تيسير الوصول
إلى
معرفة الثلاثة الأصول
في سؤال وجواب
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العراقي الأثري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (3).
أما بعد :
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلام الله ، وخيرَ الهدي هدي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
وبعد :
فهذا شرح بسيط ومتواضع من خلال أسئلة وأجوبة وضعتها لتقريب وتوضيح معاني متن رسالة (( الثلاثة الأصول وأدلتها )) لمؤلفها الشيخ محمد بن عبد الوهاب _ رحمه الله تعالى _ ولم يكن لي فيه من الجهد سوى الجمع والترتيب ، حيث جمعت شروحات أهل العلم من الذين قاموا بخدمة هذه الرسالة المباركة وهم :
1 ) فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى .
2 ) فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
__________
(1) 1 ) سورة آل عمران : 102.
(2) 2 ) سورة النساء : 1.
(3) 3 ) سورة الأحزاب : 71.(1/1)
3 ) الشيخ خالد بن عبد الله المصلح .
4 ) الشيخ سليمان بن محمد اللهيميد .
5 ) الشيخ محمد بن صالح الأسمري .
وحاولت جاهداً استخراج الفوائد والقواعد منها ومن ثم صياغتها بهذا الشكل الذي بين يديك ، مع بعض الإضافات من كتب أهل العلم الأخرى التي وجدتها مناسبة في خدمة ما نحن بصدد البحث فيه والتي ستجدها مؤشرة في مواضعها ، أردت من خلاله نيل رضوان الله تعالى وجزيل ثوابه ، ومن ثَمَّ خدمة هذه الرسالة المباركة ، ونشر العلم السلفي الأصيل القائم على الكتاب والسنة الصحيحة ، بعد أن شُوِهت الكثير من ملامحه جراء أفعال البعض ممن أنتسب إليه زوراً وبهتاناً .
وقد سميت هذا الشرح (( تيسير الوصول لمعرفة الثلاثة الأصول في سؤال وجواب )) .
أسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بالأصل، وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه
…… حامداً شاكراً مسلماً مصلياً
أبو سيف العبيدي الأثري
22 / صفر / 1427 هـ
متن رسالة (1)الثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
(المسائل الأربع :
أعلم _ رحمك الله _ أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل : ……
الأولى : العلم وهو معرفة الله ، وعرفة نبيه ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة .
الثانية : العمل به .
الثالثة : الدعوة إليه .
الرابعة : الصبر على الأذى فيه والدليل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر : 3] .
قال الشافعي رحمه الله تعالى : ((لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم )) .
__________
(1) 4 ) لقد وضعت بين سطور هذه الرسالة بعض العناوين زيادة في البيان والإيضاح ، فليعلم .(1/2)
وقال البخاري رحمه الله تعالى (( 1 / 45 )) ( باب ) (( العلم قبل القول والعمل ، والدليل قوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَْ } [محمد : 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل .
(المسائل الثلاث :
أعلم _ رحمك الله _ أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث مسائل والعمل بهن .
الأولى : أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولاً فن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار ، والدليل قوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً }
[ سورة المزمل : 15 ، 16] .
الثانية : أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، والدليل قوله تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [سورة الجن : 18 ] .
الثالثة : أن من أطاع الرسول ، ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب ، والدليل قوله تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون } . [ سورة المجادلة آية 22 ] .
(الحنيفية :
أعلم : أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] .(1/3)
ومعنى يعبدون : يوحدون .
(التوحيد :
وأعظم ما أمر الله به التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة وأعظم ما نهى عنه الشرك وهو دعوة غيره معه والدليل قوله تعالى : { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [النساء : 36] .
(أصول واجبة المعرفة :
فإذا قيل لك : ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها ؟
فقل : معرفة العبد ربه . ودينه ونبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
الأصل الأول
من ربك ؟
فإذا قيل لك : من ربك ؟
فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته وهو معبودي ليس لي معبود سواه , والدليل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين } وكل ما سوى الله عالم ، وأنا واحد من ذلك العالم .
فإذا قيل لك : بم عرفت ربك ؟
فقل : بآياته ومخلوقاته ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما ، والدليل قوله تعالى :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ سورة فصلت آية 37]
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } . [ سورة الأعراف : آية 54] .
(الرب هو المعبود :(1/4)
والرب هو المعبود ، والدليل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ سورة البقرة : آية 21 ] .
قال أبن كثير رحمه الله تعالى : الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة .
(أنواع العبادة :
وأنواع العبادة : التي أمر الله بها مثل الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة ، والرهبة ، والخشوع ، والخشية ، والإنابة ، والاستعانة ، والاستعاذة ، والاستغاثة ، والذبح ، والنذر ، وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها كلها لله ، والدليل قوله تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [سورة الجن آية 18] .
فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر والدليل قوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون : 117] .
وفي الحديث : (( الدعاء مخ العبادة )) (1) والدليل : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60] .
__________
(1) 5 ) حديث ضعيف أنظر ( ضعيف الجامع الصغير برقم 3003 ) و ( ضعيف جامع الترمذي : 5 / 456 ) للشيخ الألباني حيث قال في السلسلة الضعيفة : 1 / 74 : ( لا أصل له ) .
أما ما ورد في هذا الشأن فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : (( الدعاء هو العبادة )) أنظر (( صحيح سنن أبي داود : 2 /76 )) و ( صحيح سنن أبن ماجة 2 / 1258 )) .(1/5)
ودليل الخوف قوله تعالى : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران : 175] .
ودليل الرجاء قوله تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [الكهف : 110] .
ودليل التوكل قوله تعالى : { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة : 23] ، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق : 3] .
ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء : 90] .
ودليل الخشية قولة تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 150] .
ودليل الإنابة قوله تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ } [الزمر : 54].
ودليل الاستعانة قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] وفي الحديث (( إذا استعنت فاستعن بالله )) (1).
ودليل الاستعاذة قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [الناس : 1] . ودليل الاستغاثة قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [الأنفال : 9].
ودليل الذبح قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي ومحياي وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام : 162] .
ومن السنة : (( لعن الله من ذبح لغير الله )) (2) .
__________
(1) 6 ) حديث صحيح أنظر ( صحيح جامع الترمذي : 4 / 667 ) و ( صحيح الجامع الصغير برقم : 7957 ) .
(2) 7 ) حديث صحيح أنظر ( صحيح الجامع الصغير برقم : 5112 ) .(1/6)
ودليل النذر قوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ، وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [الإنسان : 7] .
الأصل الثاني
معرفة دين الإسلام بالأدلة : وهو الاستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك . وهو ثلاث مراتب :
الإسلام و الإيمان و الإحسان ، وكل مرتبة لها أركان .
المرتبة الأولى: الإسلام .
فأركان الإسلام خمسة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة و صوم رمضان وحج بيت الله الحرام .
فدليل الشهادة قوله تعالى : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران : 18] . ومعناها لا معبود بحق إلا الله وحده .
و (( لا إله )) نافياً جميع ما يعبد من دون الله .
(( إلا الله )) مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته ، كما أنه ليس له شريك في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف : 28] .
وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 64] .
ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 128] .(1/7)
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة : 5] .
ودليل الصيام قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 183]
ودليل الحج قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران : 97] .
المرتبة الثانية : الإيمان :
وهو بضع وسبعون شعبة . فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
وأركانه ستة : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... } [البقرة : 177] .
ودليل القدر قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر : 49].
المرتبة الثالثة : الإحسان ركن واحد .(1/8)
وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والدليل قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل : 128] وقوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين ، َإِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء : 220] . وقوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ .. } [يونس : 61] .
والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : (( بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، فجلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفّيه على فخذيه فقال: يا محمد! أخبرني عن الإِسلام .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (( الإِسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمَّداً رسول اللّه وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) .
قال: صدقت !!
قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه .
قال: فأخبرني عن الإِيمان ؟
قال : (( أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه )) .
قال: صدقت !
قال : فأخبرني عن الإِحسان ؟
قال: (( أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك )) .
قال : فأخبرني عن الساعة ؟
قال: (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل )) .
قال : فأخبرني عن إمارتها ؟
قال: (( أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان )) .(1/9)
قال : فمضى فلبثنا ملياً فقال : (( يا عمر أتدرون من السائل؟ )) ، قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم )) [ رواه مسلم برقم : 8 ].
الأصل الثالث
معرفة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - :
وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام . وله من العمر ثلاث وستون سنة منها أربعون قبل النبوة وثلاث وعشرون نبياً رسولاً .
نبئ بإقرأ . وأرسل بالمدثر . وبلده مكة ، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ، والدليل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر ، قُمْ فَأَنذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُر ، وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدّثر : 1 ، 7 ] ، ومعنى قم فأنذر : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ، وربك فكبر : عظمه بالتوحيد ، وثيابك فطهر : أي طهر أعمالك من الشرك والرجز : الأصنام ، وهجرها : تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها .
أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ، وبعد العشر عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة .(1/10)
والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام . والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ، وهى باقيه إلى أن تقوم الساعة والدليل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [النساء : 99] .
قال البغوي رحمه الله : سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان .
والدليل على الهجرة من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) .
فلما استقر في المدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة ، والصوم ، والحج ، والأذان ، والجهاد والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من شرائع الإسلام .
أخذ على هذا عشر سنين . وتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودينه باق وهذا دينه لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه ، والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه ، والشر الذي حذرها عنه الشرك وجميع ما يكره الله ويأباه .
بعثه الله إلى الناس كافة ، وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس والدليل قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف : 158] .(1/11)
وكمل الله به الدين ، والدليل قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة : 3].
والدليل على موته - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر : 31] .
والناس إذا ماتوا يبعثون ، والدليل قوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه : 55] وقوله تعالى : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } [نوح : 18].
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم ، والدليل قوله تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] .
ومن كذب بالبعث كفر ، والدليل قوله تعالى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن : 7].(1/12)
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين ، والدليل قوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [النساء : 165] ، وأولهم نوح عليه السلام ، وأخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتم النبيين والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } [النساء : 163]. وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت ، والدليل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] .
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله .
قال أبن القيم رحمه الله تعالى : معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع والطواغيت كثيرون ، ورؤسهم خمسة : إبليس لعنه الله ، ومن عُبِد وهو راضٍ ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه ومن ادعى شيئاً من علم الغيب ، ومن حكم بغير ما أنزل الله ، والدليل قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا ، وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 256] وهذا هو معنى لا إله إلا الله .
وفي الحديث "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " والله أعلم .
بين يدي الرسالة
س1 : أيهما أصح من حيث الأسم : أن نقول الثلاثة الأصول أم الأصول الثلاثة ؟
ج : الأصح أن نقول الثلاثة الأصول .(1/13)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ : (( ثلاثة الأصول وأدلتها ولماذا لم يقل المصنف : الأصول الثلاثة وأدلتها وما هي العبارة الأصح ؟
الشيخ رحمه الله تعالى له رسالة أخرى بعنوان الأصول الثلاثة رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا ؛ ليعلمها الصبيان والصغار تلك يقال لها الأصول الثلاثة , وأما ثلاثة الأصول فهي هذه التي نقرأها ، ويكثر الخلط بين التسميتين ، ربما قيل لهذه ثلاثة الأصول ، أو الأصول الثلاثة ، لكن تسميتها المعروفة أنها ثلاثة الأصول وأدلتها )) (1) .
س2 : ما أهمية كتاب الثلاثة الأصول ؟
ج : تأتي أهمية كتاب الثلاثة الأصول من خلال النظر في جانبين :
الجانب الأول : من جهة النظر إليها كأصول فهي تمثل زبدة ما جاء به النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من ربه عز وجل ، فغاية ما يريد المسلم أن يصل إليه :
1 ) أن يعرف ربه ومعبوده وخالقه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، وأن يوحده بربوبيته وألوهيته .
2 ) أن يعرف نبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين .
3 ) أن يعرف دينه الذي أتمه الله تعالى وأكمله ، وارتضاه له .
ومن هنا تبرز أهمية الإيمان بهذه الأصول والرضى بها للأسباب التالية :
الأول : كونها من أسباب تذوق طعم الإيمان ، والاستلذاذ بحلاوته .
وحلاوة الإيمان : هي الاستلذاذ بفعل الطاعات _ فعلية كانت أم تركية _ والإقبال على الإسلام بالكلية ، فمن وجد في قلبه اتساعاً وإنفساحاً وإقبالاً على فعل ما أمر الله تعالى به ، وترك ما نهى عنه ، فقد ذاق طعم الإيمان . فعن عن العباس بن عبد المطلب ( رضي الله عنه ) أنه سمع رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يقول : (( ذاق طعم الإيمان ، من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً )) (2).
__________
(1) 8 ) شرح الثلاثة الأصول : 6 .
(2) 9 ) رواه مسلم برقم : 56 .(1/14)
قال الإمام النووي رحمه الله : (( قال صاحب التحرير رحمه الله: معنى رضيت بالشيء قنعت به واكتفيت به ولم أطلب معه غيره ، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى، ولم يسع في غير طريق الإسلام ، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه )) (1)
الثاني : إنها من الأسباب الموجبة لدخول الجنة ، فعن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((يا أبا سعيد! من رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وجبت له الجنة .. )) (2) .
الثالث : إنها سبب في تسكين غضب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وإرضاءه ، فعن أنس رضي الله عنه :سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، فغضب فصعد المنبر، فقال: (( لا تسألونني اليوم عن شيء إلا بينته لكم )). فجعلت أنظر يميناً وشمالاً ، فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله من أبي؟ قال : (( حذافة )) .
ثم أنشأ عمر فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، نعوذ بالله من الفتن .
وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } (3) .
و عن أبي قتادة ( رضي الله عنه ) أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تصوم ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه قال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه ..(4).
__________
(1) 10 ) شرح صحيح مسلم : كتاب الإيمان .
(2) 11 ) رواه مسلم : برقم : 1884 .
(3) 12) رواه البخاري برقم : 6001 .
(4) 13 ) رواه مسلم برقم : 1162 .(1/15)
قال الإمام أبن حجر _ رحمه الله _ : (( قال بن بطال فهم عمر منه أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك فقال رضينا بالله رباً الخ فرضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فسكت )) (1).
الرابع : إنها مما يقال بعد الآذان لمغفرة الذنوب والمعاصي ، فعن عن سعد بن أبي وقاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من قال حين يسمع المؤذن : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه )) (2).
الخامس : إنها مما يمتحن بهن كل مسلم في قبره ، حين يأتيه الملكان ويجلسانه فيسألانه : من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟
أما الجانب الثاني : من جهة كونه كتاب جمع فيه مصنفه _ رحمه الله _ ما يحتاج المسلم إلى معرفته ، حيث بدأه بالمسائل الأربع ثم المسائل الثلاث ثم الحنيفية والتوحيد والشرك وجعلها كالموطئات والممهدات لما سيأتي بعدها من الأصول المذكورة في الرسالة .
لذا فهي جديرة بالعناية والاهتمام ، ولهذا أهتم أهل العلم بها شرحاً وتدريساً ، ومن ثم استحبوا لطلبة العلم أن يبدأوا بها لما تحتوي عليه من الفوائد والقواعد .
س3 : ما الموضوع الذي يهتم به كتاب الثلاثة الأصول ؟
ج : الموضوع الذي يهتم به الكتاب هو موضوع العقيدة السلفية الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة الصحيحة بفهم سلفنا الصالح .
س4: ما هي العقيدة ؟
ج : العقيدة لغة : من العقد والربط والتوثيق والإحكام بقوة .
__________
(1) 14 ) فتح الباري شرح صحيح البخاري : 1 / 263 .
(2) 15 ) رواه مسلم برقم : 386 .(1/16)
واصطلاحاً : هي الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده ، من الإيمان بالله عز وجل ، وما يجب له من التوحيد بربوبيته ، وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وكذلك الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، والإيمان باليوم الأخر والقدر خيره وشره ، وبسائر الغيبيات والقطعيات اليقينية .
ولهذا فإن العقيدة يجب أن توصف بأمرين :
الأول : الصحة .
الثاني : وجوب الالتزام بها .
س5 : من هم السلف ؟
ج : قال الدكتور إبراهيم بن محمد البريكان : (( السلف في اللغة : المتقدم في الزمن على غيره .
وشرعاً : هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين ، ممن أجمعت الأمة على عدالتهم وتزكيتهم ، ولم يرموا ببدعة مكفرة أو مفسقة ، وهم بهذا المعنى تعبير عن شخصية اعتبارية ومنهج متبع . ......
وبهذا يعلم عدم صحة دعوى أن السلفية مرحلة زمنية وكفى ، لأن منهج السلف يشتمل على جانبين :
الأول : جانب القدوة .
الثاني : جانب المنهج المتبع .
فالقدوة هم أصحاب العصور الثلاثة ، والمنهج هو الطريقة المتبعة في هذه العصور في الفهم العقدي والاستدلال والتقرير والعلم والإيمان .
وبهذا يعلم : أن الوصف بالسلفية مدح وثناء على كل من أتخذها قدوة ومنهجاً ، وأما الوصف بها دون تحقيق ما دلت عليه فليس فيه مدح وثناء ، لأن العبرة بالمعاني لا بالمصطلحات اللفظية .......
ثم قال : والخلف : هو المتأخر بالزمن عمن قبله .
وشرعاً هم كل من رُمي ببدعة مكفرة أو مفسقة وذُم من الأمة شخصاً أو معتقداً .
والخلف هنا أيضا ليس فترة زمنية تنقضي بموت أفرادها ولكنه منهج وقدوة في الباطل ، وهو بذلك قدوة لمن فسُد اعتقاده ... )) (1).
بسم الله الرحمن الرحيم :
س6 : ما معنى (( بسم الله الرحمن الرحيم )) ؟
__________
(1) 16 ) المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية : 14 .(1/17)
ج : قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : أبتدأ المؤلف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل مبدوء بالبسملة ، واتباعاً لحديث : (( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر )) (1).
واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يبدأ كتبه البسملة.
1 ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف فعل مؤخر مناسب للمقام تقديره بسم الله أكتب أو أصنف. وقدرناه فعلاً لأن الأصل في العمل الأفعال.
وقدرناه مؤخراً لفائدتين :
الأولى : التبرك بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
الثانية : إفادة الحصر لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدرناه مناسباً لأنه أدل على المراد فلو قلنا مثلاً عندما نريد أن نقرأ كتاباً بسم الله نبتدئ ، لكن بسم الله أقرأ يكون أدل على المراد الذي أبتدئ به .
2 ) الله علم على الباري جل وعلا وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى إنه في قوله تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد* الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد } {سورة إبراهيم : 1-2} لا نقول إن لفظ الجلالة "الله" صفة بل نقول هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تابعاً تبعية النعت للمنعوت.
1) الرحمن أسم من الأسماء المختصة بالله عز وجل ، لا يطلق على غيره والرحمن معناه المتصف بالرحمة الواسعة .
__________
(1) 17 ) حديث ضعيف خرجه الإمام الألباني رحمه الله في (( ارواء الغليل المجلد الأول ح : 1 )) وقال : سند ضعيف جداً ، آفته أبن عمران ويعرف بابن الجندي ..... وقال الحافظ في اللسان : أورده أبن الجوزي في الموضوعات )) ....
ثم قال : ومما يدلك على ضعفه زيادة على ما تقدم اضطرابه في المتن )) أ . هـ
وقال في (( رياض الصالحين : 481 )) : الحديث ضعيف ، كما بينته في أول الارواء رقم ( 1_ 2 ) أ . هـ(1/18)
2) الرحيم يطلق على الله عز وجل وعلى غيره ، ومعناه ذو الرحمة الواصلة ، فالرحمن ذو الرحمة الواسعة ، والرحيم ذو الرحمة الواصلة فإذا جمعا صار المراد بالرحيم : الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده ، كما قال الله تعالى: { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } {سورة العنكبوت: 21}.(1)
أقول : ومثل البسملة التسمية فإن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) كان يبتدئ بها عند الوضوء وعند إرادة الأكل ، والجماع وعند كل أمر يهتم به شرعاً .
(المسائل الأربع
س7 : ما معنى قوله (( أعلم )) ؟
ج : أعلم فعل أمر مبني على السكون مأخوذ من العلم .
والعلم هو : إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً ، ومراتب الإدراك ست .
قال الشيخ أبن عثيمين : (( فخرج بقولنا : (إدراك الشيء ) ؛ عدم الإدراك بالكلية ويسمّى ( الجهل البسيط ) ، مثل أن يُسأل: متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول: لا أدري.
وخرج بقولنا : ( على ما هو عليه ) إدراكه على وجه يخالف ما هو عليه ويسمّى ( الجهل المركب) ، مثل أن يُسأل: متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول: في السنة الثالثة من الهجرة .
وخرج بقولنا : ( إدراكاً جازماً ) ؛ إدراك الشيء إدراكاً غير جازم ، بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه ، فلا يسمى ذلك علماً. ثم إن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظن والمرجوح وَهم، وإن تساوى الأمران فهو شك.
وبهذا تبيّن أن تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي :
1 – علم : وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً.
2 - جهل بسيط : وهو عدم الإدراك بالكلية.
3 - جهل مركب : وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
4 – ظن : وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح.
5 – وهم : وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ راجح.
6 – شك : وهو إدراك الشيء مع احتمال ضدٍّ مساو (2) .
س8 : إلى كم قسم ينقسم العلم ؟
ج : ينقسم العلم إلى قسمين :
__________
(1) 15) شرح الثلاثة الأصول : 11 .
(2) 19 ) الأصول من علم الأصول : 16(1/19)
الأول : علم ضروري ( فطري ) ، وهو ما لا يكون إدراك المعلوم فيه ضرورياً بحيث يضطر إليه الإنسان من غير نظر ولا استدلال كالعلم بأن النار حارة .
الثاني : علم نظري ( كسبي ) وهو ما يكون إدراك المعلوم فيه بحاجة إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في العبادات .
والعلم النظري من حيث التحصيل ينقسم إلى قسمين :
الأول : علم شرعي وهو _ أيضاً _ ينقسم إلى قسمين :
أولاً : علم تحصيله فرض عين على كل مكلف خوطب بأوامر الشرع الحنيف ، وضابط الفرض العيني هو ما لا يقوم دين المرء إلا به ، سواء كان في العقائد أو الأعمال أو الأقوال ، فما لا يستقيم دين المرء إلا به وجب عليه تعلمه .
ثانياً : علم تحصيله فرض كفاية ، وضابطه أنه يجب على من تقوم بهم الكفاية تعلمه .
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في الفرق بين الفرضين العيني والكفائي :
الفرض العيني أو الواجب العيني : هو الفعل أو القول الذي إنْ لم يفعله المكلَّف أثم ، هذا الواجب العيني ؛ الفرض العيني وهو ما خوطب كل مكلف بعينه بأدائه ، كل مكلف مخاطب بالأداء ، مثل الصلاة كل مكلف مخاطب بأداء الصلاة المفروضة، فهذا واجب عيني .
2 . القسم الآخر واجب كفائي: والواجب الكفائي هناك تعريف مشهور له وهو ما إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، لكن هذا فيه نظر ، والأحسن منه أن يقال الواجب الكفائي هو ما خوطب المكلفون بمجموعهم بأدائه لا بكل فرد بعينه .
المقصود من الواجب الكفائي أن يحدث الفعل دون نظر إلى فاعله ، وأما الواجب العيني فالمقصود إحداث الفعل من الفاعل المعين، وهذا فرق مهم يمكن أن تضبط به مسائل الواجب الكفائي ، الواجب الكفائي في الشرع مقصود منه إيقاع الفعل دون نظر إلى من فعل ، بخلاف الواجب العيني ؛ الواجب العيني المقصود منه إيقاع الفعل مع اعتبار النظر إلى من فعل ؛ لأنه واجب تعين على واحد بعينه )) (1).
__________
(1) 20 ) شرح متن الورقات في أصول الفقه : 20 .(1/20)
أقول : ومراد المؤلف رحمه الله بقوله ( أعلم ) العلم العيني ، لأن تعلم العقيدة ، وأصول الدين من الفروض العينية التي يتحتم على كل فرد بعينه تعلمها .
الثاني : علم دنيوي ويقسم إلى قسمين :
1 ) علم مباح كتعلم الطب والهندسة ونحوه ، على أن لا يقع الإخلال في طلب العلم الشرعي .
2 ) علم محرم كتعلم السحر ونحوه .
س9 : ما فائدة مجيء المؤلف بـ (( أعلم ... )) في بدء الكلام ؟
ج : لأنها أوقع في نفس المتعلم والمستمع ، وأبلغ في شد انتباهه إلى أهمية ما سيتلى عليه من علم .
س10 : ما معنى قوله (( يرحمك الله )) ؟
ج : أي أفاض الله تعالى عليك من رحمته حتى تحصل بها على مطلوبك وتنجو مما يعوق ذلك ، وهي جملة دعائية أراد من خلالها المؤلف أن يترفق بالمدعو ويدعو له .
ورحمة الله نوعان :
أما النوع الأول : فرحمةٌ هي صفته سبحانه وتعالى ، فالله رحمان وذو رحمة واسعة سبحانه وتعالى ، ورحمته سبقت غضبه كما جاء في الخبر الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما النوع الثاني : فرحمةٌ متعدية إلى الخلق ، فهو سبحانه الذي أنزل رحمة واحدة من مائة رحمة يتراحم الخلق بها ، ورحمة الله متعدية ، فهي إلى المؤمنين تأييداً ونصرة ، وإلى الخلق أجمعين يتراحم بها هؤلاء الخلق ، فتجد الأم ترحم صغيرها ، إلى غير ذلك من آثار رحمته سبحانه ومقتضياتها ، والدعاء بالرحمة من عظيم الدعاء .
وفي استعمال المصنف يرحمه الله لقوله ( رحمك الله ) دلالة على شفقته على المتعلم ؛ لأن التعليم إذا ادخل فيه الدعاء للمتعلِّم دل على خلتين حسنتين في التعليم :
أما الخلة الأولى : فهي رأفة وشفقة المعلم بمن يعلمه ، ولذلك هو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يوصل الخير إلى المُعلَّم .(1/21)
وأما الخلة الثانية : فهي أن المعلِّم آخذ بمحاسن التعليم ، فإن من محاسن التعليم كما ذكره الألباء في كتبهم أن تدعو لمن تُعَلِمُه أن يُعَلِّمَه الله ويهديه ويوصل الخير إليه (1).
س11 : ما المقصود بقوله (( يجب .. )) ؟
ج : من الوجوب ، والوجوب يقسم إلى قسمين :
1 ) وجوب عيني .
2 ) وجوب كفائي .
ومراد المؤلف بقوله ( يجب ) الوجوب العيني ، لأن تعلم العقيدة أمر يجب على كل فرد بعينه أن يتعلمه .
س12 : ما المقصود بقوله (( علينا ... )) ؟
ج : الضمير ( نا ) يعود على المكلفين ولو أقصيناه واستعضنا بدلاً عنه بـ ( المكلفين ) لما تغير المعنى ويكون التقدير حينها (( أنه يجب على المكلفين )) ، والمكلف ما من شأنه التكليف وهو العاقل البالغ ، ويدخل في ذلك الذكر والأنثى ، العبد والحر ، والتكليف هو ما فيه إلزام ومشقة .
س13 : لما حصر المؤلف المسائل بأربع ؟
ج : حصرها لدلالتين :
الأولى : الخبر وذلك لما سيذكره المؤلف من الدليل في سورة العصر .
الثانية : الإجماع ، فقد أجمع المسلمون على أن هذه الأربع هي الواجبات المتحتمات على كل مكلف ومكلفة ، حيث العلم أولاً ومن ثم العمل به والدعوة إليه ومن ثم الصبر على ما سيلاقيه من مشاق ومتاعب ، لأن من سار في هذا الطريق الذي هو طريق الأنبياء من قبله فلابد أن يناله ما يناله مما يحتاج به إلى صبر .
س14 : ما مراد المؤلف بقوله (( المسألة الأولى : العلم .. )) ؟
ج : مراده - رحمه الله - هو العلم الذي يشتمل على معرفة الله تعالى وما يجب له ، ومعرفة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة .
والعلم إذا أطلق في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة فإنه يُراد منه العلم الشرعي .
س15 : ما المقصود بقوله (( معرفة الله ... )) ؟
__________
(1) 21 ) مفتاح الوصول شرح ثلاثة الأصول : 10 ، لمحمد بن صالح الأسمري .(1/22)
ج : أي معرفة الله عز وجل بالقلب معرفة تستلزم قبول ما شرعه والإذعان والانقياد له ، وتحكيم شريعته التي جاء بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتعرف العبد على ربه بالنظر في الآيات الشرعية في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
والنظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ، فإن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات ازداد علماً بخالقه ومعبودة قال الله عز وجل: { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون } {سورة الذاريات، الآيتين: 20-21} (1).
س16 : ما المقصود بقوله (( معرفة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ... )) ؟
ج : أي معرفة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق ، وتصديقه فيما أخبر ، وامتثال أمره فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وتحكيم شريعته والرضا بحكمه قال الله عز وجل: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً } {سورة النساء : 65}. وقال تعالى: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } {سورة النساء: 59}. وقال عز وجل: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } {سورة النور : 63}.
قال الإمام أحمد رحمه الله : (( أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك )) (2).
س17 : ما المقصود بقوله (( معرفة دين الإسلام ...)) ؟
__________
(1) 22 ) أنظر شرح الثلاثة الأصول : 13 لأبن عثيمين .
(2) 23 ) المصدر السابق : 13 .(1/23)
ج : قوله معرفة دين الإسلام : الإسلام بالمعنى العام هو التعبد لله بما شرع منذ أن أرسل الله الرسل إلى أن تقوم الساعة كما ذكر عز وجل ذلك في آيات كثيرة تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله عز وجل . قال الله تعالى عن إبراهيم : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ، وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة : 128] .
والإسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يختص بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم لأن ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الأديان السابقة فصار من أتبعه مسلماً ومن خالفه ليس بمسلم ، فأتباع الرسل مسلمون في زمن رسلهم (1) .
س18 : ما الدليل على أن كل الشرائع السابقة إسلام ؟
ج : لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة أن جميع الشرائع السابقة من الإسلام ، وأن أتباع الأنبياء في زمن أنبيائهم هم من المسلمين ، والأدلة كثيرة ومتوافرة منها :
1 ) الإسلام هو الجهة التي أضاف الله تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام إليها ، بعد أن ادعاه كل من اليهود والنصارى ، قال الله تعالى { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً ، وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [آل عمران : 67] .
2 ) الإسلام هو الذي كان إبراهيم وأبنه إسماعيل عليهما السلام يدعوان به ، كما قال تعالى { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة : 128] .
__________
(1) 24 ) المصدر السابق : 14 .(1/24)
3 ) الإسلام هو وصية يعقوب عليه السلام لبنيه لما حضره الموت كما قال تعالى { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] .
4 ) الإسلام هو الذي أمر الله تعالى موسى عليه السلام بتبليغه بني إسرائيل ، كما قال تعالى { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس : 84] .
5 ) الإسلام هو الذي دعا إليه سليمان عليه السلام أهل سبأ ، كما قال تعالى { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل : 31] .
وهو الدين الذي أجابت إليه بلقيس كما قال تعالى عنها { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [النمل : 44] .
6 ) والإسلام هو دين عيسى عليه السلام أيضا ، كما قال تعالى { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 52] .
7 ) حتى أن فرعون لما أدركه الغرق انتمى إليه ، ولم يقل أني من اليهود أو من الإسرائيليين لعلمه أن الدين الذي يدعو إليه موسى عليه السلام أسمه الإسلام ، كما قال تعالى عنه { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 90] .
س19 : ما المقصود بقوله (( الأدلة .... )) ؟
ج : الدليل هو ما يرشد إلى المطلوب ، والأدلة نوعان :(1/25)
الأول : أدلة سمعية وهي نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والتي لا نتمكن من معرفة الثلاثة الأصول إلا من خلالها وعن طريقها ، وقيدت هذه المعرفة بالأدلة مخالفة لأهل الأهواء والبدع الذين يقولون بإمكانية هذه المعرفة عن طريق وسائلهم القاصرة كالعقل والمنطق والإلهام والإمام المعصوم وغير ذلك من الوسائل التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
الثاني : أدلة عقلية تثبت بالنظر والتأمل ولا تخالف عقلاً سليماً ولا تناقض فطرة قويمة .
س20 : ما الأمور التي يجب أن تتوفر في المسلم عند طلبه للعلم ؟
ج : طلب العلم عبادة كباقي العبادات ، ولهذا فإنه يجب يتوفر فيه شرطان :
الأول : الإخلاص لله تعالى ، لا يريد من وراء طلبه للعلم أن ينال عرضاً من أعراض الدنيا الزائلة ، ولا مجادلة لسفيه ونحو ذلك من الأمور التي تقدح في طلبه للعلم .
الثاني : المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يطلب علماً بعيداً عن العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما هو موجود في الكتاب والسنة ، فإن العلم إنما يحسب بنوعيته وجودته لا بكميته وحجمه .
س21 : ما هي فضائل العلم ؟
ج : فضائل العلم كثيرة منها :
1) جعل الله تعالى أصحابه شهداء له بالوحدانية قال تعالى { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران : 18] ، ولو لم يكن لأهل العلم إلا هذه الميزة لكفتهم .
2 ) وصف الله تعالى أصحابه بالخشية دون غيرهم من الناس ، كما قال تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر : 28].
3 ) الأمر بالاستزادة منه ، مما يدل على فضله وأهميته ، قال تعالى { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه : 114] .(1/26)
4 ) أهل العلم هم أهل العقل السليم والفطرة القويمة ، وهم أهل للتفكر والتدبر والتذكر ، قال الله تعالى { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت : 43]
5 ) يخص الله تعالى به من وفقه وأراد به خيراً ، عن حميد بن عبد الرحمن: أنه سمع معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) (1).
6 ) الإخبار بأن أهل العلم هم ورثة الأنبياء ، وأن أحدهم لو وضع قدمه في طريق يلتمس منه علماً فإن هذا الطريق ينتهي به إلى الجنة ، كما أن الملائكة تضع له أجنحتها خضعاناً وتواضعاً .
روى الإمام البخاري في صحيحه باب: العلم قبل القول والعمل .…
لقول الله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله } محمد: 19 ، فبدأ بالعلم .…
(( وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ، ورثوا العلم ، من أخذه أخذ بحظ وافر ، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة )).
__________
(1) 25 ) رواه البخاري برقم 2948 , ومسلم برقم 1037 .(1/27)
وعن كثير بن قيس قال كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال يا أبا الدرداء إني أتيتك من مدينة الرسول في حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء : أما جئت لحاجة أما جئت لتجارة أما جئت إلا لهذا الحديث قال نعم قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من سلك طريقا يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه : في هذا الحديث بيان واضح أن العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرنا هم الذين يعلمون علم النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من سائر العلوم ألا تراه يقول العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا إلا العلم وعلم نبينا - صلى الله عليه وسلم - سنته فمن تعرى عن معرفتها لم يكن من ورثة الأنبياء (1) أ هـ
فهذا حديث عظيم جليل القدر بين فضل العلم وشرف حامله من وجوه عديدة منها :
الأول : أن الله – تعالى – أثاب طالب العلم على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصل إلى الله تعالى وإلى رضوانه أثابه الله عليه أن يسر له طريق الجنة مقصده وغايته.
الثاني: تعظيم الملائكة لطالب العلم وحبها إياه وحياطته وحفظه ، ولو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفاً وفضلاً.
__________
(1) 26 ) حديث صحيح خرجه الإمام الألباني في ( صحيح سنن أبي داود 3 / 317 ) و ( صحيح سنن أبن ماجة 1 / 81 ) و ( صحيح جامع الترمذي 5 / 48 ) .(1/28)
الثالث: أن طالب العلم شبيه بالملائكة ، فإن الملائكة من أنصح خلق الله لعباد الله ، كما قاله بعض التابعين ولا ريب أن طالب العلم قد سعى في أعظم ما ينصح به عباد الله .
الرابع: أن جميع المخلوقات تستغفر له حتى الحيتان في الماء ، لأنه لما سعى فيما به نجاة النفوس ، جوزي من جنس عمله ، وجعل من في السموات والأرض ساعياً في نجاته من الهلاك باستغفارهم له .
الخامس: أن العالم شبيه بالقمر الذي يضيء الآفاق يمتد نوره في أقطار العالم، أما العابد فشبيه بالكوكب الذي نوره لا يجاوز نفسه وإن جاوزها فهو غير بعيد .
السادس: أن العلماء ورثة الأنبياء خير خلق الله فهم أحق بميراثهم وإذا كان الميراث ينتقل للأقرب فهذا تنبيه بأن العلماء أقرب الناس إلى الأنبياء ، وهذه منقبة عظيمة.
السابع : أن العلم أعظم الحظوظ وأجداها ، لأن نفعه يدوم في الدارين . (1)
قال الخطابي : في معنى وضع الملائكة أجنحتها ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنه بسط الأجنحة .
الثاني : أنه بمعنى التواضع تعظيماً لطالب العلم .
الثالث : أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران .
وعن أبن عباس قال : (( إنَّ الذي يُعلِّم الناس الخير تستغفر له كل دابة حتى الحوت في البحر )) ، وروي نحو ذلك مرفوعاً ، فإن قيل ما وجه استغفار الحوت للمعلم ؟
__________
(1) 27 ) أنظر ( العمل بالعلم بين الواقع والواجب : 8 ) للشيخ عبد الله بن صالح الفوزان .(1/29)
فالجواب : إنَّ نفع العلم يعم كل شيء حتى الحوت ، فإن العلماء عرفوا بالعلم ما يحل ويحرم وأُصوا بالإحسان إلى كل شيء حتى إلى المذبوح (1) والحوت ، فألهم الله تعالى الكل الاستغفار لهم جزاءً لحسن صنيعهم (2).
س22 : ما المقصود بقوله (( العمل به ... )) ؟
ج : أي العمل بالعلم الذي تعلمناه ، لأن الهاء الواردة في قوله ( به ) يعود على العلم ، والعمل هو ثمرة العلم ، ولهذا لا ينبغي للعلم أن يبقى حبيس الصدر ، بل لابد للمسلم من ترجمته إلى أفعال وأقوال ، ولهذا نرى في القرآن كثيراً ما يقرن الله تعالى بين العلم النافع والعمل الصالح للدلالة على اقتران أحدهما بالآخر .
قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج : 23].
أما إذا وقع الاختلال بين العلم النافع والعمل الصالح فسنقع إما في مطب اليهود ، وإما في مطب النصارى ، فاليهود علموا ولكنهم لم يعملوا بعلمهم ، حتى أنهم علموا صدق دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لم يتبعوه حسداً من عند أنفسهم وبغياً وظلماً ، قال تعالى عنهم { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 146] .
__________
(1) 28 ) كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته )). رواه مسلم ( 1955 ) [ الشيخ علي الحلبي ] .
(2) 29 ) مختصر منهاج القاصدين : 22 ، لأبن قدامة المقدسي ، بتقديم وتخريج الشيخ علي بن حسن الحلبي .(1/30)
وقال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في (( الرحيق المختوم : 245 )) : (( هكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهم ثلاثة آلاف ، والخيل ثلاثون فرساً ، فنازلوا حصون بني قريظة ، وفرضوا عليهم الحصار .
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال : إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه ، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم : والله ، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ... )) أ . هـ
ولهذا سماهم الله تعالى بالمغضوب عليهم جزاءً وفاقاً ، وأما النصارى فقد عملوا بغير علم فسماهم الله بالضالين ، ولهذا أصبح من دعاء المؤمنين من ربهم { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 7] .
قال الشيخ سليمان بن محمد اللهيميد : (( قال شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله تعالى : (( من انحرف من العلماء من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعمل بعلمه ففيه شبه من اليهود ، ومن انحرف من العباد وعبد الله على جهل ففيه شبه من النصارى .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه وعن علمه ماذا عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، ... )) . رواه الترمذي (1) .
__________
(1) 30 ) أنظر ( صحيح جامع الترمذي : 4 / 612 ) للمحدث العلامة الألباني رحمه الله .(1/31)
فاحذر يا أخي أن تكون قدوة سيئة بتركك للعمل ، فهذا أبن القيم يعتصر قلبه حزناً من ظاهرة التناقض فيقول في كتابه الفوائد : (( علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم ويدعون إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أفواههم للناس هلموا ، قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له ، فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع طرق )) (1).
س23 : أذكر بعض النماذج المشرقة للسلف في تطبيق العلم بالعمل ؟
ج : النماذج أكثر من أن تعد أو تحصى ولكننا سنذكر بعضاً منها للدلالة على حرص السلف الصالح في تطبيق العلم الذي تعلموه إلى واقع ملموس ، ومنها :
1 ) عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ) قال سالم : فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً ) [ رواه البخاري ومسلم ] .
2 ) ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً وفاطمة : أن يسبحا ثلاثاً وثلاثين ويحمدا ثلاثاً وثلاثين ويكبرا أربعاً وثلاثين وقال : ( فهو خير لكما من خادم ) قال علي - رضي الله عنه - : ما تركته منذ سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قيل له : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين . [ رواه مسلم ] .
3) عن أبن عمر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما حق امريء مسلم له شيء يوصي فيه ؛ يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبة )) قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك إلا وعندي وصيتي ) . رواه مسلم
4) قال البخاري : ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام ، إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً (2).
__________
(1) 31 ) شرح الثلاثة الأصول : 5 .
(2) 32 ) المصدر السابق : 6 .(1/32)
س24 : ترك العمل بالعلم مراتب أذكرها .
ج : ترك العمل بالعلم مراتب وعلى ضوء كل مرتبة يحدد جزاء العبد ، وإليك البيان :
1 ) من العلم ما ترك العمل به كفر ، كمن عرف أن التوحيد هو حق الله على العبيد ، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده ، فتركه ولم يعمل به فيكون حينئذ تركه للعمل به كفراً .
2 ) من العلم ما ترك العمل به معصية ، كمن عرف أن الزنا حرام فزنى ، أو أن الخمر حرام فشربها ، فيكون حينئذ تركه للعمل كبيرة من الكبائر .
3 ) من العلم ما ترك العمل به مكروه ، كمن عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على هيئة وصفة معينة فتركها ، فيكون تركه لها مكروهاً والعمل بها مستحباً .
4 ) من العمل ما ترك العمل به مباح ، كمن عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام أو يجلس على هيئة معينة فتركها (1).
س25 : ما معنى قوله (( الدعوة إليه .... )) ؟
ج : أي الدعوة إلى العلم الذي تعلمه وعمل به ، والضمير في قوله ( إليه ) يعود على ما سبق أما على العلم أو على العمل أو على العلم والعمل على حد سواء وهذا أشمل وأوفق .
س26 : بَيِّن منزلة الدعوة إلى الله تعالى ؟
ج : الدعوة إلى الله تعالى هي أشرف الوظائف على الإطلاق ، لأنها ((وظيفة أهل الحق من أتباع محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهي أثمن ميراث ورثوه عنه ، فإذا قصَّر أهل الحق في الدعوة إليه ضاع الدين ، وإذا لم يحموا سننه غمرتها البدع ، وإذا لم يجلو محاسنه عَلَتْها الشوائب فغطتها ، وإذا لم يتعاهدوا عقائده بالتصحيح داخلها الشك ، ثم دخلها الشرك ، وإذا لم يصونوا أخلاقهم بالمحافظة والتربية أصابها الوهن والتحلل .
__________
(1) 33 ) أنظر ( شرح الثلاثة الأصول : 8 ، للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ .(1/33)
وكل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بقيام الدعوة واستمرارها واستقامتها على الطريقة التي كان محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه الهداة من العلم والحكمة في الدعوة ، والإخلاص في العمل ، وتحكيم القرآن في ذلك كله )) (1).
س27 : ما هي فوائد الدعوة إلى الله تعالى ؟
ج : إن فوائد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى لنأخذ بعضاً من هذه الفوائد التي تنعكس على الفرد والجماعة على المدى القريب والبعيد. من هذه الفوائد :
1 ) القيام بالواجب وهو واجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وكما مر من قبل أنها فرض كفاية.
2) إقامة الحجة أمام الله سبحانه وتعالى على المدعوين ، والله سبحانه وتعالى يقول للرسل { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [النساء : 165] فإذا دعوت الناس وبينت لهم الحق وشرحت لهم دين الله سبحانه وتعالى سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين فإنك تقيم الحجة عليهم أمام الله تبارك وتعالى.
3) الخروج من العهدة وإبراء الذمة والمعذرة يقول الله سبحانه وتعالى { وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف : 164] فإقامة الحجة وإبراء الذمة والخروج من العهدة والمعذرة إلى الله أمر طالبنا الله به من واقع هذه الآية .
__________
(1) 34 ) التربية والتصفية : 70 ، للشيخ علي بن حسن الحلبي .(1/34)
4) سبب لنجاة الدعاة ومن تعاون معهم عند حلول النقمة وغضب الله سبحانه وتعالى على الناس فقد تكون الدعوة سبب من أسباب نجاة الدعاة ومن قام معهم عند اشتداد الفتن ونحو ذلك. وإليك الدليل من القرآن الكريم على ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [الأعراف : 165] فهذا فيه دليل على أن الدعوة قد تكون سبباً من أسباب نجاة الدعاة ومن ساعدهم عند حلول النقم والمصائب والفتن .
5) تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس ، لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم : (( بلغوا عني ولو آية ) [ رواه البخاري : 4361 ] .
6) أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تكون سبباً من أسباب إخراج الناس من الظلمات إلى النور فرسالة الإسلام جاءت وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور (1).
س28 : ما هي الأدلة الدالة على فضل الدعوة إلى الله ؟
ج : الأدلة على ذلك كثيرة جداً ، ولكننا سنذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر :
1 ) عن أبي هريرة ، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ً، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) (2).
2 ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من دل على خير فله مثل أجر فاعله )) (3).
__________
(1) 35 ) أنظر ( الدعوة إلى الله أهميتها ووسائلها : 11 ، للشيخ فهد العصيمي .
(2) 36 ) رواه مسلم برقم : 2674 ، صحيح سنن أبي داود 4 / 201 .
(3) 37 ) رواه مسلم : برقم 1893 .(1/35)
3 ) عن سهل بن سعد رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : (( لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله )) .
قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، قال فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها .
فقال : (( أين علي بن أبي طالب ؟ )) .
فقالوا : هو يا رسول الله ! يشتكي عينيه ، قال (( فأرسلوا إليه )) فأتى به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ودعا له فبرأ . حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية .
فقال علي : يا رسول الله ! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا .
فقال : (( أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فوالله ! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم )) (1).
س29 : ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في الدعوة ؟
ج : شروط الدعوة إلى الله :
1ـ أن تكون على بصيرة فعلى الداعية أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ، قال تعالى : ? قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ? .
لأنه قد يدعو إلى شيء يظن أنه واجب وهو في الشرع غير واجب ، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به ، وقد يدعو إلى ترك شيء يظن أنه محرم ، وهو في دين الله غير محرم .
2ـ أن يكون على بصيرة بحال المدعو : عن أبن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب .. ) [ متفق عليه ] فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لأمرين :
الأول/ أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو .
الثاني/ أن يكون مستعداً لهم ، لأنهم أهل كتاب وعندهم علم .
3ـ الدعوة إلى الله بالرفق والحكمة والعفو .
__________
(1) 38 ) رواه البخاري برقم 2783 ، ومسلم برقم 2406 .(1/36)
إن الطريق الأمثل الذي سلكه الأنبياء ـ عليهم السلام ـ هو الدعوة إلى الله تعالى بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة .
يقول الله تعالى : ? وقولوا للناس حسناً ? .
ويقول سبحانه وتعالى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ? .
ويقول سبحانه : ? ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ? .
ويقول سبحانه وتعالى مخاطباً موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ حينما بعثهما إلى فرعون :
? فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ? .
قال أبن كثير رحمه الله : ( هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار ، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين ) .
وأما في السنة :
1ـ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أعرابياً بال في المسجد فقاموا إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه ) متفق عليه .
وفي رواية قال : ( إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ).
2ـ وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كأني أنضر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) رواه البخاري .
3ـ وعن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه , ولا ينزع من شيء إلا شانه )) رواه مسلم (1).
س30 : ما موقف الداعية إلى الله تعالى من الصبر ؟
__________
(1) 39 ) شرح الثلاثة الأصول : 7 للهيميد .(1/37)
ج : قال الشيخ أبن عثيمين _ رحمه الله _ : (( على الداعية أن يكون صابراً على دعوته مستمراً فيها ، صابراً على ما يعترضه هو من الأذى ، وها هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول وبالفعل قال الله تعالى: { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } {سورة الذاريات : 52} وقال عز وجل: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين } {سورة الفرقان : 31} ولكن على الداعية أن يقابل ذلك بالصبر وأنظر إلى قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً } {سورة الإنسان : 23} كان من المنتظر أن يقال فاشكر نعمة ربك ولكنه عز وجل قال : { فأصبر لحكم ربك } {سورة الإنسان: 24} وفي هذا إشارة إلى إن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر ، وأنظر إلى حال النبي - صلى الله عليه وسلم -حين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : (( اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) (1)فعلى الداعية أن يكون صابراً محتسباً )) (2).
__________
(1) 40 ) يشير الشيخ رحمه الله إلى الحديث الذي رواه أبن حبان برقم 973:عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) ،قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه : يعني هذا الدعاء أنه قال يوم أحد لما شج وجهه :قال اللهم اغفر لقومي ذنبهم بي من الشج لوجهي لا أنه دعاء للكفار بالمغفرة ولو دعا لهم بالمغفرة لأسلموا في ذلك الوقت لا محالة)) وفي صحيح البخاري برقم 6530: عن عبد الله بن مسعود قال :كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ، ضربه قومه فأدموه ، فهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (( رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) .…
(2) 41 ) شرح الثلاثة الأصول : 18 .(1/38)
وهكذا ضرب لنا النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) مثلا للدعية الصابر المحتسب ، ولو تأملنا في قوله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) لرأينا أنه ينبض بفوائد عظيمة غفل عنها الكثير ممن نصَّبوا أنفسهم قضاة وتسلطوا كجلادين على رقاب المسلمين ، يضربون برهم وفاجرهم بسوط الشرع ، وسيف الإسلام _ افتراء على الله ورسوله _ ، ومن هذه الفوائد :
1 ) أنه عفى عنهم بدليل :
2 ) أنه طلب من الله سبحانه تعالى أن يغفر لهم .
قال الإمام أبن حجر في فتح الباري : 11 / 196 )) في قوله (( اغفر لقومي فانهم لا يعملون )) العفو عما جنوه عليه في نفسه لا محو ذنوبهم كلها لان ذنب الكفر لا يمحى ، أو المراد بقوله ( اغفر لهم ) : اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة أو المعنى اغفر لهم إن أسلموا والله أعلم )) أ . هـ
وهذا الخلق العظيم من النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ما جاء إلا رحمة بقومه ، كما قال تعالى فيه { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 128] .و يظهر هذا الخلق العظيم جلياً واضحاً في رده على ملك الجبال عند رجوعه من الطائف ، وما لاقاه من قسوة رد أهلها له ، حيث طلب منه أن يأذن له في أن يطبق على قومه المعاندين الأخشبين ، ولكنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) أرجأهم لغاية يرجوها منهم ، فعن عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللّهِ ! هَلْ أَتَىَ عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدّ مِنْ يَوْمِ أُحُد ٍ؟(1/39)
فَقَال َ: (( لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى أبْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلَىَ مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَىَ وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلاّ بِقَرْنِ الثّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ ، فَنَادَانِي. فَقَالَ: إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ .
قَالَ : فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلّمَ عَلَيّ ، ثُمّ قَالَ : يَا مُحَمّد ُ! إنّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَك َ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، فَمَا شِئْت َ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخشبين".
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : (( بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً )) (1).
فهكذا كان خلق النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ولو أن ملك الجبال طلب اليوم من فلان أو فلان من كبراء الخوارج وضُلَّالهم وأستأذنهم في أن يطبق الأخشبين على أمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) من المخالفين لهم فضلاً عن الكفار لأذنوا له ، وفرحوا بطلبه ، فانظروا _ يرحمكم الله _ أي الدعوتين أهدى سبيلاً .
3 ) أنه نسبهم لنفسه الشريفة فقال ( قومي ) ولم يتبرأ منهم ، ولم يقل : أغفر لهم .
__________
(1) 42) رواه البخاري برقم : 3059 ، ومسلم بشرح النووي ( باب ما يلقى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من أذى الكفار والمنافقين ) واللفظ له .(1/40)
4 ) أنه علل فعلهم هذا بأنهم جهَّال لا يعلمون عاقبة أفعالهم .
س31 : بماذا يعترض المجرمون طريق الدعاة إلى الله تعالى ؟
ج : أساليبهم في ذلك كثيرة ووسائلهم متنوعة ، ولقد أشار القرآن لكثير منها ، وهي حاضرة في كل زمان ومكان ، ومنها :
1 ) التشكيك عبر إثارة الشكوك والشبهات حول المنهج السلفي الأصيل بقصد الإنتقاص منه ومن أتباعه .
2 ) العدوان وبكل الوسائل التي من الممكن أن تطالها أيديهم ، حيث أنهم لا يدخرون وسعاً في إيصال الأذى للسلفيين ، والكثير من أهل الأهواء والبدع يعتبر ذلك من أفضل القربات لله رب العالمين ، حيث أن جميع أهل البدع أجتمعوا على محاربة السلفيين ومعاداتهم وبغضهم .
قال الإمام أبن عثمين _ رحمه الله تعالى _ في هذين الأسلوبين العدوانيين : (( حيث بين أن من حكمة الله - عز وجل – أنه لم يبعث نبياً إلا جعل له أعداء من الإنس والجن ، وذلك أن وجود العدو يمحص الحق ويبينه فإنه كلما وٌجِد المعارض قويت حجة الآخر، وهذا الذي جعله الله تعالى للأنبياء جعله أيضاً لأتباعهم فكل اتباع الأنبياء يحصل لهم مثل ما يحصل للأنبياء قال الله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } وقال : { كذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً } {سورة الفرقان : 31} فإن هؤلاء المجرمين يعتدون على الرسل واتباعهم وعلى ما جاءوا به بأمرين:
الأول: التشكيك .
الثانية: العدوان .
أما التشكيك فقال الله تعالى في مقابلته { كفى بربك هادياً } لمن أراد أن يضله أعداء الأنبياء .
وأما العدوان فقال الله تعالى في مقابلته { ونصيراً } لمن أراد أن يردعه أعداء الأنبياء .
فالله تعالى يهدي الرسل وأتباعهم وينصرهم على أعدائهم ولو كانوا من أقوى الأعداء ، فعلينا أن لا نيأس لكثرة الأعداء ... )) (1).
__________
(1) 43) شرح كشف الشبهات : 64 .(1/41)
3 ) نبزهم بالألقاب المنفرة بقصد الانتقاص منهم ، قال أبو حاتم الرازي : (( وعلامة الجهمية تسمية أهل السنة مشبهة ، وعلامة القدرية تسميتهم أهل الأثر مجبرة ، وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية ( نسبة إلى قولهم بزيادة الإيمان ونقصانه ) ، وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة )) (1).
وهكذا ، وقدوتهم في ذلك النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فقد وصفوه بالشاعر والمجنون وغير ذلك من الأوصاف ولم يكن ذلك ما يقدح فيه وفي دعوته .
4 ) الوشاية عليهم عند الأمراء والسلاطين وهذا كثير ومشاهد ، وهذا الأسلوب لم يكن بالجديد حتى نتفاجأ به بل سبقهم إليه قوم فرعون ، كما قال تعالى عنهم { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } فهذا فعل فرعون وقومه ، فما يكون جواب من أيقن بوعد الله تعالى ونصره { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128] .
ورحم الله القائل :
ما عندهم عند التناظر من حجة أنى بها لمقلدٍ حيران
لا يفزعون إلى دليل وإنما في العجز مفزعهم إلى السلطان
ولكن رد الله تعالى على أفعال هؤلاء المجرمين وعدوانهم يبقى حاضراً في كل زمان ومكان { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات : 173] .
وقال { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة : 21].
__________
(1) 44 ) أنظر ( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 125) للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي .(1/42)
س32 : هل على الداعية أن يختار لنفسه منهجاً اجتهادياً يدعو به ، أم عليه الالتزام بمنهج الأنبياء فيدعو بما كانوا يدعون به ؟
ج : قال الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي : لا يجوز شرعاً ولا عقلاً العدول عن هذا المنهج واختيار سواه :…
أولاً : أنَّ هذا هو الطريق الأقوم الذي رسمه الله لجميع الأنبياء من أوّلهم إلى أخرهم .…
والله واضع هذا المنهج هو خالق الإنسان ، والعالم بطبائع البشر وما يصلح أرواحهم وقلوبهم ، { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [الملك: 14]، وهو الحكيم العليم في خلقه وشرعه وقد شرع لأفضل خلقه هذا المنهج.…
ثانياً : أنَّ الأنبياء قد التزموه وطبّقوه ، مما يدل دلالة واضحة أنَّه ليس من ميادين الاجتهاد ، فلم نجد:…
1- نبيّاً افتتح دعوته بالتصوّف .…
2- وآخر بالفلسفة والكلام .…
3- وآخرين بالسياسة .…
بل وجدناهم يسلكون منهجاً واحداً واهتمامهم واحد بتوحيد الله أولاً في الدرجة الأولى .…
ثالثاً : أنَّ الله قد أوجب على رسولنا الكريم الذي فرض الله علينا إتباعه أن يقتدي بهم ، ويسلك منهجهم ، فقال - بعد أن ذكر ثمانية عشر منهم :{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[الأنعام: 90].…
وقد اقتدى بهداهم في البدء بالتوحيد ، والاهتمام الشديد به .…(1/43)
رابعاً : ولما كانت دعوتهم في أكمل صورها تتمثل في دعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، زاد الله الأمر تأكيداً ، فأمر نبيّنا محمداً -- صلى الله عليه وسلم -- بإتباع منهجه ، فقال :…{ ثمَّ أوحينا إليك أن اتبع ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} [النحل: 123].…والأمر بإتباعه يشمل الأخذ بملّته التي هي التوحيد ومحاربة الشرك ويشمل سلوك منهجه في البدء بالدعوة إلى التوحيد ، وزاد الله تعالى الأمر تأكيداً - أيضاً- فأمر أمَّة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- بإتباع ملة هذا النبي الحنيف ، فقال تعالى: …{ قل صدق الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}.…
إذن : فالأمّة الإسلاميَّة مأمورة بإتباع ملَّته ، فكما لا يجوز مخالفة ملَّته ، لا يجوز العدول عن منهجه في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره ووسائله .…
خامساً : قال الله تعالى:… { فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}. [النساء: 59].
فإذا رجعنا إلى القرآن أخبرنا أنَّ كل الرسل كانت عقيدتهم عقيدة التوحيد وأنَّ دعوتهم كانت تبدأ بالتوحيد، وأنَّ التوحيد أهم وأعظم ما جاءوا به.…
ووجدنا – أيضا - أنَّ الله قد أمر نبينا باتباعهم وسلوك منهاجهم ، وإذا رجعنا إلى الرسول نجد أنَّ دعوته من بدايتها إلى نهايتها كانت اهتماماً بالتوحيد ومحاربة للشرك ومظاهره وأسبابه )) (1).
س33 : ما معنى قوله (( الصبر على الأذى فيه .... )) ؟
__________
(1) 45 ) منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل ط 2 : 126 .(1/44)
ج : أي الصبر على ما سيلاقيه الداعية من أذى وابتلاء نتيجة دعوته للعلم الذي تعلمه وعمل به ، لأن (( أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر إلا من طبيعة البشر إلا من هدى الله قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } {سورة الأنعام : 34} وكلما قويت الأذية قرب النصر ، وليس النصر مختصاً بأن ينصر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق بل النصر يكون ولو بعد موته بأن يجعل الله في قلوب الخلق قبولاً لما دعا إليه وأخذاً به وتمسكاً به فإن هذا يعتبر نصراً لهذا الداعية وإن كان ميتاً ... )) (1).
س34 : عرف الصبر ؟
ج : الصبر هو حبس النفس على طاعة الله تعالى ، وحبسها عن معصية الله ، وحبسها عن التسخط على أقدار الله .
س35 : إلى كم قسم تقسم أقدار الله ؟
ج : أقدار الله تنقسم إلى قسمين :
الأول : أقدار يجريها الله تعالى لا كسب للعباد فيها وهذه بدورها تنقسم إلى قسمين :
1 ) أقدار ليس للإنسان القدرة على دفعها كموت عزيز مثلاً .
2 ) أقدار للإنسان القدرة على دفعها كالمرض مثلاً ، فهو مأمور بدفعه بقدر مثله وهو الدواء ونحو ذلك .
الثاني : أقدار يجريها الله على أيدي بعض المخلوقين من الإيذاء والعدوان .
س36: هل أوصى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ؟
ج : نعم ، حيث أوصاه :
1 ) بالصبر في دعوته إلى الله تعالى .
2) بالصبر على ما سيلاقيه من الأذى والعدوان .
3) بالصبر والتأني وعدم الاستعجال .
فقال تعالى { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود : 49] ، وقال سبحانه { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ َ } [الروم : 60].
__________
(1) 46 ) شرح الأصول الثلاثة : 17 للشيخ أبن عثيمين .(1/45)
وقال سبحانه { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر : 77].
وقال سبحانه { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [الأحقاف : 35] .
وقال سبحانه { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [القلم : 48] .
س37 : ما هو جزاء الصابرين عند الله تعالى ؟
ج : لقد أعطى الله تعالى لأهل الصبر ما لم يعط لغيرهم ، فجزاهم بما صبروا الأجر الكبير ، والثواب الجزيل ، والنعيم المقيم ، وكما قيل ( بعد المحن تأتي المنح ) ، وسنعرض جانباً من هذا الجزاء عسى أن نوفي أهل الصبر حقهم :
1) يوفيهم الله تعالى أجرهم بغير حساب ، قال تعالى { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر : 10] .
2) ليس لهم جزاء إلا الجنة ونعيمها ، قال تعالى { وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً } [الإنسان : 12].
3 ) أخبر الله تعالى أنه معهم ، ومن كان الله معه فلا يخاف ولا يخشى قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة : 153] .
4) أخبر الله تعالى أنه يحبهم ، ومن يحبه الله هانت عليه الدنيا وما فيها ، قال تعالى { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [آل عمران : 146] .(1/46)
5 ) جمع الله تعالى لهم ما لم يجمع لغيرهم ، حيث أعطاهم من العطايا والمنح هي خير مما طلعت عليه الشمس ، فقال تعالى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون } [البقرة : 157] .
س38 : بماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَبِّر أصحابه المضطهدين في مكة أيام غربتهم الأولى ؟
ج : في هذه الفترة من عمر الدعوة النبوية وفي ظل الجور والظلم الذي كانت قريش تمارسه بحق المستضعفين من المسلمين ، كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يُصَبِّر أصحابه المضطهدين وهم في غربتهم الأولى بأمور منها :
1 ) التأسي والتصبر بقصص السابقين من الأنبياء وأتباعهم ، وكيف تحملوا البلاء في سبيل الله عز وجل ، ويضرب لهم الأمثلة على ذلك ليزيد من صبرهم وتمسكهم بدينهم وعقيدتهم ، فعن عن خباب بن الأرت قال:… شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، قلنا له : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ؟
قال : (( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض ، فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله ، و الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون )) (1).
__________
(1) 47) رواه البخاري برقم : 6544 .(1/47)
2 ) التعلق بما أعده الله تعالى في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم المقيم والثواب الجزيل ، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا ، قال تعالى { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَد ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران : 197] .
والجنة هي التي عّلَّق بها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قلوب أصحابه دون الوعود بالمناصب أو أي عرض من أعراض الدنيا الزائلة ، وانظروا للأنصار لما حضروا إلى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في بيعة العقبة الثاني وما أخذ منهم وما علَّق قلوبهم به تجد المثال شاخصاً للعيان .
قال صفي الرحمن المباركفوري في (( الرحيق المختوم : 120 )) : (( وقد روى الإمام أحمد عن جابر ( رضي الله عنه ) مفصلاً :
قال جابر : قلنا : يا رسول الله ، علام نبايعك ؟
قال : (( على السمع والطاعة في النشاط والكسل .
وعلى النفقة في العسر واليسر .
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعلى أن تقوموا في الله ، لا تأخذكم في الله لومة لائم .
وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم .
وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، وأزواجكم وأبناءكم .
ولكم الجنة )) (1) أ . هـ .
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون ، فقال : (( ابشروا آل عمار وآل ياسر ! فإن موعدكم الجنة )) (2).
__________
(1) 48 ) صحيح أنظر (( سلسلة الأحاديث الصحيحة : 1 / 133 )) .
(2) 49 ) رواه الحاكم في المستدرك وصححه المحدث العلامة الألباني في (( صحيح السيرة النبوية لأبن كثير : 69 برقم : 154 )) .(1/48)
3 ) التطلع للمستقبل الذي ينصر الله تعالى فيه الإسلام والمسلمين في هذه الحياة الدنيا ، ويذل فيه الكفر وأهله ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لخباب بن الأرت رضي الله عنه : (( والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون )).
4 ) التأني وعدم الاستعجال ، ويظهر هذا واضحاً في قول النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لخباب : ((ولكنكم تستعجلون )) .
س39 : ما الدليل على المسائل الأربع ؟
ج : كما قال المؤلف قوله تعالى { وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر : 3] .
قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرح الثلاثة الأصول : 19 )) : (( أقسم في هذه الصورة بالعصر على أن كل إنسان فهو في خيبة وخسر مهما أكثر ماله وولده وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة:
أحدها : الإيمان ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى من اعتقاد صحيح وعلم نافع .
الثاني : العمل الصالح وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله بأن يكون فاعله لله مخلصاً ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعاً .
الثالث : التواصي بالحق وهو التواصي على فعل الخير والحث عليه والترغيب فيه .
الرابع : التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على فعل أوامر الله تعالى ، وترك محارم الله ، وتحمل أقدار الله.
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يتضمنان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها ونصرها وحصول الشرف والفضيلة لها : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } {سورة آل عمران : 110} أ . هـ.
س40 : ما معنى قوله تعالى (( والعصر .... )) ؟
ج : الواو للقسم ، والعصر قد تعددت فيه أقوال أهل العلم ما بين تفسيره بالزمان أو هو جزء من الزمان .(1/49)
قال أحمد بن محمد الشرقاوي : (( لقد ذكر المفسرون أقوالاً متعددة في بيان المقصود بـ ( العصر ) :…
1 ) فقيل العصر هو الدهر (1) ، أقسم به - عز وجل - لما اشتمل عليه من الأعاجيب ولما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها وما فيها من الدلالة على الصانع يقول أبن القيم في كتابه (( التبيان في أقسام القرآن ص 114)) : (( أقسم سبحانه بالعصر لمكان العبرة والآية فيه ، فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام وتعاقبهما واعتدالهما تارة وأخذ أحدهما من صاحبه تارة واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد والحركة والسكون وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها آية من آيات رب العالمين وبرهان من براهين قدرته وحكمته )) أ . هـ.
2) وقيل أقسم الله بالعصر أي بوقت العصر (2) ، كما أقسم الله بالضحى وبالليل وبالفجر ، لما في هذه الأوقات من دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه ، كما أن هذا الوقت وهو آخر النهار وقت الفراغ من الأعمال ، يذكر الإنسان بوقت انتهاء أجله وانطواء صحيفة عمله وانتظاره لمصيره المحتوم إما إلى دار النعيم وإما إلى نار السموم ، أعاذنا الله منها.
__________
(1) أورد هذا الرأي الإمام الطبري في جامع البيان 30/187 والبغوي في معالم التنزيل 5/620 وابن كثير في تفسيره 4/547 والشوكانى في فتح القدير 5/491 والرازي في مفاتيح الغيب 32 /84 وأبو السعود في إرشاد العقل السليم 5/901 وأبو حيان في البحر المحيط 8 /509 والقرطبي في الجامع 20/179 والنسفي في مدارك التنزيل 4/375 ، وفي حاشية الجمل على الجلالين 4/582 و في روح المعاني 16/409 [ الشرقاوي ] .
(2) ذكر هذا الرأي ابن كثير في تفسيره 4/547 ورجح الرأي الأول والشوكانى في فتح القدير 5/491 وأبو حيان في البحر المحيط 8 /509 وذكره النسفي في تفسيره 4/375 [ الشرقاوي ] .(1/50)
3) أقسم تعالى بـ ( والعصر ) أي بصلاة العصر وهى الصلاة الوسطى التي نوّه سبحانه وتعالى بفضلها ومزيتها..... من هذا المنطلق فلقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بـ { والعصر } صلاة العصر ، أقسم بها تعالى اعتناء بشأنها وتوجيها لأمة الإسلام وتذكيراً لهم بهذه الصلاة التي يغفل عنها بعض الناس لانشغالهم بتجارتهم أو لخلودهم إلى الراحة من أعمالهم كما أن هذه الصلاة يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة بها يختم العمل فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها ، فأقسم تعالى بهذه الصلاة تفخيماً لشأنها ..
4) أقسم تعالى بزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أقسم بمكانه وحياته قال تعالى { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ {1} وَطُورِ سِينِينَ {2} وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ {3} } سورة التين ، وقال تعالى مقسماً بحياة حبيبه المصطفي - صلى الله عليه وسلم - { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ {72} سورة الحجر ، وعلى هذا ’’ فالتعريف هنا تعريف العهد الحضري مثل التعريف في اليوم كقولك : فعلت اليوم كذا .... )) (1).
أقول : وهكذا نرى أقوال أهل العلم قد تباينت في تفسير العصر إلى عدة أقوال أرجحها قول من فسره بالزمان الذي هو محل الحوادث من خير وشر ، وإليك البيان :
1 ) قال أبن كثير في تفسيره (( 4 / 547 )) : (( العصر الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر )) .
2) قال الشوكاني في فتح القدير : (( 5/491 )) : (( أقسم سبحانه بالعصر وهو الدهر ، لما فيه من العبر من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وتعاقب الظلام والضياء ، فإن في ذلك دلالة بينة على الصانع عز وجل وعلى توحيده )) . ثم قال : بعد أن ذكر أقوال أهل العلم واختلافهم في تفسير العصر (( والأول أولى )) .
__________
(1) 52 ) يتيمة الدهر في تفسير سورة العصر : 12 [ بتصرف واختصار ] .(1/51)
3 ) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في (( شرح الثلاثة الأصول : 19 )) : أقسم الله عز وجل في هذه السورة بالعصر الذي هو الدهر وهو محل الحوادث من خير وشر ، فاقسم الله عز وجل به على أن الإنسان كل الإنسان في خسر .. )) .
4) قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول : 9 )) قال جل وعلا (وَالْعَصْرِ) , العصر هو الزمان , أقسم الله جل وعلا به لشرفه ؛ الزمان المطلق والعصر يعني والزمن , والعمر , والوقت لأنه أشرف شيء أُعطيه الإنسان )) .
س41 : هل يجوز للمخلوقين أن يقسموا بالعصر ؟
ج : لا ، لا يجوز للمخلوقين أن يقسموا إلا بالله تعالى وحده ، وهنالك شبهة يرددها القبوريون ممن يؤلهون ويعظمون المخلوقين مفادها : أنه طالما أقسم الله بالعصر وغيره من المخلوقات ، فكذلك يجوز لنا أن نقسم بها !!!
والجواب عليها : أن الله تعالى يقسم بمخلوقاته متى شاء ، كيف شاء ، فهو رب خالق ، أما نحن فمربوبون مخلوقون وهذا أولاً ، وأما ثانياً فللنهي الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم جواز القسم بغير الله تعالى ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ، فقال : (( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )) (1)، وعن سعد بن عبيدة : أن أبن عمر سمع رجلاً يقول لا والكعبة ، فقال أبن عمر: لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) (2)
س42 : ما معنى قوله تعالى (( الإنسان ... )) .
__________
(1) 53 ) رواه البخاري برقم : 6270 ، ومسلم برقم : 1646 .
(2) 54 ) حديث صحيح ، أنظر (( صحيح جامع الترمذي 4 / 110 )) و (( صحيح سنن أبي داود 3 / 223 )) .(1/52)
ج : أي جنس الإنسان ، والمراد به الناس ، قال الشيخ خالد بن عبد الله المصلح : (( والإنسان هنا المراد به : جنس الإنسان ، فيشمل كل من أتصف بهذا الوصف )) (1).
س43 : ما معنى قوله تعالى (( لفي خسر ... )) ؟
ج : أي في خسارة وهلاك .
قال الشيخ المصلح : (( الخسر ضد الربح ، أي لفي خسارٍ كخسار التجار في أرباحهم ، وقال : { لَفِي خُسْرٍ } ولم يقل خاسر ليبين إحاطة الخسر به من كل مكان ، فإن ( في ) تفيد الظرفية ، فالخسر محيط بالإنسان من كل جوانبه ، وفي القسم على هذا الأمر وفي تأكيده بـ ( إنَّ ) التي تفيد التوكيد في قوله : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } دلالة واضحة على عظم الأمر ، وأن الله أراد من هذا القول : شحذ الهمم للانفكاك من أسباب الخسار ، والأخذ بأسباب النجاة ، فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن أقسم على هذا الأمر وهو خسار جنس الإنسان بين السبيل والطريق الذي يتخلص به الإنسان من هذا الخسار، والخسار على درجات، فالخسار المطلق هو خسار من خسر الدنيا والآخرة نعوذ بالله من ذلك، ودونه دركات كبيرة وكثيرة من الخسار ، لكن طريق النجاة موصوف وصفاً واضحاً بيناً في هذه السورة الكريمة ، في الاستثناء الذي ذكره الله عز وجل )) (2).
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله - : (( والخسار مراتب متعددة متفاوتة :قد يكون خسارًا مطلقًا ، كحال من خسر الدنيا والآخرة ، وفاته النعيم، واستحق الجحيم )) .
وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض ، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات:
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه لا يتم إلا به .
والعمل الصالح ، وهذا شامل لأفعال الخير كلها ، الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحق الله وحق عباده ، الواجبة والمستحبة.
__________
(1) 55 ) شرح الأصول الثلاثة: 6 .
(2) 56 ) المصدر السابق : 6 .(1/53)
والتواصي بالحق ، الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، أي : يوصي بعضهم بعضًا بذلك ، ويحثه عليه ، ويرغبه فيه .
والتواصي بالصبر على طاعة الله ، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأولين ، يكمل الإنسان نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة ، يكون الإنسان قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح العظيم )) (1).
س44 : وردت في هذه السورة عدة مؤكدات ، أذكرها وبين الفائدة منها ؟
ج : قال الشيخ صالح عبد العزيز آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول : 10 )) : (( لما أقسم الله جل وعلا بالعصر ؟ قال جل وعلا ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2], فجواب القسم هو ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر ٍ) وأكد ذلك بـ(إنَّ) وباللام في قوله (لَفِي خُسْرٍ) ومن المتقرر في علم المعاني من علوم البلاغة , أن ( إنّ واللام من أنواع المؤكدات ) اجتمع هاهنا أنواع من المؤكدات , أولا القسم ، الثاني مجيء إن ّ، الثالث مجيء اللام التي تسمى المزحلقة , أو المزحلفة , مجيء اللام في خبر إنّ ، قال جل وعلا ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2]، وأهل العلم يقولون يعني أهل العلم بالمعاني يقولون "إن مجيء المؤكدات يصلح إذا كان المخاطَبُ منكِرا لما اشتمل عليه الكلام".
__________
(1) 57 ) تفسير السعدي : 4 / 63 .(1/54)
فمثلا تقول لمن لم يكن عنده الخبر فلان قادم ، لا يصلح أن تقول "إنّ فلاناً لقادم" وذاك لم ينكر الكلام ، ويريد أن يستقبل الخبر، تقول "فلان قادم"، فأخبرته بقدوم فلان ، لكن إن كان منكراً له ، أو منزل منزلة المنكر له ، فإنه تؤكد الكلام له ، لكي يزيد انتباهه ، ويعظم إقراره لما اشتمل عليه المشركون لأجل ما هم فيه من شرك ، وما عاندوا فيه الرسالة ، حالهم بل ومقالهم أنهم هم أصحاب النجاة ?وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى?[فصلت:50]، فهم ينكرون أنهم سيكونون في خسارة ، و ينكرون -طائفة أخرى منهم- أن يكون الإنسان سيرجع إلى خسارة ، وأنه لن ينجوا إلا أهل الإيمان، فأكد الله جل وعلا ذلك لأجل إنكارهم بالمقال والفعل وبالحال، بقوله ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2]، يعني إن جنس الإنسان، الألف واللام هذه للجنس (أل) الجنسية ، (الْإِنسَانَ) يعني جنس الإنسان (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ), جنس الإنسان في خسر، يعني في خسارة عظيمة، إلا ما اُستثني ... )) .
س 45 : ما هي فضائل سورة العصر ؟
ج : تظهر هذه الفضائل واضحة جلية من خلال النقاط التالية :
1 ) روى الطبراني بسنده عن عبد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري أنه قال : (( كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا ، إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر ، ثم يسلم أحدهما على الآخر )) (1).
2 ) قال الشافعي رحمه الله تعالى : ((لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم )) .
قال الشيخ أبن عثيمين : (( مراده رحمه الله أن هذه السورة كافية للخلق في الحث على التمسك بدين الله بالإيمان ، والعمل الصالح ، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة .
__________
(1) 58 ) أنظر ( سلسلة الأحاديث الصحيحة : 6 / 307 ) للعلامة الألباني رحمه الله .(1/55)
وقوله : "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" لأن العاقل البصير إذا سمع هذه السورة أو قرأها فلا بد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع : الإيمان، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر )) (1).
3 ) قال أبن كثير : (( أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب وذلك بعد ما بعث رسول الله وقبل أن يسلم عمرو فقال له مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة فقال لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال وقد أنزل علي مثلها فقال له عمرو وما هو فقال يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر ثم قال كيف ترى يا عمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب وقد رأيت أبا بكر الخرائطي أسند في كتابه المعروف بمساوي الأخلاق في الجزء الثاني منه شيئا من هذا أو قريبا منه والوبر دويبة تشبه الهر أعظم شيء فيه أذناه وصدره وباقيه دميم فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان )) (2).
س46 : معنى قول الإمام البخاري (( العلم قبل القول والعمل .. )) ؟
ج : يدل على وجوب البدء بالعلم قبل القول والعمل ، والدليل قوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } [محمد : 19] .
__________
(1) 59 ) شرح الثلاثة الأصول : 21 .
(2) 60 ) تفسير أبن كثير : 4 / 547 .(1/56)
قال الشيخ أبن عثيمين : (( أستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل وهذا دليل أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولاً ثم يعمل ثانياً ، وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول والعمل وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً حتى يكون على وفق الشريعة ، ولا يمكن أن يعلم الإنسان أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعلم )) (1).
(المسائل الثلاث :
س47: ما أهمية هذه المسائل الثلاث ؟
ج : تأتي أهميتها للأسباب التالية :
1) أنها واجبة التعلم ، كما قال المؤلف وقد سبق التعريف بالوجوب آنفاً .
2) إنها واجبة العمل بها ، فلا يكفي العلم بها فقط .
3 ) إنها تسلط الضوء على ثلاث مسائل مهمة هي :
الأولى : حيث تسلط الضوء على توحيد الربوبية وما يختص به الرب تبارك وتعالى من أفعال وصفات ، حيث أن الخلق والرزق والتدبير وإرسال الرسل ، كلها مما يختص به الرب تبارك وتعالى .
الثانية : فإنها تسلط الضوء على توحيد الألوهية وما يجب لله تعالى على عباده .
الثالثة : إنها مما يخص مسألة الولاء والبراء .
قال الأسمري : (( وهذه المسائل الثلاث هي:-
أولاً : توحيد الألوهية ، ويسمى بتوحيد الإلهية ، ويسمى بتوحيد العبادة .
ثانياً : توحيد الربوبية ، ويسمى بتوحيد الرب في أفعاله .
ثالثاً : مسألة الولاء والبراء )) (2).
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ : (( هذه الثلاث مسائل من المهمَّات العظيمات:
الأولى: أن يعلم المرء الغاية من خلقه ، وإذا علم الغاية ، أن يعلم الطريق الموصلة لانفاذ هذه الغاية.
الثانية : ليعلم أن الطريق واحدة ، وأن الله جل وعلا لا يرضى الشرك به ، حتى بالمقربين عنده ، والذين لهم المقامات العالية عنده جل وعلا ، لا يرضى أن يشرك معه أحد .
__________
(1) 61) شرح الثلاثة الأصول : 21 .
(2) 62 ) مفتاح الوصول شرح ثلاثة الأصول : 30 .(1/57)
الثالثة : أن لا يكون في قلب الموحِّد ؛ الذي وحَّد الله ، وأطاع الرسول ، وخلص من الشرك ، أن لا يكون في قلبه محبة للمشركين.
هذه الثلاث هي أصول الإسلام بأَحد الاعتبارات، أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن تحققوا بها قولًا وعملاً واعتقاداً وانقياداً )) (1).
المسألة الأولى :
س48 : ما الدليل على أن الله خلقنا ؟
ج : دل على ذلك الخبر والعقل :
إما الخبر : فقوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] ، وقوله تعالى { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون : 14] ، وقوله تعالى { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر : 62] ، وقوله تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } [الأعراف : 11] .
وإما العقل : فقد وردت الإشارة إليه في قوله تعالى { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } [الطور : 35] .
__________
(1) 63 ) شرح ثلاثة الأصول : 21 .(1/58)
فهذه الآية دلت على أن الخلق قد خلقوا من أحد ثلاث جهات ، أما الجهة الأولى أنهم خُلِقوا من غير شيء ، أي : أن العَدَم أوجد هؤلاء الخلق ، وهذا مُحال ممتنع ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، والعدم غير موجود ، فكيف يوجِد موجوداً يسمى بالمخلوقات أو الخلق ، وأما الجهة الثانية فهي أن يكون الخلق هم الذين خلقوا أنفسهم ، وهذا باطل ممتنع محال ، ولا يمكن أن يخلق المخلوق نفسه ؛ لأن معناه أنه كان موجوداً قبل أن يُوجد فأوجد نفسه في وقت لا وجود لذاته فيه ، ثم كان هذا المخلوق ، وهذا محال ممتنع ؛ لأن كونه مخلوقاً فقد سُبق بعدم ، فكيف يوجد نفسه من عدم ، وهذا من أمحل المحال ، وأما الجهة الثالثة وهي التي دل عليها سياق الآية أن الله الرب المعبود - سبحانه وتعالى - هو الخالق فإذا انعدمت الجهتان السابقتان تعين أن يكون الخالق هو الله - سبحانه وتعالى - ولا بد (1) .
أقول : حتى الكفار الذين جحدوا دعوات الأنبياء لم يكونوا يعتقدون أن خالقاً غير الله خلقهم ، بل كانوا يقرون ذلك لله وحده ، وهذا يظهر واضحاً من خلال قوله تعالى { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [الزخرف : 87] .
س49 : ما الدليل على أن الله تعالى رزقنا ؟
ج : يدل على ذلك _ أيضاً _ الخبر والعقل :
إما الخبر : فقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات : 58] ، وقوله تعالى { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [سبأ : 24] .
__________
(1) 64 ) أنظر ( مفتاح الوصول : 32 ) للأسمري ، ( وشرح الثلاثة الأصول : 23 ) للشيخ أبن عثيمين .(1/59)
وإما العقل : فجميع المخلوقات التي خلقها الله لا تستطيع العيش بدون طعام وشراب ، والطعام والشراب قد خلقهما الله ، فدل هذا على أن الرزاق هو الله تعالى { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُون ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُون ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُون ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ، لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُون ، } [الواقعة : 64، 70] .
وكذلك الكفار لم ينكروا هذه الصفة لله تعالى ولم يجحدوها ، قال تبارك وتعالى { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [يونس : 31] .
س50: ما الدليل على أن الله تعالى لم يركنا هملاً ؟
ج : يدل على ذلك الخبر والعقل :
إما الخبر : فقوله تعالى { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة : 36]
وقوله تعالى { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون : 115] ، ومن ثم قول المؤلف الذي يدل على أن الخلق لم يتركوا سدى هملاً : بل أرسل إلينا رسولاً من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار وأستشهد بقوله تعالى { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } [المزّمِّل : 15] .(1/60)
قال الإمام أبن كثير في (( تفسيره : 5 / 701 )) : (( وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} قال السدي : يعني لا يبعث. وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني لا يؤمر ولا ينهى, والظاهر أن الآية تعم الحالين أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً لا يؤمر ولا ينهى, ولا يترك في قبره سدى لا يبعث بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الآخرة , والمقصود هنا إثبات المعاد والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد )) أ . هـ
وإما العقل : قال الشيخ أبن عثيمين رحمه الله : (( فلأن وجود هذه البشرية لتحيا ثم تتمتع كما تتمتع الأنعام ثم تموت إلى غير بعث ولا حساب أمر لا يليق بحكمة الله عز وجل بل هو عبث محض ، ولا يمكن أن يخلق الله هذه الخليقة ويرسل إليها الرسل ويبيح لنا دماء المعارضين المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام ثم تكون النتيجة لا شيء ، هذا مستحيل على حكمة الله عز وجل )) (1).
س51 : ما معنى قوله (( بل أرسل إلينا رسولاً ... )) ؟
ج : أي أرسل إلينا معشر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً منا يعلمنا الكتاب والسنة ويزكينا ويطهرنا كما أرسل إلى الأمم السابقة رسلاً ، قال تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [النحل : 36] ، وقوله تعالى { َإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر : 24] .
س52 : ما معنى قوله ((من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار )) ؟
ج : قوله : ( من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار) : هذا المعنى دل عليه دلالتان ظاهرتان:-
__________
(1) 65 ) شرح ثلاثة الأصول : 25 .(1/61)
أما الدلالة الأولى : فالخبر السمعي ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )) ، وهذا فيه دلالة على المعنى الذي قرره المصنف يرحمه الله .
وأما الدلالة الثانية : فدلالة إجماع أهل السنة والأثر ، حيث أجمعوا أن العُصاة في النار ، وأن أصحاب الطاعات والخير في الجنة ، وهذا الإجماع إجماع مجُمل مبهم ، وقد نقله جماعة ، ومن أولئك الطبري في (( تفسيره )) و (( عقيدته )) ، وكذلك البربهاري في (( شرح السنة )) وغيرهما ـ رحمهما الله تعالى ـ .
ثم ليعلم أن دخول الطائعين إلى جنة رب العالمين على جهتين :-
أما الجهة الأولى : فهو دخول من أول وهلة ، دون أن يُسبق دخولهم بعذاب ، ومن أمثلة ذلك السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، كما جاء حديثهم صحيحاً .
وأما الجهة الثانية : فهو دخول ولكن بعد أمد ، أي بعد سَبْق عذاب عليهم ، ثم يكون مآلهم إلى الجنة ، وهؤلاء الصنف هم أهل الطاعة ، وأول الطاعات وأعظمها هو توحيد الله سبحانه وتعالى .
فالموحدون دخولهم للجنة إما أن يكون من أول وهلة ، وإما أن يكون بعد سَبْق عذاب ، لكن يكون مآلهم إلى الجنة .
وأما العُصاة فإنهم يدخلون النار ، والعُصاة صنفان :-
أما الصنف الأول : فأهل كفر وإلحاد ، خرجوا عن ملة الإسلام ، فهؤلاء في النار خالدين فيها .
وأما الصنف الآخر : فهم أهل توحيد ، أو الذين في قلوبهم مثقال حبة خردل من إيمان ، فهؤلاء مآلهم إلى الجنة ، وإن بقوا في النار أمداً .
فيتلخص مما سبق أن أهل الطاعة مآلهم إلى الجنة ، وسيدخلون الجنة ولا بد ، فمِن داخل من أول وهلة ، ومِن متأخر عن أولئك .
وأن أهل المعصية منهم الكافر ، ومنهم المسلم المؤمن ، فإذا كان مسلماً عُذب وكان مآله إلى الجنة ، وإن كان كافراً أدخل النار وكان خالداً فيها .(1/62)
فيحمل قول المصنف ـ يرحمه الله ـ ( فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار ) على المعنى السابق ، وهو ما دلت عليه الدلائل والأدلة .
ثم قال المصنف ـ يرحمه الله ـ : والدليل قوله تعالى { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم } . الخطاب في قوله سبحانه ( إنا أرسلنا إليكم ) يقصد به : المشركون إبان بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إما أن يقصد به مشركو العرب ، أو أن يقصد به المشركون مطلقاً ، فهما قولان لأرباب التفسير ، محكيان عن أئمة التفسير ، كما ذكره أبن جرير يرحمه الله في ((تفسيره)) وأبن كثير يرحمه الله في (( تفسيره )) أيضاً )) (1).
س53 : ما معنى قوله تعالى (( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً )) ؟
ج : المقصود من الآية : أنكم أيها المشركون المكذبون يا من عاندتم بجهلكم وكبركم النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - وعصيتموه ، وأنتم تعلمون ما حل بفرعون وآل فرعون من العذاب ، سيقع لكم ما وقع لهم وما سيقع لهم في الآخرة إن أنتم عصيتم النبي الخاتم محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه الآية دلت على ما أوردها المصنف عليه من جهة ، ألا وهي أن الآية فيها تهديد بالعقاب للمشركين الذين لم يؤمنوا بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وقع بآل فرعون .
وإنما مثل بآل فرعون ـ كما قاله جمع من المفسرين ـ لعلتين :-
أما العلة الأولى : فلشهرة خبره عند المشركين إبان بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وضَرْب الأمثال بما هو معلوم عند المخاطب ومشهور عنده هو عين المقصود ، ولذلك ضَرَب الله - سبحانه وتعالى - بآل فرعون مثلاً تهديداً وتخويفاً بنزول العذاب والعقاب .
__________
(1) 66 ) أنظر ( مفتاح الوصول : 35 ) للأسمري(1/63)
وأما العلة الثانية : فلأن فرعون كان كبيراً عالياً بطغيانه ؛ فلكونه كان من أعلى الطغاة الذين أنكروا الإلهية لله - سبحانه وتعالى - ، وعصوا الرسول موسى عليه الصلاة والسلام مع كونه قد أردف بوزير آخر ، وهو هارون عليه السلام ، فدل ذلك على عظيم ما وقع عليه ، فصَحَّت العِلَّة ، فالعلة الأولى لكونه خبراً مشهوراً ، والعلة الثانية لكون فرعون قد نزل إلى أدنى الدركات ، وامتطى أعلى ما يعلو إليه الجاهلون ، من جهلهم وعنادهم وكبرهم ، ومن ثم وقع التمثيل بفرعون ، وما يقع عليه وما سيقع من سوء العذاب (1).
المسألة الثانية :
س54 : ما معنى قوله (( إن الله لا يرضى أن يشرك ... )) ؟
ج : وهذه هي المسألة الثانية من المسائل التي يجب علينا العلم والعمل بها ، وهي أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر والشرك ، اللذان هما مما يناقض الغاية من خلقهم ، وبعث الرسل إليهم ، قال تعالى { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر : 7].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((قال الله عز و جل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل لي عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك )) (2).
س55 : ما معنى قوله (( في عبادته ... )) ؟
ج : أي لا يرضى الله تعالى الشرك في عبادته ، لا واسطة ولا استقلالاً .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : (( قال شيخ الإسلام : العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل .
وقال أيضاً : العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
قال أبن القيم : ومدارها على خمس عشرة قاعدة . من كملها كمل مراتب العبودية .
__________
(1) 67 ) المصدر السابق : 37 .
(2) 68 ) حديث صحيح ، أنظر (( صحيح سنن أبن ماجة : 2 / 1405 )) .(1/64)
وبيان ذلك : أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح . والأحكام التي للعبودية خمسة : واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح . وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح .
وقال القرطبي : أصل العبادة التذلل والخضوع . وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات . لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى .
ومعنى الآية : أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته . فهذا هو الحكمة في خلقهم .
قلت : وهي الحكمة الشرعية الدينية .
قال العماد أبن كثير : وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور . وذلك هو حقيقة دين الإسلام . لأن معنى الإسلام : الاستسلام لله تعالى ، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع )) (1).
س56 : ما هي أركان العبادة ؟
ج : أركان العبادة أثنان :
الأول : كمال الحب الذي هو غايته ومنتهاه ، وهذا لا يكون إلا لله تعالى وحده ، فإنه وحده سبحانه المحبوب لذاته ، أما ما سواه فإنه يحب لعلل وأغراض ، قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ } [البقرة : 165] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )) (2) .
الثاني : كمال الذل والخضوع ، والمراد به غايته ومنتهاه ، بأن لا يتذلل العبد ولا يخضع إلا لله وحده .
__________
(1) 69 ) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد : 10 .
(2) 70 ) رواه البخاري برقم : 16 ، ومسلم برقم : 67 .(1/65)
لذا فلا يكون عابداً لله من أحب غيره ، ولا من تذلل وخضع لسواه ، ولهذا يقول أهل النار لألهتهم يوم القيامة { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 98] ، مع أنهم لم يسووهم بالله لا في خلق ولا رزق ، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم .
س57 : ما هي شروط قبول العبادة ؟
ج : العبادة لا تقبل إلا بشرطين :
1_ الإخلاص لله .
2_ المتابعة للرسول .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( العبودية : 170 )) : (( وجماع الدين أصلان : أن لا نعبد إلا الله ، ولا نعبده إلا بما شرع ، لا نعبده بالبدع ، كما قال تعالى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (الكهف: 110).
وذلك تحقيق الشهادتين ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله ؛ ففي الأولى : أن لا نعبد إلا إياه ، وفي الثانية : أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه ؛ فعلينا أن نصدق خبره ، ونطيع أمره .
فمن أراد عبادة الله فلابد له من توفر الشرطين ولسان حاله يقول: ( إياك أريد بما تريد ).
قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى :[لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً](الملك: 2).
قال: أخلصه وأصوبه .
قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه ؟
قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صوابا ً، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .
فإذا فُقِد الشرطان أو أحدُهما بطلت العبادة (1).
س58: ما أهمية العبادة ؟
ج : تتبين أهمية العبادة من الوجوه التالية :
__________
(1) 71 ) توحيد الألوهية : 19 ، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .(1/66)
1) إنها الغاية المحبوبة لله تعالى ، والتي من أجلها خلق الخلق ، كما قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] .
2) إنها الغاية التي من أجلها أرسل الله تعالى جميع الرسل ، ليرشدوا الناس إلى معرفة الطريق الموصل إليها ، قال تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] .
3 ) أنه ألزم بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتيه اليقين كما قال تعالى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر : 99] .
4) وصف الله تعالى ملائكته وأنبيائه بها ، فقال تعالى { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء : 19] .
5 ) ذم الله تعالى المستكبرين عنها بقوله { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60].
س59 : ما معنى ورود كلمة (( أحد ... )) نكرة سواء كانت في سياق الآية الشريفة أو في كلام المؤلف ؟
ج : لقد تقرر عند علماء الأصول أن النكرة إذا وردت وقد سبقت بنفي أو نهي أو شرط أو استفهام فإنها تفيد العموم ، وعندها يستقيم المعنى بعدم جواز اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله ، وهذا يعم كل أحد ، ولهذا لا يجوز أن يتخذ مع الله نداً يعبد و يدعى سواء كان على سبيل الواسطة أو الاستقلال حتى لو كان من أقرب الملائكة كجبريل أو من أقرب الأنبياء والمرسلين كمحمد - صلى الله عليه وسلم - .(1/67)
قال الشيخ صالح عبد العزيز آل الشيخ : (( وجه الاستدلال أن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النفي ، وقد تقرر أن النكرات إذا أتت في سياق النفي ، أو النهي ، أو الشرط، أو الاستفهام ، فإنها تعُم قال ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) يدخل في ( أَحَدًا ) الملائكة ، ويدخل فيه الأنبياء .
هذا الأصل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلمه علماً يقينيا لاشك فيه ولا شبهة ، بدليله وهو قوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن : 18] .
فلا يخطر على قلب المسلم أو المسلمة أنه يمكن أن يدعو غير الله ، أو أن يستغيث بغير الله ، أو أن يتوجه إلى غير الله ، بأي نوع من أنواع العبادات حتى ولو كان المتوجه إليه ملك مقرب ، أو نبي مرسل )) (1).
س60 : ما الفرق بين النبي والرسول ؟
ج : هنالك بعض الفروق بين النبي والرسول منها :
1 ) النبي : هو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه لقوم موافقين ، وكذلك يبعث بشريعة من قبله ليجددها .
الرسول : هو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه لقوم مخالفين ، وكذلك يرسل بشريعة مستقلة .
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز : (( ومن المتقرر أن ثمَّ فرقاً بين النبي والرسول ؛ فليس كل نبي رسولاً ، بينما كل رسول نبي ، وقول الشيخ هنا (ولا نبي مرسل)؛ لأن الرسالة أرفع درجة من النبوة والفرق بينهما أن:
النبي : هو من أوحي إليه بشرع ، وأُمر بتبليغه إلى قوم موافقين له أو لم يؤمر بالتبليغ .
والرسول : هو من أوحي إليه بشرع ، أو كتاب ، وأُمر بتبليغه إلى قوم مخالفين .
فإذن النبي مرسل ، وقد يكون مرسلاً إلى نفسه ، لكنه ليس بالرسول بالمعنى الأخص.
__________
(1) 72 ) شرح ثلاثة الأصول : 18 .(1/68)
وبهذا يتضح المقام بقوله ، وذلك لقول الله تعالى ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ?[الحج:52]، فأثبت أن الرسول مُرسل ، وأن النبي أيضا يقع عليه الإرسال قال ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ) ، ( الرسول ) يقع عليه الإرسال ( ولا نبي ) أيضا النبي يقع عليه الإرسال ، يعني يؤمر أن يبلغ ذلك لمن ؟ لمن يوافقه هذا النبي ، مثل أنبياء بني إسرائيل إذا مات فيهم نبي خلفه نبي يبلغ من يوافقه في عقيدته ، من يوافقه في إتباعه لشريعة النبي ؛ الرسول الذي قبله ، إذا بلَّغ موافقاً ، وكان هذا التبليغ مأموراً به من الله جل وعلا ومعه شرع ، أو بعض شرع ، فإن هذا نبي ، وقد لا يكون مأموراً بتبليغه إلى قوم موافقين ، فقد يُبَلِّغ نفسَه ، وعلى هذا يحمل بأحد تفاسير أو شروح العلماء ، ما جاء في الحديث «أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد» قد يكون لأنه لم يُستجب له ، وقد يكون بأنه إنما أُمر أو أوحي إليه لنفسه لا لغيره )) (1).
المسألة الثالثة :
س61 : ما معنى قوله : أن من أطاع الرسول ، ووحد الله لا يجوز له موالاة .. ))؟
__________
(1) 73 ) المصدر السابق : 18(1/69)
ج : أي من أطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في المسألة الأولى ، ووحد الله تعالى كما في المسألة الثانية ، لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ، لا يجوز له (( أن يوالي من حاد الله ورسوله , ولو كان ذلك أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو قريبه , وذلك لقول الله تعالى ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ?[المجادلة:22]، إلى آخر الآية, وقال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[التوبة:23]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] لمّا ذكر اليهود والنصارى ، فأصل الدين الذي هو من معنى كلمة التوحيد الولاء والبراء ؛ الولاء للمؤمنين وللإيمان، والبراءة من المشركين والشرك، ولهذا يُعِّرف علمائنا الإسلام : بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله )) (1).
س62: ما معنى الموالاة ؟
ج : الموالاة : معناها أن تتخذه ولياً ، وأصلها من الوَلاية ، والوَلاية هي المحبة ، قال جل وعلا ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44]، يعني هنالك المحبة والمودة والنُّصرة لله الحق ، فأصل الموالاة المحبة والمودة ، ولهذا استدل بقوله ? لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّون َ?[المجادلة:22]، ففسَّر الموالاة بأنها المُوادّة ، وهذا معناه أن أصل الموالاة في القلب ، وهو محبة الشرك أو محبة أهل الشرك والكفر ....
__________
(1) 74 ) المصدر السابق : 19 .(1/70)
الموالاة : موالاة المشركين والكفار محرمة وكبيرة من الكبائر ، وقد تصل بصاحبها إلى الكفر والشرك ، ولهذا ضبطها العلماء بأن قالوا تنقسم المولاة إلى قسمين :
الأول التولِّي.
والثاني المولاة ، الموالاة باسمها العام تنقسم : إلى التولي وإلى موالاة
أما التولِّي : فهو الذي جاء في قوله تعالى ? وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ?[المائدة:51]، تولاه تولياً ؛ التولي معناه محبة الشرك وأهل الشرك، محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان ، قاصداً ظهور الكفر على الإسلام ، بهذا الضابط يتضح معنى التولي ....(1/71)
القسم الثاني الموالاة : والموالاة المحرّمة من جنس محبة المشركين والكفار، لأجل دنياهم ، أو لأجل قراباتهم ، أو لنحو ذلك ، وضابطه أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا، ولا يكون معها نصرة ؛ لأنه إذا كان معها نصرة على مسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام صار تولياً ، وهو في القسم المُكَفِّر ، فإن أحب المشرك والكافر لدنيا ، وصار معه نوع موالاة ، معه لأجل الدنيا ، فهذا محرم ومعصية ، وليس كفراً ؛ دليل ذلك قوله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ، وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ?[الممتحنة:1]، قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: أثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم باسم الإيمان اتخاذ المشركين والكفار أولياء بإلقاء المودة لهم وذلك كما جاء في الصحيحين ، وفي التفسير في قصة حاطب المعروفة حيث إنه أرسل بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - هذه عظيمة من العظائم - للمشركين لكي يأخذوا حِذْرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كُشِفَ الأمر ، قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق ، قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: أتركه يا عمر ، يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فدل على اعتبار القصد ؛ لأنه إن كان قصد ظهور الشرك على الإسلام ، وظهور المشركين على المسلمين ، فهذا يكون نفاقاً وكفراً ، وإن كان له مقصد آخر فله حكمه.
قال عليه الصلاة والسلام -مستبينا الأمر- ما حملك يا حاطب على هذا ؟ قال : يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة الشرك وكراهة الإسلام ، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله في مكة ، وليس لي يدٌ أحمي بها مالي في مكة ، فأردتُ أن يكون لي بذلك يد أحمي بها مالي في مكة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام : صدقكم )) (1).
__________
(1) 75 ) شرح ثلاثة الأصول : 20 ، للشيخ صالح آل الشيخ .(1/72)
س63 : ما معنى قول المصنف رحمه الله : ( والدليل قوله تعالى : { لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ….. } إلى آخر الآية ؟
ج : إن في هذه الآية عدة دلالات من :
( لا تجدُ قوماً ) : ( قوماً ) نكرة في مساق النفي ؛ لأن كلمة تجد أتت مرفوعة فإذا أتت كذلك دل على أنه للنفي لا للنهي ، والنفي أبلغ من النهي في مثل ما نحن بصدده ، كما قرره اللغويون وأهل التفسير ، ( قوماً ) نكرة في مساق نفي فدلت على العموم أي : أي قوم سواءً أكانوا بعداء أم قرباء ، سواء أكانوا من المعروفين لديك أم من غير المعروفين .
( يؤمنون بالله واليوم الآخر.. ) إلى آخره : معناها ظاهر واضح بما سبق .
ثم بين الله سبحانه وتعالى ما يظفر به هؤلاء المؤمنون الذين يبغضون الكافرين ولو كانوا أباً أو أخاً أو ابناً أو عشيرةً أو قبيلةً يرفع الإنسان عقيرته فخراً بهم عند العرب فإنه يبغضهم ، بين الله سبحانه وتعالى فضل هؤلاء القوم في الدنيا ، وفي الآخرة وما يأتيهم من العطاء .
أما في الدنيا فيتحصلون على شيئين :
أما الشيء الأول : فقول الله تعالى { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } ( كتب ) من الكتب ، والكتب في اللغة هو الجمع على وجه صحة ، ولذلك يقال : اجتمعت كتيبة الإسلام لمقاتلة الكافرين ، ففيها معنى الجمع ؛ ولكن على وجه صحة أي : جمع الله في قلوبهم الإيمان وجعله راسخاً ثابتاً ، ولذاك عادوا الكفار وإن كانوا قرباء منهم .(1/73)
وأما الشيء الثاني : الذي يظفر به هؤلاء في دنياهم : فقول الله تعالى : { وأيدهم بروح منه } بروح أي : بنور وهدى ، ومدد إلهي منه سبحانه وتعالى ، وإنما ذكر سبحانه قوله ( بروح ) أن هذا المدد والهدى والنور الذي يؤتاه صاحب هذه الحالة من موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين وإن كانوا أقرب الأقربين هو روح له ، فجسد لا روح فيه ، ولا نفع منه هو ميت ، ولذلك جعل ذلك في مقام الروح ، وهذا من أعظم التعبيرات وأحسنها وأدلها على المقصود .
وأما ما يأتيهم من العطاء في الآخرة : فبقية ما جاء في الآية .
فأول العطاءات : قوله سبحانه { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } وهذا أول العطاء فيدخلون الجنات لا جنة واحدة .
وأما العطاء الثاني : فقوله سبحانه { خالدين فيها } أي : أنهم لا يخرجون من الجنة ، وهذا تثبيت للنعمة عند حيازها ؛ لأن المرء إذا حاز نعمة طلب تثبيتها ، فجاءت الآية مبينة حوز النعمة لأولئك الموصوفين ، ثم مبينة لثبات هذه النعمة بعد حوزتها .
وأما ثالث العطاءات : فقوله سبحانه { رضي الله عنهم } وهذا عطاء ثالث وهو رضا الله عن عبده ، وسبق معناه .
وأما العطاء الرابع : فقوله سبحانه { ورضوا عنه } ، وما ذلك إلا لتمام العطاء الذي أُعطوه حتى سبب القناعة ، وليس القناعة فقط بل أعلى منها وهو الرضى عن العطاء ، وهذه حالة تقع للإنسان عند وقوع تمام العطاء .
وأما العطاء الخامس : فوصفهم بأنهم ( المفلحون ) ، والفلاح يقع للإنسان في مسيرته في أولاه وفي أخراه ، فهو إن وصف الإنسان به في أخراه كان عطاء ، لأن الفلاح يوجب له العطاء ، والعطاء هو الذي لا عين رأته ولا أذن سمعت به ولا خطر على قلب صاحبه .
ثم وصف الله عز وجل أولئك الصنف بأنهم ( حزب الله ) فهؤلاء أصحاب حزب ، وهم من تحزبوا واجتمعوا على ما يرضي الله - سبحانه وتعالى - فيوصفون بأنهم حزب الله وأنهم تحزبوا على الإيمان وما يرضي الله - سبحانه وتعالى - .(1/74)
وأكد الله فلاحهم بقوله (( إن حزب الله )) ثم قوله : ( المفلحون ) دخلت ( أل ) على معنى الفلاح ، وهذا من التأكيد العظيم لفلاح القوم نسأل الله عز أن نكون من أولئك (1).
الحنيفية :
س64 : ما معنى الحنفية ؟
ج : الحنيفية التي كلٌ يتمنى الانتساب إليها وكلٌ يسعى إلى الاتصاف بها : هي ملة إبراهيم ، وهي التي من رغب عنها فقد سفه نفسه ، كما قال الله جل وعلا : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } أي خسرها وأهملها ، والدليل على أن ملة إبراهيم هي الحنيفية قوله تعالى: { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وقوله تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } فملة إبراهيم هي الحنيفية التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مجدداً لها وداعياً إليها .
والحنيفية في الأصل مأخوذة من : حنف ، وهو الميل من الضلال إلى الاستقامة ، ويقابلها الجنف ، وهو الميل من الاستقامة إلى الضلال(2).
س65 : ما معنى قوله (( أرشدك الله لطاعته ... )) ؟
ج : الرشد : الاستقامة عن طريق الحق .
الطاعة : موافقة المراد فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور .
س66 : ما هي مميزات الحنيفية ؟
ج : للحنيفية عدة مميزات وخصائص منها :
1 ) أن يعبد الله تعالى وحده فلا يشرك معه أحد في عبادته ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وهذا هو أصل دعوات الأنبياء وزبدة رسالاتهم .
__________
(1) 76 ) مفتاح الوصول شرح ثلاثة الأصول : 47
(2) 77 ) شرح الأصول الثلاثة : 14 للشيخ خالد بن عبد الله المصلح .(1/75)
2) الإخلاص : وهو التصفية والتنقية ، وحقيقته : أن يقصد المرء بعبادته وجه الله تعالى وحده ، والفوز بالجنة ، والإخلاص ليس شرطاً ابتدائياً وإنما هو شرط تتابعي واستمراري ، فليس المهم أن يبدأ العمل بالإخلاص ، ولكن المهم الأهم أن يستمر هذا الإخلاص ويدوم إلى نهاية العمل .
3 ) أمر الله تعالى جميع الناس بها ، قال تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة : 5] .
4 ) خلق الله تعالى الخلق لها قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] .
5 ) هي حق الله تعالى على العبيد ، فعن معاذ رضي الله عنه قال : كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير ، فقال: (( يا معاذ ، هل تدري حق الله على عباده ، وما حق العباد على الله )) .
قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : (( فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً )) .
فقلت : يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس ؟
قال : (( لا تبشرهم فيتكلوا )) (1).
أعظم ما أمر الله به :
س67 : ما أعظم ما أمر الله تعالى به ؟
ج : أجاب المؤلف رحمه الله بأن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد ، وعرفه بأنه : إفراد الله بالعبادة .
ويلاحظ هنا أن المؤلف رحمه الله تعالى أقتصر بتعريفه للتوحيد على أحد أقسامه الثلاثة وهو توحيد الألوهية لعظمته ، ولأنه محل النزاع بين الرسل وأقوامهم المعاندين ، وإلا فإن التوحيد في حقيقته أعم وأشمل من هذا ، فالله تعالى لا يوحد بأفعال العباد فحسب ، وإنما يوحد بأفعاله وأسمائه وصفاته ، ولهذا فإن هذا الأمر بحاجة إلى بعض التفصيل والبيان .
__________
(1) 78 ) رواه البخاري برقم 2701 ، ومسلم برقم 48 .(1/76)
فمن المعلوم أن التوحيد أنواعه ثلاثة ، وما ذكره المؤلف يخص بعض أفراده ولهذا بَيَّن أهل العلم ممن قاموا بشرح كتب المؤلف رحمه الله خاصة كتاب الثلاثة الأصول ، وكتاب كشف الشبهات _ والتي يذكر فيهما المؤلف تعريف التوحيد بالشكل المذكور آنفاً _ مراد الشيخ وما يقصده ويرمي إليه من وراء هذا التعريف ، وإليك البيان :
1) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في (( شرح ثلاثة الأصول : 33 )) : (( وفي الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: "التوحيد هو إفراد الله بالعبادة" أي أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً ، لا تشرك به نبياً مرسلاً ، ولا ملكاً مقرباً ولا رئيساً ولا ملكاً ولا أحداً من الخلق ، بل تفرده وحده بالعبادة محبة وتعظيماً ، ورغبة ورهبة ، ومراد الشيخ رحمه الله التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه لأنه هو الذي حصل به الإخلال من أقوامهم .
وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو: "إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به ...
ومراد المؤلف هنا توحيد الألوهية وهو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دمهم وأموالهم وأرضهم وديارهم وسبى نساءهم وذريتهم ، واكثر ما يعالج الرسل أقوامهم على هذا النوع من التوحيد ... )) .
أقول : وذكر الشيخ العثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب كشف الشبهات مثل هذا القول ، حيث بين مراد المؤلف وما يقصده من وراء تعريف التوحيد بأحد أقسامه وهو توحيد الألوهية .
2)قال الشيخ خالد بن عبد الله المصلح في (( شرح الأصول الثلاثة : 15 )) : (( قال رحمه الله تعالى: ( وهو إفراد الله بالعبادة ) هذا بيان للتوحيد، وهو بيان لأشرف أنواعه وأعلاه ، وهو توحيد الإلهية الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم .. )) .(1/77)
وقال في ((شرح كشف الشبهات : 5 )) : (( افتتح رسالته رحمه الله بتعريف التوحيد فقال: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهذا التعريف هو لأهم أنواع التوحيد فإن أهم أنواع التوحيد هو توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل وجاءت به الأنبياء فإن الرسل دعت إلى إفراد الله بالعبادة وإن كانت قد دعت إلى توحيد الربوبية واستدلت به وذكرته وأيضاً ذكرت توحيد الأسماء والصفات ... )) .
3) وقال سليمان بن محمد اللهيميد في (( شرح الأصول الثلاثة : 16 )) : ((التوحيد : عرفه المؤلف بأنه إفراد الله بالعبادة .
وهناك تعريف أعم : وهو إفراد الله سبحانه بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات )) .
4 ) قال محمد بن صالح الأسمري في (( شرح الأصول الثلاثة : 58 )) : ((وأراد المصنف -يرحمه الله- من أنواع التوحيد الثلاثة ، التوحيد الأول فقط ، وهو توحيد العبادة .
وإنما عنى المصنف - يرحمه الله - توحيد العبادة دون ما معه من قسمة سابقة لعلتين :-
أما العلة الأولى : فلأن توحيد العبادة هو الذي أُرْسِلَت الرسل للدعوة إليه وتقريره ، وهو الذي أنزلت الكتب لتقريره وإثباته ؛ لأن الفِطَر والعقول السليمة تستدل على ربوبية الله - سبحانه وتعالى - بدلالة هذه الفطرة السليمة وهذا العقل الراجح ، ومن ثم فإن الأعرابي الجَلْف الجاهل يقول : البعرة تدل على البعير وكذلك يقال : السماوات الشاهقات الواسعات والأرضون المنبسطات تدل على أن هناك خالقاً .فإذا قيل ذلك أُثْبِتت لله ربوبية- سبحانه وتعالى - وكذلك يقال غير الخلق من المعاني الدالة على ربوبية الله - سبحانه وتعالى - .(1/78)
وأما العلة الثانية : فلأن المشركين الكافرين إِبَّان بعثة سيد المرسلين عليه أفضل صلاة وأتم تسليم كانوا مقرين في الجملة بربوبية الله - سبحانه وتعالى - ، ولكنهم كانوا يشركون مع الله غيره في العبادة فصرفوا شيئاً من عباداتهم لغير الله - سبحانه وتعالى - ، فلهاتين العلتين اقتصر المصنف - يرحمه الله - على توحيد الإلهية والعبادة دون أن يذكر ما معه من قسمة سابقة ـ أعني : توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ـ )) .
س68 : أذكر فضائل وفوائد التوحيد ؟
ج : قال عبد الله بن جار الله الجار الله في (( الجامع الفريد للأسئلة والأجوبة على كتاب التوحيد : 15 )) : (( من فضائل التوحيد :
1 ) أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه شيء وإنه إذا كان في القلب يمنع دخول النار بالكلية .
2 ) أن جميع الأعمال والأقوال متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد .
3 ) أنَّ الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية وإصلاح الأحوال .
4 ) أن الله يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة ويمن عليهم بالحياة الطيبة )) .
س69 : ما أقسام التوحيد ؟
ج : اعلم أن التوحيد الذي بعث الله به الرسل ، وأنزل به الكتب ينقسم إلى أقسام ثلاثة حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة وحسب واقع المكلفين:(1/79)
القسم الأول : توحيد الربوبية ، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه ، وهو الإيمان بأنه الخالق ، الرازق ، المدبر لأمور خلقه ، المتصرف في شؤونهم في الدنيا والآخرة ، لا شريك له في ذلك ، كما قال تعالى ? اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?[الرعد:16، الزمر:62]، وقال سبحانه ? رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ?[يونس:3] ، وهذا النوع قد أقر به المشركون عباد الأوثان ، وإن جحد أكثرهم البعث والنشور ، ولم يدخلهم في الإسلام لشركهم بالله في العبادة وعبادتهم الأصنام والأوثان معه سبحانه وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة ، ويسمى توحيد الألوهية ، وهي العبادة وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله ?وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:4-5] وأمثالها كثير، وهذا القسم يتضمن إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنه المستحق لها ، وأن عبادة ما سواه باطلة. وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، كما قال الله عز وجل ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ?[الحج:62]الآية.(1/80)
القسم الثالث : توحيد الأسماء والصفات وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، من أسماء الله وصفاته ، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به ، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، كما قال الله سبحانه ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الإخلاص]، وقال سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى :11]، وقال عز وجل ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا?[الأعراف:180]، وقال سبحانه في سورة النحل ?وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[النحل:60] والآيات في هذا المعنى كثيرة ، والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه ، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) (1) .
س70 : ما الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية ؟
ج : هذه الفروق مهمة جداً للتمييز بين هذين القسمين من أقسام التوحيد :
1 ) من حيث الاشتقاق : فالربوبية مشتقة من أسماء الله (( الرب )) ، وأما الألوهية فمشتقة من لفظ (( الإله )) .
2 ) من حيث التعلق : فمتعلق الربوبية بالأمور الكونية القدرية كالخلق والرزق إلخ ، وأما متعلق الألوهية بالأمور الشرعية من الأوامر والنواهي .
3 ) من حيث الإقرار : فالربوبية قد أقر به المشركون ، وأما الألوهية فقد جحدوه ورفضوا الإقرار به .
4 ) من حيث المدلول : فالربوبية مدلوله علمي خبري ، وأما الألوهية فمدلوله عملي .
5 ) من حيث الاستلزام والتَضَمُّن : فالربوبية يستلزم توحيد الألوهية ، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية .
__________
(1) 79 ) عشر تعليقات لأبن باز على متن الطحاوية : 2 .(1/81)
6 ) من حيث الحكم : من أقر بتوحيد الربوبية فقط فإن هذا الإقرار لا يُدخل صاحبة إلى الإسلام ، بعكس توحيد الألوهية فإن الإيمان به يدخل في الإسلام .
7 ) من حيث المعنى : فإن توحيد الربوبية يعني توحيد الله تعالى بأفعاله ، وأما توحيد الألوهية فيعني توحيد الله بأفعال عباده .
س 71 : ما هي المحاذير التي يجب على المسلم أن يتجنبها في باب الأسماء والصفات ؟
ج : قال محمد بن إبراهيم الحمد في (( توحيد الأسماء والصفات : 30 )) : (( يضاد توحيد الأسماء والصفات الإلحادُ فيها ، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ، والتمثيل ُ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل .
1_الإلحاد: الإلحاد في اللغة هو: الميل ، ومنه اللحد في القبر .
يضاد توحيد الأسماء، والصفات الإلحادُ فيها، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ ، والتمثيلُ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل.
ويُقصد بالملحدين: المائلين عن الحق.
أما في الاصطلاح: فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله .
والإلحاد في أسماء الله هو : العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها.
أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته :
1 ) أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة .
2 ) أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه ، كفعل أهل التمثيل .
3 ) أن يُسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه ؛ لأن أسماء الله توقيفية ، كتسمية النصارى له أباً ، وتسمية الفلاسفة إياه علة فاعلة ، أو تسميته بمهندس الكون ، أو العقل المدبر ، أو غير ذلك .
4 ) أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام ، كاشتقاق اللات من الإله ، والعُزَّى من العزيز
5 ) وصفه تعالى بما لا يليق به ، وبما ينزه عنه ، كقول اليهود : بأن الله تَعِبَ من خلق السماوات والأرض ، واستراح يوم السبت ، أو قولهم : إن الله فقير .(1/82)
2 _ التعطيل : التعطيل في اللغة : مأخوذ من العطل ، الذي هو الخلو والفراغ والترك ، ومنه قوله تعالى : [وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ] (الحج: 45) ، أي: أهملها أهلها ، وتركوا وردها .
وفي الاصطلاح : هو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات ، أو إنكار بعضه ، وهو نوعان :
أ_ تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات ، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً .
ب_ تعطيل جزئي : كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف ذلك من هذه الأمة الجعد بن درهم .
3_ التمثيل : هو : إثبات مثيل للشيء ، وفي الاصطلاح : اعتقاد أن صفات الله مثل صفات المخلوقين ، كأن يقول الشخص: لله يد كيدي .
4_ التكييف : حكاية كيفية الصفة كقول القائل : يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا ، أو يده طويلة ، أو غير ذلك ، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف .
5_ التفويض : هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة لا يعلمها إلا الله .
أو هو إثبات الصفات وتفويض معناها وكيفيتها إلى الله عز وجل.
والحق أن الصفات معلومة معانيها ، أما كيفيتها فيفوض علمها إلى الله عز وجل .
6 _ التحريف : التحريف لغة : التغيير .
وفي الاصطلاح : تغيير النص لفظاً أو معنى .
والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى ، وقد لا يتغير، فهذه ثلاثة أقسام :
أ_تحريف لفظي يتغير معه المعنى ، كتحريف بعضهم قوله تعالى: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء: 164) إلى نصب لفظ الجلالة ؛ ليكون التكليم من موسى عليه السلام .
ب_ تحريف لفظي لا يتغير معه المعنى ، كفتح الدال من قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الفاتحة : 2)، وذلك بأن يقول : الحمدَ لله. . . وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل ؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً .
جـ_ تحريف معنوي : وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك.(1/83)
7 _التأويل: التأويل في اللغة يدور حول عدة معانٍ منها : الرجوع والعاقبة والمصير والتفسير.
أما في الاصطلاح فيطلق على ثلاثة معان ٍ: اثنان منهما صحيحان مقبولان معلومان عند السلف، والثالث مبتدع باطل.
وإليك بيان هذه المعاني:
المعنى الأول : التفسير، وهو إيضاح المعنى ، وبيانه .
وهذا اصطلاح جمهور المفسرين كابن جرير وغيره ، فتراهم يقولون: تأويل هذه الآية كذا وكذا ، أي تفسيرها .
الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء ، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ](الأعراف: 53)، وقوله : [ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (الإسراء: 35)، وقوله عن يوسف عليه السلام : ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) .(1/84)
الثالث : صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر ، وهذا ما اصطلح عليه المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم ، كتأويلهم الاستواء بالاستيلاء ، واليد بالنعمة ، وهذا هو الذي ذمه السلف )) (1)
__________
(1) 80 ) أقول : أعلم رحمك الله : أن ما جاء في الفقرتين السادسة والسابعة بحاجة إلى نوع من التفصيل والبيان ، ودونك هو : قال الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين في (( شرح العقيدة الواسطية : 1 / 61 )) : (( فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي ، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع ، وإذا وقع فإنما يقع من جاهل ، فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل فمثلاً: فلا تجد أحداً يقول: "الحمد لله رب العالمين" بفتح الدال ، إلا إذا كان جاهلاً.. .هذا الغالب ، لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس . فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف ، يعني : تغيير اللفظ أو المعنى ، وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ، ويسمون أنفسهم بأهل التأويل ، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول ، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه ، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف ، لأنه ليس عليه دليل صحيح ، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا : تحريفاً ! ولو قالوا : هذا تحريف ، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم ، ولهذا عبر المؤلف ( أي أبن تيمية ) رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن ، فإن الله تعالى قال: { يحرفون الكلم عن مواضعه } [النساء : 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره ، لأنه أدل على المعنى .
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال ، وأقرب إلى العدل ، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً ، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل يجب البعد عنه والتنفير منه ، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل ، لأن التحريف لا يقبله أحد ، لكن التأويل لين ، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف ، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه ، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع : أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ) ، وقال الله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
والتأويل ليس بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
أ ) يكون بمعنى التفسير ، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى والسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام ، أي : جعلناه يؤول إلى معناه وسمي التفسير تأويلاً لأننا أولنا الكلام ، أي : جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى : عاقبة الشيء ، وهذا إن ورد في طلب ، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً ، وإن ورد في خبر ، فتأويله وقوعه......
(جـ) المعنى الثالث للتأويل : صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم ، فإن دل عليه دليل ، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير ، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف ، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل ،مثاله قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى { استوى } : استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل ، بل الدليل على خلافه )) [ بتصرف ، وأنظر ( المجموع : 3 / 165 ) ] .(1/85)
.
س 72 : أذكر الفرق التي ضلَّت في باب الأسماء والصفات ؟
ج : قال محمد بن إبراهيم الحمد في (( توحيد الأسماء والصفات : 29 )) : (( هناك فرق عديدة ضلت في هذا الباب منها :
1 الجهمية : وهم أتباع الجهم بن صفوان ، وهم ينكرون الأسماء والصفات .
2) المعتزلة : وهم أتباع واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وهم يثبتون الأسماء ، وينكرون الصفات ، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء .
3 ) الأشاعرة : وهم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهم يثبتون الأسماء، وبعض الصفات، فقالوا : إن لله سبع صفات عقلية يسمونها معاني هي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر والكلام ، وهي مجموعة في قول القائل:
حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذلك السمع والبصر
وإثباتهم لهذه الصفات مخالف لطريقة السلف .
4 ) الماتريدية : وهم أتباع أبي منصور الماتريدي ، وهم يثبتون الأسماء وبعض الصفات ، وإن كان هذا الإثبات مخالفاً لطريقة السلف
5 ) الممثلة : وهم الذين أثبتوا الصفات ، وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين ، وقيل إن أول من قال بذلك هو هشام بن الحكم الرافضي )) أ . هـ
وأعظم ما نهى الله عنه الشرك :
س 73 : ما هو الشرك وما هي أنواعه ووسائله ؟
ج : مفهوم الشرك : قال العلامة السعدي : (( إن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله .
فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص , وصرفه لغيره شرك وكفر , فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء , كما أن حد الشرك الأصغر هو كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة , فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر , (1).
أنواع الشرك وأقسامه :
__________
(1) 81 ) القول السديد في مقاصد التوحيد ص 16 ، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي.(1/86)
أولاً : الشرك أنواع منها :
النوع الأول : شرك أكبر يخرج من الملة ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} .
وهو أربعة أقسام :
1 _ شرك الدعوة : لقوله تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
2 ـ شرك النية والإرادة والقصد: لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ هود : 16 ] .
3 ـ شرك الطاعة : وهي طاعة الأحبار والرهبان وغيرهم في معصية الله تعالى ، قال سبحانه : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ التوبة : 31 ] .
4 ـ شرك المحبة : لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [ البقرة : 165 ] .
والخلاصة : أن الشرك الأكبر هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل: كأن يدعو غير الله ، أو يذبح لغير الله ، أو ينذر لغير الله ، أو يتقرب لأصحاب القبور، أو الجن والشياطين بشيء من أنواع العبادة ، أو يخاف الموتى أن يضروه ، أو يرجو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من قضاء الحاجات وتفريج الكربات ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصرف إلا لله عز وجل .(1/87)
النوع الثاني: شرك أصغر لا يخرج من الملة ومنه يسير الرياء ، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [ الكهف : 110 ] .
ومنه الحلف بغير الله ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) [ رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي : 2 / 99 ] .
ومنه قول الرجل : لولا الله وأنت ، أو ما شاء الله؛ وشئت .
ومن أنواع الشرك : شرك خفي: (( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل )) [ صحيح الجامع 3/233] ، وكفارته هي أن يقول العبد : (( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم ، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم )) .
قال أبن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتِك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل: لولا الله وفلان .
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) ، قال الترمذي : فُسِّرَ عند بعض أهل العلم أن قوله : فقد كفر أو أشرك على التغليظ والحجة في ذلك حديث أبن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم : سمع عمر يقول : وأبي و أبي ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : (( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم )) . [صحيح سنن الترمذي 2/92] وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : (( من قال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله )) [ صحيح سنن الترمذي 2/ 92 ] .(1/88)
ولعل الشرك الخفي يدخل في الشرك الأصغر فيكون الشرك شركان: شرك أكبر وشرك أصغر، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم رحمه الله (1).
أسباب ووسائل الشرك :
حذر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كل ما يوصل إلى الشرك ويسبب وقوعه ، وبين ذلك بيانًا واضحًا ، ومن ذلك على سبيل الإيجاز ما يأتي :
1 ـ الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى ، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم صلّى الله عليه وسلّم إلى الأرض على الإسلام ، قال أبن عباس ( رضي الله عنهما ) : ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام)) .
وبعد ذلك تعلق الناس بالصالحين ، ودب الشرك في الأرض، فبعث الله نوحًا صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى عبادة الله وحده ، وينهى عن عبادة ما سواه ، وردّ عليه قومه : {وَقَالُواْ لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} .
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت ٍٍ ٍ )) . [ رواه البخاري ] .
__________
(1) 82 ) أنظر : نور التوحيد وظلمات الشرك : 23 ، سعيد بن وهف القحطاني .(1/89)
وهذا سببه الغلو في الصالحين ؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور ، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين ، وأن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها ، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه الستور، ويطاف به ، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده ، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدًا ، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنَقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون
ولهذا حذّر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [ النساء : 171 ] .
2ـ الإفراط في المدح والتجاوز فيه ، والغلو في الدين : حذّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الإطراء فقال : (( لا تطروني كما أطرت النصارى أبن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله )) [ رواه البخاري ]. وقال صلّى الله عليه وسلّم : (( إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )) .(1/90)
3 ـ بناء المساجد على القبور، وتصوير الصور فيها : حذَّر صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذ المساجد على القبور، وعن اتخاذها مساجد؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم ؛ ولهذا لَمَا ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال : (( إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) [ رواه البخاري ] .
ومن حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمته أنه عندما نزل به الموت قال : (( لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) .
قالت عائشة رضي الله عنها : يحذر ما صنعوا . [ رواه البخاري ] .
وقال قبل أن يموت بخمس : (( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك )) [ رواه مسلم ] .
4 ـ اتخاذ القبور مساجد : حذّر صلّى الله عليه وسلّم أمته عن اتخاذ قبره وثنًا يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق ، فقال : (( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) .
5 ـ إسراج القبور وزيارة النساء لها : حذر صلّى الله عليه وسلّم عن إسراج القبور ؛ لأن البناء عليها ، وإسراجها ، وتجصيصها والكتابة عليها ، واتخاذ المساجد عليها من وسائل الشرك ، فعن أبن عباس رضي الله عنهما قال : (( لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )) .
6 ـ الجلوس على القبور والصلاة إليها : لم يترك صلّى الله عليه وسلّم بابًا من أبواب الشرك التي تُوصِّل إليه إلا سده ، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها )) [ رواه مسلم ] .(1/91)
7 ـ اتخاذ القبور عيدًا ، وهجر الصلاة في البيوت ، بيّن صلّى الله عليه وسلّم أن القبور ليست مواضع للصلاة ، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيدًا عن قبره أو قريبًا ، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيدًا : (( لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ، ولا تجعلوا قبري عيدًا ، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) [ صحيح سنن أبي داود : 1 / 383 ].
وقال صلّى الله عليه وسلّم : (( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام )) .
فإذا كان قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدًا ، فغيره أولى بالنهي كائنًا من كان .
8 ـ الصور وبناء القباب على القبور: كان صلّى الله عليه وسلّم يطهر الأرض من وسائل الشرك ، فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ (( ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته )) [ رواه مسلم ]
9 ـ شدّ الرّحال إلى غير المساجد الثلاثة : وكما سدّ صلّى الله عليه وسلّم كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : (( لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ) [ رواه البخاري ومسلم ] .
فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد ، وهو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا عندما ذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى الطور ، فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري : فقال : من أين جئت؟
قال: من الطور ، فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه ، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : (( لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد… )) [ صحيح سنن النسائي : 1 / 109 ] .(1/92)
ولهذا قال شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله في (( مجموع الفتاوى 1/234)) : (( وقد أتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلّى الله عليه وسلّم أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره ، بل ينهى عن ذلك )) .
10 ـ الزيارة البدعية للقبور من وسائل الشرك ؛ لأن زيارة القبور نوعان:
النوع الأول : زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم ، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة ، ولتذكر الموت – بشرط عدم شدِّ الرِّحال – ولاتباع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم .
النوع الثاني : زيارة شركية وبدعية ، وهذا النوع ثلاثة أنواع :
أ ـ من يسأل الميت حاجته ، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام.
ب ـ من يسأل الله تعالى بالميت ، كمن يقول : أتوسل إليك بنبيك ، أو بحق الشيخ فلان ، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام ، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرج عن الإسلام كما يُخرِج الأول.
ج ـ من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب ، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد ، وهذا من المنكرات بالإجماع .
11 ـ الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها من وسائل الشرك ؛ لِمَا في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذين الوقتين ، قال صلّى الله عليه وسلّم : (( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان )) [ رواه مسلم ] .
والخلاصة : أن وسائل الشرك التي توصل إليه : هي كل وسيلة وذريعة تكون طريقًا إلى الشرك الأكبر، ومن الوسائل التي لم تذكر هنا : تصوير ذوات الأرواح ، والوفاء بالنذر في مكان يُعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية ، وغير ذلك من الوسائل(1).
س74: ما الأدلة التي حذرت من الشرك ؟
ج : الأدلة كثيرة منها :
1 ) نهى الله تعالى عن الشرك وأمر بعبادته وحده فقال تعالى { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِه } [النساء : 36] .
__________
(1) 83 ) المصدر السابق : 19 .(1/93)
2 ) بَيَّن الله تعالى تحريمه وأن المشرك حرام عليه الجنة فقال تعالى { مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة : 72] .
3 ) بين الله تعال قبح الشرك وقبح اقترافه فقال تعالى { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31] .
4 ) وبين الله تعالى أن الشرك لا يغفره أبداً فقال تعالى { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء : 116] .
5 ) وبين الله تعالى أن الشرك محبط للأعمال فقال تعالى { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر : 65]
س75: ما هي الأبواب التي ولج المشركون منها إلى الشرك بالله تعالى ؟
ج : الأبواب كثيرة أهمها :
1 ) اتخاذ الأنداد والوسطاء لنيل القربى من الله تعالى ، كما قال الله تعالى عنهم { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر : 3] .
ومع هذه الحجة المتهافتة سمى الله تعالى أصحابها ومن يحتج بها كاذب كفَّار { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } .(1/94)
2 ) اتخاذ الأنداد والوسطاء لنيل الشفاعة ، كما قال تعالى عنهم { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18] .
3 ) تقليد الأباء والأجداد { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف : 23] .
وقال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] . وقال :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة : 104] .
وقال { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [لقمان : 21] .
ومن المعلوم أن إتباع الأباء والأجداد يكون محموداً إذا كانوا على الحق ، كما قال تعالى عن يوسف الصديق أنه قال { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [يوسف : 38] .
س76: ما الأسباب التي يتعلق بها المشركون ؟(1/95)
ج : لقد أتخذ المشركون لأنفسهم أسباباً وتعلقوا بها يريدون بها ومن خلالها الحصول على ما يريدون ويبتغون ، ولو أننا نظرنا إلى الكتاب والسنة لرأينا أن جميع هذه الأسباب قد قُطعت بسيف الشرع ولم يبقى لمتخذيها ومعتنقيها سوى الأحلام والأماني قال الإمام أبن القيم في (( مدارج السالكين : 1/ 343 )) : (( ... قد قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعا قطعا يعلم من تأمله وعرفه : أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، فقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع : إما مالك لما يريده عابده منه فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مترتباً متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً ونجاة وتجريداً للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها ... )) .
س77 : إنَّ مشركي زماننا أعظم شركاً من المشركين الأوائل وضح ذلك ؟
ج : لو عقدنا مقارنة بين المشركين الأوائل ومشركي هذا الزمان ، لوجدنا أن مشركي زماننا أعظم وأغلظ شركاً من الأولين وإليك البيان :(1/96)
1 ) أن المشركين الأوائل كانوا يشركون بالله في الرخاء ويوحدونه في الشدة ، وأما مشركو زماننا فشركهم دائم في الرخاء والشدة ، قال تعالى في الأولين { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [يونس : 22] .
وقال { َإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت : 65] .
2 ) إن المشركين الأوائل كانوا يوحدون الله في ربوبيته ، ويشركون في توحيد الإلهية ، أما مشركو زماننا فشركهم دائم في الربوبية والألوهية .
3 ) إنَّ المشركين الأوائل كانوا يعرفون معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وما تدل عليه ، ولكنهم رفضوا القبول بها والانقياد لها ،
كما قال تعالى { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [صـ : 5].
أما مشركو زماننا فإنهم يتلفظون بها ولكن دون العلم بمعناها وما تدل عليه من مقتضيات ومستلزمات ، ولهذا وقعوا بما يضادها ويناقضها من أقوال وأفعال ، فأصبح تلفظهم بها مجرد دعوى لا مضمون تحتها .
الثلاثة الأصول
س78: لماذا صدَّر المؤلف رحمه الله هذه المسألة بصيغة السؤال ؟
ج : لأنه أوقع في نفس السامع وأبلغ في تعليمه وأعمق في شد انتباهه كي يتنبه إلى ما سيلقى عليه من علم .(1/97)
قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرح الثلاثة الأصول : 37 )) : ((أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذه المسألة بصيغة السؤال وذلك من أجل أن ينتبه الإنسان لها ؛ لأنها مسألة عظيمة وأصول كبيرة ؛ وإنما قال: إن هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها لأنها هي الأصول التي يسال عنها المرء في قبره إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأقعداه فسألاه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد، وأما المرتاب أو المنافق فيقول هاها لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته )) .
س79 : عرف الأصول ؟
ج : الأصول جمع أصل وهو : ما بني عليه غيره فهو كالأساس بالنسبة للجدار .
قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرح الثلاثة الأصول : 37 )) : (( الأصول جمع أصل ، وهو ما يبنى عليه غيره ، ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه ، وأصل الشجرة الذي يتفرغ منه الأغصان ، قال الله تعالى : { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } {سورة إبراهيم : 24}. وهذه الأصول الثلاثة يشير بها المصنف رحمه إلى الأصول التي يسأل عنها الإنسان في قبره : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ )).
س80: ما معنى قوله من ربك ؟(1/98)
ج : أي من ربك وإلهك ومعبودك وخالقك ورازقك ، لأن لفظ الرب والإله من الألفاظ التي يصح أن يقال فيها (( إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت )). قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول : 25 )) : (( قال رحمه الله تعالى ( فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم )، ( معرفة العبد ربه ) يعني معرفة العبد معبوده ؛ لأن الربوبية في هذا المقام يُراد بها العبودية ، لما ؟ لأن الابتلاء للأنبياء والمرسلين لم يقع في معاني الربوبية ، ألم ترَ أن الله جل وعلا قال ؟ ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ? هذه مقتضيات الربوبية ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]. المشركون في كل زمان لم يكونوا ينازعون في تَوَحُّدِ الله جل وعلا في ربوبيته ، ولهذا فسر العلماء سؤال القبر من ربك ؟ بمن معبودك ؟ لما ؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية ، وقد سئل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى عن الفرق بين الربوبية والألوهية في بعض النصوص -في أحد الأسئلة التي وجهت إليه- فكان من جوابه أن قال: هذه مسألة عظيمة ، وذلك أن الربوبية إذا أطلقت ، أو إذا أفردت فإنه يدخل فيها الألوهية؛ لأن الربوبية تستلزم الألوهية ، وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، والألوهية تتضمن الربوبية. لأن الموحد لله جل وعلا في ألوهيته هو ضمنا مقر بأن الله جل وعلا هو واحد في ربوبيته ، ومن أيقن أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته استلزم ذلك أن يكون مقرا بأن الله جل وعلا واحد في استحقاق العبادة ، ولهذا تجد في القرآن أكثر الآيات فيها إلزام المشركين بما أقروا به ألا وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية ، من مثل(1/99)
قول الله جل وعلا في سورة الزمر ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ? هذا توحيد الربوبية قال بعدها ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ?[الزمر:38]، قال ( قُلْ أَفَرَأَيْتُم ْ) والفاء هنا رتبت ما بعدها على ما قبلها ؛ وما قبلها هو توحيد الربوبية وما بعدها هو توحيد الإلهية .
ولهذا في القرآن يكثر أن يحتج على المشركين بإقرارهم بتوحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية ، لهذا قال جل وعلا ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:80] المعنى بـ( أَرْبَابًا ) أي معبودين وكذلك قوله تعالى ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه ِ?[ التوبة:31 ]، يعني معبودين لأن عدي أبن حاتم لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إنا لم نعبدهم. ففهم معنى الربوبية في الآية معنى العبادة ، وهذا هو الذي يفهمه من يعرف اللسان العربي، قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما هو معروف-: (( ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه ، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه )) قال: بلى.
فقال: (( فتلك عبادتهم )). إذن الربوبية تطلق ويراد منها العبودية في بعض المواضع ، تارة بالاستلزام ، وتارة بالقصد. وبعض علمائنا قال إن لفظ الألوهية والربوبية يمكن أن يُدخل في الألفاظ التي يقال إنها إذا اجتمعت تفرقت وإذا تفرقت اجتمعت )) .
س81 : بماذا تجيب إذا ما سئلت من ربك ؟ …(1/100)
ج : أجاب المؤلف رحمه الله بقوله (( فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه هو معبودي ليس لي معبود سواه والدليل قوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } {سورة الفاتحة ، الآية: 2} .
وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم…)) .
قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرح الثلاثة الأصول : 40 )) : (( ويشعر كلام المؤلف رحمه الله أن الرب مأخوذ من التربية لأنه قال: "الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه" فكل العالمين قد رباهم الله بنعمه وأعدهم لما خلقوا له ، وأمدهم برزقه قال الله تبارك وتعالى في محاورة موسى وفرعون : { فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } {سورة طه ، الآيتين: 49-50}. فكل أحد من العالمين قد رباه الله عز وجل بنعمه.
ثم قال : أستدل المؤلف رحمه الله لكون الله سبحانه وتعالى مربياً لجميع الخلق بقوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } {سورة الفاتحة، الآية: 2} يعني الوصف بالكمال والجلال والعظمة لله تعالى وحده.
{ رب العالمين } أي مربيهم بالنعم ، وخالقهم ومالكهم ، والمدبر لهم كما شاء عز وجل )) .
س82: ما معنى التربية ؟
ج : هي الرعاية التي يكون بها تقويم المربى والأخذ به في طريق النضج والكمال .
قال الشيخ علي بن حسن الحلبي : (( وصفوة القول أن كلمة التربية تطلق في اللغة على النماء والزيادة والرفعة .
وتطلق أيضاً على التنشئة والتغذية ، والتغذية أعم من أن يكون الغذاء مادياً أو معنوياً .
ويمكن بعد هذا التحليل استخلاص النتائج التالية للمعنى التربوي :
1 ) إنَّ المربي الحق على الإطلاق هو الله تعالى ، لأنه الخالق ، خالق الفطرة ، وواهب المواهب ، وهو الذي سنَّ سنناً لنموها وتدرجها وتفاعلها ، كما أنه شرع شرعاً لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها ....
2 ) إنَّ التربية لابد أن تستضيء بنور الشريعة الإلهية وتسير وفق أحكامها وصلاحها .(1/101)
3 ) إنَّ التربية عملية هادفة لها أغراضها وأهدافها وغايتها .
4 ) إنَّ التربية تقتضي خططاً متدرجة يترتب بعضها على بعض ، وينبني بعضها على بعض ، فكل منها قائم على ما سبقه ، يُعِدُّ لما بعده ......
والمعنى الاصطلاحي للتربية هو : العمل بمختلف الأساليب والوسائل التي لا تتعارض مع شرعة الإسلام على رعاية الإنسان وتعهده حتى يصير سيداً في هذه الأرض ، سيادة محكومة بالعبودية التامة لله رب العالمين .
وهذا كله يجعلنا نقف بجلاء ووضوح على حقيقة التربية ، وآثارها ، وأن ذلك ينتظمه ثلاثة أصول :
الأول : أنَّ التربية يجب أن تركز على بعث عقيدة التوحيد وتطهير حياة الأمة من البدع والانحرافات كمقدمة لتأهيل الأمة لحمل الإسلام مرة ثانية .
الثاني : أن مقياس التربية السليمة هو قيامها على أصول مستمدة من القرآن والسنة ، وانسجامها مع تطبيقات السلف ، وإعادة توصيل المُتَعَلِّم بالقرآن والسنة دون حاجة لوسطاء في الفهم والاستنباط .
الثالث : أن التربية لا يمكن فصلها عن التوجيه العام للمجتمع ، وهي ترتبط بالحياة اليومية وما يتفاعل خلالها من المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد والممارسات الإدارية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك .
فمن فَهِم هذا التأصيل ووعاه عرف بصدق معنى التربية وحقيقتها ، وأيقن أن التربية التي نريد هي : تربية الجيل الناشئ على الإسلام المصفى من كل ما ذكرنا ، تربية صحيحة منذ نعومة أظفاره دون التأثر بالتربية الغربية الفاجرة . )) . (1)
س83: ماذا تقول إذا سئلتَ : بم عرفت ربك ؟
ج : قال المؤلف رحمه الله : (( فقل : بآياته ومخلوقاته ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما ، والدليل قوله تعالى :
__________
(1) 84 ) التربية والتصفية : 100 [ بتصرف ] .(1/102)
{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ سورة فصلت آية 37]
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } . [ سورة الأعراف : آية 54] .(1/103)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول : 29 )) : (( والشيخ رحمه الله ها هنا فرق بين الآيات والمخلوقات ، مع أنه في القرآن ما يثبت أن السماوات والأرض من الآيات. فلما فرَّق ؟ الجواب أن تفريق الشيخ رحمه الله تعالى بينهما دقيق جداً، وذلك أن الآيات جمع آية ، والآية هي البينة الواضحة الدالة على المراد، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ?[الشعراء:190] يعني دلالة بينة واضحة على المراد منها، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ?[الحجر:75] يعني لدلالات واضحات بينات على المراد منها ، وهنا ننظر إلى أنه بالنسبة لمن سئل هذا السؤال، كون الليل والنهار والشمس والقمر آية أظهر منه عند هذا المسؤول أو المجيب من السموات والأرض ، لما ؟ لأن تلكمُ الأشياء التي وصفت بأنها آيات متغيرة متقلبة ، تذهب وتجيء ، أما السماء فهو يصبح ويرى السماء ، ويصبح ويرى الأرض ، فإِلفُه للسماء وللأرض يحجب عنه كون هذه آيات ، لكن الأشياء المتغيرة التي تذهب وتجيء، هذه أظهر في كونها آية، ولهذا إبراهيم الخليل عليه السلام طلب الاستدلال بالمتغيرات، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ?[الأنعام:75-76]، لما ؟ لأنه استدل بهذه الحركة على الحدوث ، استدل بهذا التنقل على أنه آية لغيره ، فلما رأى القمر بازغاً استدل بالقمر ، فلما رأى الشمس بازغة استدل بالشمس لأنها متغيرات ، أما السماوات والأرض فهي آيات ، لكنها في الواقع عند الناظر ليست مما يدل دلالة ظاهرة واضحة على المراد عند مثل المسؤول هذا السؤال، مع كونها عند ذوي الفهم وذوي الألباب العالية أنها آيات ، كما وصفها الله جل وعلا في كتابه ،(1/104)
الشمس والقمر والليل والنهار متغيرات تقبل وتذهب ، فهي آيات ودلالات على الربوبية ، وأن هذه الأشياء لا يمكن أن تأتي بنفسها ، لكن السماء ثابتة، الأرض ثابتة ينظر إلى هذه وهذه ، وتلك متغيرات والتغير يثير السؤال ، لما ذهب ؟ ولما جاء ؟ لما أتى الليل ؟ ولما أتى النهار ؟ لما زاد الليل ؟ ولما نقص النهار ؟ وهكذا فهي في الدلالة أكثر من دلالة المخلوقات مع أن في الجميع دليلا ودلالة، لهذا قال (فإذا قيل لك بما عرفت ربك ؟ قل بآياته ومخلوقاته) فالآيات تدل على معرفة الله والعلم بالله، وكذلك المخلوقات تدل على العلم بالله والمعرفة بالله، لكن ما سمّاه آيات أخص مما سمّاه مخلوقات ... )) .
س84: ما معنى قول المؤلف (( الرب هو المعبود )) ؟
ج : أستدل المؤلف رحمه الله بأن الرب _ الذي هو الإله والخالق والمعبود والرازق _ هو المستحق للعبادة ، وأستدل بقوله تعالى { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } . قال أبن كثير رحمه الله تعالى : الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة .
وإنما قيل بأن كلمة المعبود بمعنى المستحق للعبادة لدلالتين ظاهرتين :-
أما الدلالة الأولى : فما ذكره المصنف يرحمه الله بعد من قول لابن كثير يرحمه الله وهو قول أبن كثير رحمه الله : ( الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة ) ، فنص على كلمة المستحق في قوله : ( المستحق للعبادة ) المفهمة لمعنى الاستحقاق في قول المصنف يرحمه الله : ( هو المعبود ) أي المستحق للعبادة.(1/105)
وأما الدلالة الثانية : فما أورده من آية بعد ، وفي آخرها قول الله تعالى ( فلا تجعلوا لله أنداد ) . وهذا قطع لأسباب الشرك وحقائقه ، فدل على أن الله هو الموحَد ، وهو المستحق للعبادة ، فيكون التقدير في كلام المصنف السابق ( والرب هو المعبود ) ، يكون التقدير ( والرب هو المستحق للعبادة ) ومن ثم صح الاستدلال عليها بالآية ، وما أورده عن أبن كثير ـ رحمه الله ـ.
أما الآية فهي قول الله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم .. } إلى آخر الآية . وهذه الآية فيها دلالتان على المقصود :-
أما الدلالة الأولى : فهي قوله سبحانه ( اعبدوا ) واعبدوا هنا يقصد به تجريد العبادة لله ، لا العبادة الشركية ؛ لأنه سبق أن العبادة في أفعال الناس وما إليه تأتي على شقين ، عبادة شركية ، وعبادة على وجه تمحيض وتجريد لله - سبحانه وتعالى - ، فالثانية هي المقصودة.
وأما الدلالة الثانية : فقوله سبحانه ( فلا تجعلوا لله أندادا ) أنداداً فسرها أبن عباس رضي الله عنهما بأنه الشرك ، كما أخرجه عنه الطبري في (( تفسيره )) ، وكذا غيره فيكون تقدير الآية : ( فلا تجعلوا لله شركاء أو شركاً في عبادتكم ).
ثم ذكر المصنف ـ يرحمه الله ـ قولة أبن كثير في هذه الآية : ( الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة )
وهذه الآية ظاهرة واضحة على المقصود ، ولذلك سبق ذكر الدلالتين فيها ، وقد لخص المصنف يرحمه الله قولة أبن كثير ، فأبن كثير ـ يرحمه الله ـ لم يقل هذه العبارة بنصها وإنما أسهب وأطال ، فلخص المصنف يرحمه الله جماع مقصود ابن كثير في هذه العبارة الوجيزة ، والتصرف في حكاية عبارات الأئمة يقع كثيراً من الأئمة ، وقد جوز جمهور المحدثين حكاية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى وفق شروط وضوابط ، فغير كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب أولى . (1)
__________
(1) 85 ) مفتاح الوصول شرح الثلاثة الأصول : 75 ، محمد بن صالح الأسمري(1/106)
س85 ما معنى قول المؤلف (( وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان .... إلخ ؟
ج : لأن العبادات التي جاء بها الشرع إنما تتوزع على هذه المراتب الثلاث التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين كما جاء ذلك في حديث جبريل المشهور ، لهذا نرى المؤلف رحمه الله بعد ذلك راح يذكر هذه العبادات على سبيل التمثيل والتوضيح ، ثم قال (( فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر ، والدليل قوله تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } )) .
والعبادة هي أسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال ، ولهذا لا ينبغي للعبد ولا يجوز له أن يصرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله تعالى .
س86 : ما الأدلة التي من خلالها نعرف أن هذه الأمور من العبادات التي يثيب الله عليها ، وأن من صرفها لغير الله شرك ؟
ج : قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول: 40 )) : (( بعد ذلك شرع المؤلف -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من العبادات , وذكر الخوف , وذكر الرجاء , وذكر الرغبة , وذكر الرهبة, وذكر الخشوع , وذكر التوكل, وذكر أشياء , والذبح والنذر, إلى آخره.
فكأنَّ قائلا قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي من صرَفها لغير الله جل وعلا كَفر؟ هو يسوق الأدلة , والأدلة على هذه المسألة على نوعين:(1/107)
الأول: أن يُستدل بدليل يُثبت كون تلك المسألة من العبادة , يثبت كون الخوف من العبادة، يثبت كون الرجاء من العبادة، فإذا ثبت كونه من العبادة، أُستدل بالأدلة السابقة كقوله ? وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا? [الجن:18]، وقوله « الدعاء هو العبادة », « الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة », ? إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي? [غافر:60]، ونحوها من الأدلة العامة ؛ بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
إذن النوع الأول متركب من شيئين ، الأول أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة ؛ على أن الخوف من العبادة ، على أن الرجاء من العبادة ، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة ، استدللتَ بالأدلة العامة على أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، هذا نوع.
النوع الثاني: خاص : وهو أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص ، يُثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة .
وهذا مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم في مقامات الاستدلال ، لأن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم مما يقوي الحجة. تُنوِّع الاستدلال مرة بأدلة مجملة ، مرة بأدلة مفصلة ، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة حتى لا يُتوهَّم أنه ليس ثم إلا دليل واحد يمكن أن ينازع المستدل به الفهم، فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى والبرهان أجلى.
بدأ في ذكر هذه الأدلة، بعضها من النوع الأول وبعضها من النوع الثاني .
س87: عرف الدعاء ؟
ج : الدعاء : هو طلب العبد من ربه ما يحتاجه من أمور دينه ودنياه ، وهو من أهم مقتضيات توحيد الألوهية ، وحقيقته إفراد الله سبحانه بالدعاء بأنواعه ، وهو من الأسباب المأمور بالأخذ بها لجلب خير أو دفع ضر ، وفي ادعاء معان كثيرة منها :
1 : إظهار الافتقار إلى الله تعالى .(1/108)
2 : إظهار الخضوع و الذلة والانكسار بين يدي الله أثناء الدعاء .
3 : التبرؤ من الحول والقوة واضافتها لله سبحانه .
4 : الدعاء يجب أن يتضمن الثناء على الله سبحانه بما يجب من أسماءه الحسنى وصفاته العلى امتثالا لقوله تعالى ? وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? [الأعراف : 180] .
س88 : إلى كم قسم ينقسم الدعاء ؟
ج : قال الشيخ أن عثيمين في : (( شرح الثلاثة الأصول : 52 )) : (( وأعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة .
فدعاء المسألة هو دعاء الطلب أي طلب الحاجات وهو عبادة إذا كان من العبد لربه ، لأنه يتضمن الافتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه ، واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة. ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة كما سبق في قوله القائل يا فلان اطعمني.
وأما دعاء العبادة فأن يتعبد به للمدعو طلباً لثوابه وخوفاً من عقابه وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج من الملة وعليه يقع الوعيد في قوله تعالى: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } {سورة غافر، الآية: 60}.(1/109)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول : 34 )) : (( إن الدعاء في القرآن جاء بمعنيين ، جاء ويراد به العبادة ، وجاء ويراد به المسألة. فمثلا في قوله تعالى ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي?[غافر:60]، ظاهر أن الدعاء المراد به العبادة ؛ لأنه قال ? إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? [غافر:60]، وكذلك في قوله تعالى مخبراً عن قول إبراهيم عليه السلام ?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا?[مريم:48]، قال جل وعلا بعد ذلك ?فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[مريم:49]، وفي الآية الأولى أخبر عن إبراهيم أنه قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) ثم قال جل وعلا (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) أي وما تعبدون؛ لأن الله جل وعلا قال بعدها (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)، وهذا من الأدلة الظاهرة من أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقد أُورد على أئمتنا رحمهم الله تعالى -حين قرروا التوحيد في مقالهم وفي كتبهم- أن هذه الآية إنما هي دليل للمسألة، وأما غيرها مما تَدَّعون أنه عبادة وأن هذه الآية فيها نهي عنه؛ كالذبح والنذر ونحو ذلك أنه لا يدخل في الآية.
فكان الجواب: أن الدعاء نوعان : دعاء عبادة ودعاء مسألة، هذا يأتي في القرآن وذاك يأتي في القرآن، والآية تشمل النوعين ؛ لأن الدعاء إذا كان في القرآن يأتي تارات لهذا وتارات لهذا ، فتحديده في هذه الآية بأحد النوعين ونفي النوع الآخر ، هذا نوع تحكم وهو ممتنع )) .
س89: ما الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة ؟(1/110)
ج : يتبين الفرق بينهما من خلال النظر في النقاط التالية مع أن كلاً منهما لا يجوز التوجه به إلا لله وحده :
1 ) دعاء المسألة طلب نفع ودفع ضر ، بعكس دعاء العبادة فذل وخضوع وانكسار تام .
2 ) دعاء المسألة من قبيل توحيد الربوبية ، أما دعاء العبادة فمن قبيل توحيد الألوهية .
3 ) دعاء المسألة لا يختص بالمؤمنين ، أما العبادة فيختص بالمؤمنين فقط .
4 ) دعاء المسألة داخل في الأمور الكونية ، أما دعاء العبادة فداخل في الأمور الشرعية.
5 ) يجتمعان بأن دعاء المسألة ودعاء العبادة إذا توجه بهما العبد إلى الله تعالى فلابد وأن يكونا مقترنين بالرغبة والرهبة كما قال تعالى { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء : 90] .
س90 : قال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60] .
بماذا فسر السلف قوله تعالى ((أَسْتَجِبْ )) ؟
ج : فسر السلف قوله تعالى (( أستجب )) بتفسيرين :
الأول : أستجب بمعنى أعطكم ما سألتم .
الثاني : أستجب بمعنى أثبكم .
فإذا كانت الاستجابة بمعنى أثبكم فيكون الدعاء هنا دعاء العبادة لأنه هو المتعلق به الثواب .
وإذا كانت الاستجابة بمعنى أعطكم فيكون الدعاء هنا دعاء المسألة .
قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في (( تيسير الكريم الرحمن تفسير كلام المنان : 1040 )) : (( هذا من لطفه بعباده ، ونعمته العظيمة ، حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، وأمرهم بدعائه ، دعاء العبادة ، ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم ، وتوعد من استكبر عنها فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي: ذليلين حقيرين، يجتمع عليهم العذاب والإهانة، جزاء على استكبارهم )).(1/111)
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في (( أضواء البيان : 7 / 61 )) : (( قال بعض العلماء {أدعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}: اعبدوني أثبكم من عبادتكم، ويدل لهذا قوله بعده: {إِنَّ الذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين}.
وقال بعض العلماء: {ادْعُونِي? أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي اسألوني أعطكم .
ولا منافاة بين القولين ، لأن دعاء الله من أنواع عبادته .
س91: متى يصبح الدعاء شركاً ؟
ج : فمن دعا غير الله عز وجل بشيء لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو حياً أو ميتاً . ومن دعا حياً بما يقدر عليه مثل أن يقول يا فلان أطعمني ، يا فلان اسقني فلا شيء فيه ، ومن دعا ميتاً أو غائباً بمثل هذا فإنه مشرك لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل على أنه يعتقد أن له تصرفاً في الكون فيكون بذلك مشركاً (1) .
س92 : عرف الخوف ؟
ج : الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرراً أو أذى ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده (2).
والخوف عبادة من العبادات مورده القلب ولكن تظهر أثاره على الجوارح .
س93: أذكر أنواع الخوف ؟
ج : والخوف ثلاثة أنواع:
النوع الأولى: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب } {سورة القصص، الآية: 18} لكن إذا كان هذا الخوف كما ذكر الشيخ رحمه الله سبباً لترك واجب أو فعل محرم كان حراماً ؛ لأن ما كان سبباً لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ودليل قوله تعالى: { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } {سورة آل عمران، الآية: 175} .
والخوف من الله تعالى يكون محموداً ، ويكون غير محمود .
__________
(1) 86 ) شرح الثلاثة الأصول : 51 ، للشيخ أبن عثيمين .
(2) 87 ) شرح الثلاثة الأصول : 52 للعلامة أبن عثيمين .(1/112)
فالمحمود ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات، فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه.
وغير المحمود ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة أن يخاف أحداً يتعبد بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى. وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر كأن يخاف صاحب القبر ، أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة سر فهذا أيضاً ذكره العلماء من الشرك (1).
س94: عرف الرجاء ؟
ج : الرجاء أيضا عبادة قلبية ، حقيقتها الطمع بالحصول على شيء مرجو , الرغبة بالحصول على شيء ، يرجو أن يحصل على هذا الشيء.
فإن كان الرجاء لشيء ممن يملك ذلك الشيء فإن هذا رجاءٌ طبيعي؛ أرجو أن تحضر لأنه يمكنك أن تحضر ، أرجوك أن تفعل، يمكنك أن تفعل، هذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة.
النوع الثاني هو رجاء العبادة ، وهو أن يطمع في شيء لا يملكه إلا الله جل وعلا، أن يطمع في شفائه من مرض، يرجو أن يشفى، يرجو أن يدخل الجنة وينجو من النار، يرجو أن لا يصاب بمصيبة ونحو ذلك، هذه أنواع من الرجاء ، لا يمكن أن تُرجى وتُطلب وتُؤمل إلا من الله جل وعلا، وهذا هو معنى رجاء العبادة.
فالرجاء منه ما هو رجاء عبادة ومنه ما هو رجاء ليس من العبادة ، والمقصود ها هنا هو رجاء العبادة.
__________
(1) 88 ) المصدر السابق : 53 .(1/113)
قال جل وعلا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) هذا النوع من الرجاء امتدح الله جل وعلا من قام به، قال (مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) فدل على أن هذا الرجاء ممدوحٌ مَنْ رجاهُ ، وإذا كان ممدوحا قد مدحه الله جل وعلا فهو مرضي عند الله جل وعلا، فيصدق عليه حد العبادة من أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا -من نص هذه الآية- داخل فيما يرضاه الله جل وعلا، لأنه أثنى على من قام به ذلك الرجاء ، وقوله هنا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)، (اللقاء) فُسر بالملاقاة ، وفُسر بالمعاينة ، وفُسر بالرؤية ؛ رؤية الله جل وعلا, ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّه ) لملاقاة الله جل وعلا والرجوع إليه ، أو فمن كان يرجو رؤية ربه، لأن اللقاء يحتمل هذا وذاك وهما تفسيران مشهوران عن السلف (1).
وقوله : ( لقاء ) : اللقاء نوعان :-
أما اللقاء الأول : فلقاء عام ، يقع لكل الخلق ، وهذا في الآخرة.
وأما اللقاء الثاني : فلقاء خاص ، وهو ما خُص به المؤمنون من لقاء تلذذ ونعيم بالله - سبحانه وتعالى - ، فمن أراد اللقاء الثاني الذي هو لقاء نعيم وتلذذ ، فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بربه أحداً .
( عملاً صالحاً ) : قال القاضي عياض :( أخلصه وأصوبه ) .
أما : أخلصه فهو أن يكون خالصاً لله ، وأما : أصوبه فهو أن يكون صواباً على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( ولا يشرك بعباده ربه أحدا ) : هذا نهي عن الشرك ، ودلالته ظاهرة بما سبق شرحه من آيات (2) .
س 95 : ما مذهب أهل السنة في الجمع بين الخوف والرجاء ؟
__________
(1) 89 ) شرح الثلاثة الأصول : 43 ، للشيخ صالح آل الشيخ .
(2) 90 ) مفتاح الوصول شرح ثلاثة الأصول : 81 للأسمري .(1/114)
ج : مذهبهم في ذلك أنه لابد أن يعبد العبد ربه بهما أي أن يعبد الله تعالى راغبًا راهبًا ، كما قال تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين ( ، وقال تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين ( ؛ وذلك لأنه من عبد الله بالرجاء وحده أمن من مكر الله ، ومن عبده بالخوف وحده وقع في اليأس من رحمة الله وقنط من روح الله ، ومن عبده بالخوف والرجاء فهو الموحد المهدي إلى الصراط المستقيم ، ولابد من استوائهما فلا يغلب الخوف على الرجاء ، ولا يغلب الرجاء على الخوف فيهلك ، وهذه صورة من صور الوسطية إلا أنه إذا كان هناك مقتضى لتغليب أحدهما فإنه يغلبه وإلا فالأصل استوائهما ، وذلك كما إذا كان العبد يعالج سكرات الموت فلابد من تغليب جانب الرجاء حتى يحصل له إحسان الظن بربه كما في الحديث : (( أنا عند ظن عبدي بي )) ، وفي الحديث الآخر : (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه )) ، وطريق إحسان الظن تغليب الرجاء ، ومثال آخر : عند التوبة من الذنوب والمعاصي فإنه لابد أن يغلب جانب الرجاء ، ومثال آخر : عند تحديث النفس بفعل شيء من الذنوب فإنه لابد أن يغلب جانب الخوف لتنزجر النفس عن ذلك ، وعلى ذلك فقس ، وبه تعلم أن الخشية إنما هي اجتماع الخوف والرجاء ، والله أعلم .
س96 : ما الفرق بين الترجي والتمني ؟
ج : قال العلامة محمد بن صالح العثيمين في (( شرح المقدمة الآجرومية : 139 )) : (( الرجاء طلب ما يقُرب حصوله للشيء القريب ...... الأصل أن يكون التعبير عن التمني بـ (( ليت )) وعن الترجي بـ (( لعل )) هذا الأصل ، لكن قد يكون العكس ، قد تأتي (( لعل )) في أمر مستحيل ، قال فرعون { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } [غافر : 37] .(1/115)
هذا ترج أو تمن ؟ هذا تمن لأنه مستحيل لكنه قال : لعل ....... المهم أن نقول : الفرق بين التمني والترجي : إذا كان التعلق بأمر مستحيل أو متعذر فهذا تمن ، وإذا كان بأمر قريب فهذا ترج )) .
س97 : عرف التوكل ؟
ج : والتوكل هو صدق الاعتماد على الله عز وجل في جلب المحبوب ودفع المكروه , وهذا يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به لفظاً وعقداً ، أما لفظاً فلا يجوز أن تقول: توكلت على فلان ، إنما تقول: وكلت فلاناً ، وأما عقداً فلا يجوز أن تركن بقلبك وأن تعتمد على غير الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، بل يجب تمحيض الاعتماد وتخليصه من كل نظرٍ إلى مخلوق أو سبب .
قال رحمه الله في الاستدلال على التوكل: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } أي: كافيه، وهذا فيه الأمر بالتوكل، وفيه أن المتوكل على الله يحصّل مطلوبه (1).
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين في (( القول المفيد على كتاب التوحيد : 2 : 47 )) : (( والتوكل : هو الإعتماد على الله – سبحانه وتعالى – في حصول المطلوب ، ودفع المكروه ، مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها ، وهذا أقرب تعريف له ، ولابد من أمرين :
الأول : أن يكون الاعتماد على الله اعتماداً صادقاً حقيقياً .
الثاني : فعل الأسباب المأذون فيها .
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب ، نقص توكله على الله ، ويكون قادحاً في كفاية الله ، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه .
ومن جعل اعتماده على الله ملغياً للأسباب ، فقد طعن في حكمة الله ، لأن الله جعل لكل شيء سبباً ، فمن اعتمد على الله اعتماداً مجرداً ، كان قادحاً في حكمة الله ، لأن الله حكيم ، يربط الأسباب بمسبباتها ، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج .
__________
(1) 91) شرح الأصول الثلاثة : 32 للشيخ خالد بن عبد الله المصلح .(1/116)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم المتوكلين ، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب ، فكان يأخذ الزاد في السفر ، ولما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين ، أي : لبس درعين اثنين ، ولما خرج مهاجراً أخذ من يدله الطريق ?2?، ولم يقل سأذهب مهاجراً وأتوكل على الله ، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتقى الحر والبرد ، ولم ينقص ذلك من توكله .
ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد ، فجيء بهم إلى عمر ، فسألهم ، فقالوا : نحن المتوكلون على الله ، فقال : لستم المتوكلين ، بل أنتم المتواكلون .
والتوكل نصف الدين ، ولهذا نقول في صلاتنا : ? إياك نعبد وإياك نستعين ? [ الفاتحة : 5 ] فنطلب من الله العون اعتماداً عليه سبحانه بأنه سيعيننا على عبادته .
وقال تعالى : ? فاعبده وتوكل عليه ? [ هود : 123] ، وقال تعالى : ? عليه توكلت وإليه أنيب ? [ هود : 88] ، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل ، لأن الإنسان لو وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز ولم يتمكن من القيام بالعباده فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله ، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل ، ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل ، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والإعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل ، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك ، فيفوتنا ثواب عظيم ، وهو ثواب التوكل ، كما أننا لا نوفق إلى حصول المقصود كما هو الغالب ، سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها )) .
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرح الأربعين النووية : 305 )) : (( والتوكل على الله - سبحانه وتعالى- من أعظم المقامات ؛ مقامات الإيمان ، بل هو مقام الأنبياء والمرسلين في تحقيق عبوديتهم العظيمة للرب -جل وعلا- .(1/117)
والتوكل على الله معناه : أن يفعل السبب الذي أُمر به ، ثم يفوض أمره إلى الله -جل وعلا- في الانتفاع بالأسباب ، وإذا كان ما لديه من الأمر لا يملك أن يفعل له سببا فإنه يفوض أمره إلى الله جل وعلا [ سورة غافر : 44 ] وهذا التفويض إلى الله -جل وعلا- عمل القلب خاصة ، يعني: أن يلتجئ بقلبه ، وأن يعتمد بقلبه على الله -جل وعلا- في تحصيل مراده ، أو دفع الشر الذي يخشاه ، والعباد إذا تعامل معهم فإنما يتعامل معهم على أنهم أسباب ، والسبب قد ينفع ، وقد لا ينفع ، فإذا تعلق القلب بالخلق أوتي من هذه الجهة ، ولم يكن كاملا في توكله .
فتعلق القلب بالخلق مذموم ، والذي ينبغي : أن يتوكل على الله ، وأن يعلق قلبه بالله -جل وعلا- ، وألا يتعلق بالخلق ، حتى ولو كانوا أسبابا ، فينظر إليهم على أنهم أسباب ، والنافع والذي يجعل السبب سببا ، وينفع به هو الله -جل وعلا- .
إذا قام هذا في القلب فإن العبد يكون مع ربه -جل وعلا- ، ويعلم أنه لن يكون له إلا ما قدره الله -جل وعلا- له ، ولن يمضي عليه إلا ما كتبه الله -جل وعلا- عليه )) .
س98 : أذكر أنواع التوكل ؟
ج : أعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان وعلامات صدقه وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به وسبق دليله.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة ، أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفاً سرياً في الكون ، ولا فر ق بين أن يكون نبياً ، أو ولياً ، أو طاغوتاً عدوا لله تعالى.(1/118)
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه فهذا نوع من الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والإعتماد عليه. أما لو أعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به، إذا كان للمتوكل بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة ، والإجماع فقد قال يعقوب لبنيه { يا بني أذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } {سورة يوسف، الآية: 87} ووكل النبي صلى الله عليه وسلم ،على الصدقة عمالاً وحفاظاً ، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها وجلالها ، وأن ينحر ما بقى من المئة بعد أن نحر صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين. وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة (1) .
س99 : عرف الرغبة والرهبة والخشوع ؟
ج : قال المصنف ـ يرحمه الله ـ : ( ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين } .
( الرغب ) : هو طلب الشي مع ميل إليه وإرادة تحصليه والظفر به .
( والرهب ) : ضده .
( والخشوع ) : هو الطمأنينة ، يقال هذا محل خاشع ، أي مطمئن ، أي منخفض عن غيره ، وأما الخشوع في استعمالات كثيرة فيأتي بمعنى السكون .
والخشوع هي حالة تقع للإنسان في عبادته ، يتعبد الله بها ، فإذا وقعت هذه العبادة أو عبادة الرغبة والرهبة لغير الله - سبحانه وتعالى - فقد أشرك الإنسان بالله .
__________
(1) 92 ) شرح الثلاثة الأصول : 55 للعلامة أبن عثيمين .(1/119)
والدليل ما ذكره المصنف يرحمه الله ، ولذلك قال - سبحانه وتعالى - : { ويدعوننا رغباً ورهباً } بعد قوله تعالى : { يسارعون في الخيرات } والخيرات هي مطلق العبادات والطاعات ، فدل على أن العبادات ومنها الرغبة والرهبة والخشوع ، لا تصرف إلا لله - سبحانه وتعالى - ، وهذه دلالة فيها ضعف ؛ ولكنها من الدلائل التي تذكر للآية لإيراد المصنف لها ، وعلى كلٍ فمجمع على أن العبادة مطلقاً لا تصرف إلا لله - سبحانه وتعالى - ، ومن ذلك عبادة الرهبة والرغبة والخشوع (1).
س100: عرف الخشية ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرح الثلاثة الأصول : 56 )) : (( الخشية هي الخوف المبني على العلم بعظمة من يخشاه وكمال سلطانه ، لقول الله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } {سورة فاطر، الآية: 28} أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه فهي أخص من الخوف ، ويتضح الفرق بينهما بالمثال فإذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا فهذا خوف ، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية . ويقال في أقسام أحكام الخشية ما يقال في أقسام الخوف )) .
والخشية : هي خوف وزيادة ، ولذلك فرّق المصنف بين عبادة الخوف والخشية بإيرادهما في مساق أمثلة على العبادة ، ومن ثم قال قوله تعالى { فلا تخشوهم واخشوني } أي : فيه دلالة على النهي عن خشية غير الله - سبحانه وتعالى - ، أو مثل خشية الله سبحانه وتعالى .
والخشية نوعان ـ كالخوف ـ أي : من حيث إخراج الإنسان من ملة الإسلام وعدمه :
الأول : خشية مخرجة من الملة ، كأن يخشى غير الله كخشية الله أو أشد .
الثاني : خشية عادية ، لا تخرج الإنسان من ملة الإسلام ، فهذه لا شيء فيها أي لا شيء في كونها غير مخرجة للإنسان من ملة الإسلام (2).
س101: عرف الإنابة :
__________
(1) 93 ) مفتاح الوصول شرح ثلاثة الأصول : 83 للأسمري .
(2) 94 ) مفتاح الوصول : 84 للأسمري .(1/120)
ج : والإنابة : في اللغة هي : من قولهم أناب إلى كذا ، أي : رجع إليه ، والإنابة في المساق الشرعي في أدلة كثيرة تدل على التوبة مع رجوع إلى حالة أحسن ، من الكف عن مباشرة الذنب ومقارفته ، فمن تاب ثم عمل من الصالحات ، فهذا منيب ومن تاب ولم يعمل الصالحات ، أي :لم يخالف حالته السابقة فهذا ليس منيباً ، وإنما هو تائب ، وهذه من دقائق الفروقات التي تذكر .
واستدل المصنف يرحمه الله على ذلك بقول الله تعالى :
{ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } ، فقرن الإنابة بالإسلام ، وهذا منه ، أي من الإسلام ، فهو من العبادات العظيمة (1).
وقال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 57 )) : (( الإنابة الرجوع إلى الله بالقيام بطاعته واجتناب معصيته وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه ولا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى: { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } .
والمراد بقوله تعالى: { وأسلموا له } الإسلام الشرعي وهو الاستسلام لأحكام الله الشريعة وذلك أن الإسلام لله تعالى نوعان:
الأول: إسلام كوني وهو الاستسلام لحكمه الكوني وهذا عام لكل من في السماوات والأرض من مؤمن وكافر ، وبر وفاجر لا يمكن لأحد أن يستكبر عنه ودليله قوله تعالى: { وله اسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرهاً وإليه يرجعون } {سورة آل عمران، الآية: 83} .
الثاني: إسلام شرعي وهو الاستسلام لحكمه الشرعي وهذا خاص بمن قام بطاعته من الرسل وإتباعهم بإحسان، ودليله في القرآن كثير ومنه هذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله )) .
س102 : ما الفرق بين الإنابة والتوبة ؟
ج : إن التوبة هي رجوع إلى الله تعالى ولكنه رجوع غير تام بحيث يبقى معها من أثار الذنوب بعض الشيء ، وممكن أن يرجع صاحبها إلى ما كان عليه .
أما الإنابة فرجوع تام إلى اله تعال لا رجوع بعده إلى اقتراف الذنوب .
__________
(1) 95 ) المصدر السابق : 84 .(1/121)
س103 : عرف الاستعانة ؟ مع بيان أنواعها ؟
ج : الاستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الاستعانة بالله وهي: الاستعانة المتضمنة لكمال الذل من العبد لربه ، وتفويض الأمر إليه، واعتقاد كفايته وهذه لا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول { إياك } وقاعدة اللغة التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى شركاً مخرجاً عن الملة.
الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه فهذه على حسب المستعان عليه فإن كانت على بر فهي جائزة للمستعين مشروعة للمعين لقوله تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى } {سورة المائدة، الآية: 2}.
وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير ومن ثم تكون في حقه مشروعة لقوله تعالى: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } {سورة البقرة ، الآية: 195}
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر فهذه لغو لا طائل تحتها مثل أن يستعين بشخص ضعيف على حمل شيء ثقيل (1).
__________
(1) 96 ) شرح الثلاثة الأصول : 58 للعلامة أبن عثيمين .(1/122)
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 51 )) : (((ودليل الاستعانة قوله تعالى ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]) هذا دليل عام في العبادات جميعا حيث قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) و(إِيَّاكَ)، كما هو معلوم ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم، أصل الكلام (نَعْبُدُ إِيَّاكَ) ومن المعلوم أن المفعول به يتأخر عن فعله ، فإذا قُدّم كان ثم فائدة في علم المعاني من علوم البلاغة ألا وهي أنه يُفيد الاختصاص، وطائفة من البلاغيين يقولون يفيد الحصر والقصر. وعلى العموم الخطب يسير يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، هنا أفاد أن العبادة من خصوصيات الله جل وعلا؛ خاصة بالله جل وعلا. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني لا نعبد إلا أنت ...... )) .
س104 : ما وجه الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((إذا استعنت فاستعن بالله )) ؟
ج : قال الشيخ صالح في ( شرحه : 38 ) : (( قال الشيخ رحمه الله تعالى (وفي الحديث «إذا استعنت فاستعن بالله ») وجه الاستدلال: أن الأمر بالاستعانة بالله رُتِّبَ على إرادة الاستعانة، قال (إذا استعنت فاستعن بالله) يعني إذا كنت متوجها للاستعانة فلا تستعن بأحد إلا بالله؛ لأن الأمر جاء في جواب الشرط, قال (إذا استعنت), (إذا) هذه شرطية غير جازمة, و(استعنت) هذا فعل الشرط, (إذا استعنت) إذا حصل منك حاجة للاستعانة فاستعن -هذا الأمر- فاستعن بالله, لما أمر به علمنا أنه من العبادة ثم لما جاء في جواب الشرط صار مُتَرَتِّبًا مع ما قبله لما يفسد الحصر والقصر )) .
وقال في (( شرح الأربعين النووية : 304 )) : (( قال - عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله هذا مأخوذ من قول الله –(( إياك نعبد وإياك نستعين )) وفيه إفراد الله -جل وعلا- بالاستعانة وبالسؤال ، وهذه على مرتبتين:-(1/123)
الأولى : واجبة ، وهي التوحيد بأن يستعين بالله -جل جلاله- وحده دون ما سواه فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- ، فهذا واجب أن يُفرد الله -جل وعلا- بالاستعانة ، وكذلك أن يسأل الله -جل وعلا- وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- ، هذا هو المعروف عندكم في التوحيد فيما يكون من الدعاء صرفه لغير الله -جل وعلا- شرك ، وكذلك في الاستعانة التي يكون صرفها لغير الله -جل وعلا- شركا .
المرتبة الثانية : المستحبة ، وهو أنه إذا أمكنه أن يقوم بالعمل ، فإنه لا يسأل أحدا من الناس شيئاً ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ العهد على عدد من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئا ، قال الراوي : فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه وهذا من المراتب التي يتفاوت فيها الناس .
فإذا أمكنك أن تقوم بالشيء بنفسك فالأفضل والمستحب ألا تسأل أحدا من الخلق في ذلك ، إذا أمكنك يعني: بلا كلفة ، ولا مشقة ، ومن كانت عادته دائما أن يطلب الأشياء فهذا مكروه ، وينبغي للعبد أن يوطن نفسه ، وأن يعمل بنفسه ما يحتاجه كثيرا، وإذا سأل في أثناء ذلك ، فإنه لا يقدح حتى في الدرجة المستحبة ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- ربما أمر من يأتيه بالشيء ، وربما طلب من يفعل له الشيء ، وهذا على بعض الأحوال .
قال : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ظاهر في الوجوب إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله على القيد الذي ذكرنا لكم ؛ من أن هذا يتناول المرتبة الأولى على الوجوب ، والمرتبة الثانية على الاستحباب )) .
س105 : عرف الإستعاذة ؟
ج : الإستعاذة هي طلب العوذ وهو طلب ما يحمي من المكروه .
قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 59 )) : ((الإستعاذة : طلب الإعاذة والإعاذة الحماية من مكروه فالمستعيذ محتمٍ بمن استعاذ به ومعتصم به )) .
س106 : أذكر أنواع الإستعاذة ؟ مع بيان الجائز منها وغير الجائر ؟(1/124)
ج : قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في (( شرحه : 59 )) : (( الاستعاذة أنواع: الأول: الإستعاذة بالله تعالى وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه والاعتصام به واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء حاضر أو مستقبل ، صغير أو كبير ، بشر أو غير بشر ودليلها قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق } إلى آخر السورة وقوله تعالى : { قل أعوذ برب الناس * ملك الناس } * إله الناس من الوسواس الخناس } إلى آخر السورة.
الثاني: الإستعاذة بصفة ككلامه وعظمته وعزته ونحو ذلك ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" وقوله : "أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" وقوله : في دعاء الألم "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"، وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك" ، وقوله صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } {سورة الأنعام ، الآية: 65} فقال: "أعوذ بوجهك" .
الثالث: الإستعاذة بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ فهذا شرك ومنه قوله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } {سورة الجن، الآية: 6}(1/125)
الرابع: الإستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر أو الأماكن أو غيرها فهذا جائز ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر الفتن : "من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذبه" متفق عليه وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا الملجأ والمعاذ بقوله: "فمن كان له إبل فليلحق بإبله" الحديث رواه مسلم، وفي صحيحه أيضاً عن جابر رضي الله عنه ، امرأة من بني مخزوم سرقت فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة الحديث، وفي صحيحه أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث" الحديث. ولكن إن استعاذ من شر ظالم وجب إيواؤه وإعاذته بقدر الإمكان ، وإن استعاذ ليتوصل إلى فعل محظور أو الهرب من واجب حرم إيواؤه .
س107 : ما الفرق بين الإستعاذة واللياذة ؟
ج : الإستعاذة هي طلب العوذ ، ولا تكون إلا مما يخافه الإنسان ويريد دفعه قال تعالى { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفلق : 1]، وقال { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [الناس : 1] أما اللياذة فهي طلب اللوذ و تكون ما يريده الإنسان ويؤمله .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في (( القول المفيد على كتاب التوحيد : 1 / 122 )) : (( ويقال: عاذ به ولاذ به، فالعياذ مما يخاف، واللياذ فيما يؤمل، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحة، ولا يصلح ما قاله إلا لله:
يا من ألوذ به فيما أأمله…ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره…ولا يهيضون عظماً أنت جابره .
س108 : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )) (1) ما الفوائد التي يمكن أن تُستخلص من الحديث ؟
ج : يمكن أن نستخلص من هذا الحديث النبوي الشريف عدة فوائد منها :
__________
(1) 97 ) حديث صحيح أنظر (( صحيح سنن أبي داود 13 / 4 )) و (( صحيح سنن أبن ماجة 2/ 1162 )) .(1/126)
أولاً : إنَّ مما يجب التنبيه له أن ليس كل ما خلق الله تعالى فيه شر ، لكن نستعيذ من شره إن كان فيه شر ، لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1 ) شر محض كالنار وأبليس بأعتبار ذاتيهما ، أما بأعتبار الحكمة التي خلقهما من أجلها فهي خير .
2 ) خير محض كالجنة والرسل والملائكة .
3 ) فيه خير وشر كالأنس والجن والحيوان .
وإننا عندما نستعيذ بالله من شر ما خلق إنما نستعيذ من شر ما فيه شر .
ثانياً : كما يمكن أن نستفيد من الحديث أن القرأن هو كلام الله تعالى منه نزل وإليه يعود غير مخلوق كما تقول المعتزلة ومن شابهها ، لأنه إن كان مخلوقاً لم يجز لنا أن نستعيذ به فتنبه !!! .
س109 : عرف الإستغاثة ؟
ج : قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 55 )) : ((الاستغاثة: طلب الغوث, والغوث يُفسر بأنه الإغاثة, المدد، النصرة ونحو ذلك, فإذا وقع مثلا أحد في غرق ينادي أَغثني أغثني , يطلب الإغاثة, يطلب إزالة هذا الشيء, يطلب النصرة.(1/127)
الاستغاثة عبادة ؛ وجه كونها عبادة أن الله جل وعلا قال هنا ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) وجه الاستدلال أنه أتى بها في معرض الثناء عليهم , وأنه رتّب عليها الإجابة , وما دام الله جل وعلا رتّب على استغاثتهم به إجابته جل وعلا دل على أنه يحبها , وقد رضيها منهم , فنتج أنها من العبادة ، و( إِذْ ) هنا بمعنى حين ( إذ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُم ْ) يعني حين ( تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) وتلاحظ أنّ الآية هنا ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُم ْ) وقبلها ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) الاستغاثة - كما ذكرت لك - والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك, تتعلق بالربوبية كثيراً , هنا ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ) قال قبلها ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ِ) لأن حقيقتها من مقتضيات الربوبية , من الذي يُغيث ؟ هو المالك، هو المدبر ، هو الذي يُصرِّف الأمر , وهو ربّ كل شيء جل وعلا. الاستغاثة عمل ظاهر , ولهذا يجوز أن يستغيث المرء بمخلوق , لكن بشروطه, وهي أن يكون هذا المطلوب منه الغوث , أن يكون حياً ، حاضراً ، قادراً ، يسمع, فإذا لم يكن حياً كان ميتاً صارت الاستغاثة بهذا الميت كفراً , ولو كان يسمع ولو كان قادراً , مثل الملائكة أو الجن, قلنا أن يكون حياً حاضراً قادراً يسمع , صحيح ؟ طيّب ، إذا لم يكن حياً كان ميتاً ، ولو اعتقد المستغيث أنه يسمع وأنه قادر، فإنه إذ كان ميتاً فإن الاستغاثة به شرك. الأموات جميعا لا يقدرون على الإغاثة لكن قد يقوم بقلوب المشركين بهم أنهم يسمعون، وأنهم أحياء مثل حال الشهداء، وأنهم يقدرون مثل ما يزعم في حال النبي عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك، فنقول إذ كان ميتا فإنه لا يجوز الطلب منه ، قالوا فما يحصل يوم القيامة من استغاثة الناس بآدم ثم استغاثتهم بنوح إلى آخر أنهم استغاثوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نقول هذا ليس استغاثة بأموات ، يوم القيامة(1/128)
هؤلاء أحياء ، يُبعث الناس ويُحيَوْن من جديد، كانوا في حياة ثم ماتوا ثم أعيدوا إلى حياة أخرى. فهي استغاثة بمن ؟ بحي، حاضر، قادر، يسمع. بهذا ليس فيما احتجوا به من حال أولئك الأنبياء يوم القيامة حُجة على جواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا، والاستغاثة بغير الله جل وعلا أعظم كفرا من كثير من المسائل التي صَرْفها لغير الله جل وعلا شرك, إذن فالشروط:
* أن يكون حياً: إذا كان ميّتا لا يجوز الاستغاثة به.
أن يكون حاضراً: إذا كان غائباً لا يجوز الاستغاثة به؛ حي قادر لكنه غائب. مثل لو استغاث بجبريل عليه السلام فليس بحاضر, حي نعم ، وقادر قد يطلب منه ما يقدر عليه، ولكنه ليس بحاضر. مثل أن يطلب من حي قادر من الناس؛ يَطلب من ملك يملك أو أمير يستغيث به أغثني يا فلان ، وهو ليس عنده ، مع أنه لو كان عنده لأمكن بقوَّته , لكنه لما لم يكن حاضرا صارت الاستغاثة-تعلُّق القلب- بغير حاضر هذا شرك بالله جل وعلا.
س 110 : أذكر أقسام الاستغاثة ؟
ج : قال الشيخ أبن عثيمين (( في شرحه 60 )) : (( الإستغاثة طلب الغوث وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك ، وهو أقسام :
الأول: الإستغاثة بالله عز وجل وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل وأتباعهم ، ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } وكان ذلك في غزوة بدر حين نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في ألف رجل وأصحابه ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً فدخل العريش يناشد ربه عز وجل رافعاً يديه مستقبل القبلة يقول : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة الإسلام لا تعبد في الأرض" وما زال يستغيث بربه رافعاً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر رضي الله عنه رداءه فألقاه على منكبيه ثم ألتزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك وعدك فأنزل الله هذه الآية.(1/129)
الثاني: الإستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة فهذا شرك ؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفياً في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية قال الله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون } {سورة النمل ، الآية: 62}.
الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستعانة بهم قال الله تعالى في قصة موسى : { فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } {سورة القصص، الآية: 15}.
الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية مثل أن يستغيث الغريق برجل مشلول فهذا لغو وسخرية بمن استغاث به فيمنع منه لهذه العله ، ولعلة أخرى وهي الغريق ربما أغتر بذلك غيره فتوهم أن لهذا المشلول قوة خفية ينقذ بها من الشدة )) أ. هـ
س 111 : ما الفرق بين الإستغاثة والدعاء ؟
ج : الإستغاثة لا تكون إلا من مكروه ، أما الدعاء فأعم من ذلك فيكون من المكروه وغيره .
س112 : ما الشروط التي يجب أن تتوفر في الإنسان حتى يصح الإستغاثة والإستعانة والإستعاذة به ؟
ج : 1 ) أن يكون حياً ولا يجوز الإستغاثة والإستعانة والإستعاذة بالأموات ، لأن الميت ليس هو في دار عمل وتكليف ، وليس هو عند الله بمكان حتى يطلب من الله فيُستجاب له .
وقد يحتج القبوريون بما يحصل يوم القيامة من إستغاثة الناس بآدم ومن ثم بالأنبياء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنقول : هذا ليس استغاثة بأموات فهي استغاثة بحي حاضر قادر يسمع .
2 ) أن يكون حاضراً ولا يجوز الاستغاثة بغير حاضر .
3 ) أن يكون قادراً وأما الاستغاثة بغير القادر فلغو لا فائدة منه .
4 ) يسمع .
س113 : عرف الذبح ؟
ج : الذبح إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص .(1/130)
قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 56 )) : (( الذبح الذي هو النحر ، والذبح يشمل النحر الخاص ويشمل الذبح الذي هو قسيم النحر لأن:
النحر: هو الطعن بسكين أو بالحَرْبَة في الوَحدة، مثل ما يُفعل بالإبل كما تعلمون هي لا تذبح ذبحاً ، لكن هي تطعن في وَحدتها وإذا طُعنت وحُرِّكت السكين واندثر الدم وماتت ، ليس ثَم ذبح. كذلك البقر قد تُنحر.
وأما الذبح: فيكون في الغنم من الظأن والماعز وكذلك في البقر.
الذبح والنحر عبادة ، المقصود منها إراقة الدم ، وإراقة الدم - من حيث هو - لا يكون إلا بتعلقٍ للقلب ، فإذا أراق الدم لله جل وعلا تعلق القلب بالله جل وعلا. فالذبح عبادة ظاهرة يتبعها أو يكون معها عبادة باطنة قلبية ، فمن ذبح لغير الله وقع في شرك ظاهر ؛ لأن هذه عبادة صرفها لغير الله ، وكذلك قلبه تعلق بغير الله فصار شركه من جهتين.
وجه الاستدلال من قوله تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أنه قال ( وَنُسُكِي ) والنسك فُسِّرت بعدة تفسيرات عن السلف منها الذبح والنحر وهذا كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ( إنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ? [الكوثر:1-2] ، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أمره بأن يوحد الله جل وعلا بالصلاة ، وكذلك أمره بالنحر لربه جل وعلا وحده ، إذن النسك هنا الذبح.(1/131)
قال ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّه ِ) الصلاة لمن ؟ لله. وجه اللام هنا أنها لام الاستحقاق ، قل إن صلاتي لله ، يعني صلاتي مستحقة لله ، هذا وجه الاستدلال. ونسكي لله ، يعني نسكي الذي هو ذبحي مستحق لله وحده لا شريك له. ومحياي لله ومماتي لله ، هذه لام أخرى وهي لام المِلك ، الصلاة والنسك لله استحقاقاً ، والمحيى والممات لله مُلكاً ؛ لأننا اللام قلنا أنها تأتي للاستحقاق وتأتي للملك تذكرون ؟ في هذه الآية جعل هذه الأفعال الأربعة الصلاة والنسك والمحيى والممات جعلها جميعاً باللام مؤخرة ، بقوله ( لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لكن تختلف، الصلاة والنُّسُك لله استحقاقاً ، والمحيى والممات لله جل وعلا مُلكاً ، فجمعت هذه الآية بين توحيدي الله جل وعلا: في إلهيته وهو الأول، وفي ربوبيته وهو الثاني. قل إن صلاتي ونسكي لله ، هذا توحيد لله جل وعلا في إلهيته ، ومحياي ومماتي لله هذا توحيد لله جل وعلا في ربوبيته ، فكما أنه جل وعلا هو مالك محياي ومماتي، فكذلك هو المستحق لصلاتي ونسكي، قال جل وعلا لنبيه قل إن صلاتي ونسكي مستحقة لله، ومحياي ومماتي ملك لله جل وعلا ( رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ ) فذكر الربوبية ثم ذكر الألوهية ، ثم بيَّن أن هذا من علامات الإسلام العظيمة فقال (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) وهذا وجه استدلال آخر إذ أن هذه مأمور بها، قال ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ).
الذبح كما أنه عمل ظاهر وهو إراقة الدم ، والدم الذي بَثَّهُ في أعضاء المذبوح هو الله جل وعلا ، وهو علامة الحياة ، فلا يُزهق إلا لمن خلَقه ، ولمن بثه في أعضاء من به الحياة .
ولهذا قال العلماء إن العبد حال الذبح يجتمع في قلبه أنواع من العبوديات:
منها الذل لربه جل وعلا.
ومنها التعظيم له جل وعلا.
ومنها الرجاء ؛ رجاء ما عنده حال ذبحه.
ومنها طلب البركة ؛ لأنه ما ذبح إلا لله.(1/132)
وهذه كلها عبادات قلبية ، فكما أن الذبح عمل ظاهر؛ به تحريك اليد ، تحريك اللسان ببعض القول ، كذلك يقوم بالقلب حال الذبح أنواع من العبوديات ، قد ما يقوم بالقلب شيء البتة، مثل ما يُذبح لضيافة أو نحو ذلك، فهذا يجب أن يكون ظاهرا لله جل وعلا وحده ، وإذا اجتمع أن يكون في الذبيحة ، أن تكون اجتمعت فيها العبادة الظاهرة والعبادة الباطنة ؛ العبادة القلبية ، كانت أكمل في رجاء ثواب الذبح ، ولو كان في الأمور العادية من ضيافة ونحوها ، فيكون الذبح لله جل وعلا ظاهراً لم يُرد بهذا إلا الله جل وعلا ، وباسمه لم يذكر إلا اسم الله جل وعلا ، ثم يكون بالقلب ذل لله جل وعلا وخضوع وتعظيم ورجاء المثوبة منه وحده ، فتجتمع العبادات القلبية وعبادات الجوارح حال الذبح.
لهذا، الذبح من العبادات العظيمة ، لكن قد يغفل الناس عن تعلق القلب وفعل الجوارح حين الذبح ، وكيف تكون لله جل وعلا ، ولهذا على طالب العلم أن يتعلم هذا إن لم يحسنه ، يتعلم كيف يكون حال الذبح ؛ حال ذبحه لذبيحته للأضحية وهي آكد وآكد وآكد ، أو لغيرها ، أن يكون موحداً تماماً ، يرجو في ذبحه أن يكون على غاية من العبودية في لسانه وقلبه وجوارحه ؛ لأنه فيه حركة لسان للتسمية والتكبير ، وفيه عمل القلب بأنواع من العبوديات ذكرت بعضها ، وفيه أيضا حركة اليد ، وهذا كله مما يجب أن يكون لله جل وعلا وحده.
وقال الأسمري في (( شرحه : 86 )) : ((والذبح نوعان : -(1/133)
أما النوع الأول : فذبح عبادة يتقرّب بالدم إلى الغير ، فهذا لا يجوز إلا لله - سبحانه وتعالى - ، ومن قرّب الدم للغير كان شركاً لله - سبحانه وتعالى - ، أي يهريق الدم تقرباً إلى الغير بهذا الدم تعظيماً أو تبجيلاً أو نحو ذلك ، ومن أمثلة ذلك أن يؤتى بمجموعة من الإبل والنوق ثم تُصف أمام إنسان معظم ثم تنحر ، ولا يؤكل منها شيء لأجل تعظيم هذا الواقف أمامها ، إنما كان الدم له يتقرب به إليه تعبداً ، فهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام.
وأما النوع الثاني : فهو أن لا يكون تعبداً ، وإنما يقصد منه اللحم ، كأن يأتيك ضيف ، أو أن تأتي بذبيحة لأهل بيتك تقصد اللحم ، ولا تقصد أن تقربها لله - سبحانه وتعالى - ، فهذا لا يدخله الشرك ، ولاشيء فيه ؛ ولكن لا بد أن يكون المذبوح والذبح على وفق شروطه الشرعية المعروفة .
قوله تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }
( نسكي ) : هو محل الشاهد . وفيه تفسيران للمفسرين:-
أما التفسير الأول : فنسكي أي : عبادتي ، ولذلك يقال هذا صاحب نسك وهذا متنسك أي : عابد ، ومنه قيل نسك الحج ، أي : عبادة الحج .
وأما التفسير الثاني : فنسك بمعنى : الذبيحة ، وعلى التفسير الثاني يصح الاستدلال بالآية ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، ولذلك أعقبت الآية بقول الله تعالى { لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } .
( لا شريك له ) : أي يجب أن تمحض هذه العبادات لله دون إشراك .
( وأنا أول المسلمين ) : فيه احتمالان : -
أما الاحتمال الأول : فأولوية الزمن ، فهذه ليست إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لأمته فهو أول من آمن من أمته ، وأمته نوعان : أمة الإجابة وأمة الدعوة ، فهو الأول عليهما.
وأما الاحتمال الثاني : فأول الملتزمين ، أي من باب الحكاية ، أي فأكون أول الملتزمين ، وهذا من الإنشاء الذي يقصد به إلزام النفس وهذا لا شيء فيه .(1/134)
س114 : ما وجه الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( لعن الله من ذبح لغير الله )) أخرجه مسلم ؟
قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 58 )) : (( وجه الاستدلال: أن من ذبح لغير الله لم يذبح لله ، وإنما ذبح لغيره ، أنه ملعون لعنه الله , وهذا الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام بقوله ( لعن الله من ذبح لغير الله ) يدل على أن الذبح لغير الله كبيرة من الكبائر ، وإذا كانت كذلك فهي إذن يُبغضها الله جل وعلا، وإذا كان يُبغض الله جل وعلا الذبح لغيره ، معنى ذلك أن الذبح له وحده محبوب له ، في مقابلة ، فيستقيم بذلك الاستدلال )) .
س115 : عرف النذر ؟
ج : قال الشيخ صالح في (( شرحه : 60 )) : (( النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئا لم يجب عليه ، وتارة يكون النذر مطلقاً ، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد ، والنذر المطلق غير مكروه ، والنذر المقيد مكروه.
لهذا استشكل جمع من أهل العلم ؛ استشكلوا كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في النذر « إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل » يقولون: إذا كان مكروهاً كيف يكون عبادة ؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا ، والنذر يكون مكروهاً كما دل عليه هذا الحديث ، فكيف إذا كان مكروها النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئاً لم يجب عليه ، وتارة يكون النذر مطلقاً ، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد ، والنذر المطلق غير مكروه ، والنذر المقيد مكروه.
لهذا استشكل جمع من أهل العلم ؛ استشكلوا كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في النذر « إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل » يقولون: إذا كان مكروهاً كيف يكون عبادة ؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا ، والنذر يكون مكروهاً كما دل عليه هذا الحديث ، فكيف إذا كان مكروهاً....
و الوفاء بالنذر أنه محبوب له جل وعلا ، فثبت أنه عبادة لله جل وعلا.(1/135)
والنذر له شقان: الشق الأول النذر والثاني الوفاء به ، وكلا الأمرين إذا صُرفت لغير الله جل وعلا فهي شرك.
من نذر لغير الله ، أن ينذر لأصحاب المشاهد والأولياء أو القبور ، ينذر للمشهد الفلاني، ينذر مثلًا للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن ينذرَ لأحد من الموتى ، ينذر لفاطمة رضي الله عنها ، أو ينذر لأحد آل البيت ، أو لخديجة ، أو ينذر لأحد من الأولياء أو نحو ذلك ، يقول: عليَّ نذر للولي الفلاني، ولو كان غير مقابلة هذا إيجاب على نفسه عبادة لمن ؟ لغير الله فصار شركاً أكبر.
القسم الثاني أن يقول: إن شفى الله – لاحظ - إن شفى الله مريضي فللولي الفلاني عليَّ نذر بكذا وكذا، فهذا على المقابلة، ولو كان على هذا النحو, فصرفه لغير الله جل وعلا شرك؛ لأن القول الأول منه وهو قوله (إن شفى الله مريضي) هذا ربوبية، وقوله (فللولي الفلاني علي نذر) هذا شرك في العبودية, هو أقر بالربوبية ولكنه أشرك بالعبودية, هذا جهة النذر, الوفاء لأصحاب القبور أو نحوهم, أو الجن, أو الملائكة, هذا كله شرك, فلو حصل منها النذر لغير الله فلا يجوز أن يوفِي به, فإن وفَّى به لغير الله سيكون ذلك شرك بعد شرك, لهذا قال عليه الصلاة والسلام « من نذر أن يعصي الله فلا يعصه », يدخل في ذلك إذا كان النذر لغير الله جل وعلا, قال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) مدحهم بذلك , فدل أن وفائهم بالنذر عبادة يحبها الله جل وعلا.
الأصل الثاني
معرفة دين الإسلام بالأدلة
س116 : ما معنى قول المصنف (( معرفة دين الإسلام بالأدلة )) ؟
ج : من الأصول الثلاثة معرفة دين الإسلام ، والأدلة هي نصوص الكتاب والسنة الصحيحة .
س117 : ما المراد بقوله (( دين الإسلام )) ؟
ج : هو كما قال المصنف : (( وهو الاستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، والخلوص من الشرك . وهو ثلاث مراتب :
الإسلام و الإيمان و الإحسان ، وكل مرتبة لها أركان .(1/136)
قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 65 )) : ((قال (هو الاستسلام لله بالتوحيد ) الاستسلام أن يكون فاعله ؛ فاعل الاستسلام كهيئة المستسلم ، والمستسلم لغيره تابع له لا يفعل إلا ما يريد ، خلُص قلبه إلا من رغبة من استسلم له ، ولو قال وهو الإسلام لله بالتوحيد لصح تعريفه ، فالاستسلام هنا بمعنى الإسلام ، وله أسلم ، ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54]، كلها بمعنى الاستسلام والإسلام؛ الإسلام لله والاستسلام لله بمعنى واحد قيَّدَها في هذا الموضع بقوله (بالتوحيد) والتوحيد يشمل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته ، والمقصود الأخص من هذه الثلاثة توحيد العبادة لأن الخصومة وقعت فيه ، ومعلوم أن توحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات.
ثم قال (والانقياد له بالطاعة) الانقياد لله جل وعلا بالطاعة ، يعني أن يكون منقاداً غير ممانع ولا متولٍّ عن طاعة الله جل وعلا ، إنما ينقاد ويذعن ، كما قال جل وعلا ? قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ?[النور:54], أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ، يعني الانقياد لله وللرسول ،فيما أمر الله جل وعلا به وفيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال فإن تولوا وأعرضوا ولم يذعنوا ولم ينقادوا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ) يعني على الرسول (مَا حُمِّلَ) ما حمل إياه وهو الرسالة ، ( وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُم ْ) وهو الاستجابة لله وللرسول ، فإذن هنا الانقياد له ، بالطاعة لله جل وعلا ، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعث بهذا الإسلام الأخير.(1/137)
قال ( والبراءة من الشرك وأهله )، فُسّرت البراءة بعدة تفسيرات أصلٌ وفروعه؛ أصل البراءة البُغض في القلب ، يعني بغض الشرك وأهله ، ويتبع ذلك ؛ يتبع بُغضَهم معاداتُهم وتكفير من كفره الله جل وعلا ورسوله ؛ تكفير المشركين ومقاتلتهم عند مشروعية ذلك ، وهذا هو معنى الكفر بالطاغوت أيضاً , فإن الكفر بالطاغوت هو بُغضه ومعاداة أهله ، وتكفير أهل الطاغوت ؛ وهم أهل عبادة غير الله جل وعلا, وقتالهم عند مشروعية ذلك ، البراءة من الشرك أصلها البغض ، يتبع البغض أشياء , أولا المعاداة , ثانيا التكفير ومعلوم أن التكفير تَبَعٌ للعلم ، ثم قتالهم عند مشروعية ذلك وذلك أيضا مستلزم للعلم ، فتلخص أن على العامة وهم من ليسوا علماء عليهم من البراءة، أصلها وهو البُغض ، وأما فروعها فإنما هي بحسب درجات العلم ، البغض لا بد أن يُبْغِض فإن لم يبغض الشرك فإنه ليس بمسلم ، إذا كان يحب الإسلام وأهله ، ويحب التوحيد وأهله ، ولكن لا يبغض الشرك وأهله فإنه ليس بمسلم. لكن قد يبغض الشرك وأهل الشرك باعتبار الأصل ، لكنه يحب بعض المشركين لغرض من أغراض الدنيا، فهذا ليس بمشرك ، وإنما ناقص إسلامه ، كما أوضحت لكم فيما سبق في تقسيم الموالاة إلى موالاة وتولي ، المقصود من هذا أن مسألة البراءة هذه ؛ من الشرك وأهله، أصل البراءة البغض يتبعها أشياء المعاداة التكفير المقاتلة وكلها تبع للعلم ، ويتنوع ذلك بحسب الناس، وأسهل ما يكون في الموحدين، عند الموحدين، عند عامتهم، معاداة المشركين، ولو لم يكن عندهم من الحجة أو من بيان تكفيرهم، ومن إقامة الدلائل على مشروعية مقاتلة أهل الشرك، فإنه قائم في قلبه بغضهم ومعاداتهم، وهذا به يحصل الإسلام.
إذن تعريف الإسلام شمل ثلاثة أشياء:
أولا: الاستسلام لله بالتوحيد.
ثانيا: الانقياد لله بالطاعة.
الثالث: البراءة من الشرك وأهله.
نلاحظ أنه بهذا شمل هذا التعريف معنى الشهادتين(1/138)
س 118 : ما الفرق بين دين الإسلام وبين الإسلام ؟
ج : دين الإسلام مراتبه ثلاثة : الإسلام والإيمان والإحسان ، فالإسلام إذن هو مرتبة من مراتب دين الإسلام .
قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 66 )) : (( دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب , قال الشيخ رحمه الله ( وهو ثلاث مراتب الإسلام ) هذه مرتبة في دين الإسلام نتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مسلمون، ( والإيمان ) ، ونتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مؤمنون ، ( والإحسان )، ونتيجتها أن يحكم لأهلها أنهم محسنون ، فالمحسن والمؤمن والمسلم، الجميع من أهل دين الإسلام، لكن لكل مرتبتُه الخاصة به ، هم درجات عند الله.
فالإسلام: هو إقامة الأعمال الظاهرة ؛ الشهادتين مع الأركان الأربعة المعروفة ؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ، مع بعض الإيمان الذي يُصحح هذا الإيمان الظاهر.
والإيمان: الإيمان بأركانه الستة ؛ لله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره مع بعض الإسلام الظاهر مع بعض العمل الظاهر الذي معه يصح هذا الإيمان الباطن.
والإحسان: هو مقام المراقبة لله جل وعلا.
المرتبة الأولى : الإسلام .
س 119 : ما هي المرتبة الأولى؟ وما هي أركانها ؟
ج : المرتبة الأولى الإسلام ، وأركانه خمسة هي :
1 ) شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
2 ) إقام الصلاة .
3 ) إيتاء الزكاة .
4 ) صوم رمضان .
5 ) حج بيت الله الحرام .
والدليل على هذه الأركان الخمسة ما جاء في حديث جبريل : ((قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (( الإِسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمَّداً رسول اللّه وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) (1).
__________
(1) 98 ) رواه مسلم برقم : 8 .(1/139)
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت، وصوم رمضان )) رواه البخاري ومسلم.
قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرح الأربعين النووية : 72 )) : ((هذا الحديث فيه ذكر دعائم الإسلام ومبانيه العظام، وهي الخمس المعروفة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وهذه واحدة باعتبار أن كلا من شقيها شهادة، والثاني: إقام الصلاة ، والثالث: إيتاء الزكاة ، والرابع: الحج ، والخامس: صوم رمضان .
وهذا الحديث من الأحاديث التي استدل بها على أن أركان الإسلام خمسة ، وهذا الاستدلال صحيح ؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس يدل على أن البناء يقوم على هذه الخمس، وغير هذه الخمس مكملات للبناء، ومعلوم أن البناء يحسن السكنى فيه ، ويكون جيداً ، وفيه العبد سعيداً إذا كان تاماً .
وكلما كان أتم كان العبد فيه أسعد ، والإسلام إذا أتى العبد بمبانيه الخمس هذه فقد حقق الإسلام، وكان له عهد عند الله - جل وعلا - أن يدخله الجنة .
قال في أوله - عليه الصلاة والسلام -: بني الإسلام على خمس ولفظ (( بُني )) يقتضي أن هناك من بناه على هذه الخمس، فلم يذكر الباني على هذه الخمس، والمقصود بالباني: الشرع أو المُشَرِّع .
فالذي بنى الإسلام على هذه الخمس هو الله -جل جلاله - وهو الشارع - جل وعلا- والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن ربه - جل وعلا- وليس هو شارعاً على جهة الاستقلال ، وإنما هو - عليه الصلاة والسلام - مبلغ أو مشرِّع على جهة التبليغ )).
س120 : ما دليل شهادة لا إله إلا الله ؟(1/140)
ج : قال المصنف دليلها { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران : 18] .
وقال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 67 )) : ((في الآية الكريمة شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو ، وشهادة الملائكة وشهادة أهل العلم بذلك وأنه تعالى قائم بالقسط أي العدل ثم قرر ذلك بقوله : { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } وفي هذه الآية منقبة عظيمة لأهل العلم حيث أخبر أنهم شهداء معه ومع الملائكة والمراد بهم أولو العلم بشريعته ويدخل فيهم دخولاً أولياً رسله الكرام.
وهذه الشهادة أعظم شهادة لعظم الشاهد والمشهود به، فالشاهد هو الله وملائكته، وأولو العلم ، والمشهود به توحيد الله في ألوهيته وتقرير ذلك { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } )) .
س121 : ما معنى لا إله إلا الله ؟
ج : قال المصنف رحمه الله تعالى : ومعناها: لا معبود بحث إلا الله ؛ "لا إله" نافياً جميع ما يعبد من دون الله " إلا الله" مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته ، كما أنه لا شريك له في ملكه .(1/141)
قال الأسمري في (( شرحه : 96 )) : ((قال المصنف يرحمه الله ( ومعناه ) : أي ومعنى الدليل الذي أوردناه آنفاً : ( لا معبود حق إلا الله وحده ) وذلك أن ( لا ) تسمى عند النحويين بالنافية للجنس ، وهذه لها اسم وخبر ، اسمها هو كلمة ( إله ) أما خبرها فمحذوف تقديره ( حق ) أو ( بحق ) فيكون التقدير : ( لا إله حق إلا الله ، أولا إله بحق إلا الله ) وكلمة الله بعد أداة الاستثناء تكون بدلاً عن الضمير المتعلق بكلمة حق أو بحق ، لأنه يقال : حق أي : ( هو ) ، فهذا الضمير يأتي بدلاً عنه لفظ الجلالة الذي أتى بعد أداة الاستثناء ، وهو ( الله ) ولذلك يأخذ حُكْمَه ، فيكون مرفوعاً لرفع المبدل ، ومن ثم يبين أن جملة ( لا إله إلا الله ) لا بد لها من خبر ، وهذا الخبر يقدره عامة اللغويين والنحويين بقولهم موجوداً ، فيكون سياق الكلمة والجملة على تقدير النحويين واللغويين : ( لا إله موجود إلا الله ) وسبق أن تقدير الخبر بهذا المعنى باطل لا يصح ؛ لأن هناك آلهة مع الله تعبد ، وهناك آلهة موجودة ، فكيف يُنفى وجود ما علم باليقين والمشاهدة والخبر وجوده ، فتعين أن يكون المقدر كلمة (حق) أو كلمة ( بحق ).
ولذلك قال المصنف – يرحمه الله - : ومعناه ـ أي معنى الدليل ـ وهو يقصد الشهادة الواردة في قول الله ( لا إله إلا هو ) : لا معبود حق إلا الله وحده .
ثم قال المصنف يرحمه الله : ( لا إله ) نافياً جميع ما يعبد من دون الله ( إلا الله ) مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه )
أراد المصنف - يرحمه الله - من خلال هذا التفسير لكلمة ( لا إله إلا الله ) أن يقرر شيئين :-(1/142)
أما الشيء الأول : فهو أن كلمة ( لا إله لا إلا الله ) تحوي نفياً وإثباتاً ، أما النفي موجود في شق الجملة الأولى ، وهو ( لا إله ) لأن ( لا ) تسمى بالنافية ، فصح أن يكون نفياً ، وأما الإثبات فموجود في شق الجملة الثاني وهو ( إلا الله ) لأن النفي إذا أعقب بالاستثناء كان ما بعد أداة الاستثناء يخالف المستثنى في الحكم ، فكان ثابتاً ، ولذلك كان إثباتاً ، ومن ثم يبين أن جملة ( لا إله إلا الله ) تحوي نفياً وإثباتاً.
وأما الشيء الثاني : فهو أن الإنسان لا يصح توحيده إلا بأن يجمع بين هذين الأمرين ، بين إثبات وبين نفي ، أما الإثبات فله شرطان :-
أما الشرط الأول : فهو أن يتعلق بالله - سبحانه وتعالى - .
وأما الشرط الثاني : فهو يتعلق باستحقاق الله - سبحانه وتعالى - لهذه العبادة.
وأما وجود العبادة لله دون استحقاق ، فهذا يقول به المشركون وغيرهم ، وأما النفي فلابد فيه من التعميم ، وأما جعل النفي على أناس أو معبودات دون معبودات وأناس، فلا يصح بل يعمم النفي على جميع الأشياء من جمادات أو حيوانات أو غيرها .
فلا معبود بحق سواه - سبحانه وتعالى - ، أما غيره فباطل ، ومن ثم فيقال خلاصة ما أراده المصنف - يرحمه الله - في المعنى الثاني هو : أن الإنسان لكي يصح توحيده لا بد أن يوحد الله حقاً في عبادته ، ويكفر بجميع المعبودات ، وأما أن يقول أنا موحد ولا يكفر بكفر الكافرين والمعبودات من دون الله فتوحيده لا يتم .
وفي قول المصنف -يرحمه الله - ( كما أنه ليس له شريك في ملكه ) إشارة إلى أن توحيد الربوبية ثابت عند الناس بفطرهم وعقولهم السليمة ، فيستدل به على وجوب تجريد توحيد العبادة .
ومن ثم يقال عنى المصنف يرحمه الله بقوله ( كما أنه ليس له شريك … ) إلى آخره ، الاستدلال بأمرين :-(1/143)
أما الأمر الأول : فبشيء ثابت في الفطر على شيء وقعت المخالفة عليه ، الثابت في الفطر والعقول توحيد الله في ربوبيته ، ومن صفات الربوبية صفة الملك ، والمختلف فيه هو توحيد الآلهية ، فصح الاستدلال بالثابت على المختلف فيه ، وهذه قاعدة كلية تعمل عند الخلاف .
أما الأمر الثاني : فهو الاستدلال بتوحيد الربوبية على وجوب تجريد الله في العبادة .
س122 : ما تفسير لا إله إلا الله ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : (( وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف : 28] .
وقوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 64] )) .
قال الأسمري في (( شرحه : 97 )) : (( قول المصنف - رحمه لله - : ( وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ... }
هذه الجملة في ما حكاه الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله ونبيه إبراهيم عليه السلام فيها دلالة على ما سبق ، من وجود الإثبات والنفي حتى يصح التوحيد ، أما الإثبات : ففي قول إبراهيم عليه السلام ( إلا الذي فطرني ) . وأما النفي : فموجود في قول إبراهيم عليه السلام المحكي في الآية ، وهو قوله ( إنني براء مما تعبدون ) ، وهذا اجتمع فيه ما أراده المصنف -يرحمه الله - .(1/144)
ثم قال رحمه الله : ( وقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ….. } ) الآية ، وفيها دلالة على المقصود ، حيث اجتمع فيها الإثبات والنفي ، أما الإثبات ففي قوله ( إلا الله ) ، وأما النفي ففي موضعين ، أحدهما قوله سبحانه ( ألا نعبد ) والآخر قوله ( ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ) ، وهذا فيه دلالة على ما أثبته المصنف - يرحمه الله - )) .
س123 : ما الدليل على شهادة : أنَّ محمداً رسول الله ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128] .
قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 71 )) : ((قال بعد ذلك ( ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128])، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) هذا قسم ، اللام هذه هي التي تسمى الموطئة للقسم ، دائماً تصحب قد؛ (لَقَدْ) ، نعلم أن ثم قسما محذوفاً: والله لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ، هنا المقسِم هو الله جل وعلا ، أقسم بأنه قد جاءكم رسول ، وهذا لتأكيد الكلام وتعظيمه بأنفس السامع ؛ لأنه أُكد بالقسم ، والمقسِم هو الله ، والمقسَم به هو الله جل وعلا ، على مجيء الرسول لنا من أنفسنا ، (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم ، من بني جلدتكم ، يتكلم بلسانكم وتعقلون عنه ، هذا واضح الدلالة على الشهادة بأن محمداً رسول الله ، لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله أن تعتقد أن محمدا أرسله الله جل وعلا بدين الإسلام ، تعتقد ذلك اعتقاداً يصحبه قول وإخبار عنه ، وهذه الآية واضحة الدلالة على المراد )) .(1/145)
س124 : ما معنى شهادة : أنَّ محمداً رسول الله ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
قال الأسمري في (( شرحه : 100 )) : ((ثم أخذ المصنف ـ يرحمه الله ـ يبين تفسير شهادة أن محمداً رسول الله بقوله : ( ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته في ما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر- صلى الله عليه وسلم - ) إلى آخره .
جعل المصنف تفسير الشهادة المتعلقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترجع إلى اجتماع أمور أربعة :-
الأمر الأول : فقوله ( طاعته فيما أمر )
( ما ) : موصولة ، فيكون المعنى طاعته في الذي أمر ، ومن ثم فإذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله ، فمعناه أن تطيع النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شك أن الطاعة نوعان :-
النوع الأول : فطاعة تحفظ للإنسان أصل إيمانه .
والنوع الثاني : فطاعة زائدة عن ما سبق ، وهذه الثانية على مراتب ، أعلاها أن يطيع الإنسان النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء جاء عنه ، وأدنى ما لا يأثم الإنسان بمخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أن يطيعه في الواجبات ، وأما المستحبات فقد يقصر عنها ، وإذا ترك شيئاً من المستحبات أو المستحب فإنه لا يأثم على ذلك .
الأمر الثاني : فقوله ( وتصديقه فيما أخبر )
ومعناه هو أن يصدق الإنسان بما جاءه من أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ذلك أن الكلام إما أن يكون خبراً أو إنشاءً ، أما الخبر : فيتعلق به الصدق أو الكذب ، وأما الإنشاء: فهو الذي يتعلق به الرد والقبول وما إلى ذلك .
فيفضل في القسم الأول الذي هو الخبر الأخبار وموقف الإنسان منها تصديقها .
والأخبار المتعلقة بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث سلب إيمان الإنسان إن كذب بشيء منها أو عدمه نوعان:-(1/146)
أما النوع الأول : فأخبار متواترة مستفيضة ، إن كذب بها الإنسان كفر ، ومن أمثلة ذلك أن يكذب بالأخبار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قيام الساعة والبعث بعد الموت وكونه - صلى الله عليه وسلم - نبياً مرسلاً وغير ذلك ، والأمثلة على ذلك كثيرة .
والنوع الثاني : أن يكون الخبر خفياً دقيقاً غير متواتر ولا مستفيض ، فهو مما لا يسلب الإنسان الإيمان إن وقع في عدم التصديق به ، فهذا ذهب جماهير أهل السنة أن من أنكره لا يكفر ، وممن حكى ذلك عن جماهير أهل السنة شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله - كما في (( مجموع الفتاوى )) ، وكذا في (( منهاج السنة النبوية )) وفي غير هذين الكتابين ، ومنه يعلم أن ما كل مكذب بشيء من الأخبار المضافة إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يكون كافراً أو تنتفي عنه مصداقية شهادة أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الأمر الثالث : فقوله ( واجتناب ما عنه نهى وزجر ) .
( زجر ) : الزجر في اللغة : هو النهي بشدة ، فإذا زجر الأب ابنه ، أي : نهاه عن شيء بشدة ، والنهي أعم من الزجر ، فالنهي قد لا يكون فيه تشديد عن إيقاعه ، وأما إذا غلظ في النهي وشدد فهذا هو المسمى لغةً بالزجر .
( عنه نهى وزجر ) : أتى بهما معاً لمعنيين :(1/147)
أما المعنى الأول : فمن باب السجعة ،لأنه أتى مسجوعاً الآخر بحرف الراء ، فأراد أن يضع ذلك ـ أعني ثالث الأشياء ـ على وفق الاثنين السابقين ، ومراعاة السجعة وارد عند العرب ، ووارد في التعليم ، أما كونه وارداً عند العرب فهو مما تطرب له الآذان ، ولذلك يُعنى العرب بالسجعات ، ومن ذلك نظم الكلام المسمى بالشعر ، ومن ذلك الأمثلة العربية التي تلوكها الألسن ؛ فإن الأمثلة كثيرة وكثير منها يكون مسجعاً ، وأما وروده في باب التعليم فقد يكون من باب تقرير الشيء ليحفظ على مبنىً واضح ظاهر ، فإذا أٌتى بالشيء مسجوعاً ربما وقع في قلب السامع وكان أبقى لحفظه ، فلذينك الأمرين صح المجئ بالتسجيعة .
وأما المعنى الثاني : فهو من باب التأكيد ، ومعلوم عند اللغويين والنحويين أن الكلمة إذا أعيدت أو أعيد معناها لزم من ذلك تأكيد المعنى السابق ، فلذينك المعنيين أعاد المصنف - يرحمه الله - النهي الموجود في قوله ( زجر ) .
وقد يقال بل أراد المصنف - يرحمه الله - حقيقة الزجر اللغوية ، وسبق أن بين النهي والزجر عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالنهي أعم من الزجر مطلقاً ، والزجر أخص من النهي مطلقاً ، لأن الزجر مقيد بأن يكون فيه تغليظ وتشديد ، خلافاً لمطلق النهي .
( نهى ) : وما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع ، وهو نوعان من حيث بقاء أصل الإيمان وعدمه:-
أما النوع الأول : فما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه نهياً لو وقع المكلف فيه لكفر وخلع عنه ربقة الإسلام ، ومن أمثلة ذلك النهي عن الشرك الأكبر ، فإن ذلك يخرج من ملة الإسلام ، ومن ذلك التولي للكافرين فإنه مخرج من ملة الإسلام .(1/148)
أما النوع الثاني : فهو غير النوع الأول ، ويأتي على دركات الدركة التي يأثم الإنسان بالوقوع فيها هي الكبائر من المحرمات ، فالمحرمات والموبقات وكبائر الذنوب السيئات يأثم الإنسان بالوقوع فيها على شروط التأثيم المعروفة ، من كونه مختاراً ومن كونه عالماً ، وأما إذا كان غير مختار ولا عالم فإن ذلك المرء الفاعل لذلك لا يأثم ، ويدل على صحة هذه القاعدة التي عليها جماهير الفقهاء نصوص وأدلة ، ومن ذلك ما أخرجه أبن ماجة في (( سننه )) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في (( صحيحيهما )) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : قال الله : ( قد فعلت ) .
وأما الأمر الرابع : فقوله ( وألاَّ يعبد الله إلا بما شرع ).
( بما ) : ( ما ) موصولة بمعنى الذي ، فيكون التقدير بالذي شرع ، ومعنى هذا الأمر الرابع : أن تكون العبادة من المكلف لله متابعاً فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا تكونن بالبدع والمخترعات الحادثات ، ولو ظن الإنسان أن هذه البدعة حسنة فإنها سيئة .
وهذه الأمور الأربعة راجعة إلى أمرين هما متعلق الكلام :-
أما الأمر الأول : فما يتعلق بالخبر حيث يجب تصديقه .
وأما الثاني : فما يتعلق بالإنشاء حيث يجب الطاعة فيه والامتثال .
والطاعة يدخل فيها فعل الواجبات والمأمورات ، وترك المنهيات والمحرمات ، ومما أمر لله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - المتابعة في العبادة ، وألا يُعبد الله إلا بما شرعه - سبحانه وتعالى - )) .
س125 : ما دليل الصلاة والزكاة ؟(1/149)
ج : قال المصنف رحمه الله : ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة : 5] .
قال الأسمري في (( شرحه : 95 )) : ((ثم قال المصنف يرحمه الله ( وإقام الصلاة ) ( الصلاةُ ) : معروفة ، ومن تعاريفها هي : هيئة مخصوصة بأفعال وأقوال مخصوصة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم .
وأما قوله ( وإيتاء الزكاة ) ( الزكاة ) : معروفة ومن تعاريفها هي أن يقال : إخراج مال مخصوص من شيء مخصوص بطريقة مخصوصة على وفق شروط مخصوصة.
س126 : ما دليل الصيام ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : ودليل الصيام قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 183] .
قال الأسمري في (( شرحه : 102 )) : (( ثم قال المصنف ـ يرحمه الله ـ و دليل الصيام قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } ووجه كون ذلك على جهة الأمر هو أن قوله كتب من الكتابة .
والكتابة نوعان :-
أما النوع الأول : فكتابة قدرية ، وهو أن يكتب الله ما يقدره - سبحانه وتعالى - ، وأعمال الخلق مكتوبة قبل أن يخلق الله سماواته وأرضه بخمسين ألف سنة ، ودلّ على ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة )) وهذا بين واضح .
وأما النوع الثاني : فكتابة شرعية ، ويقصد بها الأمر ، يقال كتب الله على خلقه كذا ، أي : أمرهم به وطلب منهم فعله .(1/150)
ومن أمثلة ذلك قول الله - سبحانه وتعالى - : { كتب عليكم الصيام } أي : جعله الله مكتوباً عليكم شرعاً ، أي : أنتم مأمورون به كما أمر به الذين من قبلكم .
س127 : ما الدليل الحج ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : ودليل الحج قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران : 97] .
قال الأسمري ف (( شرحه : 103 )) : ((وقال المصنف : ( ودليل الحج قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } .
صيغ الأمر الدالة على الوجوب عند الأصوليين نوعان:-
أما النوع الأول : فصيغ لفظية ، مثل أمَرَ الله وأوجب الله ، ونحو ذلك .
وأما النوع الثاني :فما يؤخذ بمساق الكلام ، لا بلفظه ، فقد يكون مساق الجملة دالاً على الوجوب ، ومن أمثلة ذلك عند جماعة قول الله - سبحانه وتعالى - { ولله على الناس حج البيت } لأن هذه الآية بهذا المساق تدل على الأمر، أي : أن الله - سبحانه وتعالى - يأمر الناس بالحج على وفق استطاعته ، ومن ثم صح الاستدلال بهذه الآية على المقصود .
المرتبة الثانية : الإيمان .
س128 : ما هي المرتبة الثانية ؟ وما هي شعبها ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : المرتبة الثانية : الإيمان :وهو بضع وسبعون شعبة . فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
س129 : عرف الإيمان ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 76 )) : ((الإيمان في اللغة التصديق.
وفي الشرع : إعتقاد بالقلب ، وقول باللسان وعمل بالجوارح ، وهو بضع وسبعون شبعة )) .(1/151)
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 75 )) : (( الإيمان كثيراً ما يأتي في القرآن ويراد به اللغوي ، وكثيراً ما يأتي في القرآن ويراد به الشرعي، بمثل الألفاظ الأخرى كالصلاة فإنها تأتي ويراد بها اللغوي ؛ الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء ، ويأتي ويراد بها الصلاة المعروفة ومما ذكره بعض أهل العلم المحققين ، ومما ذكره بعض أهل العلم من ذوي التحقيق :
أن الإيمان اللغوي في القرآن كثيراً ما يُعدّى باللام كقوله تعالى ?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ?[يوسف:17], كقوله ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ?[العنكبوت:26], ونحو ذلك من الأمثلة وما سبق أن ذكرت لك.
* والإيمان الشرعي المنقول عن أصله اللغوي الذي يراد به العمل والقول والاعتقاد هذا يُعدى كثيرا بالباء ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ?[البقرة:285]، إلى آخر الآية قال ?فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا?[البقرة:137], ونحو ذلك من الآيات وكقوله ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:136].
هذا الإيمان قول وعمل واعتقاد ، ويراد به تارة الاعتقادات الباطنة، وهو الذي يناسب المرتبة الثانية، لأن المرتبة الأولى هي الإسلام ، وهي ما يشمل العمل الظاهر كما جاء في حديث جبريل , فقد جاء في بعض طرقه أنه ذكر عليه الصلاة والسلام لجبريل أن من الإسلام بعد الحج الغُسل من الجنابة ، ومنه الذكر ، ونحو ذلك مما هو من جنس الأعمال الظاهرة. وأما الإيمان: فهو العقائد الباطنة ؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.
س130 : ما المراد بلفظ (( بٍٍِِِِِِِِِِضع )) ؟
ج : البضع بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة .
س131 : ما المراد بلفظ (( شعبة )) ؟
ج : الشعبة هي الجزء من الشيء .(1/152)
س 132 : ما المراد بقوله (( إماطة الأذى عن الطريق )) ؟
ج : أي إزالة ما يتأذى منه الناس من أحجار وأشواك وغيرها .
س133 : ما المراد بـ (( الحياء )) ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 76 )) : (( الحياء صفة إنفعالية عند الخجل وتحجز المرء عن فعل ما يخالف المروءة )) .
وقال الشيخ خالد بن عبد الله المصلح في (( شرحه : 54 )) : (( الحياء عمل قلبي أصله في القلب وقد تظهر ثماره في الجوارح والسلوك ، لكن أصله في قلب الإنسان، وبهذا نعرف أن جميع الأعمال القلبية تدخل في مسمى الإيمان )) .أ . هـ
س134 : كيف نوفق بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أن الإيمان بضع وسبعون شعبة )) وبين قوله (( الإيمان أركانه ستة )) ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 76 )) : (( والجمع بين ما تضمنه كلام المؤلف رحمه الله تعالى من أن الإيمان بضع وسبعون شعبة وأن الإيمان أركانه ستة أن نقول: الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(1)
وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون شبعة ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيماناً في قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } {سورة البقرة، الآية: 143} قال المفسرون يعني صلاتكم إلى بيت المقدس لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة يصلون إلى بيت المقدس )) .
وقال الأسمري في (( شرحه : 105 )) : (( الإيمان له إطلاقان :ـ
إطلاق عام : يشمل الدين وأجزاءه وهذا هو المقصود في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بضع وسبعون شعبة أو وستون شعبة.
وإطلاق خاص : وهذا هو المتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخر الحديث الذي سيذكره المصنف -يرحمه الله -.(1/153)
س135 : كم هي أركان الإيمان ؟
ج : قال المصنف : أركانه ستة : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... } [البقرة : 177] .
ودليل القدر قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر : 49].
س136 : لماذا قيدت أركان الإيمان بست أركان ؟
ج : قال الأسمري في شرحه : 105 )) : ((إنما كانت ستة لدليلين :-
أما الدليل الأول : فما جاء في خبر جبرائيل وغيره.
وأما الدليل الثاني : فالإجماع ، حيث أجمع المسلمون على ذلك ، وقد حكى إجماعهم غير واحد ، ومن أولئك ابن مُنده في كتابه (( الإيمان )) ، وكذا النووي في (( شرحه على مسلم )) وجماعة.
س 137 : ما المراد بالركن ؟
ج : الركن هو ما لا يتم الشيء إلا به ولا يتحقق إلا بوجوده ويكون داخل ماهية الشيء كأركان الصلاة مثلاً .
قال الشيخ خالد بن عبد الله المصلح في (( شرحه : 55 )) : (( والركن هو الذي لا يقوم الشيء إلاّ به ، ففهمنا من هذا: أن اختلال وصفٍ من هذه الأوصاف المذكورة ثلمةٌ في الإيمان ، تؤدي وتفضي بصاحبها إلى ارتفاع وصف الإيمان عنه ، فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لكن لم يؤمن بالقدر فإنه لا يكون مؤمناً ، ولا يستحق وصف الإيمان ، لأنه فقد ركناً من أركان الإيمان الذي لا يثبت ولا يقر إلاّ به.
الركن الأول :
س138 : ما معنى الإيمان بالله تعالى ؟
ج : الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور :
1 ) الإيمان بوجوده .
2 ) الإيمان بربوبيته .
3 ) الإيمان بألوهيته .
4 ) الإيمان بأسمائه وصفاته .
س 139 : ما الأدلة الدالة على وجود الله تعالى ؟(1/154)
ج : قال العلامة أبن عثيمين - رحمه الله - في (( شرحه : 79 )) : (( وقد دل على وجوده تعالى: الفطرة ، والعقل ، والشرع والحس.
1- أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه" (1) .
2- وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى : فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها ، ولا يمكن أن توجد صدقة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه ، لأن قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقاً؟
ولا يمكن أن توجد صدفة ، لأن كل حادث لابد له من محدث ، ولأن وجودها على هذا النظام البديع ، والتناسق المتآلف ، والإرتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها ، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة ، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها ، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.(1/155)
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي ، والبرهان القطعي في سورة الطور ، حيث قال: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } {سورة الطور، الآية: 35} يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق ، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم ، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع – جبير بن مطعم – رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } {سورة الطور، الآيات: 35-37} وكان – جبير يومئذ مشركاً قال : "كاد قلبي أن يطير ، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي" رواه – البخاري – مفرقاً .
ولنضرب مثلاً يوضح ذلك ، فإنه لو حدثك شخص عن قصر مشيد ، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار ، وملئ بالفرش والأسرة، وزين
بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته ، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه ، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد ، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه ، وعددت حديثه سفها من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه وسمائه ، وأفلاكه وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد ؟ !
3- وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى : فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك ، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه ، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.
4- وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجهين:(1/156)
أحدهما: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين ، وغوث المكروبين ، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى ، قال الله تعالى: { ونوحاً إذ نادى من قبل فأستجبنا له } {سورة الأنبياء، الآية: 76} وقال تعالى: { إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم } {سورة الأنفال ، الآية: 9} وفي صحيح البخاري عن – أنس بن مالك رضي الله عنه : "أن أعرابياً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال: ( يا رسول الله) ، هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه ودعا فثار السحاب أمثال الجبال فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره.
فقال : ( يا رسول الله ) تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا ، فرفع يديه وقال : "الله حوالينا ولا علينا" ، فما يشير إلى ناحية إلا أنفرجت" .
وما زالت إجابة الداعين أمراً مشهوداً إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة.
الوجه الثاني: أن آيات الأنبياء التي تسمى (المعجزات) ويشاهدها الناس ، أو يسمعون بها ، برهان قاطع على وجود مرسلهم ، وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر ، يجريها الله تعالى تأييداً لرسله ونصراً لهم .
مثال ذلك: آية موسى صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر ، فضربه فانفلق أثنى عشر طريقاً يابساً ، والماء بينها كالجبال ، قال الله تعالى : { فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فأنفلق فكان كل فرق كالطود العظيم } {سورة الشعراء ، الآية: 63}.
ومثال ثان: آية عيسى صلى الله عليه وسلم حيث كان يحيى الموتى ، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله ، قال الله تعالى: { وأحي الموتى بإذن الله } {سورة آل عمران ، الآية: 49} وقال : { وإذ تخرج الموتى بإذني } {سورة المائدة ، الآية: 110}.(1/157)
ومثال ثالث: لمحمد صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فأشار إلى القمر فأنفلق فرقتين فرآه الناس ، وفي ذلك قوله تعالى { أقتربت الساعة وأنشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } {سورة القمر، الآيتين: 1-2}. فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييداً لرسله، ونصراً لهم ، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى )) .
س140: ما معنى الإيمان بربوبيته ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين – رحمه الله - في (( شرحه : 80 )) : (( أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.
والرب : من له الخلق والملك ، والأمر ، فلا خالق إلا الله ، ولا مالك إلا هو ، ولا أمر إلا له ، قال تعالى : { ألا له الخلق والأمر } {سورة الأعراف : 54} وقال: { ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } {سورة فاطر: 13} .
ولم يعلم أن أحداً من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه ، إلا أن يكون مكابراً غير معتقد بما يقول ، كما حصل من – فرعون – حين قال لقومه : { أنا ربكم الأعلى } {سورة النازعات : 24} وقال: { يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } {سورة القصص: 38} لكن ذلك ليس عن عقيدة ، قال الله تعالى: { وجحدوا بها و أستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } {سورة النمل: 14} وقال موسى لفرعون فيما حكى الله عنه: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً } { سورة الإسراء : 102}.
ولهذا كان المشركون يقرون بربوبية الله تعالى ، مع إشراكهم به في الألوهية ، قال الله تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } {سورة المؤمنون : 84-89}.(1/158)
وقال الله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } {سورة الزخرف، الآية: 9} وقال: { ولئن سألتهم من خلقهن ليقولن الله فأنى يؤفكون } {سورة الزخرف : 87}.
وأمر الرب سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد حسب ما تقتضيه حكمته ، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادت وأحكام المعاملات حسبما تقتضيه حكمته ، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرعاً في العبادات أو حاكماً في المعاملات فقد أشرك به ولم يحقق الإيمان.
س141 : ما معنى الإيمان بألوهيته ؟(1/159)
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 82 )) : (( أي ( بأنه وحده الإله الحق لا شريك له ) و "الإله" بمعنى المألوه" أي "المعبود حياً وتعظيماً ، وقال الله تعالى: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } {سورة البقرة : 163} وقال تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } {سورة آل عمران : 18}. وكل ما اتخذ إلها مع الله يعبد من دونه فألوهيته باطلة ، قال الله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } {سورة : 62} وتسميتها آلهة لا يعطيها حق الألوهية قال الله تعالى في اللات والعزى ومناة) : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } {سورة النجم : 23} وقال عن هود أنه قال لقومه: { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } {سورة الأعراف : 71} وقال عن يوسف أنه قال لصاحبي السجن: { أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما انزل الله بها من سلطان } {سورة يوسف : 39-40} ولهذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم { أعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ولكن أبى ذلك المشركون ، واتخذوا من دون الله آلهة ، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم ، ويستغيثون.
وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:
الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي أتخذوها شيء من خصائص الألوهية ، فهي مخلوقة لا تخلق ، ولا تجلب نفعاً لعابديها ، ولا تدفع عنهم ضرراً ، ولا تملك لهم حياة ولا موتاً ، ولا يملكون شيئاً من السماوات ولا يشاركون فيه.(1/160)
قال الله تعالى: { واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً } {سورة الفرقان، الآية: 3}.
وقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } {سورة سبأ، الآيتين: 22-23} .
وقال: { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } {سورة الأعراف، الآيتين: 191-192}.
وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة ، فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه ، وأبطل الباطل.
الثاني: أن هؤلاء المشركين كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، وهذا يستلزم أن يوحدوه بالألوهية كما قال تعالى : { يأيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } {سورة البقرة ، الآيتين: 21-22} وقال { ولئن سأتلهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } {سورة الزخرف ، الآية : 87} وقال : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلك الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } {سورة يونس : 31-32}.
س142 : ما معنى الإيمان بأسمائه وصفاته ؟(1/161)
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 85 )) : ((أي ( ما أثبته الله لنفسه في كتابه ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل ، قال الله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فأدعوه به وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } {سورة الأعراف، الآية: 180} وقال: { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } {سورة الروم ، الآية: 27} وقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } {سورة الشورى ، الآية: 11} .
وقد ضل في هذا الأمر طائفتان :
إحداهما : ( المعطلة ) الذين أنكروا الأسماء ، والصفات ، أو بعضها ، زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه ، أي تشبيه الله تعالى بخلقه ، وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول : أنه يستلزم لوازم باطلة كالتناقض في كلام الله سبحانه ، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء ، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه لزم التناقض في كلام الله ، وتكذيب بعضه بعضاً.
الثاني: أنه لا يلزم من اتفاق الشيئين في أسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلاً منهما إنسان سميع ، بصير ، متكلم ، ولا يلزم من ذلك أن يتماثلا في المعاني الإنسانية ، والسمع والبصر ، والكلام ، وترى الحيوانات لها أيد وأرجل ، وأعين ولا يلزم من اتفاقها هذا أن تكون أيديها وأرجلها ، وأعينها متماثلة .
فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفق فيه من أسماء ، أو صفات، فالتباين بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
الطائفة الثانية: ( المشبهة ) الذين أثبتوا الأسماء ، والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص ، لأن الله تعالى يخاطب العباد يفهمون وهذا الزعم باطل لوجوه منها:(1/162)
الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقه أمر باطل يبطله العقل، والشرع ، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمراً باطلاً.
الثاني: أن الله تعالى خاطب العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى ، أما الحقيقة والكنه الذي عليه ذلك المعنى فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته ، وصفاته.
فإذا اثبت الله لنفسه أنه سميع ، فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى ( وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة ، لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات ، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق، أبين وأعظم.
وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه أستوى على عرشه فإن الإستواء من حيث أصل المعنى معلوم ، لكن حقيقة الإستواء التي هو عليه غير معلومة بالنسبة إلى استواء الله على عرشه فإن الإستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الإستواء على كرسي مستقر كالإستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق ، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم .
س143 : ما هي ثمرات الإيمان بالله تعالى ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 86 )) : (( الإيمان بالله تعالى على ما وصفنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة منها:
الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى بحيث لا يتعلق بغيره رجاء، ولا خوفاً ، ولا يعبد غيره.
الثانية: كمال محبة الله تعالى ، وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
الركن الثاني : الإيمان بالملائكة :
س144 : ما معنى الإيمان بالملائكة ؟(1/163)
ج : قال الشيخ خالد بن عبد الله المصلح في (( شرحه : 56 )) : (( الإيمان بالملائكة، وهم عالم غيبي نوراني، أحياء ناطقون. خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور ، ولهم شأن عظيم مفصل في الكتاب والسنة ، فالإيمان بهم أن تؤمن بوجودهم على وجه الإجمال، وأن تؤمن بما ذكره الله عنهم في كتابه ، وما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح من سنته ، وأن تؤمن بمن سمي منهم ، وأن تؤمن بأنهم خلق عظيم لهم أحوال وقدرات الله مكنهم منها ، وأنهم مذللون لرب العالمين، لا يخرجون عن أمره، هذا ما يتضمنه الإيمان بالملائكة )) .
وقال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 88 )) : (( الملائكة: عالم غيبي مخلوقون ، عابدون لله تعالى ، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، خلقهم الله تعالى من نور ، ومنحهم الانقياد التام لأمره ، والقوة على تنفيذه قال الله تعالى: { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون } {سورة الأنبياء : 19-20} . وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع له البيت المعمور في السماء يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودا إليه آخر ما عليهم .
س145 : ماذا يتضمن الإيمان بالملائكة ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 88 )) : (( الإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجودهم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه (كجبريل) ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالاً.(1/164)
الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم ، كصفة ( جبريل ) فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه على صفته التي خلق عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق. وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل ، كما حصل (لجبريل) حين أرسله تعالى إلى-مريم-فتمثل لها بشراً سوياً ، وحين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه جاءه بصفة لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه أحد من الصحابة ، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، والإيمان والإحسان ، والساعة ، وإماراتها ، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". رواه مسلم .
وكذلك الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى إلى إبراهيم، ولوط كانوا في صورة رجال.
الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى، كتسبيحه، والتعبد له ليلاً ونهاراً بدون ملل ولا فتور.
وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة.
مثل: جبريل الأمين على وحي الله تعالى يرسله به إلى الأنبياء والرسل.
ومثل: ميكائيل الموكل بالقطر أي بالمطر والنبات.
ومثل: إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق.
ومثل: ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومثل: مالك الموكل بالنار وهو خازن النار.
ومثل: الملائكة الموكلين بالأجنة في الأرحام إذا تم للإنسان أربعة أشهر في بطن أمه ، بعث الله إليه ملكاً وأمره بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد.
ومثل: الملائكة الموكلين بحفظ أعمال بني آدم وكتابتها لكل شخص ، ملكان : أحدهما عن اليمين، والثاني عن الشمال.
ومثل: الملائكة الموكلين بسؤال الميت إذا وضع في قبره يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ، ودينه ، ونبيه.
س146 : ما هي ثمرات الإيمان بالملائكة ؟
ج : والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:(1/165)
الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته ، وسلطانه ، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق .
الثانية : شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم ، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم ، وكتابة أعمالهم ، وغير ذلك من مصالحهم.
الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى.
س147 : هل للملائكة قلوب ؟
ج : نعم ، قال تعالى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ : 23] .
س148 : كيف ترد على من أنكر وجود الملائكة وقال أنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 89 )) : (( لقد أنكر قوم من الزائغين كون الملائكة أجساماً ، وقالوا إنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات ، وهذا تكذيب لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع } {سورة الفاطر ، الآية: 1} .
وقال: { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون على وجوههم وأدبارهم } {سورة الأنفال، الآية: 50}.
وقال: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } {سورة الأنعام ، الآية: 93}.
وقال: { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } {سورة سبأ، الآية: 23}.
وقال في أهل الجنة : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } {سورة الرعد، الآيتين: 23-24}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء، ، إن الله يحب فلانأ فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض".(1/166)
الركن الثالث : الإيمان بالكتب السماوية :
س149 : ما معنى الإيمان بالكتب السماوية ؟
ج : قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرحه : 91 )) : ((الكتب: جمع ( كتاب ) بمعنى ( مكتوب ).
والمراد بها هنا : الكتب التي أنزلها تعالى على رسله رحمة للخلق ، وهداية لهم ، ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
س150 : ماذا يتضمن الإيمان بالكتب ؟
ج : قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرحه : 91 )) : (( الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقاً.
الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والتوراة التي أنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى صلى الله عليه وسلم، والزبور الذي أوتيه داود صلى الله عليه وسلم وأما لم نعلم اسمه فتؤمن به إجمالاً.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها ، كأخبار القرآن ، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.
الرابع : العمل بأحكام ما لم ينسخ منها ، والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها ، وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم قال الله تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } {سورة المائدة، الآية: 48} أي ( حاكماً عليه ) وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح منها وأقره القرآن )) .
س151 : ما هي ثمرات الإيمان بالكتب ؟
ج : قال الشيخ أبن عثيمين في (( شرحه : 92 )) : ((والإيمان بالكتب يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى : العلم بعناية الله تعالى بعباده حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به.
الثانية : العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث شرع لكل قوم ما يناسب أحوالهم، كما قال الله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } {سورة المائدة ، الآية: 48}.
الثالثة : شكر نعمة الله في ذلك .
الركن الرابع : الإيمان بالرسل :(1/167)
س152 : ما معنى الإيمان بالرسل ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 93 )) : (( الرسل : جمع رسول بمعنى ( مرسل ) أي مبعوث بإبلاغ شيء.
والمراد هنا: من أوحى إليه من البشر بشرع وأمر بتبليغه.
وفي صحيح البخاري عن-أنس بن مالك- رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر أن الناس يأتون إلى آدم ليشفع لهم فيعتذر ، إليهم ويقول: ائتوا نوحاً رسول بعثه الله – وذكر تمام الحديث.
وقال الله تعالى في محمد صلى الله عليه وسلم { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } {سورة الأحزاب، الآية:40}.
ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه ، أو نبي يوحي إليه بشريعة من قبله ليجددها ، قال الله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ........
والرسل بشر مخلوقون ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، قال الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين وأعظمهم جاهاً عند الله : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } { الأعراف: 188}.......
وتلحقهم خصائص البشرية من المرض ، والموت ، والحاجة إلى الطعام والشراب، وغير ذلك ، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في وصفه لربه تعالى: { والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * } .
س153 : ما هي ثمرات الإيمان بالرسل ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 96 )) : (( وللإيمان بالرسل ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم برحمة الله تعالى وعنايته بعباده حيث أرسل إليهم الرسل ليهدوهم إلى صراط الله تعالى ، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله ، لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك.
الثانية: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.(1/168)
الثالثة: محبة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتعظيمهم، والثناء عليهم بما يليق بهم، لأنهم رسل الله تعالى، ولأنهم قاموا بعبادته ، وتبليغ رسالته ، والنصح لعباده.
وقد كذب المعاندون رسلهم زاعمين أن رسل الله تعالى لا يكونون من البشر وقد ذكر الله تعالى هذا الزعم وأبطله بقوله { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } {سورة الإسراء، الآيتين: 94-95} فأبطل الله تعالى هذا الزعم بأنه لا بد أن يكون الرسول بشراً لأنه مرسل إلى أهل الأرض، وهم بشر ، ولو كان أهل الأرض ملائكة لنزل الله عليهم من السماء ملكاً رسولاً ، ليكون مثلهم ، وهكذا حكى الله تعالى عن المكذبين للرسل أنهم قالوا: { إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءاباؤنا فأتونا بسلطان مبين * قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله } {سورة إبراهيم : 10-11}.
الركن الخامس : الإيمان باليوم الآخر :
س 154 : ما معنى الإيمان باليوم الآخر ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 98 )) : ((اليوم الآخر: يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء . وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده ، حيث يستقر أهل الجنة في منازهم ، وأهل النار في منازلهم )) والإيمان به يعني الإيمان بكل ما سيقع بعد الموت .
س155 : ماذا يتضمن الإيمان باليوم الآخر ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 98 )) : (( الإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور:(1/169)
الأول : الإيمان بالبعث : وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية ، فيقوم الناس لرب العالمين ، حفاة غير منتعلين ، عراة غير مستترين ، غرلاً غير مختتنين ، قال الله تعالى: { كما بدأنا أول خلق نعيد وعداً علينا إنا كنا فاعلين } {سورة الأنبياء، الآية: 104}. والبعث : حق ثابت دل عليه الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين . قال الله تعالى: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } {سورة المؤمنون: 15-16}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة غرلاً )) متفق عليه .
وأجمع المسلمون على ثبوته ، وهو مقتضى الحكمة حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معاداً يجازيهم فيه على ما كلفهم به على ألسنة رسله ، قال الله تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } {سورة المؤمنون، الآية: 115} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إن الذي فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد } {سورة القصص، الآية: 85}.
الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء : يحاسب العبد على عمله ، ويجازى عليه ، وقد دل على ذلك الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين ، قال الله تعالى: { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } {سورة الغاشية، الآيتين : 25-26} وقال: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجرى إلا مثلها وهم لا يظلمون } {سورة الأنعام ، الآية: 160} وقال: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } {سورة الأنبياء : 47}....(1/170)
وقد أجمع المسلمون على إثبات الحساب والجزاء على الأعمال ، وهو مقتضى الحكمة فإن الله تعالى أنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، وفرض على العباد قبول ما جاءوا به ، والعمل بما يجب العمل به منه ، وأوجب قتال المعارضين له وأحل دماءهم ، وذرياتهم ، ونسائهم ، وأموالهم. فلو لم يكن حساب ، ولا جزاء لكان هذا من العبث الذي ينزه الرب الحكيم عنه ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين } {سورة الأعراف، الآيتين: 6-7} .
الثالث: الإيمان بالجنة والنار ، وأنهما المال الأبدي للخلق ، فالجنة دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين ، الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به، وقاموا بطاعة الله ورسوله ، مخلصين لله متبعين لرسوله . فيها من أنواع النعيم مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر" . قال الله تعالى : { إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تدري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } {سورة البينة، الآيتين: 7-8}.
س156 : ما يلحق الإيمان باليوم الآخر ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 101 )): (( ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر : الإيمان بكل ما يكون بعد الموت مثل:
(أ ) فتنة القبر: وهي سؤال الميت بعد دفنه عن ربه، ودينه، ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم. ويضل الله الظالمين فيقول الكافر هاه ، هاه ، لا أدري . ويقول المنافق أو المرتاب لا أدري سمعت الناس لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.(1/171)
(ب ) عذاب القبر ونعيمه: فيكون العذاب للظالمين من المنافقين والكافرين قال الله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءايته تستكبرون } {سورة الأنعام ، الآية: 23}.
وقال تعال في آل عمران -: { النار يعرضون عليها عدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } {سورة غافر، الآية: 44} .
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا نعوذ بالله من الفتن قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال، قالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال )) .
س157 :ما الأدلة الدالة على البعث واليوم الآخر ؟
ج : لقد تنوعت الأدلة في القرآن الكريم :
1 ) فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم في هذه الحياة الدنيا ، قال تعالى { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 56] .
2) وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى ، فإن الإعادة أهون من الابتداء :
* قال تعالى { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس : 79](1/172)
* وقال تعالى { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ُ } [الروم : 27] .
3 ) وتارة يستدل على ذلك بخلق السموات والأرض فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان ، كما قال تعالى { …أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف : 33] .
4 ) وتارة يستدل عليه بتنزيه الله تعالى عن العبث :
* قال تعالى { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون : 115].
* قال تعالى { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * …ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة : 40] .
5 ) وتارة يجمع بين الإيمان به مع الإيمان بالله ، قال تعالى { … قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ } [التوبة : 29] .
س 158 : هل البعث إعادة أم تجديد ؟
ج : بل هو إعادة كما قال تعالى { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء : 104]….
س 159 : عرف الدنيا ؟
ج : سميت دنيا وهي من الدناءة ومن الدنو فهي دنيئة بالنسبة للآخرة وهي دنية لنقصانها عن مرتبة الآخرة ، وهي دنيا لأنها سابقة للآخرة فهي أدنى منها .
س160 : ما هي الأسماء الأخرى لليوم الآخر ؟
ج : لقد سمي باليوم بالآخر لتأخره عن الدنيا وله أسماء كثيرة منها :(1/173)
* يوم البعث .…* يوم الفصل * يوم الحشر * يوم الجمع * يوم الحساب * يوم الوعيد * يوم الخروج .…* يوم القيامة . * يوم الدين .
* يوم الحسرة والندامة * يوم الخلود * الدار الآخرة * دار القرار * دار الخلد
* الواقعة * الحاقة * القارعة * الغاشية * الطامة * الآزفة * يوم التناد
* يوم التغابن .
س 161 : كيف ترد على من أنكر البعث واليوم الآخر ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 103 )) : (( لقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت زاعمين أن ذلك غير ممكن. وهذا الزعم باطل دل على بطلانه الشرع ، والحس ، والعقل .
أما الشرع : فقد قال الله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } {سورة التغابن، الآية: 7} وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه.
وأما الحس : فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا ، وفي سورة البقرة خمسة أمثلة على ذلك وهي:
المثال الأول: قوم موسى حين قالوا له: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } {سورة البقرة، الآية: 55} فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطباً بني إسرائيل : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } {سورة البقرة، الآيتين : 55، 56}.
المثال الثاني :في قصة القتيل الذي أختصم فيه بنو إسرائيل ، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله ، وفي ذلك يقول الله تعالى: { وإذ قتلتم نفساً فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا أضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون } {سورة البقرة ، الآيتين: 72-73}.(1/174)
المثال الثالث: في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف فأماتهم الله تعالى ، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى: { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } {سورة البقرة، الآية: 243}.
المثال الرابع: في قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مئة سنة ، ثم أحياه وفي ذلك يقول الله تعالى: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وأنظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وأنظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } {سورة البقرة، الآية: 259}.
المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى ؟ فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير ، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله ، ثم يناديهن فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض ، ويأتين إلى إبراهيم سعياً، وفي ذلك يقول الله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم أدعهن يأتينك سعياً وأعلم أن الله عزيز حكيم } {سورة البقرة، الآية: 260}.
فهذه أمثلة حسية واقعية تدل على إمكانية إحياء الموتى، وقد سبقت الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم من إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى.
وأما دلالة العقل فمن وجهين:(1/175)
أحدهما : أن الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما فيهما ، خالقهما ابتداءً ، والقادر على ابتداء الخلق لا يعجز عن إعادته ، قال الله تعالى: { وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } {سورة الروم، الآية: 27} وقال تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } {سورة الأنبياء، الآية: 104}. وقال آمرا بالرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم: { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } {سورة يس، الآية: 79}.
الثاني: أن الأرض تكون ميتة هامدة ليس فيها شجرة خضراء، فينزل عليها المطر فتهتز خضراء حية فيها من كل زوج بهيج، والقادر على إحيائها بعد موتها ، قادر على إحياء الموتى . قال الله تعالى: { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء أهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيى الموتى إنه على كل شيء قدير } {سورة فصلت، الآية: 39} وقال تعالى: { ونزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقاً للعباد وأوحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } {سورة ق، الآيات: 9-11}.
س162 : كيف ترد على من أنكر عذاب القبر ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 106 )) : (( لقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر، ونعيمه ، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا فإنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق.
وهذا الزعم باطل بالشرع ، والحس ، والعقل:
أما الشرع: فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر ، ونعيمه في فقرة ( ب ) مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر.
وفي صحيح البخاري – من حديث – ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة ، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما" وذكر الحديث ، وفيه : "أن أحدهما كان لا يستتر من البول" وفي –رواية – " من (بوله) وأن الآخر كان يمشي بالنميمة".(1/176)
وأما الحس: فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان ضيق موحش يتألم منه، وربما يستيقظ أحياناً مما رأى ، ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه ، والنوم أخو الموت ولهذا سماه الله تعالى " وفاة " قال الله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } {سورة الزمر، الآية: 42}.
وأما العقل : فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للواقع ، وربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صفته ، ومن رآه على صفته فقد رآه حقاً ومع ذلك فالنائم في حجرته على فراشه بعيداً عما رأى ، فإن كان هذا ممكناً في أحوال الدنيا ، أفلا يكون ممكناً في أحوال الآخرة ؟!
وأما إعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه ، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق ، فجوابه من وجوه منها:
الأولى: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات وقد قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ……وآفته من الفهم السقيم
الثاني: أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب، والجاحدون في التصديق بها.
الثالث: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وبين فراشه غطائه ، ولقد كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يوحي إليه وهو بين أصحابه فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة ، وربما يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه والصحابة لا يرون الملك، ولا يسمعونه.
س163 : ما هي ثمرات الإيمان باليوم الآخر ؟(1/177)
ج : للإيمان بالبعث واليوم الآخر ثمرات منها :
1 ) الإيمان بالبعث واليوم الآخر يحمل الإنسان على العمل والإستعداد له :
* قال تعالى { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [الكهف : 110]….
*وقال تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [الإنسان : 7]. 2) الإيمان بالبعث واليوم الآخر يحمل الإنسان على الثبات عند لقاء العدو والصبر على الشدائد ، كما قال تعالى في طالوت وجنوده حينما لقوا عدوهم الذي يفوقهم في الكثرة والعٌدد كما قال تعالى { َلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة : 249] .
3 ) إنَّ عدم الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان على الكفر والمعاصي والظلم والعدوان والبغي والفساد :
1 – قال تعالى { إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يونس : 8] .
2 - قال تعالى { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين } [الماعون : 3] .
ولهذا أمر الله تعالى بإتقاء ذلك اليوم والاستعداد له بالأعمال الصالحة التي تنجي من أهواله كما قال تعالى { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] .(1/178)
وقال تعالى { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 48] .
الركن السادس : الإيمان بالقدر خيره وشره .
س164 : ما معنى الإيمان بالقدر ؟
ج : الإيمان بالقدر هو : إن الله تعالى قدَّر الأشياء في القدم وعَلِم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وفي أمكنة معلومة وهي تقع على حسب ما قدره وقضاه .
والدليل كما قال المصنف رحمه الله : (( ودليل القدر قوله تعالى (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) .
س 165 : ما هي مراتب الإيمان بالقدر ؟
ج : قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 80 )) : ((الإيمان بالقدر، تحقيق هذا الركن أن يعلم ويعتقد؛ يؤمن بأن كل شيء يحدث في هذا الملكوت بخلق الله، قد سبق به قدر، وأن الله جل وعلا عالم بهذه الأحوال وتفصيلاتها بخلقه قبل أن يخلقهم، وكتب ذلك، وإذا آمن أن كل شيء قد سبق به قدر الله فيكون حقق هذا الركن، والإيمان بالقدر؛ الإيمان الواجب يكون على مرتبتين:
المرتبة الأولى : الإيمان بالقدر السابق لوقوع المقدر: وهذا يشمل درجتين:(1/179)
الأولى العلم السابق: فإن الله جل وعلا يعلم ما كان وما سيكون وما يكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، علم الله السابق بكل شيء بالكليات و بالجزئيات، بجلائل الأمور وبتفصيلات الأمور، هذا العلم السابق كما قال جل وعلا في آخر سورة الحج ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?[الحج:70], وقال جل وعلا ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?[الأنعام:59], فبيَّن الله جل وعلا أن علمه بالأشياء سابق ، وأنه يعلم كل شيء؛ الكليات والجزئيات، الأمور الجلية وتفاصيل الأمور، هذا العلم الأول، وهذا العلم لم يزل الله جل وعلا عالماً به ، علمه جل وعلا بهذه الأشياء بجميع تفاصيل خلقه ، عِلْمُه بها أَوَّل يعني ليس له بداية.(1/180)
الدرجة الثانية الكتابة: أن يؤمن العبد أن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون، كتب أحوال الخلق وتفصيلات ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك عنده في كتاب جعله في اللوح المحفوظ، كما قال جل وعلا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فأثبت أنه في كتاب وقال جل وعلا ?وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَر ٌ?[القمر:53], يعني قد سُطِّر وكُتِب في اللوح المحفوظ، وقال جل وعلا ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[الحج:70]، بيّن أن كل شيء إنما هو في كتاب، وهذا قد جاء أيضا في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قدر الله مقادير الخلائق يعني بالكتابة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
هاتان الدرجتان في المرتبة الأولى؛ المرتبة الأولى تسبق وقوع المقدر، هذه المرتبة الأولى تحوي درجتين.
المرتبة الثانية : أيضا تحوي درجتين وهي تواكب أو تقارن وقوع المقدر:(1/181)
أولى الدرجتين الإيمان بأن مشيئة الله جل وعلا نافذة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، فليس ثم شيء يحدث ويحصل في ملكوت الله جل وعلا إلا وقد شاءه الله جل وعلا، وقد أراده الله جل وعلا كونا، سواء في ذلك طاعات المطيعين أو عصيان العاصين ، سواء في ذلك إيمان المؤمنين أو كفر الكافرين، فكل شيء يحصل في ملكوت الله إنما هو بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية ؛ لأن المشيئة ما تنقسم ، التي تنقسم الإرادة , بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية ، ومشيئة الله إذا أطلقت يُعنى بها الإرادة الكونية، الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية وإرادة شرعية ، فأما المشيئة فهي مشيئة الله جل وعلا في كونه، هذه الدرجة الأولى هذه تواكب وقوع المقدر ، فلا يمكن أن يعمل العبد شيء يكون مقدراً من الله جل وعلا إلا وهذا الشيء قد شاءه الله جل وعلا.
الدرجة الثانية أن يؤمن بأن الله جل وعلا خالق كل شيء: كل شيء مخلوق الله جل وعلا خالقه ؛ أعمال العباد، أحوال العباد, السماوات، الأرض، من في السماوات ومن في الأرض, ما في السماوات وما في الأرض , الجميع الذي خلقه هو الله جل وعلا، فإذا أراد العبد أن يعمل شيئا فإنه لا يكون إلا إذا شاءه الله جل وعلا, وخلق الله جل وعلا ذلك الشيء، طاعات المطيعين خلقها الله جل وعلا، عصيان العاصين خلقه الله جل وعلا، إذا توجه العبد بإرادته إلى أن يفعل شيء إذا شاءه الله كونا وقع بعد خلقه له، إذا لم يشأه ولو أراده العبد لم يقع، كما قال جل وعلا ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[التكوير:29]، قال ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا?[الإنسان:30]، مرتبة الخلق عامة.(1/182)
إذن هذا الإيمان الواجب يصح أن نقول أنه إيمان تفصيلي، مرتبة قبل وقوع المقدر، العلم الأزلي؛ العلم الأول ، والكتابة التي هي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ثم ما يواكب وقوع المقدر وهو أنّ العبد عنده إرادة وعنده قدرة ؛ إذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقدرة التامة حصل منك الفعل ، توجهت إلى الفعل حصل منك الفعل لكن لا يحصل منك إلا بعد أن يشاء الله جل وعلا ذلك منك ، وإلا بعد أن يخلق الله جل وعلا ذلك الفعل منك ، الفعل فعل العبد حقيقة ، لكن الخالق لهذا الفعل هو الله جل وعلا، لما؟ لأن من العبد لا يكون إلا بإرادة جازمة وبقدرة تامة، والإرادة والقدرة قد خلقها الله جل وعلا، الله جل وعلا خلق ما به يكون الفعل ويخلق الفعل نفسه إذا توجه إليه العبد.
فحصل بهذا الإيمان التفصيلي الواجب بالقدر )) .
س 166 : ما معنى قوله (( خيره وشره )) ؟
ج : الشر في القدر هو ما لا يلائم طبيعة الإنسان بحيث يحصل له به أذى وضرر ؟
والخير في القدر هو ما يلائم طبيعة الإنسان بحيث يحصل له به إرتياح وسرور وكل ذلك من الله تعالى .
والتوفيق بينهما : أن هناك قدر وتقدير وهناك مقدور فالتقدير ليس فيه شر بوجه من الوجوه بل كله خير ، أما المقدور ففيه شر من جهة عدم ملائمته للإنسان أما إن نظرنا من جهة الحكمة الإلهية ففيه خير كما قال تعال { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم : 41].
قال الأسمري في (( شرحه : 107 )) : (( ( خيره وشره ) : أي خير القدر وشر القدر ؛ لأن القدر نوعان : منه ما هو خير وهذا بيّن ، ومنه ما هو شر وهو ظاهر.
ومن ثم فإن القدر منه ما هو خير وما هو شر إلا أن الشر لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى وإنما يضاف إلى مفعولات الله .(1/183)
وإذا أضيف الشر إلى الله - سبحانه وتعالى - فتأتي إضافته على ما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - :ـ
إما بنزع الفاعل : كقوله سبحانه حكاية { أشرُ أريد بمن في الأرض } ، فنزع الفاعل وأضيف الشر إلى المفعول .
وإما بإضافته إلى السبب : كقوله تعالى { من شر ما خلق } فأضيف إلى السبب وهكذا.
وبهذا يتبين أن إضافة الشر إلى الله مباشرة لم تأتِ به النصوص في عمومها وجملتها كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه الله- .
س167 : ما الفِرق التي ضلت في باب القدر ؟
ج : الفرق التي ضلت في باب القدر من حيث الإثبات والنفي هي :
الأولى : القدرية : وهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي ، وأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من المعتزلة ومن وافقهم هؤلاء هم القدرية .
وقولهم بالقدر : إنَّ العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة ، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر ، ويقولون : إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله ، وإنما العباد هم الخالقون لها ، ويقولون : إنَّ الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله وغلاتهم ينكرون أنَّ يكون الله قد علمها ، فيجحدون مشيئته الشاملة ، وقدرته النافذة ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ، لأنهم شابها المجوس الذين قالوا : إنَّ للكون إلهين : إله النور ، وهو خالق الخير ، وإله الظلمة وهو خالق الشر (1).
إذن القدرية هم الذين أنكروا علم الله بالأفعال قبل وقوعها ، وأنه لم يقدرها وقالوا (( لا قدر وأنَّ الأمر أنف )) أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه .
ومن هذا نعلم أنَّ بدعة القدر مركبة من أمرين :
الأول : إنكار علم الله تعالى السابق للحوادث .
الثاني : إنَّ العبد هو الذي أوجد فعله وأنَّ الله لم يقدره .
__________
(1) 99 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 173 ، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .(1/184)
وهذا باطل من القول بل أثبت الله تعالى أنَّ للعبد مشيئة وقدرة على الفعل وأنَّ هذا الفعل مخلوق لله وأنه لا يقع إلا بأذنه ، قال تعالى { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [الإنسان : 30] .
وقال تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات : 96] .
وأول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة أسمه سوسن فأخذ عنه معبد الجهني .
قال اللالكائي : قال الأوزاعي : أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد (1) .
ولهذا سموا بمجوس هذه الأمة بسبب إنكارهم لعلم الله تعالى ، ونسبة خلق الفعل للعبد ، فعن (( عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية )) (2).
أما تكفيرهم :
قال أبو بكر الخلال : عن عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافراً ، فقال أبي : إذا جحد العلم إذا قال الله جل وعز لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم فجحد علم الله عز وجل كافر .
قال وسمعت أبي يقول إذا قال الرجل العلم مخلوق فهو كافر لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه ، إسناده صحيح (3).
وغاية ما أرادت القدرية الوصول إليه هو تنزيه الله تعالى عن فعل الشر فوقعت في نفي القدر ، ومن طريف ما يروى عنهم (( إنَّ إعرابياً سُرقت ناقته ، فجاء لحلقة عمرو بن عبيد _ وهو من رؤوس المعتزلة وممن يقول بمذهب القدرية _
فقال الأعرابي لعمرو : إنَّ ناقتي سُرقت فأدع الله أن يردها عليَّ .
فقال عمرو : اللهم إنَّ ناقة هذا المسكين سرقت ولم ترد سرقتها ، اللهم أرددها عليه .
__________
(1) 100 ) أنظر (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : رقم : 750 )) .
(2) 101 ) المصدر السابق برقم 666 .
(3) 102 ) السنة لأبي بكر الخلال : رقم 862 .(1/185)
فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك .
فقال عمرو : ولِمَ ؟
فقال الأعرابي : أخاف ، كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت ، أن يريد ردها فلا ترد (1).
الثانية : الجبرية : …الجبرية : وهم الذين غلوا في إثبات القدر _ على خلاف القدرية الذين غلوا في نفيه _ حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل _ حقيقة _ بل هو في زعمهم لا حرية له ولا فعل كالريشة في مهب الريح ........
وهؤلاء في الحقيقة يزعمون أنَّ الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم بخلاف ما عليه أهل السنة ، الذين يقولون : أن الله هو الخالق والعبد هو الفاعل ولذا ترتب على فعله الثواب والعقاب )) (2) أ . هـ
قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 114 )) : (( لقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما : الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه آثر.
والرد على الطائفة الأولى ( الجبرية ) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعال أثبت للعبد إرادة ومشيئة ، وأضاف العمل إليه قال الله تعالى: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } {سورة آل عمران، الآية: 152} وقال: { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } {سورة الكهف، الآية: 29} الآية. وقال: { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ومار بك بظلام للعبيد } {سورة فصلت، الآية: 46}.
__________
(1) 103 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 183 للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .
(2) 104 ) المصدر السابق : 175 .(1/186)
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الإختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل ، والشرب ، والبيع والشراء ، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالإرتعاش من الحمى، والسقوط من السطح ، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر ، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه.
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء ، وكل شيء كائن بمشيئة ، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى : { ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعد ما جاءتهم البينات ولكن أختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما أقتلتوا ولكن الله يفعل ما يريد } {سورة البقرة، الآية: 253} وقال تعالى : { ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } {سورة السجدة ، الآية: 13}.
وأما العقل : فإن الكون كله مملوك لله تعالى ، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته )).
س168 : هل الإيمان بالقدر ينافي أن يكون للعبد مشيئة وقدرة ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين رحمه الله في (( شرحه : 110 )) : (( الإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الإختيارية وقدرة عليها ، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع : فقد قال الله تعالى في المشيئة: { فمن شاء أتخذ إلى ربه مئاباً } {سورة النبأ، الآية: 39} وقال : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } {سورة البقرة، الآية: 223} وقال في القدرة: { فاتقوا الله ما أستطعتم واسمعوا وأطيعوا } {سورة التغابن، الآية: 16} وقال: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما أكتسبت } {سورة البقرة، الآية: 286}.(1/187)
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع: بإرادته كالمشي ، وما يقع بغير إرادته كالإرتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى ، وقدرته لقول الله تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } {سورة التكوير، الآيتين: 28-29} ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته )) .
س169 : هل الإيمان بالقدر يمنح العبد الحجة على ترك الواجبات وفعل المعاصي ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين رحمه الله في (( شرحه : 110 )) : (( الإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي ، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه :
الأول: قوله تعالى: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } {سورة الأنعام : 148} ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً } {سورة النساء، الآية: 165}ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل ، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة. فقال رجل من القوم : ألا نتكل يا رسول الله ؟ قال لا أعملوا فكل ميسر ، ثم قرأ { فأما من أعطى وأتقى } الآية. وفي لفظ لمسلم : "فكل ميسر لما خلق له" فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ونهى عن الإتكال على القدر.(1/188)
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه ، ولم يكلفه إلا ما يستطيع ، قال الله تعالى: { فاتقوا الله ما أستطعتم } {سورة التغابن، الآية: 16} وقال: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } {سورة البقرة، الآية: 286} ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان ، أو إكراه فلا إثم أو إكراه ، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: إن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله ، وحينئذ تنفى حجته إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر ، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحداً؟
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟ إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبداً أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر ، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهي عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلباً للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر ؟ .
س170 : ما الفرق بين الإرادة الكونية القدرية وبين الإرادة الشرعية ؟(1/189)
ج : قال العلامة محمد بن صالح العثيمين _ رحمه الله - في (( القول المفيد على كتاب التوحيد : 1 / 164 )) : ((أراد الله : تنقسم إلى قسمين : شرعية وكونية ، والفرق بينهما :
أولاً: من حيث المتعلق ، فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - عز وجل ـ، سواء وقع أو لم يقع ، وأما الكونية : فتتعلق بما يقع ، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه.
ثانياً: الفرق بينهما من حيث الحكم ، أي حصول المراد، فالشرعية : لا يلزم منها وقوع المراد ، أما الكونية فيلزم منها وقوع المراد. فقوله تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم } [النساء: 27] هذه إرادة شرعية لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس ، وأيضاً متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة. وقوله: { إن كان الله يريد أن يغويكم } [هود: 34] هذه كونية ، لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً فقد يريده . .. )) .
س171 : كيف يتعامل العبد مع القدر ؟
ج : للعبد في تعامله مع القدر حالتان :
1 ) حالة قبل وقوع القدر ، فعليه قبل وقوع المقدور أن يستعين بالله تعالى ويتوكل عليه ويدعوه ويحسن الظن به سبحانه .
2 ) حالة بعد وقوع القدر فعليه عندئذ ما يأتي :
أ – أن يحمد الله تعالى عند حلول النعم وبعد القيام بالطاعات ويعتقد أن الفضل الذي أصابه من الله ، وأن العبد ليس سوى محل للنعمة .
ب – أن يصبر ويرضى عند وقوع المصائب ويستغفر الله من الذنوب التي هي سبب كثرة المصائب ، وأن يحمد الله على ما أصابه وأن يتذكر أن من رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ، وأن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضتها حكمة الحكيم سبحانه ، وأن الله تعالى لا يفعل عبثاً ولا يظلم أحداً ، فعليه إذن أن يحسن الظن بالله تعالى .
ج – وإذا كان ما نزل بالعبد من المصائب من باب القدر الذي للعبد فيه إختيار ، فهو مأمور بدفعه بقدر هو أحب إلى الله تعالى منه .(1/190)
مثال ذلك : إذا نزل بالعبد مرض فهذا قدر من الله ، وهو لا شك مأمور بدفعه بقدر آخر هو التداوي .
د – أما إذا كان ما نزل بالعبد من المصائب من باب القدر الذي لا طاقة له بدفعه كموت قريب ، فهذا حقه أن يُتلقى بالاستسلام والصبر والرضى ...... )) (1).
س172 : ما المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ...... إذا ذُكر القدر فأمسكوا )) (2) ؟
ج : الجواب عن ذلك أن النهي الوارد منصب على الأمور الآتية :
1 – الخوض بالقدر بالباطل وبلا علم وبلا دليل .
2 – الاعتماد في معرفة القدر على العقل البشري القاصر بعيداً عن هدي الكتاب والسنة ، وذلك أن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك على وجه التفصيل .
3 – عدم التسليم والإذعان لله تعالى في قدره ، وذلك لأن القدر غيب ، والغيب مبناه التسليم .
4 – البحث عن الجانب الخفي في القدر ، الذي هو سر الله في خلقه والذي لم يطَّلع عليه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وذلك مما تتقاصر العقول عن فهمه ومعرفته .
5 – الأسئلة الإعتراضية التي لا ينبغي أن يُسأل عنها ، كمن يقول متعنتاً : لماذا هدى الله فلاناً وأضل فلاناً ؟ ولماذا كلَّف الله الإنسان من بين المخلوقات ؟ ولماذا أغنى الله فلاناً ؟ وأفقر فلاناً ؟ وهكذا .....
أما من يسأل مستفهماً فلا بأس به ، فشفاء العي السؤال ، أما من سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره....
6 – التنازع في القدر الذي يؤدي إلى اختلاف الناس فيه وافتراقهم في شأنه فهذا مما نهينا عنه..(3).
س173 : ما صحة ما يردده البعض (( اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه )) ؟
__________
(1) 105 ) أنظر : معالم التوحيد : 35 لمروان القيسي .
(2) 106 ) حديث صحيح ، أنظر (( صحيح الجامع برقم 454 )) و (( السلسلة الصحيحة 1/ 42 )) للشيخ الألباني .
(3) 107 ) أنظر : الإيمان بالقضاء والقدر : 20 للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .(1/191)
ج : هذا الدعاء يجري كثيراً على الألسنة ، وهو دعاء لا ينبغي لأنه شرع لنا أن نسأل الله رد القضاء إذا كان فيه سوء ، ولهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله باباً في صحيحه قال فيه : (( باب من تعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء وقوله تعالى { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } [الفلق: 2 ] .
ثم ساق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( تعوذوا بالله من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء )) رواه البخاري )) (1) .
س174 : ما صحة ما يردده البعض (( شاءت الظروف أو شاءت الأقدار )) ؟
ج : هذه من الألفاظ التي لا ينبغي التلفظ بها ، لأنه ليس للظروف ولا للأقدار مشيئة حتى تنسب لها .
س175 : ما ثمرات الإيمان بالقدر ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين رحمه الله في (( شرحه : 113 )) : (( للإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى ، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية : أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده ، لأن حصوله نعمة من الله تعالى ، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح ، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة: الطمأنينة ، والراحة النفسية بما يجرى عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب ، أو حصول مكروه ، لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما ءاتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور } {سورة الحديد، الآيتين : 22-23} و يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم )) .
__________
(1) 108 ) المصدر السابق : 147 .(1/192)
المرتبة الثالثة : الإحسان .
س176 : ما معنى الإحسان ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : ((المرتبة الثالثة : الإحسان ركن واحد : وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والدليل قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل : 128] وقوله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين ، َإِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء : 220] . وقوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [يونس : 61] .
وقال الأسمري في شرحه : 108 : (( وهذه المرتبة أصحابها على أحد منزلتين:-
أما المنزلة الأولى : فمنزلة المشاهدة والمعاينة .
وأما المنزلة الثانية : فمنزلة المراقبة .
ثم استدل المصنف ـ يرحمه الله ـ على هذه المرتبة بمجموعة أدلة :-
أولها : قول الله تعالى : { إن الله مع الذي اتقوا والذين هم محسنون } ، ووجه دلالة الآية على المقصود هو ذكر الله - سبحانه وتعالى - للمحسنين وخصهم بمعيته الخاصة سبحانه وتعالى.
والمعية نوعان :
أما النوع الأول : فمعية عامة ، وهي : مع الخلق كلهم ومن مقتضيات هذه المعية العلم والإحاطة ونحوهما.
وأما الثانية فمعية خاصة ، وهي : مع عباد الله المؤمنين ومن مقتضيات هذه المعية النصرة والتأييد ونحوهما .
و من ثم فقد خص الذي اتقوا ربهم والذين أحسنوا بهذه المعية الخاصة.(1/193)
وثاني الأدلة : قول الله تعالى : { وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم } الآية ، ووجه الدلالة فيها على المقصود من حيث المعنى الذي حوته ؛ حيث إنها حوت معنى الإحسان الذي أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) حيث قال الله فيها { الذي يراك حين تقوم } ففيها ذلك المعنى وصح الاستدلال بها.
وثالث الأدلة : قوله تعالى : { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن } الآية . ووجه دلالتها على المقصود : هو من حيث معناها ومضمونها ، إذ إن فيها قول الله { إلا كنا عليهم شهوداً } وسبق معنى الإحسان ، وفيه هذا المعنى )) .
س177 : ما الدليل على المراتب الثلاث السابقة الذكر ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : والدليل من السنة : حديث جبريل المشهور عن عمر بن الخطاب ( رضى الله عنه )قال ((بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا نعرفه منا أحد ، فجلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفّيه على فخذيه فقال: يا محمد! أخبرني عن الإِسلام .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (( الإِسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمَّداً رسول اللّه وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً )) .
قال: صدقت !!
قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه .
قال: فأخبرني عن الإِيمان ؟
قال : (( أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه )) .
قال: صدقت !
قال : فأخبرني عن الإِحسان ؟
قال: (( أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك )) .
قال : فأخبرني عن الساعة ؟
قال: (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل )) .
قال : فأخبرني عن إمارتها ؟(1/194)
قال: (( أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان )) .
قال : فمضى فلبثنا ملياً فقال : (( يا عمر أتدرون من السائل؟ )) ، قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم )) [ رواه مسلم برقم : 8 ].
الأصل الثالث : معرفة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - :
س178 : ما معنى معرفة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ؟
ج : قال المصنف رحمه الله : (( وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام نبئ بإقرأ . وأرسل بالمدثر . وبلده مكة ، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ، والدليل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر ، قُمْ فَأَنذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُر ، وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [ المدّثر : 1 ، 7 ] ، ومعنى قم فأنذر : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ، وربك فكبر : عظمه بالتوحيد ، وثيابك فطهر : أي طهر أعمالك من الشرك والرجز : الأصنام ، وهجرها : تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها .
أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ، وبعد العشر عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة )) .
قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 121 )) : ((معرفة النبي صلى الله عليه وسلم تتضمن خمسة أمور:(1/195)
الأول : معرفته نسباً فهو أشرف الناس نسباً فهو هاشمي قرشي عربي فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر ما قاله الشيخ رحمه الله. الثاني : معرفة سنه ، ومكان ولادته ، ومهاجره وقد بينها الشيخ بقوله: "وله من العمر ثلاث وستون سنة ، وبلده مكة ، وهاجر إلى المدينة" فقد ولد بمكة وبقي فيها ثلاثا وخمسين سنة ، ثم هاجر إلى المدينة فبقي فيها عشر سنين ، ثم توفي فيها في ربيع الأول سنة إحدى عشر بعد الهجرة.
الثالث: معرفة حياته النبوية وهي ثلاث وعشرون سنة فقد أوحي إليه وله أربعون سنة كما قال أحد شعرائه:
وأنت عليه أربعون فأشرقت ……شمس النبوة منه في رمضان
الرابع: بماذا كان نبياً ورسولاً ؟ فقد كان نبياً حين نزل عليه قول الله تعالى: { أقرأ بأسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * أقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } {سورة العلق، الآيات: 1-5} ، ثم كان رسولاً حين نزل عليه قوله تعالى: { يأيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فأهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر } {سورة المدثر، الآيات: 1-7} ، فقام صلى الله عليه وسلم فأنذر وقام بأمر الله عز وجل....
الخامس: بماذا أرسل ولماذا ؟ فقد أرسل بتوحيد الله تعالى وشريعته المتضمنة لفعل المأمور وترك المحظور ، وأرسل رحمة للعالمين لإخراجهم من ظلمة الشرك والكفر والجهل إلى النور العلم والإيمان والتوحيد حتى ينالوا بذلك مغفرة الله ورضوانه وينجوا من عقابه وسخطه )) .
س179 : ما معنى قول المصنف رحمه الله (( وقريش من العرب .... )) ؟
ج : قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 88 )) : (( العرب قسمان عند أهل النسب:
عرب عاربة: وهؤلاء انقرضوا إلاّ قحطان في اليمن.(1/196)
وعرب مستعرِبة: وهم الذين لم يكونوا أصلا من العرب , لكنهم دخلوا وصاروا عربا بانفتاق لسانهم عن العربية , وبتكلمهم بالعربية , وأكثر قبائل العرب من هذا الجنس ؛ العرب المستعربة وهم العرب ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:« أول من فُتِق لسانُه بالعربية الفصحى إسماعيل عليه السلام» وذلك كما هو معلوم أن إسماعيل لما أتى به أبوه إبراهيم , وأتى بأمه وجعله في مكة , ناسب العرب فصار مُلْهَما من عند الله جل وعلا بالانفتاق ؛ بانفتاق اللسان عن العربية الفصحى, وهذا كما جاء في الحديث على أن كثير من أهل النسب ينازعون في هذا الأخير )) .
س180 : ما معنى قول المصنف : (( والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ... )) ؟
ج : قال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 88 )) : ((قال ( والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل ) يعني أن قبائل العرب , القبائل المعروفة ؛ قريش , وهذيل, بنو تميم , بنو دوس إلى آخره ، أن هؤلاء جميعاً من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام , النسَّابون يصلون بالنسب تارات بأنساب القبائل إلى إسماعيل, ولكن المعروف عند العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقبله, أنهم يمكنهم وصل أنسابهم إلى عدنان, وأما بعد ذلك إلى إسماعيل فإنه لا يثبت ولا يمكن التصديق به.(1/197)
العرب كثيرون ، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث من العرب كما قال جل وعلا ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ?[التوبة:128] (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم , من قبائلكم من جنسكم العربي، ?عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ?[التوبة:128] وقال جل وعلا ?لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ?[آل عمران:164]، ونحو ذلك من الآيات , فإن النبي عليه الصلاة والسلام أبنٌ لعبد الله , وهو والده الأدنى, وأبن لإسماعيل بن إبراهيم, وهو والده الأعلى، وهذان وهما عبد الله وإسماعيل هما الذبيحان , فقد جاء في حديثٍ ضعيف السند لكنه صحيح المعنى , أنه قال « أنا ابن الذبيحين » المراد بالذبيحين عبد الله لأنه كما تعلمون قصة أبيه لما استقسم فنذر أن يذبح إن خرج....(1) فنذر أن يذبح ولده , ثم حصل قصة ما هو معروف فصار ذبيحا, يعني قد كاد أن يذبح، إسماعيل كذلك, فهو الذي جاء فيه قول الله جل وعلا ?يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات:102] وهذا هو الصحيح , فإن الابن الذي استسلم لأبيه, صابرا, محتسبا, مطيعا, لأبيه ومطيعا لربه جل وعلا, هو إسماعيل أبو العرب.
__________
(1) 109 ) كلمة غير واضحة.(1/198)
واليهود تزعم أن الذبيح هو إسحاق , وهذا باطل, ذلك لأن الله جل وعلا قال في سورة الصافات هذه ?فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات:101-102]، فوصف هذا الابن بأنه حليم, وهذا الوصف بالحلم في القرآن لإسماعيل عليه السلام, وأما إسحاق فإنه يوصف بأنه عليم؛ قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) هذا من صفة إسماعيل, ولهذا في هذه الآيات بعدها قال ?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ?[الصافات:113] فبشّر إسحاق بعد ذلك, فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن الذبيح عبد الله والده الأدنى، وهو أبن الذبيح إسماعيل والده الأعلى, وأما القول بأن الذبيح إسحاق, فإن هذا باطل, وإنما دسه اليهود في المسلمين, حتى كثُر في كتب التفسير, حتى يأخذوا هذا الفخر وهو أن إسحاق عليه السلام هو الذي صبر, واحتسب واستسلم وابتلي بهذا البلاء العظيم )) .
س 181 : ما معنى لفظ (( الخليل )) ؟
ج : قال الأسمري في شرحه : 114 )) : ((قوله ( الخليل ) : الخليل صفة لنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
ونبي الله إبراهيم له وصفان مشهوران :-
الوصف الأول : فوصف الخليل ، وهو مأخوذ من الخلة وهي شدة المحبة وليس لله سبحانه وتعالى من خلقه سوى خليليه واختلف في ثالث ، أما الخليلان فهما إبراهيم عليه السلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، واختلف في موسى هل هو خليل الله أم لا ؟ لورود بعض الأخبار في أنه خليل لله - سبحانه وتعالى - ، والمشهور أن الخلة حكر على إبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - .(1/199)
الوصف الثاني: فهو أبو الأنبياء ، وسبب هذا الوصف أن أنبياء بني إسرائيل من سلالة إسحاق وأما العرب فمن سلالة إسماعيل ، وهما ابنا إبراهيم عليه السلام ، ولذلك قيل أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، فصح الوصف واستقام )).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 89 )) : (( الخليل هو إبراهيم كما قال جل وعلا ?وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا?[النساء:125]، ووُصف بالخُلَّة إبراهيم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإبراهيم هو خليل الله , وموسى كليم الله , وأمّا محمد عليه الصلاة والسلام نبيُّنا فإنه اجتمع فيه الوصفان اللذان خُصَّ بهما إبراهيم وموسى, فهو خليل الله, كما أن إبراهيم خليل الله, وهو كليم الله, كما أن موسى كليم الله, كلّمه الله جل وعلا ليلة المعراج.
س182 : ما معنى قول المصنف رحمه الله : ((بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ... إلخ )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 117 )) : ( بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد )
( بعثه الله ) : أي أن الله أرسل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - مبعوثاً لغاية ، وهذه الغاية فسرها المصنف ـ يرحمه الله ـ ( بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد )
( النذارة ) : تحتمل أكثر من ضبط ، ومن ذلك النَّذَارة بفتح النون المشددة من الإنذار ، والإنذار يأتي في اللغة بمعنى التحذير ، يقال أنذر الوالد ولده ألا يعود إلى خطئه ، إذا حذره بعد ذلك .
فحصر المصنف ـ يرحمه الله ـ نذارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالته في هذا الأمر ، وهو التوحيد والتحذير من ضده وسبق التدليل على هذا المعنى.
( والدليل قوله تعالى : { يا أيها المدثر* قم فأنذر … } الآيات ، ذكرها المصنف لبيان المعنى السابق ، ثم أخذ في تفسيرها ـ يرحمه الله ـ ليبين وجه الدلالة ، وهذا التفسير الذي ذكره المصنف ـ يرحمه الله ـ مأخوذ من معاني المفسرين التي ذكروها حول الآيات )) .(1/200)
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه : 92 )) : (((بعثه الله بالنذارة عن الشرك يدعو إلى التوحيد)، (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن أي شيء ؟ ينذر عن الشرك ، يخوّف، الإنذار إعلامٌ فيه تخويف عن شيء يمكن تداركه ، لكن وقت تداركه يطول بخلاف الإشعار، هناك عندنا ثلاثة ألفاظ: إعلام، إنذار، إشعار:
الإعلام: مجرد إيصال العلم ؛ خبر.
الإنذار: إعلام فيه تخويف، وهناك فترة يمكن تصحيحها.
الإشعار: إعلام فيه تخويف، لكن مدة استدراكه قليلة كما قال الشاعر:
أنذرت عمراً وهو في مَهَل قبل الصباح فقد عصى عمرو
فدل على أن الإنذار يكون بعده مدة يمكن الاستدراك بها، (ينذر عن الشرك) أيضا يخوف من النار ، يخوف من عذاب الله، يخوف من سخط الله كما قال جل وعلا ?فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ?[فصلت:13] فإذا الإنذار يكون عن الشرك، وعما يكون عقابا لأهل الشرك من أنواع العقوبات، في الدنيا بالهلاك والاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب والنكال ......
بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) لها تفسيران؛ تفسير للثياب بالثياب المعروفة؛ ثياب تطهرها من النجاسة، وثيابك التي هي الأعمال، طهرها من الشرك، فصار الأنسب للثياب أن يفسر (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بطهر أعمالك من الشرك، وهذا مما يعتني به المحققون من المفسرين، أنهم يختارون في التفسيرِ التفسيرَ الذي يناسب السياق، يناسب ما بعده وما قبله، واللغة لها محامل كثيرة، ولهذا اختلف السلف في تفسيراتهم ...... )) .
س183 : ما معنى قول المصنف رحمه الله ((أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد .... )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 117 )) : ((قوله ( أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ) .
( أخذ ) : يعني النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - .(1/201)
( على هذا ) : الإشارة إلى الإنذار من الشرك والدعوة إلى التوحيد ، حيث إن المشار إليه في قوله (هذا ) هو ما سبق من تحديد النذارة ، بأنها عن الشرك والدعوة إلى التوحيد .
( عشر سين يدعو إلى التوحيد ) : عشر سنين يعني في مكة حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - بقي في مكة سنين ، وهو يدعو إلى التوحيد لأن الشرائع بتفاصيلها وفروعها إنما وقعت في الغالب والجملة في المدينة النبوية.
وجعل المصنف ـ يرحمه الله ـ الأمر يعود على عشر سنين وهن ثلاثة عشر من السنين لأن السنين الأولى وهي الثلاث كانت الدعوة فيهن خفية وسرية ، وأما النذارة التي بمعنى التحذير الظاهر فكانت في السنين العشر فحسب )) .
س 184 : ما معنى قول المصنف رحمه الله (( وبعد العشر عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى في مكة ثلاث سنين ... )) ؟
ج : قال الأسمري في شرحه : 118 )) : ((( عُرِج به إلى السماء ) : أي وقع له ما يسمى بالمعراج . والصحيح والذي عليه جمهور المؤرخين وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع له الإسراء والمعراج في ليلة واحدة وبجسده - صلى الله عليه وسلم - ، فالإسراء إنما كان إلى البيت الأقصى وكان على البراق ، والبراق بضم الباء الموحدة اسم دابة بين الحمار والبغل وتنتهي خطوتها عند مد بصرها ثم عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمعراج .
( عرج به ) : المعراج اسم آلة يصعد عليها إلى السماء ، فصعد إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى ، ففرض الله - سبحانه وتعالى - الصلوات الخمس ،كن خمسين فصرن خمساً في الأفعال وخمسين في الأجور، وجاء في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها (( أن الصلاة فرضت اثنتين ثم أبقيت في السفر وزيدت في الحضر )) .(1/202)
ففرضت الصلوات الرباعية في المعراج أثنتين ، أثنتين ، ثم بعد ذلك زيد في الصلاة لما انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فأصبحت صلاة العشاء والظهر والعصر أربعاً ، وأما في السفر فتكون على اثنتين .
وخبر الإسراء والمعراج دل عليه دلالتان :-
أما الدلالة الأولى : فدلالة الخبر والأخبار في ذلك متواترة مستفيضة ومنها سورة الإسراء .
وأما الدلالة فالإجماع : والإجماع نقله غير واحد ، ومن أولئك أبن كثير يرحمه الله في تفسيره وجماعة.
(صلى في مكة ثلاث سنين ) : أي بعد السنة العاشرة بقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين ، كما سبق تقريره وهو يصلي أثنتين اثنتين إلا المغرب فقد كانت ثلاثاً على ما قرره جماعة ، ومن أولئك الحافظ أبن حجر ـ يرحمه الله ـ في (( فتح الباري)) .
س185 : ما معنى قول المصنف رحمه الله : (( وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة ) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 121 )) : (( وصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة )
( وبعدها أمر ) : أي بعد الثلاث من السنين من إسرائه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالهجرة إلى المدينة.
( الهجرة ) : مأخوذة من الهجر ، والهجر في اللغة ضد الوصل يقال فلان هجر أخاه إذا لم يصله ، هذا المعنى مقرر عند أئمة اللسان العربي .
وأما الهجرة : فيقصد بها الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ، كما قاله أهل الفقه والعلم، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من مكة إلى المدينة وقد دل على هجرته - صلى الله عليه وسلم - أدلة متواترة مستفيضة وهذا ظاهرٌ بين .(1/203)
(المدينة) : ( أل ) في قوله ( المدينة ) للعهد الذهني ، أي مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروفة التي يسميها الناس اليوم بالمدينة المنورة ، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بالمدينة ، وجاء في الأحاديث الصحيحة تسمية الصحابة رضوان الله عليهم لها بمدينة النبي ، واشتهر عند المتأخرين من المؤرخين تسميتها بالمدينة المنورة وهي تعرف اليوم بهذا الاسم .
( والهجرة فريضة على هذه الأمة ) . ( فريضة ) : أي واجبة .
( على هذه الأمة ) : هذه إشارة إلى مشار إليه وهي أمة الإجابة ، إذ إن الأمة أمتان :-
أمة الإجابة : وهي التي أجابت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأمة دعوة : وهي التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بدعوتها والنذارة فيها.
( من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وهي باقية إلى أن تقوم الساعة ).
ليعلم أن حكم الهجرة على أمة الإجابة يأتي على نوعين هما حكمان :-
أما النوع الأول : فهو وجوب الهجرة وذلك له شرطان :ـ
أما الشرط الأول : فهو أن يكون قادراً على الذهاب من دار الشرك إلى دار الإسلام مستطيعاً عليه .
والشرط الثاني : فهو أن لا يقوى على إظهار دينه هناك .
فإذا اجتمع الشرطان وجب عليه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام .
وقد دل على وجوب الهجرة من بلد الكفر دليلان :-
أما الدليل الأول : فما ذكره المصنف ـ يرحمه الله ـ بعد بقوله ( والدليل قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم … } الآية ، ودلالتها على المقصود أن هؤلاء المستضعفين وقع الإثم عليهم لبقائهم وعدم هجرتهم ولكن عُذِر منهم من لم يكن قادراً مستطيعاً على الهجرة فدل ذلك على وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
وأما الدليل الثاني : فالإجماع وقد حكى الإجماع في ذلك غير واحد ومن أولئك القرطبي_ يرحمه الله _في تفسيره وكذا غيره .(1/204)
النوع الثاني : فهو أن يكون قادراً على إظهار دينه ومستطيعاً للذهاب من دار الشرك إلى دار الإسلام ، فهذا الأصل في حكمه استحباب هجرته من بلد الكفر إلى بلد الإسلام لا الوجوب ، وهذا هو الذي عليه جماهير الفقهاء في المذاهب المتبوعة ، وقد حكى ذلك الحكم غير واحد ومن أولئك الكاساني ـ يرحمه الله ـ في بدائع الصنائع والموفق أبن قدامة ـ يرحمه الله ـ في المغني وغيرهما.
ثم قد يُعدل عن الأصل في حكم هذا النوع الثاني إلى وجوب أو استحباب البقاء في بلد الشرك :
فأما الوجوب : فمثاله أن يؤمر من قبل سلطان مسلم بالبقاء ليأتي له بالأخبار عن المشركين وأحوالهم ، ومما مثل له الفقهاء في حالة الاستحباب بقاء هو أن للإنسان والدان مسلمان يأمرانه بالبقاء هناك لمصالح لهم مع وقوع الحالة السابقة له فيجب حينئذ البقاء على قول ، وقيل بالإستحباب.
وأما الاستحباب : فهو أن يكون هناك مصالح للمسلمين في بقائه كأن يكون رسولاً لهم أو مضيفاً مقرٍ لهم عند تنقلهم أو غير ذلك ولذلك الأمر السابق أمثلة كثيرة في واقع اليوم من مصالح عديدة.
علم مما سبق أن البقاء في بلد الشرك يأتي على نوعين لكل نوع حكم يخصه.
( بلد الشرك ) : وليعلم أن بلد الشرك فسره الفقهاء بقولهم :
بلد الشرك ودار الشرك : هي كل دار الغالب عليها الشرك وحكم الشرك .
( بلد الإسلام ) : وبلد الإسلام ودار الإسلام هي كل بلد ودار الغالب عليها الإسلام وحكم الإسلام ، قال ذلك جماعة ومن أولئك أبو يعلى الفراء كما في المعتمد في أصول الفقه وكذلك قرره الكاساني في بدائع الصنائع وجماعة وهو الذي عليه عامة الفقهاء إلا ما حكي عن أبي حنيفة وقد قرر الكاساني خلافه في بدائع الصنائع -رحمه الله
وعلى كل فالدنيا داران :-
أما الدار الأولى : فدار كفر وسبق ، ودار الكفر تأتي على نوعين:-
دار كفر حربية ، ودار كفر مستأمنة
أما دار الكفر الحربية : فالحكم فيها التشديد على أن لا يبقى مسلم فيها .(1/205)
وأما الدار المستأمنة : كأكثر دور الكفر اليوم فهذه الأمر فيها على خلاف ذلك ، أعني على خلاف التشديد في حكم دار الحرب الكفرية .
وأما الدار الثانية : فدار إسلام ، وسبق الكلام عن حدها وضابطها .
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في (( شرحه : 99 )) : (( قال (الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) بلد الشرك هي كل بلد يظهر فيها الشرك ويكون غالبا؛ إذا ظهر الشرك في بلد وصار غالبا كثيرا أكثر من غيره, صارت تسمى بلد شرك, سواء كان هذا الشرك في الربوبية, أو كان في الإلهية, أو كان في مقتضيات الإلهية من الطاعة والتحكيم ونحوها. بلد الشرك هي البلد التي يظهر فيه الشرك ويكون غالبا.
هذا معنى ما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حينما سئل عن دار الكفر ما هي؟ قال: دار الكفر هي الدار التي يظهر فيها الكفر ويكون غالبا.
إذن إذا ظهر الشرك في بلدة وصار ظهوره غالبا , معنى ذلك أن يكون منتشراً ظاهراً بيناً غالباً الخير, فإن هذه الدار تسمى بلد شرك , هذا باعتبار ما وقع وهو الشرك , أما باعتبار أهل الدار فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم أن يُنظر في تسمية الدار بدار إسلام ودار شرك إلى أهلها.
وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بلد تظهر فيها أحكام الكفر , وتظهر فيها أحكام الإسلام , فقال هذه الدار لا يحكم عليها دار كفر , ولا أنها دار إسلام , بل يعامل المسلم فيها بحسبه ، ويعامل فيها الكافر بحسبه.(1/206)
وقال بعض العلماء الدار إذا ظهر فيها الأذان وسُمع وقت من أوقات الصلوات فإنها دار إسلام , لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يغزو قوماً أن يصبحهم , قال لمن معه: «انتظروا» فإن سمع أذانا كفّ، وإن لم يسمع أذانا قاتل، وهذا فيه نظر, لأن الحديث على أصله ، وهو أن العرب حينما يُعلون الأذان ، معنى ذلك أنهم يقرون ويشهدون شهادة الحق لأنهم يعلمون معنى ذلك، وهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ورفعوا الأذان بالصلاة، معنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة، وقد قال جل وعلا ?فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ?[التوبة:11] )) .
س 186 : ما معنى قول المصنف : (( وهي باقية إلى أن تقوم الساعة ...)) ؟
ج : أي إلى قرب قيام الساعة .
قال الأسمري في (( شرحه : 121 )) : ((( وهي باقية إلى أن تقوم الساعة ) أي أن الهجرة باقية ، وباق حكمها إذا انطبق عليها الوصف الذي سبقت حكايته وسبق الدليل على ذلك .
( وقوله تعالى : { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون } )
فيه دلالة على المقصود بنحو الآية السابقة . ثم حُكي عن البغوي - يرحمه الله - بيان سبب نزول الآية .
والبغوي : هو الإمام الحسين بن مسعود الفراء ـ رحمه الله ـ المتوفى في سنة خمسمائة وبضعة عشر، وله تفسير عظيم اسمه (( تفسير البغوي )) ، وقد حرره وقرر فيه التفسير بالأثر في الجملة إلا أن تفسير ابن كثير - رحمه الله - أوسع منه.
وقد لخص المصنف - يرحمه الله - ما حكاه البغوي تحت الآية السابقة في تفسيره فليس ما ذكره المصنف ـ رحمه الله ـ بقوله ( قال البغوي رحمه الله سبب نزول هذه الآية) إلى آخره هو نص ما في تفسير البغوي من مقول البغوي رحمه الله وإنما هو حكاية للمعنى .(1/207)
( ناداهم الله باسم الإيمان ) أي أنهم ليسوا كفاراً وإن بقوا في دار الكفر ، فالباقي في دار كفر ولم يهاجر بقاؤه من حيث سلب الإيمان عنه وعدمه يأتي على جهتين : -
أما الجهة الأولى : فهي أن يبقى في بلد الكفر راضياً بالكفر وأهله ، مناصراً لهم ضد أهل الإسلام فهذا كفر بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يخرج صاحبه من ملة الإسلام ، وهو الذي سماه جمع من أئمة الإسلام بالتَّولي .
وأما الجهة الثانية : فبقاء في دار الشرك لا على الحالة السابقة ، وإنما من باب العصيان كأن يبقى عاصياً لله - سبحانه وتعالى - مع قدرته على الذهاب وقد لا يستطيع إظهار دينه ، فيقال هو عاصٍ بهذا الفعل ولكنه مؤمن ، ولذلك قال الله تعالى : { يا عبادي الذي آمنوا } فسماهم بالإيمان ، ومع ذلك وقع منهم العصيان فلم يهاجروا إلى أرض الله الواسعة من بلد الشرك ، وهو ما أشار إليه المصنف حكايةً لما ذكره البغوي في (( تفسيره )) من سبب نزولٍ بقوله : ( ناداهم الله باسم الإيمان ) .
( والدليل على الهجرة من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) ) هذا الحديث المحكي أخرجه الحاكم في مستدركه وكذا غيره .
س 187 : ما معنى قول المصنف : (( فلما أستقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد والآذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام )) ؟(1/208)
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 139 )) : ((يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لما استقر – أي النبي صلى الله عليه وسلم – في المدينة النبوية أمر ببقية شرائع الإسلام وذلك أنه في مكة دعا إلى التوحيد نحو عشر سنين، ثم بعد ذلك فرضت عليه الصلوات الخمس في مكة، ثم هاجر إلى المدينة ولم تفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج ولا غيرها من شعائر الإسلام وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الزكاة فرضت أصلاً وتفصيلاً في المدينة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الزكاة فرضت أولاً في مكة وفي المدينة قدرت الأنصباء وقدر الواجب وأستدل هؤلاء بأنه جاءت آيات توجب الزكاة في سورة مكية مثل قوله تعالى في سورة الأنعام: { وءاتوا حقه يوم حصاده } {سورة الأنعام، الآية: 141} ومثل قوله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم } {سورة المعارج، الآيتين: 24-25} وعلى كل حال فاستقرار الزكاة وتقدير أنصابها وما يجب فيها وبيان مستحقيها كان في المدينة، وكذلك الأذان والجمعة، والظاهر أن الجماعة كذلك لم تفرض إلا في المدينة؛ لأن الأذان الذي فيه الدعوة للجماعة فرض في السنة الثانية، فأما الزكاة والصيام فقد فرضا في السنة الثانية من الهجرة، وأما الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة على القول الراجح من أقوال أهل العلم وذلك حين كانت مكة بلد إسلام بعد فتحها في السنة الثامنة من الهجرة، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من الشعائر الظاهرة كلها فرضت في المدينة بعد استقرار النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإقامة الدولة الإسلامية فيها )).
س 188 : ما معنى قول المصنف : ((أخذ على هذا عشر سنين . وتوفي صلوات الله وسلامه عليه )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 123 )) : ((( أخذ على هذا عشر سنين ) أي : أخذ على حالته السابقة - صلى الله عليه وسلم - من الأمر بشرائع الإسلام وما إليه عشر سنين(1/209)
وينبغي أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنايته بنذارته الأولى ، وهي التوحيد والدعوة إليه ، والتحذير من الشرك إنما كانت في مكة وكانت أيضاً في المدينة ولم تكن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة خالية عن الدعوة إلى التوحيد ؛ ولكن انضم مع الدعوة إلى التوحيد غيره ، ومن ذلك الشرائع ، وهذا هو مقصود المصنف –رحمه الله -.
( وبعدها توفي ) أي توفي وفاة حقيقية.
( تُوفي ) و ( تَوفى ) ضبطان صحيحان ، والأشهر عند اللغويين ( تُوفي ) ببناء الكلمة للمجهول ، أي أن غيره هو الذي استوفى له أجله ، وهو ملك الموت أو الله - سبحانه وتعالى - .
ويصح أن يقال توفى أي استوفى عمره في هذه الدنيا ، كما قاله جمع من اللغويين وقرره الزبيدي - رحمه الله - في شرحه على القاموس وجماعة )) .
س 189 : ما معنى قول المصنف : ((ودينه باق وهذا دينه لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه.. )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 123 )) : ((( ودينه باقٍ ) أي أن الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله - سبحانه وتعالى - لنا ـ باق إلى أن تقوم الساعة . وبقاء الدين معناه شيئان:-
أما الشيء الأول: فهو حفظ مادته ، فلا يطرأ عليها تحريف ولا تغيير ، ومن ثم حفظ لله - سبحانه وتعالى - كتابه المسمى بالقرآن فلا يطرأ عليه تحريف ولا تغيير حتى تقوم الساعة.
وأما الشيء الثاني : فهو بقاء الإسلام وبقاء من يستمسك به وهي الطائفة الناجية أو الفرقة الناجية التي تستمسك بهذا الدين وإنما يبقى الدين ويبقى المسلمون حتى تقوم الساعة . وقيام الساعة على المؤمنين الموحدين بمجيء ريح طيبة تقبض أرواحهم من تحت آباطهم كما جاء في الصحيح .
قوله ( وهذا دينه لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه ) في هذه الجملة دلالة على استيفاء الشرع لكل خير وتحذير الأمة من كل شر.
ويدل على ذلك دليلان :-(1/210)
أما الدليل الأول : فالخبر ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي ذر وهو في الصحيح وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما تركت خير يقربكم إلى الجنة ولا شر يدخلكم النار إلا بينته لكم )) وفي رواية (( إلا دللتكم عليه )) .
وأما الدليل الثاني : فالإجماع ، حيث أجمع أهل العلم والإسلام على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استوفى ذلك ، وممن ذكر الإجماع في ذلك ابن جرير الطبري في (( تفسيره )) والبغوي في (( تفسيره )) وغيرهما )).
س 190 : ما معنى قول المصنف (( كمل الله به الدين )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 125 )) : (( وكمل الله به الدين ) ( به) : الباء سببية ؛ أي بسببه - صلى الله عليه وسلم - ، أو أن تكون على غير السببية وقيل تحتمل أن تكون للإلصاق أي ملصقة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان ، كان الإكمال.
قال المصنف -يرحمه الله - ( والدليل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ) ودلالة الآية على ما قرره المصنف ظاهرة )).
س 191 : ما معنى قول المصنف (( والدليل على موته - صلى الله عليه وسلم - قوله: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } ؟
ج :قال الأسمري في (( شرحه : 125 )) : (( قال المصنف يرحمه الله ( والدليل على موته - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون … }
( موته ) : أي ذهاب روحه عن جسده في الدنيا .
( إنك ميت ) : ذكر الخبر مؤكداً بـ ( إنَّ ) للدلالة على كونه - صلى الله عليه وسلم - قد مات وتوفاه الله سبحانه وتعالى )) .
س 192 : ما معنى قول المصنف ((والناس إذا ماتوا يبعثون ... )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 126 )) : ((قوله ـ يرحمه الله ـ : ( والناس إذا ماتوا يبعثون …. ) إلى آخره قرر المصنف ـ يرحمه الله ـ فيها أشياء :-
وأولها : قوله : ( والناسُ إذا ماتوا يبعثون )(1/211)
( والناس ) : لا يقصد بقوله ( الناس ) بني آدم فقط بل يدخل فيهم الخلائق أجمعون ، سواء أكان المخلوق آدمياً أو غيره ، ويدخل فيه غيره من العجماوات حتى يقتص في أرض المحشر للشاة القرناء من غيرها .
( يبعثون ): البعث : هو إخراج الأجساد بعد كونها بالية ميتة . فالله - سبحانه وتعالى - سيبعث الخلائق أجمعين وأجسادهم التي بَليت وفنيت مرة ثانية ثم يجمعون في صعيد واحد ، وإخراج هذه الأجساد والأبدان بعد فنائها وبلائها هو المسمى بالبعث بعد الموت.
والدليل قوله تعالى { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى }
فيه ذكر الدليل على ما قرره آنفاً المصنف ـ رحمه الله ـ وهو البعث ، ووجه دلالة الآية على المقصود أن قوله سبحانه ( منها ) أي من الأرض ، فالضمير في قوله ( منها ) يعود على الأرض فيُقَدر المعنى ( من الأرض خلقناكم ) والأرض يقصد به التراب ، والمقصود أصالة آدم عليه السلام ، حيث أنه خلق من تراب وبنوه تابعون له .
(وفيها نعيدكم ) : فيها ، أي في الأرض وقوله ( فيها ) يقصد به إليها وكلمة (في) لا تأتي في القرآن والنص الشرعي إلا بهذا المعنى سوى مواطن تأخذ معنى ( إلى ) ، ومن هذه المواطن قول الله سبحانه ( وفيها نعيدكم ) أي إليها نعيدكم ، ثم قال سبحانه ( ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ، وهذا هو محل الشاهد من الآية ، أي : أنكم تبعثون بعد موتكم وكون أجسادكم بالية .
ثم قال : ( وقوله تعالى { والله أنبتكم من الأرض نباتاً* ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } الآية . وهذه الآية فيها دلالة على المقصود وذلك في قوله سبحانه ( ويخرجكم إخراجاً ) أي يخرج أجسادكم وأبدانكم بعد فنائها وكونها بالية .
( إخراجاً ) : مصدرً جاء مؤكداً للفعل السابق له وهو قوله سبحانه (ويخرجكم) فكان تأكيد الإخراج بالمصدر الذي ألحق بالفعل وهو قوله سبحانه ( إخراجاً ).
س193 : ما معنى قول المصنف ((وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم .. )) ؟.(1/212)
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 127 )) : ((قال المصنف ـ يرحمه الله ـ ( وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم )
( بعد البعث ) : أي بعد إحياء الناس من المكلفين ، فإنهم محاسبون ومجزيون .
( محاسبون ) : من الحساب والحساب في اللغة : هو ما يكون فيه عدّ يقال حسب التاجر ماله ودراهمه إذا عدها عداً وكذلك المعنى هنا ، فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل الناس عارفين بأعمالهم وما إلى ذلك كالذي يعدّها عداً ثم هي معدودة عليهم محصاة لدى الله سبحانه وتعالى وإنما يوفيهم هذه الأعمال تقريراً وعرضاً .
( ومجزيون بأعمالهم ) : مجزيون يأتي عليها احتمالان :-
أما الاحتمال الأول : فهو من الجزاء ، والجزاء هو مجازاة العامل على ما عمل وهذا هو الأظهر ، ويدل عليه ما بعده ، ذلك أن المصنف قال : ( ومجزيون بأعمالهم ) حيث أن ( الباء ) في كلمة ( بأعمالهم ) للسببية فيكون التقدير: ( مجزيون بسبب أعمالهم ) . فبسبب عملك تدخل الجنة إن عملت خيراً ، وبسبب عملك تدخل النار إن عملت ضد ذلك .
وأما الاحتمال الثاني : فهو أن يقصد بقوله -رحمه الله - ( مجزيون ) التأكيد على قوله السابق ( محاسبون ) فيكون الجزاء بمعنى الحساب .
وفرق بين الجزاء الأول وهو الاحتمال الأظهر ، وبين الجزاء الثاني المرادف للمحاسبة من حيث المراد لا من حيث المعنى اللغوي ، فإن أُريد بالجزاء الحساب كان من باب التأكيد على ما سبق ، والأصل ( أن الواو العاطفة تقتضي المغايرة ) فيقال الجزاء في قول المصنف ( ومجزيون ) يغاير الحساب في قول المصنف ( محاسبون ) .
قال المصنف – يرحمه الله – ( والدليل قوله تعالى: { ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا …. } الآية )
استدل المصنف ـ يرحمه الله ـ على صحة ما ذكر بجملة أدلة :ـ(1/213)
أولها : قول الله تعالى { ولله ما في السماوات وما في الأرض .. } الآية ، ومحل الشاهد منها هو قوله سبحانه { ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى } ففيه معنى الجزاء وهذا على المعنى الأول الأظهر وهو أن الجزاء خلاف الحساب .
وأما الثاني : فقول الله تعالى : { زعم الذي كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } الآية . ومحل الشاهد منها : هو قول الله ( ثم لتُنَبَئُن بما عملتم ) ، وذلك فيه معنى الحساب ، أي أن الله - سبحانه وتعالى - قد عدّ على الخلق أعمالهم وسيخبرهم بها عند قدومهم عليه - سبحانه وتعالى - ودلالة الآية الأولى على الجزاء ظاهرة بالمعنى الظاهر السابق ، وهو أن يجازي كل بحسب عمله ، إما أن يكون في النار وإما أن يكون في دار الأبرار. ودلالة الآية الثانية على الحساب ظاهرة ، لأن الحساب فيه معنى العد ، وهذا المعنى موجود في تنبيئ الغير بما عمل ولا يكون ذلك إلا بعد إحصائه وعدّه .
وهنا وقفة لطيفة : في قول المصنف ـ يرحمه الله ـ ( وبعد البعث محاسبون ) إطلاقٌ يخالفه ما جاء من استثناء ، حيث أن هناك جنساً من الخلق استثنوا من الحساب ، ومن أمثلة ذلك : السبعون ألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي لله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( فهُم السبعون ألف ، سبعون ألف من أُمتكَ يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ) .
وهذا فيه دلالة أن السبعين ألفاً لا يحاسبون وهم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
واختلف في الأنبياء والرسل هل يحاسبون أم لا ؟
قولان للمفسرين وأهل الفقه والعلم : قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في (( النبوات )) وفي غيره من كتبه ـ يرحمه الله ـ إلى أن الأنبياء يحاسبون على التبليغ ، هل بلّغوا رسالات الله - سبحانه وتعالى - أم لا ؟(1/214)
فإذا كان ذلك فقد خرج قول المصنف ـ يرحمه الله ـ ( وبعد البعث محاسبون ) مخرج الغالب أو مخرج الأصل ويخُرّج عن هذا الأصل مع بعضٍ من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو من المكلفين وسبق التمثيل عليه )) .
س194 : ما معنى قول المصنف ((وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 127 )) : (( ( وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين ) فيه دلالتان:-
أما الدلالة الأولى : فهي أن الأنبياء دعوتهم واحدة لا تختلف .
وأما الدلالة الثانية : فهي أن الأنبياء كانت علة بعثهم أن يقوموا بالبشارة والنذارة فيكونون مبشرين لمن فعل الخير وأطاع ، ويكونوا منذرين لمن عصى ولم يطع الرسل .
أما الدلالة الأولى فهي دلالة صحيحة ويدل عليها دليلان : -
أما الأول : فالخبر ، ومن أصرح ذلك ما أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد )) وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إخوة لعلات ) العلات : بفتح العين المهملة مع تشديد اللام بعدها واحدها عَلّه ، ويقصد بهن الضرائر ، فالضرائر نساء شتى لكن أبناء الضرائر والأخوة من هؤلاء الضرائر أبوهم واحد ، فكان الدين واحداً ، والمقصود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ودينهم واحد) أي : ما يتعلق بدعوتهم للتوحيد وعقائدهم فإنهم دَعَوا إلى التوحيد وحذروا من الشرك ، واتفقوا على ما يتعلق بذلك وأما ما يتعلق بشرائعهم من صلاة وصدقات وأنواع عبادات فإنهم ليسوا متفقين في جميع هذه الشرائع .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكى الإجماع عن أهل السنة في ذلك غير واحد ، ومن أولئك ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في كتابه (( النبوات )) وكذا في (( مجموع الفتاوى )) وغيره .(1/215)
( مبشرين ) : جمع مُبَشِّر ، والمبشر هو من تحصل من قبله البشارة للغير ، والبشارة في الأصل إنما تكون لمن هو على ما يستحق أخذ هذه البشارة أو يكون سبباً في أخذها فإن فعل المكلف الطاعة ولقي الله على التوحيد والطاعة فإن ذلك سبب في نجاته وحصول الجنة له ، وإذا كان الضد كان الجزاء من جنس العمل.
( ومنذرين ) : النذارة ضد البشارة ، وسبق معنى البشارة .
وقد يستعمل لفظ التبشير بمعنى الإنذار كما في قوله - سبحانه وتعالى - { فبشرهم بعذاب أليم } وهذا في حق الكفار الذين يستحقون النار ، ومن ثم قيل فيما سبق الأصل في البشارة كذا أي : أنه قد يخرج عن هذا الأصل في مواضع من النص الشرعي ومنها ما ذكرنا.
ثم قال المصنف ـ يرحمه الله ـ ( والدليل قوله تعالى { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } الآية )
( لئلا ): اللام في قوله ( لئلا ) لام التعليل ، أي : علة ذلك هو إقامة الحجة على الناس ، فإرسال الرسل وإنزال الكتب إنما كان بالعّلة ، وهي إقامة الحجة على الخلق ؛ لأن الله يحب التوحيد ويكره الشرك ويذمُ أهله ، وأن الله يحب من أطاعه ، ويبغض ويكره من عصاه )) .
س 195 : ما معنى قول المصنف ((وأولهم نوح ـ عليه السلام ـ وأخرهم محمد صلى الله عليه وسلم )) ؟ .
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 132 )) : (( ثم قال المصنف يرحمه الله ( وأولهم نوح ـ عليه السلام ـ وأخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ) .
هذه الجملة ذات شقين:-(1/216)
أما الشق الأول : فيتعلق بأولية نوح ـ عليه السلام ـ من كونه أول رسول ، وهذه المسألة من المسائل المختلف فيها بين أهل التفاسير والتواريخ وغيرهم : فمن قائل أول رسول آدم ، ومن قائل أول رسول نوح ، وقيل غير هذين القولين ، والأظهر والذي اختاره جماعات من المحققين أن أول الرسل هو نوح عليه السلام ولذلك أثبته المصنف ـ يرحمه الله ـ قولاً معتمداً ، ودلّ على صحة هذا القول الخبر ومن الأخبار الدالة على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أنس وغيره ، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه ( أن الناس يأتون إلى آدم ـ عليه السلام ـ فيطلبون شفاعته فيحيلهم إلى نوح ـ عليه السلام ـ ويقول اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول إلى أهل الأرض ) ففي قوله ( أول ) إثبات للأولوية في الرسالة فهو أول الرسل .
( عليه السلام ) : هذا الاصطلاح يستعمل في الجملة مع الأنبياء ورسل الوحي ، أما رسول الوحي فهو جبريل عليه السلام ، وأما الأنبياء فغير النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والعادة الغالبة الجارية عند أهل العلم أنهم إذا ذكروا رسول الوحي جبرائيل أتبعوا ذكره بقولهم : عليه السلام . وإذا ذكروا الأنبياء والرسل من غير النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أتبعوا ذكرهم بقولهم: عليهم السلام أو عليه السلام ، ولو زِيْد على ذلك - صلى الله عليه وسلم - لجاز ؛ لأن الصلاة دعاء ، فصلاة الآدميين على بعضهم من الرسل وغيرهم هو دعاء لهم ، وصلاة الملائكة على الخلق استغفار لهم ، وصلاة الله على بعض خلقه ذكر لهم في الملأ الأعلى ، وهذا الأخير قاله جمع ، ومنهم أبو العالية ـ يرحمه الله ـ فيما أخرجه البخاري معلقاً عنه ، والمقصود أن قول المصنف رحمه الله : ( عليه السلام ) هو مبني على الاصطلاح الغالب المستعمل من أهل العلم .
وأما الشق الثاني : فهو الإخبار بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ أعني محمداً بن عبد الله ـ هو النبي الآخر الخاتم والآخر .
والآخرية نوعان :-(1/217)
أما النوع الأول : فآخرية الرسالة ، وهذا هو المقصود في عموم ما جاء من آخريات ، وهو الذي عناه المصنف ـ يرحمه الله ـ فرسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هي آخر الرسالات والخاتمة للرسالات .
وأما النوع الثاني : فآخرية وفاة ، وآخر الرسل وفاة عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم تسليم ، حيث ينزل في آخر الزمان ويقتل الدجال ، كما ثبت ذلك في أحاديث صحاح.
ثم قال المصنف ـ يرحمه الله ـ ( والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } )
المقصود هنا هو قول الله سبحانه وتعالى ( والنبيين مع بعده ) فالضمير في كلمة (بعده) يعود على نوح ، فجعل الأنبياء بعد نوح ، فإذا جعل الأنبياء بعد نوح فإن معناه أنه هو المقدم الأول .
وليُعلَم أن آدم عليه السلام هو أبو البشر ، وجميع الآدميين من نسله وقد اتفق أهل التواريخ والسير وأهل العقائد من أهل السنة على أن آدم يوحي إليه ، وإذا كان يوحي إليه فهو ينبأ ؛ لأن من يأتيه الوحي فهو نبي أو منبأً به ، ثم اختلف هل آدم رسول أم لا ؟ على ما سبق الإشارة إليه )) .
س 196 : ما معنى قول المصنف (( وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً … )) ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 132 )) : (( في هذه الفقرة بين المصنف ـ يرحمه الله ـ جملة مسائل :-
المسألة الأولى : قوله : ( وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد ).
ودل على صحة هذا دلالتان:
الدلالة الأولى : الخبر : وقد ذكر المصنف _يرحمه الله - شيئاً منه وذلك بقوله بعدُ ( والدليل قوله تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } فقوله ( أمة ) نكرة ثم قال ( رسولاً ) ليُنَكّرَ ذلك فيعم ، أي فيشمل جميع الأمم التي كانت ، فكل أمة قد بعث الله سبحانه وتعالى فيها رسولاً .
وأما الدلالة الثانية : فالإجماع كما ذكره أبن قيم الجوزية0 يرحمه الله في (( طريق الهجرتين )) وكذا غيره.(1/218)
( أمة ) : الأمة هي الجيل أو الجماعة من الناس ، على ما ذُكر في المعاجم .
وأما المسألة الثانية : فقوله ( يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت ) وفيه أن الأنبياء المرسلين يدعون أممهم إلى التوحيد وينهونهم عن الشرك وهي دعوة الرسل ، وسبق تقرير ذلك مراراً ، واستدل المصنف ـ يرحمه الله ـ على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ففي قوله ( أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) دلالة على المسألة .
المسألة الثالثة : هي أن جميع الرسل دعوا إلى هذه الحقيقة ، وهذه الحقيقة مكونه من شيئين:-
الشيء الأول :إثبات استحقاق الله للعبادة دون سواه .
وأما الثاني : فالكفر بما سوى الله من الآلهة ، وسبق أن من أتى بأحد الأمرين ولم يجمعهما فليس بمؤمن ، فلا بد من الإثبات ولا بد من النفي .
المسألة الرابعة : فهي في قول المصنف ـ يرحمه الله ـ ( وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ) . وهذه المسألة : هي معنى لا إله إلا الله .
س 197 : قال المصنف : قال أبن القيم رحمه الله تعالى ـ : ( معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ) ) فما معنى الطاغوت ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين رحمه الله في (( القول المفيد : 1 / 30 )) : (( الطاغوت: مشتق من الطغيان ، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاورة الحد؛ كما في قوله تعالى: { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } [الحاقة: 11]؛ أي: تجاوز حده.
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: "ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع".
ومراده من كان راضياً بذلك ، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه؛ لأنه تجاوز به حده حيث نَزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك.(1/219)
فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء.
والمعبود مثل: الأصنام.
والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51]، ولم يقل: إنهم طواغيت.
س 198 : ما معنى قول المصنف رحمه الله (( والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة ، إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راضٍ….) إلى آخره ؟
ج : قال الأسمري في (( شرحه : 135 )) : (( ( الطواغيت كثيرون ) : وهي مسألة أخرى ذكرها ليبين أن من وقعوا في القسم الأول وهو المعبود ، أو الثاني وهو المتبوع ، أو الثالث وهو المطاع ، ممن يتعلق بهم وصف الطاغوتية كثيرون على مرّ التاريخ ومجيئه ، وأن هذا المعنى يدخل فيه أفراد لا يأتي عليهم حصر.
( ورؤوسهم خمسة ) : أي أن أجناس هؤلاء الكبار خمسة ، وإنما حصرهم في خمسة لدليل الاستقراء حيث استقرأ المصنف ـ يرحمه الله ـ الطواغيت فوجد أنهم كثيرون إلا أن لهم رؤساء ، وهؤلاء الرؤساء الذين هم رأس للغير خمسة .
أما أولهم : فإبليس لعنه الله ، وهذا رأس الظلم والشرك والتّعديِ وأمرُه واضح.
وأما الثاني : فمن عُبد وهو راضٍ ، وسبق معناه .
وأما الثالث : فمن دعا الناس إلى عبادة نفسه ، أي أنه جعل الناس يعبدونه بأمر منه ورغب ، ومن أمثلة أولئك فرعون لعنه الله فإنه قد دعى الناس أن يعبدوه من دون الله - سبحانه وتعالى - .
وأما الرابع : فمن ادعى شيئاً من علم الغيب .
( شيئاً ) : نكرة في سياقٍ شرطي ومن ثم عمّه على ما قرّره جمهور الأصوليين ، فيكون المعنى : من ادعى من علم الغيب -أي شيء- من علم الغيب فإنه يكون من رؤوس الطواغيت.
( علم الغيب ) : يقصد به ما كان خصوصياً لله - سبحانه وتعالى - إذ إن المغيبات نوعان :(1/220)
أما النوع الأول : فخاص بالله - سبحانه وتعالى - ، لا يعلمه إلا هو .
وأما الثاني: فليس خاصاً به - سبحانه وتعالى - ، كأن يعلم فلان بسفر زيد من داره إلى دار أخرى فيكون علماً مغيباً عليه له أن يعرفه بعد غياب هذا العلم عنه ، وهذا لا شيء فيه ، والأول هو المقصود من قول المصنف ( من علم الغيب ).
وأما الخامس : فهو من حكم بغير ما أنزل الله .
( الحكم بغير ما أنزل الله ) : أن يجعل الإنسان حكم غير الله محل حكم الله - سبحانه وتعالى - فيحتكم إليه ، والحكمُ بغير ما أنزل الله نوعان:ـ
الأول : ما هو كفر بالله ، يخرج من ملة الإسلام ، كالذي يجحد حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتحاكم إلى قوانين وضعية ، فإن ذلك كافر بإجماع المسلمين كما قرره المسلمون.
والثاني : هو ما كان دون ذلك ، ومن أمثلته هو أن تقع المعصية من قبل بعض الناس فيحكم بغير ما أنزل الله مع إقراره بحاكمية الشرع وأن يتحاكم إلى الشرع راضياً بحكم الله ورسوله ؛ ولكن خرج ذلك منه لغفلة أو شهوة أو نحوها فهذه معصية.
فهذه الخمسة هي روؤس الطواغيت كما قاله المصنف - يرحمه الله -.
ثم قال ـ يرحمه الله ـ ( والدليل قوله تعالى { لا إكراه في الدين… } الآية
هذا الدليل يحتمل أن يستدل به على أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هو روؤس الطاغوتية الخمسة ، وما في الآية لا يصح دلالة عليه ، وأما الثاني فهو أن يكون راجعاً إلى معنى الطاغوتية الذي أراده المصنف ـ يرحمه الله ـ وهذا بيّن في قول الله ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ) وهذا المعنى قال عنه المصنف ـ رحمه الله ـ هو معنى لا إله إلا الله ويقصد بقوله : ومعنى لا إله إلا الله أي : ما سبق ، وهو إثبات ونفي .(1/221)
فـ( لا إله إلا الله ) معناها إثبات استحقاق الله للعبادة ونفي استحقاق غيره للعبادة ففيها قَصرُ الإيمان على الله وفيها الكفر بما سوى الله من معبودات وآلهة ، وهذا في الآية ظاهر حيث قال الله تعالى ( فمن يكفر بالطاغوت ) وهذا جانب النفي ، ثم قال ( ويؤمن بالله ) وهذا جانب الإثبات .
قال المصنف ـ يرحمه الله ـ ( وفي الحديث : (( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروةُ سَنامِه الجهاد في سبيل الله )) )
هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي ـ رحمه الله ـ في جامعه وقال عنه ( هو حديث صحيح حسن ) وقد صححه جماعة كالنووي ـ يرحمه الله ـ ، وأَعلّه جماعة ومن أولئك ابن رجب ـ رحمه الله ـ كما في شرحه على الأربعين .
( رأس الأمر الإسلام … ) إلى آخره : أراد أن يستدل على التوحيد وأنه رأس أمر الإسلام لأنه قد جاء في بعض روايات الحديث ( رأس الأمر الشهادتان ) وفي رواية ( لا إله إلا الله ) والأمر : الإسلام . فيكون المعنى ( رأس الإسلام الشهادتان وعلى رواية ـ لا إله إلا الله ) وهذا يؤكد أهمية التوحيد وأنه عظيم كبير وهو ما أرداه المصنف ـ يرحمه الله ـ من هذه الرسالة جملةً.
( وعموده الصلاة ) : أي : عمود الإسلام لأن الضمير يرجع إلى الإسلام .
( وذروة سنامه ) : الذروة هي أعلى كل شيء من كل شيء ، ومن ذلك الإسلام فأعلى الإسلام هو الجهاد في سبيل الله ، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء ، والمقصود بالجهاد هو الجهاد بالنفس .
( في سبيل الله ) : أي مخلصاً في جهاده لله لا يبتغي غنيمة ولا ثناءً ولا شكوراً .
س 199 : ختم المصنف رحمه الله رسالته بقوله (( والله أعلم )) فما معنى ذلك ؟
ج : قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 164 )) : (( ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رسالته هذه برد العلم إلى الله عز وجل )) .(1/222)
و قال الأسمري في (( شرحه : 137 )) : (( جرت عادة أهل العلم والإسلام إذا أرادوا ختم رسالة أو كلام أن يُلْمحوا إلى نهايته بكلمة أو جملة ، ومن صنائعهم أنهم يذكرون كلمة ( الله أعلم ) في آخر كلامهم ، لكن قال الملا علي قاري ـ رحمه الله ـ في شرحه على المصابيح ، العادة أن الكلام إذا كان فيه اختلاف أُنهيِ بكلمة ( الله أعلم ) وإذا كان محل وفاق وإجماع أنُهيِ بكلمة ( والله الموفق ) ، وهذا أوفق ، والأمر واسع وما عمله المصنف جرى عليه جمع .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه التذكرة الوجيزة ، فما كان فيها من الصواب والحق فمن الله تعالى وحده ، ولله وحده الحمد والشكر والمنَّة .
وإن كان غير ذلك فمني والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان ، وأنا راجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول والعمل ، وأن يكلل أعمالنا بالنجاح والفلاح إنه كريم جواد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك الصادق الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلِّم .
وكتبه
أبو سيف العبيدي الأثري
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ....................................... 1
متن الرسالة ..................................... 3
س1 : أيهما أصح من حيث الاسم : أن نقول الثلاثة الأصول 14
أم الأصول الثلاثة ؟
س2 : ما أهمية كتاب الثلاثة الأصول ؟ ............ 14
س3 : ما الموضوع الذي يهتم به كتاب الثلاثة الأصول ؟ 17
س4: ما هي العقيدة ؟ ........................... 17
س5 : من هم السلف ؟.......................... 17
س6 : ما معنى (( بسم الله الرحمن الرحيم )) ؟..... 19
س7 : ما معنى قوله (( أعلم )) ؟.................. 20
س8 : إلى كم قسم ينقسم العلم ؟.................. 22
س9 : ما فائدة مجيء المؤلف بـ (( أعلم ... )) في بدء الكلام ؟ 23
س10 : ما معنى قوله (( يرحمك الله )) ؟............ 23(1/223)
س11 : ما المقصود بقوله (( يجب .. )) ؟........... 24
س12 : ما المقصود بقوله (( علينا ... )) ؟ ......... 24
س13 : لما حصر المؤلف المسائل بأربع ؟............. 25
س14 : ما مراد المؤلف بقوله (( المسألة الأولى : العلم .. )) ؟ 25
س15 : ما المقصود بقوله (( معرفة الله ... )) ؟ 25
س16 : ما المقصود بقوله (( معرفة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ... )) ؟.... 26
س17 : ما المقصود بقوله (( معرفة دين الإسلام ...)) ؟.. 26
س18 : ما الدليل على أن كل الشرائع السابقة إسلام ؟ .. 27
س19 : ما المقصود بقوله (( الأدلة .... )) ؟.......... 28
س20 : ما الأمور التي يجب أن تتوفر في المسلم عند طلبه للعلم ؟ 28
س21 : ما هي فضائل العلم ؟....................... 28
س22 : ما المقصود بقوله (( العمل به ... )) ؟......... 31
س23 : أذكر بعض النماذج المشرقة للسلف في تطبيق العلم بالعمل؟ 33
س24 : ترك العمل بالعلم مراتب أذكرها ............. 34
س25 : ما معنى قوله (( الدعوة إليه .... )) ؟........... 34
س26 : بَيِّن منزلة الدعوة إلى الله تعالى ؟............... 35
س27 : ما هي فوائد الدعوة إلى الله تعالى ؟............ 35
س28 : ما هي الأدلة الدالة على فضل الدعوة إلى الله ؟...... 36
س29 : ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في الدعوة ؟.... 38
س30 : ما موقف الداعية إلى الله تعالى من الصبر ؟........ 39
س31 : بماذا يعترض المجرمون طريق الدعاة إلى الله تعالى ؟.... 42
س32 : هل على الداعية أن يختار لنفسه منهجاً اجتهادياً يدعو 44
به ، أم عليه الالتزام بمنهج الأنبياء فيدعو بما كانوا يدعون به ؟
س33 : ما معنى قوله (( الصبر على الأذى فيه .... )) ؟.... 46
س34 : عرف الصبر ؟ ................................. 46
س35 : إلى كم قسم تقسم أقدار الله ؟ .................. 47
س36 : هل أوصى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ؟ .......... 47(1/224)
س37 : ما هو جزاء الصابرين عند الله تعالى ؟ .......... 48
س38: بماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَبِّر أصحابه المضطهدين في ... 49
مكة أيام غربتهم الأولى ؟
س39 : ما الدليل على المسائل الأربع ؟................ 51
س40 : ما معنى قوله تعالى (( والعصر .... )) ؟ ........ 52
س41 : هل يجوز للمخلوقين أن يقسموا بالعصر ؟..... 55
س42 : ما معنى قوله تعالى (( الإنسان ... )) ......... 55
س43 : ما معنى قوله تعالى (( لفي خسر ... )) ؟....... 56
س44 : وردت في هذه السورة عدة مؤكدات ،.......... 57
أذكرها وبين الفائدة منها ؟
س 45 : ما هي فضائل سورة العصر ؟................. 58
س46 : معنى قول الإمام البخاري (( العلم قبل ......... 59
القول والعمل .. )) ؟
س47 : ما أهمية هذه المسائل الثلاث ؟............... 60
س48 : ما الدليل على أن الله خلقنا ؟................. 61
س49 : ما الدليل على أن الله تعالى رزقنا ؟............. 62
س50 : ما الدليل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً ؟...... 63
س51 : ما معنى قوله (( بل أرسل إلينا رسولاً ... )) ؟.... 64
س52 : ما معنى قوله ((من أطاعه دخل الجنة ............. 64
ومن عصاه دخل النار )) ؟
س53 : ما معنى قوله تعالى (( كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً .. 66
فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً )) ؟
س54 : ما معنى قوله (( إن الله لا يرضى أن يشرك ... )) ؟.... 67
س55 : ما معنى قوله (( في عبادته ... )) ؟................... 67
س56: ما هي أركان العبادة ؟............................... 68
س57 : ما هي شروط قبول العبادة ؟........................ 69
س58 : ما أهمية العبادة ؟................................... 69
س59 : ما معنى ورود كلمة (( أحد ... )) نكرة سواء ....... 70
كانت في سياق الآية الشريفة أو في كلام المؤلف ؟
س60: ما الفرق بين النبي والرسول ؟........................ 71(1/225)
س61 : ما معنى قوله : أن من أطاع الرسول ، ووحد......... 72
الله لا يجوز له موالاة .. ))؟
س62 : ما معنى الموالاة ؟................................... 73
س63 : ما معنى قول المصنف رحمه الله : ( والدليل قوله تعالى .. 74
: { لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد
الله ورسوله ….. } إلى آخر الآية ؟
س64 : ما معنى الحنفية ؟.................................... 76
س65 : ما معنى قوله (( أرشدك الله لطاعته ... )) ؟......... 77
س66 : ما هي مميزات الحنيفية ؟............................ 77
س67 : ما أعظم ما أمر الله تعالى به ؟....................... 78
س68 : أذكر فضائل وفوائد التوحيد ؟....................... 81
س69 : ما أقسام التوحيد ؟ ................................ 81
س70 : ما الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية ؟... 82
س 71 : ما هي المحاذير التي يجب على المسلم أن يتجنبها ..... 83
في باب الأسماء والصفات ؟
س 72: أذكر الفرق التي ضلَّت في باب الأسماء والصفات ؟ ... 87
س 73: ما هو الشرك وما هي أنواعه ووسائله ؟ ............. 88
س74 : ما الأدلة التي حذرت من الشرك ؟.................... 95
س75 : ما هي الأبواب التي ولج المشركون منها إلى الشرك ..... 96
بالله تعالى ؟
س76: ما الأسباب التي يتعلق بها المشركون ؟.............. 97
س77 : إنَّ مشركي زماننا أعظم شركاً من المشركين ....... 98
الأوائل وضح ذلك ؟
س78 : لماذا صدَّر المؤلف رحمه الله هذه المسألة بصيغة السؤال ؟.. 99
س79 : عرف الأصول ؟..................................... 99
س80: ما معنى قوله من ربك ؟............................. 100
س81 : بماذا تجيب إذا ما سئلت من ربك ؟.................. 101
س82: ما معنى التربية ؟................................... 102
س83: ماذا تقول إذا سئلتَ : بم عرفت ربك ؟.............. 104(1/226)
س84: ما معنى قول المؤلف (( الرب هو المعبود )) ؟ ......... 105
س85 ما معنى قول المؤلف (( وأنواع العبادة التي أمر الله ...... 107
بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان .... إلخ ؟
س86 : ما الأدلة التي من خلالها نعرف أن هذه الأمور من ..... 107
العبادات التي يثيب الله عليها ، وأن من صرفها لغير الله شرك ؟
س87: عرف الدعاء ؟................................. 109
س88 : إلى كم قسم ينقسم الدعاء ؟................... 109
س89: ما الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة ؟......... 111
س90 : قال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ .. 111
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }
س91: متى يصبح الدعاء شركاً ؟ ....................... 112
س92 : عرف الخوف ؟................................ 113
س93: أذكر أنواع الخوف ؟............................. 113
س94: عرف الرجاء ؟.................................... 114
س 95 : ما مذهب أهل السنة في الجمع بين الخوف والرجاء ؟.. 115
س96 : ما الفرق بين الترجي والتمني ؟...................... 116
س97 : عرف التوكل ؟................................... 117
س98 : أذكر أنواع التوكل ؟.............................. 119
س99 : عرف الرغبة والرهبة والخشوع ؟................... 120
س100: عرف الخشية ؟.................................. 121
س101: عرف الإنابة ؟ .................................. 122
س102 : ما الفرق بين الإنابة والتوبة ؟..................... 123
س103 : عرف الاستعانة ؟. مع بيان أنواعها ؟............. 123
س104 : ما وجه الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا استعنت ...... 125
فاستعن بالله )) ؟
س105 : عرف الإستعاذة ؟................................ 126(1/227)
س106 : أذكر أنواع الإستعاذة ؟ مع بيان الجائز منها ........ 126
وغير الجائر ؟
س107 : ما الفرق بين الإستعاذة واللياذة ؟............... 128
س108 : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أعوذ بكلمات الله التامات من 128
شر ما خلق )) ما الفوائد التي يمكن أن تُستخلص من الحديث ؟
س109 : عرف الإستغاثة ؟........................ 129
س 110 : أذكر أقسام الاستغاثة ؟....................... 130
س 111 : ما الفرق بين الإستغاثة والدعاء ؟............... 132
س112 : ما الشروط التي يجب أن تتوفر في الإنسان حتى .... 132
يصح الإستغاثة والإستعانة والإستعاذة به ؟
س113 : عرف الذبح ؟................................. 132
س115 : عرف النذر ؟ ................................ 137
س116 : ما معنى قول المصنف (( معرفة دين ........... 139
الإسلام بالأدلة )) ؟
س117 : ما المراد بقوله (( دين الإسلام )) ؟ ........... 139
س 118 : ما الفرق بين دين الإسلام وبين الإسلام ؟ ... 141
س 119 : ما هي المرتبة الأولى؟ وما هي أركانها ؟....... 142
س120 : ما دليل شهادة لا إله إلا الله ؟................ 144
س121 : ما معنى لا إله إلا الله ؟...................... 144
س122 : ما تفسير لا إله إلا الله ؟ ..................... 146
س123 : ما الدليل على شهادة : أنَّ محمداً رسول الله ؟... 147
س124 : ما معنى شهادة : أنَّ محمداً رسول الله ؟......... 148
س125 : ما دليل الصلاة والزكاة ؟...................... 151
س126 : ما دليل الصيام ؟............................ 152
س127 : ما الدليل الحج ؟............................. 152
س128 : ما هي المرتبة الثانية ؟ وما هي شعبها ؟......... 153
س129 : عرف الإيمان ؟.............................. 153
س130 : ما المراد بلفظ (( بٍٍِِِِِِِِِِضع )) ؟ .................. 154(1/228)
س131 : ما المراد بلفظ (( شعبة )) ؟.................. 154
س 132 : ما المراد بقوله (( إماطة الأذى عن الطريق )) ؟. 154
س133 : ما المراد بـ (( الحياء )) ؟.................... 155
س134 : كيف نوفق بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أن الإيمان بضع . 155
وسبعون شعبة )) وبين قوله (( الإيمان أركانه ستة )) ؟
س135 : كم هي أركان الإيمان ؟ ..................... 156
س136 : لماذا قيدت أركان الإيمان بست أركان ؟........ 156
س 137 : ما المراد بالركن ؟............................ 156
س138 : ما معنى الإيمان بالله تعالى ؟ .................... 157
س 139 : ما معنى الإيمان بوجوده ؟ ..................... 157
س140: ما معنى الإيمان بربوبيته ؟....................... 160
س141 : ما معنى الإيمان بألوهيته ؟...................... 162
س142 : ما معنى الإيمان بأسمائه وصفاته ؟............... 164
س143 : ما هي ثمرات الإيمان بالله تعالى ؟ ............. 166
س144 : ما معنى الإيمان بالملائكة ؟.................. 166
س145 : ماذا يتضمن الإيمان بالملائكة ؟............. 167
س146 : ما هي ثمرات الإيمان بالملائكة ؟.............. 169
س147 : هل للملائكة قلوب ؟........................ 169
س148 : كيف ترد على من أنكر وجود الملائكة وقال ... 169
أنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات ؟
س149 : ما معنى الإيمان بالكتب السماوية ؟............ 170
س150 : ماذا يتضمن الإيمان بالكتب ؟................. 171
س151 : ما هي ثمرات الإيمان بالكتب ؟ ............... 171
س152 : ما معنى الإيمان بالرسل ؟...................... 172
س153 : ما هي ثمرات الإيمان بالرسل ؟................. 173
س 154 : ما معنى الإيمان باليوم الآخر ؟................. 174
س155 : ماذا يتضمن الإيمان باليوم الآخر ؟............... 174(1/229)
س156 : ما يلحق الإيمان باليوم الآخر ؟ .................. 176
س157 :ما الأدلة الدالة على البعث واليوم الآخر ؟.......... 177
س 158 : هل البعث إعادة أم تجديد ؟..................... 178
س 159 : عرف الدنيا ؟.................................. 178
س160 : ما هي الأسماء الأخرى لليوم الآخر ؟.............. 179
س 161 : كيف ترد على من أنكر البعث واليوم الآخر ؟... 179
س162 : كيف ترد على من أنكر عذاب القبر ؟ .......... 182
س163 : ما هي ثمرات الإيمان باليوم الآخر ؟.............. 183
س164 : ما معنى الإيمان بالقدر ؟....................... 185
س 165 : ما هي مراتب الإيمان بالقدر ؟ ................ 185
س 166 : ما معنى قوله (( خيره وشره )) ؟................ 188
س167 : ما الفِرق التي ضلت في باب القدر ؟.............. 189
س168 : هل الإيمان بالقدر ينافي أن يكون للعبد .......... 193
مشيئة وقدرة ؟
س169 : هل الإيمان بالقدر يمنح العبد الحجة على ترك ... 194
الواجبات وفعل المعاصي ؟
س170 : ما الفرق بين الإرادة الكونية القدرية وبين....... 196
الإرادة الشرعية ؟
س171 : كيف يتعامل العبد مع القدر ؟................ 196
س172 : ما المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا ذُكر القدر فأمسكوا )) ؟
س173 : ما صحة ما يردده البعض (( اللهم لا أسألك ...... 198
رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه )) ؟
س175 : ما ثمرات الإيمان بالقدر ؟ ....................... 198
س176 : ما معنى الإحسان ؟............................. 199
س177 : ما الدليل على المراتب الثلاث السابقة الذكر ؟..... 200
س178 : ما معنى معرفة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ؟....................... 202
س179 : ما معنى قول المصنف رحمه الله (( وقريش ....... 203
من العرب .... )) ؟
س180 : ما معنى قول المصنف : (( والعرب من ذرية إسماعيل . 204(1/230)
بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام )) ؟
س 181 : ما معنى لفظ (( الخليل )) ؟................. 206
س182 : ما معنى قول المصنف رحمه الله : ((بعثه الله بالنذارة .. 206
عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ... إلخ )) ؟
س183 : ما معنى قول المصنف رحمه الله ((أخذ على هذا .... 208
عشر سنين يدعو إلى التوحيد .... )) ؟
س 184 : ما معنى قول المصنف رحمه الله (( وبعد العشر .... 209
عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس ، وصلى
في مكة ثلاث سنين ... )) ؟
س185 : ما معنى قول المصنف رحمه الله : (( وبعدها أمر.... 210
بالهجرة إلى المدينة ) ؟
س 186 : ما معنى قول المصنف : (( وهي باقية إلى أن تقوم ... 213
الساعة ...)) ؟
س 187 : ما معنى قول المصنف : (( فلما أستقر بالمدينة أمر ... 215
ببقية شرائع الإسلام .... )) ؟
س 188 : ما معنى قول المصنف : ((أخذ على هذا عشر سنين ... 216
وتوفي صلوات الله وسلامه عليه )) ؟
س 189 : ما معنى قول المصنف : ((ودينه باق وهذا دينه لا خير .. 216
إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه.. )) ؟
س 190 : ما معنى قول المصنف (( كمل الله به الدين )) ؟ ...... 217
س 191 : ما معنى قول المصنف (( والدليل على موته - صلى الله عليه وسلم - قوله: ... 218
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } ؟
س 192 : ما معنى قول المصنف ((والناس إذا ماتوا يبعثون ... )) ؟ .. 218
س193 : ما معنى قول المصنف ((وبعد البعث محاسبون ............. 219
ومجزيون بأعمالهم .. )) ؟.
س194 : ما معنى قول المصنف ((وأرسل الله جميع الرسل .......... 221
مبشرين ومنذرين )) ؟
س 195 : ما معنى قول المصنف ((وأولهم نوح ـ عليه السلام ـ ... 223
وأخرهم محمد صلى الله عليه وسلم )) ؟ .
س 196 : ما معنى قول المصنف (( وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً )) ؟ 225
س 197 : قال المصنف : قال أبن القيم : ( معنى الطاغوت ....... 226(1/231)
ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ) )
فما معنى الطاغوت ؟
س 198 : ما معنى قول المصنف رحمه الله (( والطواغيت كثيرون .... 227
ورؤوسهم خمسة ، إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض ) إلى آخره ؟
س 199 : ختم المصنف رحمه الله رسالته بقوله (( والله أعلم )) ...... 229
فما معنى ذلك ؟
الفهرس ....................................................... 231
……
…(1/232)