مقدمة الطبعة الخامسة عندما تناولت كتاب "العقيدة والشريعة" لـ "جولد تسيهر" منيت النفس بمطالعة بحث جيد، فإن المؤلف مستشرق لامع الاسم واسع الاطلاع- كما بلغنا- والمترجمون نفر من الأساتذة النابهين. ومن خدع الآمال أن أنتظر من أحد المستشرقين بحثا مبرءا عن العيوب، فذلك شىء يتنافى مع وظيفة الاستشراق الذى يمهد الطريق أمام الاستعمار الغربى والشرقى، كما تمهد الدبابات الطريق أمام زحف المشاة، فى فنون الحرب..!! أقصى ما رجوت أن أقرأ بحثا كثير الصواب قليل الخطأ، خفى الدس، أو ماكرهُ. لكنى ما كدت أنتهى من الصحائف الأولى حتى ساورتنى الشكوك، فلما مضيت فى متابعة المؤلف استولت على الدهشة، وأوغلت فى القراءة، وقد تكشف لى الأمر. هذا رجل أراد السفر إلى الإسكندرية من القاهرة، فيمم وجهه شطر خط الاستواء، وسار لا يلوى على شىء.!! إن كل خطوة يخطوها لا تزيده إلا ضلالا عن القصد وبعدا عن الغاية، وسواء تكاسل فى مسيره أو نشط، وسواء تأنق فى مسيره أو تعثر فهو لن يحقق بهذه الجهود المهدرة شيئا.. و "جولد تسيهر" منذ شرع يخط السطور الأولى فى كتابه، لم يكن يملك ذرة من روح العالم المنصف. كان يخطىء فى النقل والفهم والحكم، وليعذرنى القارىء إذا قلت: إننى غالبت مرارا شعور الاحتقار لهذا الرجل، فعجزت لطول ما رأيت من إغراقه فى الحيرة والشرود، ولطول ما يئست من أن يتجرد للحق فى فصل من فصول كتابه. وقد حرصت فى الرد على هذا المستشرق أن أستوفى الحقائق العلمية التى توضح ما عفاه أو غاب عنه. ومع أن رأس مالى فى مناقشة خصمى هذه الحقائق العلمية والتاريخية التى لابد منها. إلا أننى أجمعت رأيى على أن أتناوله بما يستحق من نعوت، وذلك لسببين: أولهما: إن الاستشراق كهانة جديدة تلبس مُسُوح العلم والرهبانية فى البحث،
ص _004(1/1)
وهى أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتجرد، وجمهرة المستشرقين مستأجرون لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه. والسبب الآخر: إن جما غفيرا من المثقفين فى بلادنا، بوأ هؤلاء القوم مكانة هم دونها بيقين، ووقعوا فى شباكهم ففسدت عقائدهم ومثلهم. فلا محيص من إماطة اللثام عن وجوههم وإبرازهم على حقائقهم العارية. * * * * ويؤسفنى أن أرفض المقدمة التى كتبها الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى لهذا الكتاب ومؤلفه فهو يقول (ص 5): "والكتاب دراسة تفصيلية للإسلام من جميع نواحيه من ناحية رسوله، والشريعة ونموها، والعقيد ة وتطورها، والزهد والتصوف ونشأتهما والعوامل التى أثرت فيهما، والفرق الإسلامية المختلفة، ثم الحركات الأخيرة الإصلاحية فى رأى أصحابها. وقد استند المؤلف فى كل قسم من أقسام الكتاب، وكل بحث من بحوثه إلى طائفة كبيرة من المراجع الإسلامية الموثوق بها، ويسعفه عقله الألمعى وبصيرته النافذة على حسن الإفادة منها. ومع هذا، فقد انساق إلى أخطاء غير يسيرة، بعوامل قد يكون منها، أنه لم يستطع أن ينفذ تماما إلى روح الإسلام ومبادئه وأصوله وقد يكون منها كذلك ما هو طبيعى فى كل ذى دين وثقافة خاصة من العصبية لدينه وثقافته ". ثم يقول (ص 6): "ونرجو بعد هذا كله. أن نكون قد قمنا ببعض ما يجب علينا نحو الإسلام والدراسات الإسلامية، وإمداد المكتبة العربية بخير ما كتب الغربيون من هذه الدراسات والله ولى التوفيق ". والحق إن الكتاب من شر ما ألف عن الإسلام، وأسوأ ما وجه إليه من طعنات، وإن التعليقات القليلة التى جاءت فى ذيل بعض الصفحات- فى الترجمة العربية- كانت سدودا محدودة أمام موجات طاغية من الإفك والعدوان. * * * * إن هذا المستشرق من أعمدة المستشرقين ودهاتهم، ولا شك أنه قرأ كثيرا من الأصول والمصنفات الإسلامية، ولكنه منذ قرأ وكتب، لم يحمل بين جنبيه إلا فؤادا مترعا بتكذيب الإسلام، فهو يدس إصبعه فى كل شىء ليتخذ من أى شىء(1/2)
دليلا على أن ص _005
محمدا كاذب، وقرآنه مفتعل وسنته مختلقة، والإسلام كله- منذ جاء إلى أن بلغنا- مجموعة مفتريات. ورجل مصطبغ الفكر والشعور بهذا المبدأ الثابت لا يجوز أن تكون له حرمة أهل العلم، ولذلك قلت: إننى لم أستطع بتة إقناع نفسى باحترامه. وأحسن وصف له ولأمثاله قول الأستاذ أحمد فارس الشدياق: " إن هؤلاء المستشرقين لم يأخذوا العلم عن شيوخه، وإنما تطفلوا عليه تطفلا وتوثبوا فيه توثبا. ومن تخرج فيه بشىء فإنما تخرج على القسس، ثم أدخل رأسه فى أضغاث أحلام أو أدخل أضغاث أحلام فى رأسه، وتوهم أنه يعرف شيئا وهو يجهله. وكل منهم إذا درس فى إحدى لغات الشرق، أو ترجم شيئا منها تراه يخبط فيها خبط عشواء، فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين حَدَس فيه وخمن، فرجح منه المرجوح وفضل المفضول ". والمستشرق المجرى ألف كتابه عن الإسلام إسهاما منه فى النشاط الأمريكى لخدمة المسيحية وإجابة لرغبة إحدى اللجان العاملة فى هذا الميدان. والأمريكيون منذ دخلوا ميدان التبشير والاستشراق زادوا القوى المناوئة للإسلام شراسة إصراراً وأمدوها بسيل موصول من المال والرجال، فهى لا تنى تواصل هجومها العلمى، ودعايتها الماهرة ونحن نعرف أن من حق غيرنا التمسك بدينه والدعوة إليه، واستقبال الداخلين فيه بمسرة وبشر. إلا أننا نقيد هذا الحق بشرط واحد، أن يكون بوسائل شريفة وصريحة. أما اختلاس عقائد الآخرين بالرغبة، أو الرهبة، واستباحة الغش والكذب، والمكر والرشوة، فذاك ما نقف له بالمرصاد. قد يقال: إن الحرب خدعة، وهؤلاء المستشرقون والمبشرون محاربون عن دينهم، ومحاربون لغيره من الأديان، فلهم أن يخدموا مبادئهم بكل وسيلة. ونجيب: ليكن ذلك ما صنعوا.. فاتركونا إذن نفضح طواياهم، ونلقى عليها الأضواء الكاشفة. ص _006(1/3)
اتركونا نحذر من المستشفى الذى ينتهز فرصة ضعف المريض، واضطراب أعصابه ليلقنه مبادىء دين ينأى عنه. ونحارب المعهد الذى يتظاهر بأنه يرفع المستوى العلمى، ويخدم الثقافة الإنسانية، وهو يغرس مبادىء دين لا يقره طلاب المعهد ولا يقبلون اعتناقه. واتركونا نعرف الجماهير بكتب وصحف يزعم أصحابها أنهم فوق التعصب المذهبى وأن غايتهم البحث عن الحقيقة. فإذا تابعت أقوالهم وأعمالهم وجدتهم صرعى التعصب الحاد، وإن غايتهم الأولى والأخيرة فتنة المسلمين عن دينهم بأروع وسائل الخَتْل والمداهنة. إننا نعد الثعابين الزاحفة أخف شرا من ثعابين البشر، أولئك الذين يخفون طبائعهم اللادغة وراء بسمات الوجوه، ونعومة اللقاء. فإذا استمكنوا أفرغوا سمومهم كلها فى أجساد الضحايا المذهولة. وقد بلونا عشرات ومئات من المبشرين والمستشرقين، وألوفا من الأتباع الذين سحروا بهم. ورأينا أنه لا بد من تجسيم المآرب التى يسعى لها هؤلاء وأولئك.. ووضعها أمام الأعين حتى يتبين القاصرون والأغرار أنهم أمام حملة صليبية علمية أخطر، ولا نقول أشبه بالحملات الصليبية التى استهدفت من ألف سنة اجتياح الإسلام ودك عواصمه، وفض الجماهير عنه. وما دمنا نتحدث عن مستشرق يعين بكتابته النشاط التبشيرى الأمريكى، فلنعلم أن النشاط هو محور الجامعات الأمريكية بالقاهرة وبيروت والآستانة. وهذا النشاط أحرجته الظروف فكشف عن وجهه القناع فى بيروت، لما هاج الطلبة المسلمون هناك على محاولات تنصيرهم وفرض دخول الكنيسة يوميا عليهم. لقد قالت إدارة الجامعة فى منشور عام يتضمن طابع هذه المعاهد وأشباهها: " إن هذه كليات مسيحية أسست بأموال شعب مسيحى. هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشأوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء، ليوجدوا تعليما يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ.. وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب(1/4)
أن يعرف سابقا ماذا يطلب منه " . ص _007
كما أعلن مجلس أمناء الكلية فى هذه المناسبة: " إن الكلية لم تؤسس للتعليم "العلمانى" ولا لبث الأخلاق الحميدة، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التى فى التوراة، وأن تكون مركزا للنور المسيحى، وللتأثير المسيحى، وأن تخرج بذلك على الناس وتوصيهم به " . لكن المسئولين عن التبشير سرعان ما استدركوا هذا الخطأ، فعادوا إلى العمل فى ظل الغموض والتخفى، واطراح الطابع المسيحى العلنى، مؤثرين الوصول إلى أغراضهم تحت عناوين عائمة، مثل: التجديد، الفن، النهضة، الحرية... إلخ. وتحت أسماء رجراجة المفهوم أمكن الوصول- عن طريق الصحافة- إلى إلحاق خسائر جسيمة بالإسلام والعاملين له. يقول الدكتور عمر فروخ فى كتابه "التبشير والاستعمار" نقلا عن مضابط مؤتمرات التبشير: " يعلن المبشرون أنهم استغلوا الصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن الآراء المسيحية أكبر مما استطاعوا فى أى بلد إسلامى آخر. لقد ظهرت مقالات كثيرة فى عدد من الصحف المصرية، إما مأجورة فى أكثر الأحيان، أو بلا أجرة فى أحوال نادرة ". والمعركة بيننا وبين هذه الصحافة لن تهدأ، ما بقيت مسرحا لتلك الدسائس ضد الإسلام، وساحة للنيل من العاملين له، والمحامين عنه. وقد انعقد مؤتمر تبشيرى فى روما هذه السنة ووضع خططا جديدة للغارة على العالم الإسلامى، ووكل إلى جيش المبشرين والمستشرقين أن يحقق هذه الأهداف، فى الظلام لا فى النور، وباستخدام كل وسيلة تفقد المسلمين إيمانهم دون ضجة، أو عراك، أو ألم. وفى أثناء سير هذا الجيش حذرا مستخفيا، ترى أفراده يرقب بعضهم بعضا، من يدرى؟ لعل أحدهم يكتب بحثا عن الإسلام متسما بشارة الحياد العلمى، يجرفه طابع الحياد، فينصف هذا الدين بكلمة..! وعندما يقع هذا تتناوله الصيحات من كل جانب كى يلزم الطريق!!. ويقول الدكتور محمد البهى : ص _008(1/5)
" وهم يقظون لكل حركة قد تعوق سيرهم أو تفسد خططهم فإن حاول أحدهم أن يبدو محايدا أو يتخفف من أثقال التعصب تجد بقية المستشرقين يهبون فى وجهه يطالبونه بأن يكون "موضوعيا" وأن يستخدم الطريقة العلمية وأن يلجأ إلى النقد ذى المستوى العالى وهكذا " . ومثال ذلك ما كتبه الفرد جيوم (ِAlfred Guilaume) تعليقا على كتاب "محمد فى مكة" من تأليف مونتجمرى وات ( M. Watt ) فقد هاجم جيوم، وات، لأن وات خرج عن الخط التقليدى للمستشرقين فى بعض الاتجاهات (انظر ص 138 من مجلة "الإسلام " (M. Watt) الصادرة فى 15 أبريل سنة 1958). ولا يعرف العقل ولا المنطق حدا لما يقوم به المستشرقون من تحريف للتاريخ الإسلامى، وتشويه لمبادىء الإسلام وثقافته، وإعطاء المعلومات الخاطئة عنه وعن أهله، وهم كذلك جاهدون بكل الوسائل لينتقصوا من الدور الذى أداه الإسلام فى تاريخ الثقافة الإنسانية. إن المستشرقين جميعا فيهم قدر مشترك من هذا الخصام المتجنى والتفاولت- إن وجد بينهم- إنما هو فى الدرجة فقط، فبعضهم أكثر تعصبا ضد الإسلام، وعداوة له من البعض الآخر، ولكن يصدق عليهم جميعا أنهم أعداؤه. * * * * وإذا كان الاستشراق قد قام على أكتاف الرهبان والمبشرين فى أول الأمر ثم اتصل من بعد ذلك بالمستعمرين- فإنه مازال حتى اليوم يعتمد على هؤلاء وأولئك. ولو أن أكثرهم يكرهون أن تنكشف حقيقتهم ويؤثرون أن يختفوا وراء مختلف العناوين والأسماء. هل يلومنا أحذ إذا وطنا العزم على استخرام هؤلاء المستشرقين من مكانهم ومزقنا الأغشية التى يلفونها على وجوههم، ونازلناهم فى ميدان الجدل العلمى وجها لوجه..؟ إنهم يريدون الإتيان على الإسلام، فكيف نتحرج نحن أن نأتى بنيانهم من القواعد؟! ص _009(1/6)
وهم يريدون الاستمتاع بحق الباحث المحايد، أو بحق العالم المجتهد فى أن يصيب ويخطىء، ولو أنهم عشاق معرفة مجردة، يبحثون عنها بحرارة وإخلاص لعذرنا الخطىء منهم وأقلنا عثرته، وساعدناه على الوقوف واستئناف البحث والاجتهاد.. أما وهو محاربون خبثاء يصطنعون الطيبة للتوغل والاستمكان فهيهات أن نعاملهم إلا بذات أسلحتهم. وشىء آخر ننبه إليه.. إن أفكار هؤلاء المستشرقون تبناها ناس من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، ويظهرون بأنهم على ديننا و ويروجون هذه الأفكار، وكأنها نتاج عقولهم، وثمرات تفكيرهم. وكل هذه الفتن تجعلنا ندع الهوادة فى رد شبهات القوم، ونكتب دون ما توقير للأصنام المهشومة، وإن ذعر عبادها، وثارت ثائرتهم. * * * * وقد أسهبنا القول حيث تطول لجاجة هذا المستشرق، ومن لف لفه من زملائه، إذ نحس لكلامهم أصداء بين صرعى الغزو الثقافى فى بلادنا.. وغايتنا أن نجلوا الحق.. وأن نرد إليه كرامته المهدرة. وأن نلقن المعتدى درسا يعتبر به الآخرون. ذلك، وقد جعلت الرد وسيلة لشىء آخر أهم من إحقاق الحق فى قضية خاصة، جعلته وسيلة لتجلية الإسلام كله حيث ولدت الشبهة، ونجم الاعتراض.. محمد الغزالى ص _010(1/7)
مقدمة الطبعة الأولى للجهل المركب مضاعفات وخيمة الأثر شديدة الخطر.؟ والجهل المركب هو نوع من العلم الخطأ، فعدم العلم بشىء ما، جهل بسيط، والعلم بهذا الشىء على خلاف الواقع جهل مركب. ومن مضاعفات هذا الجهل أن تخدع به الأغرار، وأن تبذل الجهود لإشاعته ومد رقعته، وأن تزاحم به العلم الصحيح، حتى يضيق الخناق على الحقيقة فتزهق، وينفسح المجال أمام الباطل فيخلو الجو لتضليله وتضطرب الحياة بوساوسه.. هذا الجهل الموجه، أو هذا العلم الموجه. عنوان صادق للبحوث التى كتبها عن الإسلام كثير من المستشرقين. وروجوها بين قومهم ليرضوا ضغائنهم على الإسلام، ويشيعوا سخائمهم على نبيه الجليل الكريم. وكتَّاب هذه البحوث لم يدخلوا ميدان العلم وبين حناياهم ضمائر سليمة، بل لم تخامرهم يوما نية التجرد للحق والإخلاص فى طلبه.. إنهم موظفون فى إدارات الاستعمار فهمهم الغالب أن يلوثوا سمعة الإسلام، وأن يسوغوا المظالم النازلة بأهله، وذلك بإظهارهم وكأنهم أتباع رجل مبطل ودين مظلم. المستعمرون يسخرون قواهم المادية لسحق هذه الأمة.. والمستشرقون يقدمون الأسباب العلمية والتاريخية لهذا العدوان بأن يظهروا هذا الدين وأصحابه فى شكل منكر، ويغلفوا أصوله وفروعه بحشد لا آخر له من الأكاذيب، حتى تبدو وكأنها بقايا خرافات يجب محوها محوا.. ومن دسائس الاستعمار فى الشرق الإسلامى أنه مهَّد بين يدى هذه البحوث المزورة، فجعل فريقا منا يقبل عليها، ويقبل بعض ما جاء بها. ويمكننا فى مصر عندما نؤرخ للإلحاد الحديث أن نرد أغلب آرائه المنحرفة وأحكامه الجائرة، إلى آثار الاستشراق وفنون الحاطبين فى حبله، والغاوين معه والمقلدين لأهله.. وقد آلينا على أنفسنا أن نفضح هذه الكهانة العلمية، وأن نميط اللثام عن وجهها الدميم، فإن القدماء لم تدركهم هوادة فى الإزراء على الفلسفات الضالة، وإنزال أصحابها المنزلة التى تليق بهم . ص _011(1/8)
والطلاب الصغار يحفظون أن حمار الحكيم "توما" أحسن منه حالا، برغم حكمته وهيبته. قال حمار الحكيم "توما" لو أنصف الدهر كنت أركب فإننى جاهل بسيط وصاحبى جهله مركب.! وربما وجد فى المستشرقين من بهره جلال الحق فنسى وظيفته الأولى واعترف بالفضل لذويه، اعترافا كاملا أو محدودا. لكن المستشرق الذى تناولناه فى هذه الرسالة، من أخبث الرجال الذين أمسكوا بالقلم، وشردوا عن نهجه السوى. ومضاعفات الجهل المركب تبدو أشد ما تكون فى أحكامه التى يرسلها عن هوى يكتنف مقدماته ونتائجه كلها. وغريب أن يسمى هذا الهوس علما!!. وإننى أصارح جمهور القارئين بأن "جولد تسيهر" وأمثاله إن كانوا قد أفلحوا فى شىء فهو فى استثارة احتقارنا لهذا الضرب من المفتريات الجريئة الوقاح. ونحن لم نتجشم جهدا فى تفنيد مزاعمهم، فهى- عند أولى العلم- ما إن تذكر حتى تنسف. إن ثروتنا نحن المسلمين من الحقائق مفرطة الغنى، من أجل ذلك لا نبالى بهاجم مغرور، بل نرحب بمن تسول له نفسه أن يلقانا فى ميدان الجدل العلمى، موقنين بالعقبى مثلما قال الله جل شأنه: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون) وإنه لمن الحزن أن تترجم إلى العربية كتب نفر من المستشرقين دون أن تقرن بالردود المستفيضة على ما حفلت به من شبهات. إن هذه التراجم المجردة تشبه إن تكون عونا للغزو الثقافى ومدا لغيومه فى آفاقنا. يقول الشيخ محمد زاهد الكوثرى- وهو يتحدث عن كتابات المستشرقين ضد الإسلام :- "ومن أخطر هذا الفريق المموه "جولد تسيهر" المجرى الدم، اليهودى النحلة، العريق فى عداء الإسلام، الماضى فى هذا السبيل طول حياته . ص _012(1/9)
وهو من رجال أوائل القرن الميلادى الحاضر، وله دراسات فى القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وفى الكلام وفرق المتكلمين. إلا أنه محتال ماهر فى توليد ما يشاء من نصوص يتصيدها من مصادر تعجبه باعتبار غايته، مغالطا فى تحميلها ما لا تحتمله من المعانى عند أهل البصيرة، ومتجاهلا اختلاف منازل تلك المصادر فى الثقة والتعويل ". فلو شكلت لجنة علمية لفحص كتب هذا المجرى المنطوى على عداء بالغ للإسلام لوضح الصبح لكل ذى عينين، ولسهل الرد على الماكر الخادع.. لكن رجمة تلك الكتب بمعرفة بعض الأزهريين من غير عدة كافية، ونشرها بدون دود وافية، وعرض شكوك أولئك المشككين من أعداء الإسلام هكذا لأنظار الناطقين بالضاد تكون نيابة عن الفاتنين فى إيصال تشكيكاتهم إلى البيئات الإسلامية. وهذا ما لا يرضاه الأزهر- معقل الإسلام الأوحد- فيما نرى . فيجب أن يكون القرار الذى أصدره الأزهر قبل بضع سنين فى ترجمة كتب أمثال "جولد تسيهر" ونشرها مشروطا باستيفاء الردود عليها كاملة غير منقوصة وفى غير هوادة: وإلا كان الأزهر يعمل نقيض واجبه، ويؤدى عكس رسالته. محمد الغزالى ص _013
الفصل الأول محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرسالة الخاتمة بين رسالات السماء. الانقياد لله طبيعة الأديان كلها. لا تفاوت بين الإسلام فى مكة والمدينة. حول بلاغة القرآن فى مكة والمدينة. القرآن والمثل العليا للمسلمين. محمد الإنسان الكامل. أشعة الكمال المحمدى. أسلوب الدعوة لم يتغير. الهجوم على السُّنَّة. ص _014(1/10)
محمد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الرسالة الخاتمة بين رسالات السماء : قد يظن شخص ممن يكوِّذُون الأحكام جزافا أن الشمس لا تعدو شبرا فى شبر، وعذره أنها تبدو فى رأى العين كذلك. فهل تتحول الشمس إلى كرة قدم لأن ذهن واحد أو جماعة من الناس ضاق عن ضخامتها الهائله، وبعدها السحيق؟!! إن العظيم لا يمسخ صغيرا لأن ظنون المعتوهين أخطأت فهمه! ومن قرون طوال دب على أرضنا هذه نفز من الخلق، نظروا إلى صاحب الرسالة العظمى نظر شزرا ، ثم قال بعضهم : ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) وقال بعض آخر : (هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا) ومضى صاحب الرسالة فى طريقه يبذر الحق، وينشر العلم، ويحيى القلوب، وينشئ من الرمم التى استهلكتها الخرافة أجيالا ناضرة، ويقيم أمة تكسر صلب الباطل، وتقذف بالرعب فى نفوس الشياطين.. ما هذا... إن الشمس لم تتحول كرة قدم، ولا النبوة تحولت مجون كهان. لقد ذاب الافتراء وأهله، وتلاشى الجهل والجاهلون، وبقيت الحقائق فوق التهم والترهات .. لطالما استطالت ألسن فى قيم العباقرة، فما أثمرت الاستطالة شيئا إلا انقطاع أصحابها بلغطهم وخلود الأبرار بمبادئهم وأهدافهم. وقد جاء المستشرقون اليوم يرددون الإفك الذى لغط به قديما صعاليك الصحراء، ويروجون لحساب الاستعمار أغاليط تافهة. ص _015(1/11)
لا جديد هنالك، إننا نعرف هذه التهم، ونعرف ما يدحضها ويهيل عليها التراب. لذلك أحسست ضجرا ثقيلا حين شرعت أناقش المستشرق "جولد تسيهر" مؤلف كتاب العقيدة والشريعة. فإن الشبهات التى علقت بذهنه وأطال سردها وشرحها، سبق أن ذكرها غيره! أو ذكر ما يشابهها ويدانيها ورددنا عليه دون عناء. ولا غرو، فهؤلاء المستشرقون نزعهم عرق واحد، وجمعتهم راية واحدة، فليس بغريب أن تكثر الموافقات فى أحكامهم، وإن تفاوتت طرق الفكر، ووجهات النظر..! وهذا المستشرق المجرى "جولد تسيهر" بسط الكلام فى أصل الإسلام، والروافد التى أمدته على مر العصور. وهو يرى أن الإسلام ليس من صنع محمد وحده، بل هو أيضا من صنع الأجيال التى جاءت بعده. العقيدة والشريعة بدأتا على يد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى القرن الأول، ثم أتى المفكرون الصالحون- والظالمون كذلك- فنموا هذا التراث الساذج الذى تركه النبى العربى، وزادوا فيه كما وكيفا، حتى بلغ الحد الذى وصل إليه فى عصرنا هذا.. ومعنى هذا الكلام بلغة الموازين أن الإسلام الذى خلفه محمد لم يكن يساوى أكثر من أقة، وأنه إذا كان يساوى الآن عشر أقات، فإن هذه التسع جاءت من إضافات العقل الإسلامى طول أربعة عشر قرنا! ثم إن العقل الإسلامى استجلب هذه المقادير الزائدة من شتى الثقافات والحضارات التى اتصل بها. بل إن محمدا نفسه لم يأت بهذا الدين، لا من عند الله، ولا من عند نفسه، لقد نقل أغلب أصوله وفروعه من الرومان والفرس والهنود، واستطاع أن يمزج هذه النقول المجلوبة بنفسه ومشاعره، وأن يقتنع بأنه صاحب رسالة لإصلاح العرب الوثنيين، ثم مضى فى طريقة حتى بلغ ما بلغ..! و "جولد تسيهر"- وهو من أساطين المستشرقين وأغزرهم علما- يؤلف كتابه للتدليل على هذه المزاعم! وتعليل ما يحتاج إلى تعليل. وقد أتممت قراءة كتابه، وذكرت الأسطورة التى كنا نسمعها من النسوة العجائز فى قريتنا، ومن كبار الشيوخ أيضا . ص _016(1/12)
قالوا: إن الأرض محمولة على قرن ثور. - حسنا، فما هو سر الزلزال؟ قالوا: اهتزاز الأرض حين ينقلها الثور من القرن الأيمن إلى القرن الأيسر!! - فما هو الرعد؟ قالوا: صوت خواره المتقطع حيزا يشاء الخوار. - فما هو المد والجزر؟ قالوا: آثار شهيقه وزفيره حين يرسل أنفاسه ويستردها فوق صفحة الماء. إن هذا التفكير " البقرى " لن يعجز عن التعليل لما يعتقد!. والمسيو "جولد تسيهر" لم يعجز فى موقف ما عن التعليل للخرافة التى سكنت فى ذهنه واستبدت به.. فكتب 400 صفحة فى الاستدلال على أن العقيدة والشريعة هبطتا على محمد من أى ناحية.. إلا من السماء إ!. وأنهما بدأتا كائنا صغيرا، ثم تضخم على مر الأيام. وسنرى قيمة الأدلة التى ذكرها هذا المستشرق، بل سنرى قيمة الاستشراق كله، عندما يتهاوى كبير من زعماء العصابة فى مجال البحث الحر، وعندما يظهر هؤلاء العمالقة جميعا، وهم على حقيقتهم العارية، أناس حاقدون كذبة. قال عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ص 12): " فتبشير النبى العربى ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية، عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها التى تأثر بها تأثرا عميقا، والتى رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بنى وطنه.. " أ. هـ وهذا كلام باطل، فإن محمدا- بلغة عصرنا- قبض على الفكر اليهودى والنصرانى، وقدمه إلى الضمير العالمى متهما بالتزوير على أوسع نطاق فى ميدانى الاعتقاد والتشريع. ولم يكن هذا الاتهام مبهما ولا مجملا، بل واضحا مفصلا، ذكر فى أعقاب دعوة مسهبة حارة لتوحيد الله، وإصلاح العمل، وترقية السلوك الفردى والجماعى . ص _017(1/13)
دعوة لا نظير لها فى الكتب الموجودة بأيدى من ينتسبون لموسى أو لعيسى. فكيف يعد المصوب المرشد ناقلا عن المخطئين الشاردين؟!! والمستشرق الذكى لما لمس حرارة الإخلاص، وقوة الصدق ونبل الغاية فى سيرة محمد، أراد أن يوفق بين وفرة هذه الخلال، وبين ما نسبه إليه من اختلاق الرسالة، واستقاء أفكارها من الناس فقال: " لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه، وأدركها بإيحاء قوة التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه. كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا فأصبح- بإخلاص- على يقين بأنه أداء لهذا الوحى.. " أ. هـ. أى أنه تخيل فخال، وتصور أن المعانى التى تجىء فؤاده لا منبع لها إلا الوحى فاعتقد- مخدوعا- أنه رسول، وأنه مصطفى من السماء!. والحقيقة أنه لا وحى ولا رسالة.. هكذا يحدثنا المستشرق المجرى "جولد تسيهر". ونحن نتساءل: هل هذا المستشرق ينكر الوحى جملة؟ إن كان الأمر كذلك فلا نبوات البتة!. وسقطت ديانته قبل أن تسقط الديانة التى يهاجمها. وارتفعت الثقة بكل إنسان زعم يوما أن ملكا جاءه وأن وحيا نزل عليه، فكلهم كذبة... وإن كان يؤمن بالوحى، ويصدق أنبياء اليهودية أو النصرانية وحدهم، قلنا له، ما سر هذه التفرقة؟ أهو تعصب لما ورثت عن آبائك وقومك؟ لك ذلك، ولكن لا تسم هذا المسلك علما نزيها ولا بحثا محايدا.. وإن كان اتهام نبى بالكذب، ووصف آخر بالصدق نتيجة تقليب لدلائل الإثبات وتمحيص لحقيقتها، فهذا مجالنا الذى لا يغلبنا فيه أحد، فهات ما عندك.. إن محمدا ترك بين أيدينا ما يشهد بنبوته، فما الذى تركه غيره؟ أعنى أن جمهور الأنبياء مات من دهر بعيد، وقد وصلت إلينا أسماؤهم ومواريثهم الروحية والفكرية فقط. وأنا، والمسيو "جولد تسيهر "، وغيرنا من الناس، لا يعرف قيم هؤلاء الرجال إلا من خلال النظر الفاحص لكتبهم وتعاليمهم. وإنى لأقولها صريحة لا تتحمل لبسا ولا التواء: إننى آمنت بمحمد بعد ثقة من أن تعاليمه طابقت(1/14)
ثمرات العقل الحر. وإننى لم أومن بعيسى وطهارة نسبه وعفاف أمه، إلا لأن محمدا الذى استيقنت من صدقه هو الذى أكد لى ذلك . ص _018
ولولا احترامى للإسلام احتراما نابعا من جهد عقلى محض، ما قبلت إلى قيام الساعة أن أستمع لقصة عيسى بن مريم على النحو الذى جاءت به... ثم إن لمحمد كتابا، أرى أنه من عند الله، ويرى المستشرقون أنه من عند نفسه. فماذا لموسى وعيسى؟ ليست لهم كتب من هذا الطراز، أو ـ بالتعبير الصحيح ـ لم تصل إلينا عن طريقهم كتب بهذا الميسم المبين. غاية ما هنالك صحائف كتبها أناس كثيرون تضمنت نتفا من تعاليم أولئك النبيين. وقيمة هذه الصحائف من ناحيتى السند والمتن تشبه ـ مع التجوز ـ قيمة بعض الأحاديث المروية عن الرسول محمد بن عبد الله، وهى الأحاديث التى لم ير "جولد تسيهر"أى حرج فى نفيها حينا وإبداء الريبة فيها حينا آخر. القيمة العلمية لهذه أو تلك سواء.. الانقياد لله طبيعة الأديان كلها: والمستشرف المجرى "جولد تسيهر" يغمز كلمة الإسلام ويرى- مع غيره من أقرانه ـ أنها تعنى الانقياد والخضوع والتبعية. وذلك فى نظرهم إلغاء للإرادة وذوبان للطبيعة البشرية فى قوى غيبية غامضة. يقول: " الإسلام معناه الانقياد، انقياد المؤمنين لله، فهذه الكلمة تركز أكثر من غيرها الوضع الذى وضع فيه محمد المؤمنين، بالنسبة إلى موضوع عبادتهم وهو الله. إنها كلمة مصطبغة ـ قبل كل شىء ـ بشعور التبعية القوى الذى يحس به الإنسان إحساسا قويا، أمام القدرة غير المحدودة، التى يجب أن يخضع لها وينزل فى سبيل ذلك عن إرادته الخاصة... هذا هو المبدأ السائد فى ذلك الدين. فهو الذى يلهم أو يوحى جميع مظاهره وآرائه وصوره وأخلاقه وعباداته، بل هو يطبع العقلية التى يريد تثبيتها فى الإنسان... " أ.هـ نعم، نحن المسلمين نرى أن الدين انقياد لله، وانقياد لما أمر ونهى، وإلغاء للهوى الشخصى إذا ضاد حكما من أحكام الله. ولا يكتمل الدين فى نفس امرئ إلا إذا(1/15)
ملأها هذا الشعور، مثل ما قال الله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ). ص _019
وأى غضاضة فى هذا؟ وماذا يكون كنه العلاقة بين الله والإنسان إذا لم يكن يقينا مقرونا بالطاعة المطلقة؟! إذا لم أكن تابعا لله فماذا أكون؟! إذا كان الله رب كل شىء، ومليكه، وسيده، فأى نكير فى أن أكون عبدا له، لا أفعل إلا ما أمرنى به ولا أسير إلا وفق هداه...؟ إن الأديان منذ بدأت إلى أن ختمت لم تعرف إلا هذا المعنى، وذلك سر الحكم الأزلى الأبدى الذى يوحى به قوله جل شأنه: (إن الدين عند الله الإسلام) إن نفرا من المستشرقين يتهكم بهذا المعنى، ويقول: إن إله المسلمين جبار مخوف لا تكن له القلوب إلا الوجل والاستسلام!. أما إله المسيحية فهو رحيم أرسل ابنه الوحيد لينتحر على الصليب فدى لخطايا خلقه!! ومن ثم فصلة المسلمين بربهم قوامها الرهبة، وطابعها العبودية الذليلة. أما صلة المسيحيين بربهم فقوامها الحب المتبادل... ونحن نقول: على رسلكم.. إن إلهنا وإلهكم واحد. واحد لا ولد له، ولا صاحبه. يصف نفسه فيقول لحمد نبيه: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم) ويقول: (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم). فالزعم بأننا نعبد إلها لا يعرف إلا بالجبروت والإرهاب غلط وكذب. وهو كالزعم بأن هذا الإله غسل خطايا المجرمين بدم ابنه الحبيب. إن النفس المجرمة لا يغسلها من خطاياها إلا أن تتطهر هى وتقلع عن غيها. وليس يغنى عن القلب الأسود قربان يتقدم به بشر أو ملك، إن ذلك، مسخ للفضيلة وجور فى القضاء . ص _0 ص(1/16)
ولهذا أمر الله محمدا أن يتلو على الناس هذا الكلام: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). إن العبودية لله تعنى التحرر مما سواه، وتلك هى السيادة التى لا تدانيها سيادة. والإنسان الذى يشعر بأن خضوعه لله وحده حق، وأن ذلته لغيره باطل، إنسان عظيم بلا ريب، وهو فى جنبات هذا الكون الرحب لا يقل منزلة عن الملائكة الكرام إن لم يزد. ثم الإنسان المقر لله بالعبودية يدين له بالسمع والطاعة وينفذ أوامره بحب وتقدير. ولما كانت أوامر الله خيرا محضا، فأسعد الناس بثمراتها فى العاجلة أولئك العباد المخبتون. فهل هذه العبودية هى ما يضايق المستشرقين؟ إننا من غير مقارنة بين الأديان، نحب أن يسمع "جولد تسيهر" كلام "جان جاك روسو" فى المسيحية والعاملين بها يوم بدأت "أوروبا" تشق طريقها للحياة وتتلمس مستقبلا أنضر.. قال: " إن المسيحية دين روحانى تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها، فوطن المسيحى ليس فى هذا العالم.. وصحيح أنه يقوم بواجبه، ولكن يقوم به دون مبالاة بنجاح ما يعهد به إليه أو فشله فيه، فهو إذن لا يجد ما يلوم عليه نفسه. إنه لا يهمه كثيرا أن تسوء الحال أو تحسن على هذه الأرض.. فإذا ازدهرت الدولة لا يكاد يجرؤ على التمتع بالبهجة العامة، بل يخشى أن يفخر بمجد بلاده. وإذا هلكت الدولة يبارك يد الرب التى ألقى ثقلها عن شعبه... ". ويستطرد "روسو" فى هذا الوصف فيقول: " ويجب فى هذه الحالة أن يكون جميع المواطنين بلا استثناء مسيحيين صالحين على السواء حتى يسود السلام المجتمع وبعم التوافق. ص _021(1/17)
ولكن إذا وجد ـ لسوء الحظ ـ رجل واحد طموح. مراء واحد ـ كأتلينا مثلا، أوكرومويل ـ فإنه سيجد بلا ريب سوقا رائجة بين مواطنيه الأتقياء.. فإذا استطاع أحد من أولئك المتطلعين أن يفرض نفسه على مواطنيه ويستولى بخدعة ما على جزء من السلطة العامة، فسرعان ما يصير موضع كل تكريم، فهى إرادة الله أن يكون موضع احترام. (وسرعان ما يصير صاحب سلطان وإرادة الله لشخصه أن يطاع.. "!! ثم يقول روسو: "بيد أنى أخطئ، إذ أتكلم عن جمهورية مسيحية. فالكلمتان متنافيتان. إن المسيحية تبشر بالعبودية والطاعة، وروحها ملائمة أكثر مما ينبغى للطغيان، ويستغل الطغيان دائما هذه الحقيقة لصالحه.. إن المسيحيين الحقيقيين خلقوا ليكونوا عبيدا... ". ثم يقول أيضا: "ويقال لنا: أن الجنود المسيحيين ممتازون، وأنا أنكر ذلك وأتحدى من يثبت لى ذلك! أما أنا فلا أعرف كتائب مسيحية! وسيذكر لى البعض الحروب الصليبية، ولكنى دون أن أناقش فى قيمة الصليبيين أقول: إنهم لم يكونوا مسيحيين، بل جنود القساوسة. ومواطنى الكنيسة.. فالوطن الذى قاتلوا من أجله كان وطنا روحيا.. ولست أدرى كيف جعلته الكنيسة .؟ "أ.هـ. و "روسو" أحد الفلاسفة الاجتماعيين الذين أشعلوا الثورة الفرنسية، وحرروا جماهير كبيرة. كانت ترسف فى قيود الكهنوت والإقطاع. إنه يفهم الإنسان كائنا له ذات تناط بها التكاليف، وإرادة تحمل مسئوليتها كاملة.. وذاك تفقده فما وجده فكتب ما كتب. وليس بعد هذا وزن للدعوى بأن الإسلام كان جائرا على الفرد، حاقرا لشأنه. وخاصة عندما تجىء هذه الدعوى من أولئك الغربيين الذين يحاولون الحط من قدر الإسلام، حاسبين ذلك يعلى من قدر المسيحية ويرفع شأنها. وأكثر هؤلاء القوم يعلمون من أمر الإسلام ما يعلم هذا الكاتب الحر، إلا أنه يعز عليهم أن يقولوا الحق، إذا كان فيها ما يزكى الإسلام أو يكشف حقيقة من حقائقه المشرفة ص _022(1/18)
لا تفاوت بين الإسلام فى مكة والمدينة: ونحن نسخر من المستشرقين ـ وفى مقدمتهم "جولد تسيهر" ـ حين يرون أن محمدا اقتبس معارفه الإلهية ومبادئه التشريعية من راهب أو كاهن. فهذا القول ـ فى نظرنا ـ يشبه اتهام أحمد شوقى بأنه سرق معانيه من بيرم التونسى، أو صلاح جاهين اللذين يكتبان بالعامية كلمات الأغانى الخفيفة لبعض الناس. إن أمراء الشعر لا يسرقون من الزجالين، وإن محمدا الذى قدم للعالم أنفس العقائد والشرائع فى أرقى أسلوب وأنصع بيان، لو كان أتى بهذا الدين من عند نفسه لا من عند الله، لكان معنى هذا أن البشر أقدر على صنع الأديان من رب البشر، وإلا كيف يتصور أن القرآن عمل إنسانى، إن العهدين القديم والجديد، عمل إلهى؟!! ثم بأى وجه يغضى المستشرقون عن المتناقضات النابية لديهم، ولا يلفت أنظارهم إلا أن رب المسلمين جبار يتطلب العُباد الأذلة؟! أهذا هو العيب الذى لاحظوه على عقيدة التوحيد، وبرئت منه عقيدة التثليث؟! أهذا هو العيب الذى لاحظوه على مبدأ: " ليس للإنسان إلا ما سعى " ولم يلاحظوه على مبدأ: " اغلط واعترف للكاهن وثق أن دم المسيح قد ضمن لك الغفران "؟! إنهم يختلقون القشة فى عيون غيرهم ويرونها مجسمة، ولا يرون الخشبة التى تعمى أبصارهم!!.. ومن هذه المزاعم أيضا الحكم على الدعوة الإسلامية بأنه: " لا جدة ولا طرافة فى هذه الدعوة " (ص 12) والقول بأن: " الوحى الذى نشره محمد فى أرض مكة لم يكن ليشير إلى دين جديد، فقد كان تعاليم واستعدادات دينية نماها فى جماعة صغيرة، وقوَّى فى أفراد هذه الجماعة فهما للعالم، مؤسسا على الحكم الإلهى " (ص 17) ثم القول: " إنه فى المدينة فقط ظهر الإسلام نظاما له طابع خاص " (ص 17) هذا الكلام جهالة وتخليط، فإن أهل مكة الذين يعرفون النصرانية جيدا قالوا لما سمعوا دعوة الإسلام: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ) ص _023(1/19)
أى أن ما قرع أسماعهم هو شىء جديد غير معهود فى الديانات الوثنية والكتابية المحرفة، وذلك حق. فإن التوحيد المطلق المنكر للبنوة والولاة، الرافض لتسوية أى مخلوق بالله، كان شيئا جديدا طريفا أنطق الألسنة بهذا الاستغراب: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) فهل يصح القول بأن دعوة الإسلام لا جدة فيها ولا طرافة؟! وإذا كان القرآن النازل فى مكة لا يكون دينا جديدا، فماذا يكون؟! إن الوحى المكى جمع كل الآداب، والوصايا، والمبادئ الرفيعة الموزعة فى صحائف العهدين القديم والجديد، وزاد عليها آدابا، ووصايا، ومبادئ أخرى احتاج إليها العالم فى تقويم فطرته وصيانة حياته، وذلك كله إلى جانب ما صحح من عقائد، واستن من شرائع لم تكن معروفة للعبادات الأصلية. فكيف يوصف القرآن المكى بأنه " استعدادات دينية" وليس دينا جديدا؟! إن سورة الأنعام وحدها أو سورة الإسراء وحدها ـ وهما مكيتان ـ تضمنتا من حقائق الدين ما يربو على الأناجيل كلها. فإذا لم يكن الإسلام فى مكة دينا، فلن تكون اليهودية ولا المسيحية ديانات. الإسلام فى مكة هو الإسلام فى المدينة. فى سورة الصافات: (إن إلهكم لواحد) وفى سورة البقرة: (وإلهكم إله واحد) والأولى مكية والأخرى مدنية . فى سورة يونس : (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) وفى سورة آل عمران : (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) والأولى مكية والأخرى مدنية . ص _024(1/20)
فى سورة لقمان: (..تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ..). وفى سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) والأولى مكية والأخرى مدنية. إن المعانى والأغراض متشابهة بين مكة والمدينة، لأنها جميعا من عند الله. الله الذى أنزل القرآن هنا وهناك واحد. والرجل الذى تلقاه فى كلا البلدين واحد. وما تأسس فى العهد الأول كان الدعامة لما جاء فى العهد الثانى، يصدق بعضه بعضا ويمهد له ويتلاقى معه. وما نقضت عقيدة ولا خلق، ولا حلال ولا حرام عرف فى مكة بشىء جد بعد ذلك فى المدينة. حتى الجهاد بدأ فى مكة حرب كلام، وخصام مبادئ. ونذرا يهدر بها الوحى النازل بمكة مثل: (كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة). ومثل: (وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا). ومثل: (إنهم يكيدون كيدا * و أكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا). وتطورت الحرب إلى حيف من المشركين الأقوياء صودرت فيه أموال المسلمين وحرياتهم، واستبيحت دماؤهم وأعراضهم. ثم دخلت الحرب بالهجرة فى مرحلة أخرى بعدما تكون للمسلمين جيش يرد اللطمة بمثلها. ص _025(1/21)
فأين هو التفاوت بين إسلام مكة والمدينة كما يزعمه هذا الذهن المريض؟ اسمع إليه يقول: " إن العصر المدنى قد أدخل تعديلا جوهريا، حتى فى الفكرة التى كونها محمد عن طابعه الخاص، ففى مكة كان يشعر أنه نبى يتمم برسالته سلسلة رسل التوراة، وأنه لهذا عليه ـ مثل أولئك الرسل ـ أن يقوم بإنذار أمثاله فى الإنسانية وإنقاذهم من الضلال. أما فى المدينة ـ وقد تغيرت الظروف الخارجية ـ فقد تغيرت مقاصده وخططه، واتجهت اتجاها آخر بحكم تلك الظروف الخارجية. ولا غرو، فقد وجد نفسه فى بيئة تختلف عن بيئة مكة، فكان هذا مما جعله يدفع إلى المقام الأول مظاهر أخرى من مظاهر رسالته النبوية" (ص 19). تعديل جوهرى فى مقاصد النبوة وخططها لتغير البيئة؟! هذا والله هو اللغو بعينه. إن الإسلام اكتمل بناؤه فى المدينة بعدما وضعت دعائمه، واستبانت معالمه فى مكة على ما رأيت، ما تغير مقصد ولا تبدلت وجهة. ولننظر إلى الدليل الذى ساقه الرجل ليؤيد كلامه. يقول ـ عن الرسول بعد انتقاله إلى المدينة: " إنه يريد الآن إصلاح دين إبراهيم وإعادته إلى أصله بعد أن نال منه التغيير والإفساد، وكان تبشيره مختلطا ببعض التقاليد القديمة التى تتعلق بإبراهيم " (ص19) أى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحول فى العهد المدنى إلى الكلام عن دين إبراهيم وإحياء تقاليده. أما فى مكة فلم يكن هناك شىء من هذا. وهذا كذب، فإن القرآن المكى جاء فيه قول الله جل شأنه: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). وجاء فيه: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) ص _026(1/22)
وجاء فيه عن القرآن نفسه: (وإنه لفي زبر الأولين) أى خلاف بين هذا القرآن المكى وبين قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) وهذه الآية مدنية. يقول "جولد تسيهر" عن وظيفة الرسول فى المدينة: " لقد أصبح يريد إقامة دين الله الواحد كما جاء به إبراهيم كما أنه بوجه عام كان مصدقا لما سبق أن أوحاه الله لمن تقدمه من الرسل والأنبياء ". فهل كان الرسول فى مكة يفعل غير هذا؟ إن محمدا فى مكة يقرأ على الناس فى سورة الأعلى هذه الآيات: (قد أفلح من تزكى * و ذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير و أبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم و موسى) فيجىء مستشرق فى آخر الزمان يقول: إن محمدا لم يدع إلى دين إبراهيم إلا فى المدينة بعد ما عدل موقفه فى مكة..!! وقريب من هذا السخف زعم هذا المستشرق أن محمدا ذكر فى قرآنه ـ بإيعاز من أهل الكتاب الذين أسلموا معه ـ أن التوراة والإنجيل محرفتان. فإيعاز أهل الكتاب الذين يتملقونه هو السبب فى اتهام هذه الكتب. أما الخلاف الجوهرى فى أصول العقيدة، وإسهاب القرآن فى تقرير التوحيد المطلق، وتنزيه الأنبياء مما نسب إليهم على عكس ما تضمنه العهد القديم والجديد فهذا لا يعنى تحريف الكتب المتداولة فى أيدى القوم!. كأن محمدا كان يقر ما ورد فيها لولا من أسلم من اليهود والنصارى وأغراه باتهامها...! إن هذا لغو من القول عجيب. ص _027(1/23)
حول بلاغة القرآن فى مكة والمدينة: والمستشرق المجرى الذواق لما تتضمنه أساليب العرب من بلاغة يرى أن القرآن فى مكة كان ذا قيمة رفيعة..: أما فى المدينة فقد هبط مستواه.!! ويظهر أن الرجل لا يحسن فهم ما يقتضيه تغاير المعانى من تنوع الأداء. فتقسيم المواريث مثلا إذا كان موضوع آية، فإن التعبير لا يجوز أن يجىء عاطفيا حماسيا كما يجىء عند وصف أهوال القيامة بطريقة تستهدف قمع الغرائز المتمردة. والحديث عن جلال الله من خلال التأمل فى عظمة الكون يقتضى أسلوبا آخر غير أسلوب سرد أحكام الزواج والطلاق مثلا. والبلاغة إنما هى رعاية مقتضى الحال. ومن ثم فمحاولة الطعن فى بلاغة بعض القرآن لأن هذا البعض ليس مثيرا، ولا حاد الإلقاء هى هزل لا جد فيه.. وعلى هذا الأساس نقرأ ما كتبه "جولد تسيهر" حول بلاغة القرآن إذ يقول (ص 12): " بديهى أن التغير الذى حدث فى الطابع الشخصى لمحمد قد أثر فى أسلوب القرآن وشكله الأدبى... ففى العصر المكى جاءت المواعظ التى قدم فيها الصور التى أوحتها حميته الملتهبة فى شكل وهمى خيالى حاد.. لكن حمية النبوة وحدتها أخذت فى عظات المدينة والوحى الذى جاء بها تهدأ رويدا، رويدا حيث أخذت البلاغة فى هذا الوحى تصبح ضعيفة شاحبة، كما أخذ الوحى نفسه ينزل إلى مستوى أقل بحكم ما كان يعالجه من موضوعات ومسائل، حتى لقد صار أحيانا فى مستوى النثر العادى.. " وقال: "ويجب ألا يفوتنا الإشارة إلى أن القوة الخطابية فى القرآن أخذت تفتر حماستها برغم استعمال السجع فى أجزاء القرآن التى نزلت بالمدينة.. " قال: "وبينما ترى محمدا يسرد فى الأولى- فترة ما قبل الهجرة- رؤاه الكشفية الإلهامية فى فقرات مسجوعة متقطعة، وفق صوت ضربات قلبه المتقطع المحموم، نرى الوحى فى الثانية يتخذ الشكل السجعى، لكنه مجرد من اندفاعه وقوته ". وكلام هذا المستشرف المجرى عن القيمة البلاغية لسور القرآن مثل كلام أى ريفى فى بلادنا عن شئون الذرة !! أى لا(1/24)
شىء فيه غير الجهل والدعوى. ص _028
فإذا انضم إلى هذا الجهل حقد مشبوب جاء الحكم المراد ساقطا عن كل اعتبار. ونحن العرب أدرى من غيرنا بنماذج البلاغة فى أدبنا وطبقات الكلام. بيد أننا لا نترك الموضوع يمر هكذا، فإن القرآن المكى- كما يزعم "جولد تسيهر "- من وضع رجل محموم، تسيطر عليه الرؤى الغيبية الخرافية!. ونحن لا نقول شيئا فى التعليق على هذا اللغو أكثر من أن نسطر هنا فصلا من رؤى "يوحنا اللاهوتى" ختم بها العهد الجديد، طالبين من أى قارئ فى الشرق والغرب، أيا كان دينه، أن يأخذ قطعة من القرآن المكى- أى قطعة- ثم يقارن بين الكلامين. القرآن الذى هو من تأليف محمد البشر المدعى- كما يزعمون- والعهد الذى هو وحى الملاك ليوحنا الرسول. وهاك كلام يوحنا الذى لا يوصف أبدا بهزل...!! قال يوحنا: فى الإصحاح الرابع : "نظرت وإذا باب مفتوح فى السماء والصوت الأول- الذى سمعته كبوق- يتكلم معى قائلا: اصعد إلى هنا فأريك ما لابد أن يصير بعد هذا، وللوقت صرت فى الروح. وإذا عرش موضوع فى السماء وعلى العرش جالس. وكان الجالس فى المنظر شبه حجر اليشب والعقيق. وقوس قزح حول العرش فى المنظر شبه الزمرد. وحول العرش أربعة وعشرون عرشا، ورأيت على العرش أربعة وعشرين شيخا جالسين متسربلين بثياب بيض، وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب، ومن العرش تخرج بروق ورعود وأصوات. وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هى سبعة أرواح الله. وقدام العرش بحر زجاج شبه البللور، وفى وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوءة عيونا من قدام ومن وراء..!! والحيوان الأولى شبه أسد، والحيوان الثانى شبه عجل، والحيوان الثالث له وجه مثل وجه إنسان، والحيوان الرابع شبه نسر طائر. والأربعة حيوانات لكل واحد منهم ستة أجنحة حولها ومن داخل مملوءة عيونا. ص _029(1/25)
ولا تزال نهارا وليلا تقول: قدوس. قدوس "!! وفى الإصحاح الثالث عشر يقول: " وقفت على رمل البحر فوجدت وحشا طالعا من البحر، له سبعة رؤوس، وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان. وعلى رؤوسه اسم تجديف.!! والوحش الذى رأيته كان شبه نمر، وله قوائم دب.. إلخ " هذا الكلام كله وحى سماوى لا ريب فيه، أو قطع من البلاغة لا شك فيها..! أما قول محمد في قرآنه الذى نزل بمكة : (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون) هذا الكلام سجع مقطع وفق ضربات قلب محموم، ورؤى أساسها تجمع حالات مرضية عند شخص يحب الاتصال بالقوى الخفية..! أو هو يدعى ذلك ليكون نبيا..!! وهذه التآليف من صنع الناس، ولا يجوز أن توضع فى صعيد واحد مع رؤى يوحنا اللاهوتى التى هى وحى أعلى..! ماذا نقول لهذا المستشرق وأمثاله إلا أن نردد الحديث المشهور: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". ومع ذلك فلتألف من المستشرق الذكى أن يهاجم القرآن، وأن يصمه بما يشاء ، وأن يخلص فى نهاية بحثه عن قيمة القرآن إلى هذه النتيجة (ص 22): " إذن، القرآن هو الأساس الأول للدين الإسلامى، وهو كتابه المقدس، ودستوره الموحى به، وهو فى مجموعه مزيج من الطوابع المختلفة اختلافا جوهريا، والتى طبعت كلا العصرين الأولين من عهد طفولة الإسلام ". هذه النتيجة ولدتها- كما رأيت- مقدمات تشبه التفكير البقرى الذى أشرنا إليه فى صدر هذا الباب...! ص _030(1/26)
إن تصيد الشبه حيث لا مجال لشبهة، هو الذى يجعل بعض المستشرقين يزعم فى إلحاح سمج أن هناك اختلافا بين القرآن المكى والقرآن المدنى. مرده- كما يتوهمون- أن الظروف التى واجهها الرسول فى المدينة، أملت عليه كلاما يباين ما قاله فى مكة على أنه وحى من عند الله. وقد استبد بهم الحماس فى هذا الوهم حتى أفقدهم كل اتزان علمى. فالمستشرق "مرجليوث " يرى أن الآيات القرآنية تحكى مجىء إبراهيم إلى مكة واستيطان ذريته بجوار البيت بعد ما بناه هو وابنه إسماعيل. هذه الآيات مفتعلة، دعت إلى افتعالها رغبة الرسول فى تألف اليهود، وإثبات صلة قرابة بينهم وبين العرب.. ولذلك جاء فى سورة البقرة- وهى مدنية-: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) وقوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) والمستشرق الذى يوجه هذا الاتهام إلى القرآن ينسى فى غمرة حماسه أمرين: أولهما: أن الحديث عن إبراهيم وزيارة مكة، واتصاله بالعرب لم يبدأ فى المدينة تألفا ليهودها، وإنما بدأ فى مكة حيث لا يهود ولا زلفى! وفى القرآن المكى سورة اسمها "إبراهيم " جاء فيها: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) الثانى: أن العهد القديم- الذى يرى هذا المستشرق أنه كتاب مقدس- أثبت قدوم إبراهيم وابنه إلى بلاد العرب، فكيف يقول مستشرق متزن الفكر أن آيات سورة البقرة غير صحيحة، وأنها قيلت استرضاء لليهود،، وأنها تخالف القرآن المكى؟؟! وليس المضحك أن يتورط مستشرق فى هذه الغفلة الشائنة، لشدة رغبته فى القول بأن قرآن المدينة يغاير قرآن مكة. وإنما المضحك أن يجىء الدكتور " طه حسين " فيتبنى هذا الضلال ويخرجه فى كتاب ألفه عن الشعر الجاهلى بعد أن يخيل للناس أن هذا الكفر هو نتاج عقله الخاص، وليس نقلا أعمى عن مستشرق موتور . . ص _031(1/27)
قال الأستاذ محب الدين الخطيب- وهو يتحدث عن طه حسين وقيمة بحوثه العلمية- " ويقال: إن الدكتور طه، رجع عن هذا اللغو، أو تاب من هذا الكفر ". وليس ذلك ما نهتم له. و!إنما الذى يعنينا إماطة اللثام عن مصادر هذا الزيغ من البحوث التافهة التى يسطرها أمثال "مرجليوس" و "جولد تسيهر". وهذا كتابه فى الشعر الجاهلى بين أيدينا، ألم يقل لنا فيه (ص 26) أن حادثة إبراهيم وإسماعيل أسطورة، ولو تحدثت عنها التوراة، أو جاء بذكرها القرآن؟ وعنده أن اليهود الذين استوطنوا بلاد العرب اخترعوها. وهو يرى فى اختراعهم لها نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب، وبين الإسلام واليهودية، وبين القرآن والتوراة. ثم عاد فى (ص 29) فقال: "إن هذه القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام ". وسواء أكان ارتكاب اليهود هذه الجريمة قبيل الإسلام، كما قرر هذا العلامة المحقق الجليل فى (ص 29) من كتابه، أو كان عملهم هذا بعد نزول القرآن احتيالا على إثبات الصلة بين الإسلام واليهودية كما ذكر قبل ذلك، فإن النتيجة واحدة، هى أن أسطورة " إبراهيم " عند أستاذنا طه حسين من سيئات اليهود، وقد جرؤت عليها طائفة منهم كانت قد استوطنت بلاد العرب، وهذه الأسطورة غير مأذون لها أن تدخل إلى دائرة التاريخ، وإن شفع لها التوراة والزبور والإنجيل والقرآن!! ونحن إذا رجعنا إلى التوراة نجدها تتحدث عن إبراهيم وإسماعيل، وبنى إسماعيل فى الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين، وفى الإصحاح الأول من أخبار الأيام الأول. وهذان الموضعان من التوراة- ولا سيما أولهما- من أقدم أسفارها، لأنه معاصر لموسى عليه السلام. فهل يتفضل الأستاذ طه حسين علينا وعلى العلم فيخبرنا كيف تسنى لهؤلاء الدساسين من اليهود الذين استوطنوا بلاد العرب أن يدسوا هذه الأسطورة قبيل الإسلام، أو بعيد الإسلام فى أسفار منسوبة إلى عصر أقدم من الإسلام بأزمان كثيرة، وكثيرة جدا!؟ كيف دسوا هذه الدسيسة فى(1/28)
التوراة وهم فى يثرب أو فى خيبر أو فى غيرهما من بلاد العرب، ولم يشعر بهم سائر يهود الدنيا؟! أم تراهم فعلوا ذلك بتواطؤ اتفق جميع اليهود عليه احتيالا على إثبات الصلة بين اليهود والعرب، وبين الإسلام واليهودية، وبين التوراة والقرآن ..؟ ص _032
و"مرجليوث " و "جولد تسيهر" مغرقون فى الإفك حين يتهمون محمدا بأنه ألف القرآن، وعندما يجسم لهم هواهم شيئا اسمه الاختلاف بين القرآن المدنى والقرآن المكى. إنه لا اختلاف إلا فى رؤوس القوم، ومن تبعوهم بغرور. وقد مضى المستشرق المتجنى فى تخرصه ودخل فى سلسلة من الأكاذيب لا نرى مفرا من ذكرها، مكتفين بوضوح ما فيها من بطلان. فقد ذكر فى (ص 33): "إن الإسلام لم يوحد العرب، ولم يجمع قبائلهم المتفرقة على عبادة واحدة. " وزعم أن هذه الوحدة تمت بعد تفوق المسلمين العسكرى أيام دولة الخلافة... وفى (ص 24) عاد إلى القول: "بأن محمدا انتخب تعاليم الإسلام من الديانات السائدة فى عصره: اليهودية والنصرانية، والمجوسية، والوثنية، بعد تهذيب وصقل " ويؤكد المستشرق المجرى هذا الاقتباس فى (ص 25) فيقول: ".. ذلك لأن محمدا قد أخذ بجميع ما وجده فى اتصاله السطحى الناشئ عن رحلاته التجارية، مهما كانت طبيعة هذا الذى وجده، ثم أفاد من هذا دون أى تنظيم.." أى أن الإسلام دكان وجدت فيه مجموعات من السلع المستوردة، لم يبذل صاحبها شيئا أكثر من التطواف هنا وهناك لاستيرادها. إلا أن هناك خلافا طفيفا أشار إليه المستشرق المنصف فى (ص 26) إذ يقول: "مع تسليم محمد بأن الله خلق العالم فى ستة أيام، فإنه رفض عامدا فكرة أن الله استراح فى اليوم السابع، ولذلك لم يجعل يوم الجمعة يوم راحة" أى أنه كان على محمد واجب الإيمان بهذا الإله المتعب المرهق حتى يتم التقليد، وفق تصور ذهن هذا المستشرق المضطرب!، لكن الله الذى أرسل محمدا يقول عن نفسه: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب).(1/29)
أجل، الله الذى أرسل محمدا هو الذى وصف نفسه فى كتابه بما ينزهه عن أوهام اليهود والنصارى والمجوس والوثنيين جميعا. ص _033
وفرض من الشرائع، ما لم يعرفه هؤلاء ولا آباؤهم.. ومع ذلك فمحمد ناقل عن غيره... وحسب..! هذا، ويوغل المستشرق فى مفترياته، فيزعم أن فكرة الإسلام عن الله أدنى من فكرة الأديان السابقة عنه!! ونظن ذلك لأن الإسلام لم يقلد سفر التكوين فى تصويره الله بأن دخل فى ملاكمة مع يعقوب.. ! أو فى تصويره الله بأنه تعب من بناء السماوات والأرض.!! أو فى تصويره الله بأنه دخل بطن امرأة، ثم خرج من فرجها..!! أو فى تصويره الله على النحو الذى قرأت فى رؤى يوحنا اللاهوتى!. ويعود المستشرق الحائر مرة أخرى فيذكر أن الإسلام تضمن فضائل خلقية لا شك فيها، غير أن هذه الفضائل منقولة عن الديانات القديمة. ونحن نعرف أن الأخلاق الفاضلة ليست حكرا على دين من الأديان.. بل إن أغلب الفلسفات الإنسانية قد تضمنت أصول هذه الأخلاق، ووصت باتباعها.. فلماذا يتهم الإسلام بأنه نقل عن غيره، ولا تتهم الديانتان اليهودية والنصرانية بأنها نقلت كيانها الخلقى لبنة لبنة من قدماء الإغريق، وقدماء المصريين؟؟! إن السواد الذى يصبغ قلوب المستشرقين لا يخف قليلا ولا كثيرا كلما تعرضوا لمحمد ولدينه، وهم فى ضغائنهم الغالبة لا يرددون إلا التهم التى سبق بترديدها الأعراب البله من أهل الجاهلية: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) كل ما هنالك من فرق بين الجاهلين الأوائل، وأخلافهم من المستشرقين، أن أولئك استحيوا من باطلهم ، وتابوا عنه.. أما هؤلاء فباسم العلم الحر يكذبون.. وباسم البحث المحايد يفترون: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) ص _034(1/30)
القرآن والمثل العليا للمسلمين: وقبل أن نختم الباب الأول من كتاب "العقيدة والشريعة" نرى لزاما علينا أن نجيب عن ثلاثة أسئلة تعرض المؤلف لموضوعها بفكر مغلق وتعصب ظاهر: هل صحيح أن الإسلام "لا يستطيع أن يمد المؤمنين به بفكرة مثالية للحياة الأخلاقية؟ وهى فكرة اتخاذ الرسول مثلا أعلى واحتذائه "؟ كما يقول المؤلف (ص 33) إنه فى هذه الصفحة يزعم أن الرسول لم يكن أسوة لأتباعه. ويزعم أن الرسول نفسه كان يعرف ضعفه الإنسانى، ولذلك لم يطلب من أحد أن يتخذ من مسلكه قدوة له؟! وهذا كلام يحار المرء فى تقدير الغباوة التى أملت به.. إن حديث المستشرقين عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناضح بما يكنون فى أنفسهم لشخصه الشريف من ضغن وإنكار. والأمر أكبر من أن نناقش فيه قوما بينهم وبين الحق أشواط وأشواط.. إن ذلك كإقناع اللصوص بنزاهة رجال الشرطة، أو إقناع الملحدين باستقامة أهل الإيمان. بيد أن لى "جولد تسيهر" أفكاره فى هذا الشأن نود أن نقف قليلا لديها... فهو يدعى أن الإسلام عاجز عن إمداد المؤمنين به بصورة مثالية عن الحياة الأخلاقية. وأن حياة محمد لا تصلح نموذجا رفيعا للمؤمنين لما يكتنفها من ضعف إنسانى. وأن علم الكلام هو الذى جاء بعد ذلك فرسم صورة أسطورية للرسول الكامل، ثم أضفى هذه الهالة من الكمالات على شخص محمد. ولولا هذه الهالة المضفاة على محمد، ما صلح أن يكون أسوة للمؤمنين به، إذ حياته الواقعية دون ذلك. وهاك عباراته فى (ص 33): "لو أن الإسلام قد تمسك بشهادة التاريخ الحق تمسكا دقيقا لوجد أنه لا يستطيع أن يمد المؤمنين به بفكرة مثالية للحياة الأخلاقية، وهي فكرة اتخاذ الرسول مثلا أعلى واحتذائه، ولكن المؤمنين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بصورة محمد، كما رسمها التاريخ الصادق، بل حل محلها منذ أول الأمر الأسطورة المثالية للنبى فى رأيهم. ص _035(1/31)
إن علم الكلام فى الإسلام قد حقق هذا المطلب، بما رسم للنبى من صورة تمثله بطلا ونموذجا لأعلى الفضائل، لا مجرد أداة للوحى الإلهى ولنشره بين غير المؤمنين، علي أنه يبدو أن هذا لم يرده محمد نفسه، فقد قال: إن الله أرسله (شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) أى أنه مرشد لا نموذج ومثل أعلى، أو على الأقل أنه ليس كذلك (أسوة حسنة) إلا بفضل رجائه فى الله وذكره كثيرا. ولقد كان- على ما يبدو- مدركا بإخلاص إدراكا صحيحا ضعفه الإنسانى! وكان يريد أن يرى فيه المؤمنون رجلا له عيوب الإنسان، ومن ثم كان عمله أعظم من شخصه، ولم يشعر فى نفسه أنه قديس ولم يرد أن يعتبر كذلك ". نقول: أورد هذا المستشرق آيتين من القرآن الكريم لم يحسن فهمهما: الأولى: قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) فقد ظن معناها أن الرسول رجل قوال فقط يرشد الناس بلسانه. أما سيرته ومسالكه فليست مما يقلد فيه، وليست مثلا أعلى للآخرين!! وهذا كلام بالغ التهافت والهزل. فكيف يوصف رجل بأنه سراج منير، إذا كانت أخلاقه وأعماله مظلمة، أو دون ما يقول؟ ولماذا تختار السماء رجلا صريع ضعفه الإنسانى ليتحدث عنها؟! أما الآية الثانية: الناطقة بأن على المؤمنين الاقتداء برسولهم، لأنه أسوة حسنة، وأنهم- إذا أرادوا بلوغ مرتبة الاقتداء- فليستعينوا بالرجاء فى الله، والإعداد لليوم الآخر، وإكثار الذكر، فإنه لن يستطيع التأسى بالرسول العظيم، إلا من استجمع هذه الخصال الشريفة. هذه الآية فهمها المستشرق على نحو آخر، فهم معناها أن الرسول هو الذى يرجو الله واليوم الآخر، وأنه لم يتجاوز مرتبة الرجاء فى الله، لأن عمله لا يرشحه إلا لهذه المرتبة..!! ولنترك هذا الجهل جانبا، ولن نتحدث هنا عن عظمة محمد تحدث المدافع عنه، فمحمد أكبر من ذلك، وأنضر وجها، وأعز جانبا . ص _036(1/32)
لكنا نضحك للقول بأن علم الكلام هو الذى تولى سد النقص فى القيم الروحية عند المسلمين! نعم، غريب أن يتولى علم الكلام تقديم النماذج الإنسانية الرفيعة للمسلمين.. إن هذا العلم- فى أحسن أحواله- يعرض العقائد الإسلامية عرضا نظريا، ويبسط أدلتها، ويفند شبه الخصوم، ويكشف حقيقتها. أما فى أحواله الذميمة فهو يخلط المعرفة الإسلامية بالفلسفة الأجنبية، ويخوض بحورا موحلة من المباحث الغيبية والشطحات العقلية. فما تكون صلة علم- هذا موضوعه- بتصوير المثل العليا للمسلمين؟ ولماذا اختار "جولد تسيهر" هذا العلم، ولم يختر النحو أو الجبر؟ ثم هو يقول: "إن محمدا لم يزعم للناس أنه قديس ". فماذا يقصد بهذه الكلمة؟! إن محمدا حقا لم يصف نفسه، ولا وصفه أتباعه بأنه "كاردينال " أو "بابا"، لأن هذا الرجل الذى قدم للناس كتابه وسنته، كى يصلهم بالله رب العالمين، لم يرض قط أن يكون كاهنا، ولم يرض قط أن ينصب نفسه وسيطا بين العباد وربهم، بل قال لابنته فاطمة- وهى أقرب الناس إليه-: "اعملى... لا أغنى عنك من الله شيئا" . إن الميزة البينة فى دين محمد: أنه يجعل كل إنسان مسئولا عن نفسه، فهو بتساميه يستطيع أن ينال الرضا الأعلى، وهو بتدليه يستحق غضب ربه. الإنسان صانع حاضره ومستقبله، بما يقدم من خير أو شر. ولا مكان لدخيل من الكهان يزعم أنه يبيع المغفرة أو يحمل الخطايا.. محمد الإنسان الكامل: أما السلوك الخاص لمحمد، فماذا نقول فيه؟ إنه بشر يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، ما ننكر هذا، وما يزيد فى هذا أو ينقص عن إخوانه النبيين، ولا عن أهل الأرض أجمعين... لكن هذا البشر ظل يرقى فى مدارج الكمال حتى بلغ شأوا من سناء القلب واللب، وجلال الخلق والعمل لم يعرف لأحد من المستقدمين والمستأخرين. بل إنه مشى على أديم الأرض ملكا كريما فى إهاب إنسان فياض النفس بالإيمان والبر، وحب الحق، والتفانى فى نصرته، والعطف على الأحياء، والدأب على ص _037(1/33)
تصحيح وجودهم، والجرأة على الباطل، والاستقتال فى كسر شوكته وتقليم أظافره. ذلكم هو محمد الإنسان الكامل. إن كل ما تصبو إليه الإنسانية من أمجاد عرف فى حياة هذا العابد الراهب، والمجاهد الفارس، والقاضى المقسط، والحاكم المنصف، والتاجر الشريف، والزوج الرقيق، والصديق الوفى، السمح إذا ملك، والعافى إذا قدر، والمهيب إذا اقترب، والعظيم فى أحواله كلها ما ظهر منها وما بطن. إن المثل العليا خيالات يحسن نسجها الفلاسفة والأدباء. وربما أبرزوا للناس معالمها وهم فى أبراج عاجية، أو فى صوامع قصية.. لكن محمدا مشى على الثرى، واشتبك مع وعثاء الطريق، وضراء العيش، وخالط من يحب ومن يكره، وأحس الجوع والسهر. والفقد والقلق، والغربة والوحشة. وفى مكابدته لأسوأ ما تمر به الإنسانية من ظروف بقى هذا الإنسان الضخم متزن الخطو، متقد الفكر، يضرب المثل العليا للناس مخلوطة بعرق الجبين، واغبرار القدم. فهو أسوة حسنة لكل حى فى جميع الشئون المادية والأدبية. وحياته فى نومه ويقظته، وأكله وشربه، ومع الكبار والصغار، والأصحاب والخصوم، فى الصحة والمرض، والسلم والحرب، والحل والترحال، هذه الحياة تتبعتها ألوف الأعين، وسجلت صفتها ألوف الألسنة، فما كان منها إلا ما يسر، ويعجب، ويخط للناس طريق الخير والرشاد. فكيف يجىء بعد ذلك مستشرق تافه ليقول: إن محمدا ليس مثلا أعلى!! والغريب أن يستدل هذا المستشرق على إفكه بشارات التواضع فى حياة هذا الرسول الكريم، أو بما يجب أن يلتزمه من مواقف العبودية لله العظيم. فإذا قال محمد مثلا: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) جاء هذا المخلوق المظلم ليقول : ألم أخبركم أن محمدا خاطئ، وأنه مأمور أن يستغفر الله من ذنبه؟! ونحن نشعر بأن الحديث عن العظماء مع ناس- ذاك مبلغ فقههم فى أسرار النفوس وأطوار السمو- عبث. وهو كما تحدث عن الخمرة الإلهية عصابة من السكارى يترنحون فى إحدى الحانات . ص _038(1/34)
لقد كُتبت سيرة محمد من مولده إلى وفاته فى سرد مفصل، لم يؤثر مثله عن بشر آخر، وأحصيت الكلمات والأعمال التى قام بها إحصاء شاملا فى دواوين السنة. إذ أن هذه السنة المتبوعة دين. ولم يحدث مثل هذا لرجل من رؤساء الدين، ولا من زعماء الدنيا... وهذه الثروة الهائلة من العبادات والأخلاق والسياسات والأحكام مركومة فى مواطنها ومعروضة للناظرين. وهى على طول النقد والتأمل، والدرس والمتابعة تكشف عن حياة رجل لا نظير له أبدا. إنك عندما تطالع هذه الحياة، فى ضوء الواقع وحده، ودون أدنى تزيد أو مغالاة، تشعر بأنك أمام نماذج الكمال البشرى مجسدة. وشىء آخر اختص به محمد، أنه يصف الكمال ويدربك على بلوغه. وإنك لتشعر فى أثناء مسيرك على الدرب، أنك وراء رجل سبق أن شق الطريق ومهده للسائرين خلفه. وهذا معنى قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) وهى الآية التى وقف أمامها هذا المستشرق بنفس معتلة فما فقه ولا صمت..!! ويمضى هذا الرجل فى غله الأسود على صاحب الرسالة، فهو إذا بهره مسلك ينطوى على الوفاء والشرف، أخذ يدور حوله ليختلق له تفسيرا ماديا، أو سببا نفعيا. وبذلك يبدو التطرف الغالى، وكأنه وحى ظرف خاص، لا دلالة خلق أصيل. لقد عرف محمد بالصادق الأمين فى الجاهلية والإسلام معا. ولو لمح أعداؤه ذرة من خلل فى سلوكه الخاص أو العام لطاروا بها فى كل فج. ولكن الرجال الذين يصنعهم الله على عينه يختارون أولا من معدن نفسى خاص. ثم ينفون وسط سياج من العصمة فلا يتطرق إلى أفعالهم ما يشين أبدا. ومحمد- رغم أنف المفترين- هو سيد هؤلاء المختارين. ولما كانت الدعوة إلى الله لا تصلح إلا بأسلوب شريف لأنها دعوة إلى نور السماوات والأرض، وليست دعوة إلى زعامة أرضية كدرة، أو عصبية قومية عفنة، فإن الذى ص _039(1/35)
يصلح للقيام بها، ويستطيع السير مع نهجها وهدفها، هو محمد وأمثاله من أولى الأيدى والأبصار. وقد شاء الحق أن يمنع الجاهلين والجاحدين فرصا لا حصر لها كى يثوبوا إلى رشدهم، وكى يتخلصوا من قيود وجهالات الذين سبقوهم. ففى مكة تسمع النبى يدعو المشركين إلى توحيد الله، ثم يقول لهم- بعد أن أفهمهم هذه العقيدة أجود الفهم- لا عذر لكم من الله بعد هذا البيان، فقد أصبحت أنا وأنتم فى العلم به سواء. هذا معنى قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون * فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون * إنه يعلم الجهر من القول و يعلم ما تكتمون * و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين). قال المفسرون: "آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ" أى هذا بلاغ نستوى جميعا- نحن وأنتم- فى العلم به لا نستبد به دونكم، وذلك كى تتأهبوا لما يراد بكم. هذا الجو من الصراحة المطلقة هو الجدير بسياسة الدعاة إلى الله. فإذا انتقل الرسول إلى المدينة، ووجد يهودها يريدون معاملته بطريقة التآمر والخداع فليس بغريب أن يعاف هذه الأخلاق الملتوية. وليس بغريب أن يتنزل عليه الوحى الأعلى يحدد له مسلكه مع أولئك اليهود، وهو مسلك ليس بجديد فى أسلوب الدعوة الذى بدأ فى مكة صريحا لا يقبل إثارة من غموض كما رأيت. قال تعالى: (و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين * ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون). فانظر- رعاك الله- إلي المستشرق التافه كيف يجىء إلى هذا الجو النقى الطهور، كما تجىء آلة خربة لتنفث دخانها وسط بستان فواح بالعطور. إنه يزعم أولا أن محمدا قوَّل الله هذه الآيات التى تدل على نفسيته. ثم يزعم ثانيا أن هذه النفسية التى تعاف الخيانة، إنما تعافها سياسة لا شرفا وطهرا وسناء، وقال- قبحه الله- (ص 38): ص _040(1/36)
" وإن الطريقة التى اصطنعها محمد، والأسلوب الذى يعبر به فى وصف الله رب العالمين، وهو يقاوم كيد الكائدين، يصور سياسة النبى الحقيقية التى انتهجها ليقاوم ما أقيم فى سبيله من عقبات، فعقليته الخاصة، والخطة التى اتخذها ضد أعدائه فى الداخل، قد انعكست صورتها على الله الذى- كما قال- يضمني لنبيه النصر بأسلحته التى يراها، إنه في هذا يقول: و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين * ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) وعلى كل، فإن هذه الكلمات التى لها دلالتها الاصطلاحية تدل على عقلية سياسى محنك، أكثر من دلالتها على عقلية رجل صابر سلاحه المثابرة، ويجب أن نلح خاصة فى إبراز هذه النقطة التى تؤثر فى أخلاق الإسلام، والتى تخطئ بشدة الغدر حتى بالكافرين ". ماذا نقول فى رجل تنعكس الحقائق فى نفسه على هذا النحو؟! الوفاء مع الأعداء فى أحرج الظروف هو سياسة لا كياسة، ولا ينبغى أن يذكر للإسلام ولا لنبيه فضل فى هذه الناحية. لكن "جولد تسيهر" يحب أحيانا أن يبدو وكأنه رجل منصف، لا يلقى التهم جزافا، ولا يقبلها من غيره جزافا، ولذلك اعترض كلمة لقسيس بروتستانتى مغفل يزعم فيها أن الإسلام لا يهتم بالنيات، ولا يبالى بطهارة القلوب... الإسلام الذى يقول نبيه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). والذى يقول: (ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب !). هذا الإسلام فى عقل القسيس البروتستانتى "الذكى" دين لا يقوم على نقاء القلوب!! لذلك يقول "جولد تسيهر" (ص 35): "وبفضل نظرية النية والقصد والروح التى تلهم الأعمال والتى اتخذت معيارا لقيمة العمل الدينى أصبح صدق الإخلاص لابد منه لقبول العمل، فمجرد ظل باعث من أثرة أو رياء يجرد كل عمل طيب من قيمته. ص _041(1/37)
ومن هذا يتبين أنه ليس من قاض عادل يستطيع أن يوافق على هذه الجملة التى نطق بها القسيس البروتستانتى "تيسدال "، وهى: " من البديهى أن طهارة القلب لا يمكن أن تعتبر ضرورية أو مرغوبا فيها فى الإسلام! والواقع، أنه يصعب علينا أن نقول أنها مستحيلة لدى المسلمين "!! لكن هل الرجل أدلى بهذه الشهادة ضد القسيس البروتستانتى لوجه الحق؟! إنها وإن كانت شهادة مدخولة لما لابسها من كلام سخيف عن السنة النبوية، إلا أننا نقبلها منه وحدها ولا نقبل ما جاء بعدها من تزكية للمستشرق الإيطالى "ليون كاتيانى".!! فهذا المستشرق- وهو من طينة القسيس السابق- يزعم أن جيوش العرب التى حملت الحق والنور والعدالة والسماحة إلى مستعمرات قيصر وكسرى لم تخرج ببواعث عقيدة حارة وإيمان رفيع. لا.. لا.. لقد كان العرب جياعا فى جزيرتهم فخرجوا يطلبون الأكل... خرجوا أثر قحط حل ببلادهم . يقول "جولد تسيهر" فى وصف هذا الهراء وصاحبه (ص 34): " الفضل فى إيضاح الموضوع يرجع إلى العلامة الإيطالى "ليون كاتيانى" فى كتابه القيم "حوليات الإسلام "، فقد استعرض مصادر التاريخ الإسلامى استعراضا عاما، ونقدها نقدا دقيقا عميقا لم يسبق له مثيل فى الأبحاث التى تقدمته، فأوضح المظاهر الدنيوية للعصر الأول من عصور تاريخ الإسلام، وكان أن أدى هذا البحث إلى تصحيحات جوهرية فى وجهات النظر التى كان مسلما بها قبله فيما يتعلق بتأثير النبى نفسه ". أشعة الكمال المحمدى محمد إنسان مثل سائر الناس، وليس يمتاز عنهم إلا بأمرين: الأول: أن أمجاد الجنس البشرى تلاقت فى شخصه. فإذا كانت الأمانة والفطانة والوفاء والرحمة والصدق والحب فضائل تتألق بها سير بعض الناس، وتجعلهم بين من حولهم هامات شماء ، فإن محمدا فى هذا المضمار سبق المستقدمين والمستأخرين. فهو- بشهادة الوقائع المستفيضة من سيرته- بطل الأبطال، وأجود الأجواد، وسيد الخلق همة وشهامة، وبرا ووفاء.. ص _042(1/38)
ومن هذه السيرة يشيم العامة والخاصة أضواء الكمال فى كل ناحية من نواحى الرسالة الإسلامية التى انتظمت السلوك الحيوى أجمع.. ونماذج الكمال التى تحققت فى هذا الرسول تبدو وكأنها أعمال بشرية مضيئة وحسب، أو كأنها أعمال ميسورة الأداء، وقد شاء الله أن تبدو كذلك لتتم بها الأسوة المنشودة. وإلا فهى تشبه الشمس، يحسبها الناظر على مدى أميال منه، وبينه وبينها أبعاد وأبعاد.. هذا النبى جاهد فى الله جهادا كبيرا، ونحن مكلفون أن نجاهد فى الله، وألا تذهلنا مشاغل العيش، ومعاشرة الزوجات والأولاد عن العمل للحق، والتضحية من أجله.. إن الأسوة فى هذا الجهاد لا تصلح فى قليل أو كثير لو كان هذا النبى ملكا من السماء، أو بشرا تخلخلت فيه الخصائص الإنسانية. لكن عندما نتصور هذا النبى أبا لبنات.. ثم نتصور أنه- وهو يدعو إلى التوحيد فى بيئة مشركة- تعرض للسخرية والهوان. ثم نمضى فى ملاحظة هذا اللون من جهاد الدعوة، فنرى الرسول الوالد يتعرض- وهو ساجد يصلى فى المسجد الحرام-، إلى أن يلقى عليه زعماء مكة كرش حيوان ذبيح ليتسخ، ويضحك المشاهدون منه.. ثم تجىء ابنته إلى أبيها الذى علقت به الأقذار لتنحى عنه القذى. إن البنت فى أية أسرة تحب أن تعيش فى بيت عزيز مصون، وتحب أن يكون أبوها فوق الإهانات، ولكن الأمر هنا يدعو إلى الألم. فإذا تركت هذه الصورة، ورأيت بنتا أخرى لهذا الرسول تترك مكة بعد الهجرة، وهى حامل فيتبعها بعض السفهاء ويزعجونها حتى تجهض، ويجىء للرسول الوالد هذا النبأ، فيتلقاه بصبر المؤمن الذى يتحمل فى ذات الله كل شىء.. ثم لا تزال تدقق النظر فى حياة هذا الرسول الإنسان، فتتلاحق أمامك الصور، لبشر كبير يشق طريق الكمال شقا، ويبلغ فيه المدى، وهو هو الإنسان الذى يكابد ما يكابد غيره من طبائع الحياة الأرضية.. ممن تؤخذ الأسوة إذن إن لم تؤخذ من هذا الإنسان العابد المجاهد؟ "لله عز وجل رسل كثيرون قاموا بواجب الدعوة إليه، وتوارثوا(1/39)
كابرا عن كابر هداية الخلق ونصرة الحق، فأنقذوا الناس من أنفسهم وعرفوهم ربهم. ص _043
ولكن محمدا كان بشخصيته، وطبيعة رسالته، إمام الأنبياء، وكان بحق سيد الدعاة إلى الله. فما سر هذه العظمة؟ وبم كان هذا الفضل المبين؟ السر فى هذا أن محمدا الرسول كلف أن يغرس فى قلوب من حوله إيمانا لا تستخدم فى غرسه إلا الوسائل المقدورة لطاقة البشر. وقد استطاع ذلك من غير أن تتبدل الأرض كير الأرض. على عكس ما حدث على عهد موسى مثلا، إذ رفع الطور فوق رؤوس الناس ليؤمنوا بالته ويعطوا على ذلك الموثق! (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) وكما كان نبينا بين أتباعه بشرا رسولا، فقد كان كذلك مع أعدائه، لم تسخر ضدهم قوى السماء على كثرة ما لحقه منهم من إيذاء. على عكس ما حدث لموسى فقد نكل الله بأعدائه تنكيلا قاهرا، إذ مسخهم قردة وخنازير: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين). وليس يفهم من ذلك أن حياة الرسول كانت خلوا من الخوارق، لا، فإن النبوات قائمة على أن تقترن بالخوارق فى الكثير من مظاهرها. إنما المهم أن تأسيس اليقين فى قلوب الموقنين، واستئصال العدوان من نفوس المعتدين، كان العامل الفعال فيه بشرا اكتملت فى خلقه وخلقه عناصر الكمال الإنسانى ، وانتهت إلى شخصيته أمجاد الفطرة البشرية الناصعة فكان أتباعه من أعمق الناس حبا له، لأنه أهل لكل حب، وكان أعداؤه من أشد الناس تهيبا له لأنهم يدركون أن أمامهم بطولة يعز تناولها، ويصعب الكيد لها. وكان هو فى محبته للمؤمنين برا ودودا، تنبثق من فؤاده النبيل عواطف جياشة لا ينضب معينها، ولا يعتكر صفوها، اتسعت للسابقين واللاحقين من أمته، من رآهم ومن لم يرهم . ص _044(1/40)
سمعه أصحابه يقول: " وددت أنا قد رأينا إخواننا،. قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟. قال " بل أنتم أصحابى، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد " . فأى حب هذا الذى يمتد مع العصور المستقبلة، ليرتبط بقلوب لا يزال بنوها فى ضمير الغيب؟ أما أعداؤه فحسبك من نقاء صدره أن ابن أبى- الذى طعن الرسول فى شرفه وافترى الإفك على أهله- كفن يوم مات فى قميص الرسول. وأن النبى السمح لم يرفض الاستغفار له حتى أمر بالكف عنه... " ذلكم هو الأمر الأول الذى يمتاز به محمد من حيث هو إنسان. أما الأمر الآخر فظاهر أنه الوحى الذى اصطفاه الله له. وهو وحى يتضمن الدين كله من أزل العالم إلى أبده... فإن القرآن الكريم جمع كل ما ينبغى أن يعرف عن الله، ونزهه عن كل ما لا يليق بجلاله، والحديث عن القرآن يطول. وقد جاء فى آخر سورة الكهف ما يشير إلى هذين الأمرين معا: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا). ومن التأمل السريع لما ذكرنا نعرف أن "جولد تسيهر" كان كذابا لما قال: "ومع هذا فهناك ضلال أسطورى فى الطريقة التى يتصور بها محمد الله، إذ تؤدى هذه الطريقة إلى أن الله ينزل من عليائه السماوية، ليصبح الشريك المعين للنبى فى جهاده الذى أخذ فى الاضطلاع به فى هذا العالم " (ص 38). هذا كذب صراح، فلا محمد زعم هذا لنفسه، ولا المسلمون زعموا هذا له، وليس فى القرآن ولا فى السيرة، ولا فى الأحاديث قويها وواهنها، ما يومئ من قريب أو من بعيد إلى أن الله ينزل ليشارك النبى جهاده.. ص _045(1/41)
وأولى الناس بهذا الاتهام من يدينون بالحلول، ويمزجون بين الألوهية والبشرية فى عقائدهم. لقد رأيت كيف ترادفت الدلائل على أن محمدا بشر وحسب. بشر يزينه سناء الخلق، ويعصمه وحى الله. بشر تلتمس القدوة الصالحة من مسالكه فى السر والعلن. ولقد رأيت هدى اكتماله البشرى فى عبادته وقيادته جميعا. ويبين القرآن الحكمة من جعل الرسول إنسانا لا ملاكا، فيذكر أن ذلك يرجع إلي حاجة البشر لمن يستطيعون التلقى عنه والسير وراءه. (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) ومكان الأسوة فى حياة الرسول ظاهر. فعن تقليده أخذت أركان الإسلام العملية من صلاة وصيام وحج. وعن محبته واقتفاء أثره تخرج من الصحابة من لا تعرف الحياة لهم نظيرا. والغريب أن هذا المستشرق يقول بخبث عن الرسول الكريم: إنه "لم يشعر فى نفسه أنه قديس "! نعم إن محمدا لم يصف نفسه، ولا وصفه أتباعه، بهذه الكلمة الشائعة بين النصارى. لكن فى تلامذة محمد من تشهد سيرتهم بأنهم أزكى قلبا وأرشد عملا من أولئك القديسين المزعومين. على أن هذه الكلمة إن كانت تعنى حلول روح الله فى إنسان فهى عنوان على إفك كبير وإثم مبين. فإن محمدا جاء من عند الله لينزهه عن هذه الأفكار المختلة الضالة. ولهذا حرص على وصف نفسه دائما بأنه عبد الله ورسوله. والوصف بالعبودية حقيقة تشرف رسل الله كلهم، ما يترفع عنها موسى ولا عيسى ولا محمد. ومن زعم أنه جزء من الله فهو كاذب، ومن زعم أن روح الله حل فيه فهو أكذب. ص _046(1/42)
أسلوب الدعوة لم يتغير: والسؤال الثانى: هل تغير مسلك محمد فى المدينة عنه فى مكة، لما شعر بالقوة، والتفاف الأتباع؟ كذلك يزعم "جولد تسيهر" يقول فى (ص 34): " فمنذ ترك مكة تغير الزمن، ولم يصر واجبا بعد "الإعراض عن المشركين " أو دعوتهم "بالحكمة والموعظة الحسنة" كما نزل بذلك القرآن فى مكة. بل حان الوقت لتتخذ سيرته لهجة أخرى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). وهذه مغالطة نكشف لك ما فيها من دجل وسوء. فإن القرآن النازل بالمدينة كرر المعانى نفسها التى بمكة، من صفح عن الكافرين ومحاسنة لهم، وتركهم وما يدينون حتى ينكشف لهم الحق فيتقبلوه إن شاءوا، أو يرفضونه دون عدوان. ففى سورة البقرة وهى مدنية: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير). وفى سورة "المائدة" وهى مدنية يقول عن اليهود: ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين). وفى سورة النساء وهى مدنية: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا). وفى سورة آل عمران وهى مدينة: (و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد). فخطة محمد لم تتغير، وتعاليم الإسلام لم تضطرب. لكن هل معنى هذا تحريم الحرب؟ لا . ص _047(1/43)
هل أترك للعادين والسفلة فرصة اغتيالى وحرمانى من حق الحياة وحرية الاعتقاد وأنا مكتوف اليدين؟ لا. هل يسمع المسلمون ضجيج إخوانهم المستضعفين فى مكة ينادون: (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). ثم يسكتون؟ إ! هل إذا وثب الفرنسيون على الجزائر، وذبحوا أهلها فتنادى المسلمون من كل مكان: قاتلوا الجزارين. كان ذلك مسلكا مدهشا؟!! إن المستشرقين جميعا يعرفون ما كابده الإسلام وأهله من اضطهادات كادت تعصف بالحقيقة وحملتها. فهل إذا استطاعوا بالسيف أن يثبتوا، وأن يحتفظوا بأنفسهم ورسالتهم كان ذلك جرما كبيرا؟!! إن الإسلام حارب بالفعل. وهى أشرف حرب خاضها الناس منذ سفك على ظهر البسيطة دم. وما كان له إلا أن يقاتل قاتليه، ويجاهد ظالميه! وذلك ما غاظ المستشرقين الذين كان يسرهم أن يشهدوا مصرع محمد وصحبه وانتهاء الإسلام ورسالته! ومن ثم تدرك قيمة كلمة " جولد تسيهر " بعد ذلك عن: " السيف الدامى الذى رفعه محمد لإقامة مملكته " إنها كلمة ساقطة، ثم هى تعبير مسموم، فإن محمدا لم يقم لنفسه مملكة بل أقام لله دينا قيما استطاع أن ينهض بدعائمه بثروة من قوى الكفاح الحر فى وجه مملكتين ملأتا العالم جورا وغشما. لماذا يبكى المستشرقون ملك الفرس أو ملك الروم الذى قوضناه؟ هل يجرؤ كذوب منهم على الزعم بأن هذه الإمبراطوريات الواسعة لم تكن مقبرة لليقين والحرية والعدالة، وأن خلاص العالم منها كان حسنة أسداها الإسلام واستحق عليها الشكر؟! إنه التعصب والضغن.. وكفى . ص _048(1/44)
الهجوم على السنة: أما السؤال الثالث: فعن قيمة السنة النبوية، ومكانتها العلمية والتاريخية والدينية. وقد أرجأنا الإجابة عن هذا السؤال لعلاقته الوثيقة بموضوع الكتاب. فإن هذا المستشرق يزعم أن الإسلام نما على يد رجاله، وسبيل نمائه الإضافات التى جعلت كيان هذا الدين يكبر إلى حد لم يعرفه محمد نفسه!! وأول هذه الإضافات "السنة" فإن ألوف الأحاديث التى ثبت أن الرسول نطق بها هى من صنع العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من الإسلام دينا كبيرا شاملا، فخلقوا هذه الأحاديث.! والغريب أن الرجل فى سبيل تسويغ هذه الفرية جرت على لسانه هذه الكلمة (ص 31): " إن تعاليم القرآن تجد تكملتها واستمرارها فى مجموعة من الأحاديث المتواترة وهى- وإن لم ترو عن النبى مباشرة- تعتبر أساسية لتمييز روح الإسلام "!! أى أن الأحاديث المتواترة لم تصدر عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. الطعن ليس فى حديث ما إذن، أو فى جملة أحاديث عليها اعتراض قوى أو ضعيف، كلا، إن الطعن فى السنة كلها، المتواتر منها والمشهور والصحيح . ويستأنف المستشرق دعواه فيقول: " إن هذه الأحاديث وغيرها من النصوص المماثلة لها، والتى يسهل علينا جمعها، لا تمثل وجهات نظر خاصة بطبقة سامية الأخلاق فحسب، بل إنها لتعبر عن العاطفة العامة لفقهاء الإسلام " (ص 33). ومن أين أتى فقهاء الإسلام بهذه الأحاديث؟! أو من أين تسربت إليهم العواطف الشريفة التى أنطقتهم بهذه الأحاديث؟! إنهم أقل شأنا من أن ينفردوا بتأليفها. ولذلك يقول: ".. لكن الإسلام خلال توسعه التالى، وبفعل التأثيرات الأجنبية ترك مجالا لدقة العلماء المفتين ولعلماء العقائد ". فالقرآن، نقله الرسول عن الأوائل، والسنة التى تنسب إليه، نقلها أتباع الرسول عن الأجانب، والإسلام صفر.! ص _049(1/45)
هذه نهاية المطاف للتفكير الاستشراقى النزيه جدا، أو هى بتعبيرنا ثمرات التفكير البقرى التافه الشرود..! إذا كان التواتر يجىء بالكذب فمن أين نعلم أن "جولد تسيهر" هذا موجود، وأنه ألف هذا الكتاب؟؟ لماذا لا يكون هو شخصية خرافية، وتكون نسبة هذا الكتاب إليه من اختلاق بعض الخبثاء أو الظرفاء؟ إننا لم نعرف وجوده إلا بالتواتر، فإذا كانت السنة المتواترة مكذوبة فلماذا ننكرها ونعترف بحياته هو؟ إن الرجل يهرف بما لا يعرف، وهو فى حقده على الإسلام يهاجمه بعمى، ولا يتخير مكانا يظن به الضعف ثم يهجم، بل ينطح برأسه كل شىء دون تفريق وهيهات أن يصدع إلا رأسه. كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل إن محمدا ظل قرابة ربع قرن يعظ الناس، ويعلمهم، ويربيهم، ويفتيهم، ويبصرهم بما يدعون ويفعلون. وكان عمله وقوله بداهة يسيران بين يدى الوحى النازل عليه من السماء. وهذا التراث من الأقوال والأعمال تلقفه المسلمون بعناية، ونقدوه بحكمة، والموازين التى وضعوها لقبول السنن وردها لا تعرف الدنيا أدق ولا أعدل منها. وقد رد علماء المسلمين أحاديثا كثيرة نسبت إلى رسولهم، وهذه الأحاديث المردودة لضعف سندها أو متنها، تعتبر أقوى من التراث الدينى الرائج بين اليهود والنصارى. إن "لوقا" روى عن عيسى وهو لم يره، والحديث الذى يروى عندنا بهذه الصفة لا نعترف بقيمته العلمية ولا التاريخية، فكيف يجئ رجل بيته من زجاج أو بيته من خيوط العنكبوت، ليحاول مهاجمة دين حوله سياج من حديد؟ السنة كلها من صنع الناس حتى المتواتر منها..! عفاء على التاريخ والعلم كله إذا كانت قيم الحقائق تتناول بهذا الإرسال الفوضوى.. ولكن الرجل يريد إفهام قومه أن الإسلام من صنع محمد وقومه.! فليطعن فى نسبة القرآن إلى الله، ثم ليطعن فى نسبة السنة إلى محمد.. فإن السنة ليست إلا مظهرا لنمو الإسلام! ص _050(1/46)
وهنا نتساءل نحن: كيف يتصور هذا المستشرق أن الإسلام ينمو؟ إن المقطوع به لدينا وفق النصوص المجمع عليها، أن الإسلام- فى حياة الرسول- اكتمل فى عقائده وعباداته وأخلاقه وأحكامه، ونصوصه وقواعده، وأن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى، وترك الإسلام على هذا النحو، وأن المسلمين من القرن الأول إلى يوم الناس هذا، يعتبرون أى تزيد على هذا الدين بدعة تحارب، ويرفضون من أى مخلوق، ومن أى جماعة، أن يضموا إلى هذا الدين جديدا.. فكيف ساغ لهذا المستشرق أن يركب هذا الشطط..؟!! لقد قال: " إن الرسول كان يتطور مع الزمن، وكان يصطنع وحيا جديدا ينسخ به الوحى القديم كلما لاحت ضرورة ". فإذا كان الإسلام قد احتاج لهذا التغيير فى حياة الرسول نفسه، فهو لن يستغنى عن هذا التغيير بعد وفاته..! هذا هو منطقه، وذلك هو تصوره للنسخ. ولنفرض جدلا أن هذا التصور صحيح ـ مع أنه كذب ـ فماذا يفيده؟ كان الوحى يصطنع "لتطوير" الإسلام على عهد نبيه كما يدعى. لكن الوحى انقطع يقينا بعد موت هذا النبى. ولم يجىء من خلفاءه، ولا من أشياعه من زعم كما زعم "بولس " أن الروح القدس تجلى عليه، وزوده بوحى جديد.. فكيف ينمو الإسلام بعد ما جفت موارد نمائه؟! ومع ذلك تراه يقول فى (ص 41): " إن الرسول نفسه اضطر بسبب تطوره الداخلى الخاص، وبحكم الظروف التى أحاطت به إلى تجاوز الوحى القرآنى إلى وحى جديد فى الحقيقة، وإلى أن يعترف أنه ينسخ بأمر الله ما سبق أن أوحاه الله إليه. فإذا كان الأمر كذلك فى عصر النبى، فمن الأولى أن يكون كذلك- بل أكثر من ذلك- عندما تجاوز الإسلام حدود البلاد العربية، وتأهب لكى يصير قوة دولية. إننا لا نفهم الإسلام بلا قرآن، لكن القرآن وحده بعيد عن أن يكفى لمواجهة العقلية الإسلامية النامية فى سيرها التاريخى. قال: " وسندرس عن كثب فى الأقسام المقبلة أطوار نموه التى تجاوزت حدود القرآن " نقول: ونحن بدورنا سنتابع الرجل فى إفكه لنفضح هذا الجهل(1/47)
المركب.! ص _051
الفصل الثانى تطور الفقه الإسلامى عموم الرسالة وخلودها. هل استفاد المسلمون شريعتهم من الأمم المفتوحة؟!. كيف ثبتت السنة!. مزاعم جريئة. هل هذه أحاديث موضوعة؟. بين الشريعة الإسلامية والقانون الرومانى. هل استفاد الفقه الإسلامى من الرومان؟. هل أبو حنيفة عدو المرأة. حول تحريم الخمر. ص _052
تطور الفقه الإسلامى تحت هذا العنوان رغب المستشرق الكبير أن يشرح لنا كيف نما الفقه الإسلامى. ونمو الفقه حقيقة نعترف بها مفاخرين، فهى آية على صلاحيته للحياة، واستجابة أصوله لتجدد الزمان، وأقضية الناس. ومعنى نمو الفقه أن التمثيل كثر لقواعده، وأن الإنتاج زاد لأقيسته، وأن المصالح المتنوعة ضبطت بتعاليمه، وأن النشاط الإنسانى العام للأمة الإسلامية لم تعوزه المبادئ التى يسير بها فى أى ميدان.. هذا هو المعنى المتبادر لأذهاننا عند أى كلام عن تطور الفقه.. لكن المستشرق الخطير باغتنا بكلام من لون آخر، لم يخطر لنا ببال، ولا أظنه خطر ببال مسلم منذ قام الإسلام..! لقد نقل من رواية "لأناتول فرانس " هذه الجملة: إن من يؤسس دينا لا يدرى ماذا يفعل "! قال: وهذه الكلمة تنطبق أفضل انطباق على محمد.. فمحمد عندما جاء بالإسلام لم يكن يدرى- كما يتصور جولد تسيهر- أن دينه سينتشر. ولم يكن يدرى على- فرض انتشاره- أنه سيدخل هذه البقاع الفسيحة من أرض الله. وتبعا لعدم الدراية بهذا السير للإسلام، وعدم الإدراك لامتداده هنا وهناك لم يزوده محمد بالأصول المناسبة لهذا التوسع.! ولم يجعل فى فقهه من الرحابة أكثر مما يتسع لبعض العرب الذين آمنوا به فى حياته هو فقط. أما أنه جاء بأصول فقهية تتسع للأمكنة والأزمنة فلا.. إن محمدا لم يكن يدرى ما يفعل.. إ! بهذه العبارة الصبيانية بدأ "جولد تسيهر" بحثه العلمى الممتع..! فى تطور الفقه الإسلامى. وبهذه العبارة الصبيانية مهد لفكرته أن الإسلام من صنع الصحابة والتابعين وغيرهم . ص _053(1/48)
عموم الرسالة وخلودها: ولا أدرى كيف تماسك هذا السخف فى ذهن الرجل؟ فهو دارس للقرآن والسنة، وكل دارس لهما يستيقن من أمور: أولها: أن محمدا عندما طلع على الناس برسالته لم يذكر لقومه أنه خاص بهم أو مقصور عليهم، حتى فى المآزق المتضايقة التى مرت به وبمن تبعه، بقى مصرا على أن رسالته للعالمين، وأن دعوته للناس أجمعين.. نعم، كان مصرا على أن الإسلام ليس دينا محليا يتصل بهؤلاء العرب وحدهم، بل هو دين يعنى كل من بلغه من خلق الله، ويكلف كل ذى سمع وبصر باتباعه. وكان مصرا على أنه أوسع دائرة من الأنبياء الذين سبقوه كلهم، فهم يهدون من حولهم من الناس فحسب. أما هو فبعثته عامة للثقلين كليهما. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ".. كان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" . والنصوص والشواهد على ذلك من الكتاب والسنة معروفة، لا نتوسع بذكرها.. ثانيا: أن هذا الرسول كان يدرى أجود دراية أن دينه سيعلو، وأن العوائق أمامه ستذوب، وأن شيئا ما لن يثبت أمام امتداده، وأن السلطات التى تناوئه، وترهب أتباعه، ستتداعى سلطة بعد أخرى، وأن الشبهات التى توارثها الحائرون ستنجلى غيومها غيمة أثر غيمة. وقد أكد القرآن هذه الحقيقة فقال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون). وقال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا …) ص _054(1/49)
وكان الصحابة يسمعون من رسولهم أن الأرض ستستسلم لهم، وأن فلك كسرى وقيصر سيتلاشى بين أيديهم. أجل، لقد سمعوا هذا الرسول يحلف: "والله لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله " . ولقد انطلقوا بعد موته إلى هذه الإمبراطوريات الشاهقة، وكأنهم على موعد مع الفتح، ما خالجتهم ريبة فى أن النصر مكتوب لهم.. حين رأى المسلمون إيوان كسرى يلوح أمامهم أبيض ناصعا، تذكروا وعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - على ما رواه مسلم، عن جابر بن معمرة- أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "عُصيبة من المسلمين يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى " أو آل كسرى، فقويت قلوبهم، وعظمت همتهم، وازداد إقبالهم، واشتاقت نفوسهم إلى أن يكونوا تلك العُصيبة، ونادى ضرار بن الخطاب " الله أكبر" هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد الرحمن وصدق رسوله، وكبر المسلمون وفتحوا المدينة. ونزل سعد إلى القصر الأبيض، واتخذه مصلى، وصلى وقرأ فى صلاته قوله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين ) إنه ليس ملك كسرى وقيصر فقط، بل العالم أجمع سوف يهتدى إلى الإسلام، ويستريح إلى هديه، ويكسر القيود التى تحجزه عنه، كما روى أحمد وغيره عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل.. عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر" . فكيف يقال بعد هذا وذاك أن محمدا لما أسس دينه لم يكن يدرى ما يفعله، ولا ما يصير إليه أمره، ولا أن العالم سيدخل فيه؟ وكيف يرتب "جولد تسيهر" على هذا الوهم أن الإسلام ليست به الصلاحية الفقهية كى يشرع للأم والأجناس، إنه كسيارة، ملأها صاحبها "بجالون من البنزين " يكفى للسير عشرين أو ثلاثين ميلا ثم ينتهى الوقود، وتقف الرحلة، وعلى من يريد استئناف السير أن يجىء بوقود من عنده!(1/50)
فقد نفد البنزين ومات السائق...!! ص _055
لا شك أن المستشرق المجرى شرب جالونا من الخمر عندما سطر هذا اللغو.! وليس العجب ما ذكرنا إنما العجب فى تفسير الرجل لتراث الإسلام، فالمعروف لكل من يجيد القراءة والكتابة أن الإسلام يقوم أولا على الكتاب والسنة. وأن الكتاب الكريم من الناحية الفقهية حافل بمئات الآيات التى تعرضت لفنون التشريع المختلفة، وأن السنة تضمنت ألوف الأحاديث التى خاضت فى جزئيات الحياة الفقهية، وفصلتها تفصيلا.. ثم إن ارتباط الأحكام الواردة والفتاوى المروية بأنواع من الحكمة والمصلحة المعتبرة مهد للقياس، وجعل أولى الألباب يعدون ما عرفوا من أحكام إلى ما جد من صورة مشابهة.. وبهذا لم يعجز الإسلام البتة عن مواجهة موقف، أو تصريف شأن، وساس أحوال الأم الداخلة فيه سياسة لم يعرف لها نظير فى الأصالة والكياسة، فانظر ماذا صنع هذا المستشرق لما رأى هذا النجاح... إن حقده البشع مسخ نظرته، فعاد إلى تصوره الخمور يدعى أن محمدا لم يكن يدرى ما يفعل. إذن ما هذا الاستبحار التشريعى القائم على سنة محمد وتراثه؟! * * * هل استفاد المسلمون شريعتهم من الأمم المفتوحة؟ يقول "إن المسلمين لما فتحوا هذه البلاد، حكموها بما فيها من تقاليد وقوانين، بعد أن حوروا هذه التقاليد والقوانين، وأضفوا عليها من عندهم صبغة دينية، ثم جعلوها أحاديث شريفة ونسبوها إلى نبيهم "! هذا هو التطور الفقهى فى نظره!. التطور الفقهى هو تواطؤ ألوف من الناس على تزوير عشرات الألوف من الأحاديث، ونسبتها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.!! هذه هى الدراسة الحصيفة للأديان. القرآن من وضع محمد نقلا عن غيره!. والسنة من وضع الصحابة والتابعين نقلا عن غيرهم!. والإسلام بذلك صفر!!.. ص _056(1/51)
قد يجيز العقل أن يستدين فقير من غنى، وأن يستعين ضعيف بقوى.. وصور التعاون بين الأفراد، وصورة الاقتباس والاستعارة والاستفادة بين شتى الحضارات والجماعات الإنسانية معروفة فى التاريخ القديم والحديث.. غير أن العقل يحكم باستحالة التلاقى والاستمداد يوم يكون التكافؤ معدوما بين الطرفين. فمن الحماقة أن يقال: إن "أرسطو" أخذ أفكاره من أحد الخبازين فى أفران أثينا، أو أحد الخمارين فى حاناتها!. . ومن الحماقة أن يقال: أن "فورد" أخذ ثروته من متسول فى إحدى كنائس أمريكا. ومن الحماقة أن يقال إن: "محمدا" ألف قرآنه بمعونة أحد الخواجات النازحين إلى مكة يطلبون الرزق!! إن هذا البيان الساحر بفحواه، القاهر بمبناه، يعجز العرب الأئمة عن الإتيان بآية مثله. فكيف بنازح أعجمى؟! (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين). ونحن نستطرد مع هذا المنطق المفعم بالبداهة، لنتناول بالرد المفحم قضية أخرى أثارها المستشرق "جولد تسيهر" وزعم فيها أن سنة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن هى إلا نقل آداب وحكم وأقاصيص ومواعظ عن الأم السابقة- والفصل الذى كتبه عن السنة ملىء بهذا الزعم! الغريب- بل هو يقول: "هناك جمل أخذت من العهد القديم والجديد، وأقوال للربانيين مأخوذة من الأناجيل الموضوعة، وتعاليم من الفلسفة اليونانية. وأقوال من حكم الفرس والهنود، كل ذلك أخذ مكانه إلى الإسلام عن طريق الحديث " (ص 51). ونحن سنرد بتفصيل على المفتريات التى زحمت هذا الفصل، والتى تدور كلها على أن السنة من وضع العصور الإسلامية اللاحقة، لا من كلام الرسول وفعله!! وقبل أن نرد نحب أن نقدم بكلمات بين يدى هذا الموضوع: إن البون بعيد جدا بين الإسلام والديانات التى سبقته، وبعيد جدا بين الأمة الإسلامية التى قامت به، والأم الأخرى التى عاصرتها أو تقدمت عنها.. وهذا المستشرق يريد أن يوهم بأن الدين الجديد اقتبس أو نقل من(1/52)
النحل والفلسفات الأخرى وبخاصة اليهودية والنصرانية. ص _057
وأن أمته لم تزد عن أن تكون جسرا للمعارف والآداب الأولى، وإن ادعت لنفسها الجدة والابتكار... ونقول: إن العقل كان يمكن أن يجيز هذا التوهم لو كان السابق أغنى من اللاحق وأقدر... لكن إذا كان الدين الذى أتى به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوسع أقطارا وأرحب آفاقا مما سبقه، فكيف يتصور أن يأخذ الغنى من الفقير وأن يستعين القادر بالعاجز؟!. إن التوراة لم تتحدث عن الدار الآخرة- أعنى الصحف التى بين يدى اليهودى الآن- فهل ما حفل به الإسلام من حديث عن الدار الآخرة، وعن الجنان وما فيها من مثوبة، والنيران وما فيها من عقوبة، مأخوذ من التوراة؟! والنصرانية- كما يعلم الجميع- عقيدة لا شريعة، فهل ألوف الأحاديث التى نظم بها الإسلام الحياة العامة، وخاض بها فى أدق التفاصيل، وصاغ منها شريعة جامعة رائعة، هل هذه مأخوذة عن النصرانية؟! والوحدانية المطلقة التى أسندت إلى الله صفات الجلال والجمال والكمال، والتي أبعدت عنه كل شبهة تلحقه بالبشر، أو تلحق البشر به (.. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم). هل هذه الوحدانية اقتبسها الإسلام من التثاليث الكنسية، أو من الأوصاف البشرية التى راجت فى العهد القديم عن الله؟! إننى عندما أردت تأليف كتابى "خلق المسلم " انتقيت من سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الأخلاق العملية قرابة ألف حديث، لم تدع منزعا من منازع السلوك البشرى إلا هيمنت عليه وهذبته، و!إنك إذا أردت أن تستعرض الامتدادات الأخرى للإسلام فى أية ناحية عبادية أو تشريعية، وجدت نفسك تجاه ثروة طائلة هائلة من الأحاديث المروية عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتى تضمنتها مجلدات ضخمة.. ثروة لم يعرف عشر معشارها لرجل من قبل أو من بعد. فبأى فكر يتصور امرؤ أن الإسلام المكثر الممتلئ يمد يده إلى(1/53)
المقلين العجاف يتسول منهم فكرة، أو ينقل عنهم مبدأ؟! إن الملامح العلمية التى تفرد بها الإسلام، والتى تميز شخصيته تمييزا حاسما، لا حصر لها فى أصليه العظيمين الكتاب والسنة فكيف يحاول رجل مثل "جولد تسيهر" أن يوهم الناس بأن الإسلام ناقل عمن سبقوه؟!. ص _058
ناقل عمن؟. إن صاحب القصر الشاهق لا ينبغى اتهامه بأنه عفر داره السامية من لبنات الأكواخ المتداعية حوله. وإنه لمن السخف بمكان أن يقال: نقلت السنة النبوية عن الأم السابقة الواهنة التى عاصرت النبوة!! إن هذا الجهل يشبه القول بأن أرسطو نقل أفكاره- كما ضربنا المثل- عن خباز أو خمار. إن الأمة التى صنعها الإسلام بوأتها أصوله العلمية مكانة لم تعرفها أمة من قبل، وقد ارتفع المستوى العلمى للمسلمين إلى حد جعل تفوقهم الأدبى والعسكرى معجزا لغيرهم عدة قرون. فالعرب- بالإسلام- خلفوا الرومان والفرس على أول الطريق. ومضوا هم يقطعون مراحله أشواطا بعد أشواط. كانوا أساتذة وغيرهم تلامذة. ومضى قرن بعد قرن، وهذه الصدارة الأدبية للمسلمين مقررة. وبرغم التجمع الصليبى الهائل الذى انقض على المسلمين إبان فرقتهم فإن أوروبا بقضها وقضيضها لم تستطع أن تعود منه إلا بخفى حنين.! فكيف يقال: إن الإسلام سرق المبادئ والشرائع التى كانت عند الآخرين ونسبها لنفسه؟! إن هذا المستشرق مغرق الخيال فى افترائه على الإسلام، ورغبته فى تجريده من كل خير، ونسبة كل خير إلى قومه وحدهم، أو إلى قومه وأشباههم... قد يكون هناك تشابه بين تعاليم الإسلام والديانات السماوية الأولى.. ولا غرابة فى ذلك، فالله الواحد، مصدر كل هذه التعاليم. وأصول الحق لا تختلف مع اختلاف الأعصار والأمصار. بيد أن هذا التشابه لا يعود إلى أن الإسلام قلد غيره.. ونحن المسلمين نعد الكتاب والسنة هى المراجع التى يحتكم إليها. فما كان موافقا لها فهو الحق، وما خالفها نبذناه، ولا كرامة.. ص _059(1/54)
وقد حاولت بعض الإسرائيليات والنصرانيات واليونانيات أن تتسرب إلى الإسلام، وأن تأخذ فى ظله أو تحت عنوانه شيئا من الوجاهة والقبول. بيد أن العلماء أعلنوا على هذه المرويات الدخيلة حربا شعواء. وما تزال إلى الآن فى مظانها موضع زراية العلماء وإنكارهم.. وليس هذا لأنها تنتسب إلى دين سابق، كلا. بل لأن ثبوتها العلمى مطعون فيه.. أما ما نسب إلى هؤلاء الأنبياء فى كتاب ربنا وسنة نبينا فهو حق. وقبوله دين.. لكن هل وجود شىء من أخبار الرسل الأول فى كتاب الله وسنة رسوله يعنى أن الإسلام منقول عن الأولين؟. لا. إن موسى وعيسى ومحمدا اخوة، كلهم مبلغ عن الله، وبعضهم يصدق البعض الآخر... أما أتباع الرسل فقد ينحرفون عن الطريق، والوحى الإلهى يردهم إلى الصواب. والإسلام هو كلمة السماء الأخيرة، وحكمها الخاتم فيما كان ويكون. هل يراد منا تصور أن محمدا مدع للنبوة، وأن دينه مجموعات ملفقة ممن سبقوه؟ اطلع عليها ونسبها لنفسه. (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون). ما هى روافد هذا العلم، وأين يجد الناس منابعه فى هذه الأرض؟ أكانت أفكار التوحيد تنبت بين أوثان الجزيرة وأحجارها؟! أم كانت آيات العدل تُقتبس من غطرسة الأكاسرة المجوس؟! أم أن وضع أصول الوحدة يجىء من اختلاف الكنائس المسيحية وانقساماتها؟ ثم هب أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ استوحى أصول دينه العظيم من الأرض لا من السماء. ماذا يستتبعه هذا الفرض مما يصادم العقل والواقع؟ النتيجة الغريبة هى أن قرآنا بشريا استطاع أن يقوم بدعوة لتوحيد الله فى أسلوب من القول والتوجيه لم تستطعه كتب السماء نفسها، وأنه خدم الدين بما لم يفعله رب الدين نفسه. ص _060(1/55)
أفهذا منطق؟! أفهذا الدين وضع محمد؟! (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون). من خصائص الإسلام أن أصوله العلمية ظفرت بصيانة فريدة أبقتها إلى آخر الدهر مستعصية على التبديد والتحريف. فالقرآن منذ نزل من عند الله حتى الساعة محفوظ من أول حرف فيه إلى آخر حرف منه... تتوارثه القرون بطريق التواتر، وهو طريق فوق الشك والريبة، إذ هو مجىء الخبر عن طريق جموع، يحكم العقل باستحالة تواطئها على الكذب. ونستطيع القول بأن القرآن هو الكتاب الفذ الذى حبته العناية العليا هذه الخاصة، وليس بين أيدى الناس كتاب من الأرض، أو من السماء حصنته كل هذه الضمانات.. ثم هناك السنة، وهى المصدر الثانى لتعاليم الإسلام. وقد لقيت هى الأخرى من عناية الأمة الإسلامية ما يجعلها مستيقنة فى الجملة. كيف ثبتت السنة؟ ولما كان بعض الناس ضعيف الدراية بطبيعة هذا المصدر فنحن نشرحه بكلمات وجيزة. ونسارع إلى القول بأن التاريخ لم يحك عن أمة من الأم أنها احتفت بآثار نبيها، واستقصتها وغربلتها، ووضعت أدق القوانين العلمية لقبولها، مثل ما فعل المسلمون بتراث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول وفعل وقضاء وتقرير. وليس فى دين من الأديان، ولا مذهب من المذاهب هذا الوزن العجيب للأسانيد والمرويات، وهذه المحاكمة المنصفة لما ينقل عن صاحب رسالة.. ص _061(1/56)
من السنة ما هو متواتر لا يقل فى ثبوته عن القرآن الكريم نفسه كهيئات الصلاة مثلا. ومنها ما هو متواتر المعنى. أي أن النقول تجىء بوقائع شتى، وألفاظ متفاوتة، ولكن ينتظمها جميعا قدر مشترك من المعانى.. ومنها ما جاء بأسانيد آحاد. والإسناد- وإن شاع الجهل به الآن- إلا أنه شىء خطير فى حقيقته وأثره. ولذلك قال العلماء: الإسناد من الدين لولاه لقال من شاء ما شاء!! وذلك أن المسلمين متفقون على أن ما أمر به الرسول، أو نهى عنه يجب أن نطيعه فيه. فذلك حقه بل حق الأنبياء كلهم: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ). والاجتهاد بين الناس إنما يحدث فى معرفة هل قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك أو لم يقله.. ولا شك أن العقائد كلها، وجمهرة الأحكام التى هى عماد الدين بلغت الناس بطرق مشهورة لا محل للجهل بها. بيد أن هناك أحكاما جاءت عن طريق سنن الآحاد التى أشرنا إليها آنفا. ونحن هنا نريد أن ننظر بإنصاف، وفى حياد تام إلى أسلوب المسلمين فى تلقى هذه السنن. هل هو أسلوب يتسم بالمجازفة والتراخى، أم هو أسلوب يتسم باليقظة والدقة؟؟ ولنضرب مثلا بالأخبار التى تذاع عن الرؤساء الكبار فى عصرنا!. هب أن مستشار رئيس الولايات المتحدة أدلى بتصريح عن رأى الرئيس فى قضية ما، فنقل هذا التصريح رجل من الحاشية، ثم تلقفه أحد الصحافيين فنشره، ما تكون قيمة هذا الخبر؟ نجيب بأنه يحتمل الصدق والكذب، ولا يترجح إلى إحدى الناحيتين إلا إذا عرفنا قيمة المصدر الذى أتى منه هذا النبأ. فإذا عرفنا أن الخبر نقلته الصحيفة بالفعل عن رجل الحاشية، عن مستشار الرئيس مباشرة، وكان كل واحد من هؤلاء مشهورا بأمرين : الضبط التام لما يسمع، والصدق التام فيما ينقل. فما يكون رأينا فى هذا الخبر؟ أنصدقه أم نكذبه؟ الجواب: أننا نتجه إلى تصديقه. وذلك هو ما يطلب علماء المسلمين توافره فى الخبر ليكون صحيحا، وتُقبل نسبته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ص(1/57)
_062
بل هم يزيدون إلى هذا أمرين آخرين: لقد اطمأنوا إلى الخبر من ناحية مصدره، أعنى الرواة الذين نقلوه، لكن الخبر نفسه ما هو؟ إنه قد يكون مخالفا لما استقر بطريق أوثق، فإذا كان مخالفا، عُدَّ شاذا، ووقع التوقف فيه. ثم قد تكون هناك علل أخرى خفية تتسرب إلى الحديث المروى فترفع الثقة به، ولا يعد الحديث صحيحا، إلا إذا برىء من سائر هذه العلل القوادح. ثم ماذا بعد هذه الاشتراطات كلها؟ إن الحديث بعد أن نطمئن إلى سلسلة الرواة الذين نقلوه، وأنهم أمناء واعون، وأن كل واحد منهم تلقى عن الآخر تلقيا مباشرا، وأن ما نقلوه متفق مع ما عُلم من الدين بالطرق الأخرى، وليست هناك علة فيه، هذا الحديث يفيد العلم الظنى، أى أنه ليس مصدرا للعقائد الدينية وإنما مجال الأخذ به فى الأعمال الشرعية الأخرى... هل فى الدنيا تدقيق وتحقيق وراء هذا المسلك؟.. هل عرف دين من الأديان هذا المنهج فى نقد ما ينسب إلى رئيسه؟ ومع ذلك يضع أحد المستشرقين قدما على أخرى، ثم يمسك بالسنة النبوية ويرمى بها فى البحر، قائلا فى استخفاف شائن: إن نسبتها لصاحب الرسالة غير صحيحة، سواء فيها ما كان متواترا، وما كان مشهورا وما كان صحيحا، أو ما كان بين الصحة والضعف.!! إن علوم السنة- وهى تلك التى تولت الحفاظ عليها- لا نظير لها فى دين آخر. فهل يدرى المستشرق الذى ينظر بقلة اكتراث إلى ثبوت السنة، كيف تثبت المعارف الشرعية فى نحلته؟! إنه مسكين، لا يدرى شيئا إلا أن يهاجم الإسلام، وإلا أن يردد لحساب التبشير الذى أعماه الحقد، أن القرآن من تأليف محمد، نسبه إلى الله. وأن السنة من تأليف الناس نسبوها إلى محمد. وأن كلا من الكتاب والسنة واردات أجنبية نقلت إلى البيئة العربية، لأن العرب جهال لا مكانة لهم فى هذا العالم . . هذا هو البحث الحر المحايد النزيه.!! ص _063(1/58)
مزاعم جريئة: والمستشرق الخمور، يسطر هذا الهذيان لا على أنه قىء حاقد صغير، بل على أنه علم محايد نزيه.. واسمع قوله (ص 44): " كانت تطورات التفكير الإسلامى ووضع الأشكال العلمية له وتأسيس النظم، كل ذلك جاء نتيجة لعمل الخلف التالين، ولم يتم كل هذا بدون كفاح داخلى وتوفيقات، وهكذا يظهر غير صحيح ما يقال من أن الإسلام فى كل العلاقات جاء إلى العالم طريقة كاملة، بل على العكس فإن الإسلام والقرآن لم يتمما كل شىء بل كان كمال لعمل الأجيال اللاحقة". ويقول ماضيا فى هرائه (ص 44): " القرآن نفسه لم يعط من الأحكام إلا القليل، ولا يمكن أن تكون أحكامه شاملة لهذه العلاقات غير المنظرة مما جاء من الفتوح، فقد كان مقصورا على حالات العرب الساذجة، ومعنيا بها بحيث لا يكفى لهذا الوضع الجديد"!! أى أن الإسلام لم يكمل أيام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لم يحتو إلا على طائفة من الأحكام تلائم العرب السذج وحسب. وهذا كذب صراح، فإن الإسلام بلغ تمامه أيام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والمسلمون مجمعون على رفض أية إضافة تجىء بعده، ويعتبرونها ضلالا، وهم يعرفون أن فى كتاب ربهم وسنة نبيهم الكفاية المطلقة لكل تشريع تحتاج إليه العصور.. ويقول متابعا هجومه على السنة (ص 48): "كان العمل أو الحكم يعد سليما عندما يمكن إثبات أنه متصل فى سلسلة من الرواة بمرجع أخير من الصحابة، شهد ذلك وسمعه من الرسول. وبهذه الأحاديث صارت التقاليد سواء فى العبادة أو القانون محلا للتقديس. بعد أن بحثت قيمتها ، كأنها قد استعملت تحت عين الرسول ووافق عليها- بما له من الحق فى ذلك- هو والمؤمنون الأولون ". ثم يقول- مصطنعا دقة البحث- (ص 49): " ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول، أو هى من عمل رجال الإسلام القدامى ! ص _064(1/59)
ولكن من ناحية أخرى، فإنه ليس من السهل تبيين هذا الخطر المستجد، ومع بعد الزمان والمكان عن المنبع الأصلى، بأن يخترع أصحاب المذاهب النظرية والعملية أحاديث لا ترى عليها شائبة فى ظاهرها ويرجع بها إلى الرسول وأصحابه " ثم يقول: "والحق أن كل فكرة وكل حزب، وكل صاحب مذهب، يستطيع دعم رأيه بهذا الشكل، وأن المخالف له فى الرأى يسلك أيضا هذا الطريق، ومن ذلك لا يوجد فى دائرة العبادات، أو العقائد، أو القوانين الفقهية أو السياسية مذ هب أو مدرسة لا تعزز رأيها بحديث أو جملة أحاديث، ظاهرها لا تشوبه أية شائبة.. "!! أما باطنها، فمختلق كما يريد المستشرق أن يقول، مختلق من صنع الأمة الإسلامية التى تواطأت عامدة على التهام الأفكار التى وجدتها فى البلاد المفتوحة، ثم زعمت أن هذه الأفكار كلها من عمل رسول الإسلام!! وهو يؤكد ذلك مرة أخرى فيقول (ص 51): "من ناحية التطور الدينى الذى نعنى به هنا لا يهمنا "الحديث " من ناحية شكله النقدى، وإنما يهمنا من ناحية التطور، كما أن صحته وقدمه تجىء متأخرة عن معرفة أن الحديث تتجلى فيه جهود الأمة الإسلامية فى عملها الشخصى الخالص ونرى ذلك كله من الأمثلة الكثيرة للأغراض التى لم تكن موجودة فى القرآن.. ذلك بأنه لم تندمج فى "الحديث " أمور القانون والعادات والعقائد والأفكار السياسية وحسب، بل قد لف فيه كل ما يملكه الإسلام من محصوله الشخصى، وكذلك الأمور الغريبة عنه، بعد أن غير هذا الغريب المستعار تغييرا أبعده عن أصله المأخوذ منه، وضم ذلك كله إلى الإسلام "!!. ثم يقول (ص 52): "وهكذا صار الحديث إطارا للأفكار الدينية والخلقية فى الإسلام، وتطوراته القديمة، وفيه ظهر تطور المبادئ الأخلاقية، التى وجدت أسسها من قبل القرآن... " أ. هـ * * * * هل هذه أحاديث موضوعة؟ ومن حسن الحظ أن الرجل أراد أن يضرب لنا أمثلة، أو يسوق نماذج، لتطور التفكير الفقهى فى مجالات العقيدة والخلق والسياسة.. فلننظر إلى(1/60)
ما صنع، لنرى الأطوار التى زعم وجودها، وتتابعها فى هذا الدين. قال (ص 53) : ص _065
" وسأذكر مثالا واحدا له أهميته لتقدير الأفكار الدينية فى الإسلام فحسب، مذهب القرآن فى التوحيد يعد الشرك أكبر الذنوب، ولا يغفره الله تعالى. وفى تطور هذا التصور الاعتقادى الأول- كما يظهر فى الحديث- نرى أنه لا يدل على الشرك تشويه العقيدة فقط، بل كل ضرب من العبادة يشتم منه أن تمجيد الله غير مقصود لذاته.. فالرياء لا يتفق مع التوحيد، وكذلك بعض الذنوب الكبيرة، فهى نوع من الشرك " أ.هـ. أى أن حديث "الرياء شرك " لم يقله الرسول، بل هو تطور من صنع الناس، نما به معنى التوحيد الأصلى واتسعت دائرته.. وكذلك حديث "إنما الأعمال بالنيات " قال هذا المستشرق عنه: إنه من صنع الناس. ألفه فى وقت متأخر ناس طيبون، ليحاربوا ما شاع من مظاهر التقوى الكاذبة.!! وهذا الكلام باطل كله، وقد أسسه على الزعم بأن مذهب القرآن فى الشرك يخالف تلك الامتدادات، التى ظهرت بعد فى السنة. وأدنى تأمل فى حديث القرآن عن الرياء، يكشف غباوة هذا الاستنتاج. فالقرآن الكريم قرن الرياء بالكفر فى غير موضع. ففى سورة البقرة: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر). وفى سورة النساء، يعلن الله كراهيته لكل مختال فخور، ممن يضنون بمالهم فى وجوه الخير ثم يعطف عليهم: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا). ثم يتبع تقريع المرائين بهذا التساؤل: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما). وفى نهاية سورة الكهف، وصف بالشرك لمن يبتغى بعمله وجها آخر مع الله: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا). ص _066(1/61)
وسبب نزول الآية أن الرسول سئل عن الرجل، يعمل لله، ويحب أن يراه الناس، فسكت، وتكلم الوحى بما أثبتنا. فأين هذا التطور المزعوم فى وصف الرياء، وبيان ما انطوى عليه من إثم؟ إن المقدار المقرر لما تضمنه من سوء لم يزد خردلة فى عصرنا هذا عما كان فى عهد نزول الوحى..! ذلك، والقرآن الكريم يبنى قيمة العمل على النية المصاحبة له. فيقول فى نفقات الكفار والظلمة: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته). ويقول عن المؤمنين المخلصين: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين). وقد رأيت كيف احتقر الرياء وأهله، فما هو التطور فى الفقه الإسلامى الذى دفع المؤمنين فى عصور متأخرة إلى اختلاق حديث "إنما الأعمال بالنيات " كما يزعم هذا المستشرق؟ إن المعنى هو هو، لم يزد شيئا من بدء الإسلام، فأين هو النمو الزمنى الذى جعل المعني يربو ويتطور؟.. اللهم لا شىء.. إن هذا المنهج فى البحث يزهدنا فى متابعة الكاتب، ويرخص جميع النتائج التى يبلغها! وما عساك ترقب من رجل يبذل قصاراه فى إثبات أن الإسلام ليس بدين؟ فيزعم أن القرآن كلام اختلقه محمد، ونسبه إلى الله، وأن السنة أحاديث افتعلها الناس، وأودعوها تجارب الآخرين وتقاليدهم، ثم نسبوها إلى محمد..! أى أن الأرض محمولة على قرن ثور، وأن الزلزال حركة انتقالها من الأيمن إلى الأيسر..! إلى آخر التفكير البقرى الاستشراقى الذى يعلل للخرافة بخرافة أخرى، ثم يدعى أنه لم يجىء بهراء..، بل جاء ببحث علمى نزيه..!! ص _067(1/62)
بين الشريعة الإسلامية والقانون الرومانى : ويمضى "جولد تسيهر" يحاول أن يسلب الإسلام فضائله، بل يحاول أن يسلبه دعائمه ومعالمه، فيزعم أن التشريع الإسلامى مستمد من القانون الرومانى، وأن المحققين ثبت لديهم هذا.!! وكنا نعذر المستشرق الواهم لو أن القانون الرومانى والتشريع الإسلامى يتفقان فى المنابع والغايات، أو يتشابهان فى الحقوق والواجبات، أو يتقاربان فى المبادئ والعقوبات. أما والشريعة الإسلامية تناقض القانون الرومانى فى القيم الخلقية والاجتماعية، وتخالفه مخالفة واسعة الأمد فى النظرة إلى الإنسان، وإلى الحياة كلها، فإن القول باستفادة الفقه الإسلامى من الرومان قول بين البطلان. الفقه الإسلامى يستقى أولا وآخرا من الوحي، وقد أمده الكتاب والسنة بأحكام كلية وجزئية لا تحصى، أحكام تتناول الإنسان من نعومة أظفاره إلى مثواه الأخير. فمن ساعة الميلاد إلى حين التكفين، توجد نصوص فقهية تحدد العمل الواجب. ومن يقظة الإنسان مع الفجر إلى هجعته فى فراشه كذلك. ومن صلته بجاره إلى اتفاقه مع غيره على تنصيب رئيس الدولة. إن التشريع الإسلامى تغلغل فى كل شىء حتى أصبح من لوازم المجتمع الإسلامى فى القرى والمدائن، فتدرس الشريعة "كلها عباداتها ومعاملاتها"، وأن يعرف الخاصة والعامة أمور دينهم كلها. ولم توجد فى الحضارات أثر القديمة أمة كتبت فى الفقه، واشتغلت بالشئون التشريعية إلى حد الإسراف مثل ما أثر ذلك عن الحضارة الإسلامية والأمة الإسلامية. فكيف يقال: إن المسلمين نقلوا عن غيرهم؟! إن الفقه الرومانى لا يعدو أن يكون تنظيما ضيقا، خطؤه أكثر من صوابه، لمجتمع تحكمه علاقات فوق البدائية حينا ودونها، حينا آخر. فالقول بأن التشريع الإسلامى نقل عنه كالقول فى زماننا هذا بأن أمريكا نقلت حضارتها عن الكونغو، أو أن البحر الأبيض يأخذ مياهه من بحيرة مريوط!!. ومع ذلك فـ "جولد تسيهر" يقول : ص _068(1/63)
"وليس غريبا أن تكون هذه التعاليم الفقهية والتفصيلات المستعملة قد تأثرت كذلك بثقافات أجنبية، كما أن المعارف الفقهية، الإسلامية تحمل على سبيل المثال- كما حقق ذلك البحث الحديث تحقيقا ثابتا- آثارا غير منكورة من الفقه الرومانى، سواء فى ذلك من ناحية الطريقة، أو من ناحية الأحكام الفرعية"!! وتأثر الفقه الإسلامى بالفقه الرومانى فرية فندها العلماء فور إشاعتها. وكتبت فى ذلك رسائل دقيقة . وقد نشرنا فى كتابنا "حقوق الإنسان.. " كلاما نفيسا للأستاذ "فارس الخورى" رد هذه الشبهة، ويسرنا أن ننشر هنا ردا آخر للأستاذ "صليب سامى" يلقى نورا على الموضوع. ونحن فى كتبنا كلها نحتفى بآراء المنصفين من النصارى العرب، ونحمد ما تنطوى عليه من شرف وصدف. قال الأستاذ "صليب سامى" متحدثا عن الشريعة الإسلامية والقانون الدولى الخاص: "قرأت فى "الأهرام " تحت عنوان "الشريعة الإسلامية ومحكمة العدل " أن صديقى معالى "حافظ رمضان باشا" ؟ وزير العدل فى الحكومة المصرية، قدم لجامعة الدول العربية عن طريق سعادة أمينها العام صورة من التقرير الذى رفعه الوزير بوصفه رئيسا لوفد مصر لدى ، لجنة المشرعين فى واشنطن، التى انعقدت لوضع مشروع قانون محكمة العدل الدولية، وأن معالى الوزير طالب اللجنة فى تقريره المشار إليه بتمثيل الشريعة الإسلامية فى محكمة العدل الدولية، كنظام قانونى مستقل، مستندا فى طلبه هذا إلى ما قرره مؤتمر القانون المقارن الذى عقد فى مدينة لاهاى سنة 1938 من أن الشريعة الإسلامية هى نظام قانونى مستقل، غير مأخوذ من التشريع الرومانى. ولاشك عندى فى صحة قرار المؤتمر المشار إليه. ولست أحاول هنا تأييد قراره الذى أعده من البدهيات، لأن القانون الرومانى قائم على أساس سلطة رب الأسرة الذى أنزله هذا القانون منزلة الآلهة، فجعل له على أعضاء أسرته من زوجة وأولاد، ومن انتسب إلى أسرته من نساء بالزواج، ومن رزق بهم من ص _069(1/64)
حفدة... السلطان الكامل، بما فى ذلك حق الموت، كما جعل له على أموال هؤلاء جميعا الحق المطلق بحيث يصبح المالك وحده لأموالهم يتصرف فيها كيفما شاء. أما الشريعة الإسلامية فأساسها حرية الفرد، فالابن إذا ما بلغ سن الرشد، أصبح مستقلا بشخصه وماله عن سلطة الأب، وإذا كان الابن لا يزال قاصرا فماله وديعة لدى وليه. والمرأة إذا ما تزوجت لا تفقد حقها فى مالها الخاص، ولا يمنعها زواجها حق الإرث من أهلها، وليس لزوجها سلطان على مالها، بل يظل ملزما بالإنفاق عليها، ولو كان لها مال، وليس لزوجها سلطان عليها سوى ماله عليها من الحقوق المترتبة على الزواج. وبدهى لو أن الشريعة الإسلامية قد أخذت أحكامها من التشريع الرومانى لكان نظام سلطة رب الأسرة أول ما تأخذه منه. ألا ترى أن القانون الفرنسى الذى نقل أحكامه عن التشريع الرومانى لا يزال متأثرا بهذا التشريع؟ فالزوجة فى حكم القانون الفرنسى لا تزال ناقصة الأهلية، لزوجها على أموالها ما للولى أو الوصى على أموال القاصر من الحقوق. وليس لها حق التقاضى. مدعية أو مدعى عليها إلا بإذن زوجها. فدعوى البعض إذن أن القانون الرومانى مصدر الشريعة الإسلامية دعوى غير مقبولة... وتحضرنى فى هذا المقام مناقشة دارت بينى وبين أحد العلماء الفرنسيين فى هذا الموضوع. وقد تطرق بنا الكلام إلى دعواى بأن بعض العبارات القانونية اللاتينية قد أخذت عن العرب أنفسهم. ومن هذه العبارات قول الرومان بداية والفرنسيين فى أثرهم عن الخطأ فى التفسير (Lap us Calami ) فقلت له: إن اللفظ الأول مأخوذ لفظا ومعنى من كلمة "لبس" العربية، واللفظ الثانى مأخوذ لفظا ومعنى أيضا من كلمة "قلم " العربية أيضا. ولكن محدثى لم يقتنع بصحة دعواى، بحجة أن اللاتينية أقدم من اللغة العربية.! والذى أريد أن أحدث القراء عنه اليوم: أن الشريعة الإسلامية كانت مصدرا لأهم قاعدة من القواعد الأساسية للقانون الدولى الخاص، التى تعد فى(1/65)
القوانين الغربية من أحدث ما وضعه التشريع الأجنبى الحديث فأقول : ص _070
لما فتح العرب الأمصار فى صدر الإسلام كان فى وسعهم أن يخضعوا أهلها جميعا فى أقضيتهم لأحكام الشريعة الإسلامية، سواء فى ذلك من اعتنق منهم دين الإسلام ومن بقى على دينه، لأن من حق الغالب أن يخضع المغلوب لحكمه، ومن حق كل دولة أن تجعل قوانينها سارية على جميع رعاياها. ولكن دين الإسلام يأبى التحكم فى عقائد الناس، ويأمر بتركهم وما يدينون يحتكمون فى أقضيتهم لقاضى دينهم ليحكم بينهم بحكم دينهم، فقد جاء في القرآن الكريم في شأن الذميين ما يأتى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين * وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) هذه هى السياسة التى جرى عليها الإسلام فى حكم البلاد التى خضعت لسلطانه، وقد كانت هذه السياسة الحكيمة التى سار عليها العرب فى فتوحاتهم المصدر الفقهى لأحد القواعد الأساسية للقانون الدولى الخاص وهى قاعدة "شخصية قوانين الأحوال الشخصية" التى تقررت فى بلاد الغرب لأول مرة فى مجمع "أكسفورد" سنة 882 1، وفى مؤتمر لاهاى سنة 1904، وأخيرا فى اتفاقية " مونترو " سنة 1931 وعلى ذلك فحكم الإسلام يقضى: أولا: بأن القاضى الشرعى يختص بنظر قضايا غير المسلمين إذا تراضوا على حكمه، وبذلك يصبح اختصاصه فى هذه الحالة بالاصطلاح الحديث "اختصاصا(1/66)
اختياريا " . ص _071
أما إذا لم يتراضوا، فيكون الفصل فى قضاياهم لقاضى دينهم، ويصبح اختصاصه بها "إجباريا". ثانيا: أن حكم هذه القاعدة مقصور على المسائل التى لها علاقة بالدين، وهى المسائل التى نص عليها فى التوراة والإنجيل. ثالثا: أن علة هذا الاختصاص وجوب الحكم فى هذه المسائل بحكم دين الخصوم، لأن القاضى الشرعى لا يحكم إلا بدين الإسلام ". وكلام الأستاذ "صليب سامى" صحيح على الإجمال ولنا عليه تعقيب: إن الإسلام أقر أهل الأديان الأخرى على دينهم، وتركهم وما اختاروا لأنفسهم. ومازال المسلمون- حيث يحكمون- يفوضون لأهل الكتاب أن يحتكموا فى أحوالهم الخاصة إلى قضائهم، خصوصا فى شئون الأسرة. لكن الآيات التى ذكرها الأستاذ "صليب سامى" من سورة المائدة، تتناول قضايا جنائية وخلقية معروفة الأحكام فى أديان الله كلها. لقد حاول اليهود أن يحكموا رسول الله فى جريمة زنا بغير الحكم الشرعى!. فأبى ذلك. وبين لهم أن التوراة تضمنت أحكاما يريدون الخروج عليها، مع أنه جاء يؤكد هذه الأحكام ويستحييها بالتنفيذ بعد ما أماتوها بالإهمال. ولما كان الإنجيل لم يجىء بشرع جديد، بل يقوم علي تنفيذ أحكام التوراة، فمعنى هذا أن شرائع القصاص، وأنواع الحدود، ليست ابتداعا من الإسلام، بل هى أحكام الله فى كل دين، ولذلك سميت الأحكام السماوية. والسؤال الذى نجيب عليه بحسم هو: هل التشريع الإسلامى الجنائى والمدنى قانون خاص بالمسلمين؟! ونقول: لا. إنه لأهل الكتاب كلهم، كما تشهد بذلك كتبهم. فإذا قيل: هب أن اليهود والنصارى لا يريدون النزول عليه..!! ص _072(1/67)
قلنا: لهم ما ارتأوا، ولكن لا معنى للضغط العالمى على المسلمين حتى يتركوا شرائع الله كما تركها غيرهم.!! إن المفرط لا يرغم الآخرين على التفريط. ونحن نلحظ فى أسف، ضيقا هائلا من جبهات شتى بقيام أحكام السماء. فليضق الضائقون، فإن الإسلام لن يتغير، وإن كثر المحرفون والمخرفون. ونعود إلى الآيات التى أشار إلى بعضها الأستاذ "صليب سامى" لنلفت النظر إلى حقائق ظاهرة فيها: أولا: إن اطراح أحكام السماء. وُصف بأنه جاهلية، وبأنه اتباع للهوى، وبأنه مسارعة فى الكفر. وفى هذا يقول الله- جل شأنه: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون). * (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). * (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم). ثانيا: إن الأحكام المعنية- فى هذه الآيات كلها- لم تذكر قوانين الأحوال الشخصية من زواج وطلاق، إنما ذكر ما يتصل بقوانين العقوبات، وما يمس أهم الجنح والجنايات: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). وذلك ما أقره الإنجيل، وأمر أهله باحترامه: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون). ثالثا: لا خيار لأهل الكتاب فى التزام هذه الأحكام . ص _073(1/68)
والقرآن الكريم عندما استنكر احتكام اليهود إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كان يستنكر محاولتهم تجاهل أحكام السماء التى لا خلاف فيها بين الإسلام واليهودية: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين). ومعنى هذا أن اليهود ملزمون- حسب ديانتهم- بإنفاذ أحكام التوراة، وأن النصارى أيضا مطالبون بالوقوف عند هذه الأحكام، فقد صدقها الإنجيل. وإذا كان الأفراد يعصون أوامر الله، أو يتهاونون فيها، فإن الدولة حين تشرع يجب أن تحترم الأصول القائمة. ومن حسن الحظ أن هذه الأحكام نفسها هى أحكام القرآن. ولما كانت سياسة الدولة تتجه إلى توحيد القضاء، فليتعاون الكل على إقامة أحكام السماء المتفق عليها، وتبقى للطوائف الملية الأخرى محاكمها فى شئونها الخاصة . ص _074(1/69)
هل استفاد الفقه الإسلامى من الرومان ؟! إن الطعن فى الشريعة الإسلامية شنشنة ألفناها من المستشرقين وأتباعهم، وقد بين النقاد المنصفون ما تنطوى عليه هذه المزاعم من تهافت وفراغ. إن العالم لم يعرف فى ماضيه ولا فى حاضره تشريعا أرقى من التشريع الإسلامى، ولا أحكم منه فى حماية المصالح وصيانة الفضائل. ومن ثم أنف العلماء الفاقهون أن يرحبوا باعتراف المجامع الدولية بالشريعة الإسلامية ترحيب المستضعف العاجز..!! قال الشيخ محمد زاهد الكوثرى فى رسالته الوجيزة "من عبر التاريخ ": "ماذا نكسب من اعتراف مجمع قانونى بأن يكون الفقه الإسلامى من مصادر التشريع غير جعله فى صف القانون الرومانى المعروف؟ وهذا اعتزاز هزيل ممن لا يعرف مبلغ ما أخذ التشريع الأوروبى من الفقه الإسلامى عامة، ومن فقه مالك خاصة كما يظهر من تاريخ الكنيسة (موسهيم). ". وقد ألف الشيخ مخلوف المنياوى- من فضلاء المالكية- فى أواخر القرن الهجرى المنصرم كتابا فيما أخذه الغرب من مذهب مالك. وهو محفوظ فى دار الكتب المصرية تحت رقم 1585 فى الفنون المتنوعة. ويعلم من درس هذا الشأن أن أهل أوروبا هم الذين كانوا عالة على علومنا فى زمن من الأزمان، لا أننا كنا عالة عليهم يوما ما فى كل شىء حتى فى الفقه الإسلامى والعلوم الإسلامية ، كما ألف الدكتور صوفى حسن أبو طالب- المدرس بجامعة القاهرة – رسالة قارن فيها بين الشريعة الإسلامية والقانون الرومانى فند فيها المزاعم الباطلة التى روجها المستشرقون وأذنابهم، وبين استحالة أن يستفيد الإسلام من هذا القانون . ص _075(1/70)
ومما جاء فى هذه الرسالة الجيدة قوله: زعم " سواس باشا " (أن) الفقه الإسلامى نضج واكتمل فى سوريا، وأن الفقهاء تأثروا بالقانون الرومانى عن طريق النظام القضائى الرومانى الذى ظل مطبقا فيها بعد الفتح الإسلامى. وهذا الرأى غير صحيح من أساسه. فنظام صوغ الادعاءات وتحديدها فى نماذج خاصة المسمى "بالبرنامج " لم يكن له وجود فى سوريا عند الفتح الإسلامى. ومن جهة أخرى لم تنشأ أى مدرسة فقهية إسلامية فى الشام بل لا يوجد فقيه إسلامى واحد-، باستثناء الأوزاعى- نشأ فى الشام..!! فمن المعروف أن المدارس الفقهية الإسلامية الأولى وجدت فى المدينة حيثما نبغ فى الفقه عدد كبير من الصحابة على رأسهم عمر وعلى بن أبى طالب وعدد كبير من التابعين، ومن أشهرهم "الفقهاء السبعة" المعروفون فى تاريخ التشريع الإسلامى، ووجدت فى مكة مدرسة فقهية نبغ منها بعض الصحابة مثل عبد الله بن عباس وعدد قليل من التابعين، وأثر هذه المدرسة فى الفقه الإسلامى لا يقارن بأثر مدرسة المدينة التى أنجبت الإمام مالك، وعلى أساتذتها تتلمذ الشافعى، ونجد مدرسة الكوفة فى العراق التى تضارع مدرسة المدينة من حيث ازدهار الفقه فيها وإنجابها لأعلام الفقه الإسلامى أمثال أبى حنيفة، وبجانب مدرسة الكوفة نجد مدرسة أخرى هى مدرسة البصرة وإن كانت أقل شأنا من الكوفة ونشأت فى مصر مدرسة فقهية أخرى من أعلامها الليث بن سعد، وإن كانت لا تضارع مدرستى الكوفة والمدينة. أما الشام فلم تظهر فيه مدارس فقهية تضارع المدارس التى وجدت فى كل من الحجاز والعراق، رغم أنها كانت مركز الخلافة فى عهد الأمويين، ولم تظهر فى هذا القطر مدارس فقهية ذات أثر فى الفقه الإسلامى، باستثناء الأوزاعى كما قلنا الذى أسس مذهبا فقهيا، ولكن هذا المذهب سرعان ما اندثر. على أن الأوزاعى كان يعتمد على القرآن والحديث، ولم يكن من أهل الرأى والاجتهاد. وقد اهتم علماء الشام بعلم الكلام أكثر من اهتمامهم بعلم الفقه،(1/71)
ولعل سبب ذلك راجع إلى تعدد الديانات التى كانت سائدة فى ذلك القطر، حيث نجد الإسلام والنصرانية واليهودية جنبا إلى جنب، مما أدى إلى كثرة الجدل حول العقائد الدينية . ص _076
ونخلص مما تقدم إلى أن الفقه الإسلامى- خلافا لما زعمه سواس باشا- نضج واكتمل فى المدينة والكوفة، وليس فى الشام. وهاتان المدرستان كانتا بعيدتين كل البعد عن "القانون الرومانى والثقافة الرومانية" ذلك، وقد أشرنا إلى ردود أخرى على مفتريات المستشرقين بهذا الشأن فى كتابنا "حقوق الإنسان ". * * * * هل أبو حنيفة عدو المرأة؟! فى باب تطور الفقه أحكام مستغربة يرسلها هذا الرجل، لا بأس أن نذكر أطرافا منها هنا لنستبين منها مدى فهمه للشريعة ورجالها. إنه يصف أبا حنيفة مثلا بأنه عدو المرأة.! وأئمتنا أكبر من أن نصفهم بصداقة المرأة أو عدوانها، فإن شيئا من هذا لم يخطر ببالهم لا سلبا ولا إيجابا. ولكن أبا حنيفة بالذات إذا ساغ وصفه بشىء من ذلك فليس عداوة المرأة. إذ الرجل فى فقهه يكاد يكون الفذ فى تجويز مباشرتها عقد الزواج. وتصحيح إرادتها منفردة، ما دامت حسنة التصرف. وهو الذى أباح لها القضاء فيما تصح فيه شهادتها. وأباح توكيلها فى الخصومة (أى المحاماة فى عصرنا) ولم يفرض عليها خدمة الزوج، بل أوجب على الزوج أن يستأجر لها من يخدمها. ولم ير الوضوء من لمسها، كما رأى ذلك الشافعية بإطلاق، والمالكية أحيانا.. ولا نتقصى سرد الأمثلة من مذهب أبى حنيفة، وإنما نذكر له ما ذكرنا ليعرف القارئ غباء النظرات التى يرسلها هؤلاء المستشرقون، ثم يخيلون للناس أنها علم..!! حول تحريم الخمر: ومن كلامه فى تطور الفقه تظن أن الإسلام انتظم مدرستين فى شأن الخمر، مدرسة تحرمها تحريما باتا، وأخرى تترخص فى شربها وتتساهل فى أمرها. ص _077(1/72)
نقول: ولعل زعيم هذه المدرسة الفقهية التى توهمها المستشرق الذكى هو الفقيه العظيم أبو نواس.!! مَن مِن فقهاء المسلمين قال: إن الخمر مباحة؟! إن حرمتها ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.. ولم يقل مسلم فى الأولين والآخرين: إن السكران يترك، ولا يقام عليه الحد الشرعى، حتى تعرف المادة التى سكر منها، بل يجلد ولو سكر من لبن. ومن زعم أن الخمر مباحة فقد كفر.. وهنا أمور يحسن التنبيه إليها: (1) إن هناك أنواعا من الأشربة الحلوة تنشأ من عصر الفواكه، أو من نقع بعضها فى الماء كالتين والزبيب والرمان والتمر. وكثيرا ما يطلق على هذا اللون من الشراب النبيذ. وهو إطلاق صحيح من ناحية اللغة، وكان شائعا فى عرف الأوائل.. وهذه الأشربة باتفاق المسلمين حلال، وما فتئ المسلمون فى أنحاء الأرض يشربونها دون نكير. وإن كانت تسمى أنبذه.. و"جولد تسيهر" يلبس الحق بالباطل عندما يقول: إن كثيرا من العباد والقراء كانوا يشربون النبيذ- على أنه الخمر- قاصدا بكلامه هذا الإشعار بأن هناك مدرسة إسلامية تبيح الخمر، وهو كاذب بداهة. (ب) اعتمد "جولد تسيهر" فى الإيهام بأن الخمر حلال- عند بعض المسلمين- على خبر لا وزن له، يشير إلى أن بعض الجنود المسلمين فى أثناء حرب الروم شربوا الخمر، وأن أحدهم عندما قدم للعقوبة دافع عن شربه بآية من القرآن، وأن أبا عبيدة أرسل إلى عمر بن الخطاب بالقصة يطلب رأيه، وهذا الخبر من الناحية الفقهية باطل، ومن ناحية الإسناد تافه، ومن ناحية استشهاد المستشرق المذكور به ينطوى على تدليس، لأنه- فى السياق الوارد به- لا يخدم غرضه. بل لقد بتر هذا المستشرق جانبا من الخبر، فيه الرد عليه. والخبر كما أثبته الدكتور محمد يوسف موسى هو: "الذى فى كتاب أسد الغابة فى هذا الموضوع هو بنصه هكذا: "وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرت أن أبا عبيدة بالشام وجد أبا جندل بن سهيل، وضرار بن الخطاب، وأبا الأزور- وهم من أصحاب النبى ـ صلى الله(1/73)
عليه وسلم ـ قد شربوا الخمر. ص _078
فقال أبو جندل: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) فكتب أبو عبيدة إلى عمر: أن أبا جندل خصمنى بهذه الآية. فكتب إليه عمر: الذى زين لأبى جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم، فقال أبو الأزور: دعونا نلق العدو غدا، فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا. فلقى أبو الأزور وضرار وأبو جندل العدو، فاستشهد أبو الأزور وحد الآخران ". هذا هو النص، ومنه يتبين أن المؤلف لم يكن أمينا فى نقله، إذ ترك منه آخره الذى يقرر أن اعتذار أبى جندل لم يقبله عمر، لأنه لا يتفق والدين! (جـ) قال أبو حنيفة- ورفض أصحابه قوله-: إن الخمر المحرمة بإطلاق أسكرت أو لم تسكر، هى خمر العنب والبلح، وأن ما أسكر من الأنبذة الأخرى هو المحرم. أما المقادير التى لا تسكر فلا تسمى خمرا. وهذا الرأى شاذ، والفتوى على خلافه عند الأحناف أنفسهم. وعلماء المسلمين جميعا دون استثناء أنكروا هذا القول. وقد تحدث "جولد تسيهر" عن الخمر فى الإسلام حديثا مشحونا بالتحريف والإفك، ونسب إلى الفقهاء اصطناع أحاديث تسند مذاهبهم. وصور الموضوع كله تصويرا منكرا. وعلى ضوء ما شرحنا نقرأ قوله من (ص 75). "فمن وقت مبكر اعتبرت فى هذه المسألة وجهتان للنظر مختلفتان متناقضتان: فقد استدل أحد أشراف الصحابة- وهو أبو جندل- بآية مني القرآن على تخطيه- أى حكم الحرمة- وهو قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا …) إلخ. ولم يقبل عمر بن الخطاب هذا التفسير الحر، وجلده. وهناك وجهة نظر أخرى جاءت بهذه الظاهرة، وهى أن الفقهاء فى المشرق أعملوا ذكاءهم ليحدوا من دائرة هذا المنع الذى يتسع لأشربة أخرى، وذلك بواسطة التفسير. فمن جهة سعوا أن يستنتجوا أنه فيما عدا خمر العنب لا(1/74)
تحرم الأشربة الأخرى فى نفسها، بل فقط عندما يحصل منها الإسكار، ووضعوا لذلك أحاديث مثل حديث عائشة: ص _079
(اشربوا ولا تسكروا) وتحت حماية هذا الدليل لم يقتصر حتى بعض الأتقياء على الماء القراح، ولكن سعى المتشددون للتدليل على "أن ما أسكر كثيره، فقليله حرام". ثم انتشرت مدرسة فقهية تمسكت بحرفية النص، وأن خمر، العنب وحده هو المحرم، وأن ما عداها ليس إلا "شرابا" فقط أو "نبيذا" وليس خمرا وبهذا يمكن أن يشرب نبيذ التفاح والتمر وأمثالهما، ويكون بهذا باب الشرب مفتوحا على مصراعيه للمؤمنين بناء على هذا الإذن المبنى على المعنى، وطبعا بدون أن يصل ذلك إلى حد السكر، وقد صرح الخليفة الصالح عمر بن العزيز نفسه بجواز النبيذ! وجاء أن بعض الخلفاء العباسيين الذى لم يرد أن يتخطى الحكم الشرعى سأل بعض القضاة عما يعنى بالنبيذ؟ ونظرا لأنه لا يمكن أن تفقد هذه الأشربة فى مجال الأنس، فقد كان بحث الخلفاء فى مسألة الخمر مما تهتم به الجماعات المثقفة، من أجل ارتباطها المباشر بالناحية اللغوية والأدبية، ففى قصر الخليفة المعتصم- حيث كان الاهتمام بالذوق السليم باديا- كانت المسألة المحبوبة لدى هذا المجتمع الرفيع هى معالجة الأصول التى قام عليها ترادف الخمر فى اللغة، وعلاقة منع الخمر بهذا الترادف. ولا يخدعنا الغرض من التشدد فى الفهم عند هذه العلاقة. الأمر الذى كان يسود الأدباء البغداديين، فقد صاحب هذا الرأى المعارضة الحرة ضد التحديات الدينية، حتى وصل الأمر إلى تحقير هؤلاء الأتقياء الذين تمسكوا بالحق فى ذلك. ولذى الرمة الشاعر المعروف قول فى ذلك: هم اللصوص وهم يدعون قراء وكذلك قول الآخر: من ذا يحرم ماء المزن خالطه فى جوف آنية ماء العناقيد أنى لأكره تشديد الرواة لنا فيها ويعجبنى قول ابن مسعود ص _080(1/75)
وقد جاءت تدقيقات الفقهاء الكوفيين فى القرن الثانى بهذه النظرية من رأى ابن مسعود. وأنه إذا لم يكن التحلل من ماء العنب ممكنا فقد حاولوا إيجاد تسهيلات كثيرة للإنسان، تطمينا لضميره الدينى، حتى يستطيع ذوو النفوس الطيبة أن ينالوا منها". وإلحاح هذا المستشرق فى أن ثم مدرسة إسلامية تبيح الخمر، أو تحاول إباحتها شىء كريه. وتصوير الإسلام أو الفقه الإسلامى بأنه متساهل فى هذه القضية كذب على الواقع الدينى عندنا، وهو كتصوير المسيحية القائمة بأنها تتساهل فى قضية التثليث.! وليس يفوتنى هنا إثبات أن بعض الحشاشين أو المخمورين جادلنى فى تحريم الخمر، وقال: إن الله لم يشدد فى منعها بل قال: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) والاجتناب لا يعنى التحريم الحاسم..!! قلت له: إن الله يقول: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) ويقول : (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) فكيف يفهم أن لفظ الاجتناب خفيف فى المنع؟!! وإنما ترخصنا فى ذكر هذا اللغو، لأنه وكلام بعض المستشرقين ينبع من واد واحد. فلندع التطور الفقهى الذى أبرزه الكاتب فى تلك الصورة السيئة، ثم لننظر فيما كتبه عن التطور فى العقيدة . ص _081(1/76)
الفصل الثالث التطور في العقيدة القضاء والقدر، وفهم المستشرقين له. القضاء والقدر فى منطق الفلسفة الإسلامية. عقيدة الاختيار فى الإنسان والحيوان. القضاء والقدر بين الإسلام والنصرانية. القضاء والقدر عند الشيخ محمد عبده. القضاء والقدر عند المشير أحمد عزت. عودة إلى نصوص القران الكريم. معنى المتشابه فى القرآن الكريم. مجال العقل الإنسانى ومجال الوحى السماوي. الانحراف الذي طرأ على ثقافتنا التقليدية. النزاع بين أهل السنة والمعتزلة. شرود المعتزلة عن الخط الإسلامى. التقعر فيما وراء المادة ضلال. الفرق بين منهجين. من أسباب تأخر المسلمين. "جولد تسيهر" وعلم الكلام. موضوع التحسين والتقبيح بالعقل. قانون السببية وموقف المسلمين منه. الجماهير و قانون السببية . ص _082(1/77)
التطور فى العقيدة عقائدنا المتناقضة..!!! والكلام فى العقيدة وتطورها يتقاضانا أن نسارع إلى تبديد وهم قد يسبق إلى الأذهان. ذلك أن العقائد والعبادات عندنا لا تتحمل زيادة ولا نقصا، ولا تخضع لتطور يتقدم بها إلى أمام، أو يتقهقر بها إلى وراء. ولا مجال لفكر إنسانى يضفى عليها شيئا من عنده، أو يختصر منها شيئا بجهده. إن أصول الإيمان وأركان العبادات أتت من لدن رب العالمين جل شأنه، وقد بقيتا إلى يومنا هذا كما كانت يوم جاءت، وفيما يتصل بالعقائد الإسلامية لم يزعم أحد أن حقائقها تغيرت أدنى تغير فى هذا القرن الرابع عشر عما كانت عليه فى القرن الأول. إنها هى هى، ما آمن به الرسول وأصحابه الأولون هو ما نكلف نحن الآن بالإيمان به. ولو افترضنا أن اثنى عشر قرنا محيت من الزمن بأشخاصها وآرائها، ولم يبق إلا قرننا هذا، والجيل الأول من المسلمين، فإن العقائد التى بين أيدينا ما يضيرها مثقال ذرة اسم شخص حذف، أو نسيان رأى قيل خلال هذا الدهر الطويل. فالقرآن الذى تم أيام الرسول هو وحده مصدر العقائد، وموطن اليقين. وأسلوب القرآن فى تقرير العقائد يمتاز بالوضوح المطلق ويتسم بموافقته لبداهة العقل. واستعصائه على المتناقضات والشبهات. ففى توحيد الله يقول: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم). وفى عقيدة الجزاء يقول: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ) وفى إحاطة العلم الإلهى بشئون الخليقة جمعاء يقول: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر). وفى انفراده بالإيجاد والتدبير يقول: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض). ص _083(1/78)
وفى نفى الشركاء والأولاد، ودمغ ما عداه بالعبودية التامة يقول: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون). والخطوط التى ترسم العقيدة فى الإسلام مستقيمة جدا، ومستبينة جدا، ولذلك عرتنى دهشة شديدة عندما قرأت "لجولد تسيهر" هذه الكلمة "من العسير أن تستخلص من القرآن نفسه مذهبا عقيديا موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات "! (ص 87) ولكى يعرف القارئ أين يقع التناقض المنكر، ولكى يستطيع المقارنة بين ألوان الكلام، وضروب الاعتقاد أنقل هنا السطور الأولى من إنجيل يوحنا قال: "فى البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة الله. هذا كان فى البدء عند الله. كل شىء به كان، وبغيره لم يكن شىء مما كان.. " ثم قال: "كان النور الحقيقى الذى ينير كل إنسان آتيا إلى العالم. كان فى العالم، وكون العالم به ولم يعرفه العالم ". ثم قال: " والكلمة صار جسدا !! وحل بيننا ورأينا مجده. مجدا كما لوحيد من الأب، مملوءا نعمة وحقا ". هذا الكلام فى نظر "جولد تسيهر" نسق آخر غير آيات القرآن التى ذكرناها، إنه كلام يكون مذهبا واضحا فى العقيدة، مذهبا لا تناقض فيه ولا خفاء..! أما القرآن فقد كان " عدم الاستقرار، والطابع المتنافر البادى فى تعاليمه، موضع ملاحظات ساخرة" (ص 79). ولا نشك نحن أن الرجل فى محنة عقلية! فإن ابتلاعه للسخافات الشائنة دون شكوى، واعتراضه على الآيات السائغة المشرقة يدلان على ارتكاس فكرى مثير، وصدق القائل: يقضى على المرء فى أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وربما كان "جولد تسيهر" بهذه التهم يستهدف آخر الأمر أن يسوى بين الإسلام والمسيحية فى تطور العقيدة وتدرج الإيمان. فالمعروف أن العلاقة بين أفراد الثالوث المقدس لم تأخذ وضعها النهائى إلا بعد مجامع كبرى عقدها آباء الكنيسة، وأصدروا فيها القرارات التى(1/79)
تمخضت عنها دراساتهم. ص _084
وقد افتتح مجمع "نيقية" هذه السلسلة بأن أصدر قرارا يقضى بألوهية عيسى بن الله- كما يقولون-. ثم أصدر مجمع آخر قرارا بألوهية الروح القدس. ثم اختلفت المجامع- بعد- فى القول باتحاد طبيعة الابن والأب: هل لهما إرادة واحدة، أم أن مشيئتهما متغايرة؟؟.. وبكل قالت فرقة. ثم كان آخر أطوار هذا الاعتقاد المنشور الذى أصدره "بيوس " بابا روما باعتبار "مريم " فى مصاف الآلهة. وللقوم أن يستريحوا لما صنعوا، و "لجولد تسيهر" أن يمتلئ يقينا بهذه القرارات كلها، فنحن لا نمنع حرية الاعتقاد . وإنما الذى نستغربه أن يتعامى امرؤ ما عن خصائص دين يقوم على الوضوح البالغ، وأن يرتكب العظائم ليحاول إيهام الأغرار بأن الإسلام لم يجىء بعقيدة واحدة كاملة، بل إن العقائد الإسلامية من صنع الأجيال الأولى.! أرأيت؟ إنها الأكذوبة التى رددها وهو يتكلم عن تطور الفقه، يرددها بدقة وهو يتكلم عن تطور العقيدة. إن محمدا- فى نظره- لم يأت بالعقائد الإسلامية التى ندين نحن- المسلمين- بها، والصورة التى تكونت لهذه العقائد يجب ألا نأخذها من صاحب الدين نفسه، إذن ممن نأخذها؟ يقول: " يجب الانتظار إلى أن تأتى الأجيال التالية، حيث تؤدى الثقافة المشتركة للأفكار المستقاه من الأنصار الأوائل وغيرهم إلى تكوين طائفة محددة، عندئذ تتخذ تلك الأفكار شكلا مجسما، عن طريق وسائل داخلية فى الطائفة نفسها ، أو بفعل تأثيرات البيئة المحيطة، وهذه الأفكار تتقدم بواسطة من يشعرون أنهم مختارون ليكونوا المفسرين لما أتى به النبى، وبذلك يسدون ما يكون فى التعاليم النبوية من ثغرات " (ص 77) . هذه- إن كنتم لا تعلمون- هى نشأة الإيمان عندنا!!! والمسلم الذى يعلم أن عقيدته لا منبع لها إلا القرآن، وقد تم نزوله بإجماع الإنس والجن فى أيام محمد، ينظر إلى هذه السطور المكتوبة ويهز رأسه عجبا: أهذا كلام عن الإسلام والمسلمين، أم كلام عن ناس يسكنون المريخ !(1/80)
ص _085
العقائد الإسلامية صنعها ناس سدوا ما فى تراث النبوة من ثغرات، أى ثغرات..! أظنه يقصد أن مجمع نيقية وغيره هو الذى سد هذه الثغرات!! ومرة أخرى نذكر: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". ويمضى المستشرق الحالم فى هذره (ص 79): " إن البحث فى التناقضات الظاهرة فى القرآن أصبح موضع حديث بين المؤمنين أنفسهم " ! وطبعا هذا الحديث وصل إلى مسامعه هو وحده. فنحن- المسلمين- لم نسمع ببحث فى تناقضات القرآن، لا لشىء، إلا لأنها غير موجودة: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). أما أن فى القرآن آيات متشابهة فذاك حق، وسنتحدث عنها، ولكن من الذى فسر التشابه بالتناقض؟ هو هذا المستشرق وحده!. * * * القضاء والقدر، وفهم المستشرقين له: ونرى لزاما علينا أن نقف هنا قليلا لننفخ غبارا حاول هذا المستشرق أن يلقيه على النصوص الواردة فى عقيدة القضاء والقدر، ومسألة حرية الإرادة الإنسانية، فقد كتب نحو عشر صفحات ابتداء من (ص 88) حاول فيها جاهدا أن يبرز النصوص القرآنية وكأنها متضاربة متناقضة، وزاعما أن هذه الآيات خدمت المذاهب المتعارضة على سواء.! والكلام فى الجبر والاختيار أمر خاض علماء الأديان والأخلاق فيه من أعصار طويلة، وافترقوا فيه على مذاهب شتى، وليس التعرض له بدعة إسلامية. والذى يعنينا بيان موقف الإسلام من هذه المسألة. والمحققون على أن الإسلام أتى فى هذا الموضوع بالقول الفصل. ونحن وخصومنا نحتكم فى هذا إلى الواقع، قبل أن نرجع إلى الوحى لنرى أأخطأ الإسلام أم أصاب.؟ هل نستطيع بعد التجربة والمشاهدة أن نقول: إن النشاط الإنسانى كله تابع لإرادة حرة نابعة من شخص محصن ضد التأثيرات الخارجية، يمكنه إمضاء ما عزم عليه ص _086(1/81)
دون عائق، وتنشأ عزيمته فى نفسه غير مقيدة بطبع غالب، أو وراثة كامنة؟ لا.. لا نستطيع أن نقول ذلك. فنحن- كما يقرر علماء الأخلاق- نجزم بأن الدولة للوراثة والبيئة، وهما ليسا من صنع المرء- آثارا عميقة فى تكوين خلاله، وتكييف أحواله، وحسب المرء ليتعرف بأنه مجبور فى دائرة محكمة أن يعلم بأن طبيعة عقله وجسمه التى يولد بها ليست من صنع يده. وسؤال آخر.. هل نستطيع بعد التجربة والمشاهدة القول بأن الإنسان كائن مشلول، لا يزيد فى خصائصه عن صنوف الكائنات الأخرى من جماد وحيوان، وأنه كريشة طائرة، أو جثة طافية؟ لا، فالإنسان يمتاز بعقل يتصرف به يمنة ويسرة، ويكتشف به ما يفعل وما يترك، ويعرف به متى يمضى ومتى يقف؟؟ إذن ، الإنسان مجبور مختار، وهكذا قال الإسلام، والذين يقولون: إنه لا اختيار له يكذبون القرآن والواقع معا. والذين يقولون: إنه غير مجبور فى شىء يكذبون القرآن والواقع معا . ذلك من ناحية.. وثم ناحية أخرى. هل يمكن وصف الإنسان بأنه خالق؟ إذا أنشأ المهندسون والفعلة عمارة شاهقة فى أرض كانت فضاء، هل يعد صنيعهم هذا خلقا من العدم؟ إن ما فعلوه يمكن وصفه بأنه خلق حقيقى لو أنهم أبرزوا الأحجار والأخشاب والحديد والحصى واللون من العدم المحض. أما وهم إنما جمعوا مواد كانت موجودة قبلا، وأفرغوها فقط فى صورة جديدة، فلا يمكن اعتبارهم خالقين، إلا على ضرب من التجوز. والقرآن تناول الإرادة الإنسانية على ضوء من الحقائق التى قدمنا بعضها هنا ، فحكم بأنها حرة، ومسئولة فى مجال الحرية والمسئولية الذى لا شك فيه، وحكم بأنها مقهورة فى المجال الآخر، ووزع نسبة الأعمال طورا إلى خالقها الحقيقى، وطورا إلى السبب فى خلقها، وهو فى هذا التوزيع لا تنقصه ذرة من الصدق: (و بالحق أنزلناه و بالحق نزل و ما أرسلناك إلا مبشرا و نذيرا!) . ص _087(1/82)
ولا مكان لتناقض بين شتى الآيات، إلا إذا كان قولنا: الإنسان أبيض الجلد أسود الشعر متناقضا... لأننا نجمع بين البياض والسواد فى وقت واحد!! إن الله عز وجل- فى آية واحدة من القرآن النازل بمكة ـ جمع بين المعنيين الصحيحين المحكمين فقال: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون). ختام الآية يقرر مسئولية المرء عن عمله، وصدرها يلمح إلى القدر الأعلى! كان الله قادرا على خلق البشر كلهم ملائكة، ولكنه لم يفعل، وخلقهم على نحو صالح للابتلاء والتكليف والنجاح والسقوط. فمن اتجه يمينا: ثبت قدميه على طريق الخير ومهده له. ومن اتجه يسارا: لم يقف دقات قلبه، أو يمنع رجليه من الحركة. إنه يوجه الإنسان حيثما اتجه.. والبحث فى موضوع الجبر والاختيار قديم، خاض فيه رجال الفلسفة، كما خاض فيه علماء الأديان. ولم يكن الكلام فيه ابتداعا اختص به أهل الإسلام. ونرى واجبا علينا أن ننقل من شروح العلماء الراسخين لهذا الموضوع، ما ينير جنباته ويكشف غوامضه. القضاء والقدر فى منطق الفلسفة الإسلامية: وقد أعجبنى وأنا أقرأ كتاب "رجال الفكر والدعوة" للأستاذ أبى الحسن الندوى. حديثه السائغ الحلو عن الشيخ جلال الدين الرومى، وكيف عالج هذه المسألة بذكاء ويسر. قال: إن الجبر والاختيار من المسائل المهمة العويصة التى شغلت حيزا كبيرا من كتب علم الكلام، وقد ذهبت فرقة إلى نفى الاختيار المطلق وإثبات الجبر المحض، وسميت فى تاريخ الملل والنحل بالجبرية، وهذه الفرقة يرد عليها جلال الدين ردا واضحا معقولا، إذ يقول: " لو كان الجبر حقا، لما توجه الأمر والنهى إلى الإنسان، وما كلف الإنسان بالشرائع والأحكام، فهل سُمع إنسان يأمر حجرا وينهاه "؟ ص _088(1/83)
ويقول "إن القرآن كله أمر ونهى، ووعد ووعيد، ولم نسمع عاقلا يأمر الرخام أو ينهى الحديد"! عقيدة الاختيار فى الإنسان والحيوان: ثم يقول: " إن الإنسان مفطور على عقيدة الاختيار، وهو يتمثل هذه العقيدة ويطبقها فى حياته اليومية. ويقرر بعمله وسلوكه الاختيار، وينكر الجبر، فلا يعاقب الجماد ولا يغضب على الحجر والخشب والسيل والنار والريح مهما لحقه الأذى والعنت من هذه الأشياء. ويتساءل: إذا سقط عليك جذع من السقف. وجرحك جرحا شديدا، وأدماك وآلمك، فهل يثور غضبك على هذا الجذع؟ وإذا عاتبته، وقلت له: لماذا كسرت يدى أو أدميت رأسى؟ هل تكون عاقلا؟ كذلك إذا جاء سيل أو فيضان، وطاح بأثاثك ومتاعك، أو هاجت الريح وطارت بعمامتك، هل تشتعل غضبا على السيل أو الربح، وتتصدى لهما بالعتاب والعقاب؟؟ أما إذا تعرض إنسان لإهانتك أو هتك عرضك، ثرت عليه، وعاقبته عقابا شديدا، فدل ذلك على أنك تميز بين المجبور والمختار، وتعتقد أن الإنسان صاحب اختيار وإرادة فتحاسبه وتعاتبه، وتعاقبه وتشكوه وتلومه، ولا تقبل له عذرا ، لأنه مخير ليس بمجبور. ولا يقتصر جلال الدين على ذلك، بل يقرر أن الحيوان يعرف ذلك، ويميز بين المجبور والمختار وتهديه إلى ذلك فطرته، فإذا ضربت كلبا بحجر هجم عليك وأراد أن يعضك، لم يقبل على الحجر وينتقم منه، كذلك إذا ضرب سائق بعيرا وهاج البعير، لم يثر على الهراوة التى ضرب بها، إنما يثور على الجمال المسرف فى ضربه، فعار عليك أيها الإنسان العاقل أن تضطرب فى فهم هذه الحقيقة وتعجز عن إدراكها ". ويقول أخيرا: "إن الإنسان لا يجهل هذه الحقيقة، لكنه يتعامى عنها لأجل مصلحته وهواه وشهوته، شأن الصائم الذى يتحقق طلوع الصبح الصادق، لكنه يصرف وجهه عن النور ويغلق عليه الباب فيستمر فى التسحر والأكل والشرب "!. أ. هـ. القضاء والقدر بين الإسلام والنصرانية : إن شعور الإنسان بحرية الحركة والاتجاه قائم فى نفسه. وهو- لو أقر بالحق- مغالط حين(1/84)
يزعم أنه مضغوط عليه فى فعل شر أو ترك خير، غير أنه من الإنصاف فى سرد الحقائق كلها أن تذكر الظروف الكثيرة التى تحيط بالإنسان وتترك آثارا غائرة فى تصرفه.. ص _089
قد يشعر الإنسان- وهو محق فى شعوره- أن حريته تشبه أحيانا حرية راكب السيارة المنطلقة، أو الباخرة الراحلة فى أن الحركة المتاحة له، وتنقله الميسر له محدود جدا داخلهما. وأنه لا يستطيع تجاوز سور الباخرة وإلا ابتلعه اليم، ولا سلم السيارة وإلا سقط فى الطريق. ويعنى هذا أن هناك أحوالا خارجية قد تتصل برزقه وأجله وصحته وسقمه تستطيع التأثير فيه، ولا يستطيع الفكاك منها. إن هذا مرجعه ما نسميه نحن المسلمين: القدر. والشعور بالسلطة العليا للقدر معروف فى أديان الله كلها، وليس وقفا على الإسلام!! وقد شاع بين الأوروبيين أن القدر فكرة إسلامية خاصة، فاسمع إلى الأديب الألمانى "جيته " يعلق على هذه الشائعة فى كتابه " محاورات جيته مع تلامذته ". قال "جيته " ".. لفهم ارتباط الأديان بعضها ببعض يجب عليكم الاشتغال أربعين عاما بدرس تاريخ الأديان والبحث فيه كما فعلت. إن ما يبدأ المحمديون بتعلمه فى تربيتهم الفكرية خليق بالانتباه! فهم يثبتون فى أذهان شبابهم عقيدة أنه لن يصيبهم أمر لم يقدره الله الذى يدبر الأمور بإرادته- وهذا أساس دينهم- منذ الأزل، فلهذا يقاومون صروف الدهر فى كل حياتهم مستريحين. لا أريد التكلم فى صواب هذه العقيدة أو خطئها ولا فى فائدتها أو ضررها. غير أن لها أثرا يلاحظ فينا أيضا بدون تعلمنا إياها: فكل جندى ذاهب إلي حرب يقول: "لن تصيبنى طلقة لم يكتب عليها اسمى" فكيف كان يستطيع هذا الرجل المحافظة على رباطة جأشه ومهاراته بإزاء المخاطر الهائلة بدون هذه العقيدة؟ " أ. هـ. ص _090(1/85)
أفلا تكون عقيدة النصرانية " لن يسقط فرخ عصفور من سطح دون مشيئة- أبيكم- الله " مترشحة من المنبع الإسلامى نفسه، ومتضمنة تصديق حكمة بالغة، وهى عدم حدوث أمر دون إذن من يعرف الأمور كلها ومشيئته؟ وعلماء المسلمين يفرقون بين المجال الذى تعمل فيه الإرادة الإنسانية وترتبط به مسئوليتها، وبين المحيط الرحب الذى تمتد فيه الإرادة الإلهية المطلقة. الأول: مجال الأفعال الاختيارية التى يتعلق بها الثواب والعقاب. والآخر: مجال القدر الذى يتلقى الناس سراءه وضراءه بالتسليم والرضا، والآيات القرآنية كثيرا ما تتناول هذا وذاك. وقد شرح العلماء حدود كل مجال وضربوا له الأمثلة، بحيث ينتفى التناقض الذى يتوهمه " جولد تسيهر " وغيره. القضاء والقدر عند الشيخ محمد عبده: قال الشيخ محمد عبده فى رسالة التوحيد: ".. كما يشهد العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج فى ذلك إلى دليل يهديه، ولا معلم يرشده، كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية، يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته، ثم يصدرها بقدرته، ويعد إنكار شىء من ذلك مساويا لإنكار وجوده فى مجافاته لبداهة العقل. وكما يشهد ذلك فى نفسه يشهده أيضا فى بنى نوعه كافة متى كانوا مثله فى سلامة العقل والحواس ومع ذلك فقد يريد إرضاء خليل فيغضبه، وقد يطلب حظا من كسوة أو رزق فيفوته، وربما سعى إلى منجاة فسقط فى مهلكة، فيعود باللائمة على نفسه إن كان لم يحكم النظر فى تقدير فعله، ويتخذ من خيبته أول مرة مرشداً له فى الأخرى، فيعاود العمل من طريق أقوم، وبوسائل أحكم، ويتقد غيظه على من حال بينه وبين ما يشتهى إن كان سبب الإخفاق فى المسعى منازعة منافس له فى مطلبه، لوجدانه من نفسه أنه الفاعل فى حرمانه فينبرى لمناضلته، وتارة يتجه إلى أمر أسمى من ذلك إن لم يكن لتقصيره، أو لمنافسة غيره دخل فيما لقى من مصير عمله. كأن هب ريح فأغرق بضاعته، أو نزلت صاعقة فأحرقت ماشيته، أو علق أمله بمعين فمات، أو بذى(1/86)
منصب فعزل، يتجه من ذلك إلى أن فى الكون قوة أسمى من أن تحيط بها قدرته، وأن وراء تدبيره سلطانا لا تصل إليه سلطته، فإن كان قد هداه البرهان وتقديم الدليل إلى أن حوادث الكون بأسره ص _091
مستندة إلى واجب وجود واحد يصرفها على مقتضى علمه وإرادته خشع وخضع، ورد الأمر إليه فيما لقى، ولكنه مع ذلك لا ينسى نصيبه فيما بقى، فالمؤمن كما يشهد بالدليل وبالعيان أن قُدرة مكون الكائنات أسمى من قوى الممكنات، يشهد بالبداهة أنه فى أعماله الاختيارية- عقلية كانت أو جسمانية- قائم بتصريف ما وهب الله من المدارك والقوى، فيما خلقت لأجله. وقد عرف القوم شكر الله على نعمه. فقالوا: هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله. على هذا قامت الشرائع، وبه استقامت التكاليف، ومن أنكر شيئا منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه، وهو عقله الذى شرفه الله بالخطاب فى أوامره ونواهيه ". والقضاء والقدر عند المشير أحمد عزت: يقول المشير أحمد عزت فى كتاب "الدين والعلم ": ".. والاعتقاد بالقدر ركن من الإيمان عند أهل السنة، وأعتقد أن كل امرئ يفكر بعناية فى صفحات حياته ويتأملها يحس كونه خاضعا لتصريف أعلى ". يسعى رجل فى عمل من الأعمال متوسلا بضروب من التدابير، غير أنه كلما زاد سعيا زاد هدفه عنه بعدا. ثم يفتح له باب الفرج بيسر لم يكن له فى الحسبان! ويبتلى بالفقر والمسكنة رجل قد عرف بين الناس بالدراية والكفاية، ويعجز عن سبيل النجاة...!، ويفوز ذو جهل وغباء بنعم ومراتب، وثروة ورواتب، فهل تُحمل هذه الحالة- وهى تتكرر دائما وتغلب التدبير والذكاء- على الصدفة وحدها؟ أن امرءا باحثا فى حياته وحياة البيئة التى يعيش فيها بحثا دقيقا، يفهم أن هذه الحال مع عدم خضوعها لنظام يمكن فهمه، ليست أثر صدفة محضة كذلك. فيحكم بضعفه أمام إرادة غيبية قاهرة. ومن جهة أخرى نقول: إن السعى والتدبير لابد منهما للحياة. لكن فى الناس من فاز بدولة كبرى بسبب(1/87)
تافه، كما أن منهم من أضاع ما فى بيته من برغل وهو ذاهب إلى دمياط للحصول على الأرز!!! غير أن من لا يسعى إلى مخبز لشراء خبز منتظرا إياه من القدر، لابد أن يموت جوعا . ص _092
لقد حدثت الاختلافات بين مفكرى المسلمين من تظاهر هذين النقيضين. فأما الأغلبية من علماء المسلمين، فحلوا هذه المشكلة بأن المخلوقات والحادثات كلها تابعة للإرادة الكلية الإلهية، ومنقادة لها، ولكن الله منح الإنسان إرادة جزئية، لتكون له دليلا يميز به الخير من الشر، والحسن من القبيح. وأما الفريق الآخر فقد وضع نصب عينه أمر مسئولية البشر المعنوية، وتصدى لإنكار القدر جملة، مدعيا بأن العبد خالق لفعله، وتعامى عن عجزه أمام ما يصادفه من العقبات فى حياته، وتغافل عن الشكر لما ينال من العون، ومال إلى طريق التكبر والاعتزال، وكان الباعث على انتحال هذا الرأى هو ظنهم بأنه لو كان فى أفعال الإنسان حافز معنوى سوى إرادته الذاتية. لكان الجزاء والعقاب الموعود بهما فى الآخرة مغايرين للعدالة. وقال فريق آخر من الناس: ".. كل شىء بيد القدرة الإلهية، والإنسان خاضع للمشيئة، وكل أفعاله مقدرة ومكتوبة فى اللوح المحفوظ منذ القدم.. ". فسلبوا الإنسان الإرادة الجزئية، ودفعوا البشرية إلى الاستسلام والعطل فى هذه الدنيا، وأسندوا الظلم إلى الله العادل، إن لم يكن صراحة فضمنا، من أجل الجزاء الأخروى، وقد نشأ هذا الرأى من خشية الوقوع فى الشرك، لو قلنا بتعارض الإرادة البشرية والمراد الإلهى، فى حين أن البشر مجبولون على خاصة تمييز الخير والشر، والإنسان مأجور أو مسئول عن أفعال الخير والشر فى الدنيا والآخرة. ويمكن تشبيه الإرادة الجزئية البشرية بما يعطى عامل من سلطة، فكما أن هذه السلطة لا تسقط حق الرئيسى الأعلى، ولا تخل بشرفه وسلطانه، فإن معاقبة من يسئ استعمال هذه السلطة لا تخالف العدالة كذلك. وعبارة "الأعمال مكتوبة فى اللوح المحفوظ ": تدل على كون العلم الإلهى(1/88)
سابقا، ولا يجوز تصور ألواح فى حضرة الله شبيهة بالألواح المستعملة فى المدارس. فإن العلم الإلهى غير متناه فى السعة والزمان. وكل مقدار محدد صفر بالنسبة لغير المتناهى، فيلزم أن يكون عمر الإنسان بل حتى عمر هذه الأرض، لحظة غير منقسمة فى الحضرة الإلهية. وبعض الناس يكشف المستقبل القريب بالاستدلال، فكون عمر بنى آدم معلوما لعلام الغيوب ومسبب الأسباب، بل حتى أعمار كافة الآثار والأحداث والأحوال ص _093
المترتبة على كثير من الأسباب والعلل، ليس مما يستحق إتعاب الذهن وتعذيب الوجدان، ليست الإرادة الجزئية البشرية قادرة على تجاوز حدود النية والاختيار والسعى والتدبير، وفى اقترانها بالفعل يظهر تأثير قوة خفية ميسرة أو عائقة، وهذه القوة الخفية هى ما يسمى القدر فى ديننا. فسواء اقترن سعى المرء بنتيجة أو لم يقترن فهو مستفيد أو متضرر، مثاب أو معاقب، على حسب حسن نيته أو سوئها: "إنما الأعمال بالنيات " . عودة إلى نصوص القرآن: والآيات القرآنية فى هذا الموضوع ذات شعبتين: * شعبة تؤكد أن للإنسان إرادة حرة، وأن له كسبا واكتسابا... وهذا حق.. * وشعبة تؤكد أن للقدر الأعلى هيمنة على نظام الوجود كله، ودائرة أوسع كثيرا من دائرة الإرادة الجزئية للإنسان... وهذا حق أيضا... ولا ينافى هذا ذاك. وزعم هذا المستشرق أن هناك آيات مكية تتجه للاختيار، وآيات مدنية تتجه للجبر: زعم فارغ لا أساس له إ!. لكن "جولد تسيهر" حريص على اتهام القرآن بالتناقض! ولا بأس أن نثبت هنا دليلا له يعتبر- كما سيرى القارئ- نكتة مضحكة فاسمع إليه يقول: " أمكننا أن نثبت أن القرآن يمكن اتخاذه سندا لأشد وجهات النظر تعارضا فى مسألة من أهم المسائل فى الأخلاق الدينية ، وكان من حسن الحظ أن الأستاذ "هوبرت جريمة" الذى تعمق كثيرا- فى جد- فى تحليل علم الكلام القرآنى قد وجد إيضاحا منيرا يمكن أن يخرجنا من هذه الحيرة والتيه، لقد رأى أن المذاهب المتعارضة والمتضادة(1/89)
التى عرضها محمد فى مسألة حرية الإرادة والقدرة ترجع إلى أزمان مختلفة من نشاطه النبوى، وتتفق والتأثيرات التى أوحتها إليه الظروف المختلفة فى كل فترة من الفترات، ففى الأزمان الأولى للعصر المكى كان يقبل تماما حرية الاختيار والمسئولية، ولكن فى المدينة أخذ يتوغل شيئا فشيئا فى مذهب الجبر، والتعاليم الأكثر جبرية ترجع إلى الفترة الأخيرة " أ. هـ. ص _094
هل هذه الملاحظة صحيحة؟ هل القرآن المكى يتجه نحو حرية الإرادة على عكس ما نزل بالمدينة؟ أمامنا القرآن نفسه، ننظر فيه ونحكم. إن ما نزل بمكة يتضمن المعنيين على سواء. ما يدل على ناحية الجبر وما يدل على ناحية الاختيار. فسورة الكهف فيها: (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر). وفيها أيضا: ( من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). وسورة الإسراء المكية فيها: (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). وفيها أيضا: (ومن يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما مأواهم جهنم). بل إن المعنى الموهم للجبر المطلق- كما يفهم المستشرق- تكرر حرفيا فى القرآن النازل بمكة، والنازل بالمدينة. ففى سورة المدثر المكية: (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو) وفى سورة البقرة المدنية: (..يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين). ويتبين من هذا السرد أن وصف القرآن المكى بأنه يقرر حرية الإرادة، أو وصف القرآن المدنى بأن ينعطف نحو الجبر.. كلام فارغ. ولكن "جولد تسيهر" يصف هذا الكلام بأنه عميق وجد.. فما يكون اللغو إذن وما يكون العبث؟؟ القرآن فى نظمه ومعناه، وفى أسلوبه ومرماه، لا يختلف مكية عن مدنية فى شىء، فآخره يصدق أوله وأوله يمهد لآخره، وهذا التفريق من سخافات المستشرقين، والمفتونين بهم. ص _095(1/90)
وقد وصف القرآن الإنسان بأنه يهتدى بنفسه لأنه سبب فعال، وكائن مختار، ووصفه بأنه يهدى بربه، لأنه ليس خلاقا للظروف التى تعينه، والوسائل التى تبلغه هدفه. وكلا الوصفين حق، يجب أن يعرفه الناس فى كل مكان، دون توهم خلاف أو مناقضة. والسيد "جولد تسيهر" يزعم أن محمدا أحس ما فى وحيه من تناقض، فصرف أتباعه عن تعقبه فى ذلك، بأن نهاهم عن اتباع المتشابه!. ويؤسفنا أن نقول بأن الرجل يكذب عامدا.. فهو يعلم أن المتشابه فى القرآن هو ما تعرض لحقائق مغيبة يعجز البشر عن إدراك كنهها. معنى المتشابه فى القرآن الكريم: ولن نتحدث نحن عن المتشابه، بل ندع الكلام للدكتور "هنرى لنك " يعرض بأسلوبه طبيعة هذه الحقائق المتشابهة، قال: ".. الناس لا يولدون فى هذه الحياة بمحضر اختيارهم أو لسبب يعرفونه ويقدرونه إنهم يعيشون بمزيج من الغرائز والمسببات غير المعقولة أو الثابتة، وهم يعلمون أنهم سيموتون يوما، ولكن دون أن يعى منطقهم المحدود سبب هذا الموت. ذلك أن العقل يعجز عن إيجاد حل لهذه المشكلات، بالإضافة إلى أنه لم يخلق لهذا الضرب من التفكير، والفكر ليس فى حد ذاته غاية، بل هو أداة يستخدمها الإنسان ليكيف نفسه مع قيم الحياة وأغراضها التى لا يمكن إدراك كنهها. وكما أن الأسنان خلقت للمضغ بها لا لمضغ نفسها. كذلك العقل وهب كى يفكر فى سواه لا ليفكر فى استكناه أمره، والعقل آلة نعيش بها لا من أجلها " أ. هـ. ثم قال: ".. إن هناك قوة تسير هذا الكون، ولكن ما هى هذه القوة..؟.. " قال: " طبيعى أنك تقطن منزلا يضاء بالكهرباء، وتركب قطارا يسير بالكهرباء، وتلمس الدفء فى جوار مدفأة تدار بالكهرباء، فهل تعرف ما هى الكهرباء؟ إنها قوة تعرف أثرها ولا تدرك كنهها، هذا مثل أسوقه إليك أيها القارئ، لتدرك أن هناك قوى معروفة كالكهربائية والآلية، هذه القوى تتولد ونحس أثرها، وندرك تفاعلاتها منطقيا بعقلنا الذى هيئ لمجالات التثقيف فى الأبواب المختصة، ص(1/91)
_096
فعرف كيف يولد هذه القوى ويسخرها وينتفع بها، ثم لا يدرى شيئا عن كنهها، إذن فهناك قوى غير معلومة لنا! الطبيب بطبه، والمهندس بفنه، والعالم بمعرفته، كل أولئك يجيدون مهنتهم ولا يتعدونها إلى سواها، الطبيب لا يدرى الهندسة، والمهندس لا يشفى جرحا ، كلاهما فى أفقه لا يتجاوزه، ولو عرف أحدهم "الكل " فى فنه، فإن هذا الكل جزء من الكل الأصلى الجامع لأسرار هذا الكون العظيم. إذن فنحن نسلم بأن العقل الجبار المثقف، العارف بكل شىء يفرض وجود هذا الشخص الجاهل حتما بجزء من أسرار الكون، فكيف يستطيع هذا الجاهل معرفة خالق الكون، أو طبيعة القدرة التى اعترفنا بوجودها فى وجود هذا الكون الغامض، نحن لا نفهم طبيعة الحياة، فكيف يمكننا تصور كنه الله "؟. ا. هـ. هذا هو مجال المتشابهات التى أرادنا القرآن أن نقف عندها، فإن محاولة البحث فى الذات الإلهية، أو الصفات العليا، لاستبطان حقيقتها، واستكشاف أسرارها عبث من الخير الكف عنه!. هل يوصف القرآن بالتناقض لهذا؟ ذاك ما يزعمه "جولد تسيهر" ويحاول البرهنة عليه. إن مبحث تطور العقيدة مليء بالتخليط، والافتراء. وما دام الرجل يدعى أن أركان الإيمان صنعها المسلمون، وليست صادرة عن الله فى قرآنه، فنحن ندعه بعد ما كشفنا كذبه.. وبدهى أن ينهار كل ما بناه على هذه الأسس المفتراه. طبيعة الرجل فى بحوثه ظاهرة من مبدئها... ويكفى أن تعرف أين ولى وجهه لتحكم إلى أين ينتهى. فإذا افتتح حديثه عن العقيدة بأن القرآن ليس أصلا لها، ولا هو يصلح لتكوين دين واضح متكامل، ثم يجعل من هذه الخرافة المصباح الذى يسير على ضوئه، فهل ننتظر بعد ذلك إلا الشطحات المثيرة للسخرية، والشرود المغرق فى الضلال..؟؟ ص _097(1/92)
مجال العقل الإنسانى ومجال الوحى السماوى: واشتبك "جولد تسيهر" مع علماء الكلام المسلمين فى نقاش طويل نحب قبل أن نستبين طبيعته، أن نقدم بين يديه بحديث إسلامى لابد منه. للعقل الإنسانى مجال يقبل فيه نشاطه، وتثمر فيه جهوده. إن اهتدى فيه إلى الصواب لأول انطلاقة كان خيرا. وإن وقع فى الخطأ كانت عثرته درسا يتعلم منه كيف يختط الطريق إلى الحق. وقلما اقتحم العقل طريقه إلى المجهول فى معركة واحدة. إنه بين الحين والحين يتعرف قليلا مما استتر عنه، وكلما وصل إلى شىء يظنه ذا بال تبين أن هناك من الحقائق ما يتعاظمه الوصول إليه واكتناه كنهه. على أن المجال الفذ الذى يعد مسرحا رحبا لهذا العقل الجواب الدءوب هو: (1) الكون، وما تنطوى عليه آفاقه من قوانين، وعناصره من خصائص. وقد استقامت البحوث أمام علوم الكيمياء والطبيعة والهندسة والفلك والأحياء... إلخ وتمهدت منهاجها، وليس أمام الفكر الإنسانى حرج فى ارتياد هذه الميادين الكونية. ولا له حدود يقف لديها. (ب) شئون الدنيا، وأساليب ارتفاق الإنسان من هذه الطبيعة التى تمهدت له، وما يذخر به عالم الصناعة والزراعة والتجارة والطب وما نبت فى أكناف المعيشة الإنسانية من حرف، وما أفادته الأعم من خبرات مختلفة فى هذه الأنحاء كلها. وتلك هى الأخرى مجال فسيح أمام الفكر الإنسانى يتحرك فيه دون قيد وإلى غير حد. (جـ) العلاقات الإنسانية القائمة على تعرف القوانين النفسية والخلقية والاجتماعية والسياسية التى تحكم الجنس الإنسانى فى حياته على ظهر الأرض. وفى هذا الميدان قد ينفرد العقل بالعمل حيث لم تصل تعاليم الدين. أما بعد أن نزلت شرائع السماء، فالكلمة لها وحدها. وقد ظهر لنا- بعد مقارنات شتى- أن العقل لم يقرر فى هذه الناحية شيئا ضد الدين، وأن ما يتقرر من ذلك فى بعض المجتمعات هو خطأ تتحمل البشرية أوزاره، وتحتاج إلى الدين فى الخلاص منه. والإمام أبو حامد الغزالى- وهو ظاهر الازدراء(1/93)
للفلسفة الإنسانية- يرى أن ما يستحق القبول فى علوم الأخلاق والاجتماع والسياسة وما إليها إنما هو بقايا نبوات ص _098
دارسة، وشرائع سماوية قديمة. وأن الدين صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى ذلك الميدان . (د) أما ما لا شك فى أن الدين منفرد بالحكم فى جملته وتفصيله فهو ميدان العقائد والعبادات.. إن العقل النظيف منته حتما إلى أن الله حق، وأنه متصف بكل كمال، ومستحق لكل خضوع، لكن الحديث عن الله وصفاته مرجعه إلى الله وحده. وتعزف ضروب العبادات الواجبة لا يكون إلا عن طريق الوحى. ومعنى هذا فى جلاء أن نشاط التفكير الإنسانى فيما وراء المادة باطل، وكذلك نشاطه فى اختراع مراسم وصور لطاعة الله. وحرى به أن ينشط حيث امتداد سعيه منتج.. وأن يقنع- بعد- بتلقى ما تولت السماء تعليمه. الانحراف الذى طرأ على ثقافتنا التقليدية: عندما طلع نهار الإسلام على العالم، وبرع شعاعه الأول فى صحراء الجزيرة. انتفض العقل العربى من سباته، وخلع عنه أوضار الجاهلية، وتحرك صوب كل أفق يوقظ النيام ويفك القيود، ويدفع الفكر الهامد للعمل. وبدأت اليقظة الإسلامية بهذا المسير المبارك. وهنا نسأل: هل مال العقل الإسلامى عن ذلك النهج اللاحب ؟! والجواب: إن المرحلة الأولى لهذه الريادة الرائعة كانت مستقيمة الخُطا، وأنه حدث بعد ذلك انحراف قاومه الأئمة، وبذلوا جهودا طيبة فى استبقاء التفكير الإسلامى سليم الوجهة. وعندما نتأمل الحصيلة العلمية لرجالات الإسلام نجد العقل الإسلامى تحرك ببصر وقوة حيث يجب أن يعمل، وقنع بثمرات الوحى حيث يجب أن يستريح من عناء البحث العقيم. إلى أن جاء عصر الترجمة ودخلت أقطار الإسلام أفكار يهودية ونصرانية وإغريقية وهندية وفارسية.. إلخ. وليس مستغربا أن يتعرف المرء على ما لدى الآخرين . ص _099(1/94)
ولكن الذى حدث- للأسف الشديد- أن التفكير الإسلامى أصيب بصداع هائل من أثر ليونة المسلمين فى قبول الغث والسمين. ثم من أثر انكبابهم بجهد شديد على دراسة ما وراء المادة، والافتتان بأساطير الأولين فى تصوير ما هنالك!! وكان هذا الانكباب على حساب التفات هذا العقل الذكى إلى المادة نفسها، وإلى الحياة وقيادة الدين بها. هل كان ذلك مسلك الأئمة، ومنهج جمهور الأمة؟ لا.. إن الأئمة فى أمصار الإسلام جميعا كانوا يكترثون بدراسة الشريعة. وتلتف حولهم الجموع للاشتغال بالحق، لا بالباطل.. إن قادة الفكر الإسلامى رجال لم يتجاوزوا إطار الحياة العامة، ولا دائرة العلاقات الإنسانية فى بحثهم ودرسهم. وقد اجتهدوا فى ضبط واقع الناس بمقاييس الإسلام. أما فى ميدان الاعتقاد والعبادة فكان قصاراهم تحرى مرضاه الله والتزام النصوص الواردة. وقد رفض مالك- إمام دار الهجرة- أن يقول كلمة واحدة فى تفسير استواء الرحمن على العرش، وبذلك أبان عن موقف العقل الإسلامى من بحوث ما وراء المادة. لكن الرجل الذى سكت فى هذا الميدان قضى زهرة عمره فى مدارسة فقه العبادة والخلق ومقتضيات الإيمان فى اتجاهات السلوك الإنسانى كله. ورأى تعرضه للجلد فى فتوى يصدرها ضد الحكام أدنى إلى طبيعة الإسلام من الكلام فى اكتناه صفات الله. هذه الواقعية الجادة هى الطابع الشائع فى الفقه الإسلامى وسيرة رجاله. والفقه هو امتدادات الشريعة فى جميع الأحوال الاجتماعية والتصرفات الإنسانية، فلما زحف بلاء الفلسفة الإلهية على العالم الإسلامى وأخذ المنحرفون يشغلون الأذهان بخرافات لاهوتية كدرة ضاق رجالات الإسلام بهذا الزيغ. وانفجر هذا الضيق فى موقف أحمد بن حنبل من المعتزلة وملوك بنى العباس . ص _100(1/95)
النزاع بين أهل السنة والمعتزلة : كانت فتنة خلق القرآن السبب المباشر لاندلاع الحرب بين فئتين بعدت بينهما الشقة وكمنت البغضاء. الأولى: تشمل جمهور العلماء، ومعهم سواد الأمة وهم يرغبون فى المحافظة على الثقافة التقليدية للمسلمين، ويرفضون المشى مع الخيالات المستوردة، والمجالات النظرية التى لا قيمة ولا جدوى منها. والأخرى: المعتزلة ومعهم السلطة الحاكمة، وهم يرغبون فى شغل الأذهان بمسائل الفلسفة اليونانية بعد خلطها بتعاليم الدين، وخلق مزيج غريب منها ترى فيه النقل مشوها، والعقل جانحا إلى أوهام باطلة. ونحن بعد انقضاء ألف عام على هذه المحنة نسأل: أكان المعتزلة مخلصين للعقل ومنطقه يوم استعانوا بسيف الحكومة على إيذاء خصومهم فى الرأى؟ أما كان الأجدر بهم أن يكتفوا بالحجاج الفكرى المحض فى مجالسه التى أشاعوها حتى غص بها المجتمع الإسلامى؟ إن مجادلات بيزنطة انتقلت للأسف إلى محافل هذه الحضارة الطريفة النظيفة فلوت عنانها وهدت كيانها. ثم أهذه وظيفة الحاكم فى الإسلام؟ إن المرتقب من الحاكم أن يتحرى آثار الراشدين من الخلفاء فيلتفت إلى مصالح الأمة يرعاها وينميها، وإلى دعوة الإسلام فيمد شعاعها ويجلو تعاليمها، وإلى الأعداء المتربصين فيستعد للقائهم ويكف عن دين الله شرورهم. لكن الترف العقلى الآثم أتاح لذوى السلطة ومن مالأهم من المعتزلة أن يحدثوا هذا التيار الدخيل، وأن يحاولوا سوق الأمة جمعاء معهم. بيد أن العلماء القادة قاوموا بعنف وصبر هذا الابتداع، وقرروا أن يحيوا التراث الإسلامى ويصونوه. وتولى إمامة الناس إلى هذا الهدف أحمد بن حنبل. ومن الخطأ الظن بأن النزاع الذى احتدم كان من أجل أن يقول أحمد: إن القرآن مخلوق. إن النزاع دار حول التزام خطة السلف أو المروق منها. وحول شغل الناس ببدع علم الكلام، أو شغلهم بالجهاد والإنتاج كما كانوا مع رسول الله وخلفائه . ص _101(1/96)
حول وظيفة الحاكم: أهى تيسير اللغو للناس وسوقهم إليه؟ أم فقه الإسلام والعمل به وحمل لوائه؟ هذه حقيقة المعركة التى التفت فيها جموع المسلمين حول ابن حنبل ضد الحاكم الشارد وحواشيه من العلماء المرتزقة. والذين تتبعوا الجدل الذى دار يعرفون هذه الحقيقة. فإن أحمد بن حنبل كان بادى الحرص على تجنيب لسانه النطق بكلمة تنبىء بأى إقرار لموضوع البحث. إنه لم يقل بقدم القرآن، ولم يوافق على القول بحدوثه، لأنه يريد أن يقول: هذا موضوع لا أعترف بمشروعية الكلام فيه سلبا وإيجابا. الرجل يريد التزام المنطق الإسلامى الذى ألفه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ويكره تحت آلات التعذيب وكى السياط أن يحيد عن هذا الصراط قيد أنملة. ولكى نعرف الأثر العلمى والاجتماعى لوقفة ابن حنبل هذه نذكر لأحد أئمة السنة وهو على بن المدينى الذى يقول " إن الله عز وجل أيد هذا الدين بأبى بكر الصديق يوم الردة. وبعمر بن عبد العزيز حين رد المظالم إلى أهلها- لما استبد ملوك بنى أمية بالأمة- وبأحمد بن حنبل يوم محنته.. ". لقد خرج أحمد بن حنبل من السجن بعد سنين ولكن جلادته واستماتته قتلتا المعتزلة وأبقت كتلة الأمة بمنجاة عن اعتناق قضايا كهنوتية متطفلة على العقل الإسلامى وفقهه. شرود المعتزلة عن الخط الإسلامى : والمعروف عن المعتزلة أنهم كانوا يكبرون العقل، ويغلبون نظراته على مبادئ الشريعة. وهذا شىء يجب أن يدرك على حقيقته: فإن الإسلام يقوم على العقل ولم يؤثر عن دين ما أنه كرم العقل مثل ما كرمه الإسلام. لكن ليس من العقل إقحام العقل فى بحوث لا قبل له بها، ولا طاقة له عليها. إن العقل قد يملك البحث فى كومة تراب أو قطعة سحاب، ولكن أنى للمرء بحث روحه التى بين جنبيه؟ فإن كان عن ذلك عاجزا فهو عن البحث فى الذات العظمى أعجز ! ص _102(1/97)
لقد شرحنا فى صدر هذا البحث المواطن التى تمهدت بطبيعتها لجهد العقل الإنسانى، والمواطن التى استوعرت عليه ويقف أمامها كليلا وله عذره. ربما استطاع الفكر الإنسانى أن يشهد- فحسب- عمليات الاحتراف الناشئة من تعاقب الزفير والشهيق فى جسمه، وكيف تتولد الحرارة فى كيانه مع هذه الحركة الموصولة. إنه يشهد فقط ما يجرى، أو يتصوره. أما معرفة كنه هذه الحركة فمستحيلة، فإذا اتصل الأمر بالجهاز العصبى، ومصادر الشعور واللاشعور ازداد الأمر تعقدا، إلى أن يصل المرء بسرعة إلى درجة القصور المطلق. فبأى وجه يريد الإنسان معرفة أسرار الألوهية؟ وبأى وجه يثار الكلام فى ذات الله وصفاته ويدور التساؤل: هل الصفات عين الذات أم غير، أم لا عين ولا غير؟؟ إن تطاول العقل إلى هذه الأمور غرور أى غرور. وقد تكلم الفلاسفة الإلهيون في أصل الوجود كلاما هو إلى التخامين والتُرهات ، أقرب منه إلى العلم الأصيل المحترم. والحق أن الأنبياء وحدهم هم الذين يزودوننا بالكلم الفصل فى هذه المجالات. وعلينا أن نستمع لهم، وأن نصرف نهمنا العقلى إلى موضوعات ملائمة. وعلم الكلام- فى ديننا- يصح أن يدرس، وأن يتوسع فيه عندما يكون تصويرا مجردا للعقائد الإسلامية، وشرحا سليما لبراهينها، وردا للشبهات التى قد تثار عليها. أما ما شاع فى هذا العلم من مباحث فلسفية، وتكلفات عقلية، وتوليدات خلقها الفراغ، وتخمينات أساسها الحدس، فذاك ما يجب نبذه وتطهير الثقافة الإسلامية منه. وقد شن أئمة السلف حملة شعواء على هذا العلم من حيثما احتفاؤه بهذه القضايا، واسترساله فى عرضها وفرضها. ونحن نشارك فى هذه الحملة ونظاهر رجالها بصدق وعزم. ص _103(1/98)
التقعر فيما وراء المادة ضلال: ولما وصل المصرى الذى أرسله ابن العاص إلى عمر بن الخطاب ووجده يتكلم فى شىء يشبه علم الكلام اليوم، وذلك بسؤاله عن معنى الاستواء وأمثال ذلك من المتشابه، ضربه ونفاه وأمر الناس بمقاطعته. مع أن ما ضربه لأجله هو ما تمتلئ به كتب علم الكلام الذى نسميه علم التوحيد! ومالك: لما سئل عن ذلك عد السؤال بدعة، وجوابه مشهور معروف. وأبو حنيفة: نهى ابنه عن مناظرة رجل كان يريد أن يناظره فى القدر، وأمره ألا يعود. ومنع أصحابه من الصلاة خلف رجل كان يتكلم فى خلق القرآن. وآخر كان يرد عليه فقيل له: الأول ينكر قدم القرآن فما بال الآخر؟ قال: ينازع فى الدين- بطريق المشاركة- والنزاع فى الدين بدعة. وروى عنه النفى عن الصلاة خلف أصحاب الكلام. والشافعى قال: حكمى فى أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم فى العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على كلام أهل البدعة. ونقل عنه أنه قال: لأن يلقى العبد الله بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام. وقال إذا سمعتم الرجل يقول: الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهدوا أنه من أهل الكلام. وأحمد بن حنبل قال: علماء الكلام زنادقة. وقال: لا يصلح صاحب الكلام أبدا. والأشعرى: ذكر فى كتابه "الإبانة"- وهو آخر كتاب ألفه- أنه رجع فى عقائده إلى مذهب ابن حنبل . والغزالى: رجع إلى مذهب السلف: ذكر ذلك فى كتابه "إلجام العوام " وأعرض عن تلك الطرق جملة حتى مات والبخارى على صدره . والرازى: قال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلا، ولا تروى غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن. اقرأ فى الآيات: ص _104(1/99)
(الرحمن على العرش استوى) (..إليه يصعد الكلم الطيب ..) وأقرأ فى النفى (.. ليس كمثله شيء ..) (..ولا يحيطون بشيء من علمه ..) إلى أن قال: ومن جرب مثل تجربتى عرف صدق نصيحتى. وهو القائل: نهاية إقدام العقول عقال وغاية لسعى العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا والشهرستانى: يقول فى الفلاسفة والمتكلمين: لعمرى لقد طفت المعاهد كلها وسئرت طرفى بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقنه أو قارعا سن نادم وأبو المعالى الجوينى قال: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام. فلو عرفت أن الكلام يبلغ بى إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم. وخليت أهل الإسلام وعلومهم دخلت فى الذى نهونى عنه. والآن إن لم يتداركنى ربى برحمته فالويل لابن الجوينى.. إلى أن قال وهأنذا أموت على عقيدة عجائز أهل نيسابور. وقال آخر: اضطجع على فراشى واضع الملحفة على وجهى. وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندى منها. إن الكبوة التى ثوى الفكر الإسلامى فيها أمدا طويلا هى بحوث ما وراء المادة، لقد كان ذلك على حساب البحوث المادية والحيوية التى عليها المعول فى قيام الإنسانية واتساع نشاطها.. ص _105(1/100)
الفرق بين منهجين: وأجدنى هنا مضطرا إلى تبيان الفارق بين منطقين. * منطق عالم الغيب. * ومنطق عالم الشهادة. فإذا كان التسليم شيمة الصالحين بالنسبة إلى العالم الأول، فإن الأمر على العكس بالنسبة إلى عالم الشهادة. نحن فى عالم الغيب نتقبل خبر المعصوم، ويكفى فى قبوله أن العقل لا يحكم برفضه. أما فى عالم الشهادة للعقل امتداده فى النقد، والأخذ والرد.. وليست أمام العقل سدود ولا قيود. وقد لوحظ أن جماعات من المؤمنين تخلط بين هذا وذاك. وربما وجدت بعض من يوصفون بالتقوى كليل العقل و جبان الفكر، لا يستبين الأمور بحذق ولا يصرفها بذكاء. والواقع أن غباء هؤلاء أساس للدين جملة وتفصيلا.. وللمعرى فى ذلك أبيات لاذعة: ومالى لا أكون وصى نفسى ولا تمضى أمورى الأوصياء وقد فتشت عن أصحاب دين لهم نسك وليس لهم رياء فألفيت البهائم لا عقول تقيم لها الدليل ولا ضياء وإخوان الفطانة فى اختيال كأنهم لقوم أنبياء فأما هؤلاء فأهل مكر وأما الأولون فأغبياء فإن كان التقى بلها وعيا فأعيار المذلة أتقياء والتنويه بالعقل على ألسنة هؤلاء المفكرين، ليس غمزا للدين، وإنما هو تعريض بمسالك بعض المتدينين. وهى مسالك جديرة باللوم، خصوصا إذا كان الدين فى حياتها لا يعدو أشكال العبادات، ولا يسيطر على نوازع الشر. والواقع أنه مما يغيظ أولى الألباب، ويغضب رب الأرباب أن يكون الدين عند كثير من الناس مراسم وشعارات، ولا يكون فضائل ونظاما، وأن يمس ظواهر الأشياء ولا يتغلل فى صميمها . ص _106(1/101)
وعلى هذا يفهم قول المعرى: والعقل يبحث والشرائع كلها خبرا يقلد، لم يقسه قائس متمجسون، ومسلمون، ومعشر متنصرون وهائدون رسائس وبيوت نيران تزار تعبدا ومساجد معمورة وكنائس والصابئون يعظمون كواكبا وطبائع كل فى الشرور حبائس وقد شاء بعض الناس أن يذكر هذه الأبيات للاستدلال على كفر المعرى بالدين كله على اختلاف ملله ونحله. ولكنا قارنا هذه الأبيات بما ثبت يقينا أنه من شعر المعرى فوجدنا الأمر على غير ما يتصورون، وحكمنا بأن الرجل يهجو المتدينين السطحيين الذين تكسو التقوى ظواهرهم وحدها، أما طباعهم فهى فى الشر حبائس!! ويشهد لرأينا قوله- ولعله من القصيدة السابقة نفسها: تشاد المغانى والقبور دوارس ولا يمنع المقدار باب وحارس ومهما يكن فالله ليس بزائل ويجنى الفتى من بعد ما هو غارس ثم هناك قصيدته الدالية الرائعة، التى سبك فيها عواطفه ذهبا خالصا، وهو يرثى أحد فقهاء المذهب الحنفى: غير مجد فى ملتى واعتقادى نوح باك ولا ترنم شاد وفيها يقول: خلق الناس للبقاء فضلت أمة يحسبونهم للنفاد إنما ينقلون من دار أعمال إلى دار شقوة أو رشاد وهذا كلام صريح فى الإيمان بالجزاء. فإذا قال فى القصيدة نفسها: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد فليس يصح الزعم بأن الرجل يرى الموت عدما محضا.. إنه يراه راحة، وهو للمؤمن راحة بلا شك، ولكنه ليس راحة عدم الإحساس، بل راحة الإحساس بالدعة والرضا والسكينة فى جوار أرحم الراحمين. ص _107(1/102)
وفى الحديث أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ـ وقد مرت به جنازة: "مستريح ومستراح منه " فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟! فقال: " العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب " . وإيمان المعرى بالله ولقائه يدل عليه هذا الاحتجاج على الملحدين: قال المنجم والطبيب كلاهما: لا تحشر الأجساد قلت: إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولى فالخسار عليكما وهذا المنطق لا أستريح له كل الراحة!! فإن الإيمان لا يحتمل ترددا بين نفى وإثبات، ولكن يبدو أن مقصد المعرى دعم الحياة الدينية بأسلوب الاسترسال مع الخصم، وإن لم يكن هناك محل للوفاق معه. وترجيح هذه الحياة بأنها أساس الاستقرار النفسى والخلقى وأنها تكفل لأصحابها الخير على أية حال.. وجهة نظر لا بأس بها. من أسباب تأخر المسلمين: إن كثيرا من أصحاب القلوب الكبيرة والبصائر المنيرة لا يطيقون ما يقترن بحياة المنتسبين إلى الدين من ضيق عطن ، وجمود رأى، واعتناء بالصغائر. وإكبارهم لمكانة العقل تنبعث من ملاحظة هذا السلوك الحدود. وقد أظهرنا فى كتابنا "ليس من الإسلام " أن عوام المتدينين لهم مفارقات مستغربة! فان الله أكمل الدين وانفرد بالتشريع ، ولم يكل إلى الخلائق شيئا منه. وترك للناس شئون دنياهم يجددون فيها ما شاءوا وقال لهم على لسان نبيه: "أنتم أعلم بشئون دنياكم " ...!! ص _108(1/103)
ورضى منهم الاتباع المطلق فى الميدان الأول، والابتداع المطلق في الميدان الآخر. فإذا هم ينكسون على رؤوسهم، فيخلقون فى الدين بدعا ما أنزل الله بها من سلطان، ويجمدون دنياهم أو يرجعون بها القهقرى.. الطنبور الذى يروى الأرض من ألف وأربعمائة سنة هو هو، وما كان على الناس من حرج لو غيروه وطوروه. والعبادات التى يجب أن تظل هى هى من بدء الإسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم الفناء الأخير أعملوا فيها فكرهم، فزادوها تشكيلة من المحدثات الذميمة!! فهم يعيشون بدين معتل، ودنيا مختلة! وما بهذا تصلح الأمور. ومن أجل ذلك شددنا النكير على بحوث ما وراء المادة، وعلى أغاليط علم الكلام. وعلى اشتغال العقل الإسلامى الذكى بقضايا لا يزيده الإلمام بها إلا بعدا عن الحق والخير.. * * * * "جولد تسيهر" وعلم الكلام: لقد أطلت النظرة قصدا فى هذا الموضوع حتى يستبين القارئ على ضوء ما سطرنا قيمة الأحكام التى أرسلها "جولد تسيهر" فى باب تطور العقيدة. إنه تناول علم الكلام تناولا لبس فيه الحق بالباطل، وتذرع منه إلى اتهام الإسلام بما هو منه براء. وما يعنينا صوابه أو خطؤه وهو يعلق على آراء المتكلمين ومذاهبهم. إنما يعنينا دحض مفترياته، وهو يوهم الناس أن الإسلام يستوحش من العقل، وأن علماءه يضيقون بمنطقه، وأن المعتزلة هم وحدهم الذين قادوا الحركة الفكرية الحرة فى الإسلام. والرجل كاذب فى هذه الأحكام، فليس هناك دين نزل من السماء، أو اختلقه الناس فى الأرض حبا العقل من التقدير والإعزاز ما حباه الإسلام. والمعتزلة لا يمتازون على علماء المسلمين فى منح العقل فضل احترام. ص _109(1/104)
إنما امتاز المعتزلة بأنهم استخدموا العقل حيث لا يفيد استخدامه، فكانوا كمن يحاول إحداث فجوة فى موج البحر بمثقاب. إنك مهما فتلت المثقاب وعمقت الحفر فلن تفعل شيئا. كذلك البحث العقلى فيما وراء المادة ومحاولة التعرف على حقائق الذات الإلهية. وليت المعتزلة لم يدوخوا الفكر الإسلامى فى هذه المتاهات. الإسلام يجعل مهاد تعاليمه وسياجها فى حدود ما أسهبنا بيانه. ومن ثم نعرف حقيقة ما يقوله "جولد تسيهر" (ص 152): " وكان بعد ذلك أن صبغ اتصال المعتزلة بعلم الكلام أفكارهم بطابع عقلى، ودفعهم هذا شيئا فشيئا إلى أن تظهر منهم ميول عقلية انتهت بهم اخيرا إلى معارضة واضحة للمذهب السنى المعروف. وسيكون من الواجب علينا في حكمنا الأخير على المعتزلة أن نثقل عليهم بكثير من السمات البغيضة، ومع هذا فقد بقى بهم فضل غير منقوص، لقد كانوا الأوائل الذين وسعوا معين المعرفة الدينية، بان ادخلوا فيها عنصرا آخر وهو العقل الذى كان- حتى ذلك الحين- مبعدا بشدة عن هذه الناحية! وقد ذهب بعض رجالاتهم وممثليهم الأكثر شهرة إلى القول بأن "الشرط الأول للمعرفة هو الشك " وأن "خمسين شكا خير من يقين واحد" هو اليقين الباطل بداهة - هكذا. ومن الممكن أن ننسب إليهم هذه الفكرة التى ترى- حسب مذهبهم- أنه توجد حاسة سادسة غير الحواس الخمس، وهى المعروفة بالعقل. إنهم رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والد ليل فى أمر العقيدة والإيمان وأن واحدا من قدامى ممثليهم، وهو بشر بن المعتمر من بغداد مدح العقل مدحا كبيرا فى قصيدة تعليمية فى التاريخ الطبعى، حفظها الجاحظ (فى بعض مؤلفاته) وفسرها إذ يقول: لله در العقل من رائد وصاحب فى العسر واليسر وحاكم يقضى على غائب قضية الشاهد للأمر وأن شيئا بعض أفعاله أن يفصل الخير من الشر لذو قوى قد خصه ربه بخالص التقديس والطهر ص _110(1/105)
ثم حديثه عن: ظهور نزعات متوسطة منذ ابتداء القرن العاشر عملت على استخلاص قليل من المذهب العقلى من كلام أو تراث أهل السنة، وغايتهم انجاء الصيغ القديمة من ثوران الملاحظات العقلية. وتعابير العقيدة السنية المطلقة بشىء قليل تزدان به من المذهب العقلى ترتبط باسم أبى الحسن الأشعرى المتوفى ببغداد عام 324 هـ (935 م)، واسم أبى منصور الماتريدى المتوفى بسمرقند عام 333 هـ (944 م) وبين هذين المذهبين لا توجد فروق جوهرية. كان الأول يسود الأقاليم المتوسطة من العالم الإسلامى، بينما كان الثانى مزدهرا فى الأقاليم الشرقية وفى آسيا الوسطى. وعلى العموم فإن آراء الماتريدية أكثر حرية و "عقلية" من آراء زملائهم الأشاعرة. فأولئك أدنى إلى المعتزلة من هؤلاء. ولنذكر مثلا واحدا يوضح لنا خلافهم جميعا- أعنى المعتزلة والأشاعرة والماتريدية- فى الجواب عن هذه المسألة: ما هو أساس وجوب الإيمان بالله؟ فالمعتزلة يرون أنه العقل. والأشاعرة يرون أنه لا يجب علينا عقلا وإنما يجب علينا شرعا أن نؤمن بالله. أما الماتريدية فيقولون: إن واجب الإيمان بالله أساسه الأمر الإلهى (كما يرى الأشاعرة) ولكن هذا الأمر يدركه العقل، أى أن العقل دهان لم يكن المرجع للإيمان بالله فإنه الأداة فى ذلك " * * * * موضوع التحسين والتقبيح بالعقل: نقول: وعرض المسألة بهذا الإيجاز المبتسر فيه إخلاد بالموضوع، إذ أن أساس البحث يرجع إلى موقف علماء الكلام من قضية "التحسين والتقبيح العقليين " وليس هنا مكان شرحها وبسط الآراء المتعارضة فيها. والذى نؤكده، ونوجه النظر إليه أن علماء المسلمين المحققين من سلف وخلف يرون أن فى بعض الأشياء حسنا أو قبحا ذاتيين يستطيع العقل معرفتهما ابتداء. ص _111(1/106)
فهو يدرك ما فى العلم والعدل من حسن، ويدرك ما فى الجهل والجور من قبح. لكن ما أكثر وجوه الخلاف بين العقلاء، وأوسع الشقة بين وجهات النظر فى شتى الأمور. إن فى عصرنا هذا فلسفات ونظما شرقية وغربية لا يسد الفجوة بينها إلا الدم. وكلا الفريقين لم يتهم الآخر بأنه فر من مستشفى المجانين!! ولسنا بصدد انتقاص العقل وقدرته.. بيد أننا نقول جازمين : إن العقل لا يغنى عن شريعة الله. وإن لله من عباده مطالب لا تعرف إلا عن طريق النبوة. وإن تفاصيل المعتقدات والعبادات لا وظيفة للعقل فيها إلا الفقه والتلقى.. ويبقى أن نسأل "جولد تسيهر" وهو رجل يهودى يشتغل لحساب التبشير النصرانى، ويأخذ أجره من وزارات الاستعمار، أو من هيئات الدعاية المسيحية: هل هو يرى أن العقل يغنى عن الشرع، كما يزعم المعتزلة ذلك زعما جزئيا؟ إن صح لديه ذلك فلا مكان للنبوات كلها، وسقطت الديانات جملة، وارتفعت الثقة بكتب السماء أولا وآخرا!! إننا لا ندافع عن علماء الكلام... بيد أن عرض مجادلاتهم بأسلوب فيه غمز للفكر الإسلامى لا معنى له، خصوصا إذا تعلق البحث بمسألة تخص الأديان كلها. قانون السببية وموقف المسلمين منه: ولجمهور المسلمين موقف من قوانين الأسباب والمسببات يحتاج إلى شرح، خصوصا بعد ما تعرض "جولد تسيهر" لموقف العلماء الأشاعرة منه، ولخص مذهبهم تلخيصا فيه غمط وإحراج. إن أهل السنة لم يفكوا الرباط العتيد بين الأسباب ومسبباتها، ولم يتجاهلوا هذا التلازم المطرد بين العلة والمعلول. لقد قالوا: إن الماء يروى، وإن الأرض تنبت، وإن النار تحرق وإن الشخوص تظل.. إلخ، وأن العادة جرت بذلك وسجلت الملاحظات مجراها دون تخلف غالبا. والشىء الذى حرص أهل السنة على إثباته وإبرازه هو المشيئة العليا، فقالوا: إن النار تحرق بمشيئة الله. ص _112(1/107)
فهم لم يماروا فى أن طبع النار الإحراق، أو أن أثرها الإحراق ولكنهم جعلوا لإرادة الله مدخلا أصيلا فى بلوغ السبب غايته.. ونحن نقدر بواعث هذا التفكير، ونحترم الغاية الشريفة المقصودة منه، فإذا كان فى الدنيا من ينكر وجود الله، ومن ينسب شئون الحياة والموت والحركة والسكون إلى طبيعة العناصر وحدها، فإنه حق على المتدينين قاطبة أن يتدخلوا فى هذا التفكير ليعترضوا مسيره. وانتصاب مفكرى الإسلام لخوض هذه المعركة، دفاعا عن الحقيقة العليا، أمر ينبغى أن يتناوله بالإكبار أى مفكر يهودى أو نصرانى. ولذلك نحن نرى من سماجة الخصومة أن يتندر مبشر أو مستشرق بهذا السلوك. ولنعد إلى الموضوع نفسه: هل السبب خالق حقيقى لما ينشأ عنه؟ أم هو مظهر لقوة قارنته وتلبثت به وفاضت عليه من خارج؟ إن علماء المسلمين لا يرونه خالقا حقيقيا لما تمخض عنه. الماء سبب للإنبات، لأن هذه الخاصة فيه عرضت له ممن خلقه، فنحن لا نشك فى صلاحيته للإنبات، ولا فى قابليته لحمل السفن مثلا. لكن الذى نريد توكيده أن هذه الخواص مفاضة عليه من الخالق الكبير، فهو الذى جعله كذلك. وهنا يجىء سؤال آخر: هل الإله الذى خلق العالم استقال من إدارة الوجود وتركه يسير وحده؟! أم لا يزال يباشر الإشراف على كل ذرة فى مملكته المترامية الأطراف والأبعاد؟ إن علماء المسلمين يقولون: إن سيطرته مطلقة وهيمنته تامة على كل شىء. فما يصل سبب إلى نتيجته إلا لأنه يستمد وجوده الأصلى وخصائص هذا الوجود لحظة فلحظة من الله رب كل شىء، وبانيه وهاديه. ومعنى هذا بداهة أنه يستطيع- لو شاء- تعطيل أى سبب عن أداء وظيفته. هذه المعانى هى التى يريد علماء المسلمين الاطمئنان إلى تقريرها، وكلامهم فى الأسباب والمسببات يدور داخل هذا النطاق. والمقصد- كما قلنا- حق وشريف. ص _113(1/108)
وإذا كانت العبارات الدالة عليه أو الوسائل الممهدة له تضطرب فى الأفهام وعلى الألسنة أحيانا، فإنما المهم هى الغاية، وهى حق. وتسجيل تلك الغاية أمر حتم حين نجابه الملحدين فى ذات الله من وجوديين وشيوعيين وأشباههم من الدواب الثرثارة فى هذه الأيام. إن علماء الإسلام ما فكروا فى هدم التماسك بين الأسباب والمسببات. وإنما أرادوا الرد على منكرى الألوهية، أو على من يتصورونها آلة محدودة الصلة والسلطة. فإذا كان لدى اليهود والنصارى من أصحاب الأديان السماوية فكر أشرف من هذا فى تنزيه الله وتمجيده، فليتفضلوا بعرضه ولو عن طريق المبشرين والمستشرقين، ونحن نقبله للفور فما نتراخى أبدا فى قبول أى منطق يعظم الله. قد تكون عبارات الأشاعرة جانحة إلى إثبات المدخل الإلهى فى كل أمر. وهذا يوهم النيل من قانون السببية، وعندى أن هذا الجنوح يرجع إلى طبيعة الرد على الخصوم أكثر مما يرجع إلى جحد السببية. خصوصا فى المجادلات المجنونة التى دارت رحاها فى علم الكلام. ويعجبنا قول الشيخ جلال الدين الرومى فى هذا الموضوع: " وقعت فرق إسلامية فى مسألة الأسباب والعلل بين الإفراط والتفريط. فمذهب الحكماء أن العالم خاضع خضوعا تاما لسلسلة العلة والمعلول، المعلول لا يتخلف أبدا عن العلة والمسبب لا ينفك حينا عن السبب ويميل المعتزلة إلى هذا الرأى فإذا قرروا علة لشىء، أو اعتقدوا خاصية وتأثيرا فى شىء رأوا ذلك ضربة لازب لا يقع خلافه إلا فى نادر النادر. ولذلك تراهم يستبعدون وقوع شىء خلاف خاصيته، أو وقوع حادثة من كير سبب. ويجتهدون فى تعليل ما ثبت من ذلك فى القرآن والحديث، وتواتر نقله من المعجزات والخوارق وردها إلى الأسباب العادية والعلل الطبيعية. فإذا أخفقوا فى ذلك- وهو نادر جد ا- اعترفوا بالمعجزة مضطرين. والأشاعرة بالعكس من ذلك، إنهم على طرف آخر يقررون أنه لا شىء علة لشىء آخر، ولا خاصة فى شىء ولا تأثير. وقد أضر هذا التطرف أيضا وأحدث(1/109)
فوضى، واستطاع كل أحد أن يقول ما شاء وينكر ما شاء . ص _114
وتطرق كثير من الناس- لهذا القول- إلى إنكار الأسباب ورفضها، وإلى التعطل والبطالة " أ. هـ. ... والشيخ جلال الدين مذهبه وسط بين الطرفين، فهو يقرر أن الأسباب حقيقة وأن العلل والمعلولات، والأسباب والمسببات مربوط بعضها ببعض، وليس من الإنصاف ولا من المعقول إنكارها ولا يمكن ذلك، وسنة الله السائرة أن يخضع المسببات لأسبابها، ويظهر من الأشياء خواصها، ولكن خرق العادة ممكن وواقع. فإن الذى خلق الأسباب وبرأ العلل لم يُعزل بعد خلقه ولم يبعد الأسباب عن قدرته وفعله. إنه لا يزال رب الأسباب والقادر المطلق. فإذا شاء ترك المسببات مرتبطة بأسبابها. خاضعة لنواحيها وعللها. وذلك هو الغالب الأكثر. وإذا شاء جردها من أسبابها وخلقها من غير سبب أو خلاف سبب، وهذا هو الخارق للعادة. ثم يقول: " إن عامة الأحوال والحوادث منتظمة على السنة الإلهية الجارية، ولكن الله قد يخرق هذه العادة، ويخالف هذه السنة بقدرته ومشيئته أحيانا لأنبيائه وأوليائه فإذا رأينا الأسباب مؤثرة عاملة فى أغلب الأحوال، فلا ينبغى لنا أن نعتقد أن القدرة الإلهية عاجزة مشلولة، وأن الإرادة الإلهية معطلة معزولة. وأن الله لا يستطيع عزل المسببات عن أسبابها، وفك المعلولات عن عللها. وليست الأسباب مقصورة على ما عرفناه وجربناه، وعلى ما نشاهده ونعرفه، بل هناك أسباب خفية مستورة عن عيوننا، وهذه الأسباب الباطنة سبب ومحرك للأسباب الظاهرة وقد تشغلها، وقد تقفها وتعطها، ويدرك الإنسان بسهولة الأسباب الظاهرة، ولكنه كثيرا ما يجعل السبب الباطن. إنه يلاحظ مثلا إذا قدح الزند بالزند اشتعلت النار ، فيدرك أن القدح سبب للشعلة ولكن لا يعرف السبب الباطن، ولا سبب الأسباب الذى تنتهى إليه سلسلة العلل.. والسبب الحقيقى الأصيل هو الأمر الإلهى والإرادة العليا التى هى فوق كل سبب وأصل كل حادث: (إِنمَّا أَمْرُه إِذَا أَرَادَ(1/110)
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون). والأنبياء يعرفون الأسباب الباطنة ويرونها كما نعرف الأسباب ونراها، ثم هم يؤمنون بأن السبب الحقيقى الذى تنتهى إليه جميع الأسباب والعلل، والذى هو مصدر كل حادث وعمل هو الإرادة الإلهية . ص _115
إنهم يشاهدون هذه الإرادة الإلهية تتصرف فى الكائنات وتتحكم فى هذا العالم، وتعلو كل إرادة وكل قانون، وهى التى يخضع لها نظام الكون، وهى التى تخلق فى الأشياء خاصيتها ثم تجردها منها إذا شاءت، وتغير طبائع الأشياء وفطرها. فتجعل من النار بردا وسلاما. ويرون الأسباب الظاهرة ضعيفة حقيرة تافهة أمام الأسباب الباطنة، ثم يرون الأسباب الباطنة ضعيفة حقيرة تافهة أمام السبب الحقيقى: "المشيئة الإلهية" (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين). ويبالغ الناس قصيرو النظر- بتأثير الجاهلية والمادية- فى تقديس الأسباب والإيمان بقوتها وتأثيرها، والتمسك بها، والعكوف عليها. ويتخذون الأسباب أربابا من دون الله. ويتغافلون عن سبب الأسباب ورب الأرباب، ويعكفون على عبادة الظواهر والمظاهر. هناك يقوم الأنبياء يحاربون هذه الوثنية- وثنية الأسباب- ويدعون الناس للانتقال من الأسباب إلى المسبب، ويُجرى الله على يدهم- تنبيها وتعليما- حوادث تنتقض بها قوانين الطبيعة، ويظهر بها ضعف الأسباب وعجزها، وتتجلى بها قدرة الله المطلقة، وإرادته الحرة، ومشيئته القاهرة، وأنه يملك زمام الكون، وبيده ملكوت كل شىء، وهو قادر على كل شىء، غير مفتقر إلى الأسباب وغير متقيد بها، فتنفلق لهم البحار، وتنفجر لهم الأنهار من غير الأسباب العادية، وتنشأ لهم الزروع والحقول من غير زراعة ويتحول الرمل دقيقا، والصوف حريرا، وتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، ويملك الفقير الضعيف، ويهلك الغنى القوى. (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل(1/111)
بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) أ. هـ. ص _116
الجماهير وقانون السببية: وقانون السببية ليس بحثا نابعا من طبيعة الترف العقلي، أو هو حوار مقطوع الآصرة بحياة الناس فى الغدو والآصال. لا. إن الكلام فى هذا الموضوع يشتبك بصميم الحياة العامة، فلا عجب إذا خاض فيه الوعاظ ودرسوه للناس فى المساجد. والدرس المشوش لهذا الموضوع مدمر للمجتمع وماس بحقيقة الإيمان. إن المدرس اللبق هو الذى يبذر فى النفوس الحرص على احترام الأسباب والأخذ بها فى كل حركة وسكون، لأن ذلك حق يعاب جهله. وهو فى الوقت نفسه يبصر المؤمنين بأن الله من وراء كل سبب. وأن إرادته العاملة فى الأسباب هى التى تصوغ النتائج. أو أن هذه الأسباب المنتجة هى معنى إرادة الله. المهم هو التذكير بأطراف الحقيقة كلها، فيعرف الفلاح مثلا أن الله هو الزارع الحقيقى، ويعرف إلى جانب ذلك أنه هو والتربة التى يكدح فوقها أسباب لابد منها، وأنه لن يستطيع الحصول على ثمرة دون هذه الأسباب. إن الخواص المودعة فى الأسباب حق. بيد أنها أشبه بالتيار الكهربائى السارى فى الأسلاك، يبقى ما بقى المصدر المولد، وإلا أصبح السلك عاطلا باطلا. كذلك الأسباب كلها إذا عريت عن المشيئة العليا. وفى لفت نظر الجمهور إلى ضرورة الأسباب وتوفيرها، والعناية بجمعها وترتيبها يقول ابن الجوزى: "عرضت لى حالة لجأت فيها بقلبى إلى الله تعالى وحده، عالما بأنه لا يقدر على جلب نفعى ودفع ضرى سواه. ثم قمت أتعرض بالأسباب فأنكر على يقينى، وقال: هذا قدح فى التوكل. فقلت: ليس أمر الأسباب كذلك، فإن الله تعالى وضعها من الحكم. وكان معنى حالى أن ما وضعت لا يفيد، وأن وجوده كالعدم. ص _117(1/112)
وما زالت الأسباب قائمة فى الشرع كقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم). وقال تعالى: (.. فذروه في سنبله .). وقد ظاهر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين درعين، وشاور طبيبين، ولما خرج إلى الطائف لم يقدر على دخول مكة حتى بعث إلى المطعم بن عدى فقال: "أدخل فى جوارك ".. وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلا بلا سبب. فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضى عن الأسباب دفعا للحكمة. ولهذا أرى أن التداوى مندوب إليه، وقد ذهب صاحب مذهبى إلى أن ترك التداوى أفضل!. ومنعنى الدليل من اتباعه فى هذا.. فإن الحديث الصحيح أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا" . ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجبا، أو ندبا. ولم يسبقه حظر، فيقال: هو أمر إباحة . وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: "تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما ينعت له ". وقال عليه الصلاة والسلام لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: "كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا". ومن ذهب إلى أن تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: "يدخل الجنة سبعون ألفا بلا حساب ". ص _118(1/113)
ثم وصفهم فقال: "لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ". وهذا لا ينافى التداوى، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا، ويسترقون لئلا تصيبهم نكبة، وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة، ورخص فى الرقية فى الحديث الصحيح، فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه. وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمى، وشرب ماء التمر هندى أوفق لى، وهذا طب. فإذا لم أشرب ما يوافقنى، ثم قلت: اللهم عافنى، قالت لى الحكمة: أما سمعت: اعقلها وتوكل ؟ اشرب وقل عافنى، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب، فتكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلى صلاة الاستسقاء.!! وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجربة، وإنما سافر على التجربة لأنه يجرب ربه عز وجل هل يرزقه أو لا!! وقد تقدم الأمر إليه: "وتزودوا" فقال: لا أتزود. فهذا هالك قبل أن يهلكه. ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء، ليم على تفريطه، وقيل له: هلا استصحبت الماء قبل المفازة! فالحذر من أفعال أقوام دققوا فمرقوا عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع، والمخالفة للأوضاع. ولولا قوة العلم والرسوخ فيه، ما قدرت على شرح هذا ولا عرفته، فافهم ما أشرت إليه فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعانى لا مع أهل الحشو". * * * * وكلما ربا اليقين فى الفؤاد، وصدقت صلة العبد بالله رنت بصيرته أبدا إلي ما وراء الأسباب، وتخطت الحجب التى تستر القدرة وتعلقت بذات الله وحده. إن النظارة قد يشهدون الصور المتحركة يحسبونها كل شىء بيد. أن هناك فريقا من الناس تتعدى أبصارهم هذه الصورة إلى الأجهزة التى تلقيها، والأدوات التى تبرزها. ص _119(1/114)
ومن الصالحين من يعبر بسرعة قنطرة الأسباب ليشهد مشيئة الله وحكمته وتدبيره وقدرته فيما يقع له ولغيره من الخلق. وعندما تحتبس الأنظار المحدودة وراء الأسباب وحدها ينبغى تذكيرها بالله، ليكون هذا التذكير "عامل توازن " فى فهم أطراف الحقيقة. ولابن الجوزى كلام رفيع فى وصف العلاقة بين بعض الأصفياء وربهم ينبغى أن يفهم داخل الإطار الذى رسمناه آنفا، قال رضى الله تعالى عنه: " قلوب العارفين يغار الله عليها من الأسباب، وإن كانت لا تساكنها لأنها لما انفردت لمعرفته انفرد لها بتولى أمورها. فإذا تعرضت بالأسباب محا أثر هذه الأسباب: (و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا). وتأمل فى حال يعقوب وحذره على يوسف عليهما السلام حتى قال: (ِ وأخاف أن يأكله الذئب) (فأكله الذئب) فلما جاء أوان الفرج خرج "يهوذا" بالقميص فسبقته الريح فقال : (إني لأجد ريح يوسف) وكذلك قول يوسف عليه السلام للساقى: (اذكرني عند ربك) فعوقب بأن لبث سبع سنين فى السجن، وإن كان يوسف عليه السلام يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله، وأن التعرض بالأسباب مشروع غير أن الغيرة أثرت العقوبة. ومن هذا قصة مريم عليها السلام (وكفلها زكريا) فغار المسبب من مساكنة الأسباب فتولاها بفضله ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) ومن هذا القبيل ما يروى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب " . والأسباب طريق ولابد من سلوكها، والعارف لا يساكنها، غير أنه يجلى له من أمرها ما لا يجلى لغيره من أنها لا تساكن، وربما عوقب إن مال إليها، وإن كان ميلا لا يقبله، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب. ص _1 ص(1/115)
وتأمل عقبى سليمان عليه السلام لما قال: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاما" ولم يقل: إن شاء الله، فما حملت إلا واحدة جاءت بشق غلام. ولقد طرقتنى حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب، إلا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة ومداراته بكلمة، فبينا أنا أفكر فى تلك الحال دخل على قارئ فاستفتح، فتفاءلت بما يقرأ، فقرأ: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ). فبهت من إجابتى على خاطرى، وقلت لنفسى: اسمعى، إننى طلبت النصر فى هذه المداراة، فأعلمنى القرآن أننى إذا ركنت إلى ظالم فإننى ما ركنت لأجله من النصر. فيا طوبى لمن عرف المسبب وتعلق به، فإنها الغاية القصوى، فنسأل الله أن يرزقنا اليقين "أ. هـ. * * * * وقائل هذا الكلام فى التعويل على الله، والتبتل إليه.. هو الذى نوه من قبل بقيمة الأسباب وضرورة الأخذ بها. وأنه لصادق فيما قال أولا وقال أخرا... لأن الإسلام يجمع بين احترام السبب، والاعتماد على المسبب. ص _121
الفصل الرابع الزهد .. والتصوف الفتح الإسلامى ثمرة إيمان عفيف الإسلام ميلاد جديد للعالم ما هو الزهد؟ السلف الأول ومواقفه من الحياة الدنيا نبى الإسلام يحارب الرهبانية الرهبانية تكره الطيب.. كما تكره المرأة الإسلام يخدم الروح والجسد الإسلام فوق هذه الأوهام مبادئ الانحراف التصوف الحق وأسسه المقبولة مظاهر الغلو الإسلام لا يزال يصنع ما هو الاجماع أو ما قيمته، وهل هو مصدر مستقل للعبادات؟ الإسلام لا يؤخذ من أعمال الجهال والمبتدعة ص _122(1/116)
محمد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الحديث عن التصوف الإسلامى بعد تجريده من العناصر الدخيلة موضوع متشعب الأطراف، يحتاج إلى أن نفرد له كتابا خاصا، وقد نستطيع إعطاء صورة صحيحة له فى كتابنا الذى اعتزمنا إصداره عن "الجانب العاطفى فى الإسلام " . بيد أننا نعجل إلى إرسال حكم عام عن فكرة "جولد تسيهر" فى هذا الموضوع، ليعرف القارئ قيمتها العلمية.. فالإسلام- فى نظره- كان أول أمره دين زهد فى الدنيا، وانصراف عن الحياة، وتطلع للدار الآخرة.. ثم ماذا بعد هذه البداية النقية؟! ثم شعر النبى بأن الأتباع لم يجتمعوا عليه تحت الراية! فأخذ يغريهم بمغانم الفتح ومنافع الغزو !. يقول: " ثم قبل أن يغمض النبى عينيه، أو بعد وفاته مباشرة تحول المبدأ السائد- مبدأ الزهد- إلى مبدأ آخر، ففكرة الزهد فى العالم حلت محلها فكرة فتح العالم!! ولم يكن هذا الفتح موجها نحو المثل الأعلى وحده، لأن كنوز المدائن ودمشق والإسكندرية لم تسمح بطبيعتها بوجود ميل إلى الزهد أو التقشف " (ص 134- 135). هكذا يبدأ "جولد تسيهر" بحثه عن التصوف الإسلامى. أو عن الزهد الذى ولد فيما بعد هذا التصوف....!! الأساس الذهنى عند الرجل تجريح دين، واتهام أمة، وهدم تاريخ. إنه لا يعالج قضية ما بفكر مجرد، ونية خالصة، وتحر عن الحق لوجه الحق، بل يحدوه صوت الحقد فينطلق وراءه لا يلوى على شىء. والمحور الذى لا يمل الدوران حوله، أن الإسلام من عمل البشر، وليس من وحى الله . وأن هذا العمل شاركت فى إتمامه الأمة الإسلامية بعد ما افتتحه محمد بقرآنه... شاركت فيه بشهواتها حينا، وبنقلها عن الحضارات القديمة حينا آخر. بهذه النظرة الداكنة، وهذا القلم الكذوب تحدث المستشرق عن ركن ضخم من أركان الثقافة الإسلامية بالتربية النفسية وترقيق القلوب . ص _123(1/117)
الفتح الإسلامى ثمرة إيمان عفيف: فى مطلع الكلام عن الزهد والتصوف حديث لـ "جولد تسيهر" مليء بالافتراء عن طبيعة الرسالة الإسلامية، وحقيقة الفتح الإسلامى. و"جولد تسيهر" يردد فى هذا الباب تهما شاعت بين نفر من المستشرقين، بل ولعل وزارات الاستعمار فى العالم الغربى لم تعن بالاستشراق إلا لترويج هذه التهم التي تقوم على وصف حركة الفتوح الأولى بأنها حركة نهب وسلب. وأن المسلمين لم يطلعوا على العالم حملة هدى وخير وعدالة وبر، بل طلعوا على العالم طلاب مغانم، وأصحاب شهوات. والمسافة بعيدة بين الحق الذى نعرفه، والباطل الذى يسعى هذا المؤلف لتصويره وإشاعته، وما نزال- كما قررنا فى صدر هذا الكتاب- نعد الإمبراطورية الرومانية وزميلتها الفارسية بلادا تفسخت أحوالها وفسدت شئونها ودب العفن فى ظاهرها وباطنها فما تستحق إحداهما أن تكون سيدة نفسها،؟ بله أن تنافس الأخرى على سيادة الأرض وامتلاك أزمة الجماهير.. ثم إن العرب لم يجتازوا جزيرتهم لاستلاب قوم خزائنهم عامرة، بل لهداية قوم قلوبهم خربة، وشملهم منتكث، وأثقالهم فادحة. وقد بقى العرب قبل الإسلام دهورا لا يريمون عن مكانهم ولا يتحولون عن صحرائهم، ولا يعرف الناس أجمعون عنهم شيئا ذا بال. فما الذى جعل الهمل أئمة يروون ظمأ المشارق والمغارب إلى المعرفة والكرامة واليقين والإخلاص؟ وما الذى جعل الإمبراطوريات الشاهقة تتلاشى بتاريخها الممتد، وجاهها العريق أمام هذه الانتفاضة المباغتة لأناس ظل التاريخ هامدا فى بلادهم من بدء الخليقة؟ إنه الإسلام.. الإسلام وحده... الإسلام الذى تتمزق أفئدة هؤلاء المبشرين والمستشرقين غلا على عقائده وشعائره، وإنه لسخف عميق القرار أن يزعم زاعم أن هذا الصبح العريض كان زحف جياع خرجوا من الصحراء ابتغاء القوت، كما يصف هذا المغفل الإيطالى "كايتانى" ويتابعه بإعجاب شديد "جولد تسيهر" إذ يقول (ص 137): ص _124(1/118)
" وكانت البواعث الغالبة التى دفعت بالعرب إلى القيام بالفتوحات هى الحاجة المادية والطمع، كما فصل ذلك فى دقة عظيمة "ليون كايتانى" فى عدة فقرات من كتابه عن الإسلام، وهو ما يسهل تعليله بالنسبة للمركز الاقتصادى لبلاد العرب ، ذاك الذى خلق الحافز إلى الهجرة من بلاد أصابها الفقر والاضمحلال، واحتلالى الأقاليم الأعظم ثراء وخصبا، وقد هش العرب للدين الجديد ورحبوا به على اعتبار أنه ذريعة لحركة الفتح هذه التى كانت تدعو إليها الضرورات الاقتصادية.. " أ. هـ العرب دخلوا الإسلام لأنه وسيلة تجمع ضد الأمم المجاورة!! وقد رحبوا به لهذا الغرض، غرض شن الغارات على الجيران المتخمين..!! وكل قارئ للسيرة يوقن أن هذا الكلام كذب محض. وأن دخول العرب فى الإسلام احتاج إلى جهاد طويل مرير. وأن تعلقهم بأصنامهم كان عظيما. وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه ظلوا قرابة ربع قرن فى محاولات الإقناع المتكررة كى ينصرف العرب عن وثنيتهم إلى التوحيد الخالص!! ويشعر "جولد تسيهر" أنه أغرق فى الافتراء فيتظاهر بالإنصاف ويقول: " غير أنه لا ينبغى أن نزعم- اعتمادا على ما سبق ذكره- أن هذه النيات الجشعة كانت وحدها هى الدوافع الغالبة على المسلمين فى الحروب الدينية التى نشبت فى العصور الأولى للإسلام، لأنه كان هناك دائما، بجانب المجاهدين الذين "يقاتلون على طمع الدنيا" آخرون "يقاتلون على الآخرة" ولكن هذا المبدأ الأخير لم يؤثر- دون ريب- على الصفة الصحيحة المتغلبة على استعدادات جمهور المقاتلين وميولهم.. " أ. هـ. كان العرب يقاتلون للحصول على ثمرات هذه الدنيا العاجلة!!. حسنا، فهل كان أعداؤهم يقاتلون للحصول على طيبات الدار الآخرة؟!! لماذا لم يقاتلوا كالعرب فى الاحتفاظ بما فى أيديهم من متاع؟! وإذا رجحت كفة العرب فى المعارك الأولى، فهلا ثار الفرس والرومان لأنفسهم بعد عشر سنين، أو عشرين سنة، أو خمسين، أو مائة. أو ثلاثمائة سنة!! ما الذى(1/119)
جعل العرب خلال خمسة قرون سادة الموقف؟ أهو الجوع الذى أحسوه فى جاهليتهم فأطلقهم من مواطنهم بغاة خبز وسمن وعسل؟ ثم هناك شىء آخر . . ص _125
لقد كان جيران العرب يسكنون فى أودية خصبة من الأزل، وكانوا هم فى جزيرتهم عفاة يتقاذفهم سراب الصحراء. فما الذى أسكت العرب عن الغزو هذا الدهر؟! وما الذى صبرهم على الجدب حتى جاء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأغراهم بالنيل والفرات وسائر أنهار الدنيا؟! وأى جوع هذا الذى أفقد العرب كل فكر سياسى فجعلهم يهاجمون الروم والفرس فى وقت واحد. لقد كان بين الدولتين خصام عنيف، فلو انفرد العرب بإحداهما ما تحركت الأخرى، ولسرها أن ترى مصرع عدوها. لكن العرب المهازيل الجياع، افتتحوا جبهتين عريضتين فى يوم واحد، وكان حماسهم الدينى من المضاء والرهبة بحيث انهارت أمامه الجيوش المدربة. فهل هكذا يفسر التاريخ؟ أو ما يستحى المستشرقون والمبشرون من ترديد هذا الهراء؟ لماذا لا يعترفون بالفساد الذى عم أرجاء الأرض، ويقرون أن العرب قدَّموا للحياة مجتمعا أفضل، ومستوى علميا وخلقيا أرقى وأزكى مما عرف الرومان والفرس جميعا؟ إن الإسلام الثرى بالقيم الفكرية والروحية، والمثل السياسية والاقتصادية هو الذى فتح الأقطار، لا العرب الجياع. وإن التغيير العالمى الحاسم الذى أحدثه الإسلام فى كل شىء، يرجع إلى إرادة الله العليا فى بناء الإنسانية من جديد على أنقاض الوثنيات الدينية والسياسية السائدة. الإسلام ميلاد جديد للعالم: " نستطيع من غير أن نُغضب المؤرخين أن نجعل ظهور الإسلام هو الفاروق بين عالم قديم كان يقاسى لهاث الموت ، وعالم جديد كان يستهل استهلال الحياة، وأن نطلق الوصف بالجاهلية على العالم القديم شرقية وغربية، والوصف بالإسلامية على العالم الجديد كله مسيحية ومحمدية.. ص _126(1/120)
ومما يعزز هذا التقسيم أن الله جل جلاله قد أرسل رسوله محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهدى إلى الناس كافة، وكانت سنته- من قبل- أن يرسل من اصطفاه إلى البلد الذى فسد، والشعب الذى شرد. فلما عمت الجهالة وشاعت الضلالة، اقتضت حكمة الخالق أن تكون الرسالة عامة، والدعوة شاملة. ومن طبيعة الشريعة العامة أن تكون كاملة لا ينالها النقص متجددة لا يعتريها البلى، صالحة لكل نفس ولكل أفق، حتى يكون فيها لكل داء علاج، ولكل قوم منهاج، ولكل مشكلة حل. وتلك هى الخصائص المميزة للشريعة التى انقطع بعدها الوحى، ولصاحبها الذى اختتمت به الرسل. كانت الجاهلية العالمية التى سبقت الإسلامية العالمية ليلا موصول الظلام بالأزل، مبسوط الهول على الأرض. ومن حقبة إلى حقبة كانت تضيء سماءه الداجية ومضات من عقل الإنسان فى طيبة وآثينا، وأشعة من وحى الله فى سيناء وأورشليم. حتى إذا خبا نور العقل بحيوانية الرومان، وخفت صوت الوحى بمادية اليهود، أطبق الظلام فى كل سماء، وغشى الضلال على كل أرض، وسارت قافلة الحياة غوية تخبط فى مجاهل البيْد، يسوقها من الشرق الفرس، ويقودها إلى الغرب الروم، ولم تكن الروم فى القرنين السادس والسابع للميلاد إلا دولة منحلة، ألح عليها سرف الغنى وترف العيش وفساد العقيدة وتباين المذاهب، حتى انتهى أمر دينها فى بيزنطة إلى خلاف مستحكم فى طبيعة المسيح، وجدل متحكم فى صفات هذه الطبيعة. وآل أمر دنياها فى روما إلى استغراق فى شهوات الحس ونزوات النفس كفكفت من سلطان العقل، وطأطأت من إشراف الروح، وكان من هذا الدين المسيخ ومن هذه الدنيا الداعرة أن قام فى شطرى الإمبراطورية الغازية نظام الحكم السفيه الفاجر أرهق الأمة بالضرائب وأفسد الحكومة بالرشا، ولوث المجتمع بالرذائل، وأشعر الناس مذلة الرق فعظموا القادة، وقدسوا السادة، وألهوا القياصرة، حتى انحدر السيد والمسود، والعابد والمعبود، إلى هوة لا قرار لها إلا العدم. ص _127(1/121)
كذلك لم تكن الفرس فى ذلك العصر نفسه إلا حطام دولة وغثاء جيل، مُنيت بما مُنيت به الروم من تحلل العقيدة وتعفن الأخلاق، وسطوة الشهوات، وتفاوت الطبقات، وطغيان الملوك، وبطلان الدين وأربت عليها بنشوء المذاهب المعوجة فيها، وغلبة الميول الشاذة عليها، فمن "رمزية " زرادشت الذى مهد للمجوسية الحمقاء، إلى "عدمية " مانى الذى حرم الزواج استعجالا للفناء، إلى "وجودية " مزدك الذى جعل الناس شركة فى الأموال والنساء إلى حال من الاجتماع العفن والنظام البالى لا يعيش فيهما حر ولا يدوم عليهما ملك. وكان الناس من وراء هاتين الدولتين يعيشون على حال أسوأ من هذه الحال، وفى درك أسفل من هذا الدرك، فالعرب واليهود قد وصفهم الكتاب العزيز بما لا بيان بعده، والهنود وأهل الصين كانوا من البوذية والبرهمية فى وثنية إباحية لا حصر لأصنامها، ولا حد لأوهامها، ولا علاج لما ابتلتهم به أدواء خلقية واجتماعية بعضها يبيد عالما بأسره. أما الشعوب الأوروبية فى الشمال والغرب فكانت لا تزال خارج الوجود المتمدن، لا تشعر بأحد ولا يشعر بها أحد. * * * على هذه الحال الأليمة والقيادة المضلة كانت قافلة الحياة تسرى! ظلام مخيم على الكون كله! فيه التهاويل التى تفزع كل نفس، والعراقيل التى تصدم كل قدم، والشياطين التى توسوس هنا بالفتنة وتغرى هناك بالإثم، وتعبث هنالك فى الدين، وتستعين دائما بحواء على إغواء آدم! وما كان الله- جل شأنه- ليكل ركب الخليقة إلى نفسه، فيعمه فى هذا التيه وقد قضى عليه أن يقطع مراحل الدنيا، ويبلغ غاية الأجل. لذلك أذن- وهو الرءوف الرحيم- لهذا الليل أن يصبح، وشاء- وهو الخبير العليم- أن يكون إسفار صبحه من غار حراء. * * * كذلك خط الإسلام طريقه فى الحياة، زكاء فى القلب، وسناء فى الفكر، وقياما بالحق، ورحمة بالناس، ورعاية لله فى كل شأن خاص أو عام. ص _128(1/122)
وكان الاستعلاء على مغريات الأرض، والاستمكان من قهرها خلقا معروفا فى المسلمين قبل الهجرة وبعدها. فالمسلم فى مكة كلفه إيمانه التضحية بنفسه وماله وقراره، وهو يكافح السلطات التى تريد فتنته. والمسلم فى المدينة حمل الأعباء نفسها أو أشد منها، وهو مشتبك فى صراع الحياة أو الموت مع أعداء الإسلام الهاجمين عليه من كل فج. وقد تعلم المسلمون من رسولهم أن العمل بالنية، وأن من خلط جهاده بطلب غنيمة أو حب ظهور، فقد ضاع أجره وحبط عمله. وقد سردنا الآيات والأحاديث المصرحة بذلك آكد تصريح فى كتبنا الأخرى . ومن هذه النصوص المضيئة، ومن سير الفتح نفسه يحكم المنصف أن هذه الفتوح كانت رحمة بالعالمين. وأن أهلها كانوا نماذج للتجرد والرغبة فى الآخرة. بيد أن "جولد تسيهر" يريد إيهامنا بأن الإسلام فى مكة كان دين تجرد، أو بتعبيره: " دين زهد " أما فى المدينة فهو دين طمع وتطلع، يقول فى البواعث الدنيوية على الفتح (ص 134): " وهذا ما فطن إليه النبى حينما جد فى إثارة حماس جنوده بواسطة "المغانم الكبيرة" التى وعد الله بها المجاهدين، وعندما نقرأ القصص القديم "لمغازى" النبى ندهش حقا من بيان الأنصبة الجزيلة، والسبايا التى تجمعت عن هذه الحروب. وهذا ناموس طبيعى حتمى يترتب على كل حرب مقدسة، غير أن النبى لم ينكر مع ذلك الغايات الأكثر سموا التى ينبغى أن تفضى إليها هذه الغزوات والحروب فقد ظل ينهى عن الاقتصار على التماس طيبات الحياة الدنيا (فعند الله مغانم كثيرة)، (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) فنعمة الزهد التى تتخلل التعاليم المكية الأولى بقيت كعنصر مذهبى اعتقادى فى الحالة الواقعية فى المدينة. غير أن الحقائق قد شغلت أذهان الجماعة الإسلامية الصغيرة ودفعتها فى مسالك أخرى، غير تلك التى كان يسير فيها الرسول فى بدء دعوته، ويحمل أتباعه على السير فيها". ص _129(1/123)
نقول: ويكفى لبيان كذبه أن الآيات التى استشهد بها آيات مدنية نزلت لقمع حركات الطبيعة البشرية في طلب الحياة للحياة، وحب الدنيا للدنيا وليست هذه الآيات من الوحى النازل بمكة. وندخل فى الموضوع نفسه: ما هو الزهد الذى يطلبه "جولد تسيهر" من المسلمين، والذى ينقم منهم أنهم تخلوا عنه؟ إنه طبعا ساخط أشد السخط على تقويض أركان الروم، وذهاب ريحهم، ويصف ذلك بأنه كان للدنيا لا لله، وكان يود لو بقى العرب فى جزيرتهم لا يتجاوزونها. ونقول: لو أن المسلمين قبعوا داخل الجزيرة لكانوا متناقضين مع كتابهم، ولكان هذا المستشرق أول من يتندر بهذا التناقض قائلا: كيف نوفق بين عالمية الدعوة الإسلامية، وانحصارها داخل الجزيرة العربية؟ ولقد شرحنا فى كتبنا الأخرى كيف أن الإمبراطوريات القائمة حبست الجماهير وراء أسوار حديدية فما يمكن لأحد أن يتصل بها قط. وأن كسر هذه الأسوار لا سبيل إليه إلا بالسيف. وللناس- بعد أن ينطلقوا من سجون حاكميهم- أن يقبلوا الإسلام أو يرفضوه دون نكير. فلندع هذا الموضوع ولنناقش ما يطلبه من المسلمين ليكونوا فى نظره زهادا محبوبين!!! * * * * ما هو الزهد؟ يرى "جولد تسيهر" أن المسلمين لكى يكونوا أتقياء صالحين يجب أن يزهدوا فى المال، وألا يشتغلوا بتكوين ثروات كبيرة لأنفسهم وأولادهم. وبناء على هذا الرأى، يلمز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين اغتنوا بعد فقر، ويومئ من قريب أو بعيد إلى أنهم أهل دنيا لا أهل دين.. قد يكون ما قاله هذا المستشرق تعريفا صحيحا للتقوى كما يتصورها هو، أو كما نطقت بها تعاليم المسيحية المتداولة بين أتباعها. لكن الإسلام لا يرى حيازة المال جرما، ولا تكوين الثروات عصيانا. إن المال سلاح، والسلاح يصلح لنصرة الحق، ونصرة الباطل. أى أن طريقة استخدام هذا السلاح التى تجلب المدح أو القدح. أما إطلاق القول بأن التسلح رذيلة فكلام ساقط . ص _130(1/124)
والمال فى نظر الإسلام خير جزيل إن اكتسب من حله، وانفق فى وجهه. وإلا فهو عبء وعار، قال الله تعالى: (إن سعيكم لشتى * فأما من أعطى و اتقى * و صدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * و أما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * و ما يغني عنه ماله إذا تردى). ويوم يكدح الإنسان فى هذه الدنيا، وتلتقى بين يديه ثمرات كدحه القوى ثراء عريضا ينفق منه على نفسه، ويوسع به على الفقراء والمساكين، ويجاهد به فى سبيل الله، فكيف يكون هذا الإنسان آثما؟ ربما جاء فى بعض التعاليم التى يدين بها سادة هذا المستشرق أن دخول الجمل فى سم الخياط أهون من دخول الغنى ملكوت السماوات! بيد أن الإسلام لا يرسل الأحكام إرسالا على هذا النحو، إنه يرمق هذا الغنى فإن وجده سمحا بارا بالمتعبين، خفيفا إلى نجدة من يطلب العون أدخله ملكوت السماوات ولم يحرمه الرضوان الأعلى، أما إذا عبد ماله، وتذرع به إلى الكبر والقسوة، وجحد حقوق المرهقين والمستضعفين فهو أهل لأن يقيد في السلاسل. وفى هذا يقول الله جل شأنه: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين). ونحن نعتقد أن نظرة الإسلام إلى المال- على ما أوضحنا- نظرة عادلة وسليمة، وقريبة من الفطرة ومتجاوبة مع الحياة. فإذا كان "جولد تسيهر" اليهودى يرى غير هذا، فله رأيه كما قلنا، إلا أننا نؤكد أن ما يقوله لا يتجاوز خط القلم الذى يهاجم به الإسلام ورجاله. ص _131(1/125)
إن ما يقوله بعيد عن حياته الخاصة، وحياة الجماعات الواسعة الثراء التى تنفق الأموال الهائلة على المبشرين والمستشرقين. هل المال فى أيدى هؤلاء حلال سائغ، وفى أيدى أصحاب محمد وحدهم منكر محظور؟! إن أغنياء أوروبا وأمريكا، كونوا ثروات ضخمة، ولا نريد أن نتحدث عن تفاوت الفرص الذى أعان على خلق هذه الثروات، ولا عن الأصول المريبة التى نمت منها تلك الأموال، إنما نريد أن نتحدث عن أن هذه الثروات الضخمة عاش منها أصحابها عيشة رضية ودعموا بها الجامعات والمستشفيات والملاجئ التى تخدم أغراضا دينية أو استعمارية أو إنسانية فى بعض الأحيان.. بل إن هذا الكتاب الذى ألفه "جولد تسيهر" للطعن فى الإسلام كان لحساب إحدى اللجان الأمريكية القائمة فى هذا الميدان. فهل المال الذى يساند هذا النشاط مباح للناس كلهم إلا لأصحاب محمد؟ كذلك يريد المستشرق الزاهد، فهو يتناول ثروات بعض الصحابة الذين لم يقصروا مثقال ذرة فى خدمة الإسلام، والجهاد فى سبيل الله، والإنفاق فى وجوه الخير، ليقول أن هذه الثروات لا يمكن أن تكون دلالة تقوى. يقول "جولد تسيهر" (ص 136،137): " وقد بينت المصادر التى بين أيدينا مقتنيات أعظم المسلمين ورعا، ويمكننا أن نلقى نظرة على تركة الزبير بن العوام القرشى، وهو صحابى بلغ من تقواه أنه عد من العشرة الذين بشرهم النبى بالجنة لقاء بلائهم الحسن فى الإسلام، كما دعاه النبى حواريه. لقد ترك الزبير من الأموال العقارية ما تقدر الروايات المختلفة صافى قيمته بما يتراوح ما بين خمسة وثلاثين، واثنين وخمسين مليونا من الدراهم، حقيقة أن الناس كانوا يلهجون بكرمه ويشيدون به غير أنه فى ثرائه كان لا يقل عن قارون (!) وثبت أمواله المنقولة التى يملكها فى جهات مختلفة من البلاد المفتوحة لا يدل على الزهد فى الدنيا، فليس له بالمدينة سوى إحدى عشرة دارا فقط!! فضلا عما يملكه فى البصرة والكوفة والفسطاط والإسكندرية. ويوجد صحابى آخر من(1/126)
العشرة الذين بشرهم النبى بالجنة، وهو طلحة بن عبيد الله كان يملك من العقار ما تقدر قيمته برقم صحيح لا كسر له وهو ثلاثون ألف ألف درهم. وعند موته كان لا يزال لدى أمين خزائنه مبلغ إضافى قدره: ألفا ألف ومائتا ألف درهم . ص _132
وفى تقدير آخر قدرت ثروته النقدية بمائة كيس من الجلد يشتمل كل كيس منها على ثلاثة قناطير من الذهب وهو عبء ثقيل ينوء به المرء وهو فى طريقه إلى الجنة! وتوفى بالكوفة قريبا من هذا العهد (37 هـ/657 م) رجل ورع اسمه الخباب بن الأرت، نشأ فقيرا بائسا، وكان فى شبابه قينا بمكة، وهى مهنة لم تكن محترمة وفقا للتقاليد العربية فى ذلك العصر وقد اعتنق الإسلام فناله بذلك أذى شديد من المشركين، الذين كانوا يعذبونه بالحديد المحمى، ويذيقونه صنوفا أخرى من العذاب، ولكنه ظل قوى الإيمان لا يتزحزح قيد شعرة، واشترك اشتراكا فعليا فى غزوات النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وحينما كان هذا المؤمن الصادق الإيمان طريحا على سرير الموت بالكوفة أمكنه أن يدل على صندوق جمع فيه أربعين ألف درهم. ولم يكتم تخوفه من أن يكون الله أناله- مقدما- بهذه الثروة الثواب الذى سيجزيه به على عقيدته " أ. هـ. ثم يكرر "جولد تسيهر" الأكذوبة التى لا يسأم المستشرقون من تردادها فيقول: "وكانت البواعث الغالبة التى دفعت بالعرب إلى القيام بالفتوحات هى الحاجة المادية والطمع كما فصل ذلك فى دقة عظيمة "ليونى كايتانى" فى عدة فقرات من كتابه عن الإسلام، وهو ما يسهل تعليله بالنسبة للمركز الاقتصادى لبلاد العرب، الذى خلق الحافز إلى الهجرة من البلاد التى أصابها الفقر والاضمحلال واحتلال الأقاليم الأعظم ثراء وخصبا. وقد هش العرب للدين الجديد ورحبوا به على اعتبار أنه ذريعة لحركة الفتح هذه التى كانت تدعو إليها الضرورات الاقتصادية، غير أنه لا ينبغى أن نزعم- اعتمادا على ما سبق ذكره- أن هذه النيات الجشعة كانت وحدها هى الدوافع الغالبة على(1/127)
المسلمين فى الحروب الدينية التى نشبت فى العصور الأولى للإسلام. لأنه كان هناك دائما بجانب المجاهدين "الذين يقاتلون على طمع الدنيا" آخرون "يقاتلون على الآخرة" ولكن هذا المبدأ الأخير لم يؤثر دون ريب على الصفة الصحيحة المتغلبة على استعدادات جمهور المقاتلين وميولهم " أ. هـ. ونحن لا نكترث للأرقام التى أوردها المؤلف مع كذبها، ولا للتقديرات الهزلية التى جاءت بها روايات مضطربة خفيفة الوزن من الناحية العلمية.. وسنقول إن الزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان كانوا أغنى من "فورد" و "روكفلر" و "روتشيلد" وأشباههم من ملوك المال فى العالم. ص _133(1/128)
ما المطعن فى هذا الغنى إذا جاء من حلال وكان أصحابه ينابيع دافقة فى سبيل الخير والبذل ونماذج حية للعطاء والجهاد؟! هل المفروض أن يكون الغنى الواسع فى بيوتات يهودية ونصرانية وحسب. وأن يكون الفقر حظ المسلمين وحدهم؟! ويوم يكون الأمر كذلك، ألا يجىء هذا المستشرق وزملاؤه ليطعنوا الإسلام بأنه دين لا يصلح للحياة، ولا يستقيم مع الإنتاج والجد؟! * * ** ** و"جولد تسيهر" يعلم أن أغنياء المسلمين من أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتباعه يوم ملكوا المال بعثروه بكرم رائع فى سبيل الله، غير أنه لا يرضى هذا الذى وقع. لماذا؟ لأن أصحاب هذه الأموال مع بذلهم فى سبيل الله: عاشوا فى ظلها عيشة ناعمة وما كان ينبغى لهم ذلك!!! يقول (ص 138): "وقد ورد حديث للنبى، يصور لنا شعور الأتقياء جاء فيه "هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده. والذى نفسى بيده لتنفقن كنوزهما فى سبيل الله " فإنفاق الكنوز التى غنمها المسلمون فى "سبيل الله " لمصلحة الفقراء والمحتاجين. اعتبر فى الأحاديث التى أوردته وأمرت به أشبه بتعويض عن الروح المادية التى نشأت من حركة الفتح. ولكن قلما صادف هذا ميلا فى نفوس القوم الذين كان لهم أن يتصرفوا فى هذه الأموال المكتسبة وأن يعملوا على الاستفادة منها. ذلك بأن الكنوز التى جمعت وكدست خلال الفتوحات وزيد من ثمرتها وريعها زيادة مطردة لا تنقطع، وذلك بانتهاج وسائل بارعة للتنظيم والاستثمار. هذه الكنوز لم توجد هناك فحسب لتنفق " فى سبيل الله " أى فى سبيل أغراض خيرية. كلا.. فقد رغبت الطبقات التى آلت إليها هذه الأموال فى أن تتخذ منها وسيلة للاستمتاع بالدنيا، ويرغبوا فى الاقتصار على جمع الكنوز للآخرة"أ. هـ. ص _134(1/129)
أى أن البذل فى سبيل الله ليس كافيا ليجلب رضا هذا الرجل عن المسلمين الأوائل ولينطقه بكلمة تقدير لهذا الغنى النبيل. كان يجب أن يعيش أصحاب هذا المال عيشة شظف وبأساء حتى يستحقوا حمده، وإلا فهم أهل دنيا لا نصيب لهم من التقى والصلاح!! * * * * السلف الأول ومواقفه من الحياة الدنيا: والغريب فى تفكير هذا المستشرق وأضرابه أن الواحد منهم تستقر فى نفسه فكرة ما، لا يدرى من أين جاءت، ثم يحاول على أساسها تفسير- أو بتعبير أدق- تشويه ما يواجهه من حقائق. فمثلا وقر فى نفس "جولد تسيهر" أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فى مكة زاهدا راهبا وأن القرآن المكى سار فى هذه الوجهة!. فلما رأى السنن متضافرة متكاثرة تدل على أن الرسول وأصحابه كانوا فرسانا عبادا، وأنهم كانوا رجال أعمال يملكون بها ناصية الحياة، ويسخرونها لنصرة الله وإعلاء كلمته قال: إن حياة هذا النبى وأصحابه تغيرت- أو بتعبيره- طرأ عليها تعديل كبير... وأن الإسلام فى المدينة غيره فى مكة. ثم يمشى مع هذا الفكر المخبول فيقول: ".. وجاءت الفتوح فتغير المسلمون ونسوا ما كان. ثم كان على علم الحديث أن يساير التطور الجديد، وأن ينسب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ينسجم مع هذه الحياة الجديدة" أ. هـ. كذلك يزعم!! ونبدأ نحن من حيث شرد الرجل عن الطريق. إنه يصف القرآن المكى بأنه دعا إلى الزهد واطراح الدنيا، فهل هو صادق فيما يقول؟! فى سورة الأعراف وهى مكية يقول الله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين * قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون). ص _135(1/130)
فهل هذه الآيات المكية تحث على هذا الزهد والتقشف؟! وفي سورة القصص وهى مكية يقول الله تعالى لقارون: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك). فهل هذه الآية تفيد ترك الدنيا؟! نعم وردت فى القرآن الكريم آيات تفسر حدة الغرور بالدنيا وتمسك النفس بلجام شديد الشكيمة حتى لا تنطلق مع الشهوات المطاعة، وتذهل عن الله والدار الآخرة. وهذه الآيات حق لا مراء فيه. ولكن من قال: أن هذه الآيات اختص بها القرآن النازل فى مكة، وخلا منها القرآن النازل فى المدينة؟ إنها هنا وهنا علي سواء.. ففى سورة الأنعام المكية يقول الله: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون). وفى سورة الحديد المدنية يقول تعالى : (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). إن الإسلام فى مكة والمدينة يرفض الزهد السلبى المنعزل عن الحياة ويطالب المؤمنين أن يجمعوا بين العمل لدنياهم وأخراهم. فليس هناك تناقض بين العهدين، وبالتالى لم يكن هناك ما يدعو إلى افتعال أحاديث لتسويغ هذا التناقض الموهوم. ومن ثم نعرف قيمة ما يقوله (ص 139، 140 ، 141 ، 142): " وفى الحق كثيرا ما يصادفنا فى وثائق الفكر الدينى دلائل الاستنكار الصريح غير الخفى للزهد المتجاوز للحد المألوف أو لما تتطلبه أحكام الشرع، مع أن النبى فى السنوات العشر الأولى من بعثته كان دون ريب يحبذه بلا قيد أو تحفظ (!) وهذا يدل على أننا الآن نواجه روحا طرأ عليها تعديل كبير " ثم يمضى فى تحامله على السنة دون ما سبب فيقول: ص _136(1/131)
"وهنا كان على الحديث أن يقدم الوثائق المعززة لهذا التعديل، فالطموح إلى المثل العليا الأخروية لم يتيسر بطبيعة الحال محوه من النظرية الإسلامية للحياة، بل تحتم على المسلم أن يساهم بنصيب مساو فى القوة والأهمية فى رعاية المصالح الدنيوية. وفى هذا المعنى استشهد بأحد تعاليم النبى المجانسة لنظرية أرسطو وهى التوسط فى الأمور فقد روى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه " . وقد وردت فى كتب الحديث أمثلة للزهد المتطرف بصورة تدل على استهجان النبى لها. ومن أبرز الوثائق وأكثرها دلالة فى هذا الصدد، ما ينحصر فى الروايات المتصلة بميول الزهد عند عبد الله بن عمرو بن العاص.. وأبوه أحد مشاهير القواد فى الصدر الأول للإسلام، فإن هذه الروايات تصوره على خلق يناقض أباه مناهضة تامة، وتجعله من أتقى الصحابة وأقواهم حماسة فى الدين، وأشدهم غيرة وتدقيقا فى اتباع السنة. وقد بلغ النبى أن عبد الله هذا فرض على نفسه صوما دائما، وأنه حرم على عينه الرقاد ليقضى الليل فى تلاوة القرآن، فنصحه وجد فى زجره ليقتصر فى عادات زهده على الحد المعقول. ومن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له: "فإن لجسدك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا " كما قال أيضا: "لا صام من صام الأبد" أى لا يثاب على مثل هذا الصوم، وتنسب للنبى أقوال كلها ذم وتأنيب لهؤلاء الذين يهملون مصالحهم الدنيوية، لكى يتفرغوا لأداء ما لا نهاية له من عبادات ما بين فرض ونفل. ففى ذات مرة أطرى الصحابة للنبى رفيقا لهم فى سفر كان لا يعمل شيئاً سوى تلاوة الأدعية طالما كان راكبا، وإقامة الصلاة عندما ينزلون. فسأل النبى: "فمن كان يكفيه علف بعيره وإصلاح طعامه "؟ قالوا: كلنا. قال: "فكلكم خير منه ". وتوجد أحاديث كثيرة خاصة بالمغالاة فى التكفير والتوبة وصنوف التعذيب الجسدى واحتمال المشقات اختيارا وزهدا، وهى أمور كان(1/132)
يعد رجل اسمه أبو ص _137
إسرائيل نموذجا لها، وفى هذه الأحاديث اتجاه واضح لا شك فيه يرمى إلى التصريح بأن مثل هذه الأعمال لا يثاب عليها، أو أنها على الأقل ضئيلة القيمة من الناحية الدينية "لو كان جريج الراهب فقيها لعلم أن إجابته لأمه أفضل من عبادته لربه عز وجل " . وقد وجه الرسول أقوى ما عرف عنه من لوم إلى العزوبة، فقد مال رجل يدعى عكاف بن وداعة الهلالى إلى هذا النوع من الحياة، فنال من النبى هذا الدرس: "فأنت إذن من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح ". وتنسب أيضا للنبى عبارات شديدة من هذا القبيل وجهها لهؤلاء الذين يريدون أن يتجردوا عن أموالهم، بإنفاقها فى أعمال البر، فيكون من ذلك إلحاق الضرر بأسرهم ذاتها. وتتفق مع هذه التعاليم النبوية المتعلقة بحالات فردية خاصة المبادئ العامة التى تنسب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله "لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد فى سبيل الله " أ. هـ. وهذه عبارة لها خطرها الكبير لما تقرره من تضاد ومقابلة بين حياة التقوى والتأمل فى الصوامع المنعزلة المنقطعة، وحياة العمل الحربى النشيط، وهو تضاد نوهنا به، ورأينا أنه على وجه التحقيق كان العامل الأكبر فى اختفاء نزعات الزهد والتقشف فى الصدر الأول للإسلام. قال: "وعند النظر فى الأحاديث النبوية القادحة فى الرهبانية، ينبغى أن لا يغرب عن البال مظهرها الجدلى المقصود به نقد حياة الزهد فى المسيحية، والنبى فى كثير من المسائل المذهبية يتخذ من هذه الأحاديث موقف المعارضة للصوم المسرف المجاوز للحدود الشرعية: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" ، "فى كل لقمة يتناولها المؤمن ينال بها ثوابا من الله " ، "الطاعم الشاكر خير من الصوام الزاهد" . وليس من الفضيلة أن يتجرد المرء عن أمواله ويصير متسولا يتكفف الناس، بل الزكاة ليست واجبة إلا إذا وجد ما يفيض عن(1/133)
الحاجة وحتى فى هذه اللحظة يجب أن ص _138
يكون البر بالأسرة وذوى القربى فى المحل الأول، ويغلب على هذه التعاليم فكرة أن الشريعة هى التى تحدد مدى الزهد فى متاع الدنيا، وأنه فيما خلا إقامة أحكامها لا يستحب التقشف فى أية صورة من الصور. وليس مما هو عديم الأهمية بصدد الموضوع الذى نعالجه، أن ننبه مرة أخرى إلى قلة الاستيثاق من صحة ما يمكن أن يكون قد جرى على لسان النبى (صلى الله عليه وسلم) حقيقة من هذه الأقوال التى سبق لنا الاستشهاد بها كأحاديث مروية عنه ومرتبطة باسمه "أ.هـ هكذا يقول "جولد تسيهر"، عجبا، ولم هذا الشك؟ إنه من هذه الأحاديث الصحيحة ومن غيرها، ومما استفاض فى الكتاب والسنة يمكن الجزم بأن الإسلام يرفض الرهبانية رفضا باتا. وأنه لا يعرف الزهد إلا ترك المحرمات، والابتعاد عن الشبهات. وأنه يمزج مزجا تاما بين الروح والجسد والدنيا والآخرة. بل إن كلمة زهد لم تجىء فى القرآن الكريم قط. ووردت كلمة "زاهدين " فى سورة يوسف وصفا للقافلة التى باعته: (بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين). ولا صلة لهذا السياق بأى تعليم دينى بداهة. ولم ترد مادة هذه الكلمة فى حديث صحيح . وسيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كما يعرف الخاص والعام سيرة بطولات نفسية وخلقية وسياسية وعسكرية. ومع ذلك كله فإن "جولد تسيهر" يقول: إن الإسلام تغير!! لقد كان فى مكة دين زهد ثم تحول فى المدينة عن مجراه، وزاد تحوله بعد الفتوح. وكل ما روى من سنن وآثار وضعه الواضعون لتسويغ هذا التحول!!. ماذا نقول؟ هذا رجل يريد بأى وسيلة اتهام الإسلام ورسوله وصحابته. ووراء هذا الخيال يجرى ويبحث ويكذب عشرات النصوص. ولكن هل من البحث العلمى أن يزعم هذا الرجل زورا أن الإسلام بدأ دين زهد، ثم تغير، وأن على المستشرقين أن يتعرفوا أسرار التحول الذى أبعده عن هذه البداية. واسمع قوله فى (ص 142): ص _139(1/134)
"غير أن ما هو أعظم أهمية هو تقرير الكيفية التى جلت فكرة الحياة المضادة للزهد، تلك الفكرة التى أوجدتها ظروف السياسة الخارجية الإسلامية، وذلك عن طريق ما أسند إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) من أقوال وآراء وضعت وضعا على التنسيق الذى بسطناه فى القسم الثانى. ويتجلى هذا الاتجاه فى منحى آخر من مناحى الآداب الحديثة، أعنى به الأخبار المتعلقة بسيرة النبى والصحابة، ومما يجعلنا أقدر على ملاحظة قوة الروح المناوئة للزهد، تلك الصفات الدقيقة الصحيحة التى تركها الحديث تنساب- بطريقة لا شعورية- إلى التصوير الخلقى الذى رسمه لأئمة السلف وأصحاب المثل العليا الدينية، بل إن سيرة النبى (صلى الله عليه وسلم) مليئة بهذه الصفحات " أ. هـ. نقول: ورجل يرى الرأى، ثم يكذب السنة كلها لأنها ضده .. لا نستطيع إعطاء كلامه قيمة… فهو إلى الهذيان أقرب. * * * * نبى الإسلام يحارب الرهبانية: والمستشرق الذى يرى السنة من عمل العصور اللاحقة، لا من صنع الرسول نفسه يجىء إلى حديث "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عينى فى الصلاة" فيقسمه نصفين. يجعل النصف الأول من كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو: "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب.. ". أما النصف الآخر فهو من وضع علماء المسلمين.!! النصف الأول من كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه- فى وهمه- يتضمن معنى لا يليق، ويدل على اشتغال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لا يتفق مع وظيفة الرسالة، ولذلك لا بأس من إسناده إليه والتسليم بأنه قاله. أما النصف الآخر فإن علماء المسلمين أضافوه من عندهم ليحيطوا الرسالة بالهالة التى يجب أن تحاط بها. هذا هو البحث العلمى النزيه فى السنة!! ص _140(1/135)
وقد علق الدكتور محمد يوسف موسى على هذا التصرف (ص 143: هامش) فقال: "يرى المؤلف أن جملة (وجعلت قرة عينى فى الصلاة) زيادة أضيفت إلى حديث "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب ". وليتنا نعلم ما الذى رابه فى هذه الجملة حتى حكم بزيادتها! هل كان فى حياة الرسول العملية ما لا يتفق مع مضمون هذه الجملة؟ لقد كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مواظبا على الصلاة، ويهش لاستقبالها ويقول: "أرحنا بها يا بلال". وكان كما روى أبو داود: إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يصلى فى السلم والحرب وفى شدة الخوف، وشرع ذلك كله للمسلمين. والحديث بهذه الزيادة رواه الثقات، ولا مغمز فيه ولا مطعن. ولكن المؤلف ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ميلا مع الهوى ومجانبة للنصفة "أ. هـ.! قد يقول قائل: وماذا يعنى الرسول بهذه الكلمة؟ والجواب قريب، إنه يعلن بذلك مباينة دينه مباينة تامة للرهبانية الشائعة فى الملة الآخرة، ويذكر أنه يحب ما تكره، ويقبل على ما تنفر هى منه. إن الرهبانية تكره النساء والطيب.. والراهب يرى- زيادة فى عبادة ربه- أن يعتزل النساء، وأن يدع جسده دون تعهد أو عناية. لكن نبى الإسلام يرفض رفضا حاسما عد الابتعاد عن النساء عبادة، ويرفض كذلك ترك الجسم الإنسانى دون تطهير مستمر بالغسيل والوضوء. ودون العود عليه بعد ذلك بالرائحة العطرة تتخلل الأعضاء والملابس. والحق أن الأنبياء جميعا أبرياء من جعل البعد عن المرأة قربى إلى الله. (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية). وأكثرهم تزوج عندما استمع إلى نداء الطبيعة، ومن كان مصروفا عن الزواج لأسباب شتى لم يقل إن ترك المرأة دين. بيد أن الرهبانية ابتدعت المنهج الذى مشت فيه، واشتبكت مع أعتى الغرائز فى عراك باهظ التكاليف، تافه النتائج . ص _141(1/136)
فماذا جنت بعد أعصار من هذا الشرود؟ لقد جاء المصلحون الدينيون فى أوروبا أمثال "لوثر" و "كلفن " ورأوا أن مسالك الراهبين والراهبات تندى لها الجباه، فرفعوا عقائره بضرورة إباحة الزواج لرجال الدين ونساء الدين جميعا، وكان هذا هو الحل الفذ لمشكلة افتعلها الغلو. ومن نعمة الله على الإنسانية أن اعتزال المرأة- على أنه دين وتقوى- لم يشع بين الجماهير، وإلا لشاع الخراب فى الأرض. ولقد جاء نبى الإسلام فحنا على هذا المخلوق المنبوذ عند الأتقياء، التافه عند الأقوياء. وقال: إنه جنس محبب، لا يُكره ولا يُعاف، ولا تصدق الرهبانية فى مخاصمته، ولا الجاهلية فى ازدرائه. أما العناية بالجسد، فقد كان رجال الدين يفتخرون بأن الواحد منهم لا يمس الماء أبدا، وفهموا من التعاليم الدينية لديهم أن تنقية الجسم من آثار الفضلات المطرودة عنه ليست مطلوبة. ومن ثم عاشوا معيشة تتأذى منها الأذواق السليمة. أين من هذا ما كرره نبى الإسلام من وجوب تطهير الجسم والثياب والمكان، ومن حثه على الوضاءة والتجمل، ومن إسقاطه صلاة الجمعة عمن أكل طعاما ردئ الرائحة!!؟؟ ويبدو أن "جولد تسيهر" مشدود بحبال متينة إلى تقاليد الرهبنة وفهمها الغريب لمعنى التقوى. فهو يستغرب أن تتفق الرائحة الجميلة مع حسن الإيمان ويستغرب أن تكون البزة الوجيهة أمارة تقوى!! ص _142(1/137)
الرهبانية تكره الطيب.. كما تكره المرأة!! إن تنظيف الجسم الإنسانى من الأدران التى قد تلحق به نوع من الكمال المحمود والسمو المنشود، سواء فى ذلك ما يعرض للجسم من جو الأرض التى نعيش فوقها، أو ضروب المهن التى نكتسب منها، أو ما تنضح به طبيعة هذا الجسم من عرق، وفضلات أخرى.. والماء أساس لابد منه فى هذا الشأن، وقد قال أعرابى لابنته- يرشدها إلى أهم مصادر التجمل-: أطيب الطيب الماء. ومن ثم كان الحديث عن المياه، والتطهر بها، الباب الأول فى جميع كتب الفقه الإسلامى، وهذا اتجاه شريف لتكريم الإنسان ورفع مكانته. بل إن الإسلام يوجب تغسيل الميت قبل أن يوارى فى الثرى حتى يعود إلى ربه طاهر البدن، ولا بأس كذلك من تطييبه!! ومن البديهى أن ذلك لا يعنى أبدا الزهادة فى تطهير الروح، أو الحط من سناء القلب، فإن العناية بجزء من الكمال البشرى لا تهدر ما لسائر الأجزاء الأخرى من قيمة... وقد أخطأ بعض رجال النصرانية عندما ظنوا المسيح يستهين بقيمة النظافة البدنية بناء على ما ورد فى إنجيل متى من عبارات لا تفيد فى الحقيقة ذلك... قال متى حاكيا عن المسيح: " ثم دعا الجمع، وقال لهم: اسمعوا وافهموا، ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان.. فأجاب بطرس وقال له: فسر لنا هذا المثل. فقال يسوع: ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضى إلى الجوف ويندفع إلى المخرج. وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف هذه هى التى تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان " أ. هـ. ص _143(1/138)
ذلك وقد كانت العادة ولازالت عند الكتابيين من بنى إسرائيل هى غسل اليدين قبل البدء فى أى عمل يمت للإنسان بصلة. فهم يوجبون غسل اليدين قبل دخول الهيكل، وغسل اليدين قبل أن يتناول المرء "التوراة " لتلاوتها. وهم يتمسكون بهذا بكل قواهم حتى إنهم احتجوا على سيدنا عيسى عليه السلام بقولهم: "لماذا يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ، فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزا؟ فأجاب (أى المسيح) وقال لهم: وأنتم أيضا لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم " . ويسترسل سيدنا عيسى عليه السلام بقوله: "يا مراءون حسنا تنبأ عنكم إشعياء قائلا: يقترب إلى هذا الشعب بفمه، ويكرمنى بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عنى بعيدا، وباطلا يعبدوننى.. إلخ " . وظاهر من دراسة الموضوع كله أن عيسى عليه السلام يرفض العناية بالشكل وإهمال الموضوع. يرفض أن يهتم الناس الاهتمام كله بغسل أيديهم من الغبار ولا يهتمون قليلا ولا كثيرا بغسل أفئدتهم من الغل والعار. وليس يفهم من كلام عيسى أن القذارة من أمارات التقوى، أو أن الاستنجاء، وتنقية الجسم مما يشين وينفر أعمال لا لزوم لها... فإذا جاء رسول الإسلام ورفض مسالك الرهبان الشعث الغبر، الذين لا يعرفون ماء، ولا طيبا فهو بذلك يرسى قواعد الإيمان العالى ويعلم بنى آدم الارتقاء المادى والأدبى الصحيح. إن الزهد فى تفكير "جولد تسيهر"- وهو معذور للتعاليم التى سيطرت على أوروبا دهرا طويلا- معناه وساخة البدن ورثاثة الهيئة وكدورة الرائحة وكراهية المرأة ووحشية الطباع. واسمع قوله ينتقد أئمة المسلمين (ص 144): ".. ما يسترعى النظر أن هذه التراجم تعرض بطريقة عادية بيانات تناقلها الرواة ، وبسطوا بها ما اعتادته هذه الشخصيات الورعة من تعطر وعناية بشعر اللحية وشعر الرأس، وكيف كانوا يتأنقون ويتحلون بفاخر الثياب، وكيف كان للطيب عندهم مكانة خاصة مع أن الأتقياء الذين هم أعداء ألداء لفنون التزين دأبوا على ذمه واستنكاره. ص _144(1/139)
فمثلا يحكى عثمان بن عبيد الله عن ذكريات سنى تعلمه أن الطيب كان يجاوز خياشيم الصغار عند ما يمر أمام المدرسة أربعة أشخاص أورد أسماءهم، كان من بينهم أبو هريرة أحد كبار رواة الحديث. ويروى أيضا بأسلوب يدل على التحبيذ والاستحسان ما كان يبديه قوم عرفوا بأنهم أنموذج للتقوى والورع، من زهو ومباهاة بما يرتدونه من فاخر الثياب، وليس من النادر ان يقرأ أنهم يرتدون الملابس المخملية. ولتبرير مثل هذا الترف استعين- كما جرت بذلك العادة- بحديث مروى عن النبى "إن الله إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " واستنادا إلى هذا المبدأ لام النبى قوما، في سعة من العيش، كانوا يبدون أمامه فى هيئة زرية، وواضح أنه ليس فى هذا أثر من آثار التقاليد الدينية التى تجد مثلها الأعلى فى ازدراء متاع الدنيا" أ. هـ. إن التقاليد الدينية فى تصورك أنت ومواريثك أنت ترى ذلك عيبا لكن الإسلام- يا عباد الله- يجعل الزواج عبادة ويجعل اتخاذ الزينة سنة لكل صلاة. فلماذا تحاكم المسلمين إلى رهبانية ينكرونها لتستنتج من ذلك طورا أنهم خرجوا على الإسلام. وطورا آخر أن الإسلام خرج على أصوله الأولى؟؟ * * * * الإسلام يخدم الروح والجسد: لقد شرحنا فى أكثر من موضع منهج الإسلام في تكريم الروح والجسد جميعا وأن حضارته لا تجنح فى ذلك إلى أحد الطرفين المتباعدين، بل هى طريقة وسطى وسلوك معقول محتمل. نعم قد تضحى فى سبيل الله بنفسك، فتترك جسدك صريعا فى الميدان وتنقلب إلى ربك، وقد تفقد فى هذا الجهاد النبيل بعض الأعضاء والمشاعر. وقد تحبس بعض الرغبات التي تضطرم فى دمك، وتكبتها كبتا، فلا تظهر أبدا، لا لشىء، إلا لأنها إثم يجر فى أعقابه الظلم والمعرة. فليس كل طعام تشتهيه تتناوله ولو كان ملك الآخرين. وليس كل جمال يزدهيك تتبعه ولو انعدم حقك فيه. إن تكريم الجسد ورعاية غرائزه لا تعنيان الفوضى والإباحة وليس فى الدنيا منطق يقر هذا الانحراف. فللجسد(1/140)
حقوقه داخل نطاق الشريعة التى رسمت له طريق الاعتدال . ص _145
لا تفريط ولا إفراط، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ). إن الحضارة الأوروبية، جنحت إلى حياة اللذة، وعبادة الجسد، فأسفت وحفرت لنفسها المزلق الذى تنحدر منه إلى الضياع. وإن طوائف أخرى من الخلق جنحت إلى تعذيب الجسد وإرهاقه بفنون التكاليف، وحرمانه من الضروريات والمرفهات وهى تحسب ذلك بابا إلى سناء الروح أو مرضاة الله، وهذا خطأ. وفى رد أسلوب الرهبنة، وسيرتها الخشنة الجافة استحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطيب والنساء. وفيه نزلت الآية السابقة، ويقول الإمام الطبرى فى تفسيرها: "لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شىء على نفسه مما أحله الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه- بإحلال ذلك لها- بعض العنت والمشقة. ولذلك رد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ التبتل على ابن مظعون. فثبت أنه لا فضل فى ترك شىء مما أحله الله لعباده . وأن الفضل والبر إنما هما فى فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون- إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فإذا كان الأمر كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، ما دام يقدر على لباس ذلك من حله، ومن آثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره، حذرا من عارض الحاجة إلى النساء. فإن ظن ظان أن الخير فى غير الذى قلنا لما فى لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس، وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه، وعونه لها على طاعة ربها. ولا شىء أضر للجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التى جعلها الله سببا إلى طاعته. وقد جاء رجل إلى الحسن البصرى فقال: ".. إن لى(1/141)
جارا لا يأكل الفالوذج. ص _146
فقال: ولم؟ قال: يقول لا يؤدى شكره. فقال الحسن: أفيشرب الماء البارد؟ قال: نعم. فقال: إن جارك هذا جاهل، فإن نعمة الله عليه فى الماء البارد أكثر من نعمته عليه فى الفالوذج "! ويرى "جولد تسيهر" أن الأتقياء من المسلمين عندما رأوا الحياة العامة تسير فى طريق معوجة آثروا الانزواء، وترك الدنيا، وهجر طيبات الحياة. ونحن نقول: ربما رغب بعض الناس فى العزلة لأمور ضايقته من المجتمع الذى يحيا فيه. غير أن مسالك هؤلاء المعتزلين تخضع لتعاليم الإسلام، وإلا اعتبروا عصاة لا أتقياء. فمن هجر الجمع والجماعات- وهو يستطيع إتيانها- فهو من أهل النار لا من أهل الجنة. وكذلك من رفع شعار العزوبة وترك الطيبات. على أن التقوى لم تكن يوما ما الانسلاخ عن الدنيا، والانسحاب من ميادينها، والفرار من جملة الحقوق والواجبات المنوطة بأعناق العالمين فيها. وهب إنسانا فعل هذا بنفسه، إنه لا يعدو أن يكون امرءا عاجزا هاربا.. ومن الغباء عده من عباد الله الصالحين. وعلى ذلك فنحن نستبعد من نطاق المؤمنين وأهل الرفعة والتقوى من وصفهم "جولد تسيهر" بقوله (ص 146): " وكلما مالت الحياة العامة نحو المصالح المادية والملاذ الدنيوية وجد هؤلاء الذين نشدوا المثل العليا الإسلامية- وذلك فى نهاية الصدر الأول- أسبابا وبواعث تدفعهم إلى إبداء استهجانهم وسخطهم متخذين لأنفسهم موقفا خاصا لا يحيدون عنه، وهو نبذ كل غاية دنيوية ". أ. هـ. ص _147(1/142)
وقوله (ص 147): " إن الميل إلى الزهد كان مرتبطا بالثورة على السلطة القائمة، وقد أجرى تحقيق فى خلافة عثمان مع رجل اشتهر بلعن الأئمة وعدم الاشتراك فى صلاة الجمعة لكى يحتج بهذا على الحكومة القائمة- وعاش نباتيا وعزبا. وهكذا لجأ كثير من المسلمين- احتجاجا على ما ينكرون من حكومة ونظام- إلى حياة الاعتكاف والزهد وكان الشعار الذى نقشوه على لوائهم: " الفرار من الدنيا.. " أ. هـ. ثم يتحدث هذا المستشرق بعد ذلك- حديث الاحترام والإكبار طبعا- للنسك المسيحى الذى عرفه العرب قبل الإسلام وبعده!. هذا النسك الذى استهوى الأفئدة برقته، وجعل المسلمين العباد يدخلون فيه أو يقتبسون منه!! ونحن لا نهتم بمعرفة المصدر الذى أمد زهاد المسلمين بالسيرة الخشنة التى ساروها. ربما سرت إليهم عدوى الرهبنة من المسيحية أو البوذية، وربما استحمقوا فى فهم بعض الآثار الإسلامية، وربما غلبت عليهم طبائع بدنية ونفسية خاصة، وربما كان الأمر خليطا من تلك المصادر جمعاء. المهم أن علماء الإسلام استنكروا بصراحة هذه السير الزائغة. لنفرض أن أبا العلاء المعرى وألفا مثله حرموا على أنفسهم اللحوم، ما للإسلام وهؤلاء الممعودين ؟! ولنفرض أن عددا آخر هجر النساء، ما للإسلام وهؤلاء الحصورين ؟ وإذا كان البعض يمشى متماوتا وئيد الخطو من ثقل التقوى على كاهليه فما للإسلام المجاهد النشيط وهؤلاء القاعدين الثقال؟ لقد أنكر علماء الدين هذه الشارات التى تسربت إلى المجتمع الإسلامى. ولم تتعرض أمتنا للاضطراب الفكرى والروحى إلا يوم شاعت فيها هذه الشارات دون نكير. وقد اعترف "جولد تسيهر" بأن خيار المسلمين قاوموا هذا الخلل، غير أنه تبرع غير مشكور بالرد عليهم قال. (ص 148، 149): "ولقد عجب النمط الأوسط من المؤمنين لظهور هذه الميول النسكية. وتغلغلها تدريجيا فى العقائد الإسلامية وتقاليد الحياة العملية، وهذا هو ما تدل عليه النادرة التالية: ص _148(1/143)
روى أن امرأة رأت يوما فتية يتئدون فى سيرهم ويتحفظون فى حديثهم مما يتناقض كثيرا مع ما جبل عليه العربى من طلاقة فى القول وخفة فى الحركة، ولما استخبرت عنهم وهى متعجبة من أمرهم أجيبت بأنهم نُساك. فلم تستطع أن تخفى عمن حولها ما لاحظته وقالت: "كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقا" ولو تدبرنا ما جاء فى الآية التاسعة عشرة من سورة لقمان: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لزعمنا بأن النبى لو كان قد صادف أمثال هؤلاء الفتية لأقرهم على نسكهم "أ. هـ. ونقول: لا، ما يقرهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا النسك المبتدع. وعمر بن الخطاب أقرب إلى هدى رسول الله، وأعرف بسنته، وأصدق فى شرح الإسلام والدلالة على طبيعته من هذا المستشرق. أما الأمر بالقصد فى المشى، والغض من الصوت فهو أدب يضاد مشية الخيلاء، ورنة الكبرياء اللتين يألفهما العالون فى الأرض، وليس المعنى أن يمشى الإنسان متقاصر الخطو، أو يتحدث همسا حيث ينبغى أن يتكلم بصوت جهير... ويستطرد "جولد تسيهر" فيذكر أن هؤلاء الزهاد- الصادقين فى نظره- شددوا على أنفسهم فى الصوم، وأنهم تركوا اللحوم، ولبسوا الخشن قربى إلى الله. ولما كان الحديث ـ فى نظره ـ يصنع وينسب إلى الرسول، فإن الحرب المعلنة على الزهد في البيئة الإسلامية المنحرفة، صاغت شتى الأحاديث للرد على هؤلاء قال (ص 149): " غير أن ما ورد من الأحاديث والحكم الناهية عن الإسراف فى الصوم صرف إليهم ووجه ضدهم. فضلا عن أننا نصادف بينهم من امتنع عن تناول اللحم وهو نوع قديم من الزهد لدينا شواهد ترجعه إلى عصر الصحابة ذاته.. "فزياد بن أبى زياد" من موالى بنى مخزوم صورته الروايات رجلا ناسكا يزهد فى الدنيا ويديم العبادة، ويرتدى الخشن من الثياب الصوف ويحرم اللحم على نفسه، حتى أصبح فى عهد "عمر بن عبد العزيز" أنموذجا ممثلا لجماعة الزهاد، ولا شك أن الحديث:(1/144)
"من ترك اللحم أربعين يوما ساء خلقه " قصد به أشباه زياد هذا... " أ. هـ. ص _149
والحديث الذي التقطه "جولد تسيهر" فى وجوب أكل اللحم، أو فى مغبة تركه حديث طريف، ولعله من وضع أحد الجزارين لترويج ذبائحه!! وحبذا لو أهداه إلى مجزر "بودابست " تعميما للنفع به..!! إن الإسلام لا يتناول بهذا الهزل. والمستشرق الذى قرأ عشرات ومئات الكتب قبل أن يكتب ما كتب كان ينبغى أن يزيح الغشاوة عن عينيه ولو قليلا ليحسن الاستنتاج من المرويات التى يصادفها. بل ليحسن قبل ذلك مَيْز غثها من سمينها. * * * * الإسلام فوق هذه الأوهام: ونسأل ما يبغى "جولد تسيهر" بعد هذا الطواف الطويل؟ إنه ماض فى خطته يجرد الإسلام من كل فضل، وينسب محاسنه إلى غيره، ويكن الاحترام لأنواع التراث الأخرى. ولقد وصف المسلمين الفاتحين بالطمع لما وجدهم نجحوا فى هدم الوثنيات السياسية السائدة بين الروم والفرس. ثم تراه عندما لمح فى حياتهم منهجا للزهد المعتدل غلب على كثير منهم ووردت بعض الآثار به يقول: ".. اقتباس من اليونان.. "!. كأن العرب إذا قالوا: خير الأمور الوسط، فهم لم يتعلموا أن الفضيلة وسط إلا من أرسطو. فإذا رأى طوائف أخرى أغرقت فى الزهد قال: هذا مسلك منقول عن الرهبانية النصرانية. المهم عنده أن الإسلام ليس له من ذاته شىء، وأن العرب ليس لديهم إلا ما نقلوه عن هؤلاء وأولئك. ورجل سرى التعصب فى عروقه على هذا النحو، لا يؤمن فى عرض قضية ولا فى إصدار حكم. وفى هذا الباب، "باب الزهد والتصوف " نريد لفت النظر إلى أمور: ص _150(1/145)
ا- إن إصلاح القلب الإنسانى، وشحنه بالمشاعر الزاكية هدف أول للإسلام تنزلت من أجله آيات قرآنية، وثبتت فيه سنن نبوية. وثروة النصوص التى انساقت فى هذا المجال تنشىء علما كاملا وتقيم منهجا للتربية لا نظير له فى ديانات العالم من سماوية وأرضية. ولقد ألفت كتب فى هذا الموضوع تزدرى كل دخيل من الآراء الأجنبية وتعتمد على الفكر الإسلامى المحض. وقد أسهمت أنا بجهد محدود فى ذلك الميدان فى كتابى "الجانب العاطفى من الإسلام" 2- هذا الجزء من الثقافة الإسلامية الخالصة يشرح بوضوح صلة المسلم بالدنيا، وصلته بالأخرى ويضبط تصوره العقلى للألوهية، وشعوره القلبى نحو ربه. والعقائد والعبادات التى جاء بها الإسلام فصلت ذلك كله تفصيلا لا يبقى معه أى لبس. ويمكن بعده لكل دارس أن يعرف السنة الإسلامية الأصيلة، من البدع الطارئة الدخيلة. 3- لا ننكر أن هناك أخطاء علمية، وتصرفات عملية شاردة أثرت عن بعض الزهاد المسلمين وعن رجال التصوف. ونحن أحرص أهل الأرض على تجنيب هذه الأخطاء، وإقصائها بعيدا عن حياتنا الفكرية والخلقية. وسواء أكانت هذه الأخطاء ذاتية، نبتت من نفوس أصحابها، أم هى أفكار وسير خارجية تسربت من حضارات أخرى، فما نريد بقاء هذه المحدثات بين ظهرانينا. وهى فى نظرنا توافه وسيئات ولو كانت فى نظر المستشرقين من روائع الفكر الإغريقى أو الهندى. إننا فى ميدان الاعتقاد والتعبد نرفض بإباء وكبرياء كل زيادة عن الكتاب الكريم والسنة المطهرة. ونود- من كل صاحب فكرة أو مسلك يرى أنه تسرب إلينا شىء من آرائه- أن يسترد مشكورا فلسفته، ومنهجه، فحسبنا ما لدينا. ص _151(1/146)
التصوف الحق وأسسه المقبولة: ويستطيع القارىء أن يطالع حقائق التصوف من الناحية الإسلامية فى مثل كتابنا "الجانب العاطفى من الإسلام ". ولا أريد هنا أكثر من توكيد معنى يتصل بالزهد. إن الزهد الناشىء عن الحرمان أو العجز ليس فضيلة كاملة. نعم قيل فى بعض الحكم: "من العصمة ألا تجد " وقد تصلح أحوال بعض الناس فى ظل قلة من المال والجاه. وربما صفت نفس إنسان معتزل فى قرية بعيدة. وأنا أشعر فى أحيان كثيرة بأن الانقطاع عن الخلق سعادة. وقد اعتقلتنى بعض الحكومات، فلما أفرج عنى وكابدت أعباء الحرية وتكاليف النشاط العام غبطت المعتقلين الذين سقطت عنهم هذه الواجبات كلها، ثم أيقنت على ضوء التجربة أن الرهبنة أسلوب ماكر يبدو منه الفرار من الحياة وكأنه انتصار عليها..! والإسلام أكبر من هذا. الإسلام اقتحام لمعركة الحياة، وانغماس فى أفراحها وأتراحها، وقدرة مصاحبة للسيطرة عليها وإحسان توجيهها نحو الغاية المنشودة، وتبعا للعقيدة التى تغمر الفوائد. وقد قلت فى كتابى "من معالم الحق ": ".. وخير ما يقال فى داعية، أنه استغنى عن دنيا الناس، فلم يخافوه عليها، وبذل ما لديه من خير فهرعت إليه الوفود ترجوه. وهذا المعنى هو ما أكده نوح لقومه: (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين). وصدق من قال: أذل الحرص أعناق الرجال. إنه ليس أعصى على فنون الإغراء من الرجل الزاهد ينظر إلى الناس وهو بنجوة من مشاعر الرغبة التى تدنيه حيث يجب أن يبعد، أو مشاعر الرهبة التى تبعده حيث يجب أن يدنو. كلا، إن غناه فى قلبه حصنه من هذه الثغرات التى تستذل الملوك. فهو ملئ النفس، رفيع الرأس بما يدخره عند الله وحده. ص _152(1/147)
وتنزيه الدعوات عن المتاجرة بها هو معنى الزهد الذى لاذ به الأئمة واحتفى به العلماء. فليس الزهد هو الجهل بالحياة وهجرة أسباب العمل وقصور الباع فى مختلف الحرف، وترك زينة الدنيا عجزا عن بلوغها أو بلادة عن تذوق الجمال الذى أودعه الله لمحها. ورُب نبى استمتع بالمال والبنين وهو- مع ذلك- من الزاهدين! ورُب محروم عاش يشتهى ويتلمظ فما كان فقره رفعة لشأنه ولا زيادة فى حسناته. إن الزهد ألا تبيع مُثلك العليا بملك الدنيا إن خيرت بين هذا وذاك. فإن الله عاب قوما بأنهم آثروا الأولى على الآخرة فقال : (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون) أما أن تحس نعمة الله وتستمتع بها ويشوف بدنك وروحك حسنها فهذا ما لا يُضير رجلا مؤمنا مجاهدا وفيا لفضائله. ألا ترى القرآن الكريم ينبه إلى ناحية من نعم الله على أبناء آدم فيقول فى تسخير الأنعام : (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون). إن هذا الجمال منة تستحق التنويه، فما بالك بألوان الجمال الأرقى، وقد أتاحها الله جميعا للذين آمنوا...؟ إن أصحاب الدعوات قد تُحبب لهم من الدنيا أشياء، بيد أن شيئا مما يروقهم فيها لا يحجبهم عن الله، ولا يهون عليهم الحق، ولا يذلهم للناس… * * * * مبادئ الانحراف: ونريد الآن أن نجيب على هذا السؤال: أسرى الغلو فى الزهد إلى البيئة الإسلامية من جهات خارجية وثقافات دخيلة، أم أن له أسبابا أخر!ا؟ والذى تؤكده الوقائع أن نزعات الغلو بدأت على عهد الرسول نفسه. ص _153(1/148)
ونحن نعرف قصة الثلاثة الذين رغبوا فى مزيد من العبادة. فقال أحدهم: أنا أصوم النهار لا أفطر أبدا. وقال الثانى: وأنا أقوم الليل لا أنام أبدا. وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء. ونعرف أن الرسول العظيم رفض هذه السيرة الخشنة، وعدها خروجا على سنته، وانصرافا عن طريقته وشريعته، وقال "لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى " ثم جاء بعد ذلك الخوارج وهم عرب أقحاح ، ومعارفهم لا تتجاوز فقههم الخاص فى الإسلام فغلوا في فهمهم وعملهم على سواء. لقد عدوا العصيان كفرا واختطوا لأنفسهم طريقا وعرة، وقصدوا بها مرضاة الله، ولكنهم ضلوا الوسيلة الصحيحة. وجمهور المسلمين لا يرضى مسالكهم، وإن كانت شديدة الحماس طويلة القيام والقراءة والركوع والسجود. ومن الإنصاف أن ننزه الخوارج، عن حياة الرهبنة. ومع أنهم كانوا أكثر عبادة من الرهبان، وأشد انعطافا إلى الله، لكنهم لم يهجروا الحياة والعمل لها، والعمل فيها، وكونوا أسرا يكدحون لرزقها وكسوتها. وأنا أذكر قصة هذا الخارجى الذى سهر ليلة المعركة يفكر فى بناته إذا قتل وتركهن ثم يقول: وقد زاد الحياة إلى حبا بناتى: إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين الذل بعدى وأن يشربن رنقا بعد صافى فأرى نفسى أمام إنسان كبير القلب ممتد الشعور، يحب أولاده حبا جما إلا أنه يحب دينه أكثر من ذلك. فإذا نشب العراك فى ضمير الرجل، أيقدم على الاستشهاد فى سبيل ما يعتنق من مبدأ، أم يستبقى نفسه لبناته؟ فإن هذا العراك له دلالته الرائعة. فإذا قرر المضى إلى الموت بعد ذلك مستودعا الله ذريته، فتلك تضحية من طراز لا يعرف الرهبان نظيرا له أبدا. ص _154(1/149)
وأى تضحية يقدمها رجل حبس نفسه فى دير، أو اعتقلها فى ذروة جبل شاهق، فهو مستريح من عناء الحياة ووعثاء الطريق؟!!. وهل تظن الباطل ينكر، والعدل يشبع بجهود أولئك المترهبين فى الصوامع، أم بسيوف أولئك الذين يبيعون أولادهم وأموالهم لله.؟ إن الإسلام رفع منزلة التقوى لما جعل رهبانية أمته الجهاد. إنها منزلة فوق ما يألف القاعدون، ولو كلت ألسنتهم من طول الذكر والتسبيح. ومن أن بذرة الغلو بدأت داخل النطاق الإسلامى، ووجد ناس زاهدون كثيرون ببواعث لا صلة لها بالثقافات الأجنبية الوافدة، إلا أننا لا ننكر أن الجو الإسلامى تنفست فيه أفكار بعيدة عن الإسلام. غير أن هذه الأفكار لم تأخذ طريقها إلى أمتنا عن طريق اقتباسها ما أعجبها من تقاليد الروم والفرس والهنود. فإن الإسلام كان أحظى لدى أهله، والمسلمين كانوا أعز جانبا وأرفع مستوى من أن ينساقوا وراء غيرهم. إن المنتصر لا يتبع المهزوم. والفاتح المعتز بمبادئه ودعائمه لا وينتظر منه أن يتنازل عن شىء منها ليستعيض عنه بما لدى البلاد المفتوحة من مذاهب وآراء، خصوصا ما يتصل بالعقائد والعبادات. والمسلمون فى أسوأ ما مر بهم من أزمات وويلات لم يخطر ببالهم أن هناك كتابا أرجح من القرآن، أو رجلا أولى بالاتباع من محمد عليه الصلاة والسلام... إن تسرب البدع والأفكار الأجنبية فى الزهد وغير الزهد جاء مع دخول الجماهير الهائلة من النصارى والمجوس والبوذيين وغير هؤلاء وأولئك فى الإسلام، واستصحابهم بعض المواريث والعادات التى قلما يتخلص أصحابها منها إلا بعد أمد يطول أو يقصر.. ولا تنتظرن من جيل دخل فى الإسلام، وكان من قبل بوذيا أو نصرانيا، أن يتجرد تجردا تاما من تصوراته الأولى فى الفروع التى تتحمل وجوه النظر ومختلف الوجهات. إنه سوف يؤمن بالله الواحد، ويحل ما أحل، ويحرم ما حرم، ومع ذلك فقد يكون أميل إلى لون من العبادة دون لون، أو إلى أداء هذا اللون بصورة دون أخرى. وقد يبقى معه هذا(1/150)
الإحساس فلا يفارقه إلا بعد أمد . ص _155
ونحن نرجح أن انتشار الزهد المتطرف بشقيه من غلو فى العبادة، وانصراف عن الدنيا يعود إلى هذه الأفواج التى دخلت فى الإسلام، ولم تنل حظوظا ضخمة من الفقه فيه والتزام سنته. و"جولد تسيهر" يريد إيهام الناس أن الإسلام من حيث هو دين اقتبس هذا الزهد من المسيحية. ومع رفضنا هذا الزعم بناء على ما قدمنا من أدلة، إلا أننا سنسلم جدلا به، فما يغنى هذا عن "جولد تسيهر"..؟؟ * * * * مظاهر الغلو: إننا نرحب بتبرئة الإسلام من أن يكون مصدرا لهذا التطرف، وأن تكون ديانات أخرى هى التى أحدثته، واستبقته. اسمع له يقول (ص 155، 151): "... ومنذ أقدم عصور الزهد الإسلامى تجلت هذه المبالغة فى ناحيتين: الأولى : تعبدية.. والأخرى: أخلاقية. فالناحية التعبدية تتمثل فى "الذكر" الذى احتفظ بمكانته طوال الأدوار التى مر بها التصوف الإسلامى. فإذا كان الإسلام الرسمى يقصر الصلاة على أوقات محدودة فى النهار والليل، فالمبادئ النسكية تخالف هذا التحديد، بما تحتمه من تلاوة القرآن وذكر الله فيما بين أوقات الصلاة، وبما ترفع من شأن الأذكار إلى أن تصل بها إلى مرتبة الفرائض الحتمية التى تتضاءل دونها الفرائض الرسمية الأخرى، وتصبح الثانية بالنسبة للأولى واجبا ثانويا سيان أداؤه أو إغفاله. وهذه هى الأذكار الصوفية التى لا تزال حتى اليوم الهيكل الأساسى فى بناء الطرق الصوفية، تلك الطرق التى ورثت تعاليم هؤلاء النساك الأقدمين. والناحية الخلقية التى تبرز واضحة جلية فى زهاد ذلك العصر، هى المبالغة فى التوكل، أى الثقة فى الله. وهذه العاطفة هى التى دفعت بهم إلى أقصى درجات الطمأنينة النفسية القانعة.. ص _156(1/151)
إنهم لا يبالون بشىء، ويهملون الدنيا إهمالا مطلقا، وينبذون كل تصرف ذاتى يحملهم على الاهتمام بمصالحهم الخاصة، بل يتركون أنفسهم تركا لعناية الله وقضائه، ويجعلونها بين يديه لا إرادة لها ولا حركة، كالميت بين يدى الغاسل، والراسخون فى هذا المعنى يطلق عليهم "المتوكلون " أى الذين وضعوا ثقتهم فى الله. ونروى عنهم- فى معرض الغض من شأنهم والزراية عليهم- طائفة من المبادئ والنظريات تبين مقدار ازدرائهم للعمل والسعى لكسب القوت وسد حاجات العيش، لأنهم يرون فى الكد والسعى فقدانا للتوكل ونقصا فى الثقة بالله، ويرون اللجوء لله مباشرة أفضل فى قضاء ما يحتاجون إليه دون الاستعانة بالوسائط. وهؤلاء المتوكلون يجيبون الذين ينتقصونهم ويستنكرون كفهم عن السعى، وقناعتهم الساكنة المطمئنة، بأنها أشرف من اتضاع العمال وحقارة السائلين. إنها عندهم أسمى الطرق التى يقيم بها الإنسان أوده : فالعبيد كلهم فى رزق الله تعالى، ولكن بعضهم يأكل بذل السؤال، وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار، وبعضهم بامتهان كالصناع، وبعضهم بعز كالصوفية، فهم يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده، ولا يرون الواسطة، ويرون أن من الفضائل التى يمتازون بها أنهم لا يذكرون الغد فى عداد أيامهم، فهم يقصون عن محيط فكرهم أن يعنى المرء بمستقبله أو أن يرعى شئونه وحاجاته. ويسوقون للتدليل على صحة دعواهم حديثا- يتجلى فيه الوضع- وهو: "أن الحكمة لتنزل من السماء، فلا تدخل قلبا فيه هم الغد " وعندهم أن من يضع فى الله ثقته إنما هو " ابن الوقت " فإذا كان له تدبير فى المستقبل وتطلع لغير ما هو فيه من الوقت، وأمل فيما يستأنفه لا يجىء منه شىء. ومن الثابت أن المبادئ الأساسية فى مذهب هؤلاء القوم التجرد الكامل عن ضرورات الحياة، ونبذ طيباتها ومباهجها، أى أن كل من يندمج فى زمرتهم فهو فقير"أ. هـ. هذا الزهد المغرق فى ترك الدنيا، والإقبال على الله بشتى البدع، يقول عنه "جولد تسيهر" بعد(1/152)
ذلك (ص 152- 153): " وقد سبق أن بينا أن هذا التصور للحياة النسكية، مستمد من فكرة الرهبنة المسيحية التى يتفق مثلها الأعلى مع المبادئ التى عرضناها، اتفاقا يكاد يكون حرفيا". ص _157
ومما هو جدير بالذكر أن فقرات الأناجيل التى يكثر الاستشهاد بها فى الحكم التى تحث على الزهد- كما فى إنجيل متى الاصحاح السادس أعداد: 25، 34 وإنجيل لوقا اصحاح 12 أعداد: 22، 35- والتى تتحدث عن طير السماء التى لا تبذر ولا تحصد، ولا تكدس الحبوب فى أهراء ولكن يغذيها خالقها- هذه الفقرات توجد بنصها تقريبا متداولة بين الزهاد.. وفى لب هذه المبادئ الخاصة بالتوكل، قال رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا، ولزالت بدعائكم الجبال"! وقال عيسى عليه السلام: "انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله تعالى يرزقها يوما بعد يوم ". وقد حاكى هؤلاء الزهاد المسلمون وعبادهم نساك النصارى ورهبانهم، فارتدوا الصوف الخشن، ويمكن أن نرجع هذه العادة وهى ارتداء الصوف إلى عصر الخليفة عبد الملك بن مروان (685- 705 م) على أقل تقدير حيث بدأ استعمال كلمة صوفى التى أطلقت فيما بعد على أشياع حركة الزهد فى عصر بلغ فيه نسكهم العملى درجة عالية من النمو والتقدم، وارتبط بفلسفة قوية مبتكرة لا يزال لها الأثر الفعال فى الفكر الدينى فى الإسلام " أ. هـ. ونقول: قاتل الله هذه الفلسفة التى يمتدحها "جولد تسيهر" إننا نسأله: هل نجت أوروبا من ظلمات ماضيها إلا بإطراح هذه الفلسفة ومصادرها. إننا- على أية حال- لا نضيق بإثبات أن هذه الفلسفة وليدة الرهبنة المسيحية. وليست وليدة الحياة الإسلامية، وما نرضى أبدا أن يكون الإسلام مصدرها. أما حديثه عن التصوف الإسلامى، فأوثر تناوله كله عندما أصدر كتابى عن "انحراف التصوف " إن شاء الله وهو جزء متمم لكتابنا "الجانب العاطفى من الإسلام". * * * * ص _158(1/153)
الإسلام لا يزال يصنع:! ويوغل الرجل فى متابعة أوهامه، فيقول: " إن الإسلام لا يزال يصنع! وأن الأوائل وحد هم ليسوا هم الذين جمعوا مادته، وتولوا صياغته، بل الأواخر يقومون بالوظيفة نفسها التى سبق إليها أسلافهم "! ولقد أثبت لنا أن السنة- وهى المصدر الثانى للإسلام- من عمل الصحابة والتابعين!! وها هو ذا يكتشف لنا سر المصدر الثالث، أو الرافد الذى يمد الإسلام بصور وأحكام جديدة لم تخطر على بال مؤسسة، وطبعا لم تأت من عند الله. إنه الإجماع.... فالإجماع فى نظر المستشرق الفطن، دائب على ضم عبادات، وتشريعات أخرى إلى التراث الإسلامى، يواجه بها الأزمان ويشبع بها الرغبات. ".. والحاجة إلى هذا الرافد الثالث نشأت من قصور الكتاب والسنة عن مسايرة العصور أو لأن تطور ظروف الحياة، والتجارب التى اكتسبتها الأمة الإسلامية بفعل العوامل الجغرافية والتاريخية قد فرضت عليها أحوالا مغايرة لمقتضيات السنة، وجزتها إلى ملابسات تخالف كل المخالفة أساليب الحياة والفكر فى عهد الصحابة.. ". (ص 253). أ. هـ. ثم يقول: ".. هذه العوامل مجتمعة حتمت على المسلمين أن يبادروا بفتح ثغرة فى حصن السنة المنيع " ثم يقول: ".. وإن فكرة الإجماع التى ثبتت قواعدها خلال هذا التطور الذى مر بالشريعة الإسلامية، أصبحت عنصرا من عناصر التوفيق والتقريب بين السنة والبدع المستحدثة. وذلك أن المسلمين إذا اتبعوا عادة من العادات، أو تقليدا من التقاليد، وارتضاه جمهورهم زمنا طويلا، ولم ينكروه، أصبحت هذه العادة أو التقليد فى النهاية جزءا من صميم السنة "... ثم قال: ".. وقد ترتفع أصوات الفقهاء الورعين خلال بضعة أجيال مظهرين استياءهم وتذمرهم من هذه البدعة... غير أنه كلما طال الزمن وانعقد إجماع المسلمين على اتباعها تعتبر مباحة، بل قد ينتهى الأمر إلى أن يشترط المسلمون مراعاتها، ويرون البدعة فى مخالفتها وإطراحها " ثم يقول مستأنفا ضلاله (ص 254): " ويثبت لنا(1/154)
التاريخ أن علماء الإسلام مهما بلغوا من الصلابة والتعنت فى مبدأ الأمر إزاء التقاليد والعادات التى يكون جمهور الأمة ارتضاها وأقر اتباعها لم ص _159
يستنكفوا مع ذلك أن تهدأ مقاومتهم.. وأن يقرروا أن الإجماع قد انعقد على استحسان ما كانوا يعدونه من قبيل البدع المنهى عنها ". ثم يقول: " وعلى ذلك فمن الممكن التخلى عن القواعد التى قررتها الشريعة إذا ما ثبت أن مصلحة الجماعة تتطلب حكما يغاير حكم الشرع... " يا للكذب!!! ومضى هذا المستشرق فى شروده، يزعم أن الإجماع حينا، والمصلحة الطارئة حينا آخر، أبواب واسعة تدخل منها على الإسلام فتاوى وقوانين تزيد بها العقيدة والشريعة على مر السنين..!! وهذا كلام لا يقوله إلا معتوه.. فلم يزعم أحد من الأولين أو الآخرين أن الإجماع ينشئ حكما شرعيا. ولم يزعم أحد من الأولين أو الآخرين أن البدعة تتحول إلى سنة، ويتفق العلماء على المطالبة بها!. ولم يزعم مسلم أن النصوص ينسخها إجماع، وأن أمر الله ورسوله يتوقف لأن الأمة رأت وقفه..!! إن الإجماع لابد من استناده إلى حجة شرعية كى يعتبر دليلا محترما.. وإلا فلا وزن له. فالصلاة مثلا وجبت بالكتاب والسنة.. ثم يذكر الإجماع ليعلم كل إنسان أن النصوص الواردة فيها، والطريقة التى أديت بها قد تمت إلهيا على هذا النحو فليس لأحد من البشر أن يتزيد أو يتنقص.... وكذلك سائر ما أجمعت الأمة عليه. وما ليس له سناد شرعى من الكتاب والسنة، فلا صلة للإجماع به.. ولم يقل أحد من علماء المسلمين ولا من جهالهم: إن الإجماع المجرد العارى يوجب واجبا أو يحرم حراما. أما البدعة.. بمعنى إضافة شىء إلى تعاليم الإسلام، شىء لم يقله الله ولا رسوله، فهى موضع لعن المسلمين أجمعين. ولا ننكر أن بعض السفهاء قد يتوسع فى فهمه لبعض الآثار، ويعتمد على هذا التوسع العاطفى فى إتيان بعض البدع، ولكن حراس الإسلام وقفوا ضد هذه المفتريات وطاردوها وحصروها، وما زالوا إلى يومنا هذا(1/155)
يقومون بهذا الواجب. ص _160
ما هو الإجماع أو ما قيمته، وهل هو مصدر مستقل للعبادات؟ ولو أنك سألت مقترفى هذه البدع: هل جئتم بها من عند أنفسكم؟ لأنكروا ذلك، ولرفضوا بشدة أن يكون الناس بالإجماع أو الكثرة مصدر تشريع.. إن التشريع فى العبادات لا صلة له بعرف، أو استحسان، أو استهجان أو اتفاق قوم أو أقوام، يقول الشيخ فرج السنهورى: " لا حاكم سوى الله سبحانه، ولا حكم إلا ما حكم به، ولا شرع إلا ما شرعه. على هذا اتفق المسلمون، وقال به جميعهم، حتى المعتزلة (أهل العدل) الذين يقولون: إن فى الأفعال حسنا وقبحا يستقل العقل بإدراكهما وأن على الله أن يأمر وينهى وفق ما فى الأفعال من حسن وقبح. فالحاكم عند الجميع هو الله سبحانه، والحكم حكمه، وهو الشارع لا غيره. وإذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أطلق عليه اسم الشارع فى بعض عبارات العلماء فما كان ذلك إلا تجوزا مراعاة لأنه المبلغ عنه جل شأنه. وإذا كان الشاطبى فى بعض المواطن قد سمى عمل المجتهد تشريعا فما كان هذا منه إلا تساهلا أساغه أن عمل المجتهد كاشف عن التشريع ومظهر له، فالسلطة التشريعية هى الله وحده. والشريعة، أو الشرعة، أو الشرع فيما يختص بالعمليات، وهى حكم الله تعالى ، وهو أثر خطابه جل شأنه المتعلق بأفعال العباد اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. والله جلت حكمته لم يفوض إلى أحد من عباده، لا إلى رسول ولا إلى نبى ولا إمام ولا ولى ولا إلى غيرهم، أن يشرع للناس من الأحكام ما يريد، أو أن يحكم بينهم بما يراه هو من عند نفسه أو كيفما اتفق. أما العرف فلا توجد إحالة تشريعية إلى أحكامه، إنما يلجأ إليه فى معرفة ما يريده المتكلم من الأيمان والعقود، وما إلى ذلك، وفى معرفة قيم المتلفات وأشباهها، وفى الوقوف على الشروط التى يصحح العرف اشتراطها فى العقود، هذا هو كل ما يلجأ فيه إلى العرف، ولا يلجأ إليه فى معرفة حكم تشريعى ليطبق ، وإنما يلجأ إليه فى تكييف الواقعات(1/156)
والنوازل ليطبق عليها الحكم المعروف فى الشريعة، ولا يترك بسببه حكم نص ولا إجماع ولا حكم فقهى لم يكن مبنيا على العرف، وإنما يترك به الحكم الفقهى إذا كان مبنيا على عرف، ثم تغير إلى عرف آخر. ص _161
فاعتبار العرف فى الشريعة الإسلامية ليس من باب الإحالة التشريعية، كما أنه ليس من الأدلة الإجمالية، ولا يعدو أن يكون قاعدة فقهية. أما شرائع من قبلنا فالكل متفقون على أن ما لم يروه الشارع لنا لا يكون شريعة، وأن ما رواه لنا وأمرنا باتباعه كان من أحكام شريعتنا: واختلفوا فيما رواه لنا ولم يأمرنا باتباعه، فذهبت طائفة إلى أن مجرد الرواية يعتبر كالأمر فيكون من شريعتنا، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا يكون شريعة لنا. والمعتزلة قد ذهبوا إلى أن العقل يستقل بإدراك ما فى الأفعال من حسن وقبح وبالتالى يستقل بإدراك حكم الله الملائم وإن لم يأت به شرع ولم ينزل به وحى، فالمصدر الأصلى عندهم للوقوف على حكم الله هو العقل. أما جمهور المسلمين فعلى أنه لا حكم للعقل، وأن حكم الله لا يعرف إلا من قبله، ولا يكون ذلك إلا من طريق الوحى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (الكتاب والسنة) الذى أمر بتبليغه إلى الناس فبلغه. فالطريق الوحيد إلى ذلك هو تبليغ الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا عبرة بالإلهام والمكاشفة وأشباههما فكل هذا لا يكون طريقا لمعرفة حكم الله لأنه ليس وحيا. والتبليغ بما يكون من الرسول عليه الصلاة والسلام فى يقظة المبلغ إليه، فلا عبرة بتبليغ الأحلام. وبهذا اتضح أن الدليل الحقيقى والمصدر الوحيد للتشريع الإسلامى بأجمعه هو الوحى الإلهى وأن مرد الإجماع والقياس إليه.. وأن المصادر الأخرى ليست خارجة عن الأربعة، أو هى ليست مصادر للفقه " ا.هـ !! إن هذا المستشرق وأضرابه يحسبون الإجماع قادرا على خلق أحكام لا إسناد لها من كلام الله ورسوله، مع أن الإجماع كما علمت هو الاتفاق على فهم ما ورد من النصوص، وما ثبت من أعمال(1/157)
النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فالأمة فى شئون الدين تتلقى كلمة السماء، ولا تملك أمامها إلا التسليم. ومع النص القائم، لا يقبل اجتهاد. ولا تستطيع مجامع خاصة أو عامة أن تحذف حكما، أو تضيف آخر. ولا يملك المسلمون من العصر الأول حتى قيام الساعة أن يجعلوا سنة بدعة أو بدعة سنة، نعم يستطيع الناس العصيان، وفقد التسامى إلى أوامر الله. ص _162
لكن معنى هذا أن القانون حق، وأن سلطانه المعنوى قائم مهيب، وأن النزول عنه عارض معيب، وأن الحسن الذى شرعه الله ظل حسنا، وأن القبيح الذى صنعة الناس ظل قبيحا. أما هذا النفر من المستشرقين فقد ضل الصواب حين زعم أن الإجماع ينشئ حكما، وفيهم يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: " لقد بنوا على خطئهم هذا أن فى مقدور الناس أن يخلقوا بتفكيرهم وأعمالهم عقائد وسننا، أن يسلموا بما تلقوه عن طريق السماء فحسب، وقالوا ما ترجمته "وقد أصبح بفضل الإجماع ما كان فى أول الأمر بدعة أمرا مقبولا نسخ السنة الأولى، فالتوسل بالأولياء مثلا صار عمليا جزءا من السنة، وأعجب من هذا أن الاعتقاد بعصمة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جعل الإجماع ينحرف عن نصوص واضحة فى القرآن، بل غير عقائد ثابتة وهامة جدا تغييرا تاما، وعلى هذا فهو يعتبر عند الكثيرين- مسلمين وغير مسلمين- وسيلة فعالة للإصلاح وهؤلاء يقولون إن المسلمين يستطيعون أن يجعلوا ضمن الإسلام ما شاءوا على شريطة أن يكون ذلك بالإجماع، على أن الآراء غير متفقة فيما يمكن أن ينتظر للإجماع من أثر. فـ "جولد تسيهر" الذى درس تاريخ الإجماع يعتقد أنه يمكن أن يكون له شأن كبير على خلاف "سنوك هرجونيه " الذى يرى أن الفقه قد جمد فلا رجاء فى الإجماع "أ. هـ.. هذا هو كلام العلماء الأوروبيين فى الإجماع، وقد فهموا أن الإجماع هو إجماع العامة على ما يرون، لا أنه اتفاق المجتهدين أو كما عبر الكثيرون إجماع أهل الحل والعقد. وذكروا أنه يتناول فى شموله العقائد والأحكام(1/158)
العلمية مع أنه لم يقل ذلك إلا الإمامية. وذكروا أنه يعارض الكتاب والسنة ويقدم عليهما، فيقدم حتى على القطعى من القرآن فى دلالته وأنه يمكن أن يكون سببا فى بناء شريعة جديدة، ولعلهم يأملون فى ذلك. بل لعل الأمانى هى التى سولت لهم هذا التفكير. ص _163
وذلك خطأ فى مجموعه لأن قضية كون الإجماع فى غير أصول الفرائض حجة ليست موضع إجماع من علماء المسلمين.. وكثيرون لا يسلمون إلا بإجماع الصحابة رضى الله تبارك وتعالى عنهم. والذين قرروا أن الإجماع حجة اتفقوا علي أنه لا يقدم على الكتاب والسنة، فهو لا يعارض كتاب الله ولا المتواتر من سنن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا المشهور من هذه السنن، والإجماع الذى يقدم على طرق الاستنباط. هو إجماع قائم على النصوص ودلالتها ويثبته العمل فى الأجيال كلها. ثم إن الذين أخذوا بالإجماع أوجبوا جميعا أن يكون له سند من الكتاب والسنة، وترخص بعضهم فجوزوا أن يكون السند قياسا على نص قائم، فلا بد أن يعتمد على نص إما مباشرة، وإما بقياس صحيح أجمع العلماء على سلامته. ولعل أعظم ما اشتمل عليه كلامهم من خطأ هو: أولا: أنهم تصوروا أن أمرا ما كان بدعة فى أول الإسلام، ثم صارت البدعة بالإجماع سنة، وذكروا فى ذلك التوسل بالأولياء، وذلك خطأ لأن الناس لم يجمعوا على ذلك فى أى عصر من العصور، بل لم يقل أحد إنه من السنة، وإن سوغه بعضهم فإن ذلك التسويغ لا يرفع إلى رتبة السنة، حسبه أن يوصف بالجواز!! وثانيا: أنهم قالوا: إن المسلمين أثبتوا عصمة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهم بذلك قد انحرفوا عن القرآن، وذلك كلام باطل، فما قرر القرآن أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير معصوم، بل قرر له العصمة فى مثل قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى). وقال تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم). فالنبى معصوم بحكم القرآن وبحكم الإجماع. هذا ما لزم التنبيه عليه من أخطائهم، والله سبحانه هو الهادى إلى(1/159)
سواء السبيل. ص _164
الإسلام لا يؤخذ من أعمال الجهال والمبتدعة: ووقع فى أيدينا خطاب أرسله "جولد تسيهر" إلى الشيخ "طاهر الجزائرى" من نحو سبعين سنة، ما إن طالعناه حتى عرفنا أن الرجل مشغول بجمع الشبهات التى يستدل بها على أن الإسلام ما يزال يُصنع (!) وأنه ينمو على مر الأجيال، بطريق الابتداع والإجماع. وهو يتتبع محدثات الصوفية طالما أن إحصاءها وإثباتها كفيلان بترويج فرية أن الإسلام ينمو عن طريق الجهد البشرى، كما بدأ من طريق الجهد البشرى. وهذه هى الفقرات الأخيرة من رسالته: "... يا أيها الشيخ العلامة أستفهم منكم عن مسألة دمشقية لا أجد حلها فى الكتب التى تحت تصرفى مع شدة اشتياقى لإزالة شبهتى فى تلك المادة. ذلك أنى قرأت فى "خلاصة المحيى، وسلك الدرر" للمرادى وغيرها من الكتب التاريخية وطبقات علماء الإسلام أن الشيخ عبد القادر بن محمد بن سوار المتوفى سنة 1014هـ بعد رجوعه من مصر إلى دمشق كان أول من أنشأ سنة 1409م بدعة حسنة نقلها من مصر وهى إقامة الجماعات الذكرية المختصة بالصلوات على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعرفوا هذه الجماعات باسم "المحيا النبوى" لإحيائهم ليالى الأثانين والجمعات بتلك الأوراد والأذكار. واستمر منصب شيخ المحيا ومقدم الجماعات المحيوية فى نسله من السوارية. إذا مات منهم أحد خلفه ابنه فى هذه الوظيفة الشريفة. وكان المحل الخصوص لأداء المحيا الموصوف مشهدا فى شرقى الجامع الأموى "لقبوه مشهد المحيا"، وجامع التيروزى بجوار قبر عاتكة- رضى الله عنها- خارج دمشق. وبعد ذلك فإنى أشتاق كثيرا أن تتفضلوا بإخبارى عن المسائل الآتية أولا فأولا: ا- هل تستمر الجماعات المذكورة فى الشام ونواحيها إلى يومنا هذا؟ 2- ما اسمها فى اصطلاح الناس، أبقى عليها اسم المحيا، أم بدلوها باسم غير هذا؟ 3- أين محل إقامة الجماعات المحيوية فى دمشق. هل تستمر فى المشاهد المذكورة سابقا إلى الآن أم نقلت إلى غيرها من(1/160)
المشاهد؟ 4- هل تتوارث وظيفة شيخ المحيا فى العائلة السوارية كما كان فى القرن الحادى عشر والثانى عشر، أم اتسعت لغيرها من البيوت الفاضلة الشامية.؟ ص _165
تفضل على يا أيها الشيخ بإفادة جواب شاف مثابا جميل الثواب من الله الكريم الوهاب... تحريرا فى بودابست 5 من ذى الحجة من شهور سنة 371 اهـ. كتبه العبد الحقير الفقير أجناس جولد تسيهر المجرى ولنفرض أن الشيخ طاهر الجزائرى أجاب المستشرق السائل بأن هذه المحدثات كلها قائمة، هل يعنى هذا أن الإسلام يتمدد مع اطراد الزمن؟؟ إن العلماء أجمعوا على أن هذه البدع: إن كانت مختلقة الأصل فهى ضلالات تقود إلى النار. وإن كان لها أصل، ودخل الابتداع فى طريقة الأداء كذكر الله. والصلاة على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التى اصطنعها بعض المتنطعين فى الدين فهى مستنكره بقدر ما فيها من صناعة... ولو فرضنا جدلا أن المسلمين قرروا التعامل بالربا، فهل معنى ذلك أن الشريعة نسخت؟ إن الشريعة ثابتة فى أصولها المقدسة، وانحراف الناس بالعصيان أو الابتداع لا يعنى أبدا أن الشريعة تغيرت طوع الأهواء المستجدة. ومع ذلك فإن "جولد تسيهر" يصور الأمر تصويرا مستغربا. فهو يقول عن البدعة- التى استنكرها الإسلام بيقين - (ص 254): " وقد ترتفع أصوات القراء الورعين خلال بضعة أجيال مظهرين استياءهم وتذمرهم من هذه البدعة، غير أن هذه البدعة كلما طال الزمن عليها، وانعقد إجماع المسلمين على اتباعها تعتبر مباحة، بل قد ينتهى الأمر بها إلى أن يشترط المسلمون مراعاتها، ويرون البدعة كل البدعة فى مخالفتها واطراحها، وإذن فهم يصفون كل من يطالب بإعادة السنن القديمة وإحيائها بأنه مبتدع.. وإنا نجد فى " مولد النبى " مثالا بارزا يوضح لنا كيفية تطور البدعة وتحولها إلى سنة "والمولد النبوى" عيد شعبى يحتفل به المسلمون فى كافة أنحاء العالم الإسلامى السنى فى أوائل شهر ربيع الأول، ويشترك فى الاحتفال به أقطاب رجال(1/161)
الدين... وكان علماء المسلمين لا يزالون حتى القرن الثامن الهجرى يعدونه مخالفا للسنة، ونهت عنه غالبيتهم على اعتبار أنه بدعة مستحدثة فى الإسلام، وصدرت فتاوى كثيرة فى تحريمه وأخرى فى إباحته. غير أن هذا العيد أصبح من القرن الثامن الهجرى. اعتمادا على إقرار جمهور الأمة الإسلامية وموافقتها جزءا أساسيا جوهريا لا ينفصل عن صميم الحياة ص _166
الإسلامية، وأصبح لا يتطرق إلى ذهن مسلم أن يفكر فى أنه بدعة من البدع المستقبحة. وتنطبق هذه الحالة أيضا على أعياد دينية أخرى واحتفالات تعبدية كذلك نشأت فى القرون المتأخرة. واضطرت أن تجاهد فى مبدأ الأمر لكى يقرها العلماء . بعد أن وصفوها دهرا طويلا بأنها من البدع الدخيلة على الإسلام.. " أ. هـ. وقد عقب الدكتور محمد يوسف موسى على هذا الكلام بقوله: "ذكر أن الإجماع أصبح أداة فى إقرار بعض البدع المستحدثة إذا سكت المسلمون عليها. وهذه غفلة من المستشرق عن معنى الإجماع الذى هو حجة يؤخذ بها فى تسويغ ما توارد عليه. ذلك بأن الإجماع هو اتفاق مجتهدى الأمة على حكم شرعى- له أصل منصوص عليه- وأين هذا من عادة يسير عليها بعض المسلمين مسوقين بدافع ما ويتابعهم البعض الآخر، وقد يكون ذوو الاجتهاد والرأى منكرين لها؟ فمثل هذا لا يدخل فى دائرة الإجماع. والاحتفال بالمولد النبوى- الذى تمثل به بعد- ليس من المجمع عليه بالمعنى السابق، فهو عادة جرت، ولا تزال موضع النظر من الوجهة الدينية. وقد يكون عند بعض الفقهاء من النظر ما يستوجب الإقلاع عنها وتحريمها ". لكن المستشرق المجرى الكذوب يريد إيهام الأغرار بأن الإسلام تكون على مر الأجيال من أفكار أرضية، ولم ينبع من أصول سماوية. فادعى أن القرآن من وضع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ !. وأن السنة من وضع أشياعه!. وأن هذا الدين لا تزال فيه قابلية النماء بانضمام أفكار أخرى إليه من طريق الإجماع الشعبى، والتطور الزمنى. وهو فى سبيل تلك الغاية يمد(1/162)
يده الملوثة إلى كل شىء لتترك أثرا من درنها على ما مسته. بيد أن طبيعة الحق تتأبى على هذه الوساخات، وتطرد عن جوهرها إفك الأفاكين، ولو لبسوا مسوح العلماء المحايدين . ص _167
الفصل الخامس الفرق منشأ الخلاف طبيعة الخلافات بين المسلمين حديث افتراق الأمة، قيمته ومعناه مرونة الفكر الإسلامى.. ومسلك الحكام وراثة الخلافات حماقة أبو حامد الغزالى يضع أسس التقريب بين المذاهب الإسلامية عود إلى حديث افتراق الأمة أديان استعمارية البهائية تحارب تعاليم الإسلام نفاق ا لبهائيين البهائية وخدمة الاستعمار القاديانية وخدمتها للاستعمار ص _168(1/163)
الفرق للمؤلف كلام افتتح به بحثه عن الفرق الإسلامية تضمن بعض الأخطاء!! ولكن الغريب أنه وضع نتيجة صحيحة بعد الأخطاء التى وقع فيها!! إذ رفض الاعتراف بأن الإسلام قامت فيه فرق متباينة تفصل بينها فجوات عميقة، وتقوم دون التقائها حواجز ممتدة. ولننقل ما كتبه أولا كى نستطيع أن نشرح الموضوع بعد شرحا يجمع الشتات، ويجلو الظلمات، قال (ص 187): " ا- ينسب للإسلام عادة كثرة فرقه الدينية وتعددها، و تباين تعاليمها وتنوعها، وذلك إلى الدرجة التى لا يسمح بها التقدير المتزن للوقائع الصحيحة المستنبطة من تاريخه. ويرجع أغلب الخطأ فى هذا إلى علماء الكلام المسلمين أنفسهم إذ أساءوا فهم حديث من الأحاديث النبوية قصد به فى الأصل تمجيد الإسلام وإعلاء شأنه، فخصه بقدر من الفضائل والمزايا، بلغت فى عددها ثلاثا وسبعين، تقابلها من فضائل اليهودية إحدى وسبعون، ومن المسيحية اثنتان وسبعون!! ففهمها الكلاميون على أنها ثلاثة وسبعون فرعا أو فرقة... وقد استرسلوا اعتمادا على هذا التخريج فى الإكثار بقدر استطاعتهم من تعداد الفرق الذاهبة كلها فى النار، ما عدا "الفرقة الناجية" التى يفضى مذهبها وحده إلى النجاة والخلاص، أى تلك التى توافق السنة، وقد أوجدت البيئات الأخرى التى هى أقرب من هؤلاء إلى روح التسامح والتى تستطيع أن تستشهد بالغزالى، تأويلا لهذا الحديث يتلاءم مع العقلية المتسامحة وهو: " كلها فى الجنة إلا الزنادقة ". ثم قال: " هذا الفهم الخاطئ للحديث الإسلامى الخاص بفضائل الإسلام الثلاث والسبعين وتخريجها على أنها فروع أو فرق، أثر أحيانا فى آراء الغربيين وتصوراتهم فلم يقتصروا على اعتبار المذاهب الأربعة فرقا دينية، ولكنهم حسبوا أيضا أن من الفرق الدينية ما ظهر فى الإسلام من الخلافات الاعتقادية والمذاهب التى حادت عن جادة السنة، على الرغم من أنه لم يتح لها أن تؤسس فرقا دينية منشقة.. " . ص _169(1/164)
منشأ الخطأ: وظاهر أن "جولد تسيهر" خلط بين حديثين متميزين، لا صلة لأحدهما بالآخر بتة.. وغريب أن يلتبس الأمر فى ذهن المستشرق الكثير القراءة على هذا النحو. أما الحديث الأول فهو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الإيمان بضع وسبعون- أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " . وأما الحديث الثانى ما رواه عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين ملة، كلها فى النار إلا واحدة ". قالوا: من هى يا رسول الله؟ قال : "من كان على ما أنا عليه وأصحابى" . الحديث الأول يوضح آثار الإيمان فى الخلق والسلوك، وما ينشأ عنه إذا- نضج- من أعمال صالحة كثيرة. أما الحديث الثانى فهو يصف العلل التى تعترى جماهير المتدينين عندما يبتذلون الحق الذى شرفهم الله به، وينسون نفاسته، فيسلطون عليه أهواءهم، ويعكرون رونقه بشهواتهم. وكثير من أصحاب التدين المدخول يخاصم باسم الله، وهو فى الواقع منبعث عن عوج نفسى أو عقلى، أو أسير مأرب دنيوى سيطر عليه من حيث يدرى أو لا يدرى. ولم تنج الأديان جملة من هذا الصنف، وقد حذر القرآن الكريم المسلمين عواقب هذه العدوى من أهل الكتاب الأولين، فقال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه: إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات فى الدين. ص _170(1/165)
وفى حديث آخر يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن أمر عليكم عبد حبشى، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ.." أأجدت هذه النصائح.. أأغنت هاتيك النذر؟؟! لا.. لقد صدع الخلاف شمل الأمة، ومزق كيانها. وأقحم على تراثها السماوى محدثات ما أنزل الله بها من سلطان، غالبته حينا، ثم انتزعت منه الزمام.. * * * * طبيعة الخلافات بين المسلمين: وعندما نلقى نظرة عميقة على ما نشب بين المسلمين من خلاف بسطته الألسنة فى مجالس الجدل، أو سطرته الدماء فى حومات الوغى، نجد أن هذا الخلاف بدأ محدود القيمة والخطر، ثم نمته مضاعفات كثيرة، كما يبدأ الجرح تافها ثم يتحول قاتلا مع الإهمال ومجاورة الأقذار المسممة. ولا أستطيع- مع التأمل والإنصاف- اعتبار هذا الخلاف دينيا، من شأنه أن يقسم الأمة فرقا متنابزة. فقد كان هذا الخلاف لفظيا حينا، أو طبيعيا حينا آخر، أو خلافا فى التفكير الدينى لا فى الدين نفسه، أو خلافا فى الوسائل التى يخدم بها الدين، أيها أجدى وأقرب إلى تحقيق منهجه وإبلاغ غايته... ! لم يختلف مسلم ومسلم فى أن الحكم جزء من الدين، أى أن الإسلام شريعة وعقيدة. ولم يختلفوا فى أن القرآن الموجود المحفوظ هو الذى يحتكم إليه. ولكن من يحكم؟ اختار المسلمون أقرب أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، وكان الشيعة يرون عليا أولى بالخلافة، فى حين يرى الخوارج أن أى مسلم من أى جنس يصح الالتفاف حوله والعمل معه. فهل هذا الاختلاف دينى يتصل بجوهر العقيدة وتعاليم الشريعة؟ أم هو نزاع سياسى كان يمكن فضه بألف وسيلة إلا السيف؟ ص _171(1/166)
ولم يختلف مسلم ومسلم فى أن الله عدل، وأنه حكم بإثابة الطائع ومعاقبة العاصى وأخبرنا بذلك فى كتابه العزيز، فكان ذلك وجوبا شرعيا نركن إليه ونقف لديه. ثم ثار هذا الخلاف السخيف بين المعتزلة وأهل السنة: هل ذلك واجب على الله عقلا أم لا؟! وهذا تساؤل سمج.. والخلاف هنا- كضروب شتى منه- وليد فراغ وتعطل، ولا يمكن تقسيم فرق على أساس تساؤل من هذا القبيل. ومن ثم قلنا فى حسم: إنه لا توجد فرق دينية بالمعنى الذى تتشعب به الأمة الإسلامية، كما يتشعب نهر النيل فى مجراه الأدنى إلى فروع وترع. يمكن القول بأن هناك مدارس فكرية أو مذاهب فقهية، أو اختلافات تطبيقية محدودة. وعندما يجرد هذا الخلاف من العوامل السياسية التى جمدته فبقى، أو ضاعفته فأساء، يبدو من الأمور المعتادة. وفى هذا القرن مثلا يوجد تنافس رائع بين ثلاثة أحزاب تقسمت الأمة الإنجليزية، يتولى أحدها الحكم، ويعارضه الآخران، فهل هذا يعنى أن الأمة الإنجليزية ثلاثة أقسام؟ كلا.. ولو أن الظروف التى واتت نشأة الأمة الإسلامية كانت أسعد، ما استشرت حدة الخلاف على هذا النحو الذى سجله التاريخ. ومع كل الملابسات التى ضخمت الآراء ووسعت الشقة فإن كيان الأمة سلم لها ورفض أئمة الإسلام أن يخرجوا من دائرة الإسلام مؤمنا اعتزل أو خرج أو تشيع. يقول "جولد تسيهر" فى (ص 188): "إننا فى الإسلام نجد أن الفرق الدينية الحقيقية التي يمكن أن تنطبق عليها هذه التسمية هى الجماعات التى تنكبت السُنة وابتعدت عن التعاليم الإسلامية المعتمدة التى أقرها المسلمون فى مختلف عصورهم التاريخية، أى الأفراد الذين عارضوا الإجماع فى المسائل الأساسية ذات الأهمية القصوى فى نظر غالبية المسلمين. والانقسامات الدينية التى من هذا القبيل التى لا تزال قائمة فى العالم الإسلامى فى الوقت الحاضر إنما ترجع إلى أقدم عصوره التاريخية، ولا تعزى- كما قد يتبادر إلى الذهن- إلى اختلاف وجوه النظر فى المسائل الدينية،(1/167)
ولكنها ترجع إلى مشكلات تتعلق بالتنظيم السياسى، وهى مشكلات شغلت المحل الأول فى تفكير المسلمين القدامى. ص _172
وفى الحق: إن المسائل السياسية فى جماعة بنت كيانها على أساس دينى لابد أن تصطبغ بصبغة دينية، وأن تتخذ المصالح الدينية مظهرا لها، مما يضفى على المنازعات السياسية طابعا خاصا " أ. هـ. وفى هذا الكلام أجزاء من الصواب.. لا نتردد فى تأييدها. * * * * حديث افتراق الأمة، قيمته ومعناه: بيد أن حديث اختلاف الأمة " سبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة " يبقى أمامنا بحاجة إلى تفسير، ترى: من هى الفرقة الناجية؟ إنها التى تلتزم سنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، أو هى الجماعة فى إحدى الروايات. وما من مسلم إلا يتحرى اتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرى ويفعل. إن السلف والخلف وأهل السنة والشيعة والمتصوفة والمتفلسفة كلهم يرى أنه يخدم الإسلام ويناصر نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويرفع رايته. ومن الصعب إقناع الحرفيين من أهل النص بأن مذهب العقليين أولى بالحق وكذلك العكس...! ومن الصعب إقناع العاطفيين من أصحاب القلوب أن مذهب أهل الفقه أدق وأجدر بالاستمساك، وكذلك العكس...!! ومن الصعب إقناع الشيعة الذائبين فى محبة آل البيت أن النظام الجمهورى فى اختيار الإمام وعزله أولى من الالتفاف حول قريب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تضفى عليه العصمة، وكذلك العكس. ونحن نرفض فى التعليق على مذاهب أولئك جميعا قول الشاعر: وكل يدعى وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا كما نرفض اعتبار الحق سائلا يتلون مع كل إناء، وأنه ليست له حدود قائمة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. * * * * ص _173(1/168)
(إن الدين عند الله الإسلام) فكل من أسلم لله وجهه، وملأ بالتوحيد قلبه، وأخضع لأمر الله جوارحه فهو مسلم. وما دام مصدقا بالقرآن ومستقيا منه، ومؤمنا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومتبعا له فهو معذور فى أى اجتهاد يخطئ فيه. إن صدق النية يجعلنا ننسب المخالف إلى خطأ الرأى، ولا نستبيح وصفه بفسوق أو عصيان. وكثيرا ما أقرأ للإمام شيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية، وللإمام حجة الإسلام أبى حامد الغزالى، فأرى نفسى أمام رجلين متجردين لله، مخلصين للحق، ناصحين لجمهور المسلمين. ومع ذلك فبين فكرتيهما خلاف ظاهر وبين منهجيهما بُعد واضح. إلا أن شيئا من ذلك لا يسمح لى باتهام أحدهما فى دينه، بل إنى أعد ذلك جراءة على الله، وبهتا لخيار خلقه . نعم.. يمكننى ويمكن غيرى أن يقول: هذا خطأ، وذاك صواب، شرد أبو حامد أو غلا ابن تيمية. وفى مجال التخطئة والتصويب منادح رحبة . ومع إدمان البحث وعرض النتائج بدأب على جمهور الدارسين تستبين حقائق جمة لا يستطاع إبرازها فى ساحات الجدل السفيه، والمناظرات التى تتهارش فيها الديكة.. ومن ثم فالفرقة الناجية فى الحديث الذى رويناه مع التسليم بصحته ليست طائفة بعينها من الطوائف التى عرفت بعنوان خاص فى تاريخ الأمة الإسلامية الطويل إنها تضم طلاب الحق من كل ناحية وإن أخطئوا له الطريق، ما داموا خالصى النيات، حراصا على جماعة المسلمين، مؤدين لفروض الصلاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر شرائع الإسلام. أما الفرق الأخرى التى قال الحديث: إنها في النار، فهى الطوائف المغشوشة النية وإن أصابت الحق، والتى لم تبال فى سبيل أثرتها أن تقتل على ملك تناله أو دنيا تستمتع بها، مع إهمال لما شرع الله سبحانه من أمر ونهى.. ص _174(1/169)
ونثبت هنا نقلا هُدى إليه الشيخ عبد الجليل عيسى فى كتابه "مالا يجوز فيه الخلاف..."، يشهد لما انتهينا إليه هنا، قال! (ص 135- 136- 137): " عقد الشيخ جمال الدين القاسمى الدمشقى فى كتابه "تاريخ الجهمية والمعتزلة" الموجود بدار الكتب تحت رقم (2842) قسم التاريخ فصلا فى بيان أن المعتزلة والمرجئة، وكثيرا غيرهم من الفرق الإسلامية مجتهدون لهم ما للمجتهدين من أجر وعذر. فكما أن اسم الاجتهاد يتناول فى العرف فروع الفقه، فكذلك يتناول مسائل الكلام لعموم مفهوم الاجتهاد لغة واصطلاحا ووجودا. وكيف لا تعد فرق المجتهدين فى الأصول من المجتهدين وهى تستدل على دعواها بالقرآن والسنة، وترى أن ما ظهر لها منهما هو الحق دون سواه. ولما تشابهت الآيات والأحاديث فى مثل رؤية الإنسان لله سبحانه، وفى مثل إيجاد الإنسان لأعمال نفسه، وفى مثل القرآن قديم أو محدث، ذهب كل فريق إلى ما رآه أوفق لكلام الله ورسوله، وأليق بعظمته. فكانوا لذلك مجتهدين، وفى اجتهادهم مأجورين، وإن كانوا فى القرب من الحق متفاوتين ". ثم قال: ولا يصح ذم أهل الفرق على الإطلاق، فقد تلقى أئمة الحديث على كثير منهم، وحملوا السنة النبوية عنهم، وجعلوهم فى ذلك حجة بينهم وبين ربهم. وقد روى البخارى ومسلم وغيرهم عن عدد كبير من المعتزلة والأباضية والمرجئة والشيعة كما تراه فى مقدمة "فتح البارى لشرح صحيح البخارى" و"التدريب شرح التقريب للسيوطى" و "ميزان الاعتدال للذهبى"، وقد قال الإمام أحمد- رضى الله عنه-: لو تركنا الرواية عن المعتزلة لتركنا أكثر أهل البصرة. قال ابن تيمية: كان منهم خلق كثير من العلماء والعباد. وأخرج لهم البخارى ومسلم، وقد اشتهر بين العلماء أن من كان منهم داعية إلى بدعة لم يرووا عنه، ولكن العراقى اعترض ذلك بأن البخارى ومسلم احتجا بالدعاة من أهل الفرق. ص _175(1/170)
فاحتج البخارى بعمران بن حطان الخارجى. واحتج هو ومسلم بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحمدانى، وكان داعية من دعاة المرجئة. ثم قال القاسمى: وبالجملة فكون هذه الفرق مجتهدة لها ما للمجتهد أمر لا يرتاب فيه منصف. ومن المقرر عند جميع العلماء أن المجتهد معذور، بل مأجور دان أخطأ، وإذا انتفى الإثم عن المجتهد فكيف يصح نبزه بالألقاب؟ وهل فرَّق الأمة وجعلها شيعا وأذهب ريحها إلا هذا التنابز والازدراء المعيب، مع ما يجمع الكل من أخوة الإسلام. وقد أنصف المقبلى فى كتابه "العلم الشامخ " عند الكلام على المعتزلة حيث قال: "إنى لست بمعتزلى ولا بأشعرى، ولا أرضى بغير الانتساب إلى الإسلام وصاحب الشريعة عليه السلام، وأعد الجميع إخوانا، وأعتبرهم على الحق أعوانا" ا. هـ. مرونة الفكر الإسلامى.. ومسلك الحكام: منح الإسلام أهله حرية عقلية واسعة الأقطار، واستغل المسلمون هذه الحرية استغلالا فيه خير وفيه شر. وقد رأيت كيف نقلوا فضول تفكيرهم من المادة إلى ما وراء المادة، ومن الواقع إلى الخيال. وكأنهم أحسوا بأن عقولهم أحصت تصور ما ترى والحكم عليه، فشرعت تفترض من القضايا وتصدر من الأحكام ما لا معنى له. وفى هذا الجو الممتد دون قيود أو سدود، كان لابد أن ينشب الخلاف وتكثر المذاهب وتتشعب الأهواء. وإنى لأرمق تاريخ الإسلام طوال القرون التى خلت وأتأمل فى سلسلة الآراء والأهواء التى انتشرت فى عالمه العريض، فيغلبنى الدهش وأتساءل: أكذلك تتحول الحرية الفكرية إلى فوضى؟ لكأن دار الإسلام باتت بلا صاحب، فلكل إنسان أن يقول ما يشاء، ويدعو إلى ما يشاء. هل كانت الأديان الأخرى تنتهج هذه الخطة؟ لا.. لقد دخل الأسبان أرض الأندلس فلم يدعوا فيها مسلما ولا يهوديا ولا أرثوذكسيا ولا بروتستانتيا ولا أى نحلة أخرى تخطر بالبال وصبغوها بالمذهب الكاثوليكى وحده..!! ص _176(1/171)
ومعاذ الله أن أطلب من رجالات الإسلام أن يقتدوا بهذه السيرة القائمة على السفك والفتك. ولكنى أستغرب البرود العجيب الذى استولى على أصحاب السلطة وهم يشهدون عشرات المقالات تأخذ طريقها إلى الجماهير دون حذر أو قلق. حتى ليخيل إلى أن تفريق الأمة كان رغبة مقصودة..!! وآخر ما لفت نظرى بهذا الصدد أن عشرين طالبا جاءوا من جبل الدروز ليطلبوا العلم فى الأزهر إبان وحدة مصر وسوريا، وكان المرتقب أن يهتبل رجال الأزهر الفرصة، وأن ينشئوا هؤلاء الطلاب الصغار تنشئة إسلامية على مذهب الجماعة، حتى يعودوا إلى قومهم رسل تقريب وسلام. ولكن الذى حدث أن أحدا لم يكترث لهذا الوفد ولم يوله العناية الواجبة، فعاد أدراجه لم يحس أحد بذهابه ولا بمجيئه!!. والأزهر بهذا المسلك يتمشى مع مشاعر البرود التى سيطرت على الحكام وغير الحكام بإزاء طوائف عديدة جمدها فى صميم ربوعه. ففى قطر واحد مثل سوريا يوجد: علويون، ويزيديون، ودروز، وسنة، وشيعة. ولست عدوا لحرية الرأى، ولكنى عدو لاختلاف أسباب الفرقة، وتخليد الانقسامات بعد افتعالها. وكان هناك ألف باب لجعل الشرق الأوسط كله أدنى إلى وحدة الضمير والوجهة مما هو الآن لو أن الإسلام رزق خلال القرون الوسيطة حكاما صالحين. إننى أنظر اليوم فأجد "كيندى" رئيس الولايات المتحدة صورة كاملة للحياة الغربية، ومُثلها وتفكيرها وعواطفها. وأجد "خروشوف " صورة دقيقة للحياة الشيوعية وأهدافها ووسائلها. وكلا الرجلين اختاره قومه لخدمة نظام ونصرة مبدأ، فولوه منصبا هو أقدر الناس عليه، ولقد كان كذلك المسلمون أيام السلف الصالح. فلما فسد الحكم وجدت فى بلادهم عجبا: ملوكا سرقوا الدولة فى غفلة من الدهر، ومتغلبين اغتصبوا الأمر من أهله. وغاية هؤلاء وأولئك تأمين سلطانهم الزمنى بأية وسيلة، فما يعنيهم فقه ولا إخلاص، ولا يهمهم سير الرسالة الإسلامية ولا توثيق الأواصر بتعاليمها وشعائرها. ص _177(1/172)
إن الدعوة انفصلت عن الدولة من تاريخ مبكر، وذاك ما مهد لخلافات شاقة. يقول الشيخ محمد عبده: ".. والسبب فى بقاء قوة سلطان الخلاف والنزاع هو فشو الجهل وتعصب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التى ينتسبون إليها، والتى بجاهها يعيشون ويكرمون، وتأييد الأمراء والسلاطين لهم استعانة بهم على إخضاع العامة وقطع طريق الاستقلال العقلى على الأمة. لأن هذا أعون لهم على الاستبداد، وأشد تمكينا لما يحبون من الفساد والإفساد. فإن اتفاق كلمة علماء الأمة واجتماعها على أن الحق كذا بدليل كذا ملزم للحاكم باتباعهم فيه. والخواص إذا اتحدوا اتبعهم العوام، وهذه هى الوسيلة الوحيدة لمنع استبداد الحكام. الدين يأمر برفع الشقاق والتنازع، وبالاعتصام بحبل الوحدة، وهذا هو معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله سبحانه وتعالى (و لا تنازعوا فتفشلوا) وقول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " . وقد خالفنا كل هذه النصوص، فتفرقنا وتنازعنا، وحارب بعضنا بعضا باسم الدين لأننا سلكنا مذاهب متفرقة، وكل فريق يتعصب لمذهبه ويعادى سائر إخوانه المسلمين لأجله زاعما أنه بهذا ينصر الدين، مع إنه يخذله بتفريق كلمة المسلمين، هذا سنى يقاتل شيعيا، وهذا شيعى يحارب أباضيا، وهذا شافعى يغرى التتار بحنفى، وهذا حنفى يقيس الشافعية على الذمية. ثم جاءهم المقلدون من الخلف يحاربون من اتبع طريق السلف. فهل جاءهم بهذا أمر من الله ورسوله، أو من الأئمة المجتهدين؟ كلا.. بل كان التعادى والتنازع عندهم انحرافا عن الطريق المستقيم، واتباعا لخطوات الشيطان " أ. هـ. ص _178(1/173)
وراثة الخلافات حماقة: إن ملاقاة رأى- نبع من قلب صالح وعقل سليم- بالتجهم والسوء لا يجوز. وعندما تترك شتى الآراء والمذاهب للزمان وتتعرض لطول النقد والتمحيص، فإن ما لا سند له سوف يتلاشى من تلقاء نفسه. ولذلك أعود مرة أخرى إلى توكيد رفضى لتدخل الحاكم كى يفض الخلافات بعصاه. إن الذى أخذته على حكامنا فى عصور مختلفة أنهم جمدوا هذه الخلافات لغايات فى أنفسهم. ولا أستطيع أن أفهم- على سبيل المثال- كيف تبقى اليزيدية تقدس الشيطان! والدروزية تقدس الحاكم بأمر الله! داخل الكتلة الإسلامية الهائلة، مع أن التبادل الفكرى والاختلاط الثقافى لو امتزجت تياراتهما بضع سنين لا بضع قرون لانقطعت هذه الفرقة!! لكن انفصال الدعوة الإسلامية عن الدولة الإسلامية سمح بتكوين حكومات لا تعى إلا مصالحها الخالصة، ولا تدرى كيف تحسن خدمة دين ترتزق من أهله، وترائى بعنوانه ! وعندى لو أن أهل السنة والشيعة والخوارج ضمهم مجلس نواب واحد، على أنهم أبناء دين واحد ثم تضاربوا- فى حمى الخلاف- بالكراسى كما يفعل الذين يستحمقون أحيانا... لكانوا أدنى إلى الإسلام من تلاقيهم فى الميدان بالسيوف، وتوريثهم الأجيال- بعد- خصومات وثارات لا عقل لها ولا إيمان...!! ومن قبل ذلك ومن بعده نتساءل: لم الضرب والسب؟؟ إن الاختلاف عندما يكون طبيعيا فى بعض المسائل ينبغى أن يقابل بالتقدير والاعتذار.. وأمام المسلمين من المواطن التى يلتقون فيها صفا واحدا: الصلوات الخمس كل يوم، ورمضان، والحج. ثم أمامهم مكر أعداء يودون لهم العنت ولا يألونهم خبالا . فكيف ينسى هذا كله.؟ قد تقول: إذا جمعنا الناس على رأى واحد أو آراء متقاربة ومنعنا الخلاف بعد ذلك ولو بالقوة، ألا يكون ذلك خيرا للأمة الإسلامية؟ والجواب.. إن هذا ليس الدواء الشافى، لقد ضاق الأقدمون بكثرة الخلافات فى فقه الفروع، فقرروا إغلاق باب الاجتهاد، وارتأوا جمع الناس على المذاهب الأربعة السائدة... ص _179(1/174)
وضايقهم كذلك الخلاف المفزع بين أهل النص من السلفيين وبين المعتزلة، فما أن ظهر الأشعرى بمذهبه الوسط بين هؤلاء وأولئك حتى جمعوا الأمة عليه جمعا. وتأثرت بلا ريب المذاهب الكلامية والفقهية الأخرى عقب هذه الحركة، فمات منها ما مات، وانكمش منها ما انكمش. بيد أن هذا التصرف لم يحل المشكلة. فإن فقه الفروع يشمل العبادات والمعاملات، وإذا صح حبس أهل عصر فى نطاق أنواع مخصوصة من التعامل المدنى فمن العسير سحب ذلك على العصور جمعاء. ثم لماذا تكون هذه المذاهب الأربعة وحدها هى الجديرة بالإحياء والاستدامة؟ إن هناك اجتهادات أخرى قمينة بالبقاء والترحيب مثل هذه المذاهب سواء بسواء.. ذاك فى علوم الفقه.. أما فى مباحث العقدية فإن علم الأشعرى الممثل الأحد للأصول الإسلامية لا يسوغ. ومن ثم تحرك العقل الإسلامى متخطيا هذه السدود. ويكاد أهل الذكر فى عصرنا يجمعون على أن حرية الاجتهاد لا تعترف بالباب المغلق فى الفقه الفرعى، كما أنها فى قضايا الألوهية والنبوة تدرس مختلف الأفهام والأحكام غير متقيدة بشىء. أبو حامد الغزالى يضع أسس التقريب بين المذاهب الإسلامية: والعلاج الفذ أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، وهو كثير لا حصر له، وأن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، وهو قليل لا يتحمل المط والضغن.. أما أن أعتنق مذهبا ما فى الأصول أو الفروع ثم أتعصب له، وأتحامل على الآخرين ، فذلك ليس من الدين، وهو عرقلة لسير الأمة الإسلامية، بل هو إخماد لأنفاسها وإزهاق لروحها، كما أنبأنا التاريخ. وللإمام أبى حامد كلام نفيس ضبط به أنواع الاجتهاد التى تضم شتات الأمة فى صعيد واحد، وتجعلها- على اختلاف فرقها- كتلة واحد، قال: ص _180(1/175)
"فإن زعم زاعم أن حد الكفر هو ما يخالف مذهب الأشعرى، أو مذهب المعتزلى، أو مذهب الحنبلى، أو غيرهم، فاعلم أنه غر بليد قد قيده التقليد. وناهيك حجة على إفحامه مقابلة دعواه بدعوى خصومه لأنه لا يجد بين طائفة وأخرى فرقا. ولعل صاحبك يميل من بين المذاهب إلى الأشعرى، ويزعم أن مخالفته من الكفر الجلى، فاسأله من أين جاء له أن الحق وقف على الأشعرى؟ حتى يقضى بكفر عالم جليل كالباقلانى الذى خالف الأشعرى فى معنى صفة البقاء لله تعالى، وقال: إنها ليست وصفا زائدا على ذاته تعالى. ولم صار الباقلانى أولى بالكفر بمخالفته الأشعرى، من الأشعرى إذا خالف الباقلانى؟ ولم صار الحق وقفا على أحدهما، دون الآخر؟ قل كان ذلك لأجل السبق فى الزمان؟. إن كان ذلك فقد سبق الأشعرى غيره من المعتزلة فليكن الحق للمعتزلى السابق عليه. أم لأجل التفاوت فى الفضل والعلم؟. فبأى ميزان أو مكيال قدروا درجات الفضل؟ فإن عجز عن الهمس فى حق الباقلانى، وقال: أرخص للباقلانى فى مخالفته للأشعرى لأنه مشهور بالعلم والفضل، فقل له: لم حجرت على غيره ممن هو مثله فى العلم والفضل، وما الفرق بين الباقلانى والكرابيسى والقلانسى وغيرهم.. "؟؟ ثم قال: " ولعلك لو أنصفت لعلمت أن من جعل الحق وقفا على طائفة من هؤلاء بعينها فهو إلى الكفر أقرب، وذلك لأنه نزَّل أصحاب هذه الطائفة منزلة النبى المعصوم من الخطأ الذى لا يتحقق الإيمان إلا بموافقته ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته ". ثم قال: "لعلك بعد هذا تريد أن تعرف ما هو الكفر الذى يخرج عن الملة: وسأعطيك علامة صحيحة تضعها تحت نظرك وترعوى بسببها عن تكفير الفرق الإسلامية وتكف لسانك عنهم وإن اختلفت طرقهم ما داموا متمسكين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صادقين مخلصين غير عاملين بما يناقض معناها. فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول عليه السلام فى شىء مما جاء به، والإيمان هو تصديقه فى كل ما جاء به، فاليهودى والنصرانى كافران(1/176)
لتكذيبهما للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ص _181
والبرهمى كافر بطريق الأولى: لأنه أنكر مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جميع المسلمين، والدهرى كافر بالأولى من البرهمى لأنه أنكر مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجود الله سبحانه ، فكل كافر مكذب للرسول، وكل مكذب له فهو كافر، فهذه علامة مطردة منعكسة. واعلم أن الذى ذكرناه مع ظهوره تحته غور لأن كل فرقة تكفر مخالفها، وتنسب إليه أنه يكذب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فبعض الحنابلة مثلا يكفرون الأشعرى. بزعم أنه كذب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى إثبات الفوقية لله تعالى، وفى الاستواء على العرش. وهذا يخالف قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ..). وبعض الأشاعرة يكفرون بعض الحنابلة. بزعم أنهم يشبهون الله بخلقه ويكذبون القرآن فى قوله: (.. ليس كمثله شيء …). وبعض الأشاعرة أيضا كفر المعتزلة، بزعم أنهم كذبوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى جواز رؤية الله تعالى، وفى عدم إثبات صفات العلم والقدرة وغيرهما له تعالى زائدة عن ذاته. والمعتزلى يكفر الأشعرى بزعم أنه يكثر وجود قدماء مشاركين لله تعالى فى صفة القدم. وذلك أنه يقول: إن صفات الله تعالى زائدة على ذاته وهى موجودة، فشاركت الله القدم، وهذا تكذيب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أن الله واحد، وأنه هو وحده القديم، لا شىء يشبهه فى القدم... إلخ. ثم قال: ولا ينجيك من هذه الورطة إلا معرفتك حد التكذيب والتصديق فينكشف لك غلو هذه الفرق وإسرافها فى تكفير بعضها بعضا. وقبل الخوض فى الفرق بينهما تفصيلا يجب أن تعلم أيضا هذه المقدمة الصغيرة فإنه لا حيلة لنا فى إهمالها، وإن كانت تبدو غريبة على القارئ العادى" أ. هـ. !!! ص _182(1/177)
ونريد نحن بين يدى هذه المقدمة الثمينة التى ذكرها أبو حامد أن نقول كلاما يعين على فهمها، ويساعد على قبولها.. إن المؤمنين سواء فى إيمانهم بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا يتصور فى مسلم أن يرفض آية من القرآن، أو يتجنب طريقا يعلم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سار فيه، وطلب منا أن نتابعه عليه... هم سواء فى فلك على اختلاف مذاهبهم الفقهية، أو منازعهم السياسية، أو آرائهم الكلامية. ومن قال: أنا ضد هذه الآية، أو لن اقتدى برسول الله فيما أعلم أنه أمر به ونهى عنه، فقد مرق من الإسلام، وفارق الملة بيقين. (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) اليقين والخضوع لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، صفات لا ينفك عنها مسلم أبدا. بيد أن أسلوب الفهم عن الله ورسوله، وصور الاستجابة المطلوبة قد يعروها اختلاف يرجع إلى الطبيعة الذهنية للسامع من ناحية، أو تكون هذه الأساليب والصور متسعة الدائرة من ناحية الأداء اللغوى الذى صيغت فيه وفهمت به. وقد أحصى أبو حامد أحوالا متباينة لجملة من الحقائق الشرعية لم يختلف الناس فى صحتها، ولكنهم اختلفوا فى فقهها وتوجيهها. ولكل صاحب رأى منهم وجهة نظره التى ينبغى الاعتراف بها، على ما بين هذه الآراء من بعد... ولا يجوز لنا تجريح امرئ يتحرى إرضاء ربه ونبيه جهد طاقته النفسية، ووفق ما تتحمل اللغة من أفهام. وينضم إلى ذلك أيضا ذلك الاختلاف المحدود فى تقويم سنن الآحاد، ومبلغ ما تحظى به أسانيدها من قوة وضعف. والأمر الذى انفرد به الإمام الغزالى وهو يتبع مسير الفكر الإسلامى على اختلاف وجهاته أنه بين الروابط الجلية والخفية التى تبغى هذا الفكر مربوطا بالدين، وتؤوى أصحابه إلى جماعة المؤمنين. إن اختلاف الطبيعة الفكرية للبشر، كان موضع ملاحظة جادة لهذا الإمام، خصوصا عند تفاوت المستويات الثقافية للناس. ص _183(1/178)
واسمع إليه بعد ذلك يقول: " بما أن التصديق المنجى هو الإذعان بالقلب والاعتراف بوجود كل ما أخبر الله رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوجوده، فاعلم أن للوجود مراتب من لم يتنبه لها يقع فى تكفير من لا يستحق التكفير. المرتبة الأولى: الوجود الذى يعبر عنه العلماء بالذاتى، وهو الثابت للشىء فى الخارج كوجود السماء والأرض والبحار والجبال وغير ذلك، مما لا يتوقف تحققه على إدراك مدرك وعقل عاقل. والمرتبة الثانية: مرتبة الوجود الحسى، وهو وجود شىء يتمثل فى العين مما لم يسبق لها أن رأته كالصور الغريبة التى يراها النائم وكذلك المريض، بل قد يتصورها المتيقظ الذى سبح فى خياله إذا كان منصرفا تمام الانصراف عما يدور حوله كصورة فرس لها جناحان مثلا. والمرتبة الثالثة: مرتبة الوجود الخيالى، وهو وجود صورة ما سبق أن رأته العين تتمثل فى الخيال بعد غيابه عنها كما تدرك صورة فيل أو فرس بعد أن يتوارى عن نظرك. والمرتبة الرابعة: مرتبة الوجود العقلى وهو وجود الشىء الذى له حقيقة ثابتة، ولكن لا تدركه الحواس، وإنما يدركه العقل فقط، كالقدرة والإرادة والحياة مثلا فإنها مدركة بالعقل ولا تدرك الحواس إلا بعض آثارها. والمرتبة الخامسة: مرتبة الوجود الشبهى وهو يكون لشىء مذكور باللفظ، وليس لهذا الشىء وجود لا بذاته فى الخارج ولا بصورته فى الحس ولا بخياله ولا فى العقل، وإنما يكون الوجود شيئا آخر يشبهه فى صفة من صفاته، وسيأتيك مثاله فى جانب الله سبحانه وتعالى. إذا علمت هذا فإليك أمثلة هذه الدرجات من الوجود مما جاء فى كتاب الله تعالى أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . ومن غفل عن هذه الدرجات وقع فى تكفير من لا يستحق التكفير. إذا أخبر الشارع عن وجود شىء فقد يكون المراد وجوده بنوع من هذه الأنواع، لا خصوص الوجود الذاتى الذى هو أعلاها فى مدارك البشر. فإذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما فى الحديث الصحيح: "يؤتى بالموت يوم القيامة فى(1/179)
صورة كبش ويُذبح بين الجنة والنار وينادى مناد: يا أهل الجنة حياة بلا موت، ويا أهل النار حياة بلا موت " . ص _184
فبعض العلماء قام عنده البرهان على أن الموت عرض لا جسم، والموت إنما هو للأجسام لا للأعراض، وأن قلب العرض جسما مستحيل. لذلك يؤول الحديث على أن المراد أن أهل القيامة يشاهدون صورة يعتقدون أنها الموت ويكون ذلك موجودا فى حسهم لا فى الخارج. وهذه هى المرتبة الثانية من مراتب الوجود كما تقدم. وبعضهم لم يقم عنده برهان على استحالة قلب العرض جوهرا فصح له أن الموت نفسه ينقلب كبشا ويذبح. فهذا الفريق الثانى مهما كان مدركه بعيدا، بل قد يكون مستحيلا فإنا لا نستطيع أن نكفره لأنه ما قال ذلك إلا لأنه آمن بالنص على ظاهره، ولا ضرر فيه كما سيأتى. إذا قال الله سبحانه (يد الله فوق أيديهم). فمن قام عنده البرهان على استحالة يد له تعالى، وهى جارحة محسوسة فإنه يؤول الكلام على أن المراد يد عقلية لا حسية. وذلك بأن يقول: بما أن اليد هى التى بها الفعل والبطش والعطاء والمنع فالمراد أن قوة الله فوق قوتهم. ومن لم يقم عنده هذا البرهان يقول: إن لله يدا حقيقية ولكنها ليست كأيدينا بل هى صفة من صفاته كالسمع والبصر لا يعلم حقيقتها غيره تعالى. وإذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله يفرح بعبده التائب كفرحة أحدكم بضالته إذا وجدها" وقال تعالى: (وباءوا بغضب من الله). فمن قام عنده الدليل على استحالة الفرح والغضب عليه سبحانه وتعالى لأن الفرح هو انشراح النفس لحصول ما به لذتها، والغضب حقيقته فورة غليان دم القلب الذى يحمل على الانتقام. من قام عنده الدليل على استحالة ذلك قال: المراد بالفرح لازمه وهو الرضا، وبالغضب لازمه أيضا وهو إرادة الانتقام، أو الانتقام نفسه. ومن لم يقم عنده هذا الدليل قال: لا مانع أن يكون لله صفة هى الفرح، وأخرى هى الغضب. ولا نعلم حقيقتهما. ص _185(1/180)
إذا علمت هذا فاعلم أن كل من نزل قولا من أقوال صاحب الشرع على درجة من هذه التأويلات فهو من المصدقين، وإنما التكذيب هو أن ينفى وجود هذه الأشياء التى ورد بها الشارع بأى نوع من أنواع هذه الموجودات ويزعم أن ما قاله صاحب الشرع لا معنى له، وإنما هو كذب محض أراد به صرف الناس عن شىء يريده. وحينئذ من أول لا يكفر، وكيف يكفر المؤول، وما من فريق من أهل الإسلام إلا وقد اضطرر إلى التأويل، وهاهو ذا أبعد الناس عن التأويل الإمام أحمد ابن حنبل قد أول.. فقد قال الثقات من أئمة الحنابلة: إن الإمام أحمد صرح بالتأويل فى مواضع قليلة جدا عدها بعضهم ثلاثة. منها فى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "الحجر الأسود يمين الله فى الأرض ". ومنها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " فقد أول الإمام أحمد- رحمه الله- عندما قام عنده البرهان على استحالة المعنى الظاهر.. فقال فى تأويل الحجر الأسود.. إلخ : لما كانت اليد تقبل فى العادة تقربا إلى صاحبها، فالحجر الأسود يقبل تقربا إلى الله امتثالا لأمره. فهو مثل اليمين، لا فى ذاتها ولا فى صفاتها، ولكن فى أمر عارض من عوارضها، وهو التقرب بتكريمها لصاحب الأمر بهذا التكريم. وكذا لما قام عنده البرهان على استحالة وجود اصبعين لله تعالى يحيطان بالقلب، لأن من يتحسس صدره لا يشعر فيه بإصبعين، تأول ذلك على الأمر العقلى الذى يلزم الأصابع وهو قدرتها على تقليب الأشياء من حال إلى حال. فالمعنى المراد أن القلوب تحت تصرف الله سبحانه، يفعل بها ما يشاء، ولم يتوسع ابن حنبل- رحمه الله- فى التأويل لأنه لم يظهر عنده استحالة الظاهر إلا فى هذه المواضع التى أولها، لأنه- رحمه الله- لم يكن ممن شغلوا أنفسهم بكثرة الإمعان فى النظر العقلى، ولو أمعن كغيره لظهر له كثير مما يصح تأويله. ككون الله سبحانه وتعالى فى السماء فى قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض) مع كونه(1/181)
سبحانه مع الاثنين والثلاثة، إلخ فى قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) ص _186
ولذلك نرى الأشعرى والمعتزلى لزيادة تعمقهما فى النظر فى العقليات أولوا ظواهر كثيرة . ومما أوله الأشعرى: ما تقدم من أن الموت يأتى يوم القيامة فى صورة كبش... إلخ. وأن الأعمال توزن يوم القيامة، وقال: بما أن الأعمال أعراض انتهت فى الدنيا فالذى يوزن هى صحائف الأعمال. والمعتزلى تأول الميزان نفسه وجعله كناية عن شىء بسببه ينكشف لكل واحد مقدار عمله. وهذا تأويل أقرب من تأويل الأشعرى. ومن هذا تعلم أن كل فريق من المسلمين وإن بالغ فى المحافظة على الظاهر، ونفر من التأويل فهو مضطر إلى التأويل إلا أن يتجاوز الحد فى الغباوة، فيقول: الحجر الأسود يمين الله حقيقة، والموت وإن كان عرضا فإنه يصير جسما حقيقة. ومن ينتهى إلى هذا الحد من الجهل فقد انخلع من ربقة العقل " . ثم قال: " وعلى هذا فلا ينبغى أن يكفر كل فريق خصمه إذا رآه مخطئا فى الدليل. نعم يجوز أن يصفه بالخطأ أو الضلال عن الطريق الذى يراه هو صوابا. ثم يجب أن يعلم أن هناك مقامين: أحدهما مقام عوام الخلق، والحق فى هذا المقام هو اتباع السلف، والكف عن تغيير الظواهر رأسا، والحذر من ابتداع تأويل لم يصرح به الصحابة، ويجب أن يزجر من يريد الخوض فى الكلام أمام العوام فى مثل هذه المواضع، كما روى الإمام مالك ـ رضى الله عنه ـ لما سأله سائل عن معنى "الاستواء" فى قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى). قال " الاستواء معلوم والإيمان به واجب، والكيف مجهول لنا، والسؤال عن ذلك بدعة " . والمقام الثانى: مقام الباحثين الذين اضطربت عقائدهم المأثورة فهؤلاء ينبغى أن يكون بحثهم بقدر الضرورة، ولا يتركون الظاهر إلا لضرورة برهان قاطع يقوم عندهم . ولا ينبغى أن يكفر بعضهم لمجرد أن يراه مخطئا فيما رآه عنده فإن ذلك ليس بالأمر الهين(1/182)
الذى يسهل مدركه . ثم ينبغى أن تعلم أن من يبادر إلى تأويل ظواهر النص بمجرد ظنون، فهذا أيضا لا نسارع إلى تكفيره فى كل مقام . ص _187
بل ينظر فيما قال فإن كان تأويله فى أمر لا يتعلق بأصول العقائد فلا نكفره، وذلك كمن يقول: إن فلق البحر لموسى كان بواسطة الجزر فإن هذا التأويل مع كونه لا يتفق مع قوله تعالى: (فكان كل فرق كالطود العظيم)، فإنه لا يسوغ أن نكفر صاحبه، بل نخطئه. أما التأويل بمجرد غلبة الظن المتعلق بأصول العقائد المهمة فيجب أن يكفر من يغير ظاهر النص بدون برهان قاطع، كمن ينكر حشر الأجساد يوم القيامة، أو ينكر العقوبات الحسية فى الآخرة لمجرد ظنون وأوهام واستبعادات ". ثم قال: " واعلم أن شرح ما يكفر وما لا يكفر يستدعى تفصيلات طويلة فاقنع الآن بوصية وقانون، أما الوصية: فهى أن تكف لسانك عن أهل القبلة ماداموا قائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها. والمناقضة تحصل بتجويزهم الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . أما القانون: فهو أن تعلم أن النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول العقائد كما سبق، وقسم يتعلق بالفروع. وأصول الإيمان ثلاثة: هى الإيمان بالله، والإيمان برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والإيمان باليوم الآخر. وما عدا ذلك فروع. وأعلم أنه لا تكفير فى الفروع إلا فى مسألة واحدة، وهى أن ينكر حكما ثبت على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتواتر القاطع وأجمعت عليه الأمة بسائر طوائفها. كإنكار وجوب الصلوات الخمس أو صوم رمضان وكذا لو قال قائل: إن البيت الذى بمكة ليس هو الكعبة التى أمر الله بالحج إليها فهذا كفر، لأنه قد ثبت تواترا عند جميع الخلق الذين بلغتهم دعوة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلاف ما يقول هذا المدعى، ثم اعلم أن مدرك هذا التواتر الصحيح وغير الصحيح دقيق قد يخفى على كثير، إذ قد يظن كثير من الناس أن المستفيض متواتر وهذا خطا. لأن تعريف التواتر الصحيح هو ما نقله(1/183)
جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عن شىء أدركوه بأنفسهم إلى جماعة أخرى مثلها. وهكذا يستمر منقولا جماعة عن جماعة حتى يصل إلينا. كالعلم بوجود رجال قالوا عن أنفسهم إنهم رسل الله إلى خلقه. ص _188
وكالعلم بوجود البلاد المشهورة فى العالم. أما ما يظن أنه تواتر وهو فى الحقيقة ليس منه، فهو كثير حصل فى عصور مختلفة، ولكنه لم يحصل به العلم القاطع لدى الجميع. وذلك كاتفاق جمع كثير من الناس على أمر جمعتهم على الاتفاق عليه عوامل خاصة، كرابطة تجمعهم أو تعصب تحكم فيهم. من ذلك ادعاء بعض الشيعة أن هناك نصا من الله سبحانه وتعالى على أحقية على بن أبى طالب- رضى الله عنه- بالإمامة وأنها فيه، وفى ذريته فقط. ويقابل ذلك ما تواتر عن خصومهم بخلاف ما يزعمون. ومع أننا ننكر قول الشيعة ذلك فإننا لا نكفرهم، لأن مقالهم هذا وإن كان شنيعا وظاهر البطلان، فإنه لا يعظم ضرره فى أصل من أصول الدين. ومن ذلك قولهم أن الإمام الثانى عشر من أولاد على- رضى الله عنه- حى مختبىء فى سرداب فى العراق، وسيظهر ويحكم العالم. فهذا القول مهما كان سخيفا فإنه لا ضرر فيه على الدين، وإنما ضرره على ذلك الشيعى الأحمق الذى يخرج كل يوم من محل إقامته ليستقبل الإمام، فإذا جن عليه الليل رجع خائبا، فهذا هذيان لا يضر إلا صاحبه " أ. هـ. * ** ** ** ستقول بعد هذا البيان أن أبا حامد قبل ضروب الاختلاف واعتبر أصحاب الآراء الباطلة من المسلمين، وأنه اعتذر لأخطائهم، ودافع عن إيمانهم. ونقول: نعم، ونِعم ما صنع، وأى حرج فى ذلك؟ إذا كان الرجل مؤمنا بالله جل شأنه ومؤمنا برسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومقدسا لكل حرف من القرآن الكريم، وغيورا على الإسلام، ولكن عقله فهم حكما من الأحكام على نحو معين، فقل فيه ما شئت إلا أنه كافر أو فاسق. لقد شعرت بالأسى وأنا أقرأ كلام الشيخ محمد زاهد الكوثرى فى أهل الظاهر وفقههم وأسلوبهم فى فهم الدين. والشيخ الكوثرى حنفى متعصب للإمام(1/184)
الأعظم، وهو رجل فاضل. وأنا لست من أهل الظاهر ولا ألتزم منهجهم فى التفكير. ولكنى أرفض أن أقول عن جماعتهم "فرقة سخيفة مكفرة على أحد التأويلين "، وإن شعارهم الفقهى: "لا نقول إلا ما قال الله ورسوله " كلمة حق أريد بها باطل. ص _189
إذا أنكر أهل الظاهر القياس كفروا بذلك! لماذا يا رجل؟ قل: أخطئوا، قل جهلوا، إذا عزت عليك نسبتهم إلى صواب أو علم. أما التكفير فكلام لغو لا وزن له. وتصوير أبى حامد- رضوان الله عليه- للخلاف وأهله وفرقه أولى بالقبول وهو-وحده- ما يمكن أن نبنى عليه أمتنا إذا أرادت الاستفادة من عبر ماضيها الطويل. عود إلى حديث افتراق الأمة: ولا يحيكن فى صدرك حديث افتراق الأمة على سبعين فرقة، فقد شرحنا لك أن كل مجتهد مخلص فهو من الناجين. على أن هذا الحديث ليس من الصحاح التى يعول عليها، ولم يروه البخارى ولا مسلم. والشيخ الكوثرى نفسه يقول فى هذا الحديث (ص 8.7): "وقد وردت أحاديث فى افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها ما لا نص فيه على الهالك، ومنها ما فيه بيان أن واحدة منها ناجية والباقين هلكى، ومنها ما يعدهم كلهم ناجين سوى واحدة وهى الزنادقة. وقد أختلف أهل العلم فى ثبوت تلك الأحاديث وعدم ثبوتها كلا أو بعضا، كما اختلفوا فى المراد بالعدد المأثور، أو الأمة، هل هى أمة الدعوة أم أمة الإجابة؟ فمنهم من يقول: إن العدد لمجرد التكثير كما فى قوله تعالى : (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) على ما شرحه المرجانى فى العضدية، أو أن العدد، لا مفهوم له فلا مانع من الزيادة على العدد المأثور وإن لم يجز النقص، أو أن القصد إلى أصول الفرق دون فروعها كما أشار إلى هذا وذاك الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه "الملل والنحل "، وإن سعى إلى توهين هذا الحديث فى تفسيره، ومنهم طائفة تكلفوا حصر العدد فى فرق خاصة، ولكن قلما تجد اتفاقا بينهم فى الفرق التى يملأون بها العدد المذكور". ص _190(1/185)
ثم قال: "والأجدر بالقبول عند من يرى صحة الحديث أن لا يتقدم بالحكم على مراد رسول الله صلوات الله عليه وسلامه بدون حجة ظاهرة، بل المتحتم أن نقول: إن الناجى هو من كان على ما كان عليه الصحابة - رضى الله عنهم- والسواد الأعظم من التمسك بما ثبت من الدين بالضرورة، وأن الباقين على ضلال، لأن تشعب الفرق لا ينتهى إلى انتهاء تاريخ البشر، فلا يصح قصر العدد على فرقة دون فرقة، ولا على قرن دون قرن، لاستمرار ابتكار أهواء وتلفيق آراء مدة دوام الحياة البشرية فى هذا العالم، فالكلام فى الفرق كلها من غير تقيد بعدد هو الأبعد عن التحكيم، وهو الذى لا يكون مدعاة لهزء الهازئين من غير أهل هذا الدين. ورأى ابن حزم فى حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة هو ما ذكره فى كتاب الإيمان من "الفصل " حيث قال: (ذكروا حديثا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، وحديثا آخر: تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها فى النار حاشى واحدة. قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس بحجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف عند من لا يقول به) ا. هـ. قال ابن الوزير فى "العواصم والقواصم ": إياك أن تغتر بزيادة "كلها فى النار إلا واحدة" فانها زيادة فاسدة، ولا يبعد أن تكون من دسيس الملاحدة وقد قال ابن حزم بأن هذا الحديث لا يصح. وقال الشمس محمد بن أحمد البشارى المقدسى فى "أحسن التقاسيم " بعد أن عدد الفرق وذكر حديث "اثنتان وسبعون فى الجنة وواحدة فى النار" وحديث: "اثنتان وسبعون فى النار وواحد ة ناجية": هذا أشهر، والأول أصح إسنادا.. " ا هـ. أديان استعمارية: مضت القافلة الإسلامية خلال القرون الأخيرة من تاريخها متعثرة المسير، بادية الإعياء، مضطربة الوجهة. فساد الحكم فيها كبير، وفساد الثقافة أكبر. العامة والخاصة تجرفهم أمواج من الخرافة السائدة والهوى المطاع. ص _191(1/186)
وليل الجهل- بالدين والدنيا معا- يزحف بطيئا بطيئا ليلقى سدوله على كل شىء. وقليل ممن عصم الله يرسلون بين الحين والحين صراخا عاليا بُغية إيقاظ الغافلين، ورد الهمل عن موارد الهلكة. وهيهات، كأن طوفان الشر أكبر من أن تدفعه الأيدى الحانية. وغرقت بلاد الإسلام كلها فى لجج الاستعمار الذى أطبق عليها من كل ناحية. ولم يكن من ذلك بد، فإن الله لا يساعد قوما خانوه وخانوا أنفسهم، وأسلموا زمامهم للشيطان بدل أن يسلموا وجوههم له. وعمل المستعمرون فى دهاء ودأب كى يجهزوا على الفريسة التى وقعت بين أيديهم بغتة. وهنا نشب صراع آخر امتزج فيه حب الحياة بالحنين إلى الماضى المجيد، غير أن الظروف لم توات المسلمين لكسب شىء يذكر فى هذا الصراع الجديد، فإن تفريطهم القديم كان شديدا، وسبق خصومهم لهم كان بعيدا.. والأمر يحتاج إلى زمن يبل فيه المريض، ويشفى من جراحاته الكثيرة.. وعدوهم لن يغفل عنهم فيمنحهم فرصة الاستجمام، واستئناف الحياة، بل هو مجتهد فى زيادة عللهم، وتأخير شفائها. ومضت الأيام والعالم الإسلامى يتشبث بالبقاء، ويعاوده الحنين إلى دينه وأمجاده وقيمه الروحية والاجتماعية، والمستعمرون يمكرون به، ويختلونه عن حقيقته، ويشعلون الفتن فى جنباته، وينشئون أجيالا توهن كيانه وتزدرى تاريخه. وشرح أساليب الاستعمار فى شتى الميادين يحتاج إلى كتب مفصلة! ونحن هنا ـ وبإزاء الحديث عن الفرق الإسلامية ـ نتعرض للأديان الاستعمارية التى خلقها فوق رقعة الأرض الإسلامية لتكون ظهيرا له فى محاربة الإسلام وأمته الكبرى. ونعنى بالأديان الاستعمارية "البهائية " و "القاديانية "! ولو أن هذه النحل ظهرت فى مجاهل إفريقيا، أو فى أعماق أستراليا، أو خلقها الإنجليز والأمريكان بين ظهرانيهم، ما شغلنا أنفسنا طويلا بالكلام عنها.. ولكن ميلاد جراثيم هذه الملل فى ربوع الأمة الإسلامية، ومحاولتها التستر بتعاليم الإسلام أمام السذج، والخدمات التى أدتها هذه(1/187)
المذاهب الغاشة للسياسة البريطانية والصهيونية والتى يمكن أن تؤديها فى المستقبل، كل ذلك يجعلنا نلفت الأنظار بقوة إلى هذا العبث الاستعمارى فلا يقع غر فى شراكه. ص _192
البهائية تحارب تعاليم الإسلام : إن الإسلام بطبيعة تعاليمه يأنف من الإلحاد، ويستقذر تعاليمه، ويقف ضده.. وشرائعه من صلاة وصيام وحج وجهاد، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، ودعوة للخير وتواص بالحق والرحمة، وإنفاق فى سبيل الله، هذه الشرائع توجد أمة متميزة متحفزة ، إن خانتها الجدود يوما فهى حليفتها يوما آخر. والشريعة الإسلامية الخصبة بمبادئها، والواضحة فى أهدافها، تجعل من أصعب الأمور على أعداء الإسلام أن يفقدوا الأمة الإسلامية شخصيتها، أو أن يجعلوها تتسكع فى دروب الأرض متشردة لا تشغلها غاية، وحسبها أن تطعم وتنسل.. كلا. ولقد أحس المستعمرون ذلك حتى بعد أن جثموا بجيوشهم الجرارة على صدر الأمة المهزومة أمدا ليس بالقصير. إن الحج مثلا- وهو فريضة تبدو فى نظر بعض المكفوفين محدودة الثمرة- عمل ينغص على المستعمرين استقرارهم ويوهن كيدهم، فإن المسلم فى داكار على شواطئ الأطلسى عندما يلتقى بأخيه فى سنغافورة والملايو على شواطىء الهادى يخترق نطاق العزلة التى يريد المستعمرون حبسه وراء أسوارها كى يستمكنوا من الإجهاز عليه. إن تقطيع أوصال العالم الإسلامى، وجعل كل قطر غريبا عن الآخر غاية أولى للسياسة الصليبية. والحج عبادة تلقائية لجمع المسلمين من الأرجاء القصية فى يوم واحد، ومكان واحد.. فإذا ظهرت تعاليم دينية تسقط هذه الفريضة وتذود الجموع عنها فهذا ربح عظيم للاستعمار، وخطوة فسيحة لتحقيق أغراضه. إن نبى الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ يهيب بالوفود أن تقبل على بيت الله من كل فج، ويقول: "من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" ، وذلك أن الله يقول: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) . ص _193(1/188)
فإذا جاء هذا المسمى بالبهاء يوصى بهدم البيت لا تعميره فلحساب من يصنع ذلك؟! لحساب سادته الذين أنشأوه وظاهروه ونكبوا المسلمين به. والجهاد فريضة تقض مضاجع المعتدين، وتقذف فى أفئدتهم القلق. إن الألف ألف شهيد الذين قتلوا من مسلمى الجزائر، لغسل صعيدها الطيب من كفر الفرنسيين، لم يبذلوا أرواحهم رخيصة إلا لبواعث الإيمان بالله وإيثار ما عنده والرغبة فى إعلاء كلمته وسيادة شريعته. ولو أنهم نكبوا بمن أسقط عنهم الجهاد الدينى لذابت بلادهم وتلاشت إلى الأبد.. إن هذا الجهاد غصة فى حلوق المستعمرين، وهم يبغضون التنادى به، والتجمع عليه. أتظن الإنجليز فى الهند أيام احتلالهم لها وسيادتهم كانوا يحبون أن يسمع فى المساجد قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب " . أو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من لم يغز أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا فى أهله بخير أصابه الله تعالى بقارعة قبل يوم القيامة " . إن هذه الأحاديث تفجر الزلازل والبراكين فى كيان المستعمرين حيث كانوا.. فإذا قام نبى من قاديان يسقط الجهاد عن الناس، وينسخه من شعائر الإسلام فلحساب من هذا؟ إن هذه النبوة طبعا لحساب الإنجليز. وقد عاون الإنجليز البهائية والقاديانية كما سترى معاونة جبارة، وأملهم من مظاهرة هذا الغش الدينى الشغب على تعاليم الإسلام وبلبلة الأفكار باختلاق دوامات عريضة حول هذه "الرسالات " السفيهة . نفاق البهائيين: ومع أن الكذب حيث نبت جريمة، ومع أن الكذب على الله أعظم جرما من الكذب على الناس، إلا أننا نعيد ما قلناه من أن البهائية والقاديانية ما كانتا لتثيرا حنقنا لو أنهما نبتتا بعيدا عن أرض الإسلام.. لكن الذى يضايق أن يرتد بعض الناس عن الإسلام، ومع ذلك يريد العمل تحت عنوانه استمرارا فى مخادعة الأغرار. ص _194(1/189)
إن المسلمين فى باكستان يلحون فى جعل القاديانية نحلة مستقلة كالبوذية والبرهمية واليهودية والنصرانية، بيد أن القاديانيين ماضون فى اعتبار أنفسهم مسلمين...!! وكذلك يصنع البهائيون الذين صنعوا دينا جديدا يخاصم الإسلام وأمته.. إنهم يتظاهرون بالإسلام، فى بلاد الإسلام لأمر فى أنفسهم وأنفس سادتهم. كتب الأستاذ عبد الرحمن الوكيل عن عباس بن حسين مرزا- الملقب بالبهاء-: لقد بلغ من دهائه أنه خدع عن حقيقة دعوته الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبده!.. يقول الشيخ رشيد رضا فى تاريخ الأستاذ (جـ ا ص 395): " ولقد دهشت أشد الدهشة، إذ رأيت الإمام غير واقف على حقيقة دينهم- يعنى دين البهائية- ومصدقا ما كان سمعه من زعيمهم الداهية "عباس " أفندى نجل البهاء ومنظم دعوته وناشرها، حتى أوقفته على ذلك. كان يجتمع بعباس أفندى أيام إقامته فى بيروت، إذ كان عباس هذا يتردد إليها، ويصلى الصلوات الخمس والجمعة، ويحضر بعض دروس الإمام ومجالسه، واستمر على مكاتبته بعد عودته إلى مصر ، ولدى عدة كتب منه إليه "، ثم يقول الشيخ رشيد رضا إنه سأل الشيخ عن عبد البهاء وعما يقول عن براعته فى العلم والسياسة، فقال: إن عباس فوق هذا.. إنه رجل كبير، هو الرجل الذى يصح إطلاق هذا اللقب عليه، ثم يقول الشيخ رشيد بعد هذا عن الشيخ: "والظاهر أنه لم يقرأ ما نقلته دائرة المعارف العربية عن رأى أستاذه السيد جمال الدين فيهم، فقد كان غشه داهيتهم عباس أفندى بقوله: إن قيامهم لم يكن إلا لمقاومة غلو الشيعة وتقريبهم من أهل السنة " أ. هـ. وقد ظل عبد البهاء- حتى وهو على حفاف الهاوية- متشبثا بسوء نفاقه، حريصا كل الحرص على دنس ريائه. فقبل أن يهلك بيومين ذهب إلى المسجد الكبير، وأدى صلاة الجمعة، وصلاة الجمعة فى دينه باطلة، ثم هلك فى يوم الاثنين 6 من ربيع الأول سنة 5 134 هـ (8 من نوفمبر سنة 1921م)، عن ثمان وسبعين سنة، ومشى وراء الصندوق الفخم الذى يحمل جثته الحاكم(1/190)
الإنجليزى الصهيونى لمدينة القدس، وغيره من الحكام الإنجليز، مطرقين في حزن عميق على ذلك العبد الذى أثبت أنه كان من أخلص عبيد الإمبراطورية ولاء، وأطولهم باعا فى الجاسوسية، وأعتاهم دهاء ومكرا. ص _195
البهائية وخدمة الاستعمار : بدأ أول رئيس لهذه النحلة فوصف نفسه بأنه مبشر بالمهدى- أو باب إليه فقط- ثم أعلن بعد قليل أنه المهدى المنتظر نفسه. ثم انتقل إلى ادعاء النبوة، وتطورت الدعوى الأخيرة إلى أن وصف نفسه بأن الله تجلى فيه وحل به. وإذا كان " على محمد" الملقب بـ " الباب " قد تدرج فى هذه الأطوار، فإن خليفته مرزا حسين على رأى نفسه أرقى من سلفه، فادعى ابتداء أن روح الله أشرق فيه، وبالتالى فهو أرقى من الأنبياء جميعا، ومن حقه تبعا لذلك أن يشرع للعالم كله الدين الكامل الذى يلم شعثه ويأسو جراحه، وسمى نفسه بهاء الله... وجاء ابنه عباس فدعم هذه الخرافة وشد أركانها، وسمى نفسه عبد البهاء.. والبهائية فى طورها الأخير أو فى بدايتها الأولى ارتداد عن الإسلام وكفر به، وقد أسقط رؤساؤها فرائض الصلاة والصيام والحج والجهاد والحدود والقصاص وسائر ما جاء فى الكتاب والسنة من تعاليم. ولا يؤمن البهائيون باليوم الآخر ولا بالجنة ولا النار علي النحو الذى نؤمن به. فقد كفر " الباب " بالقيامة كما فصل أمورها ووصفها القرآن وأخذ بتفسير الباطنية لها، أو بجحود الباطنية بها، قال عن القيامة: إنها قيام الروح الإلهية فى مظهر بشرى جديد، وعن البعث: إنه هو الإيمان بألوهية هذا المظهر..!! وعن لقاء الله يوم القيامة: إنه لقاء " الباب "، لأنه هو الله..!! وعن الجنة: إنها الفرح الروحى الذى يشعر به من يؤمن بالمظهر الإلهى. وعن النار: إنها الحرمان من معرفة الله فى تجلياته فى مظاهره البشرية!!. وزعم أنه البرزخ المذكور فى القرآن لأنه كان بين موسى وعيسى واعتنق البهائيون دعوات أنصار السلام وأخذوا يرددونها على أنها الوحى النازل من السماء، لا(1/191)
الكلام الذى نمقه سماسرة السياسة فى الأرض. وقد بذل الاستعمار جهدا ضخما فى مساندة القوم كى يعلو صيتهم، وتتسع دائرتهم. وفى عكا- حيث اختار الاستعمار لهم المستقر- أخذ البهاء وابنه ينشرون مبادئهم. ص _196
وجمع له المستعمرون كُتَّاب صحفهم فى مقره، وقد كتب لهؤلاء ما يسألون عنه عبد البهاء شأن المؤتمرات المفتعلة. وكتب لعبد البهاء ما يجيب به عن هذه الأسئلة، ثم نشر كل هذا فى صحف الغرب، وفيه ما فيه من تمجيد للبهائية، لأنها تستهدف التقريب بين الشرق والغرب، والعمل فى سبيل أن يصبح العالم أمة واحدة شعارها الإخاء والحب والسلام، فيطرب الغربيون- وسواهم من عدو العرب والمسلمين- لدعوة هذا الشرقى المسلم الكبير كما يزعمون، ويكتبون عنه المقالات الحسان لأنه داعية محبة وسلام، أو لأنه فى الحقيقة داعية هدم للإسلام كما فهموا، ومن أجله طربوا، وهكذا دوى ذكر البهائية فى إنجلترا وأمريكا وروسيا. ولم لا، وعبد البهاء يمجد الصهيونية والصليبية، وهو شيخ أشيب يزعم أنه مسلم؟! وذلك فى الوقت الذى يرسمون فيه الخطط للفتك بالإسلام وأمته. ورأى سادة العميل أن يفتنوا الجماهير عن حقيقته، فكان يغشى المساجد الكبرى، ويقوم بزيارة المرضى، وهو مغيب فى ثيابه الكهنوتية المكونة من تاج وعباءة إلى لحية وفرة مع دهاء وخبث.. وقد دعا الإنجليز عبد البهاء إلى نزهة فى أوروبا، فوصل إلى سويسرا سنة 1911، ونزل فى فندق فخم. وهناك عقد له سادته مؤتمرا صحفيا، وقد بهر عبد البهاء من شهدوه بمنظره وحديثه، وبهرهم أيضا بهذه الدعوة التى عبر عنها بقوله: " ألستم أفنانا وأوراقا من دعوة واحد ة؟! ألستم مشمولين بلحظات أعين الرحمانية؟ يا قوم، البدار البدار إلى الألفة ". وسئل عبد البهاء عن إنسان ترك الدين، وعكف على دراسة الاقتصاد وحده، ولم يجد عبد البهاء جهدا فى أن يفجر كفره ويتزلف به، فقد اعتاده، فقال للسائل: " إن أرباب هؤلاء النفوس يشتغلون بالدين الحق "!. ودفعت(1/192)
الحروب الدامية التى شبت فى ذلك الزمن كثيرا من الكتاب على تسخير أقلامهم للدعوة إلى السلام، وكان أعظمهم شأنا كاتب روسيا الأكبر "تولستوى" الذى كان عبد البهاء يسطو على آرائه وينسبها إلى نفسه، لعل الناس يظنونه من جنود السلام، فلا تحذره ضحية، ولهذا ارتفع صوته حينما نزل لندن بالدعوة إلى السلام. ص _197
هذا، وقد ورد فى سفر " متى ": "لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول الآخر أيضا". وورد كذلك فيه: " أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصفوا لأجل من يسيئون إليكم ويطردونكم ". وسرق عبد البهاء هذا فى لندن، فقال لهم هناك: ".. والبهائى يحب جميع العالم كأنهم إخوته. فإذا ضربه أحد فلا يعامله بالمثل ولا يتكلم عنه بسوء ". أراد أن يؤكد أنه صليبى صميم، وأن يتراءى بأنه داعية فدائى فى سبيل البشر! على حين عاشت الصليبية تقتل وتفتك وتدمر وتستعبد أبرياء الشعوب، وكذلك عاشت ربيبتها البهائية تقتل بالسم وتفتك بالسواطير. وأبى عبد البهاء إلا أن يتزلف التزلف الذى يطيح بعقيدته إذ قال فى لندن: " الناس قد نسوا تعاليم نبى إسرائيل وتعاليم المسيح وغيره من معلمى الأديان فجددها البهاء ". ففى هذا القول يؤكد عبد البهاء أن أباه مجدد فحسب. فأين ما ينسبه إليه من ربوبية خلاقة قهارة؟! وكان لابد لعبد البهاء من أن يعلن على الملأ أنه تاج إنجليزى صميم، فمضى يقول: "إن مغناطيس حبكم هو الذى جذبنى إلى هذه المملكة". ويقول: " إنى عرفت الأمة الإنجليزية والذين قابلتهم هم أنفس طيبة يشتغلون للسلام والاتحاد ". ويقول: " إن لندن ستكون مركزا لنشر الأمر.. ". أى مركز لنشر البهائية...!! وكان فى أحاديثه ينال من الأمة العربية ويطعن فيها، ولهذا أحيط عبد البهاء وهو فى لندن بكل مظاهر الحفاوة التى تعدها إنجلترا لمن يخلصون لها الولاء والعبودية. وقد أبى رؤساء الكنائس التى خطب فيها عبد البهاء إلا أن يكشفوا حقيقة البهائية،(1/193)
ومدى سيطرة الصليبية عليها، فقال رئيس كنيسة "ستى تمبل " معقبا على عظة عبد البهاء فى كنيسته: " إنها فى روحها مطابقة لجميع الخطابات الدينية التى تسمعونها كل أسبوع، ولقد تصافح الليلة الشرق والغرب فى هذه الكنيسة ". كذلك فعل رئيس كنيسة "سان جيمس " حتى لقد طلب من عبد البهاء مناجاة الله وهم ركوع. وقد بلغ سرور الإنجليزيات منه مبلغا عظيما، حتى قالت إحداهن عن أحد مجالسه: " ولقد كان الإنسان يشعر بقدرته على خلع العذار "! ص _198(1/194)
هذا أثر البهائية فى النساء، تجعلهن قادرات على اقتراف ما يحلو فى مجامع الرجال دون خشية من الله، أو لذعة من ضمير أو شعور بأنهن اقترفن خطيئة. وقد شهد عبد البهاء مؤتمر الأجناس فى لندن، وهناك بدهه أحد رؤسائه بقوله: " إن أفكار بهاء الله الغربية مختلفة عن أفكار الأنبياء السابقين ". ولم تخز هذه الحقيقة عبد الاستعمار، وإنما لجت به فى المروق عن كل حياء، ودفعته إلى توكيد "إنجليزيته " إذ قال: " أصبحت المدنية الغربية متقدمة عن الشرقية، وأصبحت الآراء الغربية أقرب إلى الله من آراء الشرقيين ". وزاد فأكد أن المدنية الشرقية لم تكن فى يوم من الأيام أرقى من المدنية الغربية إلا فى عهد "بوذا " وعهد "زرادشت " ثم بدأت بعدهما الأوهام والخرافات تفسدان على الشرقيين معتقداتهم، على حين كان الغربيون يجتهدون فى الترقى نحو النور. البوذية التى يمجدها عبد الاستعمار نحلة سلبية تقدم للإنسانية مثلها الأعلى مقنعا بالأحاجى والرموز والأسرار، داعيا إلى الفناء فى طلسم مجهول. و"الزرادشتية" كما يعرفها التاريخ ثنوية تعبد بالحب إله الخير، وبالخوف إله الشر. هاتان الديانتان الوضيعتان هما اللتان يزعم عبد الاستعمار أن الشرق قد سبق بها مدنية الغرب، ويزعم فى جرأة أن دين التوحيد الذى جاء به رسل الله أجمعون وخاتمهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أفسدهما.. وزار عبد الاستعمار مقر البرهمية فى لندن، وتكلم رئيس البراهمة فكان مما قرره: أنه لا خلاف بين البرهمية والبهائية... ولم يمتعض عبد البهاء وعبر بحركاته عن التأييد والإعجاب.. ومكث عبد البهاء فى لندن قرابة شهر، وحينما اعتزم السفر إلى باريس أقيم له حفل كبير. وقد حرص الذين أقاموه ممن مكروا بعبد البهاء وفتنوه عن الدين الذى وضعه لأبيه، حرصوا على أن يسجلوا عليه فى هذا الحفل آراءه الجديدة التى جرد بها البهائية من أهم خصائصها التى كان ينسبها إليها، وهى أنها دين إلهى! فقال أحدهم: " إن عبد(1/195)
البهاء يأمرنا أن نكون صادقين فى كل ما نعتقد ". وقال آخر: " إن أمر البهائية هو الاتحاد بقطع النظر عن الألوان والعقائد ". ص _199
فالبهائية إذن ليست دينا! وهو وأبوه يؤكدان فى كل كتبهما أنها دين خالد! فلم هذه المداهنة؟ وقال عن مسيح الصليبية: " المسيح هو الحقيقة الإلهية، والكلمة الجامعة السماوية التى لا أول لها ولا آخر. لها ظهور وإشراق وطلوع وغروب فى كل دور من الأدوار ". يعنى أن المسيح هو الله وأنه يتجلى زمانا بعد زمان فى هياكل بشرية. وقال: " مع أن شمس المسيح قد أشرقت من الشرق إلا أن نورها قد ظهر فى الغرب، وفيه كان إشراق أنواره أشد ". والحق أن يشهد أن الإسلام الذى أرسل الله به عيسى ليس هو الصليبية التى سادت الغرب. فالإسلام توحيد خالص، والصليبية تثليث غامض. الإسلام يشهد أن عيسى بن مريم بشر وعبد الله ورسوله. أما الصليبية فالأمر معروف قالت عنه: إنه إله ابن إله!! وزار عبد الاستعمار باريس، ففتحت له حضنيها فى شغف. وكان مما قاله هناك عن الحروب الصليبية: " كان المسلمون أحيانا منصورين، يقتلون وينهبون ويخربون " كيف؟ وهم عن أنفسهم يدافعون. وزار أمريكا سنة 1912 وقال هناك: "إن أمريكا أمة مجيدة، وهى حاملة للواء السلام فى العالم، وتستنير منها جميع الآفاق ". وخطب فى الكنائس، وفى معابد اليهود.. ثم زار ألمانيا، وبوادبست، وفيينا ثم استقر فى رمل الإسكندرية، وفجأة عجل بالسفر إلى حيفا فى ديسمبر سنة 333 1 هـ (1913م) . لقد أمر بهذا السفر من سادته ليعد العدة لما سوف يكون . وهكذا كانت عودة عبد البهاء إلى حيفا فى الوقت الذى كان فيه التهديد بإشعال الحرب من أقوى العوامل تأثيرا فى السياسة الدولية . وقد عاد ليكون تحت إمرة بريطانيا فى المكان الذى كانت تعد العدة للوثوب به والذى كانت الصهيونية تتشوق إليه . وهناك بدأ فى صرف البهائية فئة بعد فئة رغبة فى العزلة ثم منع الناس عن زيارته، ليصنع الجريمة فى حرية . ص _(1/196)
ص 0
ولم يبق معه من البهائية سوى الأشياع الذين يعينونه على الخيانة وفيما سنذكر دليل قاطع على أنه كان على بينة مما يدبر للعرب والمسلمين فى الخفاء. والبهائية تجعله دليلا على أنه كان يتلقى الوحى، الوحى من الاستعمار والصهيونية طبعا! ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 وجد عبد البهاء يدمر القوى المعنوية، ويبشر بقرب النجاة، والخلاص- على يد الحلفاء- من طغيان الترك. وما أكثر الذين كانوا يتمنون هذا الخلاص، جد يعمل مع العبيد كى يمهد السبل للاستعمار فى همة ونشاط ليثبت بهذا أنه أخلص العبيد وأشدهم ولاء وهو يقفز من عكا إلى حيفا ومن حيفا إلى عكا وغيرهما يفسد ويدمر وينذر ويتوعد ويرهب من المقاومة ويجمع الأنباء ويرسل بها إلى سادته، ويهجم على الأسرار ويفشيها لهم. وقد اهتبل الفرصة فزرع قطعة أرض كبيرة بجوار بحيرة طبرية أنتجت له الوفير من القمح ثم مضى يبيعه فى السوق السوداء بثمن باهظ. ودق الجنرال " اللنبى " أبواب فلسطين بجيوش الحلفاء فراح عبد البهاء يقفز فى كل مكان مستطار الفرح يبشر بالوعد ويرهب بالوعيد. وسقطت حيفا فى 23 سبتمبر سنة 1918 بعد قتال لم يدم أكثر من يوم. وتعبر البهائية عن فرحتها بسقوط حيفا بقولها: "وكان الابتهاج عظيما عندما استولت الجنود البريطانية والهندية عليها". وبقولها: " ومنذ الاحتلال البريطانى طلب عدد عظيم من العسكريين والموظفين من كل الطبقات مقابلة عبد البهاء، وكانوا يبتهجون بمحادثته النوراء ". وفى أبريل سنة 1925 أقيم بدار الحاكم الصهيونى الإنجليزى العسكرى لفلسطين حفل كبير تكريما لعبد البهاء. وفى هذا الحفل بادر الحاكم وقدم إلى عبد البهاء باسم الإمبراطورية البريطانية أرفع وسام إنجليزى يعطيه لقب "سير" أو فارس الإمبراطورية البريطانية. وإن هذه المبادرة المفتضحة إلى منح هذا الوسام، مع اشتهار الإنجليزى ببرودة الثلج لدليل قوى على قيمة ما أداه العبد لسادته، وعلى أنه تسفل فى(1/197)
الخيانة وفجر فيها! ص _ ص 1
القاديانية وخدماتها للاستعمار: أما "غلام أحمد" مؤسس القاديانية فرجل هندى مغرور، زعم أنه المسيح الذى ينتظر الناس نزوله آخر الزمان. ومع أنه لم يدع أنه عيسى بن مريم نفسه فقد ادعى أنه زميله فى الرسالة، وأعلن أنه نبى يوحى إليه!! والحق أن عيسى عندما ينزل سيكذب الذين يعبدونه من دون الله ويتخذون الصليب شعارا لهم. أى أنه يجىء مؤكدا لتعاليم الحنيفية السمحة لا مؤسسا لدين جديد.. غير أن غلام أحمد الذى نعت نفسه بأنه المسيح الموعود لم يلبث أن أعلن قدومه برسالة جديدة بعد أن خالف الأولين والآخرين فى أن محمدا خاتم النبيين... وقد ألغى المتنبئ الهندى شريعة الجهاد فى سبيل الله وشرائع أخرى كثيرة- وذلك طبعا- لحساب الاستعمار الإنجليزى. والغريب أن أتباعه مصممون على البقاء داخل النطاق الإسلامى، ولا يسأم دعاة القاديانية من ترديد أنهم مسلمون. والمسلمون فى الهند والباكستان مجتهدون فى التحذير منهم وكشف خباياهم، وهم يُحصون من أقوال غلام أحمد نفسه ومن فتاواه الشواهد الكثيرة على ذلك. منبهين إلى أن مزاعمه الخاصة وتعاليمه المأثورة، تجعله ومن معه مرتدين عن الإسلام يقينا. قال الأستاذ المودودى: أول ما يميزهم عن المسلمين ويبعدهم عنهم هو ما جاءوا به من التفسير المبتدع لـ "ختم النبوة" وقد خالفوا فيه تفسير جميع المسلمين المتفق عليه بينهم، فما زال المسلمون يعتقدون منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن- ولا يزالون يعتقدون إلى اليوم- أن النبى العربى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتم النبيين فلا نبى ولا رسول بعده إلى يوم القيامة. وذلك هو المعنى الذى فهمه الصحابة رضوان الله عليهم جميعا من قول الله عز وجل فى كتابه الكريم: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وهم لذلك قاتلوا كل من ادعى النبوة بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ص _ ص 2(1/198)
وهذا هو المعنى الذى ما زال المسلمون يفهمونه فى جميع العصور المتعاقبة فلم يقبلوا من بين أنفسهم رجلا ادعى النبوة. أما القاديانيون فقد فسروا " خاتم النبيين " لأول مرة فى تاريخ المسلمين بأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتم الأنبياء أى " طابعهم " فكل نبى يظهر الآن بعده تكون نبوته مطبوعا عليها بخاتم تصديقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويمكننا فى هذا المقام أن نعرض للقراء عدة نصوص من كتب القاديانية تبين هذا المعنى وتوضحه، ونكتفى هنا بأن نعرض لهم ثلاثة نصوص: * " قال المسيح الموعود عليه السلام فى خاتم النبيين: " إن المراد به أنه لا يمكن أن تصدق الآن نبوة أى نبى من الأنبياء إلا بخاتمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكما أن كل قرطاس لا يكون مصدقا مستندا إلا حين يطبع عليه بالخاتم فكذلك كل نبوة لا تكون مطبوعا عليها بخاتمه وتصديقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكون غير صحيحة ". (ملفوظات أحمدية: بترتيب محمد منظور إلهى القاديانى. ص 295) * " لا ننكر أن الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خاتم النبيين ولكن الختم ليس المراد به ما يفهمه السواد الأعظم من الناس إذ هو يخالف كل المخالفة عظمة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجلالة شأنه وعلو منزلته. أليس معناه أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حرم أمته من نعمة النبوة العظمى بعده!! وإنما المراد به أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء أى طابعهم فلا نبى الآن إلا من يصدقه هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. وبهذا المعنى نؤمن بأن الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هو خاتم النبيين ". (عدد جريدة الفضل الصادر فى 22 سبتمبر سنة 939 1). * " الخاتم هو الطابع، فإذا كان النبى الكريم طابعا، فكيف يكون طابعا إذا لم يكن فى أمته نبى ". (عدد الفضل- لسان حال القاديانيين- الصادر فى 22 مايو سنة 1922). وهذا الاختلاف فى التفسير لم يقف عند مجرد تأويل لفظة واحدة، بل لقد أعلن(1/199)
القاديانيون فيما بعد وجاهروا بأنه ليس من الممكن أن يأتى نبى واحد فقط بعد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل من المحتمل أن يأتى مئات وألوف من الأنبياء: " وهذا أيضا واضح كالشمس فى رائعة النهار أن باب النبوة عند القاديانية لا يزال مفتوحا بعد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ". ص _ ص 3
(حقيقة النبوة: تأليف ميرزا بشير الدين محمود أحمد بن ميرزا غلام أحمد الخليفة الثانى للقاديانيين ص 228). "وقد زعموا- أى المسلمون- أن خزائن الله قد نفدت. وما زعمهم هذا إلا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره وإلا فإنى أقول: أنه لا يأتى نبى واحد فقط بل يأتى ألوف من الأنبياء" (أنوار خلافت: تأليف ميرزا بشير الدين محمود أحمد ص 62). " وإن أرهف إنسان السيوف على جانبى عنقى ثم طلب منى أن أقول : إنه لا يأتى نبى بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأقولن له إنك كاذب، فإنه يجوز، بل لابد أن تأتى الأنبياء بعده ". (أنوار خلافت: ص 65) وهكذا فتح ميرزا غلام أحمد القاديانى باب النبوة ثم قام مدعيا بنبوته، بالمعنى الحقيقى التام، وهانحن نذكر للقراء ما يشهد بذلك شهادة ناطقة ظاهرة من أقوال القاديانيين الثابتة العديدة: "وأيضا قد صرح المسيح الموعود- أى ميرزا غلام أحمد- فى كتبه بدعواه الرسالة والنبوة. كما كتب يقول: دعوانا : أنا رسول ونبى". (راجع عدد البدر الصادر فى 5 مارس سنة 1908) أو كما كتب "أنا نبى وفقا لأمر الله وأكون آثما إن أنكرت ذلك، وإذا كان الله هو الذى يسمينى بالنبى فكيف لى أن أنكر ذلك؟ إننى سأقوم بهذا الأمر حتى أمضى عن هذه الدنيا". (راجع رسالة المسيح الموعود إلى محررة جريدة "أخبار عام " بلاهور). " وقد كتب المسيح الموعود هذه الرسالة قبل ثلاثة أيام فقط من وفاته، كتبها فى 23 مايو سنة 1908 ونشرت فى "أخبار عام " فى 26 مايو سنة 1908م يوم وفاته". (كلمة الفصل: تأليف بشير أحمد القاديانى المندرجة فى "ريفيو أوف ريجلونز" الرقم 3 جـ 14 ص(1/200)
110). "فالمعنى الذى تفهمنا إياه الشريعة الإسلامية عن النبى لا يسمح بأن يكون المسيح الموعود نبيا مجازا فقط، بل لابد أن يكون نبيا حقيقيا". (حقيقة النبوة: تأليف ميرزا بشير الدين محمود أحمد ص 174). ص _ ص 4
ومن صميم ما تقتضيه الدعوى بالنبوة تكفير كل من لا يؤمن بها، وذلك هو عين ما فعله القاديانيون فهم يكفرون علنا فى خطبهم وكتاباتهم جميع المسلمين الذين لا يؤمنون بميرزا غلام أحمد القاديانى ونذكر للقراء فيما يلى بعض ما يشهد بذلك من صريح عباراتهم: " إن جميع المسلمين الذين لم يشتركوا فى مبايعة المسيح الموعود كافرون خارجون عن دائرة الإسلام، ولو كانوا لم يسمعوا باسم المسيح الموعود " (مرآة الصدق: لميرزا بشير الدين ص 25). " كل رجل يؤمن بموسى ولا يؤمن بعيسى، أو يؤمن بعيسى ولا يؤمن بمحمد، أو يؤمن بمحمد ولا يؤمن بالمسيح الموعود فما هو بكافر فحسب، بل هو راسخ فى الكفر وخارج عن دائرة الإسلام ". (كلمة الفصل لبشير أحمد القاديانى، المنشورة فى "ريفيو أوف ريجلونز" ص 110) " وبما أننا نؤمن بنبوة ميرزا عليه السلام وغير الأحمديين لا يؤمنون بها، فكل رجل من غير الأحمديين كافر بحسب ما جاء فى القرآن، إذ أن الكفر ولو بنبى واحد هو الكفر". (بيان ميرزا بشير الدين محمود أحمد فى محكمة كورداسنور، المندرج فى عدد الفصل الصادر 26، 27 يونية سنة 922 1). ولا يقتصر القاديانيون على قولهم بأنهم مخالفون للمسلمين فى أمر نبوة ميرزا غلام أحمد فحسب، بل هم يقولون أيضا أنه ليس هناك من شىء يجمع بينهم وبين المسلمين، فربهم غير رب المسلمين، وإسلامهم غير إسلامهم، وقرآنهم غير قرآنهم، وصلاتهم غير صلاتهم، وصومهم غير صومهم.. إلخ. وقد نشرت خطبة لخليفة القاديانيين فى عدد الفضل الصادر فى 21 أغسطس سنة 1927 بعنوان "نصائح للطلاب " أوضح الخليفة فيها لطلاب جماعته الفرق والخلاف بين الأحمديين وغير الأحمديين، فمما جاء فى هذه الخطبة: ".. وإلا فقد(1/201)
قال المسيح الموعود إن إسلامهم- أى إسلام المسلمين- غير إسلامنا وإلههم غير إلهنا وحجهم غير حجنا، وهكذا نخالفهم فى كل شىء " ونشرت جريدة الفضل كذلك (فى عددها الصادر فى 35 يوليو سنة 1931) خطبة أخرى للخليفة ذكر فيها مجادلة قامت بين الأحمديين وميرزا غلام أحمد وهو حى بينهم، قالت طائفة منهم: لا ينبغى للأحمديين أن ينشئوا لهم مدرسة للعلوم الدينية تكون مستقلة عن مدارس المسلمين، وكانت الحجة التى تحتج بها هذه الطائفة: إننا ص _ ص 5(1/202)
لا نخالف سائر المسلمين إلا فى مسائل قليلة معلومة وقد بينها لنا المسيح الموعود عليه السلام وأوضح لنا الدلائل عليها، فمن الممكن أن نتعلم سائر المسائل من المدارس الأخرى، وكانت الطائفة الأخرى تخالف الأولى فى هذا الرأى. فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ميرزا غلام أحمد نفسه، ولما سمع ما هم فيه من المجادلة، قطع فيها وحكم بينهم بالكلمات التالية- على حسب ما بينه الخليفة-: "من الخطأ الظن بأننا لا نخالف المسلمين إلا فى مسألة وفاة المسيح أو غيرها من المسائل الأخرى، قال: إننا نخالفهم فى ذات الله تعالى وفى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن والصلاة والحج والزكاة" وبهذا التوجيه يكون قد فصل لهم القول وبين لنا أننا نخالفهم- يعنى المسلمين- فى كل المسائل. وقد وصل القاديانيون أنفسهم بهذا الخلاف الشامل بينهم وبين المسلمين إلى نتائجه النهائية المنطقية، وقطعوا صلاتهم بالمسلمين ونظموا أنفسهم تنظيما مستقلا عنهم كأنهم أمة ليست منهم فى قليل ولا كثير، وذلك مما تشهد به كتابات القاديانيين التى نسوق طرفا منها: وقد أكد المسيح الموعود النهى عن صلاة الأحمديين خلف رجل من غير الأحمديين، وكثيرا ما ترد على من الخارج رسائل يسألنى أصحابها عن هذا الأمر المرة بعد المرة، ولذلك فإنى أقول لهم: مهما أعدتم على السؤال عن هذا الأمر فإنى لن أجيبكم إلا بأنه لا تجوز لا تجوز لا تجوز الصلاة خلف رجل من غير الأحمديين". (أنوار خلافت: تأليف ميرزا بشير الدين محمود أحمد ص 89). "من الواجب علينا ألا نعتقد بإسلام غير الأحمديين وألا نصلى خلفهم، إذ أنهم عندنا كافرون بنبى من أنبياء الله ". (أنوار خلافت ص 95) ويقول الأستاذ أبو الحسن الندوى: " وقد تحقق علميا أن القاديانية وليدة السياسة الإنجليزية، فقد أهم بريطانيا وأقلقها حركة المجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد (1246 هـ) وكيف ألهب شعلة الجهاد والفداء، وبث روح النخوة الإسلامية(1/203)
والحماسة الدينية فى صدور المسلمين فى الربع الأول من القرن التاسع عشر المسيحى، وكيف التف حوله وحول دعاته آلاف من المسلمين عانت منهم الحكومة الإنجليزية فى الهند مصاعب عظيمة، وكانوا موضع اهتمامها، ورأت السيد محمد أحمد المهدى ص _ ص 6
السودانى يقوم فى السودان، باسم الجهاد والمهدوية، فكاد يقضى على الحكم الإنجليزى فى السودان، كانت شرارة دينية حسب لها الإنجليز كل حساب، ثم رأت دعوة السيد جمال الدين الأفغانى تنتشر فى العالم الإسلامى، كل ذلك رأته الحكومة الإنجليزية ودرسته وعرفت أن طبيعة المسلمين طبيعة دينية، فالدين هو الذى يثيرها، والدين هو الذى يخدرها، وأن المسلمين لا يؤتون إلا من قبل العقيدة، والإقناع الدينى وما يكون له طابع دينى، واقتنعت أخيرا بأنه لا يؤثر فى المسلمين وفى اتجاههم مثل ما يؤثر قيام رجل منهم باسم منصب دينى رفيع، ويجمع حوله المسلمين ويخدم سياسة الإنجليز، ويؤمنهم من جهة المسلمين وغائلتهم، وفى شخص مرزا غلام أحمد القاديانى- الذى كان مضطرب الأفكار والعقيدة، وكان طموحا إلى أن يؤسس ديانة جديدة ويكون له أتباع مؤمنون به، ويكون له مجد واسم فى التاريخ مثل ما كان للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد الإنجليز وكيلا لهم يعمل بين المسلمين لمصلحتهم، ولم يزل يتدرج من التجديد إلى المهدوية ومن المهدية إلى المسيحية، ومن المسيحية إلى النبوة، حتى تم ما أراده الإنجليز، وقام القاديانى بدوره، مما كلف به خير قيام، وحماه الإنجليز ومكنوه من نشر دعوته وحفظ القاديانى هذه اليد، وعرف الفضل للإنجليز فى ظهوره. وقد صرح فى بعض كتاباته بأنه غرس غرسته الحكومة الإنجليزية، كما ذكر فى مؤلفاته بكل صراحة- بل بكل وقاحة- ما يدين به للحكومة الإنجليزية من الولاء والوفاء، وما قام لها به من خدمة مشكورة، واليك ترجمته حرفيا: "لقد قضيت معظم عمرى فى تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت فى منع الجهاد ووجوب طاعة أولى(1/204)
الأمر "الإنجليز" من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة وقد نشرت جميع هذه الكتب فى البلاد العربية ومصر والشام وكابل والروم ". أ. هـ. (ترياق القلوب: تأليف غلام أحمد القاديانى ص 15) ويقول فى محل آخر: " لقد ظللت منذ حداثة سنى- وقد ناهزت اليوم الستين- أجاهد بلسانى وقلمى لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها والعطف عليها، وأفض فكرة (الجهاد) التى يدين بها بعض جهالهم والتى تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة " أ. هـ (ملحق بكتاب "شهادة القرآن " من قلم غلام أحمد القاديانى الطبعة السادسة ص 10) ص _ ص 7(1/205)
ويقول فى نفس الكتاب: " أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعى وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد لأنه يلزم من الإيمان بأنى مسيح أو مهدى إنكار الجهاد " ( ص 17) وقال فى محل آخر: " لقد ألفت عشرات من الكتب العربية والفارسية والأوردية وبينت فيها بكل إخلاص أنه لا يحل "الجهاد" أصلا ضد الحكومة الإنجليزية!! بل- بالعكس من ذلك- يجب على كل مسلم أن يطيع هذه الحكومة بكل إخلاص!! وقد أنفقت على طبع هذه الكتب أموالا كبيرة وأرسلتها إلى البلاد الإسلامية، وأنا عارف أن هذه الكتب قد أثرت تأثيرا عظيما فى أهل هذه البلاد (الهند). وقد كون أتباعى جماعة تفيض قلوبهم إخلاصا لهذه الحكومة والنصح لها. إنهم على جانب عظيم من الإخلاص، وأنا أعتقد أنهم بركة لهذه البلاد ومخلصون لهذه الحكومة، ومتفانون فى خدمتها" أ. هـ. (من رسالة مقدمة إلى الحكومة الإنجليزية بقلم غلام أحمد) * * * * ولقد أمدت هذه الحركة وهذه الفئة الحكومة الإنجليزية بخير الجواسيس لمصالحها، وبأصدقاء أوفياء، ومتطوعين متحمسين كانوا موضع ثقة الحكومة الإنجليزية دائما. وخيار رجالها خدموا الحكومة الإنجليزية فى الهند وخارج الهند وبذلوا نفوسهم ودماءهم فى سبيلها بسخاء، كعبد اللطيف القاديانى الذى كان فى أفغانستان يدعو إلى القاديانية ويستنكر "الجهاد". وقد خافت حكومة أفغانستان أن تقضى دعوته على عاطفة الجهاد والروح الحربية التى يمتاز بها الشعب الأفغانى فقتلته. وكذلك الملا " عبد الحليم "، والملا " نور على " القاديانيان اللذان عثرت الحكومة الأفغانية عندهما على رسائل ووثائق تدل على أنهما وكيلان للحكومة الإنجليزية، وأنهما يدبران مؤامرة ضد الحكومة الأفغانية، وكان جزاؤهما القتل، كما صرح بذلك وزير داخلية أفغانستان سنة 1925، ونقلت ذلك جريدة "الفضل " وهى صحيفة القاديانيين الرسمية بسرور وإعجاب فى 3 مارس من ذلك العام. وبقيت الجماعة القاديانية فى عهد مؤسسها وبعده فى معزل عن جميع(1/206)
الحركات الوطنية وحركات التحرير والجلاء فى الهند، صامتة بل شامتة، لما دهم العالم ص _ ص 8
الإسلامى من رزايا ونكبات على يد المستعمرين الأوروبيين وعلى رأسهم الإنجليز مقتصرة على إثارة المناقشات الدينية والمباحثات حول موت المسيح وحياته ونزوله ونبوة غلام أحمد مما لا اتصال له بالحياة العامة والمسائل الإسلامية والحركات التى كانت مظهرا للغيرة الإسلامية والشعور السياسى فى هذه البلاد. وقد فزع لهذه الفتنة القاديانية علماء الإسلام وقادة الفكر فى الهند فحاربوها بأقلامهم وألسنتهم وعلمهم وذلك أقصى ما يمكن فى عهد الدولة الإنجليزية التى تبنت هذه الديانة وتلك الجماعة. وكان فى مقدمة هؤلاء المجاهدين الشيخ محمد البتالوى، ومولانا محمد على المونكيرى مؤسس ندوة العلماء، والشيخ ثناء الله الأمر تسرى، والشيخ أنور شاه الكشميرى، ومن أنشط الجماعات فى محاربة هذه الفئة الباغية جمعية الأحرار وعلى رأسها وفى مقدمتها الخطيب المصقع السيد عطا الله النجارى الأمر تسرى. ومن هؤلاء الموفقين المفكر الإسلامى العظيم الدكتور محمد إقبال الذى صرح فى مؤلفاته بأن "القاديانية" ثورة على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ و "مؤامرة ضد الإسلام " و "ديانة مستقلة" وأن القاديانية أمة وحدها ليست من الأمة الإسلامية العظيمة. ولا يخفى أن الدكتور محمد إقبال من كبار المثقفين المتنورين الذين أنجبهم العالم الإسلامى فى العصر الأخير، ومن كبار الدعاة إلى الاتحاد الإسلامى، ومن المتمسكين بمبدأ التسامح. ولكنه بحكم المجاورة ولاطلاعه الواسع الدقيق على الديانة القاديانية وأهدافها ومراميها- كان من أكبر المنكرين عليها. وهو أول من دعا إلى فصل القاديانيين عن المسلمين واعتبارهم أقلية غير مسلمة. وإلى القارىء بعض الملتقطات من محاضراته ومقالاته. قال الدكتور فى رسالة وجهها إلى كبرى صحف الإنجليز "ستاتس مان " التى أثارت هذه المسألة: "إن القاديانية محاولة منظمة(1/207)
لتأسيس طائفة جديدة على أساس نبوة منافسة لنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ". وجاء فى رده على كلمة "البانديت جواهر لال نهرو" رئيس وزراء الهند فى ذلك الوقت الذى تساءل: لماذا يلح المسلمون على فصل القاديانية عن الإسلام وهى طائفة من طوائف المسلمين الكثيرة؟ ص _ ص 9
قال الدكتور: "إن القاديانية تريد أن تنحت من أمة النبى العربى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمة جديدة للنبى الهندى"!! وذكر أنها أشد خطرا على الحياة الاجتماعية للإسلام فى الهند من عقائد "اسبينوزا " الفيلسوف اليهودى الثائر على نظام اليهود. وقد شرح الله صدر " محمد إقبال " لأهمية عقيدة النبوة وأنها حارسة لكيان المجتمع الإسلامى، ووحدة الأمة الإسلامية، وأن الثورة على هذه العقيدة لا تستحق أى مسامحة وهوادة، لأنها تعمل كمعول هدام فى أساس الصرح الإسلامى الشامخ... يقول فى رسالته الموجهة إلى "ستاتس مان " المذكورة: " إن عقيدة أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين هى الخط الفاصل بكل دقة بين الدين الإسلامى والديانات الأخرى التى تشارك المسلمين فى عقيدة التوحيد والموافقة على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنها تقول باستمرار الوحى وبقاء النبوة " كبرهمو سماج " فى الهند، وبهذا الخط الفاصل يستطيع الإنسان أن يحكم على طائفة بالاتصال بالإسلام أو الانفصال عنه، ولا أعرف فى التاريخ طائفة مسلمة اجترأت على تخطى هذا الخط. إن البهائية فى إيران أنكرت عقيدة ختم النبوة، ولكنها أعلنت بصراحة أنها طائفة مستقلة ليست مسلمة بمعنى الكلمة المصطلح عليها. إننا نعتقد أن الإسلام دين أوحى الله به، ولكن وجود الإسلام كمجتمع أو أمة يتوقف على شخصية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وليس القاديانية إلا أن يختاروا أحد الأمرين: إما أن يتبعوا البهائية فى انفصالها عن المسلمين. وإما أن يتخلوا عن تفسيراتهم المتطرفة لفكرة ختم النبوة فى الإسلام. إن تأويلاتهم السياسية لا تنم(1/208)
إلا على حرصهم على البقاء فى محيط المسلمين ليستغلوا هذا الاسم، وينتفعوا بفوائد سياسية لا تحصل إلا باسم المسلمين "أ. هـ. وقال فى محل آخر: " إن كل مجتمع ينفصل عن الإسلام وله طابع دينى يقوم على أساس نبوة جديدة، ويعلن كفر جميع المسلمين الذين لا يصدقون بهذه النبوة المزعومة يجب أن ينظر إليه المسلمون كخطر جدى على سلامة الإسلام. إن نهوض المجتمع الإسلامى لا يقوم إلا على عقيدة ختم النبوة " أ. هـ. !!! ص _210(1/209)
نريد أن نقف بعد هذه السياحة الطويلة لنحدد موقفنا من الفرق الإسلامية، ومن كتابات " جولد تسيهر " عن هذه الفرق بإجمال. ونحب أن نستبعد ابتداء من نطاق الأمة الإسلامية، هذه الفرق التى انسلخت بنبواتها وشاراتها ومسالكها. وأمسى أتباعها مطايا لأعداء الإسلام فى شتى الميادين. وذلك كالبهائية والقاديانية والأغاخانية... وفيما وراء ذلك لا يجوز أن تسمى المذاهب الفقهية، أو الاختلافات السياسية فرقا دينية. ونحن نعرف أن المسلمين اختلفوا فى أمور شتى. بيد أن أكثر الفرق التى خلفها الجدل الكلامى قد ذابت فى التاريخ، وليس هنالك ما نحاذره من اختلاف فقهى بين المجتهدين فى فهم الشريعة، فهذا الخلاف لابد منه، وهو ينفع ولا يضر، ويشرف ولا يسوء.. إن كل ما بقى إلى عصرنا هذا من خلاف هو الفجوة التى افتعلت افتعالا بين السنة والشيعة! وهى فجوة يعمل الاستعمار على توسيعها، أو على القليل يستبقيها لتكون قطيعة دائمة بين الفريقين، ثم ينفذ من خلالها إلى أغراضه. ونحن نريد أن نقول هنا كلمة، تقطع على أعدائنا الطريق، وتضع الأمور فى نصابها وتفوت على جماهير المستشرقين ما يبتغون. ذكر المستشرق المجرى "جولد تسيهر" أن الملك "نادر شاه " سعى جادا كى يعقد مع الأتراك صلحا ينقى الجو بين الشيعة والسنة، ويضع حدا للخلاف القائم بين الفريقين. وقد وضع لذلك مشروعا حسنا، كاد يخرج إلى نطاق التنفيذ لولا أن المنية عاجلت الرجل، فمات قبل أن تتحقق أمنيته. قال "جولد تسيهر": "ولدينا فيما اشتملت عليه كتابات الفقيه السنى "عبد الله بن حسين السويدى" وثيقة هامة معاصرة عن مجمع دينى عقده "نادر شاه " وجمع فيه بين فقهاء الفريقين.. فى هذا المجتمع انتهوا إلى اتفاق يقضى بضم التشيع إلى المذاهب السنية الأربعة، وجعله مذهبا سنيا خامسا. ص _211(1/210)
وصار من السهل بعد قليل بموجب هذا الاتفاق: أن يخصص مقام خامس للمذهب الجعفرى فى دائرة الحرم المكى بجوار مقامات المذاهب الأربعة السنية. وصار لزاما منذ ذلك الوقت الإقرار بسنية هذا المذهب.. " أ. هـ قال: " وما أبدعها من طريقة ضم بها الإسلام الشيعى إلى مذهب أهل السنة. ولكن سرعان ما ظهر أن هذا كله كان حلما براقا، وأمنية بعيدة. فالحقد المتوارث الذى يحمله كلا الفريقين للآخر، والضغائن التى شطرت فقهاء المذهبين شطرين جعلتهم بعد موت "نادر شاه " لا يستصوبون سياسة التسامح والوفاق " أ. هـ. ثم قال: ".. أما الحركة التى لاكتها الألسنة كثيرا فى السنين الأخيرة والتى تعرف باسم (الجامعة الإسلامية)، وهى حركة يصورها الكتاب الأوروبيون كخطر داهم تارة، أو كشبح وهمى تارة أخرى، فقد روجت فى البيئات الإسلامية فكرة إزالة الخلافات القائمة بين شتى الفرق، تمهيدا لإيجاد تحالف بين الأمم الإسلامية... " وقال: ".. غير أن هذه المحاولات ليست سوى حالات فردية، ولا يزال من المستبعد كثيرا أن نستدل من الظواهر الأخرى على خطة تكشف عن حالة عقلية شاملة.. "أ. هـ. بهذا الكلام ختم "جولد تسيهر" كتابه المسموم عن العقيدة والشريعة. وقد يكون الرجل شرد عن الجادة فى حديثه الطويل عن الإسلام، ولكنه اقترب من الواقع فى تصويره لأحوال المسلمين وتجسيمه للشقاق الذى دب بينهم عدة قرون..!! وهو الخلاف الذى نرجو أن يتقلص سواده وتنقطع أبعاده، والذى يعمل رجال التقريب بين المذاهب الإسلامية لتخليص المسلمين من عوائقه وعقابيله . ص _212(1/211)
وبعد.. لقد أحسست وخزا فى فؤادى، وأنا أقرأ كلمة الإسلام الشيعى، والإسلام السنى، التى ترددت على لسان المستشرق المجرى مرارا. هل هناك إسلامان حقا فى أمتنا؟ إنه إسلام واحد، إسلام عار عن هذه الأوصاف الزائدة، مجرد من تلك الإضافات المحدثة. إن الله ارتضى لنا الإسلام دينا، ومن سبعين قرنا سمانا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام بهذا الاسم الكريم، ثم جاء النبى الخاتم محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهدانا للصراط وأتم النعمة، وترك فينا وحيه وهديه، ونحن بميراثه مستمسكون، وبهذا الإسلام الحنيف مستظلون ومتشرفون، ما نرغب عنه إلى شىء، ولا تصرفنا عنه نسبة مفتعلة. وقد اختلف المسلمون فى أمور عديدة، لكن أحدا منهم ما يرضى بعنوان غير الإسلام، ويستحيل أن ترجح عنده صفة أخرى على هذا العنوان الفذ الأثير...! إذن ما الذى حدث؟ الحقيقة أن هناك أناسا لا يتقون الله فى دينهم ولا فى أمتهم، أطلقوا غيوما داكنة من الإشاعات والظنون كانت العلة الدفينة فى تمزيق الشمل، وملء الرؤوس بطائفة من التصورات الباطلة، وملء النفوس تبعا لذلك بطائفة أخرى من المشاعر المنحرفة. وجماهير العامة- للأسف الشديد- ضحايا لتكاذب متبادل لا أساس له. ويوم ينكشف الغطاء عن الحقيقة فسيحزن كثيرون لما أرسلوا من أحكام، وأطلقوا من عبارات. والمستشرق "جولد تسيهر" معذور فيما كتب عنا، فقد خيل إليه أننا مولعون بالاختلاف لغير سبب قائم، ومولعون بالفرقة لغير خصام دائم. وإذا كان الأوائل قد جنوا الحنظل من هذا المسلك، فلِمَ حرصنا نحن على التمسك به؟؟ جاءنى رجل من العوام مغضبا يتساءل: كيف أصدر شيخ الأزهر فتواه بأن الشيعة مذهب إسلامى كسائر المذاهب المعروفة؟! فقلت للرجل: ماذا تعرف عن الشيعة؟ فسكت قليلا ثم أجاب: ناس على غير ديننا!! ص _213(1/212)
فقلت له: لكنى رأيتهم يصلون ويصومون كما نصلى ونصوم !! فعجب الرجل، وقال: كيف هذا؟ قلت له: والأغرب أنهم يقرأون القرآن مثلنا ويعظمون الرسول، ويحجون إلى البيت الحرام !! قال: لقد بلغنى أن لهم قرآنا آخر، وأنهم يذهبون إلى الكعبة ليحرقوها! فنظرت للرجل راثيا، وقلت له: أنت معذور! إن بعضنا يشيع عن البعض الآخر ما يحاول به هدمه وجرح كرامته، مثلما يفعل الروس بالأمريكان، والأمريكان بالروس، كأننا أمم متعادية لا أمة واحدة. لا أنكر أن هناك خلافا نشب بين بعض العلماء، والبعض الآخر، بيد أن ذلك لا يسوغ نقله إلى ميدان الحياة العامة ليقسم أمتنا، ويصدع حاضرها ومستقبلها. وهب ذوى الأغراض أو ذوى البلاهة صنعوا ذلك قديما فلحساب من يُستبقى هذا الشر؟! وتعانى الأمة كلها ويلاته. بل لحساب من يستبقى هذا الشر حتى يجىء من الأجانب من يقول: هناك إسلام سنى وإسلام شيعى؟! جزى الله العاهل الفارسى "نادر شاه " على جهاده لجمع الكلمة ولم الشمل، غير أن دور التقريب يقع فى عصرنا على العلماء قبلما يقع على الحكام. صحيح أن الخلاف نشأ سياسيا، ووسعت شقته مسالك الحكام ومطامع السلطان. وعلى الساسة أن يصلحوا ما أفسد أسلافهم؟ وأن يسخروا قواهم فى التجميع بعدما سخرت قديما فى الفتق والشتات. لكن الدور الآن للعلماء كما قلت، فإن العلم تأثر بالحكم دهرا، وتلونت الدراسات الدينية بمآرب الحاكمين، ثم ذهب المنتفعون من ذوى السلطة، وبقى المخدوعون من أهل العلم، أعنى العامة وأشباههم. فعلينا نحن- حملة الإسلام- أن نصحح الأوضاع، وأن نزيل الأوهام.. وأعتقد أن لفتوى الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شوط واسع فى هذه السبيل، وهى استئناف لجهد المخلصين من أهل السلطة وأهل العلم جميعا، وتكذيب لما يتوقعه المستشرقون من أن الأحقاد سوف تأكل هذه الأمة قبل أن تلتقى صفوفها تحت راية واحدة.. ص _214(1/213)
وهذه الفتوى فى نظرى بداية الطريق، وأول العمل. بداية الطريق لتلاق كريم تحت عنوان الإسلام الذى أكمله الله جل شأنه وارتضاه لنا دينا. وبداية العمل للرسالة الجامعة التى تعنى العزة للمؤمنين، والرحمة للعالمين.. إن الظنون والخرافات تجتاح الجماهير من السنة والشيعة. والتخلف البعيد يقعد بهم جميعا عن حق الله وحق الحياة. والدنيا تنطلق بسرعة، وتصعد فى سلم الارتقاء المادى المحض، وتنظر شزرا إلى الأجناس المتخلفة وكأنها خلق آخر. وليس إلا الإسلام علاجا لهذا الشرود.. لكن أى إسلام؟ الإسلام الذى تآخى فيه العارفون، وأشرب روحه أتباع عقلاء مساميح.. إن الجهل والفراغ يهزان أصول الاعتقاد، وتنشأ فى ظلهما أجيال تافهة عابثة، فهل ندع الحريق يجتاح بيضتنا، وننشغل عنه بالتلاوم والتكاذب؟! إلا أن الأمر أجل مما يتوهم قصار النظر، وأرى أن الطريق لا يزال طويلا.. لكننا عرفناه، وبدأنا المسير، ومن سار على الدرب وصل. ص _215
الفصل السادس حول الوحدة الإسلامية قرارات الكاثوليك والبروتستانت شرق جاوة ص _216(1/214)
حول الوحدة الإسلامية ملوك المسلمين وأمراؤهم من أعصار طويلة موضع سخط أهل الفقه واشمئزاز أهل التقوى. إذ أن هؤلاء الحكام بنوا على الإسلام دنياهم العريضة وجاههم الممدود. أما صلتهم بالإسلام وتعاليمه ودعوته فهى صلة معلولة مضطربة. الدعوة الإسلامية لأهل الأرض خفت صوتها وضاع أثرها لأن هؤلاء الحكام ما يفكرون فيها أو يأبهون لها. والأمة الإسلامية قطعان من الخلق، تدفع الضرائب، وتحقق المآرب وحسب. أما إقامة أمرها على الدين، وبناء كيانها على الخير ونشدان صالحها العام فى كل حين.. فذلك أمر قد يجرها على الألسنة زعما، ولكن لا يتطرق إلى الحياة عملا. فهل يستغرب أن يتصدع الإسلام وتتلاشى دولته بعد أن تبقى هذه الأحوال عصورا متتابعة؟ إن الوحدة الإسلامية لا تعنى هؤلاء الحكام لأن الإسلام نفسه لا يعنيهم. وهو- إذا اهتموا به- يجىء بعد اهتمامهم بخاصة أنفسهم وشئون ملكهم ومكانة أسرتهم وأهواء حاشيتهم... إلخ. ولقد دفع المسلمون ثمن هذا العصيان السافر والاستهانة البالغة. دفعوا ثمنها أن انقسموا فى أرجاء الأرض على أكثر من خمسين دولة أو دويلة ليس لها فى سياسة العالم وزن يذكر، ولا فى توجيه شئونه رأى يسمع. ثم استفاق نفر ممن رحم الله وشرع يهيب بهذه الأوزاع أن تتجمع وتلك الفرق أن تتلاقى، وأبان لها أن رواق الإسلام الحق يتسع لها جميعا وأنها يوم تتساند تحت لوائه فسوف تسعد وتعز. ومع ذلك فإن أمام التجمع الإسلامى المنشود مراحل شاسعة وعقبات شداد. إن أسباب الفرقة لا تزال باقية وهى إذا دامت فستنتهى حتما بتلاشى الإسلام نفسه وزوال عقيدته بعد شريعته!! هل أتاك نبأ ما تعد الصليبية الغربية للإسلام فى أندونيسيا؟ اقرأ هذه القرارات لتعرف ما هنالك : ص _217(1/215)
قرارات الكاثوليك والبروتستانت لمنطقة شرق جاوة انعقد المؤتمر المذكور فى مدينة "مالانج " بجاوة الشرقية فى أكتوبر سنة 1962 وأوصى بمشروع يستهدف إتمام تنصير جاوة فى مدى عشرين سنة وتنصير أندونيسيا كلها فى مدى خمسين سنة، وأوصى المؤتمر بالوسائل التى تتبع لتحقيق هذه الغاية، وهى تتلخص فيما يلى. ا- التوسع فى إنشاء المدارس المسيحية. 2- لا تقبل المدارس الإعدادية والثانوية المسيحية إلا المسيحيين فقط. 3- افتتاح مدارس الكتاب المقدس فى المدن التى يكثر فيها المسلمون. 4- أن يُكثر المسيحيون من الزواج بفتيات مسلمات. 5- المسيحيات القويات الإيمان يتزوجن بشبان مسلمين ضعاف الإيمان. 6- محاولة إغراء أبناء المسلمين بمعونتهم وإدخالهم المسيحية، واجتذاب المسلمين عن طريق المستشفيات ودور الأيتام. 7- طبع الإنجيل باللغة العربية لنشره وتوزيعه على المسلمين المقلدين الذين يقرءون اللغة العربية. 8- إغراء المسلمين الذين يشتغلون بالسياسة، وذلك بإسناد مناصب عالية ذات نفوذ إليهم. 9- إقامة الكنائس الفخمة بجوار المساجد المخصصة للمسلمين الذين لا يتبعون مذهب الجمعية المحمدية أو اتحاد المسلمين. 10- توجيه المسيحيين كى لا يدخلوا المدارس الحكومية التى أغلب تلامذتها مسلمون- لأن الإسلام يتحتم تدريسه فى تلك المدارس. وهذه الحرب المستمرة للإسلام فى أندونيسيا تتبعها حرب أخرى للكتاب العربى واللغة العربية التى نزل بها القرآن الكريم. فإن أعداء الإسلام لا يقصرون حربهم على الدين نفسه. بل يمدونها إلى اللغة التى كانت ولا تزال خادمة لكتاب الله. ومن هنا كانت محاربتهم للكتاب العربى الذى يشتمل على الثقافة الإسلامية العربية الضرورية لكل مسلم والتى لا يستغنى عنها فى فهم دينه وإتمام يقينه. ولقد كان لمصر- منذ زمن بعيد- دور الرائد فى حركة نشر الثقافة الإسلامية العربية فى إندونيسيا عن طريق "الكتاب العربى" الذى كانت تصدره إليها حتى فى ص _218(1/216)
عهد الاستعمار الهولندى، وكان لمصر من وراء ذلك مقام أدبى كبير بالإضافة إلى دور الأزهر الذى يقوم برسالة الفكر الإسلامى من زمن بعيد. ولقد لوحظ من واقع بيانات مصلحة الجمارك المصرية أن هبوطا عظيما طرأ على حركة تصدير الكتاب العربى إلى أندونيسيا. ففى سنة 1961 صدرت مصر إلى أندونيسيا من الكتب العربية 135 طنا وفى سنة 1962 صدرت مصر إلى أندونيسيا من الكتب العربية طنا واحدا فقط. ولاشك أن هذه المفارقة المذهلة بين العامين الأخيرين تدعو إلى التساؤل عن العلاقة بين هذا الهبوط المفاجىء وبين قرار مؤتمر الكنائس الذى اتخذ سنة 1962 فإن أعداء الإسلام يعرفون سر قوة الكتاب العربى فى نشر الوعى الإسلامى، ومن هنا يجىء حرصهم البالغ على منع انتشاره وصد تياره. وهذا هو التعليل المعقول لهذا الانحدار الهائل فى حركة تصدير الكتاب العربى، فإنها أول ضربة من ضربات المعول الذى يرمى إليه ذلك القرار الخطير. ومع هذه النيات الهائلة، وتلك الوسائل الميسرة فإن الحذر لا يزال ساريا فى أوصال الأمة المرهقة المكدودة ، وهى بين الجهل السائد وغش الحكام وقصور العلماء تترنح وتتعرض للبلايا. لقد تناسى المسيحيون الحروب الدينية التى اتقدت نارها بينهم خلال القرون الوسطى، وأطرحوا الخلافات الكبيرة التى تباعد بينهم أحيانا فى أصول العقيدة، وقرروا أن يلقوا الإسلام وأهله صفا واحدا وقوى مشتركة. أما المسلمون فإن الجامعة التى يجب أن تلم شملهم لا تزال حلما، والصفاء الذى ينبغى أن ينير طريقهم لا يزال بعيدا. ومن بين مظاهر الفرقة التى تثير الأسى ما نشرته الصحف أخيرا أن رجال الشرطة فى مدينة كراتشى أعلنوا أن 125 شخصا من المسلمين قد قتلوا، كما أصيب 26 شخصا آخرون بجراح على أثر معارك دامية نشبت بين السنيين والشيعة فى قرية تارى التى تبعد 25 ميلا عن العاصمة الباكستانية، وأن النيران اشتعلت فى القرية التى دارت فيها المعارك، وأن اشتباكا مماثلا وقع فى لاهور(1/217)
راح ضحيته شخصان. كما جاء فى الخبر: أن السنيين هم أنصار النبى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينما الشيعة هم أنصار على رابع الخلفاء الراشدين..!! ص _219
لقد قرأت هذا النبأ الفاجع ثم أطرقت كئيبا كسير النفس: يا أسفاه على هذه الدماء المراقة وهذه الدور المحروقة، إن الإسلام ليسمع أنينه خلال هذه الأنقاض المركومة، وإن الأخوة فى الله لتذهب بددا مع هذه الغارات الضريرة، لم هذا العراك. أهو بين المسلمين والمستعمرين الذين اجتاحوا ديارهم؟ أهو بين المسلمين والصهيونيين الذين استولوا على تراثهم ومحوا معالمه وبنوا فوقه دولة لهم؟ يا حسرتاه: إنه بين مسلمين ومسلمين ران عليهم الجهل، فهم فى ظلامه يلطم بعضهم بعضا، ويستبيح بعضهم بعضا، والرابح فى هذا العراك هو الشيطان وحده. على أن هذا الخبر يخفى وراءه قصة طويلة الذيول، موغلة فى الماضى، ربما كان العوام أخف الناس جرما فيما حفلت به من آثام، أما الذين تثقل كفتهم بالجرائر، منهم أولئك الذين يبعثرون بذور الفرقة فى كل ناحية ولا يبالون أن تحصد الأجيال مرارتها غارات وثارات، وأن يحصد الإسلام نفسه جناها وهنا فى صفوفه، وتقهقرا لقضاياه. ليس بين أبناء الإسلام خلاف تراق من أجله دماء قطيع من الغنم، فكيف يلقى فى روع الأغرار أن هناك نزاعا بين المسلمين لا يحله إلا السيف؟ إن من أنكر الأمور افتعال الأسباب لتفريق الكلمة وتمزيق الأمة. ربما اختلفت وجهات النظر فى قضية ما، وانشعب الناس حولها مذاهب.. لكن حيث لا تختلف الأفهام ولا تتعدد الأنظار، كيف يستبيح بعض الناس لأنفسهم أن يخلقوا الفرقة خلقا. وأن يقحموها على الواقع إقحاما، لا لشىء إلا لرؤية الناس أحزابا متناحرة وطوائف متدابرة. إننى آسف لأن بعض من يرسلون الكلام على عواهنه. لا.. بل بعض من يسوقون التهم جزافا غير مبالين بعواقبها دخلوا فى ميدان الفكر الإسلامى بهذه الأخلاق المعلولة فأساءوا إلى الإسلام وأمته شر إساءة. سمعت واحدا من(1/218)
هؤلاء يقول فى مجلس علم: إن للشيعة قرآنا آخر يزيد ينقص عن قرآننا المعروف. ص _2 ص
فقلت له: أين هذا القرآن؟ إن العالم الإسلامى الذى امتدت رقعته فى ثلاث قارات ظل من بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى يومنا هذا بعد أن سلخ من عمر الزمن أربعة عشر قرنا لا يعرف إلا مصحفا واحدا مضبوط البداية والنهاية معدود السور والآيات والألفاظ، فأين هذا القرآن الآخر؟! ولماذا لم يطلع الإنس والجن على نسخة منه خلال هذا الدهر الطويل؟ لماذا يساق هذا الافتراء؟! ولحساب من تفتعل هذه الإشاعات وتلقى بين الأغرار ليسوء ظنهم بإخوانهم وقد يسوء ظنهم بكتابهم. إن المصحف واحد يطبع فى القاهرة فيقدسه الشيعة فى النجف أو فى طهران ويتداولون نسخه بين أيديهم وفى بيوتهم دون أن يخطر ببالهم شىء بتة إلا توقير الكتاب ومنزله- جل شأنه- ومبلغه- ـ صلى الله عليه وسلم ـ - فلم الكذب على الناس وعلى الوحى؟ ومن هؤلاء الأفاكين من روج أن الشيعة أتباع على، وأن السنيين أتباع محمد، وأن الشيعة يرون عليا أحق بالرسالة، أو أنها أخطأته إلى غيره.! وهذا لغو قبيح وتزوير شائن. ولكن تصديق هذا اللغو كان الباعث على تلك المجزرة المخزية التى وقعت بين أبناء الإسلام من سنة وشيعة. فجعلتهم- وهم الأخوة فى الدين- يأكل بعضهم بعضا على هذا النحو المهين. إن الشيعة يؤمنون برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرون شرف على فى انتمائه إلى هذا الرسول وفى استمساكه بسنته. وهم كسائر المسلمين لا يرون بشرا فى الأولين والآخرين أعظم من الصادق الأمين ولا أحق منه بالاتباع، فكيف ينسب لهم هذا الهذر ؟ الواقع أدى الذين يرغبون فى تقسيم الأمة طوائف متعادية لما لم يجدوا لهذا التقسيم سببا معقولا لجأوا إلى افتعال أسباب الفرقة، فاتسع لهم ميدان الكذب حين ضاق ميدان الصدق. لست أنفى أن هناك خلافات فقهية ونظرية بين الشيعة والسنة، بعضها قريب الغور وبعضها بعيد الغور، بيد أن هذه الخلافات لا(1/219)
تستلزم معشار الجفاء الذى وقع بين الفريقين، وقد نشب خلاف فقهى ونظرى بين مذاهب السنة نفسها بل بين ص _221
أتباع المذهب الواحد منها، ومع ذلك فقد حال العقلاء دون تحول هذا الخلاف إلى خصام بارد أو ساخن. وكان خيرا للشيعة أن يفهموا أن أهل السنة يضمرون أعمق الود لأهل البيت وينفرون أشد النفرة مما يسوءهم. وكان خيرا للسنيين أن يفهموا أن الشيعة يلزمون أنفسهم سنن صاحب هذه الرسالة، ويعدون الانحراف عنه زيغا. أما ما وقع من اختلاف فقهى أو نظرى فلا يعدو أن يكون وجهات نظر لها مصادرها العلمية ونية أصحابها إلى الله وهم ـ أصابوا أم أخطئوا ـ مثابون مأجورون. وقد يتشدد فريق من الناس فيقول عن الفريق الآخر: إنه مخطئ يقينا! ليكن، فما صلة هذا الخطأ بالقلوب وما أودعت من إيمان. هب خطيبا أخطأ فى إعراب كلمة، أو كاتبا أخطأ فى إملائها أو حاسبا أخطأ فى إثبات رقم، أو مؤرخا أخطأ فى ضبط واقعة. هب ذلك كله وقع، فما صلة هذا الخطأ بحقيقة الدين، ونظم عباد الله طورا بين المؤمنين وطورا بين الكافرين؟ إذا كان الرجل يؤمن معى بكتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويصلى الخمس كل يوم، ويصوم رمضان كل عام، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا فكيف أستبيح تكفيره لأنه أخطأ الفهم فى بعض القضايا أو أخطأ الوزن لبعض الرجال؟ ليكن هناك خطأ حقيقى وقع فيه هذا أو ذاك، خطأ لا أقبل الاعتراف به، فلماذا لا يترك البت فى هذه الأمور للزمان المتطاول يحل المشكلات الفقهية والنظرية بدل أن تحل فى معارك الجدل الذى يفقد فيه المجادلون ضمائرهم وصفاءها، أو تحل فى معارك القتال الذى تنحل فيه عروة الإيمان ويزأر فيه صوت الشيطان. إن الخلاف الفقهى أو النظرى فى كثير من الأمور ليس خبزا نتناوله كل يوم، والقضايا التى دار فيها هذا النزاع يمكن للمسلمين اطراحها جانبا ونسيانها أمدا، يشتغلون خلاله بالبناء لا بالهدم، بالعمل لله فى المحاريب المخبتة أو فى الميادين(1/220)
المنتجة. أما شغل الناس حتما بخلافات لها أصل- وما أقلها- أو بخلافات مفتعلة- وما أكثرها- فليس من الدين فى قليل ولا كثير. والذين يحرصون على ذلك ليسوا من الله فى شىء. ص _223
الفصل السابع المسلمون بين الاستعمار والصهيونية أسبوع الصلاة من أجل الوحدة قريبا تفتتح الجمعية الثالثة للمجلس الكنسى الدولى ص _224
المسلمون بين الاستعمار والصهيونية تضم قارتا آسيا وإفريقيا نحو ثلثى سكان العالم وتزدحم بأديان شتى. ومع أن الوثنية لا تزال تنتشر فى بقاع واسعة فيها، إلا أن الإسلام يعد الدين السماوى الأول فى هاتين القارتين. إنه عقيدة الكثرة العظمى فى إفريقيا، وعقيدة جماهير غفيرة ودول كبيرة فى آسيا. والاستعمار الغربى- ببواعث صليبية قديمة- دائب على إيهان قوى الإسلام وتمزيق شمله وتضليل سعيه، وبعثرة العوائق أمام أممه، وبذل الجهود الماكرة الذكية لجعل المنتمين إلى هذا الدين ينحرفون عنه ويضيقون به. ولا شك أن طور الاضمحلال الذى عرا المسلمين فى القرنين الأخيرين أعان عدوهم إعانة ظاهرة، وأنجح كثيرا من دسائسه. والهدف الذى يعمل الاستعمار له على طول المدى هو اجتثاث الإسلام من أصوله، وإزهاق روح الجماعات المتشبثة به. بيد أنه يلين ويشتد وينكمش ويمتد ويبدو ويختفى فى المراحل الطويلة التى تسبق هذا الغرض الهائل. وتتضافر جهود المبشرين والمستشرقين من ناحية، وخطط الساسة فى الميادين الاقتصادية والعسكرية والثقافية من ناحية أخرى كى تصل إلى هذه الغاية. وإذا كنا قد لاحظنا ما أعده المبشرون مثلا لمستقبل الإسلام فى أندونيسيا فلنلحظ إلى جانبه أن الأجواء السياسية فى داخل هذه البلاد وخارجها تساعد مساعدة فعالة على تحقيق أمانى الصليبية وإبلاغها ما تريد. ذلك.. وزيادة فى إحكام الغارة على العالم الإسلامى المبلبل المحروب رأت القوى التبشيرية الغازية أن تصلح ذات بينها، وأن تزيل الخلافات القديمة من بين صفوفها. ومن ثم اصطلح الكاثوليك(1/221)
والبروتستانت والأرثوذكس على تنسيق أعمالهم وجعل كل كنيسة عونا للأخرى فى خدمة النصرانية أمام خصومها التقليديين. ونحن يسرنا أن تنتهى الحزازات القديمة بين الكنائس المتناحرة بيد أننا كنا نود أن يلتئم الشمل على محاربة الإلحاد وكفكفة شروره التى تهدد العالم بأفدح الكوارث. ص _225
فهل ذلك ما بعث على جمع الصفوف المتخاصمة؟ ليس ذلك ما فكر فيه القوم. إن الظواهر كلها تؤكد أن هذا الالتقاء إعداد لمواجهة اليقظة الإسلامية المرتقبة بعد أن تحررت أكثر دول الشرق من الاستعمار. وبعد أن صحت الجماهير الغافية وأخذت تتحسس ضميرها وعقلها كما تتحسس جيبها وبيتها بعد مكابدة مريرة للصوص العقائد والأموال.. ونحن- فى مواطن كثيرة- نرمق الحيف على الإسلام وأهله، ونستيقن من أن مؤتمرات التبشير العالمية ناشطة وراء هذه السياسة. وقد فزع أولو الغيرة من رجالات الإسلام ولفتوا أمتهم للأخطار المتوقعة بعد الأخطار التى وقعت. وتألفت فى القاهرة "جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية" من خيرة علماء الإسلام السنيين والشيعة تعمل على لم الشمل وجمع الشتات وبناء ما تصدع من كيان هذه الأمة. وهاك نتفا من الأنباء التى نقلتها مجلة "رسالة الإسلام " لسان جماعة التقريب بين يدى تحذير يوحى برهبة الوضع! " اسمعوا أيها المسلمون... العالم المسيحى يعمل الآن على التكتل، ويحاول رجال الدين فيه أن يأتلفوا ويتحدوا، على ما بينهم من فروق جوهرية فى العقيدة وفى الكتب التى يدينون بها، وهناك نشاط كنسى واسع النطاق لتحقيق هذا الأمل. فالصلوات تقام والنشرات توزع والبرقيات ووكالات الأنباء والمؤتمرات كلها قائمة على قدم وساق تؤيد الاجتماع والوحدة وتدعو إليهما فى إلحاح ومثابرة. فليسمع المسلمون ذلك وليعرفوا مرماه وأغراضه القريبة والبعيدة! إن هذا التكتل يراد به الوقوف صفا واحدا أمام دعوة الإسلام بعد أن فشلت جمعيات التبشير ودعايات أهل الأغراض الاستعمارية من المستشرقين..(1/222)
ورضى الله عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب إذ يقول فى بعض خطبه: (يا عجبا كل العجب، عجبا لميت القلب ويشغل الفهم ويكثر الأحزان، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم حتى أصبحتم غرضا تُرمون ولا ترمون ويغار عليكم ولا تغيرون)! فإذا كان بقى فى بعض طوائف الأمة الإسلامية من يتنكبون طريق الألفة، ويعملون على بث الفرقة وإحياء العداوات البغيضة التى عفى عليها الزمن فإننا نوجه إليهم هذا الكلام العلوى الحكيم متعجبين من موقفهم إزاء إخوانهم المؤمنين مع موقف أعداء الإسلام فى التأليف والدعوة إلى الوحدة! ص _226(1/223)
وهذه مقتطفات مما اشتملت عليه آخر نشرة من قسم النشر والاستعلامات المسيحى: ( أسبوع الصلاة من أجل الوحدة ) " جنيف- مرة أخرى يجتمع مسيحيو أكثر من خمسين قطرا فى الأيام من 18 إلى 25 يناير سنة 1962 وسوف يصلون من أجل الوحدة. إن هذا الأسبوع من يناير 1962 سيكون الخدمة: " إننى بينكم كخادم " ( إنجيل لوقا 22- 27) وهو فى الوقت نفسه أحد الموضوعات الثلاثة التى ستدرسها جمعية المجلس الكنسى الدولى التى ستنعقد بنيو دلهى- الهند- ابتداء من 18 نوفمبر إلى 6 ديسمبر سنة 1962، إن قسم العقيدة والنظام الأساسى من المجلس الكنسى الدولى الذى ينظم منذ سنوات عدة أسبوع الوحدة قد أصدر مرشدا صغيرا يستوحى صلوات ومطالعات من التوراة كما أصدر كتيبا لجماعة الكاثوليكيين الرومانيين يعالج الموضوع نفسه. وبوجه الأستاذ " لوكاس فيشر " سكرتير قسم العقيدة والنظام الأساسى الأنظار إلى تزايد عدد الذين يحضرون أسبوع الصلاة ويسعده بصفة خاصة مشاركة البلاد الآسيوية فى هذا العمل ". " قريبا تفتتح الجمعية الثالثة للمجلس الكنسى الد ولى" جنيف- من 18 نوفمبر إلى 6 ديسمبر يجتمع ممثلو 175 كنيسة هم أعضاء المجلس الكنسى الدولى بنيو دلهى، ومنهم البروتستانتيون والإنجليكانيون والأرثذوكسيون، والكاثوليكيون ويبلغ عددهم ألفا، منهم 625 مندوبا رسميا والباقون مراقبون ومستشارون ومندبون عاديون ومدعوون. وإنها للمرة الأولى التى تنعقد فيها جمعية المجلس الكنسى الدولى فى آسيا إذ انعقد الاجتماعان السابقان أحدهما فى أمستردام والآخر فى ايفانستون- الولايات المتحدة. ومن بين القرارات المهمة التى ستتخذها الجمعية الاعتراف باندماج المجلس الكنسى الدولى، ومجلس التبشير الدولى، وبذلك يتحقق توحيد أكبر هيئتين مسيحيتين دوليتين، إدارة وتبشير، كذلك تتخذ الجمعية قرارا بشأن مرشح الكنيسة الروسية الأرثذوكسية لعضوية المجلس الكنسى الدولى ص _227(1/224)
ومما هو جدير بالملاحظة أنه سيحضر جمعية نيودلهى مراقبون كاثوليكيون رسميون عددهم خمسة عينتهم سكرتيرية الفاتيكان من أجل وحدة الأمة المسيحية . ولم يحدث من قبل أن حضر انعقاد الجمعية مراقبون رسميون من الكاثوليكيين. إن الموضوع الأساسى الذى سيعرض على جمعية "عيسى المسيح نور الكون" يتفرع إلى ثلاثة أقسام: الشهادة. والخدمة. والوحدة، وسيعالج موضوع الوحدة الأستاذ جوزيف ستار الفقيه اللوثرى والأستاذ بجامعة شيكاغو، وموضوع الشهادة الأستاذ دفينندان مدير المعهد المسيحى لدراسة الدين والمجتمع بينجلير "الهند " وموضوع الخدمة الأستاذ نائيكا الأستاذ بجامعة دوشيشا بكيوتو "اليابان " تاكيناكا. وابتداء من جلسة الأحد بعد الظهر يتناول المندوبون دراسة مشروع ضم المجلسين: المجلس الكنسى الدولى ومجلس البعثات التبشيرية الدولى. وإن كان قد سبق أن وافقت أغلبية الأعضاء على ذلك. وهكذا يتحقق توحيد أكبر هيئتين مسيحيتين تسعيان فى القرن العشرين لتحقيق الوحدة المسيحية لتصبحا هيئة واحدة " أ. هـ. * " لندن- صرح اللورد فيشر أوف لامبث رئيس أساقفة كنتربرى السابق، صرح أمام المجلس البريطانى للكنائس أن كنيسة روما لم تعد بعد عدوا. بل أصبحت حليفة للكنائس الأخرى. وإن ذلك لتطور مدهش، بل فصل جديد من فصول التاريخ العام وفصول التاريخ المسيحى بصفة خاصة، إن الخلاص أو السلامة لا يبدأ إلا حين يعترف الإنسان بأخطائه ويعلن أسفه، لقد بدأت كنيسة روما تعقل هذا، وكذلك بدأنا نحن " أ. هـ. * " القدس- صرح الراعى هنريك جووير من برلين الغربية بأنه يجب أن تقوم علاقات ودية بين اليهود والمسيحيين على أسس جديرة بالرعاية بحيث تمتنع الكنائس المسيحية عن مباشرة التبشير فى الأوساط اليهودية. فلقد فقدت الكنائس هذا الحق الذى جرى بين اليهود والنصارى "!! أ. هـ. وعند هذا الخبر الأخير نقف. لقد فقد المسيحيون حق الدعوة لدينهم بين اليهود بعد الألفة التى تمت أخيرا بين(1/225)
الفريقين.. والذى تم أخيرا بين اليهود والنصارى هو إنشاء دولة إسرائيل على أنقاض الكيان العربى الإسلامى المهشوم فى فلسطين، وبمعاونات عسكرية ومالية هائلة من ص _228
إنجلترا وفرنسا وأمريكا. وهى دول مسيحية كلها وقد تعاونت- عن عمد وسبق إصرار- على سحق الأمة العربية المسلمة فى فلسطين وشطر المسلمين جميعا فى آسيا وإفريقيا شطرين ليس بين أحدهما والآخر اتصال برى.. وقد نفست الدول الثلاث بهذه الجريمة عن حقد مكبوت ورغبة هائلة فى تدويخ الأمة الإسلامية الكبيرة وتهديد مستقبلها. وهذا الحقد الاستعمارى الأسود موضع عجبنا الذى لا ينفد ! لماذا يطوى القوم أفئدتهم على هذه الضغائن كلها؟! وإذا كانوا قد قرروا أن يصطلحوا مع اليهود- على سوء ما بينهما- فلماذا لا يفكرون فى محاسنة الإسلام وإنصاف أهله؟!! إن الإصرار على إفنائنا وإذلالنا لن ينتج إلا الشرور المتلاحقة لمستقبل الإنسانية كلها. وعندما نلحظ- نحن المسلمين- أن البغضاء ضدنا غائرة الجذور على هذا النحو الشائن فلن نتحرج من الاستعانة بشتى القوى للدفاع عن أنفسنا ونحن معذورون. لقد استغل اليهود عمى التعصب الصليبى ضد الإسلام وأقاموا لأنفسهم دولة على أرضنا بحماية القوى المسيحية وتأييدها. ولم يستحوا من الزعم بأنهم أصدقاء قدماء للمسيحية ورجالها!!! وتحت تأثير الحقد على الإسلام وأهله صدق المسيحيون ذلك ونسوا التاريخ الطويل الذى حفرت أحداثه فى ماضيهم حفرا... ليت بنى إسرائيل يضمرون ودا صحيحا للعالم المسيحى أو العالم الإسلامى. إن الظروف التى يمرون بها الآن تجعلهم يبتسمون لإنجلترا وفرنسا وأمريكا دول التصريح الثلاثى الذى يزعم أن إسرائيل خلقت لتبقى. ولكن هذا الابتسام المفتعل لأن يكون ضريبة الحاجة الملحة والعون المبذول. أما تاريخ بنى إسرائيل مع أتباع السيد المسيح منذ عشرين قرنا فهو سلسلة من الضغائن المتصلة، والإهانات المتلاحقة. ولو انكشف المخبوء من ضمائر هؤلاء الناس ما(1/226)
وجدنا فى قلوبهم إلا الشر الذى ورثوه عن أسلافهم، والتهم الشنعاء يلصقونها بمريم العذراء وابنها البر النبيل. إن اليهود ظلوا خلال القرون القديمة والوسيطة يتبجحون بأنهم قتلة عيسى بن مريم، ويصفون هذا الرسول الكريم بأنه لقيط جاء ثمرة اتصال حرام ويفترون على أمه ما هى منه براء. ص _229
وقد أعلن القرآن الكريم أن الله صب عليهم لعنته للمآثم التى اقترفوها: (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم). واليهود الآن- تحت ضغط الحاجة إلى مساعدات النصارى يريدون أن يتملصوا من العمل الذى طالما ملأوا أفواههم فخرا به، وطالما نكل بهم المسيحيون من أجله، يريدون الزعم بأنهم منذ خلقوا كانوا أصدقاء الناس، ومنذ ظهر المسيحيون كانوا محبين للمسيح وأمه. ولليهود من الجراءة ما يجعلهم قادرين على تزوير التاريخ العام طوال عشرين قرنا. والعجب ليس لجراءتهم هذه، ولكن لغفلة الذين يصغون إليهم ويغرونهم بالاسترسال فى مزاعمهم إن الشعوب المسيحية جمعاء تحس- ولا أقول تدرك- مبلغ خصام اليهود لها. والكنائس المسيحية هى الأخرى لا تزال تتوارث من الصلوات والتقاليد ما يجعل التقارب بين اليهود والنصارى أمرا موغلا فى الشذوذ. وإذا كان أبناء إسرائيل قد تعاونوا مع الاستعمار الذى لا دين له والذى لا تبارك السماء أهدافه، فإن على العالم المسيحى الحقيقى أن يتبين عقبى هذا التحالف المشئوم وأن يعرف أن آثاره أسرع بالضرر إلى جمهور المعتدين منها إلى العرب والمسلمين. ولرعاة الكنائس أن ينشدوا السلام وأن يسعوا جاهدين لإقراره، بيد أن كل سلام على حساب قضايا العرب والمسلمين لن يكون له وزن ولا دوام.، فإن المسلمين أولا سيتفانون فى الدفاع عن أنفسهم(1/227)
ومقدساتهم، وأن المسيحيين أخرا لن يكسبوا بهذا قلوب اليهود الذين سبقت منهم الإساءة فى الماضى البعيد والقريب. إن يهود إسرائيل والمنظمات الصهيونية العامة تريد أن تمكر بمستقبل الإنسانية كلها وأن تدفع رياسة المنظمات الدولية إلى طريق الجور والاغتصاب وإقرار المظالم والفوارق، وخير لرعاة الكنائس الكبرى أن يجنبوا أنفسهم وشعوبهم الاستجابة لهذه الوساوس والمؤامرات. ص _230
ثم.. على المسلمين أن يجمعوا فلولهم الشاردة أمام ضربات الغزو الحديث، وأن يثبتوا على دينهم فى معركة البقاء التى فرضتها عليهم الأقدار. وعار عليهم أن يتفرقوا وقد تجمع عليهم الأعداء من كل جانب. أو يتأخروا فى مضمار التقدم وهم يواجهون أحدث الكشوف، أو يضعف أخذهم بدينهم الحق وقد استمسك كل ذى نحلة بعقيدته على ما بها من علل. ونحن- باسم الإسلام- ما نود أن تنشب الحرب بيننا وبين أهل الكتاب. لكن إذا رأينا الأحقاد كالحة والغدر بيننا فلابد من أن نذود عن حياضنا وندافع عن إيماننا. ولن يبقى فى الأرض سلام ما بقيت الصهيونية والاستعمار، بيد أن السلام ممكن بين المسلمين وبين المسالمين الوادعين من النصارى واليهود.(1/228)