كتاب
درجات الصاعدين
الى
مقامات الموحدين
تأليف:
فضيلة الشيخ / محمد بن أحمد الحفظي
شوال سنة 1222هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشيخ الحفظى
الحمد لله الغنى الحميد، وصلى الله سيدنا محمد المبعوث بالقرآن المجيد وصحبه وصالح العبيد.
أما بعد:
فهذه ثمان درجات يرقى بها المستفيد الى معارج علم التوحيد، ويصعد عليها السالك الى مدارج حكم التفريد، ويجاز بها دركات الشرك والتفنيد، ويطلع عليها الجاهل من أسل سافلين الى أعلى عليين، وسميتها درجات الصاعدين الى مقامات الموحدين.
الدرجة الأولى
إن أصل البعثة ورأس الدعوة هو توحيد الألوهية، الذى هو إفراد الله بالعبادة ونفى الشرك عنها، والدليل على ذلك قوله تعالى فى أول اية نادى بها النبى صلى الله عليه وسلم:
(ياأيها المدثر*قم فأنذر* وربك فكبر*وثيابك فطهر* والرجز فاهجر) (1) وفى التفاسير أن الرجز هى الاوثان، والهجر: هو الترك، وفى الحديث النبوى ما يدل على أن عبادة الشئ، وثناً فى قوله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد" (2) وقال سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون، ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن انذروا أنّه لا إله الا أنا فاتقون) (3).
قيل : مروهم بلا إله الا الله، ذكره البغوى رحمه الله فى تفسيره (4) وقال سبحانه:
________________
أول سورة المدثر
أخرجه الامام أحمد فى مسنده ج2/246 – عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبرى وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وأخرجه مالك فى الموطأ / كتاب قصر الصلاة فى السفر عن عطاء بن يسار: بلفظه وزاد "وثناً يعبد".
أول سورة النحل.
حيث قال "معناه مروهم بقول لا اله إلا الله منذرين مخوفين بالقرآن ان لم يقولوا" ج5/39 ابن كثير والبغوى.(1/1)
(ولقد بعثنا فى كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (1).
وقال سبحانه وتعالى فى سورة الانبياء:
(وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه أنه لا إله الا أنا فاعبدون) (2).
والطاغوت : أسم عام لما يعبد من دون الله، فطاغوت كل قوم معبودهم من دون الله، او متبوعهم على غير بصيرة من الله، او مطاعهم فى معصية الله، او حاكمهم بغير ما أنزل الله (3).
وهذه الادلة فى بيان دعوة كل رسول، قال تعالى:
(إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله) (4).
وأما التفصيل فقال سبحانه وتعالى فى سورة نوح:
بسم الله الرحمن الرحيم: (إنا أرسلنا نوحاً الى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم، قال يا قوم إنى لكم نذير مبين، أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) (5).
ومعنى الانذار : الأمر بالعبادة التى هى التوحيد، والتقوى والطاعة،
________________
الآيتان : 36،37 من سورة النحل.
الآية : 25
قال شيخ الاسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب.
ألآية : 14 من سورة فصلت.
الآيتان : 1 ، 2
وذكر الله سبحانه وتعالى ما قاله نوح عليه السلام، فى سورة نوح وما قاله قومه:
(وقالوا لاتذرن ألهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا) (1) وهذه أسماء قوم صالحين ماتوا جميعاً، فحزنوا عليهم ونصبوا صورهم، وكان يعكفون عليها ويعبدونها (2) بعد طول المدة، وكان ذلك أول شرك بنى آدم، وسببه الغلو فى الصالحين.
وهذه الصور أصولاً لأصنام قريش ايضاً، وقال تعالى فى إبراهيم الخليل عليه السلام فى سورة العنكبوت:(1/2)
(وإبراهيم إذ قال لقومه أعبدوا الله وأتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق وأعبدوه وأشكروا له إليه ترجعون) (3) وقال سبحانه فى سورة الشعراء:
(وأتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالو نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون او ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، قال افرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لى إلا رب العالمين) (4).
…ففى هذه الآيات، أن عبادة أصنامهم هى العكوف عليها، وأنهم لا
____________
ألآية : 23.
فى المخطوطتين: ويعبدونهم، والصواب ما ذكرنا عطفاً على ما قبلها.
الآيتان : 16، 17.
ألآيات : 69 : 77.
ينفعون ولا يضرون، وأنهم حملهم على ذلك إتباع آبائهم، وأن إبراهيم عليه السلام قال:
(إن العابد والمعبود عدو له إلا رب العالمين)، وقال سبحانه وتعالى فى سورة الممتحنه:
(لقد كانت لكم أسوة حسنة فى ابراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه ) (1) ألآية.
وهذه الآية فيها وجواب البراءة منهم والكفر بهم وظهور العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده فالغاية التى ينتهى (2) عندها هذه الأمور هى الإخلاص فى العبادة والتصديق بالله والإذعان له (3) وقال الله تعالى فى سورة الزخرف:
(وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إننى براء مما تعبدون، إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) (4) (وهذه الكلمة الباقية فى عقبه هى (5)) معنى (لا إله الا الله)، إذ معناه (6) يعنى أننى براء منكم (النفى)، وقوله إلا الذى فطرنى، (الاثبات)، ذكر هذا البيهقى فى كتاب (الاسماء والصفات) (7) وقال الله تعالى فى سورة النحل:
_________________(1/3)
ألآية : 4.
فى ى : ينتهى.
فى ي : والتصديق والذعان لله.
الآيات : 26، 27، 28.
فى الأصول : وهذه الكلمة الباقية فى عقبه وهى معنى : وقد حذفت هى الأولى والواو من الثانية: لسيتقيم المعنى.
فى ى : إذ معاه. وفى س : إذ مجازه. والصواب ما ذكرت.
لم أقف على كتاب البيهقى.
(ثمّ اوحينا أليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (1).
ومعنى الخطاب يقتضى العموم، فهذه ملة أبينا إبراهيم أيها السالكون، وهذه سنة نبينا – عليهما السلام أيها المتبعون، قال تعالى :
(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (2).
وقال سبحانه وتعالى فى سورة الانعام:
(وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى والياس كلاً من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين، ومن ابائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم، ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) (3).
وهاهنا أسكب (4) العبرات، إذا كنت من أهل الاعتبارات، لمعانى العبادات.
والحجة التى أوتى إبراهيم على قومه : قال مجاهد (5) هى قوله تعالى:
_________________
الآية : 123.
ألاية : 132
الآيات 83 – 88
فى الأصول : يسكب، والصواب ما أثبتناه.
قلت : قال الطبرى فى تفسيره بسنده عن مجاهد (وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه) قال : هى (الذين أمنوا ولم يلبسوا غيمانهم بظلم) وبسند أخر قال : قال إبارهيم حسن سأل: أي الفريقين أحق بالأمن؟ هى حجة إبارهيم على قومه وقوله (أتينا إبراهيم) يقول "لقناها إبراهيم وبصرناه إياها" ج 7/259(1/4)
(والذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) (1) ذكره البغوى، والظلم ها هنا هو الشرك، ذكره البخارى فى صحيحه فى كتاب التفسير (2)، وقيل هى التى احتج بها إبراهيم على قومه من أقوال الكواكب وغيرها.
وقال الله تعالى وهو أصدق القائلين:
(ولقد أوحى اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد (5) أمته.
وقال الله تعالى فى سورة الأعراف.
(لقد ارسلنا نوحاً الى قومه فقال ياقوم أعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) (6).
__________________
الآية : 82 من سورة الانعام.
قلت أخرج البخارى عن عبد الله بن مسعود (رضى الله عنه) قال لما نزلت (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال أصحابه : يعنى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: وأينا لم يظلم؟ فنزلت (إن الشرك لظلم عظيم) فتح البارى ج 8/65.
زيادة اقتضى السياق إثباتها.
الآيتان 65 ، 66 من سورة الزمر.
قال الامام الطبرى وغيره من المفسرين وقال "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بعبادته، بل الله فاعبد دون كل ما سواه من الآلهة والاوثان والأنداد (وكن من الشاكرين) لله على نعمته عليك بما أنعم من الهداية لعبادته...) الخ ج 23/24.
الآية : 59.
وقال تعالى (والى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره أفلا تتقون) (1)
وقال سبحانه وتعالى:
(والى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره) (2) وقال الله تعالى : (والى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره) (3) وذكر (سبحانه) (4) لوطاً عليه السلام، ثمّ قال عز من قائل عليهم فى بيان دعاء أكثر الرسل الى التوحيد:(1/5)
(ثمّ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا الى فرعون وملائه) (5) الى أخر ما قصه الله (عز وجل) (6) فى سورة الأعراف من دعوات الرسل عليهم السلام، وختم ذلك (سبحانه) (7) بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى:
(قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعاً الذى له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون).
وقال الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: (الر كتاب أحكمت آياته ثمّ فصلت من لدن حكيم خبير الا تعبدوا الا الله أننى لكم منه نذير وبشير)، فتفكر فى الدعوة، ما هى؟ فقد قص الله علينا فى كتابه العزيز دعوة الرسل من
_____________
(1) الآية : 65 من سورة الأعراف ... (2) الآية : 73 الأعراف
(3) الآية : 85 الأعراف ... (4) زيادة اقتضى السياق إثباتها.
(5) الآية : 103 الأعراف ... (6) زيادة اقتضى السياق إثباتها.
(7) زيادة اقتضى السياق إثباتها. ... (8) الآية : 158 من سورة الأعراف
(9) الآيتان : 1 ، 2 من سورة هود.
أولهم الى أخرهم، صلوات الله عليهم أجمعين، والله سبحانه وتعالى يقول فى سورة هود:
(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما ثبت به فؤادك وجاءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) (1).
فانظر أيضاً ما فى أنباء الرسل من الفوائد العظيمة : (والله يدعوا الى دار السلام ويهدى من يشاء الى صراط مستقيم) (2).
وفى أول صحيح البخارى، عن ابن عباس فى حديث سفيان فى قصة هرقل أنه قال (3).
"ما يأمركم به، قلت يقول أعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم" (4).
وحديث عمر بن عنبسة فى صحيح مسلم فى قوله : ما ارسلك الله به قال عليه الصلاة والسلام :"أرسلنى بصلة الارحام، وكسر الاوثان، وأن يوحدوا الله ولا يشركوا به شيئاً) (5).
فانظر الى ما ذكر فى الصحيحين فى معنى الدعوة والرسالة، وأنه توحيد
________
الآية : 120 من سورة هود.(1/6)
الآية : 25 من سورة يونس.
أخرجه البخارى فى الصحيح حديث (السابع) فتح البارى ج1/31 بلفظ "لا ابا سفيان يساله ما يأمرهم محمد فى أول بعثته قلت : يقول واعبدوا الله وحده .... الحديث.
قلت : الحديث طويل أنظره فى فتح البارى ج1/32 وهو الحديث السابع فى كتاب بدء الوحى.
عن عمر بن عنبسة رضى الله عنه قال : دخلت على النبى صلى الله عليه وسلم بمكة، (يعنى فى أول النبوة) فلت له : ما أنت ؟ قال "بنى" قال : "ارسلنى الله فقلت بأى شئ ارسلك؟ قال : أرسلنى بصلة .........." الحديث.
الالوهية وترك الشرك، ورفض ما عليه الاباء، لو كانوا مشركين، وتفكر فيما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بعد النبوة وقبل الهجرة، ما كانوا يدعون الناس إليه وينهونهم عنه، والقرآن ينزل عليه عشر سنين، والناس ما بين مقبل ومدبر، والموالاة والمعاداة قائمة بين المقر والمنكر، و مكث على ذلك عشر سنين، من اتبعه وأطاعه فهو الموحد الناجى، ومن عصاه وخالفه، فهو المشرك الهالك، وليس إذ ذاك صلاة ولا صيام، فضلاً عن غير هما من شرائع الاسلام، ولا هناك نهى عن شئ من الكبائر، تقام فيه الحدود والأحكام، ومات على ذلك كثير من الفريقين، فريق فى الجنة وفريق فى السعير. فإذا تفكرت يا أخى، ظهرت لك الفائدة، وعاد عليك النظر بأحسن فائدة، وتبين لك أن الذى طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم (1) منهم هو توحيد الالوهية، وإفراد الله بالعبادة، وأن الذى نهاهم عنه، هو الشرك بالله فى العبادة، من الذبح، والاعتقاد، والعكوف ونحو ذلك، وأنهم مشركون بذلك، يعاديهم عليه ويحاربهم (3) فيه، من غير نظر الى بقية المعاصى، الكبائر والصغائر، وأن أصحابه هم الموحدين بترك ذلك، وصرفه لله دون غيره، يواليهم عليه، ويدعوهم اليه من غير نظر الى غيره، من الطاعات والواجبات، والمندوبات، وبهذا التقرير، يحصل التأثير وتنقشع ظلمة الجهل بهذا التنوير.
___________________
زيادة أقتضى السياق إثباتها.(1/7)
أي : من الكفار، كفار قريش خاصة فى بدء الدعوة.
ودليله ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أمرت أن اقاتل الناس حتى يشدوا أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا، عصموا منى دمائهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله)، أنظر من صفحة 43.
قال تعالى : (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) (1).
____________________
(1) الآيتان: 57، 58 من سورة يونس.
الدرجة الثانية
إن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، الذى هو الإفراد بأفعال الله، وصفاته، واتصافه بذلك دون غيره، كالخالقية، والرازقية، والملكوتية، وغيرها من صفات الربوبية، وأن غيره مربوب له، ومخلوق له، ومرزوق ومتصرف فيه، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا، ولا موتاَ ولا حياةً ولا نشورا، وأنهم مقرون بذلك، وإن ذلك لم يدخلهم فى الاسلام، ولم يحرّم دماءهم وأموالهم لانتفاء شرطه وشطره، من توحيد الألوهية، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى فى سروة يونس:
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق الا الضلال فأنى تصرفون) (1).
…وبتفهم الآية تفريقهم بين الربوبية والألوهية، أنهما حيث اجتمعا افترقا وحيث افترقا اجتمعا، وعلى هذا سؤال القبر فى قوله من ربك، أي : من ألهك، لان توحيد الربوبية لا يمتحن بها، وكذلك قوله تعالى:
…(قل أغير الله أبغى ربا) (2) أي إلهاً، وأما افتراقهما فقوله تعالى:
…(قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس) (3) فاعرف هذا، وقال سبحانه فى سورة المؤمنين.
…(قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا(1/8)
______________
(1) الآيتان : 31، 32 من سورة يونس…(2) الآية : 164 من سورة الانعام.
(3) أول سورة الناس.
تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون، بل اتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون، ما أتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (1).
…والاستفهام هنا للتقرير، وقد اخبرنا بما يقول العليم الخبير، وقال فى سورة العنكبوت:
…(ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله، قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) (2) (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (3) وتفسير هذه الآية إيمانهم بتوحيد الروبية، وشركهم فى توحيد الألوهية، وهنا اجتمع الشرك والأيمان اللغوى، وقال تعالى فى سورة الزخرف:
(ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) (4) وقال سبحانه وتعالى :
…(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) (5).
…بل هذا فرعون مع أن دعواه أقبح دعوى، يقول الله فيه حاكياً عن موسى عليه السلام:
(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) (6) وقال
______________
(1) الآيات : 84 – 91 من سورة المؤمنون. ... (2) الآية : 63
(3) الآية : 106 من سورة يوسف. ... (4) الآية : 87
(5) الآية : 9 من سورة الزخرف. ... (6) الآية : 102 من سورة الاسراء
إبليس اللعين :
…( إنى أخاف الله رب العالمين) (1) فبعث الله النبى محمداً، صلى الله عليه وسلم، يدعوهم الى الله، بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، وأن يفردوه بكلمة لا إله الا الله، معتقدين معناها، عاملين بمقتضاها، لا يدعون مع الله أحداً، ولم ينكر المشركون على الرسل، إلا طلبهم إفراد العبادة لله وحده، ولم ينكروا الله ولا أنه يعبد بل أنكروا كونه يفرد.(1/9)
(وقالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) (2).
وعبادتهم العكوف عند معابدهم، والهتوف عند شدائدهم والذبح لها، مع اعتقادهم أن صفات الربوبية لله وحده، ليس لشركائهم منها شئ، وأنهم يريدون التقرب بذلك والشفاعة عند الله، فبين شرك أهل زماننا وشرك الأولين فروق أربعة:
…الأول أنهم لا يشركون فى توحيد الربوبية، ولا يشركون فى الشدة، ويردون الشفاعة والقربة، ويطلبون من الله سبحانه بواسطتهم، ومشركو زماننا يفرقونهم فى هذه الأربع، والدليل على الأولى، ما مر آنفاً فى إقرارهم بتوحيد الربوبية، والدليل على أنهم لا يشركون فى الشدة قوله تعالى:
…(وما بكم من نعمة فمن الله ثمّ إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثمّ اذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون، ليكفروا بما أتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) (3) وقال تعالى:
…(وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم الى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا) (4) وقال تعالى :
______________
(1) الآية : 16 من سورة الحشر. ... (2) الآية : 70 من سورة الأعراف.
(3) الآيات: 53 - 55 من سورة النحل. ... (4) الآية : 167 من سورة الإسراء.
(فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) (1).
…وهذه اللام لام العاقبة عند النحويين أي : عاقبة شركهم الكفر والتمتع، ودليل أنهم يريدون الشفاعة ويطلبون القربة، قوله:
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار)(2).
والتقدير أي : قائلين ما نعبدهم الى أخره، وقال تعالى:
(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السموات ولا فى الأرض) (3).(1/10)
…وهذه الادلة هى دليل للمسألة الرابعة، أنهم يريدون من الله سبحانه لا منهم بل أرادوا الوسطاء فى هذا شركاً (4)، وتأمل أيها الناظر حال مشركى زماننا فى هذه الأربع، أنهم أشركوا فى صفات الربوبية، وفى الشدة، وطلبوا من معابدهم وأرادوا المطالب منهم، ويا عجباه من هذا.
…والفطرة السليمة والعقول المستقيمة تدل عليه ضرورة، ولولا ان الشياطين إجتالت قلوب المشركين وغيرت الفطرة، وهذا هو الواقع وقد اشرقت المطالع وظهرت الأدلة للقارئ، والله سبحانه وتعالى يقول : (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (5).
_______________
(1) الآيتان : 65 و66 من سورة العنكبوت. ... (2) الآية : 70 من سورة الزمر.
(3) الآية : 18 من سورة يونس. ... (4) زيادة أقتضى السياق إثباتها..
(5) ألآية : 39 من سورة القمر.
الدرجة الثالثة
إن الإلهية هى العبادة ومعناها التوحيد، وقال ابن عباس (رضى الله عنهما) : كل ما ورد فى القرآن من العبادة ، فمعناها التوحيد، وقال تعالى فى سورة الذاريات (وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون)(1) أي : يوحدون، وقال رب الارباب فى فاتحة الكتاب : (وإياك نستعين) أي نوحدك ونطيعك، وتقديم المعمول يفيد الحصر والاختصاص، كما ذكره علماء البيان، ومثل ذلك قوله تعالى :
…(إياي فاعبدون) (2) وهذا يتضمن الأمر بالعبادة لله وحده، والنهى عن الشرك، فالضمير الظاهر المقدم يفيد النهى عن الشرك، وفعل الأمر يفيد وجوب العبادة لله تعالى، مثل قوله تعالى : (وأعبدوا الله وتشركوا به شيئاً) (3) وقال عز من قائل فى سورة البقرة (وفى) أول اية فيها نداء : (يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) (4) أي وحدوا ر بكم كما قاله المفسرون، وقوله تعالى:
…(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) (5) الى أخر السورة التى تسمّى سورة الاخلاص، أى إخلاص التوحيد العملى، فالعبادة فيها :(1/11)
…وهى التوحيد وهى الدين المرضى ايضاً، وكرر النفى ليعم الماضى والمستقبل.
_____________
(1) الآية : 56. ... (2) الآية : 56 من سورة العنكبوت.
(3) الآية : 36 من سورة النساء. ... (4) الآية: 21.
(5) أول سورة الكافرون.
والتكرير يوجب التأثير خصوصاً أن الشرك العملى، يحتاج فى قلعه الى مثل هذا.
والمراد هنا أن العبادة هى الالهية المختصة بالله.
والعبادة فى اللغة : غاية التذلل والخضوع (1).
وشرعاً : ما أمر الشرع به من أفعال العباد وأقوالهم، المختصة بجلال الله وعظمته.
وهلى اسم جنس يشتمل على أنواع كثيرة، وأصل العبودية : الخضوع والذل والتعبد والتذلل.
_________________
(1) قال ابن منظور فى لسان العرب: "قوله تعالى (إياك نعبد) أي نطيع الطاعة التى يخضع معها .... الى
…أنظر اللسان بترتيب يوسف خياط، ج2/664، 665.
قلت : وإنه لمما يؤسف له أن أناساً من المسلمين يصرفون بعضاً من أنواع العبادة لغير الله فإنه قيل مما هو؟ قلت : الركوع، الذى ذهب المقلدون من المسلمين الى تقليد الكافرين والتشبه بهم وصرف هذا النوع من أنواع العبادة للمخلوقين وهو حرام وشرك، كيف لا وأنت ايها الفاعل لذلك قد فعلته عندما تودع لك صديقاً مسافراً او تستقبل أخر مقبلاً او تسلم على ذى منصب عالٍ فى مكتبه او وهو يسير فى طريقه من مكان الى مكان، فإن قلت لم افعل من ذلكم من شئ قلنا : لقد شاهدنا فى شاشة التلفاز وأنت تستقبل ضيفاً قادما بعد ان تسلم عليه تنحنى له نصف انحناءتك فى ركوعك للصلاة، وشاهدناك فى الوداع مثل ذلك، كما شاهدنا كثيراً مثلك يفعلون المحافل والمهرجانات الكبيرة والصغيرة، لذا وجب علينا نصحك وتذكيرك، هذا عنصر من عناصر العبادة أختص الله بذلك نفسه فلا يجوز صرفه لغيره، ومن فعل من ذلك من شي فقد اشرك مع الله، نسأل الله العافية والسلامة.(1/12)
…إن كنت ممن يفعلون من ذلك من شئ فبادر بالتوبة الى الله الواحد الديان الخالق الرازق المستحق للعبادة وحده، قبل ان تموت وأنت على ذلك فتصبح من الهالكين.
…فلقد علمنا أن ذلك من التعظيم للمخلوقين، والتعظيم كذلك لا يكون الا لله وحده فاعلم ذلك.
والعبادة (1) والطاعة (2) ومنها الاستغاثة(3) والذبح (4) والنذر (5) ونحوها.
وقد يجتمعان ويفترقان، أعنى الطاعة والعبادة:
فإن قيل ان الذم بالتكفير ورد من عبد الاصنام والأشجار والأحجار او عبد الطاغوت من الكهان او الشيطان، فكيف يكون ما نزل فيهم، فيمن عبد الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين؟
…فالجواب : إن ما يعبد به الاصنام من الدعاء والذبح والاعتقاد هو الذى يفعل للأولياء وغيرهم، والذى يطلب منهم هو الذى يطلب من اؤلئك المذمومين، وفعل المشركين الآخرين، فقد استوت الكفتان وتشابهت الطائفتان، وإذا استوى الاصل والرفع فى العلة، استويا فى الحكم، فكيف إذا وجد النص
________________
قلت : قال شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) والعبادة اسم جامع لما يحبه الله، من الاقوال والأفعال والأعمال، ثمّ ذكر منها الدعاء والاستعانة، والاستغاثة، والذبح والنذر .... ثمّ عدد لها أكثر من ستة عشر نوعاً، وقال : لا يجوز صرف شئ منها لغير الله، أهـ.
الطاعة: هى الانقياد وتنفيذ الأمر، وقال فى القاموس المحيط : طاع انقاد وطوع يديك منقاد لك ج3/108.
فلا يجوز ان يستغاث بغير الله، لقوله تعالى : (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) الانفال (9).
يحرم أن يذبح لغير الله، لقوله تعالى (قل ان صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له).
النذر كله لله : لقوله تعالى : (ويوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا) الدهر : 7.(1/13)
وسائر العبادة كلها لله وحده لا شريك له، قال تعالى : (فلا تدعوا مع الله أحدا) وقال سبحانه : (وله دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) فمن صرف منها شئ لغير الله فقد اشرك، وكل أعماله مردودة غير مقبولة، ويموت ويخلد فى النار، وقال تعالى : (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
المقدم على القياس، إذا فقد ارتفع الاشكال والالتباس، وإذا لم يبق الا النظر بين عباده الصالح والطالح، فهاك الدليل الواضح.
(الرحمن*علم القرآن*خلق الانسان*علمه البيان* الشمس والقمر بحسبان* والنجم والشجر يسجدان* والسماء رفعها ووضع الميزان* الا تطغوا فى الميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (1).
والدليل العام قوله تعالى:
(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) (2) وقال تعالى فى سورة سبأ:
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن اذن له) (3).
…ففى هذه الآية نفى ما يتعلق به المشركون من الملك، والشرك، والظهير، الشفاعة بغير إذنه، وقال تعالى :
(أؤلئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) (4).
وقد ذكر السلف (5) أن هذه الآية نزلت فيمن يعبد عزيز (6) والمسيح ونحويهما
______________
الآيات : من 1 الى 9 من سورة الرحمن.
الآية : 56 من سورة الاسراء.
الآيتان : 22 و23 من سورة سبأ.
الآية : 57 من سورة الاسراء.
قال بذلك الإمام الطبرى، عن ابن عباس ومجاهد قالوا هذه الآية : (أولئك الذين يبتغون الى ربهم الوسيلة......) الآية، عيسى ابن مريم وأمه وعزيز.
قلت واخبر سبحانه عن اليهود فقال : (وقالت اليهود عزيز ابن الله)، وقال كنيرهم فنحاص بن عازوراء، انظر تفسير الطبرى ج10/110 وج 15/105 وأبى السعود ج 2/42.(1/14)
ولفظة الذين من صيغ العموم، وأما الدليل الخاص فقال سبحانه فيمن عبد الملائكة:
…(ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) (1).
…فان قيل قد كانوا يعبدون الملائكة، فكيف قال يعبدون الجن؟
…قيل : معنى يعبدون هنا : يطيعون الجن فى عبادة الملائكة، قال تعالى فيمن عبد موسى عليه السلام:
…(يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم) (2). وقال تعالى فى عيسى والذين عبدوه) (3).
…(وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله) (4) وقال تعالى:
…(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح أبن مريم) (5) وقال سبحانه وتعالى:
…(ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (6).
_________________
الآيتان 40، 41 من سورة سبأ.
وردت هذه الآية فى المخطوطتين هكذا (يا بنى إسرائيل لا تغلوا فى دينكم) والصحيح كما اثبتنا. أنظر الآية : 171 من سورة النساء، والآية : 77 من سورة المائدة.
زيادة اقتضى السياق إثباتها ليستقيم المعنى.
الآية : 116 من سورة المائدة.
الآية : 17
الآية : 80 من سورة آل عمران.
الدرجة الرابعة
إن الاله هو المعبود بإجماع أهل العلم، والدليل على ذلك قوله تعالى فى سورة الزخرف:
…(وهو الذى فى السماء اله وفى الأرض إله) (1)، يعنى معبوداً يعبد فى السماء ويعبد فى الارض، قال قتاده (2) ولا يصح غيره، وقال سبحانه وتعالى فى سورة الانعام:
…(وهو الله فى السموات وفى الأرض) (3) أي : اله معبود فى السموات، ومعبود فى الارض، وقال تعالى فى سورة الجاثية:
(افرأيت من اتخذ الهه هواه) (4) وقال فى سورة (ص) حكاية عن قريش أنه لما قال صلى الله عليه وسلم "أتعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم" فقل أبو جهل : لله ابوك لنعطينكها وعشر أمثالها.(1/15)
…فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا لا إله الا الله" فتفقروا من ذلك وقاموا، وقالوا :
________________
الآية : 84 من سورة الزخرف.
أنظر تفسير الطبرى ج25/104 فقد أخرج بسنده من طريقين عن قتاده.
الآية : 3 من سورة الانعام
الآية : 4 من سورة الجاثية.
أخرجه الطبرى فى تفسيره بسنده عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب، فأتاه رسول الله صلى عليه وسلم يعوده وهم حوله يعنى قريش جلوس، وعند رأسه مكان فارغ، فقام أبو جهل فجلس فيه، فقال أبو طالب يا أبن أخى ما لقومك يشكون؟ قال : "يا عم أريدهم على كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدى اليهم بها العجم الجزية" قال : ما هى : قال "لا إله الا الله" فقاموا وهم يقولون : (ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة ....) وفى لفظ (أجعل الآلة اله واحد إن هذا لشئ عجاب) ج23/125 وذكره ابن كثير فى تفسيره ج 6/47 ,اخرجه وأخرجه الترمزى فى جامعه حديث رقم (3222) وقال حديث حسن صحيح.
…
(أجعل الآلهه إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب) ذكر هذا البغوى (1) رحمه الله، وقال سبحانه فى سورة الزخرف.
(وقالوا أألهتنا خير ام هو ما ضربوه لك إلا جدلا) (2) وفى سورة الطور قال سبحانه:
(أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون) (3) وقال تعالى:
(وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال انكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) (4) وقال سبحانه.
(وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ اصناماً آلهة إنى أراك وقومك فى ضلال مبين) (5) وقال تعالى فى سورة طه حكاية عن قوم موسى للسامرى:(1/16)
(وأنظر الى إلهك الذى ظللت عليه عاكفاً لنحرقنه ثمّ لننسفنه فى اليم نسفا إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو وسع كل شئ علما) (6) فلما عكف السامرى على العجل صار إلها بزعمه، لأن العكوف عبادة له، وقال تعالى فى سورة البقرة:
(فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) (7)، أي شركاء، وقال ابن
__________________
هذه الرواية ذكرها البغوى فى تفسير ابن كثير والبغوى ج 7/180 والآية :5 من سورة ص.
الآية 58 من سورة الزخرف.
الآية : 43.
الآيات : 138 – 140 من سورة الأعراف.
الآية : 74 من سورة الانعام.
الآيتان : 97، 98 من سورة طه.
الآية : 22 من سورة البقرة.
مسعود وابن عباس : أكفاء الرجال يطيعونهم فى معصية الله، وقال سبحانه وتعالى فى سورة البقرة:
(ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله) (1)، قال مجاهد عند قوله تعالى :
(يعبدوننى ولا يشركون بى شيئا) (2) أي لا يخافون غيرى (3)، وقال فى سورة براءة:
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الا ليعبدوا إلها واحداً لا إله الا هو سبحانه عما يشركون) (4) ففى تفسير الآية عن عدى بن حاتم : " ان عبادتهم طاعتهم فى المعصية" (5)، وقال أبو العالية، ومنه قولهم : لا نسبق علماءنا :
"ما أحلوه حل وما حرموه حرم" (6)، وقال سبحانه وتعالى :
__________________________
الآية : 165 من سورة البقرة.
الآية : 55 من سورة النور.
أخرج الطبرانى بسنده عن ليث عن مجاهد : قوله (يعبدونى لا يشركون بى شيئا) قال : (لا يخافون غيرى) ج 18 / 160.
الآية : 31 من سورة التوبة.(1/17)
أخرج الطبرى فى تفسيره بسنده عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عنقى صليب من ذهب فقال : "يا عدى أطرح هذا الوثن من عنقك"، قال : فطرحته وانتهيت اليه وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) قال : قلت : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم، فقال "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟" قال قلت : بلى، قال "فتلك عبادتهم" وأخرج الطبرى أيضاً بسنده عن حذيفه (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال : لم يعبدونهم، ولكنهم أطاعوهم فى المعاصى أ هـ ، ج 10/114، 115.
أخرج الطبرى فى تفسيره بسنده عن ابى العالية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباً) قال : قلب لأبى العالية : كيف كانت الربوبية التى كانت فى بنى إسرائيل ؟ قال قالوا : ما أمرونا به أئتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم .... ) ج 10/115.
(وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) (1) لما حللوا لهم الميتة، وقالوا ما ذبح الله حلال، وفى تفسير قوله تعالى :
(قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله) (2).
…قال ابن جرير (3) : "يعنى يطيع بعضنا بعضاً فى معصية الله"، وفى سورة الذاريات :
(ولا تجعلوا مع الله إلها أخر إنى لكم منه نذير مبين) (4)، وقال تعالى فى سورة الشعراء حكاية عن قول فرعون لموسى :
(لئن اتخذت الها غيرى لأجعلنك من المسجونين) (5) وقال فى - سورة العقود- سورة المائدة :
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) (6) ، وقال فيها : (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله الا إله واحد) (7)، وقال سبحانه :
(ما المسيح ابن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم أنظر أنى يؤفكون. قال
_________________(1/18)
الآية : 121 من سورة الانعام.
الآية : 64 من سورة آل عمران.
فى تفسيره ج 3/304 : بسنده عن حجاج قال : (قال ابن جريج : (ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله" يقول : لا يطع بعضنا بعضا فى معصية الله، ويقال : ان تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم، وقادتهم فى غير عبادة، وان لم يصلوا لهم). أ هـ.
الآية : 51 من سورة الزارايات.
الآية : 59 من سورة الشعراء.
الآيتان : 72 و73 من سورة المائدة.
أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم) (1).
ففى هذه الدرجة تعريف الإله وانه المعبود، وقيل : هو الذى يطاع محبة وخوفاً ورجاء وتوكلا، وهو اسم صفة لمن يعبد، ومن أعظم أنواع العبادة الدعاء ، والمحبة – كحب الله – وأما (2) الطاعة فى المعصية، والعكوف فيها فإنه يكفر من يسمى الله غير الله أو قال :
(ثالث ثلاثة) فإذا عبده ولم يسمه إلها وسماه نبياً، او صالحاً أو أولياء او إماما أو شجراً أو حجراً، فالأسماء لا تغير المعانى عن حقيقتها، كما لو يسمى الخمر لبناً، وقصة ذات أنواط فيها البيان التام، فإنهم لم يسمونها إلا ذات أنواط، ولم يقولوا صريحاً اجعل لنا إلها، فقال عليه السلام:
"إنها السنن" (3) قلتم كما قالت بنوا إسرائيل (أجعل لنا إلها كما لهم آلهة) (4) رواه الترمذى. وكذلك عابد الشئ يسمى عبداً له بدليل الحديث الصحيح.
"تعس عبد الدينار" (5) إلى أخره فبسبب التعلق به أطلق عليه اسم
___________________
الآيتان : 75، 76 من سورة المائدة.
فى الأصلين (والطاعة) والصواب ما ذكرنا ليستقيم المعنى والله أعلم.(1/19)
قلت : ولفظ الحديث عند الترمزى : عن أبى داود واقد الليثى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج الى خيبر، مر بشجر للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها اسلحتهم، فقالوا : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبى صلى الله عليه وسلم " سبحان الله هذا كما قال قوم موسى : أجعل لنا إلها كما لهم آلهة" والذى نفسى بيده، لتركبن سنة من كان قبلكم" قال لاترمزى هذا حديث حسن صحيح أخرجه فى كتاب الفتن حديث (2180).
الآية : 138 من سورة الأعراف.
قلت : وهذا أخرجه البخارى فى صحيحة فى كتاب الجهاد : عن أبى هريرة (رضى الله عنه) عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "تعس عبد الدينار وعبد الدرسهم وعبد الخميصة، إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس، واذا شيك فلا انتفش، وطوبى لعبد أخذ بعنان فرسه فى سبيل الله، أشعث رأسه، مغبر قدماه، إن كان فى الحراسة كان الحراسة، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة، إذ استأذن لم يؤذن له، وان شفع لم يشفع" فتح البارى حديث (2887) ,أخرجه أبن ماجه حديث (4136).
العبودبة، وقد قال ابن العربى المالكى : ان الاحكام، تعلق بمسميات الأسماء لا بألقابها، ولا بالتسمية، وقال سبحانه وتعالى فى سورة الانبياء:
(إم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون، لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معى وذكر من قبلى بل اكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) (1).
الآيات : 21 – 24 من سورة الانبياء.
الدرجة الخامسة
إن الدعاء من العبادة : بل هو مخها ورأسها وافضلها، وفى الحديث "أكرم شئ على الله الدعاء" (1) وورد " أفضل العبادة الدعاء" أخرجه الحاكم وصححه (2).(1/20)
وورد "الدعاء هو العبادة" أخرجه الترمذى (3) وهذا يدل على الحصر أي حصر الخبر فى المبتدأ، لأجل الفصل بينهما بالضمير، فان دلت قرينة على عدم الحصر، فيكون للتميز بأفضلية ما، وللمبالغة والاهتمام بشأن الشئ، وقد سبق "ان معنى العبادة التوحيد، والدعاء عبادة" (4).
…فدعاء غير الله شرك ومن الادلة على ذلك قوله تعالى:
______________
أخرجه الترمزى فى كتاب الدعوات بلفظ : " ليس شئ أكرم على الله من الدعاء" عن ابى هريرة حديث (3370) وقال حديث غريب.
أخرجه الحاكم فى كتاب الدعاء عن النعمان بن بشير (رضى الله عنه) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الدعاء هو العبادة" ثم قرأ : (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم) كما أخرج ابن عباس فى الباب بلفظ "أفضل الدعاء هو العبادة، قلت، وهذه الرواية موقوفه على ابن عباس فذكر رواية النعمان عن رسول الله عليه وسلم، وكلاهما صحيحتان كما أقر الذهبى صحتها فى المستدرك ج 1/491.
أخرجه الحاكم آنفاً، وأخرجه الترمزى عن النعمان فى كتاب الدعوات حديث (3372) وفى كتاب التفسير حديث (3969) وقال عن الحديثين : هما حديثان حسنان صحيحان، وأخرجه أبو داود حديث (1479) وابن ماجه حديث (3828) والإمام احمد فى مسنده ج 4/267، 271، 276.
قلت : عدد شيخ الاسلام المجدد فى رسالته (الأصل الجامع لعبادة الله وحده) أنواع العبادة، وجعل الدعاء هو أول أنواعها ، ثمّ قال : دليل قوله تعالى (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) وقوله تعالى (وله دعوة الحق والذين يدعون لا يستجيبون لهم بشئ، الى قوله تعالى (وما دعاء الكافرين الا فى ضلال) أية : 14 من سورة الرعد، أنظر مجموع مؤلفات الشيخ ج 1/379 عقيدة.(1/21)
(أدعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين، ولا تفسدوا فى الارض بعد إصلاحها وأدعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين) (1) فقد جمع فى هاتين الآيتين دعاء العبادة ودعاء المسئلة، وأنهما مختصان بالله تعالى، وفى سورة البقرة قال تعالى:
(وإذا سالك عبادى عنى فانى قريب أجيب دعوة الداعى اذا دعان) (2) وسبب النزول يبين أن الدعاء هو النداء والمسألة، لأنهم قالوا "هل ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه" (3)؟.
فنزلت الآية الكريمة، ذكره فى تفسير الجلالين (4) وقال فى سورة الاسراء:
(قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) (5)، وفى التفسير عن ابن عباس رضى الله عنهما (6) قال : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول "يا الله يا رحمن" فقال ابو جهل ان محمداً ينهانا عن آلهتنا،
__________________
الآيتان : 55 ، 56 من سورة الأعراف.
الآية : 189 من سورة الأعراف.
أخرجه الطبرى فى تفسيره عن الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله ك (وإذا سالك عبادى عنى فانى قريب أجيب دعوة الداعى اذا دعان) ج 2/158، قلت : وهذا جواب من الله عز وجل، وهو سبب نزول الآية.
أنظره فقد اوضح ذلك فيه ج 1 /27.
الآية : 110 من سورة الاسراء.
أخرجه الطبرى بسنده عن ابن عباس قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم ساجدا يدعو : "يارحمن يا رحيم" فقل المشركون : هذا يزعم أنه يدعوا واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله تعالى : (قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن....) الآية، ج 15/182، وأخرجه ابن كثير فى تفسيره عن الامام أحمد وقال أخرجاه فى الصحيحين ج 3/68، 69.
وهو يدعوا الهين (1)، فأنزل الله هذه الآية.
والنظر فى أسباب النزول محط أنظار أسباب العقول، وفى سورة نوح:(1/22)
(قال رب إنى دعوت قومى ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائى الا فراراً، وأنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا اصابعهم فى أذانهم) (2) الآية.
فهذه نصوص صريحة، ان الدعاء عبادة وانه النداء، وأنه المنهى عنه، وأن المنادىَ يكون الهاً للمناديِ، وأن ذلك شرك وقد قال سبحانه وتعالى:
(ثمّ الذين كفروا بربهم يعدلون) (3) وقال سبحانه:
(قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفى ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) (1) وقال تعالى فى سورة الأعراف :
(فلما تغشاها حملت حملاً خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما) (5) الى قوله (جعلا له شركاء فيما أتاهما فتعالى الله عما يشركون) (6) ففيه أن الدعاء:
(لئن اتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين) (7) وهنا الشرك فى مجرد التسمية، وهنا يقال أشركا فى طاعته لا فى عبادته، وتكريرنا الاستدلال على
___________
قال الطبرى إنما قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، لأن المشركين، فيما ذكر سمعوا النبى يدعو ربه : "يا ربنا يا الله، ويا ربنا يا رحمن" فظنوا أنه يدعوا الهين ......) ج 15/182.
الآيتان : 5 ، 7 من سورة نوح.
الآية : 1 من سورة الانعام.
الآيات : 96 – 98 من سورة الشعراء.
الآية : 189 من سورة الأعراف.
الاية : 190 من سورة الأعراف.
الاية : 189 من سورة الأعراف.
أن الدعاء هو النداء، لأن أهل التفاسير يحملون الدعاء أحد خمسة معانٍ بحسب المقام عند كل آية:
…وأصل الدعاء فى اللغة الايمان، وفى القاموس، الدعاء : الرغبة الى الله، وعرف بأنه رفع الحاجات الى رفيع الدرجات (1).
…وقد ورد الوعيد الشديد فى ذم من سأل الناس من أموالهم، خصوصاً إذا كان معه ما يكفيه، او ما يعيشه أو يغديه (2) فكيف بمن يسأل الاموات قضاء الحاجات، قال سبحانه :
…(او لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) (3)، وقال سبحانه وتعالى فى سورة الجن:
…(وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (4)، وقال فى سورة الاحقاف:(1/23)
(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) (5)، وقال فى سورة يونس:
…(ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) (6) وقال فى سورة المؤمنين:
…(ومن يدع مع الله إلها أخر لا برهان له عند ربه فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) (7).
__________________
(1) أنظر مادة دعا فى لسان العرب. ... (2) يعنى : يؤمن له طعام العشاء وطعام الغداء.
(3) الآية : 53 من سورة فصلت. ... (4) الآية : 18 من سورة الرحمن.
(5) الآيتان : 5، 6 من سورة الأحقاف. ... (6) الآية : 106 من سورة يونس.
(7) الآية : 117 من سورة المؤمنين.
وقال فى سورة العنكبوت :
…(فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر إذا هم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون) (1)، ففيهم من الآيات أن من دعا غير الله يكون ضال ظالم مشرك كافر، وهذه اللام لام للعاقبة أي عاقبة شركهم، والكفر والتمتع، فإن قيل : إن الداعى إنما أراد التقرب الى الله بدعوته والشفاعة الى الله.
…فالجواب : إن هذا عين ما أراده المشركون، بدليل قوله تعالى:
…(ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى) (2) وفى الآية الأخرى : (هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) (3)، وختم الآية الاولى بقوله :
…(ان الله لا يهدى من هو كاذب كفار) (4)، وختم الثانية بقوله سبحانه وتعالى :
…(عما يشركون) (5)، فان قيل : إنهم يظنون أنهم على هدى لا أنهم على ضلالة.
فالجواب : قال الله سبحانه وتعالى :
…(قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون، فريقاً هدى وفريقاً حق عليه الضلالة إنهم اتخذواالشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) (6).
_______________(1/24)
(1) الآيتان : 65 ، 66 من سورة العنكبوت. ... (2) الآية : 3 من سورة الزمر.
(3) الآية : 18 من سورة يونس. ... (4) الآية : 3 من سورة الزمر.
(5) الآية : 18 من سورة يونس. ... (6) الآيتان : 29، 30 من سورة الأعراف.
ففيه دليل على ان الكافر الذى يظن أنه فى دينه على الحق والجاحد المعاند سواء، وقد فسر ابن عباس رضى الله عنهما (القسط) (1) هنا بألا إله إلا الله وفسره الضحاك بالتوحيد، وقال سبحانه :
…(ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) (2) وفى تفسير البغوى عند قوله تعالى فى سورة يونس :
…(وهو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين) (3).
…قال : أي أخلصوا فى الدعاء لله ولم يدعوا أحداً سوى الله تعالى. إنتهى.
…ففيه : أن الدعاء هو الدين، والاخلاص فيه هو التوحيد ودعوة غير الله شرك (4).
…فإن قيل : إن الدعاء لغير الله يكون من الشرك الأصغر مثل الطيرة والحلف بغير الله لأنه قد ورد أنها شرك وفسروها بالأصغر.
________________
قال المفسرون إن القسط هو العدل، وأخرج الطبرى بسنديه عن مجاهد والسدى(قل أمر ربى بالقسط) قالا : بالعدل ج 8/55 وقال الشوكانى : وقيل معنى القسط : لا غله الا الله ج 2/199.
الآيتان : 36، 37 من سورة الزخرف.
الآية : 22 من سورة يونس.
قلت : نعم شرك أكبر والدليل قوله تعالى : (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون بهم بشئ) الى قوله تعالى : (وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال) الرعد آية : 14، وقوله تعالى : (إن الله لا يغفر ان يشرك به) الى قوله تعالى (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا) النساء : آية 116.(1/25)
فالجواب : إن الحلف يكون تارة من الأكبر إذا قصد به تعظيم المخلوق كتعظيم (1) الله، وأيضاً لا مساواة لأن الحلف والطيرة لم يقع النهى عنهما إلا بعد مدة من الاسلام ووقع من الصحابة بعد إسلامهم كالمشرك بالنوء (2) أيضاً.
…وأما الدعاء لاعتقاد النفع والضر من المدعو من دون الله لقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، وشفاء المريض، وقضاء الغرض، فهو الذى كان عليه المشركون، وهذه عبادتهم وشركهم، والعكوف والذبح ونحوهما فروع هذه المطالب، ونتيجة إشكال دعوة الميت (3) والغائب يجعلوا منهم وسائط بينهم وبين الله، والوساطة فى هذا منتفية، وفيها تشبيه للخالق وهى شرك محض.
_________________
أقول : إن الحلف بغير الله شرك لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" أخرجه الترمزى عن ابن عمر وقال حديث حسن (1535) وأخرجه النسائى فى الايمان والدارمى فى النذور، مما يحرم الحلف به كقول الحالف : وأبى أو حياتك أو وحياة النبى او بالأمانة وأشباه ذلك من الحف الكاذب المخالف لشرع الله، أما المباح فهو ان تقول والذى نفسى بيده او ورب البيت او والله العظيم أو أقسم بالله وغير ذلك مما يوافق الكتاب والسنة.
النوء : النجم.
قلت : أما ما يفعله الجهال من العامة الذين لا علم لهم بشرع الله ويشاهدهم علماء بلدانهم ممن يدعون العلم، ويكتمون ما أنزل الله فى الكتاب الكريم وما قاله الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، بل وإن من علمائهم من يقوم هو بفعل الجهال، وذلك مما شاهدناه وعلمناه فى البلاد العربية والإسلامية من أعمالهم الشركية الكفرية، وهى : دعاء الأموات والاستغاثة بهم، والتوسل اليهم والتمسح بقبورهم وبالأحجار والطواف على قبورهم والذبح لهم والاعتقاد فيهم والنذر لبعضهم إذا شفى مريضه او نجح المخفق فى درسه، فإن قيل : فى أي البلاد شاهدتم وعلمتم الجواب:(1/26)
فى مصر حيث قبر الحسين كما يدعون، علماً أن ادعاءاتهم باطلة لا أساس لها من الصحة وليس من الحسين فى مصر حتى الأظافر، ولو صدقوا إن رأس الحسين فى القاهرة لقلنا لهم إذا فما هو الحسين ابن على الذى فى أسيوط أيضاً، وكذلك قبر السيدة زينب، وقبر السيد البدوى فى طنطا والسيد الطوخى فى بلدة طوخ محافظة القليوبية، والسيد عبد القادر، الذى لا اصل له عندهم، وأبو مسلم، وأبو خليل وغيرهم.
وفى اليمن : حيث السيد الزيلعى المعروف عندهم ب(الشمس)، وعبد القادر وعدد من السادة =
والبعث والدعوة لتوحيد الالوهية، وهى : العبادة وأن تكون كلها لله وهذا هو المراد عند القول :
إن دعاء غير الله شرك أكبر، ومن قال لا إله إلا الله ودعا غير الله على ما ذكرنا فقد هدم مبناه، ونقض ما قاله ونفاه، ولم تصح بينته على دعواه والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء، والله سبحانه وتعالى يقول فى سورة يونس:
…(ألا إن لله من فى السموات ومن فى الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن، وان هم الا يخرصون) (1).
_______________
= فى تعز منهم علوان او فى بيت ابى الفقيه وفى مخا وآب وغيرها وفى الجنوب فى الضالع وفى لحج وفى المكلا وفى غير ذلك. وفى الصومال : قبر يوسف ذو الكونين فى مدينة هرجيسة، وذو النورين فى براده، وفى سوريا وفى العراق وفى ايران حدث ولا حرج، وفى الباكستان، قبر بهاء الدين زكريا وفى ملتان وشهباز قلندر، فى سند وإمام برى وفى روالبندى، وبابا فريد شكركنج، بنجاب، وعلى هجو يرى، المعروف ب(داتا كنج بخش)، لاهور، وفى الهند : قبر خواجة نظام الدين أوليار – فى دلهى ومئات من سواه لا يحضرنى الآن ذكرهم.(1/27)
عند كل هذه القبور، يقوم الناس بالذبح والنذور والدعاء وإضاءة الأسرجة ويطلبون منهم الوساطة بينهم وبين ربهم فى شفاء مرضاهم ودفع الاضرار عن ممتلكاتهم وأنفسهم، وأقول لهم جميعاً أنقوا الله الذى خلقكم من ماء مهين، فهو الذى بيده الحياة والموت وهو الرزاق وهو رب الارباب وهو الأول والآخر والظاهر والقاهر له الاسماء الحسنى والصفات العلا، منه الخير والعفو والعافية وإليه المصير فهو المستحق ان يسأل ولا يسأل غيره ابداً، وأن أعمالهم كفر وشرك عظيم، من مات وهو عليها فهو فى النار خالداً مخلداً لا يغفر الله له، ودليله قوله عز وجل : (إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقوله : (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) سورة المائدة آية : 72، ومن تاب وأمن ورجع الى الله وندم على ما كان يفعله وكره أن يعود فيه فإن الله قال (ومن تاب وأمن وعمل صالحاً فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما) الفرقان آية : 70.
الآية : 66 من سورة يونس.
الدرجة السادسة
…فى بيان أن هذا كفر وشرك أكبر يحل الدم والمال ويخلد صاحبه فى النار إذا بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة، وأبى وعاند مصراً على شركه معلناً بكفره (1).
…إذا كان من الأكبر الذى لا يغفر فأما أنه شرك وكفر فلأن لفظ الشرك ومعناه هو ان تعبد غير الله وهذا هو الواقع، ولفظ الكفر هو الجحود والتكذيب بما علم بمجئ الرسول صلى الله عليه وسلم به ضرورة فهذه الاسماء والمسميات بينهم ما بين الامهات والبنات، وقد ذكر ابن هشام فى السيرة انما كانت عبادة المشركين العكوف والدعاء ونحوهما من الذبح والطواف.(1/28)
وفى زاد المعاد لابن قيم الجوزية رحمه الله فى المغازى فى فصل قدوم وفد خولان (2) وهم عشرة أنهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما فعل عم أنس؟" – وهو صنم خولان الذى كانوا يعبدونه – قالوا : شر بدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة مستمسكون به، ولو
___________________
(1) إن المشركين الذين هم يعاندون ويصرون على شركهم ويعترضون على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليصدون الناس عن شرع الله، كانوا يقولون نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه الخالق الرزاق، النافع الضار وأنه لا شريك له، ويعترفون بذنبهم، لكنهم يقولون إن الصالحين لهم جاه عند الله ويطلبون منهم الشفاعة فإن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم : (أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم اقرب) الاسراء : آية 57 وقد قاتلهم الرسول على ذلك، فبكفرهم وشركهم هذا حل قتالهم وأموالهم.
وقد ظهر فى الجزيرة العربية مثلهم يعملون بأعمالهم تلك، فقيض الله لها ولمقدساته شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب فقاتلهم، غير أنه لم يكن يستطع إلا بقوة تعينه على ذلك، فتعاهد مع الامام محمد بن سعود رحمهم الله جميعاً على قتال من عاند وأصر على شركه ذلك فشاع نور الدعوة وقضى على الشرك وأهله، فعاد التوحيد لهذه الجزيرة وعادت قدسيتها، بفضل الله ثمّ بفضل الشيخ المجدد والإمام العادل.
(2) أنظر السيرة لابن هشام وزاد المعاد ج 3/59 طبعة الحلبى عام 1390هـ.
أقدمنا عليه لهدمناه إن شاء الله، وقد كنا منه فى غرور وفتنة.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أعظم ما رأيتم من فتنة؟" قالوا:
لقد رأيتنا وقحطنا حتى أكلنا الرومة، فجمعنا ما قدرنا عليه، وابتعنا به مائة ثور، ونحرنا لعم أنس قرباناً فى غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج اليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا الغيث يوارى السباع ويقول قائلنا انعم علينا عم أنس.(1/29)
وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقيمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءاً له وجزءا لله بزعمهم الى أخر القصة.
وفيها : وكنا نتحاكم اليه، انتهى.
وقد ذكر قطرب فى قوله تعالى:
(وما ذبح على النصب) (1) إن (على) بمعنى اللام أي ما ذبح لأجل النصب، فان جادل مجادل وأنكر منكر وكابر مكابر فى هذا الأمر الظاهر فقل له بين لى الشرك ما هو وما الذى حرمه الله تعالى ونهانا عنه، وما الذى كان يعبد به المشركون أصنامهم المنقوشة وأنصابهم وغيرها من معبوداتهم.
فإنه لا يجد جواباً أبداً إلا أن يقول إنه عبادة الله وعبادة غيره إما بدعاء او بالذبح او بغيرهما من العبادات، واصح الشهادات ما شهد به الأعداء. او يقول لا أدرى.
فقل له : تنكر ما لا يعرف وتجحد ما لا تدرى، وكذلك تقول له فى العبادة التى فرض الله علينا وأمرنا بها وخلقنا لها وهى حقه علينا ومستحقه.
_________________
(1) الآية : من سورة المائدة.
لدينا، إن صرفناها إليه وعبدناه بها كنا من الموحدين وإن صرفنا لغيره وعبدناه بها صرنا من المشركين (1).
فإن عرفها وبينها وإلا فبين له ذلك بأقسامها من الاعتقادات القولية والفعلية والبدنية والمالية (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (2).
والطغيان منها أن لا يشك فيها ولا يرتاب ولا يتكبر ولا يجور ولا يستخف بها، وأن تحجزه عن المعاصى وأن يقولها مخلصاً من قلبه، وقدر ورد : احفظوا العلم بقيوده (3).
بل أئمة المذاهب الأربعة قد صرحوا بوجوب قتال مانع الزكاة او تارك الصلاة (4) بل تارك الأذان وصلاة العيدين لأنهما من شعائر الاسلام.
بل نقل بعضهم الاجماع على قتال طائفة ممتنعة عن فرضة من الفرائض المشهورة.
وذكر النووى فى شرحه على الأربعين: أن الواحد كذلك مع أنه يدخل فى اسم الطائفة.
_________________
(1) سبق ان بينا ذلك وبسطناه آنفاً فلينظر.
(2) الآية : 81 من سورة الاسراء.(1/30)
(3) لحديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قيدوا العلم بالكتاب" أخرجه ابن المؤمل فى المستدرك ج1/106 وفى مجمع الزوائد ج1/152 وفى سنن الدرامى ج/1 123، وفى جامع بيان العلم وفضله ج 1/72 وفى تقييد العلم للخطيب البغدادى.
(4) لما ورد فى الصحيح عن ابى هريرة قال : لما توفى رسول الله واستخلف ابو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبى بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله الا الله فقد عصم منى ماله ونفسه الا بحقها وحسابه على الله" فقال والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه الى رسول الله لقاتلتهم على منعه...." الحديث فتح البارى رقم (7285،7284) وأخرجه مسلم فى الايمان وغيره.
وفى الحديث عن بريده بن حصين فى وصيته للرسول صلى الله للغزو قال:
"أغزوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله" أخرجه ابو داود (1) والله يقول لخير الخلق أجمعين:
(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (2).
____________________
أخرجه ابو داود عن سليمان بن بريده عن أبيه : أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : أغزوا باسم الله وفى سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله، وأغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" كتاب الجهاد حديث (2613).
الآية : 89 من سورة النحل.
الدرجة السابعة
لذا قيل : هذه الايات أنزلت فى المشركين عباد الأصنام المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلا تكون فى غيرهم ولا تشتمل على سواهم.
فالجواب : إن الجامع بين المشركين من الأولين والآخرين موجود هو الشرك، فالحكم فى ذلك واحد، لا فرق فيه لعدم الفارق ووجود الجامع، وفى الحديث:(1/31)
"حكمى على الواحد كحكمى على الجماعة" (1) وفى أصول الفقه : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ويلزم من هذا الاعتراض أن يقال : كل حكم نزل على سبب مخصص فى قضية سالفة فهو لا يتعداها الى غيرها. وهذا باطل وتعطيل لجريان الاحكام الشرعية على جميع البرية. فان آيات الحدود والجنايات والمواريث والديات نزلت فى قضايا قد مضت ومضى أهلها الذين نزلت فيهم وحكمها عام الى يوم القيامة، لأن العام لا يقصر على السبب وخطابات الشرع تتعلق بالمكلف المعدوم تعلقاً معنوياً، وقد قال ابن عباس رضى الله عنهما فى مثل ذلك فيما نزل على بنى اسرائيل وأنه علينا مثلهم، فقال : "ما أشبه الليلة من البارحة" (2).
وقال بعضهم الاخوة بنو اسرائيل، اذا كان كل حلوة لكم وكل مرة لهم.
وفى الاصول الفقهية أن شرائع من قبلنا شرائع لنا عند الثلاثة (3).
_____________
أورده النخاوى فى المقاصد الحسنة برقم (416) وقال : ليس له أصل كما قال العراقى فى تخريجه، ثمّ قال الترمزى والنسائى نحو حديث أميمة .. الخ قلت : أخرجه الترمزى فى السير حديث (1597) وقال الترمزى حديث حسن صحيح، قلت وهو شاهده، وذكره فى كشف الخفاء ومزيل الالتباس حديث (1161).
هذا مثل من الامثال العربية : ذكره النيسابورى الميدانى فى مجمع الامثال برقم (3831).
هم ابو حنيفة النعمان ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل (رحمهم الله)(1/32)
وعند الشافعى أنه شرع لنا إذا ورد تقريره فى شرعنا، وهذه المسائل ورد شرعنا فى تقريرها، ونطق القرآن والسنة بتكريرها وإنما هذا جواب عن السؤال وإلا فما نهى عنه صلى الله عليه وسلم مشركىالعرب وقاتلهم عليه ونزل القرآن فيه آيات محكمات غير منسوخة للأول والأخر، بل والآيات النازلة فيمن قبلنا من الأمم مع ان شرعنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أغنت وأقنت وأكفت وشفت وأعادت وأيدت وأظهرت ومضت، فلله الحمد رب السموات ورب الأرض ورب العالمين، وله الكبرياء فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
…وفى تفسير آخر البقرة أنهم قالوا : أكلفنا من العمل ما لا نطيق.
فقال صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال من قبلكم سمعنا وعصينا" (1) فشبه ما قالوا من الكلام بقول من سلف من الانام.
وعن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه اذا رأى مخيلة تغير وجهه وتلون ودخل وخرج واقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سرى عنه، قالت فذكرت له الذى رأيت فقال:
"وما يدريك لعله كما قدم فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا" (2).
والله سبحانه قد تبين لنا الاحكام وفسر لنا الحلال والحرام، وأحاط
_______________
أخرجه مسلم فى صحيحه من حديث ابى هريرة وهو حديث طويل بلفظ : "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم، سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير" الحديث، أنظر مسلم بشرح النووى ج 2/145.
علقه البخارى ولم يخرجه وقال : باب (فلما رآه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم) قال ابن عباس : عارض السحاب" أنظر فتح البارى باب 2 من تفسير سورة الاحقاف ج 8/578، وأخرجه الترمزى فى جامعه كتاب التفسير حديث (3257) عن عائشة بلفظ وما أدرى لعله قال : (فلما رأوه ...) الآية.(1/33)
الشريعة المحمدية بدقائق العلوم واشتملت على الفروع والأصول بالمنطوق والمفهوم، وقد تركنا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها وما طار طائر فى الجو الا جعل لامته منه ذكراً، وقد أفادت السنة بكيفية الاستجمار بالأحجار كيف وصفها، بل فى سنن ابى داود وفى آداب التخلى قولهم : "لقد علمكم نبيكم حتى الخراءة" (1).
فما بالك أيها الانسان بمسالة عظيمة مهمة، لأجلها أعدت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين، ولا يبينها ويوضحها ويشرحها.
كلا والله لقد بلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة الى يوم الدين، وكتب المغازى والسير تدل على ذلك، وأن هذا الذى قاتل عليه النبى صلى الله عليه وسلم المشركين وحاربهم عليه، ولم تكن عبادتهم للأصنام وبحقها الا الدعاء والتعلق والاعتقاد فيهم الالتجاء اليهم والعكوف عندهم، وأما أنه يخلد صاحبه فى النار فالدليل قوله تعالى:
(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (2)
الى قوله : (وما هم بخارجين من النار) (3) وقال سبحانه وتعالى :
(إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) (4)، وأما الدليل على القتال فقوله تعالى :
(فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم
_____________
قلت : أخرجه الترمزى فى أبواب الطهارة عن عبد الرحمن بن يزيد قال : (قيل لسلمان : علمكم نبيكم كل شئ حتى الخراءة؟ فقال سلمان : أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط او بول وأن نستنجى باليمين أو أن يستنجى أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، او نستنجى برجيع او عظم) قال الترمزى : هذا حديث حسن صحيح (16).
الآية : 165 من سورة البقرة.
الآية : 167 من سورة البقرة.
الآية : 72 من سورة المائدة.(1/34)
واحصروهم وأقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) (1). قال الحسن بن الفضل : هذه الآية نسخت كل آية فيها الاعراض والصبر على الأذى من الاعداء، ومعنى قوله تعالى : (فان تابوا) أي : عن الشرك والكفر، وقال سبحانه وتعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (2) أي : وحده لا يعبد غيره، وقيل : أي يكون الدين خالصاً لله لا شرك فيه، وفى تفسير الجلالين (3) : إن الفتنة هنا هى الشرك، وقال سبحانه وتعالى :
(وقاتلوا المشركين كافة) (4) وفى الصحيح:
"أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله" (5) قال النووى رحمه الله : قال الخطابى :
فمعلوم أن المراد بهذا الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثمّ يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
______________
الآية : 5 من سورة التوبة.
الآية : 193 من سورة البقرة.
قلت وقاله أيضاً الطبرى فى تفسيره ج 2/194 ثم أخرج بسنده عن ابن عباس قوله (وقاتلوهم حتى تكون فتنة) يقول : "قاتلوا حتى يكون شرك"، وبمثله اخرج بسنده عن السدى ومجاهد والربيع وقتادة، فى تفسير الجلالين ج1/32.
الآية : 36 من سورة التوبة.
أخرجه البخارى فى صحيحه حديث (25) فتح البارى، مسلم فى صحيحه ج 1/212 بشرح النووى عن ابن عمر، وأبو داود حديث (1556) عن أبى هريرة، وفى كتبا الجهاد أيضاً حديث (2640) والنسائى ب"1" من الجهاد فى الزكاة ، وابن ماجه حديث (3927) وأحمد فى مسنده ج1/11، ج2/214 والطبرانى فى الكبير حديث (1746) و (2392) وغيرهم من اصحاب السنن.(1/35)
وذكر القاضى عياض رحمه الله ان اختصاص عصمة النفس والمال بمن قال لا إله إلا الله تعبيراً عن الاجابة والأيمان، وهذه فائدة عظيمة فاستفدها، وفى الاحاديث النبوية قيود وشروط لفوائد لا إله الا الله إذا تأملها الانسان خاف على أهل الايمان فضلاً عن أهل الشرك (1).
(بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم) (2).
أخرج الحديث البغوى بمسنده ومثله فى صحيح البخارى وقال الامام ابن القيم رحمه الله فى مبحث الشرك الأكبر الآية التى فى سورة سبأ :
(قل ادعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الارض وما لهم فيها من شرك وماله منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له) (3).
والقرآن مملوء من أمثالها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته ويظنون بقوم خلوا ولم يعقبوا وارثاً، وهذا الذى يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر رضى الله عنه "إنما تنتقص عرى الاسلام عرورة عروة اذا نشأ فى الاسلام من لا يعرف الجاهلية" (4) وقال سبحانه وتعالى:
(ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم) (5).
_______________
اما تعليق النووى فيمكنك النظر الى شرح مسلم للنووى ج 1/203، 204، 205.
سبق تخريجه فى ص .
الآية : 3 من سورة سبأ، أنظر تفسير ابن القيم ص 407.
ذكره ابن تيمية (رحمه الله) فى جمع الفتاوى، أنظر ج 10/301 وما قاله حول هذا الأثر.
الآية : 5 من سورة التغابن.
الدرجة الثامنة(1/36)
فى ذكر من قال إن هذا شرك يحل الدم والمال ويوجب الحرب والقتال بعد قيام الحجة وبلوغ الدعة ووصول العلم وظهور الكفر منه، وهذه الاشياء قيود وشروط لما اطلقه فى هذا المبحث ولا تكفير بالظن أيضاً، فالعلم بالاستقصاء غير ممكن، وليس بعد كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كلام يطلب الاستدلال (فماذا بعد الحق الا الضلال) (1) ومن أصدق من الله حديثاً، والسنة النبوية هى الحجة عند النزاع، والمراد تنازعت الأشياع فمن استدل بها واعتمدها فقد افلح، ومن استعملها ووزن بها فميزانه الارجح، قال تعالى:
(ما ينطق عن الهوى إن هو الا وحى يوحى) (2) وقد سمعت ما مر من الآيات البينات والأحاديث الواردات.
…إذا البينات لم تغن شيئاً……فالتماس الهدى بهن عياء
وإذا ضلت العقول على علم فماذا تقول النصحاء؟ لكن سنذكر من كلام العلماء ما يدل على أنهم ورثة الانبياء ومصابيح الظلماء، فأولهم صديق هذه الأمة أبو بكر رضى الله عنه، فإنه قال فى قتال أهل الردة :
(لأقلتن من فرق بين الصلاة والزكاة، بل قال : لو منعونى عقالاً كانو يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه واستحل دماءهم وأموالهم بمحضر من الصحابة رضى الله عنه فصار إجماعاً، وأكبر شى فى) (3).
______________
الآية : 32 من سورة يونس.
الآيتان : 3 ، 4 من سورة النجم.
بسطنا تخريجه فى ص 57 فلينظر هناك.
ردتهم على تنوعها، قولهم إن مسيلمة الكذاب نبى، فكيف بمن قال إن غير الله إله يعبد او عبده أو اعتقد فيه الالهية وجعله متصفاً، وإن لم يقلها بلسانه، ووافق عمر رضى الله عنه على قتال من فرق بين الصلاة والزكاة بعد ان توقف منهم (1)، ثمّ ظهر الدليل فسلكوا سواء السبيل.
وقال بكفر تارك الصلاة جماعة من الصحابة والتابعين، ففى كتاب الترغيب والترهيب للمنذرى (2) عن ابن حزم أنه جاء كفر تارك الصلاة عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبى هريرة.(1/37)
وقال المنذرى (3) وقد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم الى تكفير تارك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها، ومنهم ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق وابن المبارك هذا، فى تركها (4).
وقد صنف القحيطى فى ذلك مؤلفاً (5)، وأما جحودها فكون ذلك كفر، فمسالة وفاق بين العلماء فكيف بمن ترك التوحيد او جحد حق الله على العبيد
________________
قلت : وذلك بعد أن اقسم ابو بكر أن يقتلهم قال البخارى ومسلم : فقال عمر بن الخطاب : "فوالله ما هو الا ما رأيت الله عز وجل قد شرح صدر ابى بكر للقتال فعرفت أنه الحق" حديث (7285) ومسلم فى ج 1/209 وغيرهم.
فيما أخرجه من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" وفى رواية لمسلم وأحمد : "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" وعن بريده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى والترمزى، وقال حديث حسن صحيح، الترغيب ج 1/378، 379.
أنظر الترغيب ج 1/393، 394.
أنظر المصدر السابق ص 395.
لم أقف عليه ولكنى أقول ألف ابن القيم رحمه الله كتاباً اسماه (كتاب الصلاة وحكم تاركها) ساق فيه واثبت وصحح ما روى فى هذا الشأن من الاحاديث وهذا الكتاب فى المكتبات فينظر.
او جعل المخلوق فى مرتبة الخالق وشبه بالشرك والتنديد.
وقد ورد الوعيد الشديد فيمن تكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى لها باساً – وفى رواية لا يريد بها بأساً – لا يتبين فيها ولا يظن ان تبلغ به ما بلغت (1). فيفطن لها فإنها مفيدة، بل فى قصة غزوة تبوك ان الذين تكلموا بالكفر ونزل فيهم قوله تعالى (لا تعتذروا قدر كفرتم بعد إيمانكم) (2) أنهم اعتذروا بالمزح والخوض واللعب ولم يعذروا، ونزل قوله تعالى : (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) (3).(1/38)
وقد حكم الصحابة بكفر من استحل الخمر متأولا قوله تعالى :
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)(4).
ومن أولئك قدامه بن مظعون (5) لكنهم تابوا ورجعوا عما تأولوه، كما وقع
_____________
وأخرج المنذرى عن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله : "من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" رواه الترمزى والطبرانى والحاكم والبزار وابن حبان، أنظر الترغيب ج 3/200، 201.
قلت : وقال العلماء : (تارك الصلاة إن جحد وجوبها فهو كافر بالإجماع، وإن أقر بوجوبها وامتنع عن فعلها حداً كفر وفقاً للشافعى) أنظر الأم ج 1/61 طبعة الشعب، وقال أحمد يقتل كفراً، أنظر المقنع لابن قدامه ج 1/99، وقال ابن تيمية : "أما تارك الصلاة فهذا إن لم يكن معتقداً بوجوبها فهو كافر بالنص والإجماع" وقال ايضاً : "من يمتنع عن الصلاة المفروضة فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق المسلمين، بل يجب عند جمهور الأمة، كمالك والشافعى وأحمد وغيرهم ان يستتاب وآلا قتل) مجموع الفتاوى ج /22/40، 50 أهـ.
الآية : 66 من سورة التوبة.
الآية : 65 من سورة التوبة.
الآية : 93 من سورة المائدة.
قدامة بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص، وهو خال عبد الله بن عمر جلده عمر بن الخطاب فى الشراب، وله صحبة روت عنه بنته عائشة : سمعت أبى يقول : ذلك الجرح والتعديل ج 7/127.
لحاطب بن أبى بلتعة (1) مما ذكره الله فى سورة المائدة وهم عمر بقتله، لو لا ما ذكره من العذر.(1/39)
…فما بالك بمن استحل الشرك ولو كان أصغر فإن استحلال المحرم القطعى كفر إجماعاً، وكذلك حكم ابن مسعود فى زمن عثمان بكفر الذين تكلموا فى مسجد بنى حنيفة فى الكوفة بأن مسيلمة مصيب فى دعواه، وحكم على رضى الله عنه بكفر الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه صفة الالوهية ثمّ حرقهم بالنار. فهذه سيرة الخلفاء الراشدين فيمن كان يقول لا إله إلا الله ثمّ صدر عنه ما ينافيها وينقض بنيانه فيها، وإن كانوا بين معتذر ومتأول وتائب إنما الغرض التكفير وأن ذلك كفر وشرك وإن كانوا من قبل مسلمين.
وأما ما حصل بعد الخلفاء فمن ذلك حكمهم بقتل الجعد بن درهم (2) وجهم ابن صفوان (3) لتعطيل رب العالمين من الصفات التى نطقت بها الآيات، ولقولهم : إن القرآن مخلوق وإن الأمر آنف. حتى صار أهل الكلام من فرق الضلال وأفتى الشافعى بتحريمه.
(أي : تحريم علم الكلام، وهو علم الجدال) (4)، وأما إتباع الأئمة
__________________
حاطب بن أبى بلتعة بن عمرو بن عمير بن سلمه بن صعب اللخمى، روى عنه عن على بن أبى طلب كلامه فى اعتذار عن مكتبة قريش وفيه نزلت (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) تهذيب التهذيب لابن حجر ج 2/168.
هو : مؤدب بن محمد الجعدى أخر ملوك بنى مروان وهو أول من قال ببدعة خلق القرآن، وتعطيل الله عن صفاته، قتله خالد بن عبد الله القسرى سنة 124هـ، أنظر كتاب عقائد السف ص 118.
هو تلميذ الجعد بن درهم واليه نسبت فرقة الجهمية وهو من الجبرية الخالصة، وهو الذى نفى ان يكون الله تعالى حياً عالماً، قتله مسلم بن أحوز المازنى بمرو فى أخر ملك بنى أمية أنظر كتاب الملل والنحل ج1/86.
زيادة من (ي) وقد كتبت فى الهامش وأثبتناها كما هى.(1/40)
فأقاويلهم فى ذلك كثيرة، وأسلوب أهل كل مذهب أن يجعلوا باباً مستقلاً يسمونه باب الردة، وباب حكم المرتد ويفسرونه : المسلم الذى كفر بعد إسلامه، ثمّ يسردون المكفرات ويطيلون فيها المقالات ومن أوسعهم فى ذلك الحنفية، وأما الحنابلة فحصرها بعضهم فى أربعمائة مسالة كل واحدة تنقض الاسلام وتلحق فاعلها بعبدة الاصنام، والشافعية والمالكية لهم فى ذلك مباحث طويلة مثل ذلك، ولابن حجر الهيثمى مؤلف سماه الاعلام بقواطع الاسلام وفى مؤلفه الزواجر نبذة من ذلك، وفى مشارق الانوار من كتب الشافعية باب طويل فى ذلك، ولابن المقرئ فى مؤلفاته نحو ذلك، وشراح المنهاج للنووى اوضحوا تلك الهوالك (1).
ونقل الامام ابن تيمية والشيخ ابن حجر الاجماع على كفر من جعل بينه وبين الله واسطة يدعوهم ويتوكل عليهم، وبعض ما ذكروا فى الردة فى مسائل فرعية ليست من القواعد الاسلامية ولا من الستة أصول الايمانية : الايمان بالله وملائكته، فما ظنك بمسالة التوحيد لله سبحانه وتعالى بالعبادة التى هى أصل
________________
قلت : والكلام فى الردة والمرتدين، عند الفقهاء كثر لا يتسع هنا ذكر مسائلهم فيه وفروعهم، ولكنى أورد نصاً مختصراً لابن قدامة المقدسى، وهو الذى عليه الجمهور؟ حيث قال :
"المرتد هو الذى كفر بعد إسلامه، فمن أشرك بالله او جحد ربوبيته او وحدانيته او صفة من صفاته واتخذ الله صاحبه او ولداً او جحد وجوب العبادات الخمس او شيئاً منها، او أحل الزنا او الخمر أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها، لجهل عرف ذلك، وإن كان ممن لا يجهل ذلك كفر الى قوله : فمن ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء وهو بالغ عاقل دعى اليه ثلاث ايام وضيق عليه، فعن لم يتب قتل ........ الى قوله.(1/41)
ويقتل بالسيف، ولا يقتله الا الامام او نائبه" ا هـ. المقنع 3 / 515 وانظر الام للشافعى ج 6/145 والكافى لابن عبد البر المالكى مذهباً ص 1089 والخراج لأبى يوسف ص 73 وفى كتب السنة أبواب كثيرة عن الردة والمرتد.
"أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (1) فجعل الغاية التى ينتهى عندها القتال الثلاثة أمور المذكورة فى الحديث لأن القول المجرد عن الاعتقاد والعمل غير مفيد، وآلا فقد قال اليهود ذلك.
والمراد معناها لا مجرد لفظها، وأن يقولوها عن قوله عليه الصلاة والسلام ملتزمين معناها النفى والإثبات، عاملين بمقتضاها، غير فاعلين ما ينافيها من الشرك.
فإن قيل : فكيف إذا كانوا يأتون بالثلاثة المذكورة لكنهم يصرفون بعض العبادة الى غير الله مثل الاعتقاد فى المقبورين ونحو ذلك.
فالجواب : إن القصص المذكورة آنفاً فيمن جرى عليه القتل فى زمن الخلفاء هو فيمن كان يفعل الثلاثة الأمور ويناقضها بما يوجب قتله.
فإن قيل هؤلاء لم يعملوا ذلك وأنه ينافى أحسن المسالك؟.
فالجواب : إن المقرر إنما هو تكفير من بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة وأبى وعاند بعد العلم مصراً على شركه، فمن حين ظهرت هذه الدعوة النجدية الى توحيد الالوهية وجرت عليها السيوف فمن ردها وأباها فالكلام عليه واللوم متوجه اليه، وهى الآن بحمد الله قد غارت وطارت، والقرآن العظيم أكبر حجة على من بلغه.
والمسائل الواضحة التى يشترك فى معرفتها الخاص والعام مثل توحيد الله بالعبادة، وأنه لا شريك له فيها، يدل عليها القرآن دلالة صريحة ومعقولة،
_______________
(1) سبق تخريجه.(1/42)
للتالى والسامع هداية العقل الى ذلك ودلالته عليه وفهم الحجة غير بلوغها، وللعلماء وأقوال فى هذا المجال، وقد نص القرآن العظيم على ذم قوم يحسنون صنعاً (1) وأما الاموات فقد افضوا الى ما قدموا.
وقد ورد النهى عن إيذاء الأحياء بسبب الأموات، وفيمن عمله منهم عمل المشركين وفعلة الكافرين، وأما من يعلم صلاحه وتوحيده فذلك الناجى سواء تقدم أو تأخر، ومن لا يعلم حاله أصلاً فكيف اللسان عنه جداً، لأن تكفير المعين يحتاج الى ثبوت إقامة الحجة عليه، وفى نجاة أهل الفترات مباحث واختلافات والشأن كل الشأن فى حال أهل هذا الزمان، وهذا أمر مستفيض وشى مشهور (أعنى) علم التوحيد وأنه فرض لازم وعلم الشرك. وأنه حرام محض، ولكنها حصلت غلطات شنيعة، وعادات فظيعة، وأعمال كفرية وأقوال شركية، وردت صريحة وأفعال قبيحة تتابع فيها كثير من الناس وقلد بعضهم بعضا إلا قليلا من (الاكياس) (2).
وكادت أن تنطمس أثار مبانى الشريعة، وتنهدم مشايد معانيها المنيعة، وما أتى الناس إلا من قبل الديانات، وهى أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.
___________________
قلت : كان المؤلف يعنى ما ورد فى تفسير قوله تعالى:
(قلت هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) الكهف : 102، 103، فإن كان كذلك فأقول إن الآيتين وردتا فى أهل حروراء من اليهود الذين هم أصحاب للصوامع وشاهده ما أخرج الطبرى فى تفسيره عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال : "هم الرهبان الذين حبسوا أنفسيم فى الصوامع، ج 16/33.
وأخرج بسندين آخرين عن على (رضى الله عنه) قال : "سأل عبد الله بن الكواء علياً عن قوله تعالى : (قل هل ننبئكم .....) الآية، قال أنتم يأهل حروراء" ج 16/34.
(2) الأكياس : جمع كيس : والمفرد كيس : قال ابن الاثير : (الكيس العقل، ومنه الحديث : "أي المؤمنين أكيس" أي : أعقل) ج 4/317.(1/43)
حتى بزغ قمر التجديد وطلعت شمس التوحيد بدعوة شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب (1)، أسكنه الله جنة المآب، فنور الظلام، وجلى الله به القتام، وبين سبل السلام الى بلوغ المرام، وألف المؤلفات فى توحيد الله بجميع العبادات، مع إقامة الحجج القاطعة، والإنصاف التام فى المناظرة والمراجعة (2).
فعاد قارح الاسلام به جدعاً، ورجع دارس الأحكام به منتجعاً، وكان رحمه الله سنياً أثرياً متبعاً، فأجاب دعوته ولباه وأولى غربته السعيد المسعود، محمد بن سعود (3) على قلة الاعوان، وابتكار لهذا الشأن، ثمّ وأزره لمجهوده وبطوقه، وعاضده حتى استوى على سوقه، الامام عبد العزيز
____________
هو شيخ الاسلام المجدد الذى أعاد التوحيد فى جزيرة العرب بعد ان كادت تنطمس معالمه، وبعد أن حل الشرك فى مدن وقرى هذه البلاد المقدسة الطاهرة، فعبد الشجر، وأتخذ أصحاب القبور وسائط بين الله وبين خلقه، ورفعت القبور، وذبح لغير الله، وكادت أن تنطمس شعائر الدين فى أم القرى ومن حولها.
فأتى الله بهذا الشيخ الامام المجدد المجاهد، فدعى الله على بصيرة وأخلص له النية، فبلغت دعوته العراق والشام واليمن وعمان ثمّ نقلت للهند، ما النصر الا من عند الله.(1/44)
وكان الشيخ ولد فى بلدة العيينه الواقعة الى الشمال الغربى من الرياض ب(ستين كيلومترا)، سنة خمس عشرة ومائة وألف هجرية، وبها نشأ وحفظ القرآن وما بلغ سن العاشرة حتى علم مبادئ الفقه الحنبلى وبعض العلوم عن والده مفتى العيينه وقاضيها، ثمّ سافر للحجاز فأخذ العلم من علماء الحرمين ومنهم العالم السندى صاحب الحاشية على صحيح البخارى ثمّ رحل الى البصرة فدرس الحديث والفقه هناك، ثمّ عاد الى بلدة حريملاء حيث كان والده قاضياً بها، وكان يعكف على كتب اين تيمية وابن القيم وخرج من حريملاء الى العيينة وكان يدعو الناس الى ترك ما هم عليه من الضلال، فما أطاعوه ثمّ خرج منها الى الدرعية حيث الامام محمد بن سعود الذى رحب به وناصره، وكان ذلك سنة (1158هـ).
لقد طبعت مؤلفات الشيخ المجدد كلها مرارا وتكراراً، ثمّ قامت جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية وجمعتها فى خمسة عشر مجلداً باسم (مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، وتوفى سنة 1206هـ، رحمه الله.
هو الامام الصالح ناصر العقدية وأهلها، ومؤسس الدولة السعودية الأولى : محمد بن سعود بن محمد بن مقرن الذى كان والياً على بلد ابائه والجدود سنة (1158) هـ، فلما سمع بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعلم صدق دعوته وصحتها رحب به وابرم معه ميثاق الدرعية، وهو تحكيم شرع الله بين خلقه كما شرعه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعاهد على المصحف بأن يخلصوا لله وينصرونه فنصرهم الله وبلغهم ما يصبون اليه، فكان ما كان من أمر الدعوة وانتشارها ودام حكم محمد بن سعود من سنة 1158 هـ - 1179 هـ وفى هذه السنة كانت وفاته (رحمه الله).(1/45)
ابن محمد بن سعود، حتى أورى قبساً لقابس من أنوار التوحيد، وأروى عطشا لعاطش من شراب التجريد، ثمّ ولى الخلافة على المسلمين فأحسن قراها بالهدى والتمكين، الامام السعود بن عبد العزيز (1) ايده الله، فزاع جميع المسلمين بقرآنه وسلطانه، وزعزع صقع المشركين بتوحيده وإيمانه، فى سياسة شرعية وسيرة عمرية، وصارت جزيرة العرب بولايته عليها فى سرور وطرب، إمام ناصح لله، فنصح له بلغه الله ما أم له وما أمله.
وهذه النسخة المجموعة والفوائد المسموعة قطرة من مطرة من سحائب الدعوة، ودرة من عجائب أولئك الصفوة، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حرر بشهر شوال سنة 1222هـ.
الفقير الى الله (محمد بن أحمد الحفظى)، غفر الله لهما...
_____________________
(1) هو عبد العزيز بن محمد بن سعود الذى خلف والده فى الحكم فكان خير خلف لخير سلف وقف مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشر الدعوة بالسيف حتى كربلاء فى شمال العراق، ودام حكمه العادل من سنة 1179 – 1218هـ، حتى ان الناس كانوا يلقبون حكمه وسيرته بسيرة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، وفى سنة 1218 هـ، توفى (رحمه الله) بعد ان اصبحت الجزيرة العربية بلداً إسلامياً لا شرقياً ولا غربيا.
قلت : وقد فرغت من تحقيق وتخريج هذه الرسالة فى صباح هذا اليوم الاثنين الرابع من شهر رجب من سنة خمس وأربعمائة وألف من الهجرة، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا وعلى آله وصحبه وسلم.
……………………قاله الفقير الى الله
………………… عمر بن غرامه العمروى
الخاتمة(1/46)
وأخيراً فإن كتب التوحيد لها أهمية بالغة فبما فيها من أدلة نقلية وعقلية، يستطيع الانسان معرفة حق الله على العباد، وحق العباد على الله، وما يجب على العبد، من محبة الله تعالى، وتعظيم وخشية، وإنابة اليه، وطاعة له بفعل ما يحبه الله، وترك ما يكرهه الله، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وطاعته الائتساء به، ومتابعته، والاستقامة على شريعة الله، فذلك الايمان بالله تعالى وصدق وعده ووعيده.
فولا ذلك ما تمت الاستقامة، ولا تمّ الايمان لأحد من عباد الله، فالإيمان بالله تعالى، وسيلة لطلب معرفته بأسمائه وصفاته وحبه وتعظيمه، وطاعته، وخشيته، والتقرب اليه بفعل ما يحبه، واجتناب محارمه.
ولا يكون العبد مؤمناً بالله حتى تكون عقيدته :
أن الله هو الخالق الرازق، والمربى له ولجميع العالمين بنعمته.
يعتقد ان القرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم.
أن يعتقد الايمان بكل ما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم، مما يكون بعد الموت، من فتنة القبر ونعيمه، وإعادة الأرواح الى الاجساد، وقيام الناس لرب العالمين، ونصب الموازين، لتوزن بها أعمال العباد.
الايمان بالحوض، ما فيه من النعيم، والصراط المنصوب على جهنم، الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد إذن ربه، والإيمان بالجنة ونعيمها، وبالنار وجحيمها.
الاعتقاد والإيمان قولاً باللسان، وعملاً بالأركان، واعتقادا بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأن الايمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها
لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذه الرسالة تتضمن ثمان قواعد فى العقيدة، والإيمان بالله، حررها مؤلفها لأهل جهته، وللناس أجمعين، وقد قمنا بتحقيقها حسب الاستطاعة، وبذلنا من الجهد ما نسأل الله تبارك وتعالى، أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
…وأخر دعوانا (أن الحمد لله رب العالمين)(1/47)