تَيْسِيْرُ الْقُدُّوْسِ الْسَّلاَمِ
فِيْ شَرْحِ
فَضْلِ الإِسْلاَمِ
تأليف
عمر بن عبد الله بن عاتق الحربي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فقد يسَّر الله عز وجل لي شرح كتاب( فضل الإسلام)لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-قبل سنوات في( عفيف)ثم بعد ذلك في( الدوادمي ) ثم بعد ذلك في عام 1423 هـ يسَّر الله لنا شرح هذا الكتاب في الدورة العلمية المقامة في حوطة سدير ، وقد كتبتُ في تلك الفترة شرحاً مختصراً له، ثم بعد ذلك أضفت عليه ما يسَّر الله لي فرأيت إخراجه لينتفع به الخاصة والعامة.فإن الدين الصحيح في هذا الزمان غريبٌ ، فيجب على من عرف الحق أن ينشره ويبينه بقدر ما يستطيع فإن الوجوب مناط بالقدرة فقد يجب على شخص ما لا يجب على غيره.والنسخة المعتمدة في هذا الشرح هي النسخة التي طبعتها(مكتبة المعارف ) بالرياض.
وقد انتهيت من تأليف هذا الكتاب ليلة السبت الموافق 24 / 9 / 1426 هـ . وسميته ( تيسير القُدوس السلام في شرح فضل الإسلام ) .
المؤلف : عمر بن عبد الله بن عاتق الحربي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
[ باب فضل الإسلام ]
قوله: ( فضل الإسلام ) .
ش: الفاء والضاد واللام أصل صحيح يدل على الزيادة في الشيء . قاله ابن فارس في معجمه .(1/1)
والإسلام هنا المراد به الإسلام الخاص الذي بعث به محمداً صلى الله عليه وسلم ونسخ ما قبله ، قال الله عز وجل : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (3) سورة المائدة . وقال الله عز وجل : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم . صح عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير الآية : إنك على دين عظيم وهو الإسلام . وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه . رواهما الطبري في تفسيره . وأما الإسلام العام فبعث به جميع الرسل وهو المتضمن إخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (112) سورة البقرة. وقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } (44) سورة المائدة. وقال تعالى : {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (84) سورة يونس.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- : "الإسلام أن يستسلم العبد لله لا لغيره ، فمن استسلم لله ولغيره كان مشركاً ومن لم يستسلم لله بالتوحيد فهو متكبر ، والمتكبر عن عبادة الله أعظم جرماً من الذين يعبدونه ويعبدون غيره ، وهؤلاء لا يغفر الله لهم فأولئك أولى).
فعلم مما سبق أن الإسلام يتضمن أصلان هما : أن نعبد الله وحده لا شريك له ، وأن لا نعبده إلا بما شرع ، وهما شرطا قبول العمل : الإخلاص والمتابعة .
وفضل الإسلام يشمل فضل الدين الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفضل النبي الذي أرسل بهذا الدين ، وفضل الأمة التي آمنت بهذا الدين ، وهذه بعض النصوص التي تدل على هذا الفضل :(1/2)
أولاً :فضل القرآن على غيره من الكتب المنزلة. قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (48) سورة المائدة.قال البخاري-رحمه الله-:قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: المهيمن الأمين ، القرآن أمين على كل كتاب قبله.
وقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(9)سورة الحجر. قال ابن جرير -رحمه الله- :" يقول تعالى ذكره:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}وهو القرآن قال:{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون }وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه".
ثانياً :فضل محمد صلى الله عليه وسلم على الرسل قبله ، فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع و أول مشفع ".
وفي مسند الإمام أحمد -رحمه الله- بسند صحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، آدم فمن دونه تحت لوائي".
أما ما ثبت في البخاري وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تفضلوا بين الأنبياء" فجوابه: أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى تنقص المفضول ، وفي الصحيحين من حديث جابر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أعطيت خمساً ولم يعطهن أحد قبلي:"نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ،وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة"وفي رواية:" فضلت على الأنبياء بخمس ".(1/3)
ثالثاً :فضل الأمة التي آمنت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }(110)سورة آل عمران.قال أبو هريرة- رضي الله عنه- :"خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام "رواه البخاري.
وقال الله عز وجل:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }(143)سورة البقرة.وعن أبي سعيد الخُدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يُجاءُ بنوح يوم القيامة ، فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول:نعم يا ربِّ ، فَتُسألُ أمته هل بلغكم ؟ فيقولون ما جاءنا من نذير . فيقول من شهودك ؟ فيقول:محمد وأمته ، فيُجاء بكم فتشهدون " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }قال:عدلاً.رواه البخاري.
وهم أول أمة تعبر الصراط ، جاء في حديث أبي هريرة الطويل عند البخاري-رحمه الله- قوله صلى الله عليه وسلم:" فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته". وهم المقضي لهم قبل الخلائق ، وأول من يدخل الجنة ثبت هذا عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة عند مسلم .
وقال عبد الرزاق في تفسيره : أنا معمر عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }(110)سورة آل عمران.قال:" إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى".وهو صحيح الإسناد ، وصح في مسند الإمام أحمد رحمه الله بلفظ " أنتم موفون سبعين أمة ".(1/4)
وفي المسند أيضاً قال الإمام أحمد-رحمه الله-:حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحدث بن خصيرة حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كيف أنتم وربع أهل الجنة لكم ربعها ولسائر الناس ثلاثة أرباعها ؟قالوا: الله ورسوله أعلم ، قال:" فكيف أنتم والشطر ؟"قالوا فذلك أكثر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صفِّ أنتم منها ثمانون صفاً ".
وقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(3)سورة المائدة.
روى البخاري بسنده عن طارق بن شهاب قال: قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين ، لو أن علينا نزلت هذه الآية{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}لا تخذنا ذلك اليوم عيداً .فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية ، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة .
وقد خرَّجه ابن جرير في تفسيره من وجه آخر عن عمر ، وزاد فيه أنه قال:وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
قوله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }قال البغوي رحمه الله:
( يعني يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والحلال والحرام ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. هذا معنى قول بن عباس-رضي الله عنهما - ، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها ) أ هـ .(1/5)
وقوله تعالى:{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم ، ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم ؛ فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد والنعيم المقيم ، فهذه غير مشتركة ، ومطلق النعمة عام مشترك . أفاده ابن القيم رحمه الله .
وقوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(104)سورة يونس.
ش: قال ابن جرير- رحمه الله- معنى الآية:( إن كنتم في شك من ديني فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه ، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئاً ولا تضر ولا تنفع ، فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه ؛ لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء وينفعهم ويضرهم إن شاء وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة ، أما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لب وعقل صحيح ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( ولفظ التوفي في لغة العرب معناه : الإستيفاء والقبض، وذلك ثلاثة أنواع : أحدها : توفي النوم ، والثاني : توفي الموت، والثالث : توفي الروح والبدن جميعاً ).
وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(28)سورة الحديد.
ش: قول ابن عباس -رضي الله عنهما-والضحاك-رحمه الله- أن الآية فيمن آمنوا من أهل الكتاب.(1/6)
وقوله تعالى:{ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ }قال بن عباس -رضي الله عنهما-: أجرين ، إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإيمانهم بعيسى والتوراة والإنجيل .
وقد روى البخاري من طريق عامر الشعبي قال : حدثني أبو بردة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والعبد المملوك إذا أدى حق الله تعالى وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها ، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران ) . ثم قال عامر : أعطيناكها بغير شيء ، قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة .
وفي قوله تعالى:{ تَمْشُونَ بِهِ }إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو النور وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم ولا نافع لهم بل ضرره أكثر من نفعه . قاله بن القيم - رحمه الله - .
وفي الصحيح عن ابن عمر- رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ فَأَنْتُمْ هُمْ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلا ً وَأَقَلَّ أَجْرَاً قَالَ هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لا َ قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) .(1/7)
قوله : في الصحيح : يعني صحيح البخاري ، وهو من الأحاديث التي تفرد بها البخاري عن مسلم ، وقد رواه البخاري موصولاً في مواضع من صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وأخرجه من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
قوله : عن ابن عمر -رضي الله عنهما - هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي ، ولد سنة ثلاث من المبعث النبوي ، وأسلم مع أبيه وهاجر ، وعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ببدر فاستصغره ، ثم بأحد كذلك ، ثم بالخندق فأجازه وهو يومئذٍ ابن خمس عشرة سنة كما ثبت في الصحيح ، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وقد بلغ سبعاً وسبعين سنة .
قوله :( مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْن ِ) المراد بهما : اليهود والنصارى كما ثبت في الحديث .
قوله :( كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ ) "الغُدْوة " بالضم: مابين صلاة الغداة وطلوع الشمس . أما الغَدوةُ كما في حديث:( لَغَدوة أو رَوحة في سبيل الله) فهي: المدَّة من الغُدُوّ وهو سير أول النهار ، نقيض الرَّواح . ذكره ابن لأثير في النهاية .
قوله :( عَلَى قِيرَاطٍ ) قال ابن حجر -رحمه الله- زاد في رواية عبد الله بن دينار:( على قيراط قيراط ) والقيراط المراد به النصيب وهو في الأصل نصف دانق ، والدانق سدس درهم .(1/8)
قوله :( فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ فَأَنْتُمْ هُمْ فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلا ً وَأَقَلَّ أَجْرَاً قَالَ هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لاَ قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ ).
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله- في كتابه ( فتح الباري ): " وعجز اليهود والنصارى عن إكمال المدة هو بما حصل لهم مما لا ينفع معه عمل ، مع البقاء على ما هم عليه من النسخ والتبديل مع تمكنهم من إتمام العمل بالإيمان بالكتاب الذي أنزل بعد كتابهم " .
وقال- رحمه الله - :" إنما أعطوا أجراً واحداً لأنه قد شرط ذلك كما في رواية أخرى صريحة من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ، وهذه الأمة شرط لها إتمام عمل بقية اليوم أجران ، وفي حديث أيوب : ( أن اليهود استُأْجرت لتعمل إلى الظهر على قيراط ) وهذا صحيح ؛ فإن كلا ً من الطائفتين أشعر بنسخ دينه وتأقيته وأنه يعمل عليه إلى أن يأتي نبيُّ آخر مصدق له وإن لم يذكر لهم ذلك الوقت معيناً " .
وفيه أيضاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه-قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
ش : قوله: وفيه أيضاً عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أي: في صحيح البخاري.(1/9)
قوله :( نَحْنُ الآخِرُونَ ) يعني في الزمان فإنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وأمته آخر الأمم .
قوله :(وَالأََوَّلُونَ ) أي في الفضل والكرامة .
" وإنما ضلت الطائفتان قبلنا لتقديمهم رأيهم على ما جاءت به رسلهم وأنبيائهم واهتدت هذه الأمة باتباعها ما جاءهم به رسولهم عن ربهم من غير تغيير له ولا تبديل " قاله الحافظ بن رجب رحمه الله .
والحديث يدل على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا ذكره المصنف في هذا الباب.وفيه تعليقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ).
ش : قوله:( وفيه تعليقاً ) أي: في صحيح البخاري في كتاب الإيمان تحت ( باب الدين يسر ) تعليقاً بصيغة الجزم ، والحديث المعلق صورته: أن يحذف من أول الإسناد واحد فأكثر على التوالي ، وبينه وبين المعضل عموم وخصوص من وجه ، فيجامعه في حذف اثنتين فأكثر فصاعداً ، ويفارقه في حذف واحد ، وفي اختصاصه بأول السند .
والحديث خرجه الإمام أحمد - رحمه الله- في المسند بلفظ :( إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة ) وهو حسن بشواهده .
قوله :( السَّمْحَةُ ) أي: السهلة أي أنها سهلة يسيرة .
وعن أبيِّ بن كعب - رضي الله عنه- قال:" عليكم بالسَّبيل والسنَّة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنَّة ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار. وليس من عبد على سبيل وسنَّة ذكر الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثلهُ كمثل شجرة يبس ورقُها فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريح فتحات عنها ورقها إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحات عن هذه الشجرة ورقها، وإنَّ اقتصاداً في سنَّة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنَّة " .(1/10)
ش : أبيِّ بن كعب هو: أبيِّ بن كعب بن قيس الخزرجي الأنصاري صحابي جليل القدر ، ومن فضائله ما رواه البخاري - رحمه الله- من طريق غُندر قال: سمعت شعبة قال: سمعت قتادة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيِّ ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}(1)سورة البينة ، قال أبيِّ: وسمَّاني؟قال: نعم ، قال: فبكى).
قال ابن عبد البر - رحمه الله- والأكثر على أنه مات في خلافة عمر - رضي الله عنه- .
والأثر رواه أبو نُعيم في الحلية لكن لم يذكره المؤلف- رحمه الله- بتمامه ولعلَّه سقط من الأصل الذي أخذ منه وهو قوله:( فانظروا أعمالكم ؛ فإن كانت اجتهاداً أو اقتصاداً أن تكون على منهاج الأنبياء وسنَّتهم ) أ هـ .
وفي هذا لأثر الحث على التمسك بالسنَّة وفضل من تمسَّكَ بها ، وفيه ذمُّ اجتهاد أهل البدع في بدعهم ، وهذا يخالف ما عليه بعض الناس من الاغترار بأهل البدع لأجل اجتهادهم ، وتغافلوا ما عندهم من البدع. والله المستعان .
قال عبد الله بن أحمد:حدثنا أبي قال:" قبور أهل السنَّة من أهل الكبائر روضة ، وقبور أهل البدع من الزهاد حفرة ، وفُسَّاق أهل السنَّة أولياء الله ، وزُهَّاد أهل البدع أعداء الله " .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:" يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة من برٍّ مع تقوى ويقين ، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادةً من المغترين ".…(1/11)
ش : ( أبو الدرداء )هو: عُويمر بن عامر مشهور بكنيته ، ولِيَ القضاء في خلافة عثمان - رضي الله عنه - قال مسروق- رحمه الله-: شافهت أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة : عمر وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت . توفي في خلافة عثمان- رضي الله عنه- قبل قتله بسنتين . وهذا الأثر أخرجه أبو نُعيم في الحلية ، وفي سنده ضعف من جهة جهالة الواسطة بين أبي سعيد الكندي وأبي الدرداء .وفي هذا الأثر فضل أهل السنَّة وإن قلَّ عملهم ، وقبح حال أهل البدعة وإن كثر عملهم ، لأن العبرة بحسن العمل لا بكثرته مع عدم حُسنه .قال ابن القيم -رحمه الله- في نونيته:
والله لا يرضى بكثرة فعلنا ** لكن بأحسنه مع الإيمانِ
فالعارفون مرادهم إحسانه ** والجاهلون عَمُو عن الإحسانِ
[ باب وجوب الدخول في الإسلام ]
وقوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران.
ش : قال ابن جرير- رحمه الله- : " يعني بذلك جل ثناؤه : ومن يطلب ديناً غير دين الإسلام ليدين به فلن يقبل الله منه { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يقول:من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عز وجل " .
قال شيخ الإسلام- رحمه الله-:" ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ، وقوله تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}عام في كل زمان ومكان " أ هـ .
وقوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }(19)سورة آل عمران.(1/12)
ش : قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسير هذه الآية:( إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحدٍ سوى الإسلام وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سدَّ جميع الطرق إليه إلا من جهة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمداً صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل " .
وقوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }(153) سورة الأنعام .قال مجاهد: السَّبُل: البدع والشبهات.
ش : قوله" قال مجاهد "هو مجاهد بن جبر المكي ، روى عن العبادلة الأربعة وبعض الصحابة - رضي الله عنهم- قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس- رضي الله عنهما- ثلاث عرضات ، أقف عند كل آية أسأله فيما نزلت وكيف كانت ، مات بمكة سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد ، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر-رضي الله عنه- .
ذكر المؤلف أثر مجاهد تفسيراً للآية وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره والطبري وغيرهما .
قال شيخ الإسلام- رحمه الله-:" .. وكل ما سوى أهل السنَّة والحديث من الفرق لابد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق ، وبسبب ذلك وقعت الشبهة ، وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد ، ولهذا سُمِّيَ أهل البدع أهل شبهات ، وقيل إنهم يلبسون الحق بالباطل " .(1/13)
قال ابن القيم- رحمه الله-:( فتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى ..) إلى أن قال:(وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر و النفاق وهي فتنة المنافقين ، وفتنة أهل البدع ، على حسب مراتب بدعهم ، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضَّلال ، ولا يُنْجي من هذه الفتنة إلا تجديد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في دق الدين وجله ، وظاهره وباطنه ، وأعماله وحقائقه وشرائعه ، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام " .
وعن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) أخرجاه ، وفي لفظ : ( مَنْ عَمِلَ عَملاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ).
ش : " عائشة" هي:عائشة بنت أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- ، وُلدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين ، وفيه أيضاً أنه لم ينكح بكراً غيرها ، وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- مرفوعاً:(فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ).ماتت سنة ثمان وخمسين في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلتْ من رمضان عند الأكثر ، ودفنت في البقيع .
والحديث مخرج في الصحيحين بلفظ:(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) كما ذكر المؤلف ، وأخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم بلفظ : (مَنْ عَمِلَ عَملاً .. ) ، ووصله مسلم بهذا اللفظ .
ومن المعلوم أن إحداث الإعتقادات الفاسدة في دين الله أشدُّ جُرماً من مجرد عمل العامل بما أحدثه غيره ، فأول من أحدث نفي الصفات والأفعال في الإسلام الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد ، وأول من أحدث القول بأن الله جسم هشام بن الحكم .(1/14)
فظهر من الحديث وغيره من النصوص أن الأعمال أربعة ، واحد مقبول ، وثلاثة مردودة ، فالمقبول : ما كان لله خالصاً وللسنة موافقاً ، والمردود : ما فقد منه الوصفان أو أحدهما .
وظاهر الحديث بلفظ مسلم- رحمه الله- أن العمل المخالف للسنة إذا تُعبد به فهو مردود مطلقاً لا أجر فيه ، أما العامل فإنه لا يستحق العقاب إلا إذا بلغته الحجة ، والله أعلم .
وقد يكون مسوغ من أحدث في الدين أنه ينصر الإسلام على أعدائه ، كما حصل من أهل الكلام عندما أحدثوا نفي صفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الآخرة ، لأجل الرد على الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم ، ووجه هذا الرد عندهم أنهم استدلوا على حدوث العالم بحدوث الأجسام ، والدليل على حدوثها قيام الحوادث بها ، وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث .
وللبخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى).
ش : الحديث تفرد به البخاري عن مسلم ، ورواه أحمد في المسند بنحو لفظ البخاري .(1/15)
قوله :" كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى" قال ابن حجر- رحمه الله-: " بفتح الموحدة أي امتنع ، وظاهره أن العموم مستمر لأن كلاً منهم لا يمتنع من دخول الجنة ، ولذلك قالوا : " وَمَنْ يَأْبَى " فبين لهم أن إسناد الإمتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الإمتناع عن سنته وهو عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم في أول الأحكام حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أيضاً مرفوعاً " مَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ الله "، وأخرج أحمد والحاكم من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة- رضي الله عنه- رفعه :" لتدْخُلنَّ الجنة َ إلاَّ من أبى وشَرَدَ على اللهِ شراد البعير " وسنده على شرط الشيخين ، وله شاهد عن أبي أمامة عند الطبراني وسنده جيد ، والموصوف بالإباء وهو الإمتناع إن كان كافراً فهو لا يدخل الجنة أصلا ً ، وإن كان مسلما ً فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل ٍ إلا من شاء الله " .
وفي الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) رواه البخاري .
ش :الحديث تفرد به البخاري عن مسلم ، وقد نقل المؤلف كلام شيخ الإسلام شرحا ً للحديث حيث قال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- قوله" سنة الجاهلية":يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة ، أي : في شخص دون شخص ، كتابية أو وثنية ، أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.
وفي الصَّحيح عن حذيفة- رضي الله عنه- قال:( يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَإنْ اسْتَقَمْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالا ً فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلالا ً بَعِيدًا ) .(1/16)
ش : قوله :" في الصَّحيح " يعني صحيح البخاري وقد رواه من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همَّام بن الحارث عن حذيفة -رضي الله عنه- ، وسنده كلهم كوفيون .
و حذيفة- رضي الله عنه- هو:حُذيفة بن اليمان يُكنى أبا عبد الله واسم اليمان:حُسيل بن جابر ، كان حذيفة من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يسأله عن المنافقين ، وهو معروف في الصحابة-رضي الله عنهم- بصاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومات- رضي الله عنه-سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان في أول خلافة علي- رضي الله عنه .
قوله :" يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ " بضم القاف وتشديد الراء جمع قارئ .
قوله :" سَبَقْتُمْ " قيل بفتح أوله ، وقيل بضمه ، وعلى رواية الفتح يكون المعنى: أنهم إذا استقاموا وتمسكوا بسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّهم يسبقون من بعدهم في الفضل لتقدمهم عليهم في الزمان ، وعلى رواية الضم:أنهم إذا استقاموا فقد سبقهم الصحابة بفضل الصحبة .
وعن محمد بن وضَّاح أنه كان يدخل المسجد فيقف على الحِلَق فيقول:فذكره ، وقال : أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود - رضي الله عنه-:( ليس عام إلا والذي بعده أشرُّ منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، لكن ذهاب عُلمائكم وخياركم ثم يحدُثُ أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيُهْدم الإسلام ويُثلم ) .
ش :في إسناده مجالد بن سعيد ، قال البخاري- رحمه الله-:كان يحيى بن سعيد يضعِّفه ، وكان ابن مهدي لا يروي عنه ، وكان أحمد لا يراه شيئا ً ، وضعَّفه أيضا ً : ابن معين ، وابن أبي حاتم .(1/17)
ويُغني عنه ما ثبت في صحيح البخاري- رحمه الله- قال:( باب: لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه) حدثنا محمد بن يوسف:حدثنا سفيان عن الزبير بن عدي ِّقال:أتينا أنس بن مالك- رضي الله عنه- فشكوا إليه ما يلقون من الحجاج فقال:" اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشرٌّ منه حتى تَلقوا ربَّكُم" سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم .
[ باب تفسير الإسلام ]
وقول ِ الله تعالى:{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ }(20)سورة آل عمران .
ش : لمَّا ذكر المؤلف- رحمه الله-فضل الإسلام ووجوب الدخول فيه ، ناسب أن يذكر في هذا الباب تفسير الإسلام .
وقد ذكر- رحمه الله- في رسالته ( ثلاثة الأصول ) أن الإسلام هو:الإستسلام لله بالتوحيد والإنقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله .
أما الآية فقد قال ابن جرير - رحمه الله- في تفسيرها : ( يعني بذلك جل ثناؤه : فإن حاجَّك يا محمد النفر من النَّصارى أهل نجران في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فخاصمك فيه بالباطل فقل انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي ، وإنما خصَّ جلَّ ذكره بأمره بأن يقول : ( أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ ) لأن الوجه أكرم الجوارح من ابن آدم عليه ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له الذي دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه ) .
وأما قوله:{ وَمَنِ اتَّبَعَنِ }فإنه يعني:وأسلم من اتبعني أيضا ً وجهه لله معي ، (وَمَنِ) معطوف بها على التاء في (أَسْلَمْتُ ) .
وفي الصحيح عن عمر - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الإسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا ) .(1/18)
ش :قوله:( وفي الصحيح عن عمر ـ رضي الله عنه ـ ) أي:في صحيح مسلم عن عمر- رضي الله عنه - بواسطة ابنه عبد الله- رضي الله عنه- وهو أول حديث بدأ به مسلم بن الحجاج صحيحه ، ويطلق عليه عند أهل العلم ( حديث جبريل ) .
وهنا فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بأركانه ، وقد اتفق أهل العلم على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر ، وأما الأركان الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها ، والصواب أن
تارك الصلاة من غير جحود كافر على ظاهر النصوص ، أما قول بعض أهل العلم أن أهل السنة متفقون على أنه لا يكفَّر مسلم بذنب من غير استحلال فإنما يريدون المعاصي كالزنا وشرب الخمر ، وأما هذه المباني الأربعة ففي تكفير تاركها نزاع مشهور .
وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه- مرفوعا ً:(الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ )
ش : الحديث رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث جابر- رضي الله عنه- ولم أقفْ عليه من حديث أبي هريرة ، وخرَّجه البخاري ومسلم- رحمهما الله- من حديث أبي موسى- رضي الله عنه- قال: قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل ؟ قال:(مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه ) . وفيهما من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- بنحوه .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله- في شرحه للحديث في ( الفتح ) :
" والمراد بذلك المسلم الكامل الإسلام ، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فإنه ينفى عنه كمال الإسلام الواجب ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة ؛ فأذى اليد الفعل وأذى اللسان القول " . قلت: لا يعني هذا الحديث ونحوه الكف عن الإنكار على أهل البدع والفجور ، بل هذا واجب كفائي ، وقد يكون عيني في بعض الأحوال .(1/19)
وعن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، أنه سَألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: ( أن تُسلم قلبك لله ، وأن تُولِّي وجهك إلى الله ، وأن تُصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة " رواه أحمد.
ش : إسناد بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده من قبيل الحسن إذا كان من قبله ثقة ، وجده هو : معاوية بن حيدة ـ رضي الله عنه ـ صحابي ، وقد علَّق البخاري هذه السلسلة تعليقا ً جازما ً في كتاب الطهارة حيث قال:وقال بَهز عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم:( الله أحق أن يستحيا منه من الناس ). وعن أبي قلابة عن رجلٍ من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله ما الإسلام ؟قال :أن تُسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك " قال :أي الإسلام أفضل ؟قال :"الإيمان" قال:وما الإيمان؟قال:"أن تؤمن بالله وملائكته ورسله والبعث بعد الموت".
[ باب قول الله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ](85) سورة آل عمران(1/20)
وعن أَبُي هُرَيْرَةَ -رَضِيً اللَّه- عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(تَجِيءُ الأْعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلاةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّدَقَةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ أَيْ يَا رَبِّ أَنَا الصِّيَامُ فَيَقُولُ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الإسْلامُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلامُ وَأَنَا الإسْلامُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) ) رواه أحمد .
ش : الحديث رواه أحمد في مسنده من طريق عبَّاد بن راشد ثنا الحسن ثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تَجِيءُ الأْعْمَالُ .... الحديث " . قال أبو عبد الرحمن:عبَّاد بن راشد ثقة ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.
وأبو عبد الرحمن:هو عبد الله بن أحمد نفى أن يكون الحسن سمع من أبي هريرة مع أن الحسن صرح بالسماع منه في الإسناد السابق وبهذا قال الجمهور ، وقد ذكر أبو زرعة وأبو حاتم أن من قال عن الحسن حدثنا أبو هريرة فقد أخطأ .(1/21)
والشاهد من الحديث قول الله عز وجل:" بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي " فإن الله عز وجل لا يقبل الصلاة والصدقة والصيام من غير المسلم قال الله تعالى:{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا }(23)سورة الفرقان. فمن نقض شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك الأكبر حبط جميع عمله لقوله عز وجل:{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }(65) سورة الزمر.
وفي الصحيح عَن عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " ورواه أحمد.
ش : المراد بالصحيح صحيح مسلم -رحمه الله- لأن مسلماً روى هذا الحديث موصولاً بهذا اللفظ.
ومناسبة ذكره في هذا الباب أن الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس صحة الأعمال وقبولها إذ لا صحة لعمل ولا قبول إلا بالإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم فبالإخلاص لله تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله وبالمتابعة لرسول الله تتحقق شهادة أن محمداً عبده ورسوله . وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً سواه.
[ بابُ وجوبِ الاستغناء بمتابعةِ الكتابِ عن كُلِّ ما سواه ]
وقوله تعالى :{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ }(89)سورة النحل .
ش : الأدلة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة:الكتاب والسنة والإجماع.قال شيخ الإسلام: (من قال بالكتاب والسنة والإجماع فهو من أهل السنة والجماعة).(1/22)
وقد بوَّب المؤلف هذا الباب ليوضح وجوب الاستغناء عن كل كتاب غير كتاب الله وإن كان فيه شيء من الحق من الكتب المنزلة المنسوخة أو كتب أهل البدع التي يلتبس فيها الحق بالباطل . وقد ذكر العلماء أن التوراة والإنجيل لم تحرَّف كلها وإنما حرِّف بعضها تحريفاً معنوياً عند البعض ولفظياً عند الجمهور .
قوله :{تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}مثل قوله تعالى:{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(38)سورة الأنعام.ولا شك أنه يدخل في ذلك بيان مهمَّات الدين الاعتقادية ويدخل فيه ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }(7) سورة الحشر .وقوله تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم:{ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (44)سورة النحل .وفي الحديث الصحيح:( إنِّي أُوتيت القرآن ومثله معه )الحديث رواه أحمد وأبو داوود وغيرهما .
روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي في يد عُمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال : ( أمُتهوِّكون يا ابن الخطاب ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، ولو كان موسى حيَّاً واتبعتموه وتركتموني ضللتم ) وفي رواية : ( لو كان مُوسى حيَّاً ما وسعه إلا اتباعي ) فقال عمر : رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً).
ش : الحديث حسن بطرقه.
قوله :( أمُتهوِّكون ) أي متحيرون.
والحديث فيه أن الإسلام نسخ ما قبله من الكتب المنزلة إلا أن شرع من قبلنا لا يكون شرعاً لنا إلا بشرطين:
الأول : أن يثبت أنه شرع لهم .
الثاني : أن لا يخالف شرعنا .
وقد استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث تحريم النَّظر في كتب أهل البدع .(1/23)
قال أبو زرعة الرازي- رحمه الله-:وسئل الإمام أحمد- رحمه الله-عن الحارث المحاسبي وكتبه فقال للسائل:إيّاَك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يُغنيك. قيل له:في هذه الكتب عبرة ، فقال:من لم يكن له في كتاب الله عبرةً فليس له في هذه الكتب عبرة . قال مهنا :سألت أحمد- رحمه الله- عن رجل مات وترك كتباً من كتب الرازي وترك عليه ديناً.فقلت له:فأيُّ شيء يصنع بالكتب ؟قال : تدفن.
قال ابن القيم- رحمه الله- في الطرق الحكمية:
( وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المُضِلة وإتلافها . قال المروذي : قلت لأحمد : استعرتُ كتاباً فيه أشياء رديئة ؛ ترى أن أخرقه أو أحرقه ؟ قال:نعم. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد عُمر بن الخطاب- رضي الله عنه- كتاباً اكتتبه من التوراة واعجبه موافقته للقرآن ، فتمعَّرَ وجهه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب به عمر- رضي الله عنه-إلى التنور فألقاه فيه. فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صُنِّف بعده من الكتب التي يعارض بها ما في القرآن والسنة والله المستعان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كتب عنه شيئاً غير القرآن أن يمحوه ، ثم أذن في كتابة سنته ولم يأذن في غير ذلك .وكل هذه المتضمنة المخالفة للسنة غير مأذون فيها بل مأذون في محقها وإتلافها وما على الأمة أضر منها.وقد حرَّق الصحابة- رضي الله عنهم- جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان- رضي الله عنه- لمَّا خافوا على الأمة من الإختلاف فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت
الإختلاف والتفرق بين الأمة ..ثم قال- رحمه الله-:والمقصود أنَّ هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو و المعازف و إتلاف آنية الخمور فإن ضررها أعظم من ضرر هذه . ولا ضمان فيها كما لا ضمان في كسر أواني الخمور) انتهى مختصراً .(1/24)
قلت :النَّظر في كتب أهل البدع يجوز للمتضلِّع من العلم بقصد الرد على ما فيها من باطل وهذا يندرج وفق القاعدة المشهورة:" ما حُرِّم سدّاً للذريعة يباح عند الحاجة"والحاجة هنا هي النصح لمن قد يغتر بما فيها من شُبَه، أمَّا ما فيها من حق فموجود في كتب أهل السنة.والله أعلم.
[ باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام ]
وقوله تعالى :{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا }(78)سورة الحج .
ش : أكثر السلف على أنَّ الضمير ( هو ) يعود إلى الله سبحانه وقيل يعني إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-والقول الأول أقوى ، وقد رجحه ابن جرير وابن كثير- رحمهما الله- .
قال مجاهد- رحمه الله-: الله سمَّاكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي هذا يعني القرآن، وكذلك قال غيره .
وعن الْحَارِثَ الأْشْعَرِيَّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِْسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ إِلاَّ أَنْ يُراجِعَ ، وَمَنْ دعَا بدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم ) فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ:(وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ)رواه أحمد والترمذي ، وقَالَ:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/25)
ش : الْحَارِثَ الأْشْعَرِيَّ- رضي الله عنه- هو:الحارث بن الحارث الأشعري ، قال الأزدي والحارث هذا يكنى أبا مالك .قال ابن حجر- رحمه الله-:وقد خلط غير واحد بأبي مالك الأشعري فوهموا ، فإن أبا مالك المشهور بكنيته المختلف في اسمه متقدم الوفاة على هذا وهذا مشهور باسمه وتأخر حتى سمع منه أبو سلاَّم . والحديث حسنه ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره .
وفي الحديث قدَّمَ السمع والطاعة على الجهاد لأمرين :
الأول : أنَّ السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية الله فرض عين ، أمَّا الجهاد فهو فرض كفاية ويتعيَّنُ في حالات معدودة .
الثاني : أنَّ الجهاد لا بد أن يكون تحت راية أمير يُسمعُ له ويُطاعُ في غير معصية الله ، فإذا لم يكن كذلك لا يكون جهاداً مشروعاً .
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِْسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ).
ش : قال ابن الأثير في النهاية :(مفارقة الجماعة ترك السنة واتباع البدعة ، والربْقَةُ في الأصل : عُروة في حبل تُجعل في عُنق البهيمة أو بيدها تُمسكها فاستعارها للإسلام ، يعني ما يشُدُّ به المسلم نفسه من عُرى الإسلام أي : حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه وتُجمعُ الرِّبْقة على رِبَق ) .
قوله :( وَمَنْ دعَا بدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم ) .
ش :دعوى الجاهلية أي :عادات أهل الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها .
وقد يراد بدعوى الجاهلية أحد أمرين:(1/26)
الأول :العصبيَّة التي يُعين الرجل بها قرابته على غير الحق وقد ثبت في المسند بسند صحيح ( 4 / 11) من حديث عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مثل الذي يُعين عشيرته على غير الحق مثل البعير رُدِّيَ في بئرٍ فهو يَمُدُّ بذنبه ) .وصحَّ أيضاً في المسند ( 3 / 221 ) من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:( لا تفتخروا بآبائكم الذين ما توا في الجاهلية ، فو الذي نفسي بيده لما يُدهده الجُعل بمنخريه خير من آبائكم الذين ما توا في الجاهلية ) . وليس الإنتساب إلى القبائل من العصبية ، قال البخاري- رحمه الله-(باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام والجاهلية)وذكر في هذا الباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:لمَّا نزلت{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(214)سورة الشعراء.جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوهم قبائل ، قبائل. وقال- رحمه الله- ( باب من أحبَّ أن لا يُسبَّ نسبه ) . ثم ذكر حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت: استأذن حسَّان ابن ثابت- رضي الله عنه- النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هجاء المشركين قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كيف بنسبي فيهم ).
والثاني : ندبُ الميِّتِ لما ثبت في صحيح البخاري- رحمه الله- وغيره عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( ليس منَّا من ضرب الخدود وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). قال شيخ الإسلام- رحمه الله- في المجموع له( 20 / 225 ) :( فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد).
قوله :( مِنْ جُثَا جَهَنَّم ) .
ش :روي حثاء بالحاء ورجح ابن عبد البر- رحمه الله- هذه الرواية.(1/27)
قال ابن الأثير ( 1/ 232 ) :( الجُثا : جمع جُثوة بالضَّم ، وهو الشيء المجموع وتروى هذه اللفظة : جُثِيُّ بتشديد الياء جمعُ جَاثٍ وهو الذي يجلس على ركبتيه ومنه حديث علي ـ رضي الله عنه ـ : " أنا أوَّل من يجثوا للخصومة بين يَدَي الله تعالى " . وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه غريب الحديث(1 / 476 ):( واحدة الجُثى جُثوة بضم الجيم وهي الشيء المجموع . قال طرفة :
ترى جُوثوتين من ترابٍ عليهما*** صفائح صُمّ من صفيح مُوصَّدِ
يصف قبرين فكان معنى الحديث:أنه من جماعات جهنَّم هذا فيمن قال:جُثى فخفف الياء ، ومن قال:جُثِيّ جهنَّم فشدد الياء ، فإنه يريد الذين يجثون على الركب واحدها جاثٍ وجمعه جُثِيّ بتشديد الياء .قال الله تبارك وتعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } (68) سورة مريم . وهذا أحبُ إليَّ من الأول .
وفي الصحيح:( مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْر فَمَاتَ فَمِيتَتُةُ جَاهِلِيَّةٌ ). وفيه :( أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟). قال أبو العباس: " كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء
الجاهلية ، بل لمَّا اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاري : يا للأنصار ! قال صلى الله عليه وسلم :( أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟) ، وغضب لذلك غضباً شديداً. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى- .
ش : المراد بالصحيح هنا صحيح البخاري- رحمه الله- .(1/28)
وقد ذكر المؤلف كلام شيخ الإسلام في تفسير الحديث ، وفيه فسَّرَ الجماعة بما فسَّرها به ابن مسعود- رضي الله عنه-بقوله الثابت عنه:"الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك " . وشيخ الإسلام جعل مفارقة الجماعة الخروج عن دعوى الإسلام والقرآن . أي الخروج عمَّا كان عليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه .
[ باب وجوب الدخول في الإسلام كُلِّه وترك ما سواه ]
وقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}(208)سورة البقرة
ش : السِلْم والسَلْم قيل بمعنى واحد وقيل بالفتح للمسالمة وبالكسر للإسلام ، ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام أي ادخلوا في جميع خصال الإسلام .
وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب( 216 ):
( السَّلمْ الدلو لها عُروة واحدة .و"السَّلْم"والسِّلْْم أيضاً الصلح و"السَّلَم"السَّلف.و"السَّلم" الاستسلام قال تعالى:{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ } (94) سورة النساء .
والشاهد من الآية قوله تعالى : { ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً }:أي ادخلوا في الإسلام كله وهذا يتضمَّن الأخذ بكتاب الله عز وجل وجميع ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور الشريعة ويكون فهم النصوص كما فهمها الرسول صلى الله عليه وسلم و أخذ أصحابه- رضي الله عنهم- الفهم منه وأخذ التابعون لهم بإحسان هذا الفهم منهم .
وقوله تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}الآية (60) سورة النساء .
ش : قال ابن جرير- رحمه الله-:(1/29)
(يعني بذلك جلَّ ثناؤه ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدَّقوا بما أنزل إليك من الكتاب وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من الكتب يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت يعني إلى من يعظِّمونه ويصْدُرُون عن قوله ، ويرضون بحكمه من دون حكم الله(وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ) الطاغوت الذي يتحاكمون إليه فتركوا أمر الله واتبعوا أمر الشيطان ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً)يعني أن الشيطان يريد أن يصدَّ هؤلاء المتحاكمين) ا هـ .
وقوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }(159)سورة الأنعام.
ش : أهل التأويل اختلفوا في المعنيين في الآية على قولين:
الأول : أنه عُنيَ بذلك اليهود والنصارى .
الثاني : أنه عُنيَ بذلك أهل البدع من هذه الأمة الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه .
والذي يظهر أن كلا الصنفين يدخلون في الآية .
قال ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}(106) سورة آل عمران :تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف.(1/30)
ش :قال الإمام اللالكائي:( أخبرنا الحسين بن عبيد الله ابن الحسن أبنا حبيب بن الحسن أبنا حبيب ثنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي ثنا علي بن قدامة ثنا مجاشع بن عمرو ثنا ميسرة بن عبد ربه عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما-في قوله تعالى:{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }فأما الذين ابيضَّت وجوههم: فأهل السنة والجماعة وأما الذين اسْوَدَّة وجوههم:فأهل البدع والضلالة ). في سنده مجاشع ابن عمرو ضعفه أبو حاتم وقال:ليس بشيء.وفيه أيضاً ميسرة ابن عبد ربه قال أبو زرعة:كان يضع الحديث ، وقال أبو حاتم:كان يرمى بالكذب وكان يفتعل الحديث. لكن صحَّ في المسند من طريق حمَّاد بن سلمة عن أبي الغالب عن أبي أمامة أنَّه رأى رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق ، فقال أبو أمامة- رضي الله عنه-:"كلاب النار كلاب النار- ثلاثاً-شرُّ قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثمَّ قرأ :{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }الآيتين،قلتُ لأبي أمامة: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال:لو لم أسمعه إلا مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً ما
حدثتكم". فأنزل- رضي الله عنه-هذه الآية في أهل البدع وأولهم الخوارج الذين كانوا في زمنه.(1/31)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو-رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً )قَالُوا :َمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟قَالَ:( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ).
قوله :( وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً..).
ش : هذا خبرٌ عن أمرٍ ماضي حصل لبني إسرائيل . وإسرائيل هو لقب يعقوب عليه الصلاة والسلام الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل الذين بُعثَ فيهم موسى عليه الصلاة والسلام . فإنهم تفرقوا في دينهم إلى فرق .
قوله : ( وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً ..) .(1/32)
ش : وهذا خبر صادق منه صلى الله عليه وسلم أنَّ أمته ستفترق في دينها وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم والعدد المذكور في الحديث له مفهوم والواجب الإيمان بظاهر الحديث ولم يُصبْ من قال ليس لهذا العدد مفهوم فإنه يُخالف هذا الحديث بغير حُجة . وهذه الفرق المذكورة في الحديث من الأمة . قال أبو العباس في منهاج السنة ( 5 / 248 ) : (فمن كفَّر الثنتين وسبعين فرقة كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان). وقد جاء الوعيد في حق الثنتين والسبعين فرقة بالنار وذلك لعظم إثم مخالفة ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم .قال الله عز وجل : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } (115) سورة النساء .وهذه الفرق الضَّالة قد يكون فيهم الزهَّاد والعبَّاد لكنهم لم يسلموا
من فتنة الشبهات التي هي أعظم من فتنة الشهوات . قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- في الدُّرَر السنيَّة ( 13 / 165 ):
(ومنها أي من فوائد قوله تعالى :{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا }(13) سورة الأعراف:الشهادة لما كان عليه السلف أنَّ البدعة أكبر من الكبائر ، لأنَّ معصية اللعين بسبب الشبهة ومعصية آدم بسبب الشهوة).
قوله :( قَالُوا : َمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ).(1/33)
ش :أي أنَّ الفرقة الناجية في الدنيا من البدع وفي الآخرة من النار هم المتمسكون بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أي مكان كانوا وفي أي زمان ، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله). رواه البخاري ومسلم . وهم المتبعون لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقد صحَّ في مسند أحمد من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-قال:قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ؛ أي الناس خير ؟قال:( أنا ومن معي)قال:فقيل له:ثم من يا رسول الله ؟قال:( الذي على الأثر )قيل له: ثم من يا رسول الله ؟ قال:( فَرَفَضَهم ).
قوله :( وليتأمَّل المؤمن الذي يرجو لقاء الله، كلام الصَّادق المصْدوق في هذا المقام خصوصاً قوله :( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)يالها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة ! رواه الترمذي، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة وصححه، ولكن ليس فيه ذكر النار، وهو في حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه:( أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تتََجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَْبُ بِصَاحِبِهِ فلاَ يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إِلاَّ دَخَلَهُ ) ، وتقدم قوله:( وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ).
ش : قال صاحب عون المعبود- رحمه الله- ( 12 / 333 ) :
(" تِلْكَ الأَهْوَاءُ" أي البدع ، وأصل الهوى حب النفس." تََجَارَى" بحذف إحدى التاءين أي تدخل وتسري ." كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَْبُ"بالكاف واللام المفتوحتين داءٌ يعرض للإنسان من عضّ الكلب وهو داء يصيب الكلب ونحوه فيصيبه مثل الجنون فلا يعض أحداً إلا كَلَب عليه ويعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاً . كذا في النهاية . والحديث سكَتَ عنه المُنذري ) .(1/34)
[باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر ]
ش : ذكر المؤلف- رحمه الله- هذا الباب ليُبَيِّن ما تقرَّرَ عند أهل العلم من أنَّ البدعة في الدين أشد من كبائر الذنوب ، وهذا القول دلَّت عليه النصوص وما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه . والكبائر : جمع كبيرة ، وقد روى ابن جرير- رحمه الله- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:" الكبائر كُلُّ ذنبٍ ختمه الله بنارٍ أو لعنةٍ أو غضبٍ أو عذابٍ " . وروى عنه أيضاً أنه قال:" هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار".
وقوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } (48) سورة النساء .
ش : ذكر المؤلف- رحمه الله- هذه الآية وهي تتعلق بالشرك في هذا الباب المتعلِّق بالبدعة ليُبَيِّن أنَّ البدعة هي أصل الشرك ووجه ذلك أنَّ الشيطان أوحى إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام أن انصِبُوا إلى مجالس القوم الصالحين الذين هلكوا منهم أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد وكان فعلهم هذا بدعة كانت سبباً بعد ذلك في عبادة تلك الصور . والله أعلم .
وقوله تعالى:{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ }(144) سورة الأنعام.
ش : مناسبة الآية للباب: أنَّ البدعة كذبٌ على الله وقول على الله بلا علم وهذا يوضِّح كون البدعة أشدُّ من الكبائر لأنها تُنسب إلى شرع الله بخلاف كبائر الذنوب .
قال ابن القيم- رحمه الله- في كتابه المدارج بعد أن ذكر هذه الآية:( فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع . وأنَّى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة أو يظنها سنة فهو يدعوا إليها ويحض عليها فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة وكثرة(1/35)
اطِّلاعه عليها ودوام البحث عنها ودوام التفتيش عليها ، ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبداً ) .
وقوله تعالى:{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } (25)سورة النحل .
ش : مناسبة الآية للباب : أنَّ من أحدثوا البدع يحملون أوزار من اتبعوهم عليها يظنون أنها هدى وهي ضلالة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كل بدعة في الدين فهي ضلالة كما في حديث العرباض الصحيح :( وإيَّاكم ومحدثات الأمور فإنَّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ). أمَّا أهل المعصية فهم يعلمون مخالفتها لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولا ينسبونها إلى الشريعة ولا يتقربون بها إلى الله ولهذا كانت البدعة في الدين أغلظ منها .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج : ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن لقيتُهم لأقتلنَّهم قتل عاد ). وفيه أنه: ( نهى عن قتل أمَراء الجور ما صَلَّو) .
ش : قوله " في الصحيح " أي في الصحيحين ( البخاري ، مسلم )- رحمهما الله- والأحاديث التي وردت في الخوارج مخرَّجة في الصحيحين وفي السنن وفي المسانيد وهي أحاديث متواترة تواتراً معنويَّاً . وقد دلَّت على أمور:
الأول : الأمر بقتالهم ابتداءً لعظم فساد المعتقد الذي يعتقدونه من استحلال دماء المسلمين والتقرب إلى الله بذلك وعدم أخذهم بكثير من نصوص السنة النبوية . والحديث الذي ذكره المؤلف- رحمه الله- فيه المبالغة بالأمر بقتلهم وهذا لا يقوم به كل أحد بل هو للإمام أو من ينيبه الإمام ومن عرضوا له الخوارج يجوز له أن يقاتلهم ، قال الإمام أحمد- رحمه الله- في أصول السنة : ( وقتال اللصوص والخوارج جائز إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله فله أن يقاتل عن نفسه وماله
ويدفع عنها بكل ما يقدر وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم ولا يتَّبع آثارهم ليس لأحد إلاَّ الإمام أو ولاة المسلمين ...).(1/36)
الثاني : الأجر العظيم لمن قتلهم أو قتلوه ففي صحيح البخاري- رحمه الله- من حديث علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة)وفي صحيح مسلم- رحمه الله- في كتاب الزكاة من حديث علي- رضي الله عنه- وفيه:(لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لا تَّكلوا عن العمل).ومعناه: أي اعتمدوا على عظم تلك البشارة وأنقصوا في العمل . وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( قتالهم حق على كل مسلم )وسنده صحيح. وفيه أيضاً من حديث أبي أمامة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج:( شر قتلى تحت ظل السماء ثلاثاً ، وخير قتلى تحت ظل السماء من قتلوه)وسنده صحيح.
وفيه أيضاً بسند صحيح من حديث أبي بكرة- رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:( فإذا رأيتموهم فأنيموهم ثم إذا رأيتموهم فأنيموهم فالمأجور قاتلهم ). وفيه أيضاً من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( طوبى لمن قتلهم وقتلوه)وسنده صحيح. وصحَّ فيه أيضاً عن عاصم بن شميخ قال :"رأيت أبا سعيد- رضي الله عنه- بعد ما كبر ويداه ترتعش يقول : قتالهم أحل عندي من قتال عدتهم من الترك".
الثالث :سوء حالهم في الدنيا والوعيد الشديد لهم في الآخرة . فقد ثبت في الصحيحين من حديث علي-رضي الله عنه- وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج:(لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية...) الحديث. وفي صحيح البخاري- رحمه الله- من حديث ابن عمر-(1/37)
رضي الله عنهما-قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يمرقون من الإسلام مروق السَّهمُ من الرميَّة). وفي سنن ابن ماجة بسند صحيح من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما -قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( ينشأ نشؤ يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلَّما خرج لهم قرن قطع ، قال ابن عمر- رضي الله عنهما -و سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(كلَّما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة ، ثم يخرج من عواقبهم الدجال)وفي حديث أبي ذرِّ الذي رواه مسلم- رحمه الله-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هم شر الخلق والخليقة ) . وفي المسند قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أنس بن عياض قال:سمعت صفوان ابن سليم يقول:"دخل أبو أمامة الباهلي دمشق فرأى رؤوس حروراء قد نصبت فقال:كلاب النار كلاب النار –ثلاثاً- شر قتلى تحت ظل السماء خير قتلى من قتلوا ، ثم بكى فقام إليه رجل فقال:يا أبا أمامة هذا الذي تقول من رأيك أم سمعته ؟قال :قد سمعته غير مرة ولا مرتين قال :فما يبكيك ؟قال: أبكي لخروجهم من الإسلام هؤلاء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم شيعاً".(1/38)
الرابع : سماتهم ومنها خروجهم عن السنة والتكفير بغير حق ، قال شيخ الإسلام- رحمه الله - في المجموع له ( 19 / 73 ) : ( ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم : أحدهما : خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخويصرة التميمي : " اعدل فإنك لم تعدل"حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم:( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)فقوله:إنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهاً وترك عدل ، وقوله:" أعدل" أمر له بما اعتقده هو حسنه من القسمة التي لا تصلح ،وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة ، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة وينفي ما أثبتته السنة ... ) إلى أن قال : ( الفرق الثاني في الخوارج وأهل
البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان وكذلك يقول جمهور الرافضة وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من غلاة المنتسبين إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم ) .
وقال- رحمه الله- في منهاج السنة:(فإن الخوارج أيضاً باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ومن تكفير علي- رضي الله عنه- ومن إسقاط طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لم يخبر به عن الله ، وتجويز الظلم عليه في قَسْمه والجور في حكمه وإسقاط اتِّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يظن أنه ظاهر القرآن كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك).(1/39)
والصحيح الذي عليه المحققين من أهل العلم أن الخوارج غير البغاة في عقيدتهم وفي معاملة أهل السنة والجماعة لهم ، والأصل في هذا التفريق بين الخوارج والبغاة ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) ففي الحديث ذكر الطوائف الثلاث وفيه أن المارقين ليسوا من جنس أولئك هذا هو الفرق الأول .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتلوا ، وأما أهل البغي فإن الله قال فيهم:{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }الآية(9)سورة الحجرات.فلم يأمر بقتال أهل البغي ابتداءً أما الخوارج فقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وقال صلى الله عليه وسلم :(أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة).ونحو ذلك من الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم . وهذا ما كان عليه أصحابه- رضي الله عنهم- قال شيخ الإسلام- رحمه الله- في كتابه الصارم المسلول ( 195 ) : ( ومما يدل على أنهم كانوا يرون قتل من علموا(1/40)
أنه من أولئك الخوارج وإن كان منفرداً حديث صبيغ ابن عِسْل وهو مشهور : قال أبو عثمان النَّهدي :" سأل رجل من بني يربوع أو من بني تميم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عن الذاريات والمرسلات والنازعات أو عن بعضهنَّ فقال عمر:ضَعْ عن رأسك فإذا له وَفْرَة فقال عمر:أما والله لو رأيتك محلوقاً لضربتُ الذي فيه عيناك ، ثم قال:ثم كتب إلى أهل البصرة أو قال إلينا: أن لا تجالسوه. قال:فلو جاء ونحن مائة تفرَّقنا"رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح.فهذا عمر يحلف بين المهاجرين والأنصار أنه لو رأى العلامة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج لضرب عنقه مع أنه هو الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل ذي الخويصرة فعلم أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم ) القتل مطلقاً ، وأن العفو عن ذلك كان في حال الضعف والاستئلاف ).
وقال أيضاً في الصارم ( 190 ) : ( وإنما لم يقتلهم علي- رضي الله عنه- أوَّل ما ظهروا لأنه لم يتبيَّن له أنهم الطائفة المنعوتة حتى سفكوا دَمَ ابن خَبّاَب وأغاروا على سرح الناس فظهر فيهم قوله : ( يقتُلون أهل الإسلام ويدَعون أهل الأوثان ) فَعَلِمَ أنهم المارقون ولأنه لو قتلهم قبل المحاربة لرُبَّما غضبت لهم قبائلهم وتفرَّقوا على علي- رضي الله عنه- وقد كان حاجته إلى مداراة عسكره واستئلافهم كحال النبي صلى الله عليه وسلم في حاجته في أول الأمر إلى استئلاف المنافقين ) .
الثالث : أن الخوارج قد اختلف العلماء في كفرهم مع إجماعهم على أنهم ضُلاَّل مبتدعة وعن الإمام أحمد في تكفير الخوارج روايتان ، وفي مذهب مالك قولان ، وفي مذهب الشافعي نزاع في كفرهم ، أما أهل البغي المجرَّد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين فإن القرآن دلَّ على إيمانهم وأخوَّتهم . تنبيه البغي عند أهل العلم على قسمين:(1/41)
الأول: أن يكون عن اجتهاد وتأويل سائغ ولم يتبيَّن أنه باغ وهنا تسميته ( باغياً ) ليست موجبة لأثمه و لا موجبة لفسقه وإنما يكون قتالهم لدفع ضرر بغيهم ، لا عقوبة
لهم بل هم باقون على العدالة .مثاله : قتال أهل الجمل وصفين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنهم أجمعين -.
الثاني : أن يكون عن تأويل غير سائغ ، بل مخالف لإجماع الصحابة- رضي الله عنهم- . مثاله : كقتال الخوارج لعلي- رضي الله عنه- ومن بعده من أئمة المسلمين .
والمراد بالتأويل السائغ : هو الجائز الذي يُقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الإجتهاد .
والمراد بالتأويل غير السائغ : هو الذي لا يجوز كتأويل الخوارج أنهم اتبعوا القرآن وما خالفه من السنة عندهم لا يجوز العمل به . وكتأويل مانعي الزكاة قالوا:إنَّ الله قال لنبيه:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }(103)سورة التوبة. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وليس لغيره فلا يجب دفعها لغيره.
قوله : وفيه أنه صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن قتل أمراء الجور ما صلّوا) .
ش : ذكر المؤلف- رحمه الله- من السنة الثابتة ما يدلُّ على أنَّ البدعة في الدين أشد وأغلظ إثماً من كبائر الذنوب التي هي دون الشرك الأكبر والأصغر ، وقد نقل الإجماع على هذا شيخ الإسلام بن تيمية-رحمه الله- في المجموع له( 20 / 103 )فالدليل الثاني الإجماع وهنا المؤلف لم يفرق بين جنس ونوع لعموم النصوص ولأن القول بأن المراد بالبدعة هنا جنس البدع لا يُعرف عن أحد من السلف الصالح والله أعلم .
والشاهد من الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج مطلقاً لفساد اعتقادهم وخروجهم عن سنته صلى الله عليه وسلم ودفعاً لشرِّهم لأنهم قد تلبسوا ببدعة يسعون لإفساد الدين بها ، والذين يغترون بهم كثير لِما يرون من اجتهادهم في العبادة فهم قد جمعوا بين فساد الاعتقاد وشدَّة الخطر والضَّرر على العباد .(1/42)
أما أمراء الجور فجورهم لا ينسبونه للدين وهو من فساد العمل لا من فساد الإعتقاد . وأيضاً يدل على هذا ما ثبت في صحيح البخاري من طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-:أنَّ رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب ، فأُتي به يوماً فأمر به فجُلِد قال رجل من القوم:اللهم العنهُ ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ). فشهد لمن أصرَّ على كبيرةٍ أنه يحب الله ورسوله ، ونهى عن لعنه وأخبر عن ذي الخويصرة التميمي وأصحابه مع عبادتهم وشدَّة ورعهم أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية .
والآثار عن السلف الصالح تشهد لهذا ومنها:قال الربيع بن سليمان:سمعت الشافعي يقول:" لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الهوى". قال سفيان الثوري:"البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، فإنَّ المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها " . قال ابن القيم في المدارج:(واشتد نكير السلف والأئمة لها ( أي البدعة ) وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذَّروا فتنتهم أشدَّ التحذير ، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان ؛ إذ مضرَّة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد".
وعن جرير بن عبد الله- رضي الله عنه- أن رجلاً تصدَّق بصدقة ثم تتابع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدَه مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ) . رواه مسلم.
وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه:( من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة ).(1/43)
ش :جرير بن عبد الله :هو جرير بن عبد الله بن جابر البجلي كان إسلامه في العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فضائله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حجبه منذ أسلم ولا رآه إلا تبسم . وفي الصحيحين دعا له النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:( اللهم ثبِّتْهُ واجعله هادياً مَهْدِياً).وقد قيل إن جريراً توفي سنة إحدى وخمسين ، وقيل مات بالسراة في ولاية الضحَّاك بن قيس على الكوفة لمعاوية. قاله أبو عمر في الإستيعاب.
وحديث جرير- رضي الله عنه- رواه مسلم من طريق المُنذر بن جرير عن أبيه قال:كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، قال:فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النِّمار أو العَباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ؛ فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بهم من فاقة.فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلَّى ثم خطب فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }الآية(1)سورة النساء.والآية التي في الحشر:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}تصدَّق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع تمره ( حتى قال ) ولو بشق تمرة قال: فجاء رجل من الأنصار ...)الحديث.(1/44)
فعُلِمَ أنَّ السنة الحسنة التي سنَّها الرجل الأنصاري إنما كانت حسنة لأنه صلى الله عليه وسلم قد سنها قبل ذلك حين قال:(تصدَّق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه (حتى قال)ولو بشق تمرة ، فحثَّ صلى الله عليه وسلم على الصدقة ؛ فثبت أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي سنها بقوله والرجل الأنصاري- رضي الله عنه- دعا إليها بفعله ولمَّا اقتدى به غيره كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لأنه قد دعا إلى هدى وقد زعم بعض من شرح الحديث أنه مخصِّصٌ لقوله صلى الله عليه وسلم:(كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وهذا باطل ؛ لأن فعل الرجل
الأنصاري مستحب في أصل الشرع وليس من المحدثات فيبقى عموم الحديث محفوظاً لم يدخل عليه تخصيص .
وزعم أيضاً أن البدع خمسة أقسام : واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، وهذا قد أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في حديث جابر- رضي الله عنه- الذي رواه مسلم: (وشرَّ الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)فهذا نصُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع في الدين لأن هذا تعطيل لفائدة الحديث .
[باب ما جاء في أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة ]
هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: "كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله. (( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه)) . وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال : "لا يوفقون للتوبة".
ش : الحديث رواه الإمام أبوبكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم من طريق محمد بن عبد الرحمن القشيري الكوفي حدثني حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله حجز أو قال : حجب التوبة عن كل صاحب بدعة " .(1/45)
وفي إسناده علة وهي: عدم تصريح حُميد بن أبي حميد الطويل بالتحديث .قال ابن حجر -رحمه الله- في كتابه تعريف أهل التقديس ( 133 ):(حميد الطويل ، صاحب أنس ، مشهور ، كثير التدليس عنه حتى قيل : إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة ووصفه بالتدليس النسائي وغيره) . ومن أهل العلم من صححه ( أي الحديث ) لأن محمد بن عبد الرحمن قد توبع ؛ فقد أخرجه أبو الشيخ في تاريخ أصبهان والطبراني في الأوسط والهروي في ذم الكلام والبيهقي في الشعب من طرق عن هارون بن موسى حدثنا أبو ضمرة عن حميد عن أنس مرفوعاً . لكن يبقى تدليس حميد وعدم تصريحه بالتحديث فيبقى الحديث ضعيفاً .
قوله :" ومن مراسيل الحسن " .
ش : قال أبو محمد بن أبي حاتم- رحمه الله- :(سمعت أبي وأبا زرعة يقولان : لا يحتج بالمراسيل ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة . قال أبو محمد : وكذا أقول أنا ) .
قوله:"وذكر ابن وضاح عن أيوب قال:"كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه ؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول؟ إن
آخر الحديث أشد عليهم من أوله. (( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه)) . وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال : "لا يوفقون للتوبة".
ش :قال شيخ الإسلام في المجموع له( 18 / 186 ):
(وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث وهو الصواب عند جماهير أهل العلم ، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب كقول بعضهم إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطناً للحديث الإسرائيلي الذي فيه" فكيف من أضللت"وهذا غلط فإن الله قد بيَّن في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع ). وقال ابن القيم في كتابه المدارج( 1 / 370 ):(1/46)
( أما أهل البدع فتوبتهم بمحض اتباع السنة ولا يكتفى منهم بذلك أيضاً حتى يبيِّنوا فساد ما كانوا عليه من البدعة إذ التوبة من الذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين البيان لأن ذنبهم لمَّا كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ( 159 / 160) سورة البقرة .وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق ، وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس ) أهـ .
[ باب قول الله تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ) إلى قوله: ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( 135 ) سورة البقرة ]
وقوله تعالى:{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}(130)سورة البقرة . وفيه حديث الخوارج وقد تقدم ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال:( إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما أوليائي المتقون ).(1/47)
ش : قال ابن جرير- رحمه الله-:(يعني تعالى ذكره بقوله : [ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ] وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم ويتركها رغبةً عنها إلى غيرها . وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام لأن " مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ " هي الحنيفية المسلمة كما قال تعالى ذكره:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(67)سورة آل عمران.فقال تعالى ذكره لهم:ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه ثم ذكر بإسناده عن قتادة نحو ذلك).
قوله:" وفي الصحيح" أي في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص:( إنما وليِّيَ الله وصالح المؤمنين ) وفي لفظ البخاري قال عمرو -رضي الله عنه-سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سرٍ يقول : .. الحديث ) . وفي المسند بسند صحيح من حديث معاذ بن جبل- رضي الله عنه- مرفوعاً:( إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا ) .
قوله : ( إن آل أبي فلان ..) هي كناية عن قوم كره الراوي تسميتهم لما يقع في نفوس ذراريهم ، وقيل إن المكنى عنه الحكم بن العاص قاله القاضي عياض في شرح صحيح مسلم .
قال أبو العباس في منهاج السنة ( 7 / 78 ) :
( ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر فإن كان فاضلاً منهم كعلي- رضي الله عنه- وجعفر والحسن والحسين -رضي الله عنهم- فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى ، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب ، فأولياؤه أعظم درجة من آله وإن صلى على آله تبعاً له لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه وهم أفضل من أهل بيته ولم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً ، فالمفضول قد يختص بأمر ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل ) أ هـ .(1/48)
( وفيه أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر له أن بعض الصحابة قال : أما أنا فلا آكل اللحم، وقال آخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء وقال آخر : أما أنا فأصوم ولا أفطر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لكنني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء،. وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . فتأمل إذا كان بعض الصحابة لمَّا أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ وسُمِّيَ فعْلُهُ رُغُوباً عن السنة فما ظنك بغير هذا من البدع وما ظنك بغير الصحابة ؟ ) .
ش : ذكر المؤلف- رحمه الله- حديث أنس- رضي الله عنه- وقد رواه البخاري في كتاب النكاح من طريق محمد بن جعفر أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل : أنه سمع أنس ابن مالك -رضي الله عنه- يقول:جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلمَّا أخبروا كأنَّهم تقالُّوها، فقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر .فقال أحدُهم: أما أنا فأنا أُصلي الليل أبداً. وقال الآخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً . فجاءَ
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتْقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد و أتزوَّج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منِّي ).
وعند مسلم من طريق حمَّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس ؛ أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السِّرِّ ؟ فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فِراش . فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكنِّي أصلي و أنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منِّي ) .(1/49)
قال المؤلف معلقاً على الحديث:" فتأمَّل إذا كان بعض الصحابة .."
ش : أي هؤلاء الصحابة- رضي الله عنهم- مع فضلهم أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم خالفوا بعضاً من سنته بعد أن علموها وسبب المخالفة شبهة عرضت لهم وتظهر من قولهم : " أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر " ، فغالب من يخالف السنة بعمله إنما يخالفها بسبب شبهة تعرض له ومع هذا يكون العمل بدعة و رُغُوباً عن السنة إذا خالفها بعد علمه بها كما في الحديث ، أما من خالفها بسبب جهله بالسنة فالواجب إقامة الحجة عليه وتوضيح السنة له ولا يوصف قبل علمه بالسنة أنه قد رغب عنها والدليل على هذا ما ثبت في الصحيحين أن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول:" والله لأصُومَنَّ النهار ولأقُومَنَّ الليل ما عشتُ " ولم يغلظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما أغلظ على أولئك النفر لأنه لم يخالفها بعد العلم بها . والله أعلم .
والحديث يدل على أنه يُنكر على من تقرب إلى الله بترك جنس اللذات . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (87) سورة المائدة .
[باب قوله تعالى :{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (30) سورة الروم ](1/50)
ش : يبيِّن سبحانه في هذه الآية: أن إقامة الوجه وهو إخلاص القصد وبذل الوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفاً مقبلاً عليه معرضاً عمَّا سواه هو فطرته التي فطر عليه عباده ، فلو خُلُّوا ودواعي فطرهم لما رغبوا عن ذلك ولا اختاروا سواه ، ولكن غُيِّرت الفطرة ، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه ، كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تُحسون فيه من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ ثم يقول أبو هريرة-رضي الله عنه-:اقرءوا إن شئتم :( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )وإضافة الفطرة إلى الله إضافة مدح فعُلِمَ أنها فطرة محمودة لا مذمومة كدين الله وبيته وناقته ، ونصب فطرة على المصدر لأن المعنى : فَطَرَ اللهُ الناسَ على ذلك فطرةً .
قوله :(لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ): قال ابن نجيح عن مجاهد: أي لدين الله فتغيير ما فطر الله عباده من الدين تغيير لخلقه لأنه تغيير ما خُلقت عليه نفسه وروحه .( انتهى من كلا م ابن القيم مختصراً ) .
وقوله تعالى: ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132) .
ش : قال أبو جعفر -رحمه الله- :" يعني تعالى ذكره بقوله ( وَوَصَّى بِهَا ) و وصَّى بهذه الكلمة عني بهذه الكلمة قوله:{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (131) سورة البقرة . وهي الإسلام الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وهو : إخلاص العبادة والتوحيد لله وخضوع القلب والجوارح له .
ويعني قوله:(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ )أي عهِدَ إليهم بذلك وأمرهم به .(1/51)
قوله (وَيَعْقُوبُ ) قال قتادة : و وصَّى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم وقد قرأ جماعة من القرَّاء : ( وَأَوْصَى بِهَا إِبْرَاهِيمُ ) بمعنى: عَهِدَ .
وقوله تعالى:( فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي:فلا تفارقوا هذا الدين وهو الإسلام أيام حياتكم وذلك أن أحداً لا يدري متى تأتيه منيَّتُه فلذلك قال لهم:( فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربكم ساخطٌ عليكم فتهلكوا " أهـ .
وقوله:{ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }(123)سورة النحل.
ش : أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنَّا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء :(أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) كقوله في الأنعام:{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }آية (161) .أفاده ابن كثير - رحمه الله- .
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ لكلِ نبيِّ وُلاة من النبيين وأنا وَليِّيِّ منهم أبي إبراهيم وخليل ربي ) ثم قرأ: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } (68) سورة آل عمران رواه الترمذي.
ش : " ابن مسعود " هو:عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي ، كان إسلامه قديماً قبل إسلام عمر -رضي الله عنه- وكان سبب إسلامه أنه كان يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط فمرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ شاةً حائلاً من تلك الغنم فدرَّت له لبناً غزيراً . وكان ابن مسعود- رضي الله عنه- من العلماء الأجلاء(1/52)
ففي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خذوا القرآن من أربعة:من ابن أمِّ عبد ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة).فبدأ بابن مسعود- رضي الله عنه-، ومات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين ، ودُفن بالبقيع قاله ابن عبد البر في الإستيعاب .
قال الترمذي- رحمه الله- حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله مرفوعاً فيه:( وإنَّ وليِّيِّ أبي وخليل ربي ) ثم قرأ الآية.
قال صاحب تحفة الأحوذي ما حاصله:
قوله :(إنَّ لكلِ نبيِّ وُلاة ) بضم الواو جمع ولي . (من النبيين ) حال من الولاة أي كائنيين من النبيين. (وإنَّ وليِّيِّ أبي ) يعني إبراهيم وقد بينه بقوله (وخليل ربي ) وهو خبر بعد خبر . وولاية الله تعالى عند المحققين من أهل العلم على قسمين :
الأول: ولاية خاصة بالمؤمنين تقتضي التوفيق والنصرة والصد عن كل ما يغضب الله عز وجل مثل قوله تعالى:{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (257) سورة البقرة.
الثاني : ولاية عامة تشمل كل أحد قال الله تعالى:{ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ }(62) سورة الأنعام.وهي تقتضي العلم والإحاطة والمجازاة .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ).
ش : الحديث رواه مسلم من طريقين الأول :من طريق ابن وهب عن أسامة بن زيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديث داؤد وزاد ونقص .
وممَّا زاد فيه:( وإنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صُوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم )وأشار بأصابعه إلى صدره.(1/53)
الثاني :من طريق جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصَمِّ عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ): إنَّ الله لا ينظر إلى صُوركم و أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ). وهذا الحديث يدل على أن القلب إذا صلح صلحت الأعمال الظاهرة وإذا فسد فسدت الأعمال الظاهرة بقدر ما في القلب من فساد ويدل على هذا حديث النعمان بن بشير-رضي الله عنه- وفيه:( ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صَلَحَت صَلح الجسد كُله ، وإذا فسدت فَسَدَ الجسد كله ألا وهي القلب ).ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء وبقية الأعضاء جنوده لا يخالفونه في شيء فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة ، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المشابهة فاسدة ، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم كما قال تعالى:{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }( 88 / 89) سورة الشعراء.انتهى ملخصاً من كلام ابن رجب- رحمه الله- .
قوله:( ولكن ينظر إلى قلوبكم )فيه إثبات النظر لله سبحانه وتعالى وهو من صفاته الفعلية فإنه جلَّ وعلا ينظر إلى عباده.وأخطأ من حرَّف هذه الصفة إلى معنى مجازاته ومحاسبته لأنه خلاف ظاهر الحديث .والمقصود من الحديث أن فضل الأعمال ليس بمجرَّد صُورها بل بما فيها من الإخلاص لله وموافقة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ولهذا جاء في حديث صاحب البطاقة : أنها ترجح بكل ذنوبه لأنه قالها بإخلاص وصدق وعبودية وذل وقوله هذا موافق للسنة . وأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله لكن لم يقم في قلوبهم ما قام في قلب صاحب البطاقة .وقد صح الحديث في المرأة البغِيّ التي سقت الكلب بموقها بإيمان خالص فغُفر لها ، وليس كل بغيِّ تسقي كلباً يغفر لها بذلك ، والرجلان يكونان في الصلاة وبين صلاتهما كما بين المشرق والمغرب . وقال صلى الله عليه وسلم في(1/54)
فضل السابقين الأولين من أصحابه- رضي الله عنهم- ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه ). وقال أبو بكر بن عيَّاش- رضي الله عنه-:"ما سبقكم الصديق بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه".
ولهما عن ابن مسعود قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( أنا فَرَطُكُم على الحوض وليرفعنَّ إليَّ رجالٌ من أمتي حتى إذا أَهْوَيْتُ لأُناولهم أُختلجوا دوني فأقولُ : أي ربِّ أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ).ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( وَدِدتُ أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال: ( أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد ) قالوا:فكيف تعرف من لم يَأتِ بعد من أمتك ؟ قال : ( أرأيتم لو أنَّ رجلاً له خيل غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بين ظهري خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يعرفُ خيلهُ ؟ قالوا:بلى قال:فإنهم يأتون غُراً مُحَجَّلِين من الوُضُوء وأنا فَرَطُهُم على الحوض ، ألا لَيُذَادَنَّ رجالٌ يوم القيامة عن حَوْضِي كما يُذاد البعير الضَّالُ أُنادِيهم ألا هَلُمَّ فيقال:إنهم قد بدَّلوا بعدك فأقول : سُحقا سُحقا) . وللبخاري:( بينما أنا قائم إذا زمرةٌ حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هَلُمَّ فقلت : أين ؟ قال: إلى النار والله .قلت: وما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القَهْقَري ثم إذا زُمْرَةٌ - فذكر مثله - قال:فلا أراه يَخْلُصُ منهم إلا مثل هَمَلِ النَّعمِ).
ش : قوله صلى الله عليه وسلم:(أنا فَرَطُكُم على الحوض ) أي متقدِّمكم إليه.يقال:فَرَط يَفرِط فهو فارِط ، وفَرَطٌ إذا تقدم وسَبَقَ القوم ليَرتاد لهم الماء يُهيِّيء لهم الدِّلاء والأَرْشيَة .قاله ابن الأثير في النهاية.(1/55)
والحوض في الأصل: مجمع الماء ، والمراد به هنا:حوض النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليه أمته قبل المرور على الصراط ، فيجب التصديق الجازم بما أجمع عليه أهل الحق من أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم حوضاً هو موجود الآن لما ثبت في
الصحيحين عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم في أصحابه وقال:(وإنِّي والله لأنظر إلى حوضي الآن). وفي صحيح مسلم- رحمه الله- من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، وماؤه أبيض من الورِق ، وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء ، فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً ) . وأصل الحوض ينبع من الجنة دليله ما ثبت في صحيح مسلم ـ رحمه الله- من حديث أبي ذر- رضي الله عنه- وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:( يشْخَبُ فيه ميزابان من الجنة .. ) ومن حكمة الله عز وجل أنَّ الذي يشرب من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويعضُّ عليها بالنَّواجذ في الحياة الدنيا فإنه يشرب من حوضه يوم القيامة .
قال القحطاني - رحمه الله - في نونيته:
وصراطنا حقٌّ وحوضُ نبيِّنا ... * ... صدقٌ له عدد النجوم أوانِ
يُسقَى بها السُّنِّيُّ أعذبَ شربَةٍ ... * ... ويُذادُ كُلُّ مُخالفٍ فَتَّانِ
قوله صلى الله عليه وسلم :(وليرفعنَّ إليَّ رجالٌ من أمتي حتى إذا أَهْوَيْتُ لأُناولهم أُختلجوا دوني .. ).
ش : أي يظهرهم الله لي حتى أراهم وأعلم أنهم من أمتي لأنهم يأتون غُراً مُحَجَلِين من الوضوء حتى إذا أَهْوَيْتُ لأُناولهم من الحوض " أُختلجوا " أي : يُجذبون ويُنزعون قبل أن أُناولهم من الحوض .
قوله :(فأقولُ : أيْ ربِّ أصحابي .. ) .
ش : وفي صحيح البخاري -رحمه الله -كتاب التفسير من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- وفيه مرفوعاً:" وإنه يجاء برجالٍ من أمتي فيؤخذُ بهم ذاتَ(1/56)
الشمال فأقول : يا ربِّ أُصيحابي .. " الحديث . وفي صحيح مسلم- رحمه الله-في كتاب الفضائل من حديث أنس - رضي الله عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ليردَنَّ عليَّ الحوضَ رجالٌّ ممَّن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورُفعوا إليَّ اختلجوا دوني فلأقولنَّ : أي رَبِّ أُصيحابي أُصيحابي ..) الحديث . ورواية التصغير" أُصيحابي "هي رواية الأكثر وتدل على قلة من وقع لهم ذلك ولم يقع هذا لأحد من الصحابة- رضي الله عنهم- المشهورين كما هو قول أهل البدع الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه ويدَعون المحكم الواضح ، أما أهل الحق فإنهم يردون المتشابه إلى المحكم ومن الأدلة المحكمة قوله عز وجل :{لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاَّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(10)سورة الحديد.فثبت أنَّ من صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم فقد وعده الله الحسنى والوعد عند أهل السنة غير الوعيد فإنَّ الله لا يخلف الميعاد.وقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(100)سورة التوبة . فدلت الآية على رضا الله سبحانه عن المهاجرين والأنصار- رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان وبشارتهم بالفوز العظيم والخلود في جنات النعيم ومن أخبر الله أنه قد رضي عنه فإنه لا يموت كافراً بل يموت مسلماً ويكون من أهل الجنة . وقال عز وجل : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ(1/57)
وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } (18) سورة الفتح . وروى مسلم- رحمه الله- في صحيحه من حديث جابر- رضي الله عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وهذا خبرٌ صادق من النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يتحقق والنسخ لا يدخل على الأخبار ويدخل على الأمر والنهي وهذا ما يسمى بالإنشاء وهو : ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب .
ومن السنة ما ثبت في صحيح البخاري- رحمه الله- من حديث أنس- رضي الله عنه- قال: صَعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فَرَجَفَت فقال:((1/58)
اسكنْ أحُدُ- أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبي وصدِّيق وشهيدان).فهذا خبر صادق محكم ليس فيه إجمال يدل على علوِّ درجتهم وحسن حالهم في الآخرة . وقد صحًّ في الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة والزبير بن العوام في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجرَّاح في الجنة ) والنصوص في هذا المعنى كثيرة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم " أُصيحابي " لا يتعارض مع ما أجمع عليه أهل الحق مِن أن مَن لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ثم ارتدَّ عن الإسلام ومات كافراً فإنه ليس بصحابي لأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم " أُصيحابي " كان قبل أن يُخبر بما حصل منهم بعد وفاته من الإحداث في الدين أو الارتداد عن الإسلام بل الصحابة- رضي الله عنهم -هم الذين قاتلوا المرتدين بعد موته صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(54)سورة المائدة.قال: ( أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون من الناس ، فلما قبض الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ارتدّ عامة العرب عن الإسلام ـ إلاَّ ثلاثة مساجد : أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من عبد القيس .. ) وروى عن الحسن أنه قال في قوله تعالى:{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال:هي والله لأبي بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى(1/59)
الإسلام .
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- كما في الدرر السُّنيَّة( 9 / 383 ): ( وصورة الردة : أنَّ العرب افترقت في ردتها ؛ فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام وقالوا لو كان نبياً ما مات ؛ وفرقة قالوا : نؤمن بالله ولا نصلي ، وطائفة أقرُّوا بالإسلام وصلَّوا ولكن منعوا الزكاة وطائفة شهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله لكن صدَّقوا لمسيلمة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة وقوم من أهل اليمن صدَّقوا الأسود العنسي في دعوى النبوة وقوم صدّقوا طليحة الأسدي ... ) .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) .
ش : يدل هذا على أن الميت لا يدري عن حال أهل الدنيا ، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري عن الإحداث الذي حصل من بعض أمته بعده فغيره من باب أولى . وفي الحديث ردٌّ على أهل البدع الذين يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته حيٌّ حياة هي نظير الحياة المعهودة وهذا القول مخالف للمنقول والمعقول والحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيا .
و " الحدث " الأصل فيه إذا ذُكر في النصوص الشرعية : البدع في الدين لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -:( وكل محدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة ) وفي حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- الذي ذكره المؤلف- رحمه الله-بعد حديث ابن مسعود - رضي الله عنه-قال صلى الله عليه وسلم:( .. فيُقال إنهم قد بدَّلوا بعدك فأقول سُحقاً سُحقاً ).والبدع في الدين نوع من التبديل.
وفي حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-الذي رواه البخاري وغيره قال صلى الله عليه وسلم:( فيُقال إنَّ هؤلاء لم يزالوا مُرتَدِّين على أعقابهم مُنذُ فارقتهم )ولا شك أن البدع في الدين هي أصل الشرك والكفر وعند أهل السنة والجماعة أهل البدع على قسمين: قسم:لم يخرجوا من الإسلام ببدعتهم وهم الفِرق الإثنتان والسبعون(1/60)
المتوعدة بالنار في حديث الإفتراق. وقسم:مرتدُّون عن الإسلام ببدعتهم كالجهمية النفاة وغلاة الرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف .
قوله : ( ولهما ) .
ش : أي البخاري ومسلم- رحمهما الله- .
قوله : ( عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( وَدِدتُ أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال: ( أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد ) .
ش : الحديث يدل على فضل الصحابة -رضي الله عنهم - على من جاء بعدهم ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة منها ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .
قوله صلى الله عليه وسلم:( أرأيتم لو أنَّ رجلاً له خيل غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بين ظهري خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يعرفُ خيلهُ ؟ قالوا : بلى قال : فإنهم يأتون غُراً مُحَجَّلِين من الوُضُوء وأنا فَرَطُهُم على الحوض ، ألا لَيُذَادَنَّ رجالٌ يوم القيامة عن حَوْضِي كما يُذاد البعير الضَّالُ أُنادِيهم ألا هَلُمَّ فيقال : إنهم قد بدَّلوا بعدك فأقول : سُحقا سُحقا) .
ش : أصل الغُرَّة: البياض الذي يكون في وجه الفرس والتحجيل بياضٌ في يديه ورجليه والمراد النور الذي يكون بأعضاء الوضوء يوم القيامة .قال بعض أهل العلم:الحديث يدل على أن الوضوء مما اختصَّت به هذه الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عند مسلم- رحمه الله-:( لكم سِيْمَا ليست لأحدٍ من الأمم ).
قوله : ( وللبخاري ) .
ش : أي في رواية البخاري- رحمه الله- وقد تفرد بها عن مسلم- رحمه الله- .
قوله :( بينما أنا قائم .. ) .
ش :" قائم"رواية الكشميهني والمراد قيامه صلى الله عليه وسلم على الحوض يوم القيامة ، ورواية غيره"نائم"بالنون والمراد بها أنه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة وما يرونه الأنبياء في المنام وحْيٌ من الله .
قوله :( إذا زُمرَةٌ ).(1/61)
ش : أي جماعة .
قوله :( حتَّى إذا عَرَفتُهُم ).
ش : أي أنهم من أمته عرفهم صلى الله عليه وسلم بالبياض الذي يكون في وجوههم وفي أيديهم وأرجلهم .
قوله :( فلا أراه يَخْلُصُ منهم إلا مثل هَمَلِ النَّعمِ ).
ش : أي من هؤلاء الذين اقتربوا من الحوض وفيهم البياض الذي على أعضاء الوضوء وكادوا يردونه فصدُّوا عنه . والهَمَل بفتحتين الإبل بلا راع.
والمراد أنه لا يرد من هذه الزمرة إلا القليل لأن الهَمَل في الإبل قليل بالنسبة لغيره. وفي هذا ردٌّ على من زعم أنَّ الحق عليه السواد الأكثر من الناس وهي حُجة داحضة واهية ؛ ولا شك أنَّ أهل الحق هم الأقلُّون عدداً الأعظمون عند الله قدراً . ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ).
وقوله صلى الله عليه وسلم:( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء).
وصحَّ عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال لعمرو بن ميمون:" أتدري ما الجماعة ؟قلت:لا.قال:إنَّ جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة ؛ الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك".
ولهما عنه مرفوعاً:(مَا مِنْ مولودٍ يُولَدُ إلاَّ على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ) ثم قرأ أبو هريرة:{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}(30)سورة الروم.متفق عليه.(1/62)
ش :معنى ذلك أنَّ الله فطر عباده على الفطرة وهي الإسلام كما قال تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا }(30)سورة الروم.وقد قال الله عز وجل عن إبليس:{وَقَالَ لأََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}(118)،(119)سورة النساء .
قوله :( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ )البتك:القطع وهو هاهنا قطع آذان البحيرة .
وقوله :( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ )قال بن عباس- رضي الله عنهما-:دين الله" أي الإسلام"وقاله ابن المسيب وإبراهيم والحسن وغيرهم .
وهذا يوضح قوله صلى الله عليه وسلم:(مَا مِنْ مولودٍ يُولَدُ إلاَّ على الفطرة فأبواه يهودانه ...) الحديث.فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمرين تغيير الفطرة بالتهويد وغيره وتغيير الخلقة بالجدع ، وهما اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما.
وعن حذيفة- رضي الله عنه-قال:كان النَّاسُ يَسأَلونَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أسألُهُ عن الشَّرِّ مخافة أن يُدركني فقلت يا رسول الله:إنَّا كنَّا في جاهليةٍ وشر فجاءنا اللهُ بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال:نعم.فقلتُ:وهل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟( قال: نعم وفيه دخن)قلت: وما دَخَنُه؟قال:قوم يستنون بغير سنتي ويَهْدُون بغير هديي تَعْرِف منهم وتُنْكِر قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال:نعم فتنةٌ عَمْيَاء ودعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.قلتُ:يا رسول الله صفهم لنا قال : (قوم من جِلْدَتِنَا(1/63)
ويتكلَّمونَ بألسِنَتِنَا-قلت:يا رسول الله ما تأمرني إنْ أدركت ذلك؟ قال:تلزم جماعةَ المسلمين وإمامهم . قلتُ:فإنْ لم يكن لهم جماعة ولا إمام. قال:فاعتزل تلك الفِرَقَ كُلَّهَا ولو أن تَعَضَّ على أصلِ شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) أخرجاه وزاد مسلم: ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال معه نهر ونار فمن وقع في ناره وجب أجره وحُطَّ عنه وزره ومن وقع في نهره وجب وزره وحُطَّ أجره . قلتُ ثم ماذا ؟ قال : هي قيام الساعة).
قوله :( كان النَّاسُ يَسأَلونَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أسألُهُ عن الشَّرِّ مخافة أن يُدركني ) .
ش :المراد بالناس هنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على فضلهم وحرصهم على الخير .
وسؤال حذيفة- رضي الله عنه- عن الشر قبل أن يقع وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له على هذا السؤال ثم إجابته صلى الله عليه وسلم على هذا السؤال يدل على فضل معرفة سبيل المجرمين على التفصيل كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}(55)سورة الأنعام.وأنَّ هذا من العلم النافع ومن هذا العلم معرفة الفِرق الضالة من هذه الأمة ومعرفة أقوالها المخالفة لسبيل المؤمنين والرَّدِّ عليها وكشف الشُّبه التي يخدعون بها كثير من الناس .
وفي هذا ردٌّ على حسن البنَّا وطائفته الضالة فإنهم يزعمون أنَّ كل مجتهدٍ مصيب حتى في الأصول ويُهوِّنون من أمر العقيدة الصحيحة ويزعمون أنَّ الحق متفرق في الأمة وليس هناك طائفةٌ على الحق ؛ فردوا النصوص الصحيحة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر:( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرُّهم من خالفهم و لا من خذلهم حتى يأتي أمر الله). وقوله صلى الله عليه
وسلم:( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)قيل من يا رسول الله؟قال:(هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).(1/64)
وحديث حذيفة هذا يسمى حديث الفتنة وهو أصل في معرفة الفتن قبل وقوعها وموقف المسلم منها إذا وقعت ؛ هذا إذا فُسِّر الحديث بالنصوص وأقوال الصحابة- رضي الله عنهم- فإنَّ من لم يتبع العلم اتبع الهوى.
قوله :( فقلت يا رسول الله : إنَّا كنَّا في جاهليةٍ وشر..).
ش : المراد بالجاهلية هنا الجاهلية المطلقة وهي الجاهليةُ العامةُ وهذه كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، أما بعد المبعث فلا ، دليله قوله صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمةٌ بأمر الله ، لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمرُ الله وهم ظاهرون على الناس ). ومن الجاهلية المطلقة ما يسمى بالجاهلية الأولى قال قتادة- رحمه الله- في قوله تعالى: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأْولَى }(33)سورة الأحزاب: "هي ما قبل الإسلام"ذكره البغوي- رحمه الله- في تفسيره.
أما بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم فتوجد جاهلية مقيدة لا مطلقة وهي من حيث الحكم على قسمين :
الأول : جاهليَّةُ كفر ومن هذا القسم قوله تعالى:{ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } (154)سورة آل عمران .
الثاني : جاهليَّةُ معصيةٍ دون الكفر . قال البخاري- رحمه الله- في صحيحة (باب المعاصي من أمر الجاهليَّة ولا يكفر صاحبُها بارتكابها إلاَّ بالشرك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:( إنَّك امْرؤٌ فيك جاهليَّة).وقال الله عز وجل:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(48) سورة النساء ).
قوله :( فجاءنا اللهُ بهذا الخير .. ).
ش : أي القرآن والسنة وقد جاء هذا الخير بعد مَبْعَث النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله :( فَهَل بعد هذا الخير من شر ؟قال: نعم) .(1/65)
ش :وهذا الشر يفسِّره ما ثبت في مسند الإمام أحمد- رحمه الله- بسند صحيح من حديث عبد الله بن حوالة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( من نجا من ثلاث فقد نجا- ثلاث مرَّات- موتي وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه والدجَّال).
فكان أول هذا الشر حصل بعد موته صلى الله عليه وسلم والعصمة منه اتباع سنة أول الخلفاء الراشدين المهديين وهو أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم:( أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكرٍ بالسُّنح ، قال إسماعيل:تعني بالعالية ، فقام عُمر يقول:والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:وقال عمر:والله ما كان يقع في نفسي إلاَّ ذاك وليبعثنَّه الله فليقطعنَّ أيدي رجال وأرْجُلَهُمْ.فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيَّاً وميِّتاً والله الذي نفسي بيده لا يُذيقك الله الموتَتَيْن أبداً ثمَّ خرج فقال:أيها الحالف على رسْلك فلمَّا تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال:ألا من كن يعبدُ محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات ومن كان يعبدُ الله فإن الله حيٌّ لا يموت وقال:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } (144) سورة آل عمران.(1/66)
وقال عبد الله بن مسلم عن الزبيدي قال عبد الرحمن بن القاسم أخبرني أبي عن القاسم عن عائشة-رضي الله عنها- قال:شخص بصرُ النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:(في الرفيق الأعلى ) ثلاثاً وقصَّ الحديث.قالت عائشة فما كانت من خطبتهما من خطبةٍ إلا نفع الله بها ، لقد خوَّف عمر الناس وإنَّ فيهم لنفاقاً فردهم الله بذلك ، ثم بصَّر أبوبكر الناس الهدى وعرَّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }(144)سورة آل عمران.
ومن هذا الشر كفر من كفر من العرب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم والعصمة منه السيف إي قتالهم دلَّ على هذا رواية في مسند أحمد بسندٍ صحيح وفيه قال حذيفة- رضي الله عنه- : (فقلت يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر ؟ قال:( نعم )قلت:فما العصمة منه ؟ قال:(السيف).
وقد قام عليهم الخليفة الراشد المهدي أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/67)
فقد روى البخاري- رحمه الله- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال:لمَّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم واسْتخلفَ أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر : يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( أُمِرْتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله عَصَمَ منِّي مالَهُ ونفسه إلا بحقِّه وحسابه على الله)قال أبو بكر: والله لأُقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة . فإنَّ الزكاة حق المال والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر- رضي الله عنه- فو الله ما هو إلا أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنه الحقُّ .
ومن هذا الشر قتل الخليفة الراشد المهدي عثمان- رضي الله عنه- فإنه صَبَرَ ولم يدافع عن نفسه ونهى الناس أن يُقاتلوا لأجله فوفَّى- رضي الله عنه- بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عهد إليه وهو ما صحَّ في مسند أحمد من حديث عائشة- رضي الله عنها- قالت : قال رسول صلى الله عليه وسلم:(ادعوا إليَّ بعض أصحابي)قلت: أبو بكر؟قال:(لا)قلت: عمر؟قال: (لا)قلت:ابن عمك علي؟قال : ( لا)قالت:قلت عثمان؟ قال: (نعم) فلمَّا جاء قال" تنحَّي"جعل يُساره ولون عثمان
يتغير،فلمَّا كان يوم الدار وحصر فيها قلنا:يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟قال:لا ؛ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليَّ عهداً، وإني صابر نفسي عليه.
وفي صحيح البخاري- رحمه الله- من حديث أبي موسى- رضي الله عنه- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط فجاء رجل يستأذن فقال:( ائذن له وبشره بالجنة) فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال :(ائذن له وبشره بالجنة)فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكتَ هُنَيهَةً ثم قال:( ائذن له وبشره بالجنة على بلوى سَتُصيبُهُ )فإذا عثمان بن عفَّان .(1/68)
وصحَّ في مسند أحمد من حديث ابن حوالة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(يا بن حوالة كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي بقر؟) قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله.قال:(وكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كأنَّ الأولى فيها انتفاخة أرنب) قلت:لا أدري ما خار الله لي ورسوله. قال:( اتبعوا هذا )قال:ورجل مقفي حينئذٍ قال: فانطلقتُ فسعيت وأخذت بمنكبيه فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا ؟ قال: نعم. قال: وإذا هو عثمان بن عفَّان- رضي الله تعالى عنه- .
وقد ذمَّ حذيفة- رضي الله عنه- الذين خرجوا على عثمان- رضي الله عنه- صحَّ هذا في مسند أحمد من طريق كثير بن أبي كثير حدثنا ربعي بن حراش عن حُذيفة أنه أتاه بالمدائن فقال له حذيفة: ما فعل قومك؟قال:قلت عن أي بالهم تسأل؟قال:من خرج منهم إلى هذا الرجل- يعني عثمان- قال:قلت فلان وفلان وفلان.قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من خرج من الجماعة واستذل الإمارة لقي الله عز وجل ولا وجه له عنده).
قوله :(فقلتُ:وهل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟(قال:نعم وفيه دخن)قلت:وما دَخَنُه؟قال:قوم يستنون بغير سنتي ويَهْدُون بغير هديي تَعْرِف منهم وتُنْكِر ..).
ش :قال شيخ الإسلام في منهاج السنة ( 1 / 560 ) ما حاصله:
( أنَّ هذا جاء مفسَّراً في حديث آخر عن حذيفة قال عن الخير الثاني : ( صُلح على دَخَن ) وجماعة على أقذاء فيها ، وقلوب لا ترجع إلى ما كانت عليه ) فالمراد بهذا الخير اجتماع الناس لمَّا اصطلح معاوية والحسن ، لكن كان صلحاً على دَخَن ، وجماعة على أقذاء فكان في النفوس ما فيها أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو الواقع ).
قوله :(قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم فتنةٌ عَمْيَاء ودعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ..).(1/69)
ش : وهذا الشر أعظم من الذي قبله كما قال صلى الله عليه وسلم:( لا يأتي زمان إلا الذي بعده شرٌّ منه حتى تلقون ربكم ) . رواه البخاري- رحمه الله- من حديث أنس- رضي الله عنه- .
وهؤلاء الدعاة هم دعاة الضلالة أي البدعة وهؤلاء يكثرون في آخر الزمان . دلَّ على هذا ما صح في مسند الإمام أحمد- رحمه الله- وفيه قال صلى الله عليه وسلم :( ثم تنشأُ دعاة الضلالة فإن كان يومئذٍ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه ، وإلاَّ فمت وأنت عاضٌّ على جذل شجرة) قال:قلتُ ثم ماذا ؟قال:(يخرج الدجَّال بعد ذلك معه نهر ونار ..) الحديث.فجعل خروج الدجَّال بعد خروج دعاة الضلالة فهم يشبهونه في عظم الفتنة ولهذا جاء ذكرهم مقروناً بذكر الدجَّال .
قوله :(من أجابهم إليها قذفوه فيها ..) يُردُّ إلى أصلٍ محكم وهو قوله تعالى:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(48)سورة النساء . فما دون الشرك من البدع والمعاصي فإنَّ صاحبها إذا مات ولم يتب منها فإنه تحت المشيئة إنْ شاء الله عذَّبه وإنْ شاء عفى عنه . والعمل المُبْتَدع مردود ليس لعامله أجر لعموم حديث عائشة- رضي الله عنها- مرفوعاً :( من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ).رواه مسلم .
قوله :(قلتُ: يا رسول الله صفهم لنا قال:(قوم من جِلْدَتِنَا ويتكلَّمونَ بألسِنَتِنَا قلت : يا رسول الله ما تأمرني إنْ أدركت ذلك؟قال:تلزم جماعةَ المسلمين وإمامهم ..).
ش : قال بعض أهل العلم:معناه أنهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن مخالفون .(1/70)
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ العصمة من شرِّ دعاة الضلالة لزوم جماعة المسلمين وإمامهم . والمراد بجماعة المسلمين الحق وأتباعه وإن كانوا أقل الناس فهم الجماعة لما ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) . قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه إغاثة اللهفان ( 1 / 76 ) :
(وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع : " حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق و اتباعه ، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم . قال عمرو بن ميمون الأودي صحبت معاذاً باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- فسمعته يقول:عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول:سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها ، فهي الفريضة ، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة.قال:قلتُ:يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا ؟قال:وما ذاك ؟قلتُ:تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول:صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة ؟ قال : يا عمرو بن ميمون ، قد كنتُ أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة ؟قلتُ: لا.قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك وفي طريق أخرى : فضرب على فخذي وقال:ويحك،إن جمهور الناس فارقوا الجماعة ، وإن الجماعة ما وافق طاعة(1/71)
الله عز وجل قال نعيم بن حماد:"يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد ، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذٍ"ذكره البيهقي وغيره.وقال أبو شامة عن مبارك عن الحسن البصري قال:"السنة والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي ، فا صبروا عليها رحمكم الله . فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى ، وهم أقل الناس فيما بقي : الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ، ولا مع أهل البدع في بدعهم ، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك إن شاء الله فكونوا ") ا هـ .
وما أحسن ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- في رده على أحد المخالفين كما في الدُّرَرُ السَّنيَّة ( 10 /42 ) حيث يقول :(1/72)
( وأما استدلالك بالأحاديث التي فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم ،وقول:من شذَّ شذَّ في النار، ويد الله على الجماعة وأمثال هذا ، فهذا أيضاً من أعظم ما تلبس به على الجُهَّال ، وليس هذا معنى الأحاديث بإجماع أهل العلم كلهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ الإسلام سيعود غريباً ، فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس ؟! وكذلك الأحاديث الكثيرة منها قوله : ( يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلاَّ اسمه ولا من القرآن إلاَّ رسمه ) . وأحاديث عظيمة كثيرة يبين صلى الله عليه وسلم أنَّ الباطل يصير أكثر من الحق ، وأنَّ الدين يصير غريباً ولو لم يكن في ذلك إلاَّ قوله صلى الله عليه وسلم : ( ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) . هل بعد هذا البيان بيان ؟ يا ويلك ! كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس ؟! ... إلى أن قال رحمه الله : يا سلامة ولد أم سلامة هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم ، وكلام التابعين وكلام السلف وكلام المتأخرين ، حتى ابن مسعود ذكر في زمانه : أنَّ أكثر الناس فارقوا الجماعة ، وأبلغ من هذه : الأحاديث المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الدين وتفرق هذه الأمة أكثر من سبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، فإن كنت قد وجدت
في علمك أو علم أبيك ما يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء وأنَّ عنزة وآل ظفير والبوادي يجب علينا اتباعهم فأخبرونا ، و صلى الله على محمد ) .
ولزوم إمام المسلمين بطاعته في غير معصية الله وعدم الخروج عليه وبذل النصيحة له والدعاء له بالخير وهذا من أصول أهل السنة والجماعة أمَّا أهل الأهواء كالخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرهم فإنهم يرون القتال للأئمة من أصول دينهم .(1/73)
قوله : ( قلتُ : فإنْ لم يكن لهم جماعة ولا إمام . قال : فاعتزل تلك الفِرَقَ كُلَّهَا ولو أن تَعَضَّ على أصلِ شجرة حتى يأتيك الموتُ وأنت على ذلك ) أخرجاه .
ش : لمَّا أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ العصمة من فتنة دعاة الضلالة لزوم جماعة المسلمين وإمامهم إذْ هم ضد الجماعة والإمام ؛ سأل حذيفة- رضي الله عنه- عن العصمة من فتنتهم إذا لم يكن جماعة ولا إمام فأمره أن يعتزل تلك الفِرق كُلها فدلَّ الحديث على أنَّ هؤلاء الدعاة هم دعاة الفرق الضالة المذكورة في حديث افتراق الأمة مع أنَّ هذه الفِرق من الأمة ولم تخرج عن دائرة الإسلام ؛ جاء الأمر باعتزالها لأن في ذلك مصلحة راجحة فإنَّ الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلاَّ عمَّا مفسدته خالصة أو راجحة . واعتزال أهل البدع وبغضهم وتحذير الناس من رؤوسهم وأعيانهم هو دأب من كان قبلنا من السلف الصالح.قال الأوزاعي- رحمه الله- كانت أسلافكم تشتد عليهم- أي على أهل البدع- ألسنتهم ، وتشمئز منهم قلوبهم ، ويُحذِّرون الناس بدعتهم .
وعن الحسن قال:لا تجالس صاحب بدعة فإنه يُمرض قلبك .وقال إبراهيم النخعي:لا تُجالسوا أهل البدع ولا تُكلِّموهم فإني أخاف أن ترتدَّ قلوبكم.روى هذه الآثار ابن وضَّاح في كتاب ( البدع والنهي عنها).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- في كتابه مفيد المستفيد:(واعلم رحمك الله أنَّ كلام السَّلف في معاداة أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تُخرج من الملَّة)ا هـ.
قال البخاري- رحمه الله- في كتاب ( الرقائق ) من صحيحه:
بابٌ :( العُزلَةُ راحةٌ مِنْ خُلاَّط السوءِ ) ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( يأتي على الناس زمان خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطرِ يفرُّ بدينه من الفتن).
وقال- رحمه الله- في كتاب ( الفتن ) من صحيحه:(1/74)
باب(التَعرُّبُ في الفتنة )حدثنا قتيبة بن سعيد:حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع: أنَّهُ دخل على الحجاج فقال: يا بن الأكوع ارتَدَدْتَ على عقبيك تعرَّبت؟قال:لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو.وعن يزيد بن أبي عبيد قال:لمَّا قتل عثمان بن عفَّان خرج سلمة بن الأكوع إلى الرَّبذة وتزوج هناك امرأة وولدت له أولاداً فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليالٍ نزل المدينة .
وقال- رحمه الله- في كتاب ( الإيمان ) من صحيحه:باب( من الدين الفِرارُ من الفتن )ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- .
قال شيخ الإسلام بن تيمية- رحمه الله- في كتابه الإستقامة( 2 / 61 ):(ولا يُشرع في ديننا سُكنى البوادي والجبال إلا عند الفرار من الفتن).
قوله :( وزاد مسلم: ثم ماذا ؟قال :يخرج الدجال معه نهر ونار فمن وقع في ناره وجب أجره وحُطَّ عنه وزره ومن وقع في نهره وجب وزره وحُطَّ أجره . قلتُ ثم ماذا ؟قال: هي قيام الساعة).
ش : لم أقف على هذه الزيادة في صحيح مسلم وهي عند الإمام أحمد في المسند وعند أبي داود .
ولا شك أنَّ فتنة الدجَّال من أعظم الفتن فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه- قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(مابين خلق آدم إلى قيام الساعة , خلق أكبر من الدجال) وفي رواية( أمر(1/75)
أكبر من الدجال)ومع عظم فتنته إلاَّ أنَّ أهل الحق وهم المتمسكون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الفرقة الناجية المنصورة يردون عليه ويحذرون الناس منه , وقد ثبت أنَّ رجلاً من المؤمنين من أهل المدينة النبوية عنده علم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبين باطله أمام الناس , ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخُدري- رضي الله عنه- قال:حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حديثاً طويلاً عن الدجال فكان فيما حدثنا قال : ( يأتي وهو محرّمٌ عليه أن يدخل نقاب المدينة , فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة , فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس , أو من خير الناس , فيقول له: أشهد أنَّك الدجَّال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه . فيقول الدجَّال : أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييتُهُ أتشكون في الأمر ؟ فيقولون:لا.قال فيقتله ثم يحييه, فيقول الرجل حين يُحييه:والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة منِّي الآن,قال فيريد الدجَّال: أن يقتله فلا يسلط عليه) وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ثم يقول المؤمن يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. قال:فيأخذه الدجال ليذبحه فيُجعل مابين رقبته إلى ترقوته نحاساً , فلا يستطيع إليه سبيلا , قال:فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنَّما قذفه إلى النار وإنما أُلقي في الجنة)فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).
قوله :(قال أبو العالية:"تعلَّموا الإسلامَ فإذا تعلمتُمُوه فلا تَرْغبوا عنه وعليكم بالصِّراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تَنْحرفوا عن الصِّراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنَّةِ نبيِّكم وإيَّاكم وهذه الأهواء").
ش : أبو العالية:إمَّا أن يكون رُفيِّع بن مهران الرياحي، أو البراء البصري مولى قريش روى عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأنس- رضي الله عنهما- .(1/76)
وفي الأثر الحثُّ على تعلم الإسلام لأن العلم يسبقُ القول والعمل ، والرغوب عن السنة رغوب عن الإسلام لأن السنة هي الإسلام والإسلام هو السنة ، ثم حثَّ ـ رحمه الله ـ على التمسك بالسنة وحَذَّر من ضدها وهو الهوى أي البدعة في الدين والسلف الصالح يسمُّون أهل البدع أهل الأهواء .
قال المؤلف- رحمه الله-:تأمَّل كلام أبي العالية- رحمه الله- هذا ما أجلَّهُ، واعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام ، وتفسير الإسلام بالسنة، وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى:{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ }(131)سورة البقرة. وقوله:{ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }(132)سورة البقرة.وقوله تعالى:{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}(130)سورة البقرة.وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة ، وبمعرفته يتبيَّن معانى الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأمَّا الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو مُطْمَئِن أنها لا تنالُهُ ويظنُّها في قوم كانوا فبانوا و{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }(99)سورة الأعراف.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال:خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال:(هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال:هذه سبل على كل سبيل مهنا شيطان يدعو إليه وقرأ:{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (153)سورة الأنعام. رواه أحمد والنسائي.(1/77)
ش : الحديث حسن بطرقه. وقد دلَّ على أن الحق واحد وهو سبيل الله وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدون الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- رضي الله عنهم- وكل من خرج عن هذا الحق فقد اتبع السُّبُل وهي البدع والشبهات . ودلَّ الحديث على أن السُّبُل الضالة لها دعاة وهم دعاة
الضلالة الذين جاء ذكرهم في حديث حذيفة- رضي الله عنه- المعروف بحديث الفتنة . وهذا الحديث وغيره من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة- رضي الله عنهم- يُبْطلُ قول من زعم أن كل طريق يوصل إلى رضا الله وأن اختلاف الفرق الإسلامية كاختلاف الطرق التي توصل في النهاية إلى مكة لمن سلكها . قال الشافعي- رحمه الله- :" وأجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد ".
قال ابن القيم- رحمه الله- بعد هذا الأثر كما في مختصر الصواعق( 575 ):
( وهذا من أعظم علامات أهل السنة أنهم لا يتركونها إذا ثبتت عندهم لقول أحد من الناس كائناً من كان ).
[ باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء ]
وقول الله تعالى :{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } الآية (116)سورة هود.
ش : عقد المؤلف هذا الباب ليُبَيِّن أن الإسلام الذي بعث الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقبضه حتى أتمَّ الله لنا الدين وأكمله ، سيعود غريباً أي غربة الإعتقاد الصحيح وأهله مع كثرة من ينسب إلى الإسلام وهو إما مشرك أو مبتدع أو له الوصفان . والله المستعان . قال ابن القيم -رحمه الله- :
فقيام دين الله بالإخلا و ** الإحسان إنهما له أصلان ِ
لم ينجو من غضب الإله وناره ** إلا الذي قامت به الأصلان ِ
والناس بعد فمشرك بإلهه أو ** ذو ابتداع أو له الوصفان ِ(1/78)
والشاهد من الآية قوله عز وجل :( إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ) الآية.فأخبر الله عز وجل أن أهل الحق قليل وهم الغُرباء الذين ينهون عن الفساد في الأرض وأعظم الفساد في الأرض الشرك بالله ثم البدع المُضِلة التي حَرَفت الناس عن الدين الصحيح والسبيل المستقيم .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: ( بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) . رواه مسلم .
ش : هذا الحديث يُطابق الباب الذي عقده المؤلف- رحمه الله- فإنَّ فيه خبرٌ عن غُربة الإسلام كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ..) وفيه فضل الغُرباء أي غُربة أهل الإعتقاد الصحيح الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه-رضي الله عنهم - كما في قوله صلى الله عليه وسلم:( فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ).
ورواه أحمد مِن حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- وفيه:قيل من الغُرباء قال: " النُزَّاع مِن القبائل ، وفي رواية:" الغُرباء الذين يَصْلُحُون إذ فسد الناس.ورواه أحمد من حديث سعد بن أبي وقَّاص وفيه :" فطوبى يومئذٍ للغُرباء إذا فسد النَّاس ". وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده "فطوبى للغُرباء الذين يُصْلحون ما أفسد الناسُ من سنتي".(1/79)
ش : وأصح هذه الروايات التي ذكرها المؤلف- رحمه الله - رواية:(النزَّاع من القبائل ) هذا من حيث الإسناد ، أما المعنى فإن الروايات معناها متقارب فإنهم الأخيار العدول من قبائل العرب والعدول من غيرهم ولا شك أنَّ النزَّاع من القبائل العربية في أول الإسلام أكثر من غيرهم وأثرهم في نصرة الإسلام أكثر من غيرهم والرسول صلى الله عليه وسلم وهو خير ولد آدم من قبيلة من هذه القبائل وهي قريش وكذلك الحال عند غربة الإسلام المتمسكين به من العرب أكثر من غيرهم وأثرهم أظهر من أثر غيرهم وهذه المفاضلة لا تقتضي تنقص المفضول ، فإن تفضيل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على الرسل لا يقتضي تنقص غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، كذلك تفضيل أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لا يقتضي تنقص غيره من الصحابة- رضي الله عنهم- وأيضاً تفضيل جنس العرب على بقية الأجناس لا يلزم منه تنقص غيرهم وإنما قلنا بهذا لدلالة الأدلة الشرعية عليه ولأنه مقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة . قال شيخ الإسلام- رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم( 1 / 374 ): ( فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة : اعتقاد أنَّ جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم وروميهم وفرسيهم وغيرهم ) . وقال في المصدر السابق ( 1 / 377 ) : (وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل كما قيل: القبائل للعرب والشعوب للعجم).(1/80)
وعن أبي أمية قال:سألت أبا ثعلبة الخُشني كيف تقول في هذه الآية؟{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }(105)سورة المائدة.قال: أما والله سألت عنها خبيراً، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتَّى إذا رأيتم شُحّاً مطاعاً وهوى مُتَبَعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك، ودع عنَك العوام ، فإن من ورائكم أيَّاماً الصابر فيهنَّ مِثلُ القابض على الجمر، للعامل فيهنَّ أجرُ خمسين رجلا يعملون مثل عملكم قلنا: منَّا أم منهم ؟قال:بل منكم ) رواه أبو داود والترمذي.
وروى ابن وضَّاح معناه من حديث ابن عُمر- رضي الله عنه- ولفظه:(إنَّ من بعدكم أياما للصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم ، له أجر خمسين منكم ثم قال: أنبأنا محمد بن سعيد، أنبأنا أسد ،قال أنبأنا سفيان بن عيينة: عن أسلم البصري، عن سعيد أخي الحسن يرفعه قلت لسفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:نعم، قال:( إنكم اليوم على بينة من ربكم ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله، ولم تظهر فيكم السكرتان :سكرة الجهل ، وسكرة حُبْ العيش ، وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف و لا تنهون عن المنكر و لا تجاهدون في الله وتظهر فيكم السكرتان ، فالمتمسك يومئذٍ بالكتاب والسنة له أجر خمسين ) قيل: منهم ؟ قال:( بل منكم )وله عن المُعَافِريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(طوبى للغُرباء، الذين يُمَسّكُون بالكتاب حين يُترك، ويعملون بالسنة حين تُطفأ) .(1/81)
ش : حديث أبي ثعلبة الخُشني- رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }(105)سورة المائدة.يفيد:أنَّ الغرباء المتمسكين بالسنة المشروع في تعاملهم مع المخالفين اعتزالهم كما في حديث حذيفة- رضي الله عنه- المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم:(فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ )وليس في هذا إبطال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لا يكون إلا بعد وصول الحق إلى المخالفين وعدم قبولهم له ، فإن الله عز وجل
يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء فلا يجزع من هداه الله للحق الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضي الله عنهم- من كثرة المخالفين لهذا الحق والمحاربين لأهله ، فلا يغتر بكثرة الضالين و لا يزهد بقلَّة المهتدين ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه- رضي الله عنهم- كما في البخاري وغيره:(ما أنتم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في ظهر الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في ظهر الثور الأبيض).وكذلك هذا حال المتمسكين بما كان عليه السلف الصالح هم أقل الناس لكن مع قلَّتهم لا يضرهم المخالف و لا الخاذل فهم الفرقة الناجية المنصورة هداهم الله هداية التوفيق وغيرهم وصلتهم هداية الدلالة وحرموا هداية التوفيق هذا على وفق مذهب أهل السنة والجماعة، أمَّا عند أهل البدع فإن الله لا يُضل مهتدياً و لا يهدي ضالاًّ ؛ فخالفوا بهذا القول الكتاب والسنة وإجماع الصحابة-رضي الله عنهم- .
قال شيخ الإسلام كما في المجموع له ( 14 / 479 ) في معرِض كلامه عن حديث أبي ثعلبة الخُشني- رضي الله عنه-:(1/82)
(وهذا يُفسِّره حديث أبي سعيد في مسلم :"من رأى منكم منكراً فليُغيرهُ بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر ؛ بل يُؤْذُون الناهي لغلبة الشح والهوى والعُجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب . و"الشح"هو شدَّة الحرص الذي يُوجب البخل والظلم وهو منع الخير وكراهيته."والهوى المُتبع" في إرادة الشرِّ ومحبته .و"الإعجاب بالرأي"في العقل والعلم وقد ذكر فساد القوى الثلاث التي هي:العلم والحب والبغض) أهـ.
و حديث ابن عُمر- رضي الله عنه-ولفظه:(إنَّ من بعدكم أيَّاماً للصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم ، له أجرُ خمسين منكم)حديث صحيح فيه الخبر الصادق بحصول غربة الدين الصحيح وفضل الغُرباء حيث أنَّ أجورهم تُضاعف
لأن الأجر على قدر النصب والمشقة والأذى الذي يلقونه من المخالفين ومضاعفة أجورهم لا يلزم منه أنهم أفضل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الحديث خاص في مضاعفة أجورهم وليس فيه أنهم أفضل من الصحابة- رضي الله عنهم-فإن لهم من الفضائل الثابتة ما ليس لهؤلاء الغُرباء وإنما حصل لهم الفضل لاتباعهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بإحسان .(1/83)
و لابن عبد البر- رحمه الله-كلام حسن في كتابه التمهيد( 3 / 252 ) أذكره للفائدة مختصراً حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-:(وهذا الحديث لا يُعارضه حديث: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) لأن قوله صلى الله عليه وسلم:(خير الناس قرني ) لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص ، وقرنه إنَّما فُضِّلَ لأنهم كانوا غُرباء في إيمانهم لكثرة الكفار ، وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم ؛ وإنَّ آخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والبدع ، كانوا عند ذلك أيضاً غُرباء ، وزكت أعمالهم في ذلك الزمن ، كما زكت أعمال أوائلهم ويشهد لهم حديث:" أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره").
[ باب التَّحْذِيرُ مِنْ البِدَع ]
ش : ختم المؤلف- رحمه الله- كتابه بهذا الباب لأن البدع تقدح في فضل الإسلام لأن فضله أُخذ من تمامه قال الله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(3)سورة المائدة.
قال الأصبهاني- رحمه الله- في كتابه الحجة( 1 / 398 )ما حاصله:
(وهل تكون الزيادة بعد الكمال إلا نقصاناً مثل زيادة الأعضاء والأصابع في اليدين والرجلين ، فليتق امرؤ ربه ، ولا يدخلنَّ في دينه ما ليس منه ، وليتمسك بآثار السلف والأئمة المرضية وليكوننَّ على هديهم وطريقهم ، وليَعُضَّ عليها بنواجذه ولا يوقعنَّ نفسه في مهلكة يضلُّ فيها والله حسيب أئمة الضلال الداعين إلى النار).(1/84)
عن العرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال:وَعَظَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مَوْعِظَةً بليغةً وجِلَتْ منها القلوب وذَرَفت منه العيون قلنا: يا رسول الله كَأَنَّها موعظة مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا قال: ( أُوْصِيكُمْ بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ ، والسَّمعِ والطَّاعةِ ، وإنْ تَأَمَّرَ عليكم عبدٌ ، وإنَّهُ من يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرى اخْتِلافا كثيراً ، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عَضُّوا عيها بالنَّواجِذ ، وإيَّاكُمْ ومُحْدَثات الأمور، فإنَّ كُلَّ بدعةٍ ضَلالة) قال الترمذي حديث حسن صحيح.
ش : حديث العرباض- رضي الله عنه- أصلٌ في التحذير من البدع والشاهدُ منه قوله صلى الله عليه وسلم:( وإيَّاكُمْ ومُحْدَثات الأمور، فإنَّ كُلَّ بدعةٍ ضَلالة ).ولهذا ذكره المؤلف- رحمه الله- في هذا الباب.وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ البدعَ في هذا الدين هي سبب الإختلاف وأنَّ الإختلاف واقع لا محالة وأنَّ الحق الذي أُمرنا أن نرجع إليه عند الإختلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين للحق وهم الأربعة : أبوبكر وعمر وعثمان وعلي- رضي الله عنهم- . والحديث دلَّ على أنَّ الأصل في المحدثات إذا وردت في الشرع
فالمراد بها البدع في الدين وهي كل ما يُتقَربُ به إلى الله من اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ولم يتقرَّب به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خُلفاءه الراشدون .
وفي الحديث دليل على أنَّ السَّمع والطَّاعة لولي الأمر أصلٌ من أصول الدين وقُيِّد ذلك بأن لا تكون الطَّاعة في معصية الله لما ثبت في الحديث الصحيح:(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) . وهذا الأصل مقرَّر في عقيدة أهل السنة والجماعة منصوص عليه في كتب الإعتقاد وقد خالف أهل السنة في هذا الأصل الخوارج والمعتزلة والرافضة وعامَّة أهل البدع .(1/85)
وفي مسند أحمد- رحمه الله- ( 13 / 106 ) من حديث يحيى بن حصين عن أمه مرفوعاً :( أيُّها الناس اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وإن أمِّرَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ مُجدَّع ما أقام فيكم كتاب الله ).
وعن حُذيفة- رضي الله عنه- قال :"كُلُّ عبادةٍ لا يتعبدها أصحابُ محمدٍ فلا تَعَبَّدُوها فإن الأوَّل لم يدعْ للآخر مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القرَّاء ، وخذوا طريق من كان قبلكم".
ش : حُذيفة- رضي الله عنه-من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتن والمخرج منها ولهذا أوصى هنا التابعين باتباع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بإحسان . وهذا موافق لقوله صلى الله عليه وسلم لمَّا أخبر عن الفرقة المنصورة الناجية:( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .قال الله تعالى:{ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا }(115)سورة النساء . فمن لم يتبع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أجمعوا عليه فإنه يدخل في هذا الوعيد الشديد.
وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك، أنبأنا عمرو بن يحيى، قال: سمعتُ أبي يُحدِّث عن أبيه قال : كنَّا نَجْلِسُ على باب عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قَبْلَ صلاة الغَدَاة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد ، فجاءَنا أبو موسى الأشعري-(1/86)
رضي الله عنه- فقال:أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعدُ ؟قلنا:لا ، فجلس معنا، حتَّى خرج ، فلمَّا خرج قال قمنا إليه جميعاً فقال له أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن إنِّي رأيتُ آنفاً في المسجد أمراً أنكرتُهُ ، ولم أَرَ والحمد لله إلاَّ خيراً ، قال : فما هُوَ ؟ فقال : إن عِشْتَ فستراه .قال:رَأيتُ في المسجد قوماً حلقاً جُلوساً ينتظرون الصلاة ، في كُلِّ حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول : كبِّروا مائة ، فيكبِّرون مائة، فيقول : هلِّلُوا مائة ، فيهلِّلُون مائة ، فيقول : سبِّحُوا مائة فيسبِّحُون مائة ، قال:فماذا قلت لهم ؟ قال:ما قلت لهم شيئاً ، إنتظار أمرك قال: أفلا أمرتهم أن يعُدُّوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يَضيع من حسناتهم شيء ؟ثمَّ مضى ومضينا معه حتى أتى حَلْقَةً من تلك الحِلَق فوقف عليهم فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟قالوا يا أبا عبد الرحمن:حصى نعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح ، قال:فعُدُّوا سيئَاتِكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ! ما أسرع هلكتكم ! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبل ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنَّكم لَعَلَى مِلَّة هي أهدى من مِلَّةِ محمد أو مفتتحو باب ضلالة قالوا:والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير قال : وكم من مريدٍ للخير لن يصبهُ ، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا أنَّ قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، وايمُ الله ما أدرى لعلَّ أكثرهم منكم ثمَّ تولَّى عنهم . فقال : عمرو بن سَلَمَة رأينا عامَّة أولئك الحِلَق يُطاعِنُونَنَا يومَ النَّهْرَوان مع الخوارج " . والله المستعان وعليه التُكلان وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/87)
ش : مناسبة ذكر هذا الأثر في هذا الباب أنَّ السلف الصالح كانوا يشدِّدون في إنكار البدع في الدين وإنْ صَغُرَتْ وإن كان مراد من فعلها حب الخير والحرص على الإكثار من العمل .
ويُستفاد من هذا الأثر فوائد كثيرة منها :
أولاً : الحرص على طلب العلم الشرعي والأخذ عن أهله المعروفين بسلامة المنهج .
ثانياً: فضل الصَّلابة في اتباع السنَّة وإنكار البدع وإن كانت صغيرة وإن كان من عملها حسن النيَّة.
ثالثاً: العبادة لا تقبل إلا أن يكون من عملها مخْلِصاً لله وأن تكون العبادة موافقة للسنَّة في ستة أمور :
الأول : السبب . مثاله:أن يقول المرء كلَّما لبس ثوباً ( اللهم صلي على محمد ) هذه العبادة على هذا الوجه بدعة .
الثاني : جنس العبادة . مثاله : أن يُضحِّي بفرس بدلاً عن البقر ، فلأضحية غير مشروعة على هذا الوجه وغير مقبولة لأنها ليست من جنس ما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : الكيفيَّة .مثاله : لو سجد قبل الركوع لا تقبل هذه العبادة لأنها مخالفة للشريعة في الكيفيَّة .
الرابع : القَدْر . مثاله : لو تعبَّدَ بعبادة زائدة أو ناقصة مثل لو زاد في عدد التسبيح المقدَّر بعدد وتعبد الله عز وجل بهذه الزيادة ، أو صلَّى الظهر خمساً أو ثلاثاً لا تقبل هذه العبادة لمخالفة الشريعة في العدد .
الخامس : الزمان . مثاله : لو صام الفرض في غير رمضان لا يقبل لأن هذه العبادة مخالفة للشريعة في الزمان .
السادس : المكان . مثاله :لو سعى في مكان غير المكان المشروع وهو ما بين الصفا والمروة فإن سعيه غير مقبول لأنه مخالف للشريعة في المكان .
إذاً العبادة لا تقبل حتى تكون خالصة لله وموافقة للشريعة في هذه الأمور الستة .
رابعاً : أن التحلق قبل الصلاة في المسجد انتظاراً للصلاة وتحديد التسبيح بحدٍ أو قدر يخالف ما قدره الشارع وعد التسبيح والتهليل والتكبير بالحصى أو غيره محدث(1/88)
لم يكن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه-رضي الله عنهم- إلاَّ التسبيح بالأصابع ؛ فإنه ثابت من فعله صلى الله عليه وسلم وحثَّ عليه بقوله .
خامساً : أنَّ البدع أول ما تنشأ تكون صغيرة وتخفى مخالفتها للشريعة على كثير من الناس خلا أهل العلم من أهل السنة فإنهم يعرفون السنة ويعرفون ضدها وينكرون صغار البدع وإن استحسنها كثير من الناس لأن في إنكارها صيانة للشريعة من التبديل والأمة من التفرق لأن البدع في الدين هي سبب بعد الناس عن الدين الصحيح إلى دين مُحْدَث وهي سبب في تفرق الأمة فإنَّ الحق هو الجماعة و ما خالفه فهو تفرق و ضلاله قال الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}(32)سورة يونس.
سادساً : أنَّ أجر الإخلاص لله وإرادة الخير من العمل لا يحصلان للعامل إلا إذا كان العمل موافقاً لسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم لعموم حديث عائشة- رضي الله عنها-مرفوعاً:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردُّ ) .وهو عام في عمل القلب والجوارح .
ولقول ابن مسعود- رضي الله عنه- في هذا الأثر :" وكم من مريدٍ للخير لن يصبهُ " وهو مرفوع حكْماً لأنه لا يُقال بالرأي.
وهذا آخر ما يسَّر الله سبحانه من كتابة هذا الشرح ، والحمد لله على فضله وإحسانه .
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 1
[ باب فضل الإسلام ] ... 2
[ باب وجوب الدخول في الإسلام ] ... 11
[ باب تفسير الإسلام ] ... 16
[ باب قول الله تعالى:( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ] ... 18
[ باب وجوب الإستغناء بمتابعة الكتاب عن كلِّ ما سواه ] ... 20
[ باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام ] ... 23
[ باب وجوب الدخول في الإسلام كُلِّه وترك ما سواه ] ... 27
[ باب ما جاء أنَّ البدعة أشدُّ من الكبائر ] ... 32
[باب ما جاء أنَّ الله احتجز التوبة على صاحب البدعة ] ... 42(1/89)
[ باب قول الله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ }] ... 44
[باب قول الله تعالى{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}] ... 48
[ باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغُرباء ] ... 73
[ باب التحذير من البدع ] ... 78(1/90)