مقدمة الناشر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله . وبعد : -(1/1)
فإن الأصول الثلاثة من تأليف الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحاشية الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ذات نفع عظيم يعود على كل مسلم ومسلمة في عقيدته وخلوص توحيده فهي تبحث في أصل العقيدة وهو ما يسأل عنه العبد في قبره يقال له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فإن كان مؤمنا قال : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن كان غير ذلك قال : هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته والعياذ بالله لهذا ، فقد ركز الشيخ على هذه الأصول الثلاثة تركيزا جيدا تحصل به للمسلم معرفة هذه الأصول بأدلتها من الكتاب والسنة ، ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية حين لمست الفائدة العظيمة لهذا الكتاب مع صغر حجمه وتيسُّر قراءته وحفظه وفهمه لكل راغب في الخير والنفع فقد رأت أن تساهم في طباعته وتوزيعه على كل راغب في الخير والنفع من عموم المسلمين في داخل المملكة وخارجها والله المسؤول أن ينفع به ويجزي مؤلفه وشارحه وناشره عن المسلمين خيرا إنه سميع مجيب . وصلى الله على محمد وآله وصحبه .
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصحح
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، أحمده سبحانه وأثني عليه ، وأقر وأعترف أن الله هو ربي ومعبودي وأنه الإله الحق ، وكل مألوه سواه باطل وضلال ، وأدين له بالإذعان وأستسلم لما أمر ودبر ، وأشهد أن عبده محمدا مرسل من ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه .
وبعد : فإن ربنا بحكمته أوجد في هذا الكون جنس الإنسان ، وميزه بالعقل والإدراك وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة . وكلفه لذلك أن يعرف ربه ومليكه معتبرا بما بين يديه وما خلفه من براهين ودلالات .
ثم يعتقد أنه مدين له بحقوق يلزمه القيام بها ليظهر بذلك عبوديته وإذعانه لمليكه .(1/3)
ثم يعرف أن بيان تلك الحقوق إنما يُتَلَقَّى عن الرسل الذين تتوقف نجاة العباد على اتباعهم ، فيشهد أنهم بلغوا ما أنزل إليهم وأن خاتمهم وأفضلهم نبي هذه الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعتبر هذه الأمور أسسا وقواعد لما يلزم العباد في هذه الدار ، ولأهميتها وعظم شأنها يقع السؤال عنها في البرزخ فمن كان سائرا على ضوئها في هذه الحياة ألهم في قبره جوابا سديدا ، { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } .
ولما كانت هذه الأمة أفضل الأمم وأزكاها عند مليكها ، كان إيضاح هذه الأصول في شريعتها أتم وأوفى .
ولقد اعتنى علماء هذه الشريعة بهذه القواعد الأساسية ، فذكروها ضمن عقائدهم مجملة أو مفصلة .
ولم يسبق أحد إلى الكتابة فيها على حدة قبل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ، مجدد القرن الثاني عشر ، أجزل الله له الأجر والثواب ، وأدخله الجنة بغير حساب ، فقد ظهر في زمن تفشت فيه العامية ، وظهر فيه الشرك والابتداع في الدين ، فألهمه الله أن كتب رسالة موجزة عرفت بـ ( ثلاثة الأصول ) .(1/4)
فكانت موضع العناية ومحل الاهتمام ، بحيث كان الموحدون يجتهدون في حفظها ، ويلقنونها لأطفالهم وعوامهم ، فحفظ الله هذه الفرقة الناجية بسببها من الشبه والفتن التي تصرف الْفِطَر المستقيمة عن الطريق السوي .
وقد شرحها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمه الله وأكرم مثواه بحاشية نفيسة أوضح فيها مقاصد المؤلف ودلالة النصوص .
وقد طبعت ( ثلاثة الأصول ) عشرات المرات وعم النفع بها والحمد لله .
أما حاشيتها فطبعت في عهد مؤلفها رحمه الله ثلاث طبعات . وقد بذلت ما استطعته من الجهد في تصحيحها للطبع بحسب الإمكان والله الموفق والمعين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين(1/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشارح
الحمد لله الذي شهدت بربوبيته وإلهيته الكائنات . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . كلمة قامت بها الأرض والسماوات وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد بالآيات والمعجزات .
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فإن ثلاثة الأصول لشيخ الإسلام والمسلمين مجدد الدعوة والدين محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب . قد جد الناس في حفظها لعظم نفعها . وتشوقت النفوس لبيان معانيها لرصانة مبانيها . فوضعت عليها حاشية موضحة لمعناها . مشجعة لمن اقتناها . والله المسؤول أن ينفع بها كما نفع بأصلها إنه على كل شيء قدير .(1/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) اعلم رحمك الله (2) ، أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل (3) الأولى العلم (4) وهو معرفة الله (5) ومعرفة نبيه (6) ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة (7) . الثانية العمل به (8) . الثالثة الدعوة إليه (9) . الرابعة الصبر على الأذى فيه (10) .
والدليل قوله تعالى : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { وَالْعَصْرِ } (11) { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } (12) { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } (13) { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } (14) { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } (15) { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } (16) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى (17) لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم (18) .
وقال البخاري رحمه الله تعالى (19) باب العلم قبل القول والعمل (20) .
والدليل قوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (21) فبدأ بالعلم قبل القول والعمل (22) .(1/7)
(1) ابتدأ المصنف - رحمه الله - كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وتأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكاتباته ومراسلاته ، وعملا بحديث « كل أمر ذي بال » أي حال وشأن يهتم به شرعا « لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع » وفي رواية « أجذم » وفي رواية « أبتر » والمعنى من جميع الروايات أنه ناقص البركة . والبداءة بها للتبرك والاستعانة على ما يهتم به . واقتصر على البسملة لأنها من أبلغ الثناء والذكر وللخبر .(1/8)
(2) اعلم فعل أمر من العلم وهو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع أي كن متهيئا ومتفهما لما يُلْقَى إليك من العلوم . وكلمة " اعلم " يؤتى بها عند ذكر الأشياء المهمة التي ينبغي للمتعلم أن يصغي إلى ما يلقى إليه منها . وما قرره المصنف هنا من أصول الدين حقيق بأن يهتم به غاية الاهتمام . ويعتنى به أشد الاعتناء . ويصغى إليه حقيقة الإصغاء ، ورحمك الله دعاء لك بالرحمة أي غفر الله لك ما مضى ووفقك وعصمك فيما يستقبل . وإذا قرنت الرحمة بالمغفرة فالمغفرة لما مضى . والرحمة سؤال السلامة من ضرر الذنوب وشرها في المستقبل . وكثيرا ما يجمع رحمه الله عندما يرشد الطالب بتقرير الأصول المهمة بينها وبين الدعاء له . وهذا من حسن عنايته ونصحه وقصده الخير للمسلمين .
(3) أي يلزم كل فرد من أفراد المكلفين ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا تعلم أربع مسائل ( جمع مسألة من السؤال وهو ما يبرهن عنه في العلم ) . والواجب ما لا يعذر أحد بتركه . وعند الأصوليين ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه - فيجب على كل فرد منا العلم بهذه الأربع المسائل .(1/9)
(4) وهو معرفة الهدى بدليله . والعلم إذا أطلق فالمراد به العلم الشرعي الذي تفيد معرفته ما يجب على المكلف من أمر دينه ، والعلم الشرعي على قسمين فرض عين وفرض كفاية وما ذكر رحمه الله فهو فرض عين على الذكر والأنثى والحر والعبد لا يعذر أحد بالجهل به . وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه « طلب العلم فريضة » وقال أحمد يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ، قيل له مثل أي شيء ؟ قال : الذي لا يسعه جهله صلاته وصيامه ونحو ذلك . وقال المصنف رحمه الله إن طلب العلم فريضة . وإنه شفاء للقلوب المريضة . وإن أهم ما على العبد معرفة دينه ، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار . أعاذنا الله منها اهـ .(1/10)
فما كان واجبا على الإنسان العمل به كأصول الإيمان وشرائع الإسلام وما يجب اجتنابه من المحرمات وما يحتاج إليه في المعاملات ونحو ذلك مما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب عليه العلم به . بخلاف القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين فإنه من فروض الكفايات التي إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين . ثم إن طلب العلم فيما هو فرض كفاية أفضل من قيام الليل وصيام النهار والصدقة بالذهب والفضة . قال أحمد تعلم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره مما يتطوع به . اهـ .
فإن العلم هو الأصل والأساس وأعظم العبادات وآكد فروض الكفايات . بل به حياة الإسلام والمسلمين ، والتطوعات إنما هي شيء مختص بصاحبه لا يتعدى إلى غيره . وهو الميراث النبوي ونور القلوب . وأهله هم أهل الله وحزبه . وأولى الناس به وأقربهم إليه . وأخشاهم له وأرفعهم درجات .
(5) أي بما تعرف به إلينا في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أسمائه وصفاته وأفعاله ولا يكون الإنسان على حقيقة من دينه إلا بعد العلم بالله سبحانه وتعالى .(1/11)
(6) - صلى الله عليه وسلم - فإنه الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ رسالة الله . ومعرفته فرض على كل مكلف . وأحد مهمات الدين والنبي رجل أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فإن أمر به فرسول .
(7) - أي معرفة دين الإسلام الذي تعبد الله الخلق به بالأدلة من الكتاب والسنة . والأدلة جمع دليل والدليل هو ما يوصل إلى المطلوب . وفيه إشارة إلى أنه لا يصلح فيه التقليد بل إذا لقي الله فإذا معه حجج الله وبراهينه . وهذا المقدار من العلم يجب تعلمه . بل كيف يعمل المرء بشيء وهو لا يعرفه . وجهل الإنسان حقيقة ما أمر الله به من أعظم الإثم . والعمل بغير علم طريق النصارى . والعلم بلا عمل طريق اليهود . وقد أمرنا الله أن نسأله في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم . وهو طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين .(1/12)
(8) فالعمل هو ثمرة العلم ، والعلم مقصود لغيره فهو بمنزلة الشجرة . والعمل بمنزلة الثمرة . فلا بد مع العلم بدين الإسلام من العمل به فإن الذي معه علم ولا يعمل به شر من الجاهل . وفي الحديث « أشد الناس عذابا عالم لم ينفعه الله بعلمه » وهو أحد الثلاثة الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة . وقد قيل :
وَعَالِم بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ ... مُعَذَّب مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الْوَثَنْ
(9) فإذا حصل له بتوفيق الله العلم بدين الإسلام والعمل به فيجب عليه السعي في الدعوة إليه ، كما هي طريقة الرسل وأتباعهم . وأعلى مراتب العلم الدعوة إلى الحق وسبيل الرشاد . ونفي الشرك والفساد . فإنه ما من نبي يبعث إلى قومه إلا ويدعوهم إلى طاعة الله وإفراده بالعبادة وينهاهم عن الشرك ووسائله وذرائعه ويبدأ بالأهم فالأهم بعد ذلك من شرائع الإسلام .(1/13)
(10) لأن من قام بدين الإسلام ودعا الناس إليه . فقد تحمل أمرا عظيما وقام مقام الرسل في الدعوة . وقصد أن يحول بين الناس وبين شهواتهم وأهوائهم واعتقاداتهم الباطلة فحينئذ لا بد أن يؤذوه فعليه أن يصبر ويحتسب وهذه الأربع أوجب الواجبات . (11) أقسم تعالى بالعصر وهو الدهر الذي هو زمن تحصيل الأرباح والأعمال الصالحة للمؤمنين . وزمن الشقاء للمعرضين . ولما فيه من العبر والعجائب للناظرين .(1/14)
(12) أي جنس الإنسان من حيث هو إنسان في خسار في مسعاه ولا بد إلا من استثنى الله في هذه السورة . وهو من قام بهده الخصال : الإيمان بالله والعمل الصالح في نفسه . وأمر غيره به والصبر على ما ناله فيه . (13) استثنى سبحانه وتعالى الذين آمنوا فإنهم ليسوا في خسر ففيه ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه . وفيه العلم فإنه لا يمكن العمل بدون علم . وفيه حياة الإنسان . (14) أي ليسوا في خسر بل فازوا وربحوا . لأنهم اشتروا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية . وفيه الحض على العلم فإن العامل بغير علم ليس من عمله على طائل . وفيه العمل وهو ثمرة العلم . (15) أوصى بعضهم بعضا بالإيمان بالله وتوحيده ، وبالكتاب والسنة والعمل بما فيهما ومنه الدعوة إليه .(1/15)
(16) أي على أداء الفرائض وإقامة أمر الله وحدوده ويدخل فيه الحق الواجب والمستحب . وفيه الصبر على الأذى فيه . فإن من قام بالدعوة إلى الله فلا بد أن يحصل له من الأذى بحسب ما قام به . وفي هذه السورة الكريمة التنبيه على أن جنس الإنسان كله في خسار إلا من استثنى الله . وهو من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بالطاعات . فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره به . وبملاك ذلك وهو الصبر . وهذا غاية الكمال . ومعنى ذلك في القرآن كثير . وقال ابن القيم جهاد النفس أربع مراتب أحدها أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين . الثانية أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها . الثالثة أن يجاهدها على الدعوة إليه ، وتعليمه من لا يعلمه ؛ وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات . ولا ينفعه علمه . ولا ينجيه من عذاب الله . الرابعة أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق . ويتحمل ذلك كله لله . فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من(1/16)
الربانيين . فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء .
(17) هو محمد بن إدريس القرشي الإمام الشهير المتوفى سنة أربع ومائتين رحمه الله تعالى . (18) لعظم شأنها مع غاية اختصارها . لو فكر الناس فيها لكفتهم لجمعها للخير بحذافيره ، فإنها دلت على العلم والعمل . والدعوة إلى الحق والصبر على الأذى فيه . فتضمنت جميع مراتب الكمال الإنساني . فهي حقيقة بأن يقال فيها ما قاله هذا الإمام الجليل . وقال شيخ الإسلام هو كما قال فإن الله أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحا ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر .
(19) هو محمد بن إسماعيل جبل الحفظ صاحب الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله . المتوفى سنة مائتين وست وخمسين رحمه الله .
(20) ترجم رحمه الله بالبداءة بالعلم . لأن تعلم العلم الفرض مقدم على القول والعمل . وذلك أن قول المرء وعمله لا يصلح إلا إذا صدر عن علم . وفي الحديث « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » وقد قيل :
وكل من بغير علم يعمل ... أعماله مردودة لا تقبل(1/17)
وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على خلقه وخلقهم لها إلا بالعلم .
(21) استدل المصنف رحمه الله بهذه الآية الكريمة على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل . كما استدل بها البخاري رحمه الله على صحة ما ترجم به . وذلك أن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأمرين : بالعلم ثم العمل . والمبدوء به العلم في قوله { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } ثم أعقبه بالعمل في قوله { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } فدل على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل . وأن العلم شرط في صحة القول والعمل . فلا يعتبر إلا به . فهو مقدم عليهما . لأنه مصحح النية المصححة للعمل . (22) حيث قال { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } ثم قال { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم . وقال - صلى الله عليه وسلم - « ابدءوا بما بدأ الله به » .(1/18)
اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة (1) تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن (2) :
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا (3) ولم يتركنا هملا (4) بل أرسل إلينا رسولا (5) فمن أطاعه دخل الجنة (6) ومن عصاه دخل النار (7) .
والدليل قوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ } (8) { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } (9) { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } (10) { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } (11) .
الثانية : أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته (12) لا ملك مقرب ولا نبي مرسل (13) .
والدليل قوله تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (14) .
الثالثة : أن من أطاع الرسول ووحد الله (15) لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله (16) ولو كان أقرب قريب (17) .(1/19)
والدليل قوله تعالى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (18) { وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (19) { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } (20) { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } (21) { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ } (22) { اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (23) { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ } (24) { أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (25) .
اعلم أرشدك الله لطاعته (26) أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصا له الدين (27) وبذلك أمر الله جميع الناس ، وخلقهم لها كما (28) ، قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (29) ، ومعنى يعبدون يوحدون (30) وأعظم ما أمر الله به التوحيد (31) وهو إفراد الله بالعبادة (32) وأعظم ما نهى عنه الشرك (33) وهو دعوة غيره معه (34) والدليل قوله تعالى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (35) .(1/20)
(1) مكلف من ذكر وأنثى حر وعبد وجوبا عينيا . يعاقب المرء على تركه .
(2) أي معرفتهن واعتقاد معانيهن والعمل بمدلولهن ، فإن العمل هو ثمرة العلم . (3) أي أوجدنا بعد أن لم نكن شيئا لعبادته ورزقنا النعم لنستعين بها على ما خلقنا له .
(4) أي مهملين معطلين سدى شبه البهائم لا نؤمر ولا ننهى . قال تعالى { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } وقال { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } وفي الحديث القدسي « ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تلعب وخلقت كل شيء لأجلك فلا تتعب » بل خلقنا لنعبده وحده لا شريك له .
(5) هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أرسله بالهدى ودين الحق . وهذا أصل عظيم من أصول الدين يجب علينا معرفته واعتقاده والعمل بمقتضاه .
(6) لأن طاعته طاعة لله { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } .(1/21)
(7) أعاذنا الله منها { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } وقد أمرنا الله بطاعته ونهانا عن معصيته في غير موضع من كتابه .
(8) معشر الثقلين بأعمالكم يوم القيامة . وقال تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } عدلا خيارا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
(9) هو موسى كليم الرحمن عليه السلام كما أخبر الله به في غير موضع من كتابه .
(10) أي عصى فرعون رسول الله موسى عليه السلام . وأبى إلا التمادي في الكفر والطغيان .(1/22)
(11) شديدا مهلكا وذلك بإغراقه وجنوده في البحر فلم يفلت منهم أحد . ثم بعد ذلك في عذاب البرزخ إلى يوم القيامة ثم عذاب النار . قال تعالى { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } ، أي يعرضون عليها في البرزخ يعذبون بها " غدوا " أول النهار " وعشيا " آخره { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذه عاقبة العاصين للرسل ، وجزاء المخالفين لأمرهم . أي فاحذروا أنتم أيها الأمة أن تعصوا نبيكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيحل بكم كما حل بهم من عقاب الله وأليم عذابه في الدنيا والبرزخ وفي الآخرة نعوذ بالله من ذلك . وفي القرآن آيات كثيرة في بيان سعادة من أطاع الرسل وشقاوة من عصاهم .(1/23)
(12) فهو سبحانه المستحق لها وحده ومن سواه لا يستحق شيئا منها . وفي الحديث القدسي « إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي » . ولأن الشرك أظلم الظلم قال تعالى { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } والظلم وضع الشيء في غير موضعه . وسمى الله المشرك ظالما لأنه وضع العبادة في غير موضعها ، وصرفها لغير مستحقها وأخبر تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر . وإنما يرضى لهم الإسلام . كما قال تعالى { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وفي الحديث " إن « الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا » الحديث .
(13) أي لا يرضى سبحانه أن يجعل له شريك في عبادته . لا ملك مقرب عنده ولا نبي مرسل ، يعني فضلا عن غيرهما من سائر المخلوقات . فإذا لم يرض بعبادة من كان قريبا منه كالملائكة . ولا نبيا مرسلا وهم أفضل الخلق فغيرهم بطريق الأولى . لأن العبادة لا تصلح إلا لله وحده . فكما أنه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير فهو المستحق للعبادة وحده دون من سواه .(1/24)
(14) أي وأن المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة وذكر الله . أو أعضاء السجود لله فلا تعبدوا ، نهي عام لجميع الخلق الإنس والجن فيها . أو بها مع الله أحدا . وأحدا نكرة في سياق النهى شملت جميع ما يدعى من دون الله . سواء كان المدعو من دون الله صنما أو وليا . أو شجرة أو قبرا أو جنيا أو غير ذلك . فإن دعاء غير الله هو الشرك الأكبر . والذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة منه . قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } .
(15) أي المسألة الثالثة من المسائل الثلاث التي يجب على المكلف معرفتها . واعتقادها . والعمل بموجبها . أن من أطاع الرسول فيما أمر به . واجتنب ما نهى عنه ووحد الله في عبادته .(1/25)
(16) بل يجب عليه أن يصارمهم ويقاطعهم ويعاديهم أشد المعاداة . والمحادون لله هم الكافرون بالله . وقد حرم الله موالاتهم على كل مسلم ومسلمة . والموالاة الموادة والصداقة . ضد المعاداة . والمحادة هي المجانبة والمخالفة والمغاضبة والمعاداة . ولها أيضا عند أهل العلم معنيان : أحدهما أن الكفار كانوا في حد والمؤمنون في حد . المؤمنون في حد الله ورسوله . وهو الإيمان . والمشركون في حد إبليس وجنوده . وهو الكفر . والقول الثاني أنه ليس بين الكافرين والمسلمين إلا الحديد . يعني القتال بالحديد .
(17) أي ولو كان من حاد الله ورسوله ابنك أو أباك أو أخاك أو عشيرتك . فإن الله قطع التواصل والتوادد والتعاقل والتوارث . وغير ذلك من الأحكام والعلائق وقرب الإنسان بين المسلمين والكفار . فإن القرب إنما هو في الحقيقة قرب الدين لا قرب النسب . فالمسلم ولو كان بعيد الدار فهو أخوك في الله . والكافر ولو كان أخاك في النسب فهو عدوك في الدين . وحرام عل كل مسلم موالاتهم . بل يجب اتخاذهم أعداء وبغضاء .(1/26)
(18) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر الإيمان الواجب يوادون أي يوالون ويحبون من حاد الله ورسوله وهم الكافرون وإن كانوا أقرب قريب . فلا يتجمع الإيمان ومحبة أعداء الله . بل لا تجد المؤمنين إلا محادين من حاد الله ورسوله معادين من عادى الله ورسوله . فإن الموادة المحابة مفاعلة من المحبة ولا ريب أن الإيمان الواجب يوجب محادة من حاد الله ورسوله كما أنه يستلزم محبة من يحب الله ورسوله وموالاتهم . فمن والى الكافرين فقد ترك واجبا من واجبات الإيمان . واستحق أن ينفى عنه الإيمان كما في النصوص . وكذا من ترك موالاة المؤمنين فقد ترك واجبا من واجبات الإيمان . واستحق أن ينفى عنه الإيمان ولا يلزم من نفيه عنهم أن ينتفي بالكلية .(1/27)
(19) أي لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا الأقربين كما قال تعالى { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ } أصدقاء وأصحابا { مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } الآية وقال { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلى قوله { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وختمها بقوله { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فسماهم فاسقين بذلك .
(20) أي أولئك الذين لم يوادوهم أثبت الله في قلوبهم الإيمان وأرساه . فهي موقنة مخلصة . وكتب لهم السعادة وزين الإيمان في بصائرهم .
(21) أي قواهم بنصر منه ونور قلوبهم بالإيمان وبالقرآن وحججه . وسمى نصره إياهم روحا لأن به حي أمرهم .(1/28)
(22) الجنة اسم لدار جمعت أنواع النعيم التي أعلاها النظر إلى وجه الله الكريم . ويدخلهم أي يسكنهم جنات في دار كرامته التي أعدت للمتقين . وسميت باسم البساتين لأنها أشجار مثمرة وأنهار جارية وقصور عالية تجرى من تحت أشجارها ومساكنها المياه في الأنهار . وفي الحديث : « أنهار الجنة في غير أخدود »{ خَالِدِينَ } دائمين { فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } .
(23) وهذا أعلى مراتب النعيم وفيه سر بديع وهو أنهم لما أسخطوا القرائب والعشائر في الله . عوضهم الله بالرضى عنهم . وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم . والفوز العظيم والفضل العميم .
(24) لما ذكر هذه النعم أتبعه بما يوجب ترك الموالاة لأعداء الله فقال (أولئك) أي الموالون أولياء الله المصارمون أعداء الله هم (حزب الله) وأنصاره في أرضه وعباده المقربون وأهل كرامته .(1/29)
(25) الفائزون في الدنيا والآخرة الناجون يوم القيامة . وفي الحديث « اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فإني وجدت فيما أوحيته إلي { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }» وظهر بهذا أنه يجب على كل مسلم مقاطعة المشركين ومنابذتهم .
(26) هداك ووفقك لما ينفعك في دنياك وآخرتك ، والرشد الاستقامة على طريق الحق ضد الغي .(1/30)
(27) أي الحنيفية طريقة وشريعة الخليل إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام هي ما قررها به المصنف أن تعبد الله مخلصا له الدين . فهذه هي حقيقة ملة إبراهيم عادة الله بالإخلاص والإخلاص حب الله وإرادة وجهه . وعبادة الله بالإخلاص وترك عادة ما سواه . هي المذكورة في قوله تعالى { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وفي قوله : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } والحنيف مشتق من الحنف وهو الميل ، فالحنيف المائل عن الشرك قصدا إلى التوحيد . والحنيف المستقيم المتمسك بالإسلام . المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه . وكل من كان على دين إبراهيم عليه السلام . (28) أي وبالإخلاص في جميع ما تعبدنا الله به الذي هو ملة إبراهيم أمر الله بها جميع الناس ، وخلق لها جميع الثقلين الجن والإنس .
(29) أي ما أوجد سبحانه وتعالى الثقلين إلا لحكمة عظيمة . وهذه الحكمة العظيمة هي عبادة الله وحده لا شريك له وترك عادة ما سواه ، وأفادت أن الخلق لم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى .(1/31)
(30) قال ابن عباس كل موضع في القرآن اعبدوا الله فمعناه وحدوا الله . وجاء أيضا عبادة الله توحيد الله ، والجادة في اللغة التذلل والخضوع من قولهم طريق معبد أي مذلل قد وطئته الأقدام . وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يفعلونها لله خاضعين ذالين . ويأتي تعريفها في الشرع .
(31) وهو أعظم فريضة فرضها الله على العباد علما وعملا . ولأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وبه تكفر الذنوب وتستوجب الحنة ، وينجي من النار .
(32) فهو في الأصل من وحده توحيدا جعله واحدا أي فردا . ووحده قال إنه واحد أحد ، وقال لا إله إلا الله . والواحد الأحد وصف اسم الباري لاختصاصه بالأحدية ، وأقسام التوحيد ثلاثة : توحيد الربوبية ، وهو العلم بأن الله رب كل شيء وخالقه . والثاني توحيد الأسماء والصفات . وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والثالث توحيد الإلهية : وهو إخلاص العبادة لله وحده بجميع أفراد العبادة .(1/32)
(33) الشرك النصيب واسم من : أشرك بالله . إذا كفر به ، وهو أعظم ذنب عصى الله به وأي ذنب أعظم من أن يجعل مع الله شريك في ألوهيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته . وكما أن الشرك أظلم الظلم وأبطل الباطل كما تقدم فهو هضم للربوبية ، وتنقص للألوهية وسوء ظن برب العالمين وهو أقبح المعاصي لأنه تسوية للمخلوق الناقص بالخالق الكامل من جميع الوجوه .
(34) أي طلب غير الله مع الله وسؤال غيره معه من ملك أو نبي أو ولي أو شجرة أو حجر أو قبر أو جني . والاستعانة به والتوجه إليه وغير ذلك من أنواع العبادة .(1/33)
(35) يأمر سبحانه عباده بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه الخالق الرزاق المنعم المتفضل على خلقه ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا ، وشيئا نكرة في سياق النهي . فعم الشرك قليله وكثيره ، وقرن سبحانه الأمر بالعبادة التي فرضها عل عباده ، بالنهي عن الشرك الذي حرمه . فدلت على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة ، وتسمى هذه الآية آية الحقوق العشرة . لأنها اشتملت على حقوق عشرة . أحدها الأمر بالتوحيد ثم عطف عليه التسعة الباقية وابتداؤه تعالى بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك أدل دليل على أنه هو أهمها . فإنه لا يبدأ إلا بالأهم فالأهم . فدلت عل أن التوحيد أوجب الواجبات ، وأن ضده وهو الشرك أعظم المحرمات .(1/34)
فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها (1) فقل معرفة العبد ربه (2) ودينه (3) ، ونبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - (4) فإذا قيل لك : من ربك (5) فقل : ربي الله الذي رباني (6) وربى جميع العالمين بنعمه (7) وهو معبودي ليس لي معبود سواه (8) .
والدليل قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (9) .
وكل من سوى الله عالم (10) وأنا واحد من ذلك العالم (11) فإذا قيل لك : بم عرفت ربك (12) فقل : بآياته ومخلوقاته (13) .
ومن آياته الليل والنهار (14) والشمس والقمر (15) ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما (16) .
والدليل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } (17) { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ } (18) { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } (19) .(1/35)
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } (20) { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (21) { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } (22) { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } (23) { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (24) { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (25) والرب هو المعبود (26) .
والدليل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } (27) { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (28) { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا } (29) { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } (30) { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } (31) { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (32) .
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى : (33) الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة (34) .(1/36)
وأنواع العبادة التي أمر الله بها (35) مثل الإسلام والإيمان والإحسان (36) ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة (37) التي أمر الله بها (38) كلها لله تعالى .
والدليل قوله تعالى (39) : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (40) .
فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر (41) .
والدليل قوله تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } (42) { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } (43) .
وفي الحديث : « الدعاء مخ العبادة » (44) .
والدليل قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (45) { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } (46) .
ودليل الخوف (47) قوله تعالى : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (48) .(1/37)
ودليل الرجاء (49) قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا } (50) { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (51) .
ودليل التوكل (52) قوله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (53) وقال : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (54) .
ودليل الرغبة والرهبة والخشوع (55) قوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا } (56) { وَرَهَبًا } (57) { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } (58) .
ودليل الخشية (59) قوله تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } الآية (60) .
ودليل الإنابة (61) قوله تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } الآية (62) .
ودليل الاستعانة (63) قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (64) ، وفي الحديث : « إذا استعنت فاستعن بالله » (65) .
ودليل الاستعاذة (66) قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } (67) وقوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } (68) .(1/38)
ودليل الاستغاثة (69) قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } الآية (70) .
ودليل الذبح (71) قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ } (72) ، ومن السنة (73) : « لعن الله من ذبح لغير الله » (74) .
ودليل النذر (75) قوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } (76) { وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } (77) .
(1) أي إذا سألك سائل فقال لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على كل مكلف معرفتها والعمل بمقتضاها .
(2) أي بما تعرف به إليه في كتاب ، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . من وحدانيته ، وأسمائه ، وصفاته ، وهذا أصل الأصول ، فيحب علينا معرفته لنعبده على بصيرة ويقين .
(3) الذي تعبدنا به ، وهو فعل ما أوحب علينا أن نفعله ، وترك ما أوجب علينا أن نتركه ، وهذا أصل عظيم يجب علبنا معرفته .(1/39)
(4) فإنه الواسطة بيننا وبين الله عز وجل ، ولا طريق لنا إلى ما تعبدنا به إلا بما جاء به - صلى الله عليه وسلم - . وهو وإن كان بشرا فأهمية معرفته من أهمية معرفة مرسله وما أرسل به ، وذكر المصنف رحمه الله هذه الأصول الثلاثة مجملة . ثم ذكرها بعد ذلك مفصلة أصلا أصلا ، تتميما للفائدة ، وتنشيطا للقارئ ، فإنه إذا عرفها مجملة وعرف ألفاظها وضبطها بقى متشوقا إلى معرفة معانيها وهي المقصود بهذه النبذة وما تقدمها من المسائل فلعل بعض تلاميذه قرنها بها .
(5) هذا شروع وتفصيل الأصول الثلاثة التي قدمت مجملة ذكرها هنا مفصلة . فكأنه قال الأصل الأول من أصول الدين الثلاث التي يجب على العبد معرفتها إذا قال لك قائل من ربك أي من خالقك ورازقك ومعبودك الذي ليس لك معبود سواه .
(6) أي فقل ربي هو الله خالقي ومالكي ومعبودي الذي أوجدني من العدم . ورباني بالنعم الظاهرة والباطنة .(1/40)
(7) أوجدهم من العدم وغذاهم بالنعم ونعم الله لا تحصى كما في قوله تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } فلله نعمة الإيجاد ونعمة التغذية وسائر نعمه الظاهرة والباطنة . قال تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } أي مضى عليه زمن طويل من العصور والدهور لم يكن فيها شيئا مذكورا أي موجودا بل معدوما . وإنما أوجده الله من العدم ورزقه النعم ليعبده وحده .
(8) أي هو وحده مألوهي لا غيره . كما أنه سبحانه وتعالى المنفرد بالخلق والرزق والتدبير . فهو وحده المستحق بأن يعبد وحده دون من سواه . وهذا مدلول كلمة الإخلاص لا إله إلا الله.(1/41)
(9) الحمد هو الثناء على المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، والاسم الشريف علم على ربنا تبارك وتعالى لا يسمى به سواه ، والرب المالك والسيد ، ولا يطلق إلا على الله تعالى ، ورب مضاف والعالمين مضاف إليه ، والمراد جميع المخلوقات . وهذه الآية هي أول آية في المصحف بعد البسملة في أول سورة ، وآخر دعوى أهل الجنة ، وفيها تفرده بجميع الخلق وربوبيتهم وملكهم . وتصرفه فيهم بما شاء ، وهو معبودهم ليس لهم معبود سواه . فإن الرب إذا أفرد دخل فيه المعبود . فهو المالك المتصرف المعبود وحده دون كل من سواه.
(10) وجمعه عوالم وعالمون . فالوجود قسمان رب ومربوب . فالرب هو المالك سبحانه المتفرد بالربوبية والإلهية ، والمربوب هو العالم وهو كل من سوى الله من جميع الخلائق .
(11) أي وأنا أيها الإنسان واحد من جملة تلك المخلوقات المربوبة المتعبدة بأن يكون الله وحده هو معبودها وحده .
(12) أي فإذا قال لك قائل بم استدللت على معرفتك ربك ومعبودك وخالقك .(1/42)
(13) أي فقل عرفته بآياته ومخلوقاته التي نصبها دلالة على وحدانيته ونفرده بالربوبية والإلهية . والآيات جمع آية : والآية العلامة والدلالة والبرهان والحجة . والمخلوقات جمع مخلوق وهو ما أوجد بعد العدم ، وآيات الرب سبحانه من دلالاته وبراهينه التي بها يعرفه العباد ، ويعرفون أسماءه وصفاته وتوحيده وأمره ونهيه ، وآياته العيانية الخلقية والنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية ، والرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك ، وهي آياته العيانية ، والعقل يجمع بين هذه وهذه ، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة ، وكل شيء من آياته ومخلوقاته دال على وحدانيته وتفرده بالربوبية ، كما قال الشاعر :
فواعجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
والله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
وقال آخر :
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأبصار هي الذهب السبيك
على قصب الزبرجد شاهدات ... أن الله ليس له شريك(1/43)
وقال آخر :
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فإيجاد هذه المخلوقات أوضح دليل على وجود الباري تعالى وتفرده بالربوبية والإلهية . ونعرف ربنا تبارك وتعالى أيضا بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطرق الدالة على ذلك . وهي كثيرة فالكتاب والسنة مملوءة بذلك.
(14) أي ومن أعظم آياته المشاهدة بالأبصار الليل والنهار ، وكون الليل يأتي على النهار فيغطيه حتى كأنه لم يكن ، ثم يأتي النهار فيذهب بظلمه الليل حتى كأن الليل لم يكن فمجيء هذا وذهاب هذا بهذه الصفة وهذه الصورة المشاهدة دال أعظم دلالة على وحدانية خالقه وموجده .
(15) أي ومن أعظم آياته المشاهدة بالأبصار الشمس والقمر . . وكونهما يجريان هذا الجريان المتقن : { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } دال أعظم دلالة على وحدانية موجدهما تعالى وتقدس .(1/44)
(16) أي ومن أعظم مخلوقات الله الدالة على وحدانيته تعالى السماوات السبع وسعتها وارتفاعها ، والأرضون السبع وامتدادها وسعة أرجائها ، وما في السماوات السبع من الكواكب الزاهرة ، والآيات الباهرة ، وما في الأرضين السبع من الجبال والبحار ، وأصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات وسائر الموجودات ، وما بين السماوات والأرض من الأهوية والسحاب وغير ذلك دال على وحدانية الباري جل جلاله ، وعلى تفرده بالخلق والتدبير.
(17) أي ومن حجج وحدانيته تعالى وبراهين فردانيته الدالة على ما ذكره المصنف ما تعرف به تعالى إلينا بما نراه من مخلوقاته . ومنها الليل والنهار ، فمجيء هذا وذهاب هذا من دلائل قدرته وحكمته الدالة على وحدانيته . والشمس والقمر مخلوقان مسخران دائبان يجريان دالان على تفرده تعالى بالخلق والتدبير . وهذا وجه استدلال المصنف بالآية ههنا .
(18) لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم ، والشمس والقمر مخلوقان متصرف فيهما يقريهما التغير فلا يستحقان أن يسجد لهما .
(19) أمر عباده أن يفردوه بالعبادة وحده . فكما أنه المتفرد بخلق الليل والنهار والشمس والقمر ، وسائر المخلوقات ، فهو المستحق أن يعبد وحده لا شريك له.(1/45)
(20) أي ومن أعظم الدلائل والمعرفات التي تعرف بها سبحانه إلى عباده خلق السماوات والأرض من غير مثال سبق ، وتقدير أقواتها فيها في ستة أيام ، وأصل الخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء ، وإبداعه من غير أصل سابق ولا ابتداء متقدم . قال تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وقال : { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
(21) استواء يليق بجلاله وعظمته . قال مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وبهذا قال السلف ، وأدلة علوه على خلقه واستوائه على عرضه أكثر من أن تحصى وأجمع المسلمون على ذلك .
(22) أي يأتي بالليل فيغطي به النهار ويلبسه إياه حتى يذهب بنوره ويغشى النهار بالليل يطلبه حثيثا طلبا سريعا لا يفصل بينهما شيء ولا يدرك أحدهما الآخر .
(23) مذللات جارية في مجاريها بأمر الله لا تتقدم ولا تتأخر ، وإذا تأملت هذا العالم وجدته على أحسن نظام وأتمه ، وأدله على وجود خالقه جل وعلا ، ووحدانيته وقدرته وكمال علمه وحكمته .(1/46)
(24) فهو المتفرد بالخلق كما انه المتفرد بالأمر ، فلا شريك له في الخلق كما أنه لا شريك له في الأمر . له الخلق كله وله الأمر كله وبيده الخير كله ، وهو على كل شيء قدير : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
(25) أي بلغ في البركة نهايتها ، إله الخلق ومليكهم ، وموصل الخيرات إليهم ، ودافع المكاره عنهم ، والمتفرد بإيجادهم وتدبيرهم ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .
(26) أي ومن معاني الرب ، ومما يطلق عليه المعبود ، كما أنه يطلق على الخالق والرازق والمالك والمتصرف ومربي جميع الخلق بالنعم . وإذا قرن بالمعبود شمل معاني عديدة ، ومعنى المعبود المألوه المستحق أن يعبد وحده دون كل من سواه .(1/47)
(27) هذا خطاب لجميع الخلق وهو أول أمر يمر بك في المصحف الكريم ، كما أن أول فعل يمر بك { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وتقديم المعمول هنا يفيد الحصر أي لا نعبد سواك كما أن أول شيء دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } . ومعنى : اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ومعنى قول الرسل : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } ومعنى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هو ما فسره ابن عباس بقوله : كل موضع في القرآن ( اعبدوا الله ) فمعناه وحدوا الله ، وقال : عبادة الله توحيد الله يعني اعبدوه وحده دون كل من سواه . وهذا يفيدك ، عظم شأن التوحيد ، وأنه أوجب الواجبات ، وأنه أول فرض على المكلف علما وعملا وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، التي أوجب الواجبات العلم بمعناها ، والعمل بما دلت عليه ، من إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله ، وصدور العبادة من غير توحيد لا يسمى عبادة ، وليس بعبادة ، وإذا صدرت ممن أشرك فيها مع الله غيره فهي بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه . وإذا عبد الله تارة ، وأشرك معه تارة فليس بعابد(1/48)
لله على الحقيقة كما سمى الله المشركين مشركين وهم يعبدون الله ويخلصون له العبادة في الشدائد . وعند ركوب البحار وتلاطم الأمواج يهربون ويفزعون ويلجئون إليه تعالى وحده . ويعرفون أن تلك الآلهة ليست شيئا في الحقيقة ، وإنها لا تنفعهم عند الكروب ، ومع ذلك كله سماهم الله مشركين ، بل نفى عنهم تلك العبادة بالكلية في غير موضع من كتابه . ولم يرد في العبادة إلا إفراده تعالى بجميع أنواعها . فمن أطاعه في جميع ما أمره به منها فقد وحده وإلا فلا . وكونه تعالى ربنا يفيد ويقتضي أن نعبده وحده ، وأن لا نجعل له شريكا في ربوبيته . ولا في ألوهيته وعبادته .
(28) أي الذي أوجدكم ومن قبلكم من العدم . فلا تجعلوا المخلوق شريكا للخالق في عبادته ، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ، بل وحدوه سبحانه لعلكم تنجون من عقابه وأليم عذابه .
(29) أي بسطا غير حزنة . تتمكنون من المسير فيها . والمكث على ظهرها . وتنتفعون منها بأنواع المنافع .
(30) قبة مضروبة عليكم . وسقفا محفوظا مزينا بالمصابيح . والعلامات التي تهدون بها في ظلمات البر والبحر .(1/49)
(31) أي وأنزل من السحاب المطر . فإن كل ما علاك فهو سماء فأخرج بالماء من جميع أنواع الثمرات رزقا لكم تتمتعون به وتستعينون به على عبادته وحده . وكل صفة من هذه الصفات مفيدة ومقتضية إفراد رب العالمين بالعبادة .
(32) أي ومن كان هذا وصفه فهو المستحق أن تعبدوه وحده . لا تجعلوا له أندادا أمثالا ونظراء بصرت شيء من أنواع العبادة لهم . وأنتم تعلمون إنها لا تماثله بوجه من الوجوه . أو كنتم تعلمون تفرده بإيجاد المخلوقات . وإنزال المطر . وجعل الأرض فراشا والسماء بناء وأنه لا يرزقكم غيره . يحتج تعالى عليهم بما أقروا به وعلموه من توحيد الربوبية على ما جحدوه وأنكروه من توحيد الألوهية بأنه تعالى كثيرا ما يقرر في كتابه توحيد ألوهيته بتوحيد ربوبيته . فإن توحيد الربوبية هو الدليل الأوضح والبرهان الأعظم على توحيد الألوهية.
(33) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي الحافظ صاحب التفسير المشهور والتاريخ وغيرهما المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة .(1/50)
(34) يعني أن الآيات دلت على أن الذي خلق هذه الأشياء وأوجدها من العدم على غير مثال سبق هو المستحق للعبادة وحده دون من لم يكن له شركة فيها ولا في غيرها وإن قل . بل من سواه تعالى وتقدس مخلوق مربوب متصرف فيه . فيكون في ذلك أوضح برهان أنه سبحانه هو المستحق أن يعبد وحده دون كل من سواه . لا إله غيره ولا رب سواه .
(35) أي وأصناف العبادة . التي شرع الله لعباده القيام بها . وتعبدهم بها . والنوع كل ضرب أو صنف من كل شيء ، وهو أخص من الجنس .
(36) مثل الشيء شبيهه ونظيره وهذه الثلاثة أعلى مراتب الدين وأهم أنواع العبادة . فلذلك بدأ بها المصنف رحمه الله .
(37) يعني أن أنواع العبادة ليست مخصوصة بهذه الأنواع ولا محصورة في هذه الأنواع التي عدها رحمه الله . بل هي أنواع كثيرة جدا .(1/51)
(38) إشارة إلى بعض حدودها عند بعض العلماء أنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي وللعلماء فيها تعاريف كثيرة . وأحسن وأجمع ما عرفت به هو ما عرفها به شيخ الإسلام بقوله : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة . وعد نحوا مما عده المصنف وهو من أشمل ما عرفت به . فكل فرد من أفراد العبادة داخل تحت هذه العبارة . فيدخل فيها ما ذكر ويدخل فيها ما شمله الحد . فالعبادة شملت جميع أنواع الطاعات .
(39) أي كل جميع أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده . لا يصلح منه شيء لغير الله عز وجل . لا لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما . ولا أضل ولا أظلم ممن يجعل لمخلوق مربوب منها شيئا .(1/52)
(40) في المساجد تفسيران : أحدهما أنها المواضع التي بنيت لعبادة الله . فالمعنى أنها إنما بنيت لعبادة الله وحده . فلا تعبدوا فيها غيره . والثانية أنها الأعضاء التي خلقها ليسجد له عليها . وهي الوجه واليدان والركبتان والقدمان فلا يسجد بها لغيره ، وأحدا كلمة شاملة عامة نكرة في سياق النهي شملت الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم . فلا يدعي مع الله أحد من الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم . فقد شملت جميع الخلق .
(41) أي فمن صرف شيئا من أنواع العبادة التي ذكر المصنف رحمه الله تعالى مثل أن دعا غير الله من الأموات والغائبين . أو رجاهم أو خافهم . أو سألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان . أو غير ذلك فهو مشرك الشرك الأكبر . المخرج من الملة . كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة . والشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله واسم لمن لا إيمان له وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بقصد الأوثان وغيرها من المخلوقات . مع الاعتراف بالله فيكون الكفر أعم.(1/53)
(42) أي ومن أشرك بالله لا حجة له ولا بينة . لأنه لا حجة لأحد في دعوى الشرك ، ولا برهان له به صفة أخرى (لإله) لازمة له . جيء بها للتأكيد . أو جملة معترضة بين الشرط والجزاء .
(43) أي الله يحاسبه على ذلك فيجازيه بما يستحقه على شركه . ثم أخبر أنه لا يفلح الكافرون . فسماهم كافرين لدعائهم مع الله غيره . ولا ينازع مسلم في كفر من دعا مع الله غيره . وفي الآية أوضح برهان على كفر من دعا مع الله غيره . سواء كان المدعو ملكا أو نجيا أو شجرة أو قبرا أو جنيا .(1/54)
(44) هذا شروع في ذلك أدلة أنواع العبادة التي عدها مجملة . فأما الإسلام والإيمان والإحسان فسيأتي مفصلا في الأصل الثاني : وبدأ بعدها بالدعاء لأنه أهمها . فقال : وفي الحديث يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الدعاء مخ العبادة » ومخ الشيء خالصه وفي لفظ : « الدعاء هو العبادة » وأتى - صلى الله عليه وسلم - فيه بضمير الفصل والخبر المعرف بالألف واللام ليدل على الحصر ، وأن العبادة ليست غير الدعاء . وإنما هي الدعاء نفسه . ثم الدعاء نوعان : دعاء مسألة وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر . والنوع الثاني دعاء عبادة بأي نوع من أنواع العبادة وهو ما لم يكن فيه سؤال ولا طلب . وهذا الحديث جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقرونا بالآية .
(45) أمر تعالى عباده أن يدعوه . ووعدهم أن يستجيب لهم . فدل على أن الدعاء عبادة ، بل هو أجل العبادات وأساسها . ودل على أنه سبحانه يحب من عباده أن يدعوه . وأن الدعاء مما يحبه الله . وفي الحديث : « من لم يدع الله » وفي رواية : « من لم يسأل الله يغضب عليه » .(1/55)
(46) سمى الدعاء عبادة . وجاء في القرآن في غير موضع أنه عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر وأخبر تعالى أن الذي منعهم من عبادة الله هو الاستكبار فجوزوا بهذا الجزاء الفظيع وهو دخولهم جهنم صاغرين ذليلين حقيرين . عقوبة لهم على ما تركوه من عبادة الله التي فرضها عليهم .
(47) وأنه عبادة من العبادات القلبية . بل هو ركن العبادة الأعظم . ولا يستقيم إخلاص الدين لله الذي أمر الله به عباده إلا به . والخوف مصدر خاف إذا فزع ووجل . لكن الخوف يتعلق بالمكروه . والفزع بما فاجأ منه وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه عاجل . والوجل من غير متعد والخوف من متعد .(1/56)
(48) أول الآية : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } . . . يعظمهم في صدوركم ويوهمكم أنهم ذوو بأس . فنهاكم أن تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم { وَخَافُونِ } في مخالفة أمري . وتوكلوا علي فإني كافيكم { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } جعله شرطا في صحة الإيمان . فكما أنه إذا دعا غير الله أو سأل غير الله انتفى عنه الإيمان . فكذلك إذا خاف غير الله خوف السر . مثل أن يخاف أن يفعل به شيئا بسره . فإن الخوف أنواع منها خوف السر . فإذا خاف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر.
(49) وأنه عبادة قلبية من أجل العبادات . فصرفه لغير الله شرك أكبر . والرجاء بمعنى التوقع والأمل ممدود .
(50) أي فمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه ويرجو المصير إليه ويأمل لقاءه ورؤيته ، وفسر بالمعاينة : { فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا } وهو ما كان موافقا لشرع الله مقصودا به وجهه .(1/57)
(51) أي لا يجعل مع الله شريكا في عبادته فإن العبادة لا تصلح إلا لله وحده لا شريك له . فأحدا نكرة في سياق النفي تعم كل مدعو من دون الله من الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم . فإنه إذا رجا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك الشرك الأكبر . وركنا العمل المتقبل أن يكون خالصا لله . وأن يكون صوابا على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -.(1/58)
(52) وهو صدق التفويض والاعتماد على الله في جميع الأمور . وإظهار العجز والاستسلام له . وتوكل عليه واتكل استسلم إليه واعتمد عليه . ووكل إليه أمره وسلمه إليه . وهو عبادة من أجل العبادات . بل هو أجل أنواع العبادة وأعلى مقامات التوحيد . فلا يفوض عبد أموره ولا يعتمد إلا على الله عز وجل فهو القادر على كل شيء بيده الملك وهو على كل شيء قدير . وإذا كان كذلك فالمخلوق وإن كان له نوع قدرة فلا يعتمد عليه ولو فيما أقدره الله عليه . بل يعتمد العبد على الله عز وجل وحده . فالتوكل عبادة قلبية . فإن اعتمد على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فذلك هو الشرك الأكبر . وإن اعتمد على الأحياء الحاضرين والسلاطين ونحوهم فيما أقدرهم الله عليه . من رزق أو دفع أذى ونحوه فهو نوع شرك أصغر ، والمباح أن يوكل شخصا بالنيابة في التصرف في أمور دنياه ، لكن لا يقول توكلت عليه بل وكلته فإنه ولو وكله فلا بد أن يتوكل في ذلك على الله عز وجل وحده .(1/59)
(53) فإخلاص التوكل على الله شرط في صحة الإيمان ، ينتفي عند انتفائه فإن تقديم المعمول وهو قوله وعلى الله على العامل وهو كلمة توكلوا يفيد الحصر . أي عليه وحده فتوكلوا إن كنتم مؤمنين لا على غيره . وهذه قاعدة العربية .
(54) الحسب معناه الكافي . وهذه الآية دليل ثان ذكره المصنف رحمه الله على أن التوكل عبادة من أجل أنواع العبادة . فمعنى الآية ومن يتوكل على الله أي يعتمد عليه في أموره فهو كافيه . ومن كان الله كافيه فلا مطمع لأحد فيه . ولم يذكر تعالى للتوكل جزاء غير تولي كفايته العبد . فقال : { فَهُوَ حَسْبُهُ } ، ولم يأت في غيره من العبادات ، فدل على عظم شأن التوكل وفضيلته ، وأنه أجل أنواع العبادة . فصرفه لغير الله شرك أكبر .
(55) وأنها عبادات قلبية . عن أجل العبادات . وصرفها لغير الله شرك أكبر . والرغبة السؤال والطلب والابتهال والتضرع . والرهبة الخوف والفزع . والخشوع التطامن والتذلل وهو قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في القلب والبصر والصوت .
(56) يعني : الأنبياء الذين سماهم الله في هذه السورة يبادرون ويسابقون في عمل القربات والطاعات .(1/60)
(57) رغبا في رحمة الله ، ورهبا من عذاب الله .
(58) خاضعين متذللين ، فدلت الآية على أن هذه الثلاثة الأنواع من أجل أنواع العبادة ، فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر .
(59) فعلة من خشيه خافه واتقاه ، فهي بمعنى الخوف ، لكنها أخص منه وهي من أجل أنواع العبادة وعرفها لغير الله شرك أكبر .
(60) أي لا تخشوا الناس فإني وليكم واخشوني وحدي ، فإنه تعالى هو أهل أن يخش وحده ، فأمر تعالى بخشيته وحده ، ونهى عن خشية غيره ، كما في الآية الثانية : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ } أي لا تخافوا منهم { وَاخْشَوْنِ } ، أي خافوا مني ، الآية أي إلى آخر الآية ، أو اقرأ الآية ، فدلت الآيتان وما في معناهما على أن الخشية عبادة من أجل العبادات ، فصرفها لغير الله شرك أكبر.
(61) وأنها من أجل أنواع العبادات ، وهي التوبة بل أعلى من مقام التوبة فإن التوبة الإقلاع عن الذنب ، والندم على ما فات ، والعزم على أن لا يعود إليه والإنابة تدل على ذلك ، وتدل على الإقبال على الله بالعبادات ، والإقبال على الله رجوع عما لا ينبغي بالكلية وقصد إلى ما ينبغي من رضاه .(1/61)
(62) أي وأقبلوا إلى ربكم وارجعوا إليه بالطاعة وأسلموا له ، أخلصوا له التوحيد { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } أي بادروا بالتوبة إلى العمل الصالح قبل حلول النقمة ، وأمره تعالى عباده بالإنابة ظاهر في أنها عبادة ، وأنه يحبها شرعا ودينا ، فصرفها لغير الله شرك أكبر.
(63) وأنها عبادة بل أجل العبادات ، وهي تجمع أصلين الثقة بالله . والاعتماد عليه ، قال شيخ الإسلام : تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
(64) الدين كله يرجع إلى هذين المعنيين ، وسر الخلق والكتب والشرائع والثواب والعقاب يرجع إلى هاتين الكلمتين ، وعليهما مدار العبودية والتوحيد والأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول والقوة ، وهذا المعنى في غير آية من كتاب الله ، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر أي نستعين بك وحدك دون كل من سواك ، فهذا النوع أجل أنواع العبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر ، وكذا قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي لا نعبد أحدا سواك ، فالعبادة لله وحده والاستعانة به وحده جل وعلا وتقدس .(1/62)
(65) هذه قطعة من حديث جليل رواه الترمذي وصححه من حديث ابن عباس ، أوله : « احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك » أي احفظ حدوده وأوامره يحفظك حيث توجهت : « وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » وهذا كأنه منتزع من قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقال تعالى : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } ولا يحصل للعبد مطلوبه إلا إذا كان سائلا الله مستعينا به وحده ، معتمدا عليه في جميع أموره . وفي هذا الحديث حصر الاستعانة بالله وحده دون غيره من الخلق ، والدلالة على أنها أجل العبادات ، وعليها مدار الدين ، فإذا استعان أحد بغير الله فهو مشرك الشرك الأكبر .
(66) وأنها عبادة من أجل أنواع العبادات ، والاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام والتحرز وحقيقتها الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه والعياذ لدفع المكروه واللياذ لطلب المحبوب ، قال الشاعر :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به فيما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره(1/63)
(67) أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستعيذ بفالق الإصباح من شر جميع المخلوقات ، ومن شر الغاسق والحاسد ، والفلق الصبح ، وقيل سبب تخصيص المستعيذ به أن القادر على إزالة هذه الظلمة عن العالم هو القادر أن يدفع عن المستعيذ ما يخافه ويخشاه .(1/64)
(68) أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستعيذ به من الوسواس الخناس يعني الشيطان الجاثم على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس . وذكر تعالى ثلاث صفات من صفاته : الربوبية والملك والإلهية . وأمر المستعيذ أن يستعيذ بها من شر الشيطان الموكل بالإنسان وثبت عنه جملا أن الشيطان بجري من ابن آدم مجرى الدم . وأخبر أنه لم يتعوذ متعوذ بمثل هاتين السورتين ، والأمر بالاستعاذة به تعالى كثير في الكتاب والسنة منها قوله تعالى : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } ، { قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ، { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } ، ومن السنة : « أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق » فدل على أن الاستعاذة بالله عبادة من أجل العبادات فصرفها لغير الله شرك أكبر .(1/65)
(69) وأنها عبادة من أجل العبادات وأفضل أنواعها وهي أخص أنواع الدعاء فإن دعاء المكروب يقال له استغاثة . والاستغاثة هي طلب الإغاثة ، وهو الإنفاذ من الضيق والشدة ، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين . أي مدرك عباده في الشدائد إذا دعوه . ومجيبهم ومخلصهم . فإذا صرفها أحد لغير الله كأن يستغيث بالأصنام أو الأموات أو الغائبين أو نحوهم فهو مشرك كافر .
(70) أي إذ تستجيرون ربكم وتطلبون منه الغوث فاستجاب لكم ، وذلك أنه لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كثرة المشركين جعل يهتف بربه ويناشده فأمده الله بالنصر على عدوه ، فقتلوا وأسروا ، وظهر الإسلام ، وسمى يوم الفرقان ، فدلت الآية على أن الاستغاثة عبادة فصرفها لغير الله شرك .
(71) أي ذبح القربان لله تعالى من الضحايا والهدايا ونحو ذلك ، وأنه عبادة من أفضل العبادات وأفضل القربات إلى الله تعالى ، والذبح يقال للبقر والغنم وأما الإبل فالنحر . ويجوز العكس ، وعبر بالذبح لأنه الأكثر .(1/66)
(72) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله ، ويذبحون لغيره : { إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } أي ذبحي والناسك المخلص لله : { وَمَحْيَايَ } أي ما أحيا عليه من العمل الصالح : { وَمَمَاتِي } أي ما أموت عليه : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ } في شيء من ذلك ، ولا في غيره من أنواع العبادة : { وَبِذَلِكَ } القول والطريق : { أُمِرْتُ } وقد جمع تعالى بين هاتين العبادتين اللتين هما أفضل العبادات وأفضل القربات لله تعالى في هذه الآية ، كما جمع بينهما في الآية الثانية . وهي قوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أي أخلص لربك الصلاة وانحر البدن ونحوها على اسمه وحده . فالصلاة أفضل العبادات البدنية والذبح أفضل العبادات المالية . وإنما كان الذبح أفضلها لأنه يجتمع فيه أمران : الأول أنه طاعة لله . والثاني أنه بذل ماله وطابت به نفسه والبذل مشترك في جنس المال ، لكن زاد الذبح على غيره ، من حيث أن الحيوانات محبوبة لأربابها يوجد لذبحها ألم في النفوس من شدة محبتها . فإذا بذله لله وسمحت نفسه بإيذاقة الحيوان الموت صار أفضل من مطلق العبادات المالية ، وكذلك ما يجمع له عند النحر إذا(1/67)
قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن بالله أمر عجيب فصرفه لغير الله شرك أكبر .
(73) أي والدليل على أن الذبح عبادة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أمرنا باتباعها وقال : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي » ، وقال : « عليكم بسنتي » ، وقال : « تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك » .
(74) اللعن الطرد والإبعاد ، والملعون من حقت عليه اللعنة أو دعى بها عليه واللعن من الخلق السب ، وقال شيخ الإسلام : إن الله يلعن من استحق اللعن بالقول ، كما يصلى على من استحق الصلاة من عباده . وقال : وما ذبح لغير الله مثل أن يقول هذه ذبيحة لكذا وتحريمه أظهر من تحريم ما ذبح لحم وقال فيه باسم المسيح أو نحوه ، وإذا حرم فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو قصد به أولى اهـ . ودل الحديث على أن الذبح عبادة لأن الله لعن من صرفه لغيره . والعبادة كلها مختصة بالله فإذا صرفها أحد لغير الله بأن ذبح للأصنام أو للقبور المعبودة من دون الله التماسا لشفاعة أربابها أو للزيران أو للزهرة أو لقدوم سلطان أو نحو ذلك فهو مشرك كافر.(1/68)
(75) وأنه عبادة يجب إخلاصها لله تعالى ، والنذر في اللغة الإيجاب ، ومنه قولهم نذرت دم فلان إذا أوجبته ، وشرعا إيجاب المكلف على نفسه ما ليس واجبا عليه شرعا . تعظيما للمنذور له .
(76) أي يتعبدون لله بما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر ، فأثنى الله عليهم بالإيفاء به . وهو سبحانه لا يثني إلا على فاعل عبادة ، وقال تعالى : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } يعنى وسيجازيكم عليه . فدل على أنه عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر . وفي الحديث : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » . .
(77) منتشرا فاشيا عاما بين الناس إلا من رحمه الله .(1/69)
وهو ثلاث مراتب (1) الإسلام والإيمان والإحسان (2) ، وكل مرتبة لها أركان (3) ، فأركان الإسلام خمسة (4) : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام (5) .
فدليل الشهادة (6) قوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } (7) { وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } (8) { قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (9) . ومعناها لا معبود بحق إلا الله (10) " لا إله " نافيا جميع ما يعبد من دون الله (11) " إلا الله " مثبتا العبادة لله وحده (12) لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه (13) .
وتفسيرها الذي يوضحها (14) قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } (15) { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } (16) { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } (17) { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (18) .(1/70)
وقوله : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (19) { أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ } (20) { وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } (21) { وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } (22) { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (23) .
ودليل شهادة أن محمدا رسول الله. (24) قوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } (25) { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } (26) { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } (27) { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (28) .
ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر (29) وتصديقه فيما أخبر (30) واجتناب ما عنه نهى وزجر (31) وأن لا يعبد الله إلا بما شرع (32) .
ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد (33) قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (34) { وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } (35) { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (36) .(1/71)
ودليل الصيام (37) قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (38) .
ودليل الحج (39) قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (40) { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (41) { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (42) .
(1) المرتبة والرتبة المنزلة العالية . ورتب الشيء ترتيبا نظمه وقرن بعضه ببعض .
(2) أي الإسلام مرتبة ، والإيمان مرتبة ، والإحسان مرتبة ، وهذه هي مراتب الدين التي بعث بها الله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمصنف رحمه الله ذكرهن هنا مجملة . ثم فصلهن وبين أدلتهن .
(3) أي وكل مرتبة من مراتب الدين الثلاث لها أركان لا تقوم إلا عليها . وأركان الشيء أجزاؤه في الوجود التي لا يحصل إلا بحصولها . وداخلة في كيفيته . سميت بذلك تشبيها لها بأركان البيت الذي لا يقوم إلا بها . فمراتب الدين لا تتم إلا بأركانها . وفي الاصطلاح عبارة عن جزء الماهية .
(4) لا يستقيم إلا بها . ولا يثبت بدونها . وما فقد منها زال الإسلام بفقده .(1/72)
(5) ذكرها المصنف رحمه الله كما جاء في الحديث الصحيح : « بني الإسلام على خمس » أي قواعد أو دعائم وفي رواية : « على خمسة » أي أركان . مثل الإسلام ببناء أقيم على خمسة أعمدة لا يستقيم إلا بها ، وقدم الأهم فالأهم فبدأ بقطبها « شهادة أن لا إله إلا الله » . ثم ثنى بشهادة أن محمدا رسول الله . وكثيرا ما تقرن بها . ثم قال : « وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام » . فهذه مباني الإسلام التي ابتنى وتركب منها . وتأتي أدلتها ، وكل خصلة من خصال الإيمان داخلة في الإسلام ، وكل خصلة من خصال الإسلام داخلة في الإيمان . فما كان من الأعمال الباطنة فوصف الإيمان عليه أغلب من وصف الإسلام . وما كان من الأعمال البدنية الظاهرة كالشهادتين والصلاة وأنواع العبادات التي تظهر ويطلع عليها الناس ، فوصف الإسلام عليها أغلب من وصف الإيمان . فدائرة الإسلام أوسع من دائرة الإيمان كما أن دائرة الإيمان أوسع من دائرة الإحسان .(1/73)
(6) هذا شروع من المصنف في بيان أدلة أركان الإسلام الخمسة . والشهادة خبر قاطع وأطلق لفظ الشهادة على شهادة أن لا إله إلا الله لأنها أعظم شهادة في الوجود على أعظم مشهود به فلا ينصرف الإطلاق إلا إليها .(1/74)
(7) أي لا معبود بحق في الوجود إلا هو وحده . فهو الإله الحق ومن ادعيت فيه الألوهية سواه فهو أبطل الباطل وأضل الضلال . فالله الإله الحق المستحق للعبادة وحده دون كل ما سواه . وعبارات السلف في الشهادة تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار . وذكر ابن القيم وغيره أنه لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه وأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به . وتكلمه بذلك . وإعلامه غيره بما شهد به . وإلزامه بمضمونها . وشهادته سبحانه لأنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع علمه بذلك وتكلمه به . وإعلام وإخباره لخلقه به . وأمرهم وإلزامهم به . فأما العلم فالشهادة تتضمنه ضرورة . ومن تكلم به فقد شهد به ولفظ الشهادة يستعمل فيه الإعلام . وتدل على الأمر ، وشهادته سبحانه هي أعظم شهادة في الوجود أنه لا إله إلا هو المتفرد بالإلهية ، من أعظم شاهد . وهو الله سبحانه وتعالى وتقدس ، على أعظم مشهود به وهو وحدانيته جل وعلا ؛ فإنه لا شهادة أعظم ولا أجل ولا أثبت من شهادته تعالى لنفسه بالألوهية . وشهادة رب العالمين لا ينقصها شيء البتة . وذكر(1/75)
الكلبي أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله هذه الآية فأسلما .(1/76)
(8) أي والملائكة شهدوا لله بأنه لا إله إلا هو كما شهد الله بذلك لنفسه المقدسة ، وأولو العلم شهدوا بذلك أيضا أنه لا إله إلا هو . وفسرت بإلاقرار وبالتبين والإظهار . واستشهادهم في تعديل وتزكية لأهل العلم إذا ارتقوا إلى هذا المقام الذي استشهدهم الله تعالى فيه على وحدانيته عز وجل . ولينتف جحد الجاحدين وانتحال المبطلين . وهذا فيه أعظم حاث لك على طلب العلم . فإن الله شهد واستشهد الملائكة ، واستشهد أهل العلم ، ففي هذه الشهادة رفعة أهل العلم ، حيث استشهدوا على ما شهد به رب العالمين . وأي ثناء أشرف من هذا الثناء عليهم وتعديلهم . وشهادته لهم أنهم أولو العلم ، وجعلهم حجة على من أنكرها ، فدل على فضل العلم . وفي الحديث : « يحمل هذا العلم من كل أمة عدولها » وهذا أعظم مرغب في العلم وإن زهد فيه الأكثر . والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي هو نور القلوب وحياتها ، وغيره علم نسبي إضافي إما إلى أمور دنيوية ، أو علوم حسابية وصناعية أو غير ذلك . وأهله ليسوا من أهل العلم الذين استشهدهم الله ، فلا يطلق هذا العلم إلا على العلم الشرعي الديني .(1/77)
(9) أي قائما بالعدل ، فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده ، وبالوحدانية في عدله ، والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال ، ونظم الآية ، شهد الله قائما بالقسط أنه لا اله إلا هو ، فقائما نصب على الحال . ولا إله إلا هو توكيد لما سبق لعظم شأن التوحيد ثم أثنى على نفسه المقدسة فأخبر أنه العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة ، وكبرياء . الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره . فتضمنت هذه الآية الكريمة أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد ، بأجل مشهود به وتضمنت توحيده تعالى وعدله وعزته وحكمته .(1/78)
(10) أي ومعنى هذه الكلمة العظيمة شهادة أن لا إله إلا الله لا معبود أي لا مألوه بحق إلا الله وحده دون كل من سواه ، بل كل مألوه سوى الله عز وجل فألهيته أبطل الباطل وأضل الضلال . ففيها نفي الإلهية عن غير الله وإثباتها لله وحده ، وسيقت لتوحيد الإلهية مطابقة . لا كما يقوله بعض الجهلة أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله ، ولا يدبر الأمر إلا الله ، فإنها وإن دلت عليه بطريق التضمن فهي موضوعة لتوحيد الإلهية الذي هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة ، الذي أرسلت الرسل وأنزلت الكتب في تقريره وإيضاحه . وأما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون كأبي جهل وأضرابه . كما قال تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } أي أنه الذي يفعل ذلك ولم ينازعوا فيه ولا امتنعوا من الإقرار به ، بل احتج تعالى عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهة فقال : { فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } أي الشرك به في عبادته ، فإنهم يعرفون معناها(1/79)
، وأنها دلت على إفراد الله بالعبادة . ولهذا أنكروا أن يكون الله هو المعبود وحده وقالوا شتم آلهتنا وقالوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } بل يريدون أن يجعلوا بينهم وبين الله وسائط وشركاء في العبادة ، فإن نفوسهم وإحساسهم امتزجت بالشرك ونشأت عليه وألفته فصاروا كالمريض الذي فسد مزاجه ، فإذا أتى بالطعام الحلو قال : هذا مر وهو ليس بمر . ولكن الآفة من مزاجه الفاسد ، بالنسبة إلى عقولهم الفاسدة ، فكذلك الحق والنور المبين الذي جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عندهم وأمثالهم مر بالنسبة إلى مزاجاتهم والمقصود أنهم عرفوا أن مدلوها أن يكون المعبود هو الله وحده ، وبهذا تعرف أن مدلول لا إله إلا الله مطابقة هو إفراد الله بالعبادة .(1/80)
(11) الإله فعال بمعنى مفعول . ككتاب بمعنى مكتوب ، مشتق من أله يأله إلهة أي عبد يعبد عادة لفظا ومعنى . والإله هو المعبود المطاع فالنفي في كلمة الإخلاص (لا إله) أي لا مألوه يستحق أن يعبد إلا الله ، فإذا قلت لا إله كنت نافيا جميع ما يعبد من دون الله سوى الله . يعني والآلهة غير الله كثيرة طبق الأرض ولكن بالباطل والضلال وإنما الإله المستحق للعبادة هو الله وحده وآلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله إنما هي مجرد ظن منهم واتباع لهواهم كما قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } إلى قوله : { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } .(1/81)
(12) أي والإثبات في كلمة الإخلاص " قولك " : " إلا الله " هو المستثنى في هذه الكلمة العظيمة . ودلالتها على إثبات الإلهية لله وحده أعظم من دلالة قولنا الله . فلا نافية للجنس ، وخبرها المرفوع محذوف تقديره حق ، وإلا الله استثناء من الخبر المرفوع . فالله هو الحق ، وعبادته وحده هي الحق . وعبادة غيره منفية بلا في هذه الكلمة . قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } والقرآن كله يدل على إثبات العبادة لله وحده ، فلا إله إلا الله اشتملت على أمرين هما ركناها النفي والإثبات ، فلا إله نافيا وجود معبود بحق سوى الله ، وإلا الله مثبتا العبادة لله وحده دون كل من سواه ، والنفي المحض ليس بتوحيد . وكذلك الإثبات المحض . فلا بد من الجمع بين المنفي والإثبات . وشروطها ثمانية أحدها العلم المنافي للجهل . الثاني اليقين المنافي للشك . الثالث القبول المنافي للرد . الرابع الانقياد المنافي للترك الخامس الإخلاص المنافي للشرك . السادس الصدق المنافي للنفاق . السابع المحبة المنافية لضدها . الثامن الكفر بما سوى الله تعالى .(1/82)
(13) يعني فكما أنه المتفرد في ملكه فهو يدل على أن يفرد بالعبادة . فإن من أظلم الظلم أن يجعل المخلوق الذي ليس شريكا لله في الملك شريكا لله في العبادة ، تعالى الله وتقدس . ولهذا يحتج تعالى على من أنكر ألوهيته بما أقر به من ربوبيته ، فإن توحيد الربوبية هو الدليل على توحيد الإلهية . ولهذا قال كما أنه لا شريك له في ملكه.
(14) أي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله الذي يبينها بيانا تاما من القرآن . فإنه تعالى بينها في كتابه في غير موضع ، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه .
(15) أخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعده من الأنبياء أنه قال لأبيه آزر وقومه أهل بابل وملكهم النمرود ، وكانوا يعبدون الأصنام : { إِنَّنِي بَرَاءٌ } أي بريء { مِمَّا تَعْبُدُونَ } من الأوثان ، وهذا فيه معنى لا إله .
(16) أي ابتدأ خلقي وبرأني . وفيه معنى إلا الله . فدلت الآية على ما دلت عليه لا إله إلا الله . ولهذا يقال للا النافية للجنس عند النحاة لام التبرئة ، فالخليل عليه السلام تبرأ من آلهتهم سوى الله ، ولم يتبرأ من عبادة الله ، بل استثنى من المعبودين ربه .(1/83)
(17) أي يرشدني لدينه القويم وصراطه المستقيم ، وقد أمرنا تعالى أن نتأسى به . كما قال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ } الآية .(1/84)
(18) أي وجعل كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله ، باقية في نسله وذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذريته ، لعلهم أي لعل أهل مكة وغيرهم يرجعون إلى دين إبراهيم الخليل . والكلمة هي لا إله إلا الله بإجماع المفسرين ، فعبر عن معنى لا إله بقوله إنني براء مما تعبدون . وعبر عن معنى إلا الله بقوله إلا الذي فطرني . فتبين أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله كما تقدم . وبين تعالى معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة من كتابه يتعذر حصرها . كقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } ، وفي ألا تعبدوا ما في معنى لا إله ، وقوله إلا إياه هو الإثبات الذي أثبتته لا إله إلا الله ، إذ لا يعبر عن الشيء إلا بمعناه ، فبهذا ونحوها تعرف أن معنى لا إله إلا الله النفي والإثبات ، والولاء والبراء والتجريد والتفريد . وهذه التفاسير ونحوها ترجع إلى معنى واحد . وهو تجريد غير الله عن الألوهية وتفريدها لله وحده دون كل من سواه ، والبراءة من تأله غير الله بالكلية ، ومن أعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسنة(1/85)
وإجماع الأمة .
(19) أي ودليل الشهادة أيضا قوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لأهل الكتاب اليهود والنصارى : { تَعَالَوْا } أي هلموا { إِلَى كَلِمَةٍ } واحدة لا غير . والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما هنا { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي عدل ونصف لا يختلف فيها رسول ولا كتاب نستوي نحن وأنتم في فرضيتها ووجوبها علينا وعليكم . ومن المعلوم أن الكلمة هي التي يدعو إليها جميع الناس . فإنه ليس في الوجود سوى كلمة التوحيد عند الاستقراء والتتبع . فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » وهي الكلمة التي تدعو إليها الرسل جميع الخلق ، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } فتقرر أنه ليس كلمة هنا غيرها ، وقد فسرها تعالى بذلك .
(20) أي لا نوحد نحن وأنتم بالعبادة إلا الله ، فوضح معنى الكلمة ، فإن في قوله أن لا نعبد إلا الله معنى لا إله إلا الله فتبين أن لا معبود حق إلا الله وحده .(1/86)
(21) لا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا غير الله ، بل نفرده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وهذه دعوة جميع الرسل .
(22) لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله كما فعلت اليهود والنصارى .
(23) أي فإن امتنعوا وأدبروا وأعرضوا عن الإجابة إلى إفراد الله بالعبادة فقولوا أنتم يا أمة محمد لهم : اشهدوا بأنا مسلمون مخلصون لله بالتوحيد دونهم . أي صرحوا لهم مشافهة أنكم مسلمون وأنهم كفار . وأنكم براء منهم وهم براء منكم . وهذا دال على أنه لا بد أن تبين للكفار حتى يتفهموا ويتحققوا أنهم ليسوا على دين ، وأن دينك خلاف دينهم الذي هم عليه وأن دينهم خلاف دينك .(1/87)
(24) يعني من النقل ، وأما العقل فنبه عليه القرآن كما ذكر المصنف وغيره ومنه قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } الآية ، وقول الرجل إني رسول الله إما أن يكون خير الناس وأصدقهم ، وإما أن يكون شرهم وأكذبهم والتمييز بين ذلك يعرف بأمور كثيرة ، نبه تعالى على ذلك بقوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ }{ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } ومنه شهادة الله عليه بقوله : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ومن حكمته تعالى أنه لم يبعث نبيا إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به إقامة للحجة ، فأخبر أنه أرسلهم بالبينات ، وأعظم الآيات العقلية هذا القرآن العظيم الذي تحداهم الله بحديث مثله أو عشر سور أو سورة من مثله . مع عداوة أهل الأرض له علمائهم وفصحائهم ، واستعجازهم به ، ولم يتعرضوا لذلك ، مع شدة حرصهم على تكذيبه . ومنه نصرة من اتبعه ولو كان أضعف الناس . ومنه خذلان من عاداه وعقوبته في الدنيا(1/88)
ولو كان أكثر الناس وأقواهم ، ومنها كونه - صلى الله عليه وسلم - لا يخط ولا يقرأ الخط ، ولا أخذ عن العلماء ، ومنها إخباره عن المغيبات التي أطلعه الله عليها . فإن ما غاب عنا أو كان قبلنا فلا يعرف إلا بالخبر عنه ، ومنها انشقاق القمر وحنين الجذع ، ونبوع الماء بين أصابعه ، وإطعام مئين من صاع شعير ، وغير ذلك من آياته المتعلقة بالقدرة والفعل والتأثير ، مما لا يحصى كثرة ، ومنها إذعان ملوك اليمن والبحرين وغيرهما لأمره . للآيات التي صحت عندهم عنه ، فنزلوا عن ملكهم طوعا ، وكذا كل من اتبعه لما بهرهم من آياته .
(25) يمتن تعالى على المؤمنين بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم رسولا من أنفسهم يعرفون نسبه وصدقه . ليس بملك لا يتمكنون من سؤاله ، بل بشر يتمكنون من سؤاله ، بما شاءوا من أمور دينهم ودنياهم ، وعلى القراءة الثانية بفتح الفاء ، أي من أشرفهم وأكرمهم ، وأيضا كونه معروف النسب ، والمدخل والمخرج ، أمينا صدوقا ، حتى إنه يسمى قبل مبعثه الأمين ، ومن كان كذلك فإن النعمة به على العباد تكون أكبر وأعظم .(1/89)
(26) أي شديد شاق عليه الذي يعنت أمته ويشق عليها ، ويدخلها في الآصار والأغلال ، وقال : « بعثت بالحنيفية السمحة » وقال : « إن هذا الدين يسر » وشريعته - صلى الله عليه وسلم - سمحة سهلة ، ومع ذلك فهي كاملة .
(27) أي على هدايتكم وإنقاذكم من النار .
(28) أي رأفته ورحمته خاصة بالمؤمنين ، كما أن غلظته وشدته على الكافرين .
(29) وقد تقرر وجوب طاعته بالكتاب والسنة ، وقرن سبحانه طاعته بطاعته في غير موضع من كتابه ، ومن عصاه فقد عصى الله ، ومن عصى الله فله نار جهنم .
(30) فهو الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، وأمين الله على وحيه ، فكل شيء أخبر به فهو حق وصدق ، لا كذب فيه ولا خلف .
(31) قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، وقال عليه الصلاة والسلام : « ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عه فاجتبوه » . .(1/90)
(32) لا بالأهواء والبدع . فإن الأصل في العبادات التشريع . وكل بدعة ضلالة ، هذا معنى شهادة أن محمدا رسول الله من طريق اللزوم . ولا ريب أنها تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه نهى وزجر وأن يعظم أمره ونهيه . ولا يقدم عليه قول أحد . ولا بد مع النطق بها من العمل بما دلت عليه فقولها باللسان دون العمل بما دلت عليه لا يصير به من أهل شهادة أن محمدا رسول الله ، كما أن قوله لا إله إلا الله بدون العمل بما دلت عليه لا يصير به من أهل شهادة أن لا إله إلا الله على الحقيقة . فأول ما بجب على الإنسان أن يعلم بقلبه علم يقين وينطق بلسانه بالشهادتين ويعمل بما دلت عليه .
(33) أي ودليل الصلاة والزكاة فإنهما ركنان من أركان الدين الخمسة التي لا يستقيم إسلام عبد إلا بهما ، وكذا في الآية تفسير التوحيد أيضا ، وهو الأساس الذي لا يستقيم إسلام عبد إلا به .(1/91)
(34) أي وما أمر الذين كفروا إلا ليوحدوا الله ويفردوه بالعبادة ، حنفاء مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام . قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله موحدين . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وهذا هو تفسير التوحيد .
(35) أي يقيموا الصلاة المكتوبة بأركانها وواجباتها في أوقاتها ، ويؤتوا الزكاة عند محلها . وهذا هو دليل الصلاة والزكاة ، وأنهما ركنان من أركان الإسلام لا يستقيم بدونهما . وكثيرا ما يقرنهما تعالى في كتابه العزيز .
(36) أي الذي أمروا به في هذه الآية الكريمة هو الملة والشريعة المستقيمة .
(37) وأنه أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم الإسلام إلا بها ، والصيام في اللغة الإمساك . وفي الشرع هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص ، من شخص مخصوص .(1/92)
(38) أمر تعالى عباده المؤمنين من هذه الأمة بالصيام ، لما فيه من زكاة النفوس وتطهيرها ، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة ، والأخلاق الرذيلة ، وفرض في السنة الثانية من الهجرة ، وذكر تعالى أنه فرضه وأوجبه عليهم . كما أوجبه على من كان قبلهم ، فلهم فيهم أسوة . قال شيخ الإسلام : كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه كما في الصحيحين : « يوم عاشوراء كان يوما تصومه قريش في الجاهلية » . ثم هو من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف لعلكم تتقون يعني بالصوم ، لأنه وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات .
(39) وأن أحد أركان الإسلام . والحج لغة قصد الشيء وإتيانه . وشرعا قصد مكة لعمل مخصوص ، في زمن مخصوص .
(40) أي ولله فرض واجب على الناس ، حج البيت قصده لأداء النسك . فهو أحد أركان الإسلام كما هو معلوم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .
(41) أي على المستطيع من الناس أن يحج البيت ، والاستطاعة القدرة بنفسه على الذهاب ، ووجود الزاد والراحلة . بعد قضاء الواجبات عليه وغير ذلك مما هو معلوم في كتب التفسير والفقه .(1/93)
(42) أي من وجد ما يحج به ولم يحج حتى مات فهو كفر به ، وقد سمى تعالى تارك الحج كافرا فقد دل على كفره . وإذا كان دل عاد كمره فقد دل على آكدية ركنيته . وفي الأثر " من مات ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا " .(1/94)
المرتبة الثانية الإيمان (1) وهو بضع وسبعون شعبة (2) فأعلاها قول لا إلى إلا الله (3) وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (4) .
والحياء شعبة من الإيمان (5) وأركانه ستة (6) أن تؤمن بالله (7) وملائكته (8) وكتبه (9) ورسله (10) واليوم الآخر (11) ونؤمن بالقدر خيره وشره (12) .
والدليل على هذه الأركان الستة (13) قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } (14) { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (15) { وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (16) .
ودليل القدر (17) قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (18) .(1/95)
(1) قدم المرتبة الأولى وهي الإسلام . وثنى بمرتبة الإيمان ، وهي أعم من مرتبة الإسلام من جهة نفسها وأخص من جهة أصحابها . وأهله هم خواص أهل الإسلام ، وأهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان . بخلاف العكس . كما قال تعالى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } فإن من حكمت له النصوص أنه مؤمن فإنه مسلم على كل حال فإن الإيمان وصف أعلى من وصف الإسلام . لأنه مشتق من الأمر فهو من الأمور الباطلة الذي يؤتمن عليه . وبكون خفية . والإسلام من الأمور المدركة المحسوسة في الظاهر مشتق من التسليم أو المسالمة كما تقدم . فإذا أطلق الإيمان في النصوص دخل فيه الإسلام . وإذا أطلق الإسلام لم يدخل فيه الإيمان . ومن أثبت له الإيمان في النصوص ، فإنه ثابت له الإسلام . والمسلم لا بد أن يكون معه إيمان يصحح إسلامه . وإلا كان منافقا . ولكن لا يستحق أن يمدح به ويثق عليه ، بل إيمانه ناقص- ويأتي تمثيله . والإيمان الرعي قول وعمل . قول القلب واللسان . وعمل القلب واللسان والجوارح . ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . فدخل فيه جميع المأمورات . سواء كان من الواجبات أو المستحبات . ودخل فيه ترك(1/96)
جميع المنهيات ، سواء كان ذلك المنهي ينافي أصول الدين بالكلية أو لا . فإن تعريفه المذكور يشمل ذلك . فما من خصلة من خصال الطاعات إلا وهي من الإيمان ، ولا ترك محرم من المحرمات إلا وهو من الإيمان .
(2) البضع بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة ؛ والشعبة الطائفة من الشيء والقطعة منه ؛ والشعبة من شعب الإيمان يدخل تحتها أفراد من الخصال ، فهي من حيت هذا العدد يكون تحتها أفراد من الخصال .
(3) أي فأعلى شعب الإيمان قل العبد لا إله إلا الله فهي كلمة الإخلاص ، وكلمة الإسلام ، وهي العروة الوثقى ، وكلمة التقوى ، وأساس الملة ، ومفتاح الجنة .
(4) أي وأصغر شعب الإيمان إزالة الأذى عن الطريق ، من شوك وحجر ونحو دلك ، مما يتأذى المار به .
(5) أي بعض منه . وإنما جعله بعض لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي ولأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار وانتهاء . فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان . والحياء من أفضل الأخلاق ، وأجلها وأعظمها قدرا ، بل هو خاصة الإنسانية . وفي الحديث : « إذا لم تستح فاصنع ما شئت » وهو غريزة يحمل المرء على فعل ما يجمل ويزين . ويمنعه من فعل ما يدنس ويشين .(1/97)
(6) أي أصول الإيمان التي تركب منها ، والتي يزول بزوالها ستة أركان ، ويكون بزوال الواحد من تلك الستة كافرا كفرا يخرج من الملة ، وما عداها لا يزول بزواله كمال الإيمان الواجب ، ومنها ما يزول بزواله كمال الإيمان المندوب .
(7) هذا أعظم أركان الإيمان ، وهو أصل الأصول ، ومعناه الإيمان بوحدانية الله تعالى . وتفرده بأسمائه وصفاته ، والإيمان بأنه الإله الحق . وأن من عبد من دونه فعبادته أبطل الباطل . وأضل الضلال .
(8) يعني وأن تؤمن بجميع ملائكته ، وهم الجنس المعروف من خلق الله بتعريف النصوص ، عباد مكرمون ، خلقوا من نور ، يؤمن بهم إجمالا في الإجمالي ، وتفصيلا في التفصيلي ، وتعيينا في التعيين ، مثل ما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة . كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل ومالك ورضوان وغيرهم .
(9) المنزلة على الأنبياء من السماء ، إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي ، ويفصل بالإيمان بالقرآن ، والزبور ، والتوراة ، والإنجيل إلى آخر الكتب المنزلة .(1/98)
(10) أي وكذا الإيمان جميع رسله إجمالا في الإجمالي . وتفصيلا في التفصيلي . فيؤمن بمن جاء تفصيلهم في الكتاب والسنة على التعيين . وأعظم ذلك الإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وممن يؤمن بهم تفصيلا أولو العزم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام ، ويؤمن بغيرهم ممن سمى الله في كتابه أو على لسان رسوله في السنة المطهرة ، ومن لم يسم في النصوص يؤمن بهم إجمالا : { لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } ، والإيمان بهم فرض . وهو التصديق بأنهم رسل الله إلى عباده . صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى .(1/99)
(11) أي بما يكون بعد الموت في البرزخ ، وبالحساب ، والميزان ، والجنة ، والنار ، والإيمان بعذاب القبر ، ونعيمه ، وأكبر ذلك وأعظمه الإيمان ببعث هذه الأجساد ، وإعادتها كما كانت أجسادا بعظامها وأعصابها ، حتى يقع الثواب على هذا الجسد والروح جميعا . على ما فعلا من طاعة الله ، أو يعاقبا على المعاصي التي صدرت منها جميعا فإن الطاعة والمعصية صدرت منهما جميعا ، فلا بد أن يثابا على ما فعلا ، أو يعاقبا على ما تركا ، فتؤمن أن الذي أوجد هذا الجسم وانفرد بخلقه يبعثه حيا ويعيده كما كان .(1/100)
(12) أي بما قدره الله يعني كتبه من خير وشر ، والإيمان بالقدر تضمن الإيمان بأربعة أشياء : الإيمان بعلم الله القديم ، فإن الرب تعالى علم بعلمه القديم ما هو كائن . والإيمان بأن الله كتب ما علم أنه كائن من العباد ، والإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه ما في السماوات وما في الأرض حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله تعالى ، وأن الله تعالى أوجد جميع الخلق ، وأن ما في الكون بتقدير الله وإيجاده . فلا يصير المرء مؤمنا بالقدر إلا بالإيمان بهذه الأربعة الأشياء . وأن يعلم أنما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وفي الأثر من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار .
(13) أي أنها أركان للإيمان ، لا يستقيم إيمان العبد إلا بها جميعها ، وأنه متى انتفى واحد منها لم يكن المرء مؤمنا .(1/101)
(14) قد اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة ، وعقيدة مستقيمة ، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الإيمان فتلا هذه الآية : { لَيْسَ الْبِرَّ } ، وهو كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة : { أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي ليس البر كله أن تصلوا إلى بيت المقدس إن لم يكن أمر الله وشرعه وذلك لما حولوا إلى الكعبة .
(15) أي ولكن البر امتثال أوامر الله واتباع ما شرع ، وأعظم ما ذكر في هذه الآية ، أو هذه أنواع البر كلها ، وبدأ بالإيمان ، أي ومن البر الإيمان بالله ، أو ولكن البر بر من آمن بالله ، أو ذا البر بر من آمن بالله ، أي بتفرده جل وعلا بالربوبية والإلهية ، والأسماء الحسنى والصفات العليا . إذ هو أصل الأصول . والإيمان باليوم الآخر . وهو البعث بعد الموت ، ينقضي بقضاء الخلق في الدنيا . ويموت كل من فيها ثم يحي الله الموتى ، ويعيد الأجساد كما كانت . ويرد إليها الأرواح كما كانت ، ويجمع الأولين والآخرين فيوفي كل عامل عمله .(1/102)
(16) أي وصدق بوجود الملائكة كلهم ، وأشرفهم السفرة بين الله ورسله وآمن بالكتاب . وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى ختمها بالكتاب العزيز ، وهو القرآن الكريم . المهيمن على ما قبله من الكتب ، وجاء أنها مائة كتاب وأربعة كتب ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى آخرهم . خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
(17) وأنه ركن من أركان الإيمان لا يستقيم الإيمان إلا به .
(18) أي ما خلقناه فمقدور مكتوب في اللوح المحفوظ . وفي الحديث : « كل شيء بقدر حتى العجز والكيس » .(1/103)
المرتبة الثالثة الإحسان (1) ركن واحد (2) وهو « أن تعبد الله كأنك تراه (3) فإن لم تكن تراه فإنه يراك (4) . »
والدليل قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (5) وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } (6) { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } (7) { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } (8) { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (9) وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } (10) الآية .(1/104)
والدليل من السنة (11) حديث جبرائيل المشهور عن عمر - رضي الله عنه (12) - قال : « بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم (13) - إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب (14) شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد (15) حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه (16) وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام (17) قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (18) ، فقال : صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه (19) قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت (20) ، قال : فأخبرني : عن الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك (21) قال : فأخبرني عن الساعة (22) ، قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل (23) ، قال : فأخبرني عن أماراتها (24) قال : أن تلد الأمة ربتها (25) وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان (26) ، قال : فمضى فلبثنا مليا (27) فقال : يا عمر أتدري(1/105)
من السائل ، قلت الله ورسوله أعلم (28) قال : هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم » (29)
(1) قدم مرتبتي الإسلام والإيمان ، وثلث بالمرتبة الثالثة من مراتب الدين وهي الإحسان ، والإحسان نهاية الإخلاص . والإخلاص هو إيقاع العمل عاد أكمل وجوهه في الظاهر والباطن . بحيث يكون قائما به في الباطن والظاهر على أكمل الوجوه ، وهذا هو الإحسان . ولذا يفسر بالإخلاص ، واشتقاقه من الحسن نهاية الإخلاص الناشئ عن حقيقة الاستحضار . ومن حيث الظاهر كمال المتابعة . وتفسيره بالإخلاص تفسير له بنتيجته وثمرته ، فإنه من اتصف بذلك فإنه أكمل العمل في الظاهر والباطن . فالإحسان أعلى المراقب وأعمها من جهة نفسها وأخصها من جهة أصحابها . كما أن الإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه .
ولهذا يقال كل محسن مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا محسنا . وكل ما أطلق الإحسان فإنه يدخل فيه الإيمان والإسلام فإن الإسلام والإيمان والإحسان دوائر . أوسعها دائرة الإسلام . ثم يليها في السعة الإيمان . ثم أضيقها الإحسان . كدوائر كل واحدة منها محيطة بالأخرى . ومعلوم أن من كان في دائرة الإحسان فهو داخل في الإسلام والإيمان .(1/106)
وإذا خرج من الأولى فهو داخل في الثانية ، وهي دائرة الإيمان ، وإذا خرج عنها فهو داخل في الثالثة وهي دائرة الإسلام ، ومن خرج عن هذه الدوائر الثلاث فهو خارج إلى غضب الله وعقابه . وداخل في دوائر الشيطان والعياذ بالله- فظهر بالتمثيل بهذه الدوائر صحة قول من قال كل محسن مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا محسنا فلا يلزم من دخوله في الإسلام أن يكون داخلا في الإحسان والإيمان . وليس المراد أن من لم يكن في الإحسان والإيمان أن يكون كافرا . بل يكون مسلما ومعه من الإيمان ما يصحح إسلامه . لكن لا يكون مؤمنا الإيمان الكامل الذي يستحق أن يثنى عليه به ، فإنه لو كان مؤمنا الإيمان الكامل لمنعه من المعاصي والمحرمات ، وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أعطيتهم وتركت فلانا وهو مؤمن . . فقال : « أو مسلم » وقال : « لا يزني الزاني حين يزني هو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن » الحديث . . وقال : « والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه » فالنصوص ما نفت عنهم الإسلام بل أثبتت لهم أحكام الإسلام من عصمة الدم وإذا ماتوا غسلوا : كفنوا وصلي عليهم . فأهل الإحسان هم خواص أهل الإيمان كما أن أهل الإيمان- هم خواص- أهل(1/107)
الإسلام . فإن أهل الإحسان كملوا عبادة الله إلى أن وصلوا إلى حد المراقبة .
(2) أي شيء واحد ولم يذكر له أركانا كما ذكر للإسلام والإيمان .
(3) أي الإحسان هو أن تعبد الله العبادة البدنية كالصلاة أو المالية كالذبح كأنك تشاهد معبودك الذي قمت بين يديه وقربت له القربان وأطعته فيما أمرك به فإنه إذا انكشفت الحقيقة للقلب وبلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال وأحست الروح بالقرب الخاص الذي ليس كقرب المحسوس من المحسوس حتى شاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب فصار يعبده كأنه يراه .
(4) أي وإن لم تعبده على استحضار الدرجة الأولى درجة المراقبة فاعلم أنه يراك سمع عليم بصير . مطلع على جميع خفياتك . فهاتان درجتان إحداهما أكمل من الأخرى . فإن لم تحصل على عبادة الله كأنك تشاهده فاعبده على مرأى من الله وأنه سميع عليم لجميع ما تفعله.(1/108)
(5) أي أن الله عز وجل مع عباده الذين اتقوا المنهيات . والذين هم محسنون في العمل . يحفظهم ويكلؤهم ويؤيدهم . وهذه معية خاصة ومقتضاها مقتضى العامة وتقتضي المعية الخاصة معنى زائدا بحسب مواطنها .
(6) في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك .
(7) ومعتن بك في جميع حركاتك وسكناتك .
(8) أي يراك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك .
(9) أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم ، وقال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } وغيرها من الآيات الدالة على رؤية الله عز وجل وإطلاعه على أفعال خلقه .
(10) أي وما تكون يا محمد في عمل من الأعمال . وما تتلو من الله من قرآن نازل . أو من شأن من قرآن نزل فيه . ولا تعملون من عمل أنت وأمتك إلا كنا - أي إلا- ونحن عليكم شهودا مشاهدون لكم راؤون سامعون . إذ نفيضون فيه أي تأخذون في ذلك الشيء.
(11) أي والدليل على مراتب الدين الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان من الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .(1/109)
(12) من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ذكر المصنف رحمه الله ما أخرجه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه لما فيه من زوائد الفوائد وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة ولأحمد وغيره نحوه من حديث ابن عباس وغيره . وهو حديث جليل عظيم الشأن يشتمل على بيان الدين كله .
(13) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزا يوما للناس .
(14) ولأبي فروة : فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها . وأطيب الناس ريحا . كأن ثيابه لم يمسها دنس .
ولابن حبان : شديد سواد اللحية .
(15) ولسليمان التيمي : ليس عليه سحناء السفر وليس من البلد اهـ . فتعجب الصحابة من هذا الرجل حيث كان شديد بياض الثياب . شديد سواد الشعر . والمسافر من شأنه أن لا يكون كذلك ، ومع ذلك لا يرى عليه أثر السفر . ولم يعرفه الحاضرون . وفي رواية عثمان : فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا ما نعرف هذا . وفي رواية لمسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « سلوني » فهابوا أن يسألوه . قال فجاء رجل .(1/110)
(16) وفي حديث ابن عباس وغيره : ثم وضع يده على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولسليمان التيمي : فتخطى حتى برك بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يجلس أحدنا في الصلاة ، ثم وضع يديه على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - . وصنيعه عليه السلام منبه للإصغاء إليه . وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل كوضعه يده على ركبته . ولعل مبالغة جبرائيل تعمية لأمره .
(17) ولفظ الترمذي وغيره أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان قبل الإسلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة . وفي بعض روايات حديث عمر أنه سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان . قال الحافظ ولا شك أن القصة واحدة اختلف الرواة في تأديتها . وليس في السياق ترتيب . وفي رواية أبي فروة أنه قال : السلام عليك يا رسول الله قبل السؤال . وقوله يا محمد أخبرني عن الإسلام لعله مبالغة في التعمية .(1/111)
(18) ولفظ الصحيحين قال : « أن تعبد الله لا تشرك به شيئا » والمراد بالعبادة النطق بالشهادتين وإنما احتاج أن يوضحها بقوله : لا تشرك به شيئا ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذلك . وفيه : « تقيم الصلاة المكتوبة . وتؤدي الزكاة المفروضة . وتصوم رمضان . وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . » وهذه الأركان الخمسة هي الإسلام . وفي بعض الروايات فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال : « نعم . » فدل على أن من أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلما حقا . وهذا هو دليل المرتبة الأولى . وفسره بأعمال الجوارح الظاهرة . والإسلام هو الدين . قال تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وهو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه .
(19) عجب الصحابة رضي الله عنهم منه . فإن من شأن السائل أن يجهل ما يسأل عنه .(1/112)
(20) وقد ذكر الله الإيمان بهذه الأصول في مواضع من كتابه . والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل هذه الستة هي أركانه ومبانيه . وإعادة تؤمن عند ذكر القدر للاهتمام لأنه . وبهذا الحديث احتج عبد الله بن عمر . وقال في القدرية والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . وفي رواية : « وتؤمن بالجنة والنار » فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال : نعم . وهذا دليل المرتبة الثانية . وفسره بالأعمال الباطنة . ودل الحديث على أن الإسلام والإيمان إذا اقترنا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة .(1/113)
(21) هذا القدر من الحديث أصل من أصول الدين . وقاعدة مهمة من قواعد العلم وهو من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - . فإن إحسان العبادة هو الإخلاص فيها والخشوع . وفراغ البال حال التلبس بها . ومراقبة المعبود . وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه شاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه . والآية أن يستحضر الحق تعالى مطلعا عليه . يرى كل ما يعمل . وهاتان الحالتان تثمرهما معرفة الله وخشيته . وفي رواية : « أن تخشى الله كأنك تراه » فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا هو الإحسان وهو دليل المرتبة الثالثة . ففي هذا الحديث دليل هذه المراتب الثلاث . وأن أركانها هي ما عدها المصنف رحمه الله . وفي رواية فعجبنا له يسأله ويصدقه . كما ذكر ذلك بعد الإسلام والإيمان . وفي رواية أبي فروة فلما سمعنا قول الرجل : صدقت أنكرناه . وفي رواية مطر : انظروا إليه كيف يسأله . وانظروا إليه كيف يصدقه كأنه أعلم منه . وفي حديث أنس : انظروا هو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم منه . وفي رواية سليمان بن بريدة : قال القوم ما رأينا رجلا مثل هذا . كأنه يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . يقول له : صدقت صدقت . قال(1/114)
القرطبي إنما عجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف إلا من جهته . وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه . ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه لأنه يخبره بأنه صادق . فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك .
(22) ولفظ الصحيحين متى الساعة . أي متى تقوم الساعة . والمراد يوم القيامة .
(23) وفي رواية أبي فروة فنكس فلم يجبه ثم أعاد فلم يجبه ثلاثا ثم رفع رأسه فقال : ما المسؤول بأعلم من السائل . أي أنا وأنت سواء في العلم بها . فإنها مما استأثر الله بعلمه . كما في الآية الكريمة : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } ، وفي الحديث : « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله . قال ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله » ، وفي حديث ابن عباس هنا فقال : « سبحان الله خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله » ثم تلا الآية . وفيه التعميم تعريضا للسامعين أن كل مسؤول وسائل عنها فهو كذلك . وكف السامعين عن السؤال عن وقتها فإنهم قد أكثروا عليه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .(1/115)
(24) وفي حديث أبي هريرة « وسأخبرك عن أشراطها » ، وفي رواية أبي فروة : « ولكن لها علامات تعرف بها » ، وفي رواية سليمان التيمي : « ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها » قال : أجل . فالأشراط والعلامات الأمارات جمع أمارة بالفتح الدلالة والبرهان على اقتراب قيامها . والمراد العلامات السابقة . وأما ما يقارنها فكطلوع الشمس من مغربها .
(25) أي سيدتها . والمعنى أن السراري تكثر في العرب حتى يوجد أن الأمة تلد سيدتها وفسر بغير ذلك . وحاصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا والسافل عاليا .(1/116)
(26) أي ومن أماراتها أن ترى الحفاة جمع حاف : وهو الذي لا نعال عليه . العراة جمع عار : وهو الذي لا ثياب عليه . العالة جمع عائل : والعائل هو الفقير . رعاء الشاء : يعني الغنم يتطاولون في البنيان . والعرب كانوا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حفاة عراة . كما في هذا الحديث . وكانوا في أشد حالة وأدناها ، فمن الله عليهم بالإسلام وقواهم حتى استنفقوا خزائن كسرى وقيصر . ثم وصلوا إلى أن وقعوا فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من علامات قيام الساعة . ولفظ الصحيحين من حديث أبي هريرة : « وإذا رأيت الحفاة العراة رؤوس الناس » أي ملوكهم ، فذلك من أشراطها . وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذلك من أشراطها ، فعدها ثلاثا . والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته ، وفي الحديث : « إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » لأنه يفسد نظام الدين والدنيا . وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور .(1/117)
(27) أي زمانا بعد انصرافه . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم بعد مضي وقت لكنه في ذلك المجلس . إلا أن في رواية الترمذي وغيره : فلبث ثلاثا . ولفظ الصحيحين : ثم أدبر فقال : « ردوه » ، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا . وفي رواية سليمان التيمي : فولى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « علي بالرجل » فطلبناه كل مطلب فلم نقدر عليه . فقال : « هل تدرون » الخ . . وفي روايات أخر تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر الصحابة بشأنه في المجلس بعد أن التمسوه . وأما خبر عمر فلعله خطاب له وحده أو من تصرف بعض الرواة .
(28) هذا فيه أن من سئل عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه . ولا يتكلف ما ليس له به علم كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما حكى الله عنه : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } . فإن من أعظم التكلف أن نسأل الإنسان عن شيء فيتكلف العلم به . ولهذا قيل في الله أعلم : نصف العلم يعني أن العلم ينقسم إلى قسمين : فوظيفة ما تعلم أن تجيب عنه بما تعلمه . وما لا تعلمه تقول فيه الله أعلم .(1/118)
(29) وفي رواية : « يعلمكم دينكم » فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما ذكر في هذا الحديث هو أمر الدين . بل هو الدين . فإنه قد اشتمل على أصول الدين والعقائد . بل انحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث ، ورجعت كلها إليه . وعقيدة أهل السنة والجماعة عليه . وشرفه وجلالته أمر مجمع عليه .(1/119)
وبعد العشر عرج به إلى السماء (1) وفرضت عليه الصلوات الخمس (2) ، وصلى في مكة ثلاث سنين (3) وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة (4)
والهجرة : الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام (5) والهجرة فريضة علي هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام (6) وهي باقية إلى أن تقوم الساعة (7) .
والدليل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } (8) { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } (9) { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ } (10) { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } (11) { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (12) { إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } (13) { لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } (14) { وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } (15) { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ } (16) { وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } (17)
وقوله تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي } (18) { وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } (19)(1/120)
قال البغوي رحمه الله تعالى (20) : سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان (21) .
والدليل على الهجرة من السنة (22) قوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة (23) ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها » (24) .
فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام (25) مثل الزكاة والصوم والحج والجهاد والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (26) وغير ذلك من شرائع الإسلام (27) أخذ على هذا عشر سنين (28) .
(1) أسرى بجسده - صلى الله عليه وسلم - وروحه جميعا من المسجد الحرام على البراق إلى بيت المقدس يقظة لا مناما . كما أخبر الله عنه ثم صعد به جبرائيل إلى السماء على المعراج . وهو المصعد الذي تصعد فيه الملائكة . كلما مر به ماء تلقاه مقربوها حتى جاوزهم إلى سدرة المنتهى . فبلغ من الارتفاع والعلو إلى ما الله به عليم . ودنا من الجبار جل جلاله . وكلمه بلا واسطة . فأوحى إليه ما أوحى .(1/121)
(2) وكان أول فرضها خمسين صلاة . ولم يزل يتردد بين موسى وربه حتى وضعها إلى خمس . وقال : « هي خمس وهي خمسون . . الحسنة بعشر أمثالها » ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط الأنبياء معه . وأمهم في بيت المقدس . ثم ركب البراق ورجع إلى مكة . وحدثهم عما رآه في مسيره صلوات الله وسلامه عليه .
(3) يعني بعد أن عرج به وفرضت عليه قبل الهجرة كما هو ظاهر في سياق ابن إسحق أن الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل سنة ، وقيل ونصف ، وقيل بخمس . . فالله أعلم .
(4) أي وبعد الثلاث عشرة من بعثته في أمر بمفارقة المشركين وأوطانهم بحيث يتمكن من إظهار دينه . والدعوة إلى الله في غير بلادهم فإن ذلك واجب وفرض . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولا يتم الفرض والواجب إلا مع مفارقة المشركين عن الأوطان فإنه إذا كان في بلد لا يقدر على إظهار دينه والتصريح به وتبيينه . وجب عليه مفارقة ذلك الوطن لإظهار دينه.(1/122)
(5) إحرازا للدين . وسمى المهاجرون مهاجرين لأنهم هجروا ديارهم ومساكنهم التي نشأوا بها لله . ولحقوا بدار ليس لهم فيها أهل ولا مال . حين هاجروا إلى المدينة . فكل من فارق بلده فهو مهاجر ، والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومقاطعته ومباعدته .
(6) معلوم ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع . متوعد من تركها ، وقد حكى الإجماع على وجوبها من بلد الشرك إلى بلد الإسلام غير واحد من أهل العلم . بل فرضها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة قبل فرض الصوم والحج . كما هو مقرر في كتب الأصول والفروع . معلوم بالضرورة من الدين .
(7) باتفاق من يعتد به من أهل العلم . قال شيخ الإسلام : لا يسلم أحد من الشرك إلا بالمباينة لأهله.
(8) يعني بالإقامة بين أظهر الكفار نزلت في أناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا . فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ } أراد ملك الموت وأعوانه أو ملك الموت وحده . فإن العرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع . { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } بترك الهجرة .(1/123)
(9) أي لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع . يعود معناه إلى لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة . وفي أي فريق كنتم . والملائكة تعلم في أي فريق كان فيه التاركون للهجرة بعدما وجبت عليهم .
(10) عاجزين عن الهجرة . لا نقدر على الخروج من البلد . ولا الذهاب في الأرض .
(11) يعني إلى المدينة فتخرجوا من بين أهل الشرك . ولم تعذرهم الملائكة ، وفي الحديث : « من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله » رواه أبو داود وغيره في أحاديث أخر .
(12) أي بئس المصير إلى جهنم . وهذا فيه أن تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب .
(13) العاجز عن الهجرة . والولدان جمع وليد ووليدة . والوليد الغلام قبل أن يحتلم .
(14) أي من مفارقة المشركين ، فلا يقدرون على حيلة ولا على نفقة . ولا على القوة للخروج .
(15) لا يعرفون طريقا إلى الخروج من مكة إلى المدينة حيث كانت هي إذ ذاك بلد الإسلام .
(16) أي يتجاوز عن المستضعفين وأهل الأعذار بترك الهجرة . وعسى من الله واجب لأنه للإطماع .(1/124)
(17) عفوا يتجاوز عن سيئاتهم ، غفورا لمن تاب إليه . لا يكلف نفسا إلا وسعها . قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو للمستضعفين في الصلاة.
(18) أمر تعالى عباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرضه الواسعة . وأخبر أن الأرض غير ضيقة بل واسعة ، تسع جميع الخلائق . فإذا كان الإنسان في أرض لم يتمكن من إظهار دينه فيها فإن الله قد وسع له الأرض ليعبده فيها كما أمر . وكذلك يجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها أن يهاجر منها .
(19) أي وحدون في أرضي الواسعة التي خلقتها وما عليها لكم ، وخلقتكم عليها لعبادتي . وفي الحديث القدسي : « ابن آدم خلقتك لأجلي وخلقت كل شيء لأجلك » .
(20) الملقب محيى السنة . أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء ، صاحب التفسير وشرح السنة وغيرهما . المتوفى سنة خمسمائة وست عشرة سنة .
(21) حكاه عن جماعة من التابعين . فأفاد أن تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه ليس بكافر . لكنه عاص بتركها . فهو مؤمن ناقص الإيمان . عاص من عصاة الموحدين المؤمنين.(1/125)
(22) أي على وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أمرنا باتباعها .
(23) أي لا تنقطع الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام حتى تنقطع التوبة أي حتى لا تقبل التوبة ممن تاب . فدل الحديث على أن التوبة ما دامت مقبولة فالهجرة واجبة بحالها . وأما حديث ابن عباس : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية » ، فالمراد لا هجرة بعد فتح مكة منها إلى المدينة . حيث كانت مكة بعد فتحها بلد إسلام . فإن أناسا أرادوا أن يهاجروا منها إلى المدينة ظنا منهم أنه مرغب فيها . فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما حث عليها لما كانت مكة بلد كفر . أما وقد كانت بلد إسلام فلا . فالمعنى لا هجرة من مكة إلى المدينة . أما ثبوت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام . وبقاؤها فمعلوم بالنص والإجماع .(1/126)
(24) فإذا طلعت الشمس من مغربها فهو أوان قيام الساعة ، وهي أقرب علاماتها وإذا طلعت لم تقبل التوبة . قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } ، وجاء في ذلك أحاديث كثيرة . وهذا يفسر بقيام الساعة فدل على أنها تقبل قبل طلوع الشمس من مغربها . وما دامت تقبل التوبة فلا تنقطع الهجرة . وفي الحديث : « أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين » ، وقال : « لا ترائا نارهما » ، وقال : « الهجرة باقية ما قوتل العدو » ، وقال : « لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من شاهق إلى شاهق » .
(25) أي لما هاجر من مكة إلى المدينة واستقر بها وفشا التوحيد ودان به أولئك وأقاموا الصلاة أمر ببقية شرائع الإسلام التي تعبد الله خلقه بها . إذ عامة شرائع الإسلام لم تشرع إلا في المدينة .(1/127)
(26) قال تعالى : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، وهذه صفته في الكتب المتقدمة . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام وفرض على كل أحد بحسبه . قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، وقال : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وأعلاه باليد . فمن لم يقدر فبلسانه فمن لم يقدر فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . والأمر بالمعروف من أعظم شرائع الإسلام وأعظمه الجهاد الذي هو ذروة الإسلام وأمر به هو والزكاة والصوم سنة اثنتين من الهجرة وأما الحج فسنة تسع عند الجمهور .
(27) كبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، وأداء الأمانات ، وسائر مكارم الأخلاق . ومحاسن الأعمال كما هو معروف من شريعته - صلى الله عليه وسلم - .
(28) كلها توحي إليه فيها الشرائع . أركانها وواجباتها ومستحباتها . وما ينافي ذلك .(1/128)
وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه (1) .
ودينه باق (2) ، وهذا دينه (3) لا خير إلا دل الأمة عليه (4) ولا شر إلا حذرها منه (5) .
والخير الذي دل عليه التوحيد (6) وجميع ما يحبه الله ويرضاه (7)
والشر الذي حذر منه الشرك (8) وجميع ما يكرهه الله ويأباه (9) .
بعثه الله إلى الناس كافة (10) وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس (11) .
والدليل قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (12) .
وأكمل الله به الدين (13) .
والدليل قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (14) { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } (15) { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (16) .
والدليل على موته (17) - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ } (18) { وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } (19) { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } (20) .
والناس إذا ماتوا يبعثون (21) .(1/129)
والدليل قوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } (22) وقوله تعالى : { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } (23) { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } (24) .
وبعد البعث محاسبون (25) ومجزيون بأعمالهم (26) .
والدليل قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } (27) .
ومن كذب بالبعث كفر (28) .
والدليل قوله تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا } (29) { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } (30) { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } (31) { وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (32) .
(1) بعد ما أكمل الله يه الدين . وبلغ البلاغ المبين . قال أبو ذر ما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما.
(2) موجود وهو ما تضمنه الكتاب والسنة . مؤيد محفوظ إلى يوم القيامة . كاف لمن تمسك به . قال - صلى الله عليه وسلم - : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي » .(1/130)
(3) الذي ترك أمته عليه ، وتكفل الله بحفظه ، فتوارثه أهل العلم والدين خلفا عن سلف . قال السلف : هذا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا . ونحن عهدناه إليكم . وهذه وصية ربنا وفرضه علينا . وهي وصية وفرضه عليكم . فجرى الخلف على منهاج السلف . واقتفوا آثارهم . ولا يزالون إلى يوم القيامة .
(4) كما تقدم في قوله تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فصلوات الله وسلامه عليه . كما بلغ الرسالة وأدى الأمانة . ونصح الأمة .
(5) خوفا على أمته من الوقوع في المهالك . وقد بلغ الدين كله . وبينه جميعه . كما أمره الله عز وجل ، وفي الحديث الشريف : « ما بعث من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم » .
(6) فهو أصل كل خير وأعظمه . وأوجب الواجبات ولأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب .
(7) من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .(1/131)
(8) فهو أصل كل خير وأعظمه وأول ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - الإنذار عنه . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ } أي عن الشرك . وكذا كل رسول يحذر أمته عن الشرك ويدعوهم إلى التوحيد .
(9) أي يمنعه من الأقوال والأعمال.
(10) يعني بعث الله نبينا محمدا ثم إلى كافة الناس ، عربهم وعجمهم . ذكرهم وأنثاهم ، حرهم وعبدهم ، أحمرهم وأسودهم ولا نزاع في ذلك بين المسلمين .
(11) بإجماع المسلمين وقرن طاعته بطاعته في غير موضع من كتابه.(1/132)
(12) وهذا عموم ظاهر في عموم بعثه إلى الناس جميعا عربهم وعجمهم و(جميعا) تأكيد بعثه إلى الناس كافة . وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } ، { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وسورة الرحمن وسورة الجن وغيرهما . دالة أوضح دلالة على شمول رسالته إلى الجن والإنس . وقال : « إن الرسل قبلي يبعثون إلى قومهم خاصة وبعثت إلى الناس كافة » ، وهذا من شرفه - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين . وأنه مبعوث إلى الناس كافة . وهو معلوم من دين الإسلام بالضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الثقلين كلهم وأن طاعته فرض عليهم كلهم . وهو مقتض رسالته - صلى الله عليه وسلم - لا يمتري في ذلك إلا مكابر معاند.
(13) أي لم يتوف - صلى الله عليه وسلم - حتى أكمل الله به الدين وبلغ البلاغ المبين . حتى قال : « تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك » .(1/133)
(14) هذه الآية لم تنزل إلا قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بثمانين يوما . نزلت عليه وهو واقف بعرفة يخطب الناس . وهذا أكبر نعم الله على هذه الأمة . حيث أكمل لها دينها . فلا يحتاجون إلى دين سواه . ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه . وقال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } ، أي صدقا في الأخبار . وعدلا في الأوامر والنواهي . وفيها بيان أن الله أكمل لنا الدين وأنه كمل من جميع وجوهه . والكامل لا يراد فيه ولا ينقص منه ولا يبدل . قال تعالى : { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } فمن ادعى انه يحتاج إلى زيادة فقد كذب وافترى ورد مدلول هذه الآية ومدلول قوله : « إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة » .
(15) لما أخبر تعالى أنه أكمل لنا الدين . وهو أكبر نعمة علينا قال : { وَأَتْمَمْتُ } أي أكملت { عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ومن تمت عليه النعمة فقد أفلح كل الفلاح .(1/134)
(16) أي فارضوه أنتم لأنفسكم . فإنه الدين الذي أحبه ورضيه . وبعث به أفضل رسله وأنزل به أشرف كتبه . قال كعب لو نزلت هذه الآية على غير هذه الأمة لاتخذوا اليوم الذي نزلت عليهم فيه عيدا ، قال عمر : نزلت يوم جمعة يوم عرفة . وكلاهما بحمد الله لنا عيد . وكذا قال حبر الأمة.
(17) أي من النقل مما يطابق الحس .(1/135)
(18) أي أنك يا محمد ستموت . وقام أبو بكر لما توفى - صلى الله عليه وسلم - يبكي . وقال : بأبي أنت وأمي أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها . وقال تعالى : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } نعم هو حي - صلى الله عليه وسلم - في قبره حياة برزخية أعلى وأكمل من حياة الشهداء المذكورة في قوله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، وأما الحياة الجسمانية فلا ريب أنه مات - صلى الله عليه وسلم - . وغسل وكفن وصلي عليه . ودفن في ضريحه بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه . ولم يقل أنه لم يمت إلا المبتدعة الخارجة عن منهج الكتاب والسنة . مخافة أن ينتقض عليهم أصلهم الباطل في توجههم إليه ، وسؤاله ما لا يقدر عليه . وإلا فموته - صلى الله عليه وسلم - معلوم بالسمع والمشاهدة مشهور يعلمه العام والخاص لا يمتري فيه إلا مكابر .
(19) أي سيموتون وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } .(1/136)
(20) فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله تعالى كما في سورة القيامة ، وآخر يس وغيرهما من السور . فالإيمان بالبعث والنشور من القبور من جملة الإيمان باليوم الآخر . فإن الإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث ، بل الإيمان بالبعث هو معظم الإيمان باليوم الآخر . وهو الذي كان ينكره أهل الجاهلية ، أنكروا أن تعود هذه الأجساد كما كانت عظامها ولحمها وعصبها . وذلك من جهلهم بكمال علمه تعالى وقدرته على كل شيء . ولهذا يقرر تعالى بعث الأجساد وردها كما كانت في مواضع من كتابه بكمال علمه وقدرته.
(21) ليجازى كل بعمله . ويقتص لبعضهم من بعض حتى البهائم .
(22) أي من الأرض مبدؤكم . فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض وفي الأرض نعيدكم أي إذا متم تصيرون إليها فتدفنون بها ومن الأرض نخرجكم يوم البعث والحساب . تارة أي مرة أخرى . كقوله : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } . وفي الحديث « أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ قبضة من تراب الأرض فألقاها في القبر فقال : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }» . .(1/137)
(23) أراد تعالى مبدأ خلق آدم من الأرض والناس ولده و(نباتا) اسم وضع موضع المصدر أي إنبات .
(24) أي يعيدكم في الأرض إذا متم . ويخرجكم منها بعد البعث إحياء . " إخراجا " يعيدكم يوم القيامة كما بدأكم أول مرة.
(25) أي على الأعمال حسنها وسيئها . والإيمان بالحساب والمجازاة على الأعمال من الإيمان بالنوم الآخر أيضا .
(26) دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها.
(27) يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، الغني عما سواه ، الحاكم بالعدل . خالق الخلق بالحق : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا } من الشرك فما دونه { وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وحدوا ربهم وأخلصوا له الطاعة بِالْحُسْنَى ، وقال : { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } ، والآيات في هذا المعنى كثيرة . يقرر فيها تعالى أنه يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(28) لتكذيبه الله ورسوله وإجماع المسلمين.
(29) كفرهم الله تعالى بإنكارهم للبعث في زعمهم أن لن يبعثوا . فدل على أن إنكار البعث كفر بل هو من أعظم كفر أهل الجاهلية .(1/138)
(30) أي قل يا محمد بلى وربي . جواب تحقيق وقسم بالله العظيم لتبعثن يوم القيامة . وهذه الآية الثالثة التي أمر الله نبيه أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده . وفي يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ، وفى سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } الآية .
(31) أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها . صغيرها وكبيرها . قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } .(1/139)
(32) سهل هين عليه كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فإذا كان هذا النوع الإنساني في العدم لم يوجد قبل . ثم أوجده الله تعالى من طين ، وذراريه من ماء مهين . ثم جعل هذا التناسل منه . فإنه لا يعجزه أن يعيدهم وهو الذي أبدعهم . وفي الحديث : « كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك . ويشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك . فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني . وليس أول الخلق بأهون علي من آخره » .(1/140)
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين (1) .
والدليل قوله تعالى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (2) .
وأولهم نوح عليه السلام (3) وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم (4) .
والدليل على أن أولهم نوح - عليه السلام - قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } (5) .
وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد (6) يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت (7) .
والدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (8) .
(1) أي أرسل الله جميع رسله من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يدعون إلى عبادة الله وحده . وترك عبادة ما سواه . مبشرين من أجابهم إلى ما دعوا إليه برضوان الله وكرامته ومنذرين محذرين من عصاهم غضب الله وسخطه وعقابه.(1/141)
(2) فلا يقولون يوم القيامة ما أرسلت إلينا رسولا ، ما أنزلت إلينا كتابا . فانقطعت حجة الخلق على الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب . وإقامة الحجج عليهم . وتبين الحق لهم . وركز الفطر في قلوبهم . وانقطعت المعذرة ولم يبق للناس على الله حجة.
(3) كان بينه وبين آدم عشرة قرون كلهم على الإسلام . فلما حدث الشرك بسبب الغلو في الصالحين . أرسل إليهم وهو أول رسول إلى أهل الأرض بإجماع المسلمين .
(4) هو آخر الرسل إلى أهل الأرض بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وهو خاتم النبيين لا نبي بعده . قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } . وثبت عنه من غير وجه أنه لا نبي بعده . وأجمع المسلمون على ذلك ، واشتهر كذب من ادعى النبوة بعده . وأخبر بذلك أنه سيأتي بعده كذابون دجالون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي . ووقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - . وعيسى بن مريم إذا نزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - . فهو من أمته بإجماع المسلمين.(1/142)
(5) أي من بعد نوح . فهو أول رسول وأول نذير عن الشرك وقوله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّا أَوْحَيْنَا } بناء على ما سبق من قوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } ، { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } ، وقال : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } ، وذكر عدة من الرسل . أي فقد أنزل عليك كما أنزل عليهم ، إلى أن قال : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ، ولابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي ذر قلت : « يا رسول الله كم الأنبياء قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا . قلت : كم الرسل منهم؟ قال : ثلاث مائة وثلاثة عشر جم غفير » ، فأقام تعالى الحجة وقطع المعاذير بإرسال الرسل وإنزال الكتب.(1/143)
(6) فنوح أول رسول من بني آدم إلى أهل الأرض . وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وما من أمة من الأمم . ولا طائفة من الطوائف . إلا وقد بعث الله فيهم رسولا . إقامة منه تعالى للحجة على عباده وإيضاحا للمحجة . قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ، ولما كانت الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كلما هلك نبي خلفه نبي . قيض الله لهذه الأمة أئمة هدى حفظ الله بهم دينه . وأقام بهم الحجة على عباده ، ولا تزال إلى قيام الساعة . كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في قوله : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة إلى قيام الساعة » .
(7) يدعوهم إلى هذا الذي بعثت به الرسل . ودعوتهم كلهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فزبدة جميع ما أرسلت به الرسل هو التوحيد ، وما سواه من تحريم وتحليل ففروع . ولا يؤمر بها إلا بعد وجود التوحيد ولا تقبل ولا يلتفت إليها إلا مع التوحيد الذي هو دين الرسل . من أولهم إلى آخرهم . ولأجله خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب وخلقت الجنة والنار.(1/144)
(8) ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ، وغير ذلك من الآيات الدالة على عظم التوحيد وكلا الآيتين فيهما العموم الواضح أن أول شيء بدأت به الرسل قومهم هو التوحيد وأيضا في أفراد الرسل جاءت الآيات . كما قال عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم أن أول شيء بدأوا به قومهم { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } . فهذه دعوة الرسل . وزبدة الرسالة . وبه تعرف عظمة شأن التوحيد . ومعرفتك عظمته بأن تصرف همتك إليه . وإلى معرفته والعمل به . غاية جهدك . وإلى معرفة ما يضاده . وما سواه من أنواع العلوم الفروعية بعد ذلك . فيهتم الإنسان غاية الاهتمام بمعرفة أصل الدين إجمالا قبل الواجب من الفروع . الصلاة والزكاة وغير ذلك . فلا تصح الصلاة ولا الزكاة قبل الأصل . فلا بد من معرفة أصل الدين إجمالا . ثم معرفة فروعه تفصيلا . وفي حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن قال له : « إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم(1/145)
خمس صلوات في كل يوم وليلة » ، وهذا يفيد أنهم إذا لم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به فلا يدعوهم للصلاة إن لم يطيعوه في الدخول في الإسلام . فإن الصلاة لا تنفع . ولا غيرها بدون التوحيد . فإنه لا يستقيم بناء على غير أساس . ولا فرع على غير أصل . والأصل والأساس هو التوحيد . والصلاة وإن كانت هي عمود الإسلام فمع ذلك لم تفرض إلا بعد الأمر بالتوحيد بنحو عشر سنين . ومما يبين أن التوحيد هو الأصل كونه يوجد من يدخل الجنة ، ولو لم يصل ركعة واحدة وذلك إذا اعتقد التوحيد وعمل به ومات متمسكا له . كأن يقتل قبل أن يصلي أو يموت . والصلاة لا تنفع وحدها . ولو صلى وزكى وصام . إذا لم يعتقد التوحيد وبذلك يعرف عظم شأن التوحيد . وما هلك من هلك إلا بترك العلم بالتوحيد والعمل به . وما دخل الشيطان على من دخل . ولا مزق عقول من مزق ولا وقع ما وقع إلا من آفة قولهم يكفي النطق بالشهادة . ومجرد المعرفة . حتى إن من علمائهم من لا يعرف التوحيد أصلا . وذلك لكونهم ابتلوا بالشرك . وعبادة الأوثان . وكثرة الشبهات الباطلة . فبذلك خفي التوحيد على كثير ممن يدعي العلم . لعدم المعرفة به . وإلا فمعرفة التوحيد والشرك من أهون ما يكون وأسهله(1/146)
إجمالا . كما في زمن الصحابة . فإنهم كانوا يعرفون التوحيد والشرك . فمن قال لا إله إلا الله يترك الشرك . ويعلم أنه باطل مناف لكلمة الإخلاص ، ولهذا لما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد وقال : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » . قالوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ، وأما حين كثرت الشبهات صعب معرفة التوحيد . والتخلص من ضده وكثر النفاق . وصار الكثير يقولها ويعبد مع الله غيره . فالله المستعان.(1/147)
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله (1) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع (3) .
والطواغيت كثيرة (4) ورؤوسهم خمسة (5) إبليس لعنه الله (6) ومن عبد وهو راض (7) ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه (8) ومن ادعى شيئا من علم الغيب (9) ومن حكم بغير ما أنزل الله (10)
والدليل قوله تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } (11) { قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (12) { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (13) وهذا معنى لا إله إلا الله (14) .
وفي الحديث : « رأس الأمر الإسلام (15) وعموده الصلاة (16) وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (17) » والله أعلم . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (18) .
(1) ولأجل ذلك أرسلت الرسل . وأنزلت الكتب . بل الدين أمران : كفر بالطاغوت وإيمان بالله . ومن كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.(1/148)
(2) هو الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية صاحب التصانيف المقبولة المتوفى سنة سبعمائة وإحدى وخمسين .
(3) يعني كل شيء يتعدى به العبد حده أي قدره الذي ينبغي له في الشرع يصير له طاغوت ، سواء تعدى حده من معبود مع الله بأي نوع من أنواع العبادة أو متبوع في معاصي الله أو مطاع من دون الله في التحليل والتحريم ، بأن كان يحرم ما أحل الله ، ويحل ما حرم الله . ثم قال ابن القيم فإذا تأملت طواغيت العالم فإذا هي لا تخرج عن هذه الثلاثة.
(4) أي إذا عرفت ما حده ابن القيم بتحقق تبين أن الطواغيت كثيرة جدا من بني آدم بلا حصر . وذلك أن كل من تجاوز حده في الشرع صار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتا .
(5) أي أكبر الطواغيت بالاستقراء والتأمل خمسة .
(6) هو رأسهم الأكبر واللعن في الأصل الطرد والإبعاد . وتقدم . وإبليس مطرود مبعد عن رحمة الله 8 .
(7) بتلك العبادة الصادرة من العابد بأي نوع من أنواعها . فهو طاغوت من رؤساء الطواغيت وكبرائهم .(1/149)
(8) ممن يقر الغلو والتعظيم بغير حق كفرعون ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم وحكي عن بعض أئمة الضلال أنه قال من كان له حاجة فليأت إلى قبري وليستغث بي .
(9) كالمنجمين ، والرمالين ونحوهم .
(10) كمن يحكم بقوانين الجاهلية . والقوانين الدولية . بل جميع من حكم بغير ما أنزل الله سواء كان بالقوانين أو بشيء مخترع وهو ليس من الشرع أو بالجور في الحكم فهو طاغوت من أكبر الطواغيت.(1/150)
(11) أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام . فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه . لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه . فمن هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل على بينة . ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا . قيل نزلت في عدد من أولاد الأنصار أرادوا استردادهم لما أجليت بنو النضير وقيل كان في ابتداء الأمر ثم نسخ بالأمر بالقتال . قال الشيخ شرع الجهاد على مراتب فأول ما أنزل الله فيه الإذن فيه بقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ، ثم نزل وجوبه بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } الآية . ولم يؤمروا بقتال من سالمهم وكذا من هادنهم ثم أنزل الله في براءة الأمر بنبذ العهد وقتال المشركين كافة . وبقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية . ولم يبح ترك قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم . وقال ابن القيم : كان محرما . ثم مأذونا فيه . ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال . ثم مأمورا به لجميع المشركين . قال تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم(1/151)
- : « قاتلوا من كفر بالله » .
(12) أي ظهر وتميز الحق من الباطل . والإيمان من الكفر . والهدى من الضلال بالآيات والبراهين الدالة على ذلك .
(13) أي تمسك بالتوحيد فهو العروة الوثقى . واستمسك بالشيء وتمسك به وأمسك أخذ به وتعلق واعتصم . والعروة الوثقى القوية التي لا تنفك ولا تنفصم . فمن تمسك بالتوحيد دين الله الذي أرسل به الرسل وأنزل به الكتب الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه . وصل الجنة بكل حال .
(14) فإن معنى لا إله إلا الله كفر بالطاغوت وإيمان بالله كما تقدم.(1/152)
(15) يعني رأس الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإسلام . فمن انتسب إلى ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعى أنه من أمة الإجابة . وقد فقد منه رأس الأمر . وحقيقته . وهو الإسلام فليس من أمة الإجابة . والإسلام هو الملة والدين . فمن فقد منه فقد كذب وافترى في دعواه الاستجابة لله ورسوله . كما أن الحيوان إذا فقد منه رأسه فأي شيء ينفع سائر جسده . فمن ادعى أنه من أمة الإجابة . وقد فقد منه الإسلام رأس الأمر وأساسه إفراد الله بالعبادة فلا وجود لما يدعيه ، لفقد حقيقة الانتساب . قال شيخ الإسلام : كل اسم علق بأسماء الدين من إسلام أو إيمان أو غيرهما إنما يثبت لمن اتصف بتلك الصفة الموجبة لذلك اهـ . كمن ادعى أنه متبع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو مع الله غيره كأن يسأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويزعم أن ذلك قربة إلى الله ، وأنه مما يحبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ريب أنه هو المضاد المعاند المعادي للنبي - صلى الله عليه وسلم - المنتقص المستهزئ بدين النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإذا كان يقر أن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحق ومع ذلك يعمل بخلافه(1/153)
فقد عكس الدين والشرع جميعا . وخالف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ومرق من الإسلام حيث جعل الشرك توحيدا وزعم أن هذا مما أمر به فعطل الدين والشرع جميعا .
(16) هذا فيه عظم شأن الصلاة . وأنها من الدين بهذا المكان العظيم . وهو أن مكانها من الدين مكان العمود من الفسطاط . فكما أن عمود الفسطاط إذا سقط سقط الفسطاط . فكذلك إذا فقدت الصلاة سقط دين تاركها . ولم يبق له دين . لأن مجرد ترك الصلاة كفر مخرج من الملة . وهذا الحديث من أدلة ما اختاره الإمام أحمد وغيره أنه إذا تركها كسلا فهو كافر . فإن قوله عموده الصلاة يدل على أن المراد فعل الصلاة ليس المراد الإقرار بها فإن المبتدأ والخبر معرفتان يقتضيان الحصر . وأنها وحدها عمود الدين . وأما جحد وجوبها فكفر إجماعا . وإن فعلها . كما أن جحد شيء مجمع عليه عند الأئمة كفر .(1/154)
(17) ذروة الشيء أعلاه وذروة البعير سنامه . وهو أعلاه وأرفعه . وهذا يفيد أن الجهاد هو أعلى وأرفع خصال الدين وذلك لأن فيه بذل المهج التي ليس شيء أنفس منها . ولا يعاد لها شيء ألبتة . فيبذل مهجته ويبذل ماله لظهور الدين وتأييده . وجهاد الكفار والمنافقين فبذلك استحق أن يكون من الدين بهذا المكان . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ، { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المستفيضة في فضل الجهاد والحث عليه ، وهو ركن من أركان الدين .
(18) ختم المصنف رحمه الله هذه النبذة الجليلة كغيره برد العلم إلى من هو بكل شيء محيط علما . وسأله أن يثني على نبيه وآله وصحبه . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .(1/155)