان المجتمع، يطيع الدولة في شئون الاقتصاد، ثم يطيعها - تبعاً لذلك - في جميع الأمور.
والأمر الأخير أن الفلسفة الشيوعية قائمة على أن العامل الاقتصادي هو الوحيد، أو هو على الأقل صاحب الأولوية المطلقة في تصريف شئون المجتمع وإقامة علاقاته.
والعقلية الإسلامية لا تنكر أهمية الاقتصاد، ولا ضرورة إقامة المجتمع على أسس اقتصادية سليمة، ليمكن إقامة الفضائل الخلقية والاجتماعية فيه ولكنها مع ذلك لا تؤمن بأن الحياة كلها اقتصاد. ولا أن الحلول الاقتصادية تحل كل مشاكل المجتمع.
فهذان - مثلاً - شابان قد سوينا بينهما في الوضع الاقتصادي. ولكن أحدهما غارق - بطبيعة مزاجه - في الشهوات لا يكاد يفيق منها، ولا يملك منها قياد نفسه، والآخر مترفع يأخذ نصيبه المعقول من المتاع وينفق ما تبقى من طاقة في الآفاق العليا من علم أو فن أوعقيدة. هل يستويان مثلاً؟ وهل تستقيم الحياة بهذا كما تستقيم بذاك؟(1/193)
وهذا رجل له شخصية، يقول فيستمع له الناس وينفذون توجيهاته، وآخر لا شخصية له هو سخرية أصحابه. هل يحل الاقتصاد مشكلة هذا الأخير؟ وهل تستقيم الحياة بهذا كما تستقيم بذاك؟
وهذه امرأة جميلة وأُخرى عاطلة من الجمال. هل يحل الاقتصاد مشكلتها؟ وهل تستقبل الحياة كما تستقبلها الأخرى؟
ومن هنا تهتم العقلية الإسلامية بالقيم الأخرى - غير الاقتصادية - وخاصة القيم الخلقية، لإيمانها بأن في الحياة قيماً غير اقتصادية في جوهرها، وأنها تحتاج إلى مجهود إيجابي لتنظيمها لا يقل عن المجهود الموجه لتنظيم الاقتصاد. وتهتم بإيجاد صلة دائمة بين العبد والرب، لأن هذه هي الوسيلة المثلى لتثبيت القيم الخلقية، ورفع الناس من عالم الضرورة وما يدور فيه من خصومات وأحقاد، إلى عالم طليق يغلب فيه الخير والمودة.(1/194)
ومن جهة أخرى تؤمن العقلية الإسلامية بأن الطاقة الروحية في الإنسان طاقة ثمينة كبيرة الأثر في الحياة البشرية، وأنها حين توجه إليها العناية ويبذل الجهد في تربيتها، لا تقل أثراً عن العوامل الأخرى مجتمعة، بما فيها العامل الاقتصادي. بل قد تكون أحياناً من الضخامة بحيث ترجح تلك القوى جميعاً. ويجد المسلمون في تاريخهم مصداق هذه الحقيقة في موقف رجل مثل أبي بكر من الردة، فقد وقف وحده مصراً على قتال المرتدين، والمسلمون جميعاً بما فيهم عمر بن الخطاب ذاته لا يؤيدونه في موقفه. فعلى أية قوة كان يعتمد؟ القوة المادية؟ قوة الاقتصاد؟ القوة البشرية ذاتها؟ كل ذلك يخذله عن القتال. ولكن القوة الروحية العجيبة التي وصلت روح أبي بكر بخالقه فاستمد منه العون والعزم، هي وحدها التي حولت المتخاذلين إلى متحمسين، وحولت قوة المشاعر إلى قوة مادية واقتصادية لا مثيل لها في التاريخ! كما يجدون مصداقها في موقف رجل مثل عمر بن عبد العزيز من الظلم السياسي والاجتماعي الذي بدأه بنو أمية، فقد وقف في وجه هذا الظلم ورد الأمور إلى نصابها كما ينبغي أن تكون في المجتمع المسلم، حتى حدثت في عهده معجزة اقتصادية تاريخية، هي وجود مجتمع ليس فيه فقراء.
لذلك تهتم العقلية الإسلامية بالطاقة الروحية لأنها لا تحب أن تضيع على البشرية فرصة الاستفادة من معجزاتها، وإن كانت في الوقت ذاته لا تنفض يدها من العمل في حدود الطاقة " الواقعية " انتظاراً لتلك المعجزات. وإنما يكون شعارها دائماً: " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".(1/195)
وليس في طوق الإنسان أن يصرف اهتمامه إلى الشئون الاقتصادية على الطريقة الشيوعية، ثم تبقى لديه الطاقة أو الاهتمام الذي يوجهه للقيم الخلقية والجوانب الروحية. لأن " التضخم الاقتصادي " الذي تعنيه الشيوعية، هو كالتضخم الذي يصيب بعض أجزاء الجسم كالقلب أو الكبد. فلا العضو المتضخم يؤدي وظيفته كاملة، ولا هو يدع بقية الأعضاء تؤدي وظيفتها على الوجه الصحيح.
* * *
وأنا أعلم أن البعض قد ضجروا من هذا العرض الذي قدمناه للجانب الفكري من الإسلام والشيوعية، لأنهم لا يؤمنون بالمسائل النظرية، ويحسبونها " دردشة " فارغة، أو يحسبون أن المسائل العملية وحدها هي التي تستحق العناية، وأن كل شيء يمكن تسويته إذا أمكن التطبيق العملي، ولذلك فهم يتلهفون إلى معرفة الاصطدام العملي بين الإسلام والشيوعية.
ونحن لا نقرهم على الاستهانة بالجانب النظري أو التصوري، لأنه لا انفصال بينه وبين الجانب العملي، ولكنا مع ذلك نجيبهم إلى ذكر أوجه الخلاف العملية. وهي كذلك تشتمل على عدة أمور.
الأمر الأول: أن الإسلام يعتبر الوظيفة الأولى للمرأة هي رعاية الإنتاج البشري. ولا يستريح إلى خروجها من مملكتها إلى المصانع والمزارع إلا في حالة الضرورة. والضرورة هي عدم وجود عائل يكفلها سواء أكان أباً أم أخاً أم زوجاً أم قريباً.
ولكن الشيوعية - الاقتصادية - تحتم اشتغال المرأة ساعات كاملة كالرجل سواء. وبصرف النظر عن حماقة الفلسفة الشيوعية في هذا الباب، وإنكارها للتفرقة بين الرجل والمرأة في الوظيفة والكيان النفسي، فإن الاقتصاد الشيوعي ذاته قائم على أساس زيادة الإنتاج المادي إلى الحد الأقصى، وهذا لا يتوفر إلا باشتغال جميع أفراد الشعب في المصانع والمعامل والمزارع، وعدم احتجاز المرأة عن العمل إلا في شهور الولادة فقط. والمحاضن بعد ذلك تتولى الإشراف على الأطفال على طريقة الإنتاج الكبير Mass Production (116).(1/196)
فإذا طبقنا الشيوعية الاقتصادية فستخرج المرأة - كل امرأة - للعمل. ونخرج بذلك عن ركن ركين من التصور الإسلامي الذي يقيم كل نظامه الاجتماعي والخلقي - والاقتصادي أيضاً - على أساس اختصاص المرأة بشئون الأسرة الداخلية، وإختصاص الرجل بشئونها الخارجية، توزيعاً للعمل ومراعاة للاختصاص (117). فإذا قال قائل: ليس من الضروري أن تعمل المرأة في المصنع، فقد خرج إذن من الشيوعية (والذي يقول ذلك هم الشيوعيون أنفسهم لا نحن) وأصبحت المسألة مجرد زيادة الإنتاج، وهو هدف حيوي أصيل دون شك، ولكنه لا يحتاج إلى اعتناق الشيوعية - الاقتصادية - لأن الشيوعية ذاتها قد تعلمت زيادة الإنتاج من أوربا الرأسمالية (118). وقيام حكم إسلامي لن يمنع استخدام أحدث الوسائل لزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي دون حاجة إلى عمل المرأة في المصنع.
والأمر الثاني: أن النظام الاقتصادي الشيوعي قائم على الدكتاتورية الكاملة. فالدولة هي التي تعين الأعمال، وتوزع عليها العمال حسبما ترى هي بصرف النظر عن رغبة العامل في نوع العمل أو المكان الذي يشتغل فيه، وهي التي ترسم السياسة العامة وتجبر الناس على تنفيذها، ولا يتم هذا إلا بأن تصبح الدولة هي المشرف الوحيد على جميع الأعمال والأفكار والأقوال والاجتماعات والتوجيهات، لأن الحرية لو تركت في جانب، فستصل حتماً إلى حرية نقد النظام أو نقد الحاكم وهو ما لا تسمح به الدولة بحال. ويجب أن نفرق هنا بين دكتاتورية الحاكم ودكتاتورية الدولة. فقد يكون الحاكم ذاته رجلاً متواضعاً لا يستبد بالرأي، ولكن هذا لا علاقة له بدكتاتورية الدولة في تسيير النظام الاقتصادي والإشراف عليه بالقوة. وهو ما تعترف به الشيوعية صراحة في تسميتها نظام الحكم " بدكتاتورية البروليتاريا ".(1/197)
يضاف إلى هذا كله أن الشيوعية نظام لا يزال يتخبط. فقد بدأ بإلغاء الملكيات جميعاً وتسوية الأجور بين العمال جميعاً. ثم وجد تحت ضغط الواقع أنه يحسن السماح بقدر معين من الملكية الفردية، وقدر من التفاوت في الأجور حسب همة العمال. فارتد بذلك عن مبدأين أساسيين من مبادئ ماركس، واقترب خطوتين من التصور الإسلامي! فكيف يجوز لنا أن نترك الأصل الذي ترجع إليه البشرية كلما جربت تجربة جديدة، لنلحق بقطار متخبط، مهما تكن السرعة الخاطفة التي ينهب بها الطريق؟
لا يصنع هذا شخص في رأسه عقل ولا في نفسه ثقة بكيانه. إنها الهزيمة الداخلية تتخذ صوراً شتى ومبررات شتى. ولكنها هزيمة لا يقدم عليها إلا الضعفاء والخائرون.
كيف السبيل؟!
كيف السبيل إلى تحقيق الإسلام؟
آمنّا بأن الإسلام خير نظام على الأرض. وبأن موقعنا التاريخي والجغرافي والدولي يجعل الإسلام هو طريقنا الوحيد إلى العزة والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن كيف السبيل إلى تحقيق الإسلام اليوم في عالم معاد للدعوة الإسلامية، وفي حكم طغاة من الحكام يحاربون الإسلام في الداخل كما يحاربه أعداؤه في الخارج أوهم أشد قسوة؟!
" كيف السبيل "؟؟
إنه لن توجد إلا سبيل واحدة لكل دعوة على الأرض... الإيمان!
لن يصلح آخر هذا الدين إلا بما صلح به أوله ...
إننا نواجه اليوم نفس الموقف الذي كان يواجهه المسلمون الأوائل في صدر الإسلام. كان المسلمون حفنة قليلة، وكانوا يواجهون أكبر إمبراطوريتين في ذلك التاريخ: الإمبراطورية الرومانية عن شمال، والإمبراطورية الفارسية عن يمين. وكانت موارد الإمبراطوريتين من الرجال والعتاد والأموال والفنون الحربية والخبرة العسكرية والسياسية أضعاف ما يقدر عليه المسلمون.
ومع ذلك فقد وقعت المعجزة.(1/198)
وكانت أعجب معجزة في التاريخ. فقد تغلبت هذه الحفنة القليلة من المسلمين على إمبراطوريتي كسرى وقيصر، وقضت عليهما تماماً في أقل من نصف قرن، وورثت ملكهما، وبسطت يدها على عالم يمتد من المحيط إلى المحيط!
فكيف حدث ذلك؟
لن تستطيع كل التفسيرات المادية والاقتصادية للتاريخ أن تفسر كيف حدث ذلك. ولكن شيئاً واحداً يمكن أن يفسره.. الإيمان.
الإيمان الذي كان يدفع الرجل من أولئك أن يقول: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل هذا الرجل أو يقتلني؟ ثم يندفع إلى القتال كأنه مقبل على عرس. أو يقول: " هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ " الشهادة أو النصر؟ ثم يلقي بنفسه في المعركة ليلقى إحدى الحسنيين.
تلك هي السبيل. ولا سبيل غيرها لكل دعوة على الأرض.
* * *
وإن قوماً ليقولون وهم مخلصون، أو يقولون وهم متخاذلون: السلاح! أين السلاح؟
نعم نحتاج إلى سلاح. ولكن يجب ألا يفوتنا أن حاجتنا الأولى ليست إلى السلاح، وأن السلاح وحده لا يغني. لقد كان الطليان في الحرب السابقة يملكون أسرع الأسلحة وأفتكها، ومع ذلك لم ينتصروا أبداً ولم يصمدوا في معركة. كانوا يتسابقون إلى الفرار، ويمنحون أسلحتهم لمن يمنحهم نعمة الوقوع في الأسر!
لم يكن ينقصهم السلاح وإنما كان ينقصهم الإيمان، والروح المعنوية.
ولنذكر أيضاً أن بضعة من الفدائيين في القنال لم يكن يزيد عددهم على مائة، ولم يكن ينزل في أي ليلة منهم أكثر من خمسة أو ستة، قد أزعجوا الإمبراطورية العجوز، فلجأت إلى الرحيل.
لم يكونوا يملكون أسلحة فتاكة. لا مدافع ثقيلة ولا طيارات ولا دبابات. بل مسدسات وبنادق ومدافع سريعة الطلقات. ولكنهم كانوا يملكون ما هو أفتك من السلاح. كانوا يملكون الإيمان. كانوا يعيشون بروح تلك الحفنة القليلة من المسلمين الأوائل. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون. ولذلك أزعجوا الإمبراطورية العجوز.
وما يقول أحد إن الطريق أمامنا مفروش بالزهور.(1/199)
كلا. إن أمامنا العرق والدماء والدموع. ولا بد لكل دعوة من تضحية. ولا بد للنصر من تضحيات. وإن الهدف الذي ننصبه أمامنا: هدف العزة والكرامة والعدالة الاجتماعية، لجدير بأن تبذل في سبيله التضحيات.
وهي على أي حال لن تزيد على التضحيات التي نبذلها، والتي يطلب منا أن نبذلها في الهوان والفقر والتعاسة والتشريد.
كم بذلت شعوب هذه المنطقة في الحرب السابقة؟ كم ألفاً قتلوا تحت سيارات المجرمين من جنود الحلفاء؟ كم عرضاً انتهك؟ كم من المؤن والأقوات سلب بلا مقابل؟.. ثم؟ ثم طلع علينا تشرشل يقول: حميناكم فادفعوا ثمن الحماية.
وبالأمس كان الغرب يريد أن تدخل هذه الشعوب في حلف للدفاع المشترك. يريد أن يجند منها نصف مليون لتجرب فيه الأسلحة الفتاكة قبل أن تصل إلى " الرجل الأبيض " من الأمريكان والإنجليز. ويسلبوا أقواتها ويعتدوا على أعرضها. ثم؟ ثم يركلوها بأقدامهم في نهاية المعركة سواء كسبوا أو كانوا من الخاسرين.
فإذا لم يكن من الموت بد، فلماذا يموت الناس في سبيل الذل والهوان؟
نصف مليون يموت في سبيل " الحلفاء "...
حين يموت نصف مليون في سبيل الإسلام، فلن يبقى طاغية واحد في الأرض المقدسة، ولن يبقى استعمار صليبى على وجه الأرض.
تلك هي السبيل ...
* * *
وإن قوماً لينزعجون على الإسلام من انتشار الشيوعية.. فما الذي يزعجهم؟
إن الوضع لن يتغير بالنسبة إلى الإسلام. فالعالم الذي تكتسحه الشيوعية اليوم هو العالم الصليبي، الذي كان دائماً يناصب الإسلام العداء.
روسيا ذاتها التي بدأت فيها الشيوعية هي التي كانت من قبل تؤلب الطوائف على الدولة المسلمة لتوقع فيها الفتن والاضطرابات، فما الذي تغير؟ وأوربا هي مهد الصليبية الأولى وما تزال. فما الذي تغير؟
كلا! لم يتغير شيء.
وإن موقفنا اليوم لهو ذاته موقف المسلمين الأوائل من الإمبراطوريتين الكبيرتين عن شمال وعن يمين.
أما الحكام الطغاة في داخل العالم الإسلامي فمآلهم إلى الزوال ...(1/200)
من كان يصدق أن فاروق الطاغية سيخلع عن العرش؟
وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة ومرة..
وهذا الوعي الإسلامي الذي يطلب العدالة الاجتماعية عن طريق الإسلام، ولا يطلبها عن طريق التبعية والذوبان في الكتلة الشرقية أو الغربية ليس عبثاً.
والإسلام سائر في طريق القوة - على الرغم من الضربات الوحشية التي تكال له في كل مكان - لأن طبائع الأشياء كلها تؤذن بمولد الإسلام من جديد، لأن له اليوم دوراً في حياة البشرية لا يقل ضخامة ولا قوة عن دوره الأول في صدر الإسلام.
دور التبشير بعالم جديد لا تحكمه المادة ولا يستعبده النزاع على الاقتصاد، عالم يحكمه مزيج من المادة والروح يجتمعان في نظام. وإن العالم الذي أغرق في المادة فلم تشبع روحه، ولم تبعث الاستقرار إلى نفسه، بل أوقعته في صراع دائم مرير ... لا بد أن يفيء ذات يوم إلى نظام لا يهمل عالم المادة ولكنه لا يغفل عالم الروح. لا بد أن يفيء إلى الإسلام.
أما نحن فلن يكون طريقنا مفروشاً بالزهور. ولابد من تضحيات كثيرة كتلك التي بذلها المسلمون الأوائل ليقنعوا العالم بما في الإسلام من خير. ولكنها تضحيات مضمونة في الأرض والسماء: " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " صدق الله العظيم.
(1) تحدثت هنا عن التجربة المصرية لأنها تجربة متكاملة في حسّي ولكن مثلها قد حدث بصورة أو بأخرى في مختلف بلاد العالم الإسلامي.
(2) انظر فصل " التحرر الوجداني " في كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام ".
(3) سورة التوبة [24].
(4) انظر بالتفصيل فصل "الفرد والمجتمع" في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام".(1/201)
(5) التليباثي هو التخاطر عن بعد، ومن أمثلته حادثة عمر الشهيرة التي خاطب فيها سارية: " يا سارية الجبل الجبل! " فسمعه على بعد مئات الأميال، وانحاز بجيشه إلى الجبل، فنجا من الكمين، وانتصر. وقد تنازل العلم من عليائه فاضطر للاعتراف بالتليباثي على أنه حقيقة علمية، ولكنه ما زال يماحك في أمر صلته بالروح، ويحاول تفسيره بحاسة سادسة مجهولة!!
(6) سورة المائدة [44].
(7) سورة النساء [65].
(8) سورة الرعد [17].
(9) سورة المائدة [3].
(10) أخرجه البخاري.
(11) سنناقش في الفصل التالي شبهة الإقطاع.
(12) سورة النساء [25].
(13) حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
(14) حديث رواه مسلم وأبو داود..
(15) أخرجه الطبري في كتاب " آداب النفوس " " بإسناده عمن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ".
(16) سورة النساء]36 [.
(17) سورة النساء] 25[.
(18) حديث رواه البخاري.
(19) رواه أبو هريرة.
(20) يعتقد الهنود أن الرقيق (المنبوذين) خلقوا من قدم الإله، ومن ثم فهم بخلقتهم حقراء مهينون، ولا يمكن أن يرتفعوا عن هذا الوضع المقسوم لهم إلا بتحمل الهوان والعذاب، عسى أن تنسخ أرواحهم بعد الموت في مخلوقات أفضل! وبذلك تضاف إلى لعنة الوضع السيِّئ الذي يعيشون فيه لعنة أخرى روحية تقضي عليهم أن يرضوا بالذل ولا يقاوموه.
(21) ذكره الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين في الكلام عن حقوق المملوك، في حديث طويل قال إنه آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم.
(22) سورة النساء ]92[.
(23) عن " العدالة الإجتماعية في الإسلام ".
(24) سورة التوبة[60].
(25) انظر الفصول التالية.
(26) يقول دعاة المذهب المادي إن الملابسات الخارجية هي التي (تخلق) المشاعر. ونحن لا نؤمن بذلك لأن فيه مغالطة صارخة. فهناك رصيد نفسي سابق في وجوده لهذه الملابسات، والملابسات (تكيف) هذا الرصيد، لكنها لا تخلقه من العدم.
(27) أو روسياً في بعض البلاد الآن!(1/202)
(28) رواه البخاري.
(29) جاء في الموسوعة التاريخية المسماة " تاريخ العالم: Universal History of the World " في ص 2273 ما ترجمته: " وفي سنة 599 رفض الإمبراطور (الروماني) موريس ـ بسبب رغبته في الاقتصاد ـ أن يفتدي بضع ألوف من الأسرى وقعوا في يد الآوار فقتلهم خان الآوار عن بكرة أبيهم ".
(30) سورة البقرة [190].
(31) سورة الأنفال [39].
(32) سورة البقرة [256].
(33) شهد بذلك مسيحي أوربي هو السيرت.و.أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام).
(34) الأمثلة على ذلك كثيرة منها مثالان وردا في كتاب (الدعوة إلى الإسلام):
قال في صفحة 58: " وكذلك حدث أن سجل في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة: فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " وقال: " فلما علم أبو عبيدة قائد العرب بذلك (بتجهيز هرقل لمهاجمته) كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردوا عليهم ما جبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: " إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم "
(35) سورة الأنفال [61].
(36) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي
(37) سورة البقرة [194].
(38) سورة محمد [4].
(39) بذلك يخرج من دائرة الإسلام كل ما كان يأتي من الجواري - أو العبيد - عن طريق الاختطاف من بلاد إسلامية ويباع ويشترى في سوق النخاسة.
(40) صدرت الطبعة الأولى سنة 1953.
(41) كتاب " النظام الاشتراكي " بين ص22وص33.
(42) الأحاديث في تحريم الاحتكار كثيرة نختار منها أخصرها وأشملها: " من احتكر فهو خاطئ " رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(43) انظر بالتفصيل كتاب " الربا " للأستاذ أبو الأعلى المودودي
(44) سورة الحشر [9].
(45) رواه أحمد وأبو داود.(1/203)
(46) ليس المقصود أن " يتصدق " أصحاب المصانع على العمال.. فاكتفاؤهم بأقل الربح إنفاق في سبيل الله، وإنشاؤهم للمدارس والمستشفيات إنفاق في سبيل الله. انظر فصل " الاسلام والصدقات ".
(47) يرى الإسلام أن التنافس ليس شرا في ذاته، وإنما هو شر حين يكون في سبيل الشر، أما في سبيل الخير فيقول: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " ويقول كذلك: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ".
(48) إذا كان الله سبحانه وتعالى يقول: " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " فهذا موضوع أخر سنعرض له في الفصل التالي. إنما الذي نقصده هنا هو وضع الناس بالنسبة للتشريع وهو الذي حرص الإسلام فيه على المساواة المطلقة.
(49) انظر بعد ذلك فصل " الإسلام والمثالية ".
(50) ذلك فيما لم يرد فيه نص صريح لا خلاف عليه.
(51) سورة الحشر [9].
(52) إلا أخيراً جداً، وبتأثير الخوف من الشيوعية. وقد كانت المناجم - وهي من الموارد العامة - ملكاً للأفراد في انجلترا إلى ما قبل سنوات قليلة وما تزال ملكاً للأفراد في أمريكا.
(53) سورة النحل [71].
(54) سورة الزخرف [32].
(55) سورة النساء [8].
(56) من هنا يقول دعاة الفكر المادية وهواة التفسير الاقتصادي للتاريخ إن الأوضاع الاقتصادية هي التي تنشئ الأوضاع الاجتماعية وتحدد العلاقات بين البشر. وما ينكر أحد قوة العامل الاقتصادي في حياة البشرية، ولكن الذي ننكره بشدة أنه العامل الوحيد المسيطر، وأن له جبرية على الأفكار والمشاعر والسلوك. وإنما كان له كل هذا الأثر في الحياة الأوربية لخلوها من عقيدة عليا ترفع المشاعر وتنظف النفس وتقيم العلاقات الاقتصادية على أساس إنساني، ولو وجدت هذه العقيدة - كما وجدت في العالم الإسلامي - لاستطاعت - على الأقل - أن تلطف من قسوة الضرورة الاقتصادية، وتنفذ الناس من إسارها.(1/204)
(57) هنا أيضاً يقول دعاة المذاهب الاقتصادية: إن العامل الاقتصادي هو كل شيء في الحياة، وهو الذي جعل من قضية المرأة ما صارت إليه. ومرة أخرى لا نريد أن نقلل من قيمة العامل الاقتصادي في حياة البشر، ولكننا نقول إنه لم يكن حتماً أن تسير الأمور على هذا الوضع، لو كانت هناك عقيدة ونظام - كالإسلام - يفرض كفالة الرجل للمرأة في جميع الأحوال، ويعطي المرأة - حين تعمل - حقها الطبيعي في المساواة بالرجل في الأجر، ويبيح - في حالة الطوارئ - تعدد الزوجات، فيحل أزمة الجنس حلاً نظيفاً في أعقاب الحروب، فلا تضطر المرأة للتبذل الصريح، أو نيل حاجتها خلسة في الظلام.
(58) سورة النساء [1].
(59) سورة الحجرات [11].
(60) سورة الحجرات [12].
(61) سورة النور [27].
(62) رواه الشيخان.
(63) سورة آل عمران [195].
(64) سورة النساء [7].
(65) سورة النساء [32].
(66) رواه الشيخان.
(67) قد يبدو لأول وهلة أن هذا الحق خيال في الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية، وفي جو التقاليد الذي نعيش فيه، ولكن الإسلام ليس مسئولاً عن كل ما يخالف نظامه أو يعطل أحكامه، وقد استخدمت المرأة هذا الحق في صدر الإسلام، بعد أن قرره الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن مطالبون اليوم بتنفيذه، وإزالة ما يعترض هذا التنفيذ، سواء كان وضعاً اقتصادياً أو اجتماعياً أو تقليداً غير إسلامي. انظر كتاب " معركة التقاليد ".
(68) سورة النساء [19].
(69) رواه الترمذي.
(70) عن كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام ".
(71) راجع بالتفصيل فصل " المشكلة الجنسية " في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام ".
(72) النساء [34].
(73) نحن نتكلم عن الإسلام في أصوله، وأما الواقع السيىء الموجود اليوم باسم الإسلام فنتكلم عنه في مكان آخر من هذا الفصل
(74) رواه البخاري.
(75) سورة النساء [128].
(76) سورة النساء [3].(1/205)
(77) يعتبر الإسلام كل النزعات الفطرية التي تؤدي وظيفة حيوية نظيفة في ذاتها وكريمة وجديرة بالإشباع. إنما يستنكرها فقط حين تؤدي إلى الجريمة. انظر فصل " نظرة الإسلام " في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام ".
(78) رواه الشيخان.
(79) وكذلك يصبح الرجل في حس المرأة. ولكنه بحكم عمله ووظيفته وقيامه بالإنفاق يأخذ في نفسها حيزاً أكبر من الجنس.
(80) رواه الترمذي.
(81) نقصد التقاليد الإسلامية الحقة لا الدخيل عليها. والكتاب الذين يهاجمون التقاليد لا يفرقون بين هذه وتلك ولا يستثنون. انظر كتاب " معركة التقاليد "
(82)هذا الكاتب هو سلامة موسى الذي عاش حياة كاملة همه الأول في كل ما كتب هو غمز الإسلام! شأنه شأن كاتب مسيحي آخر هو جورجي زيدان. وقد كان كل منهما طليعة حملة تشتد في طريقها الآن!
(83) كان الإسلام أول نظام في الأرض اعتبر الجماعة مجرمة في حق الفرد إذا لم تضمن حياته، ورتب على ذلك حق الفرد في مقاتلتها لنيل حقوقه. انظر فصل " الجريمة والعقاب " في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام ".
(84)رواه عبد الله بن عباس. انظر فصلاً بهذا العنوان في كتاب " قبسات من الرسول "
(85) سورة آل عمران [14].
(86) سورة الأعراف [ 32].
(87) سورة القصص [77].
(88) سورة الأعراف [160].
(89) سورة الأعراف [31].
(90) ذكره ابن كثير في التفسير.
(91) رواه مسلم.
(92) سورة البقرة [37].
(93) سورة البقرة [286].
(94) حديث رواه الترمذي.
(95) سورة آل عمران [ 133-136].
(96) رواه مسلم.
(97) سورة النساء [147].
(98) سورة الشورى[38].
(99) سورة النساء [58].
(100) متفق عليه.
(101) رواه أبو داود والترمذي.
(102) سورة النساء [32].
(103) سورة طه [131].
(104) سورة النساء [97-99].
(105) سورة النساء [75].
(106) سورة المائدة [44].
(107) سورة التوبه [24].
(108) سورة سبأ [34].
(109) سورة الاسراء [16].
(110) سورة الواقعه [41-45].(1/206)
(111) سورة المائدة [78-79].
(112) سورة النساء [74].
(113) سورة الممتحنة [8].
(114) سورة المائدة [5].
(115) سورة الجاثية [13].
(116) تكلمنا في فصل " الإسلام والمرأة " عن مسألة المحاضن.
(117) هذا لا ينفي التعاون داخل الأسرة بطبيعة الحال، كما أن توزيع الاختصاصات في المجتمع لا يمنع من التعاون بين الزارع والصانع والمهندس والطبيب الخ ...
(118) كانت روسيا في بدء الحركة الشيوعية متأخرة جداً من الناحية الصناعية فاستعارت كل وسائل الإنتاج المادي من أوربا.
??
??
??
??
(13)
(170)(1/207)