كتاب توحيد الخالق
بقلم الشيخ عبد المجيد الزنداني
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد : أيها القارئ فهذا كتاب توحيد الخالق بأجزائه الثلاثة ، أقدمه إليك ، وقد راعيت فيه أن يكون متمشياً مع أحوال زماننا ، وحرصت على ضرب الأمثلة حتى يتحقق الهدف المنشود الذي طالما حثنا القرآن عليه ، وشدد العلماء عليه في هذا الزمان ، ذلك هو هدف ربط الحقائق الدينية بأدلتها المبثوثة في الكون. كما قال تعالى : ?أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ? صدق الله العظيم. أو كما قال سبحانه : ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ? صدق الله العظيم .
لذلك فقد يجد القارئ بعض حقائق علمية لم يكن قد عرفها من قبل في ميدان العلوم الكونية ، فلا يمنعه ذلك من معرفتها من المراجع الخاصة بها أو بواسطة الرجوع إلى أساتذة هذه العلوم نفسها . ومن المفيد جداً لاستيعاب هذا العلم : ضرب الأمثلة ، واستخدام وسائل الإيضاح المختلفة ، كما أن بساطة التعبير ، ووضوح الفكرة ، وسهولة البرهان ، أمور هامة جداً لتثبيت العقيدة في قلوب الناس ، كما أن الانتفاع بما جاء من الآيات القرآنية أمر نافع جداً ، فليس هناك ما يثبت المعنى العقلي ويستثير أحاسيس الوجدان كآيات القرآن .(1/1)
أما أنت أيها الشاب المسلم ، فاعلم أن علم التوحيد هذا هو أصل دينك فإذا جهلت به فقد دخلت في نطاق العمي ، الذين يدينون بدين لا دليل لهم عليه ، وإذا فقهت هذا العلم كنت من أهل الدين الثابت الذين انتفعوا بعقولهم .
قال تعالى : ?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? صدق الله العظيم .
فإذا انتفعت بهذا العلم ، وبغيره من العلوم النافعة فإن عليك أن تعلم أهلك وأصحابك، فتكون من الدعاة إلى الله الذين قال الله فيهم : ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ? صدق الله العظيم .
وبهذا أيها الإخوة تكونون مصابيح مضيئة بين أهلكم وأمتكم ينتفع الناس بكم.
أسأل الله أن يجعل العمل خالصاً لوجهه ، وأن يجعله طريقاً موصلاً إلى رضوانه.
نور الإيمان وظلمة الكفر
ما هو الإيمان؟
قال عليه الصلاة والسلام : (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل) .
وقال تعالى : ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ? [الحجرات:15]
فالإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وهو تصديق ثابت مستقر في القلب لا يخالطه شك أو ريب . قد انعكس على صاحبه فأصبح سلوكاً وأعمالاً صالحة مشاهدة .
الركن الأول :
وأول أركان الإيمان وأساسه هو الإيمان بالله الذي هو تصديق المؤمن بأن له خالقاً ، عليماً ، حكيماً أوجه ولم يكن شيئاً مذكوراً . وخلقه من مني يمنى ، وصوره فأحسن تصويره، وجاء به إلى هذه الدنيا كما جاء بأبيه وأمه من قبله .(1/2)
وإيمان المؤمن بربه وخالقه يقوم على الدليل القاطع والحجة الناصعة ، والبراهين المبثوثة المشاهدة في أرجاء الكون الواسع ، المدعمة بوحي من الله إلينا بواسطة الرسل الصادقين .
وإذا عرف الإنسان خالقه العظيم ، واتصل به ، عرف أنه ملك لخالقه وحده، وأنه وحده الذي يستحق العبادة والطاعة والخضوع ، وبهذا يتحرر المؤمن من كل سلطان غير سلطان الله.
?يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [البقرة:21] .
والمؤمن يعلم أن الله وحده هو الهادي إلى الحق القويم ، ولن يكون أحد أعلم بحقه منه سبحانه : ?هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ? من سورة النجم 32 ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ? من سورة البقرة 140 ?قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ? من سورة الحجرات آية 16 . ?وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? من سورة الحج 54 .
فيأخذ المؤمن هداه من ربه العليم الخبير فيحيا في كنف ربه وخالقه ، يهتدي بهديه الذي لا يشوبه خطأ أو باطل ، ويخضع لأمر خالقه ومالكه .
?اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:257] .
والمؤمن بربه ينجو من جحيم الاختلافات بين المذاهب والطرق البشرية القاصرة الضيقة التي يضعها بشر يزدادون علماً كل يوم ولا يزالون ينتظرون في كل يوم علماً جديداً يزيل عنهم جهلهم. أنه يتلقى الهدى من خالقه كل شيء الذي أحاط علماً بكل شيء ، والذي خلق الناس ومنحهم مقدرة محدودة بها يتعلمون ما جهلوا ، ويهتدون إلى ما غاب عنهم .(1/3)
?قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ?[يونس:35،36] .
إن البشر قد اختلفوا فيما بينهم اختلافاً شديداً أدى بهم إلى الصراع والتطاحن ، وتسفيه بعضهم بعضاً . وإن أهم خلافاتهم الآن تدور حول تقرير أحسن الطرق التي تسير عليها حياة الإنسان أفراداً وجماعات. وقد نسوا أو تناسوا أن خالق الناس ، إله الناس ، رب الناس، ملك الناس، قد أنزل في هذا الأمر هدى يعصمهم من الضلال ، وينقذهم من شر الاختلاف .
?وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[النحل:64] .
وهل يحق لقوم أن يختلفوا حول أحسن الطرق التي تسير عليها آلة أو منصع في الوقت الذي قد أرسل إليهم صانع الآلة أو المصنع البيانات الكافية حول هذا الموضوع؟! وكذلك خالق العباد قد بين للناس طريق الحياة بواسطة رسله الصادقين . فهل يحق للناس أن يختلفوا في أمر قد بينه الله العليم الحكيم؟!
الركن الثاني :
والركن الثاني من أركان الإيمان هو الإيمان بالملائكة وهو مترفع عن الإيمان بالرسل الذي أخبرونا عما غاب عن علمنا من الملائكة الذين خلقهم الله ، فمنهم المسبح والساجد، ومنهم من ينزل بالوحي، ومنهم من يقبض الأرواح ومنهم من يعمل في تدبير شئون الخلائق بأمر ربه ومنهم من يرسلهم الله لتثبيت المؤمنين ، ومنهم من يلازمنا لكتابة أعمال الخير والشر .
?وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ?[الانفطار: 10-12] .
وهكذا يزداد المؤمن علماً ووعياً بما خلق الله من مخلوقات .(1/4)
وإيمان المؤمن بالملائكة يكسب في قلبه أنساً بملازمة ملائكة ربه له ، كما يلقي في مشاعره حذراً من المعاصي واقتراف الذنوب حتى لا يكتبها الملك المكلف، ولا يزال هذا الإيمان يبعث في نفوس المؤمن رغبة قوية في عمل الخير ، والإتقان في الأعمال حتى يكتبها الملك المكلف بالخير ، قال عليه الصلاة والسلام : (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم).
وهكذا يبقى شعور المؤمن في يقظة دائمة، لأنه يشعر أن ربه رقيب عليه في كل مكان وأن الملكين الملازمين له يكتبان ما يعمل . تلك هي الرقابة الإلهية التي توقظ في المؤمن كل دوافع الخير وتكبح فيه دوافع الشر، إنها رقابة أدق وأقوى من مراقبة فرقة كاملة من المخابرات والشرطة.
الركن الثالث :
والركن الثالث من أركان الإيمان هو الإيمان بكتب الله التي أنزلت لهداية الناس .
قال تعالى : ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24] .
وقال تعالى : ?وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ?[الرعد:7] .
ألا ترى أن أي شركة صناعية لا ترسل كتباً وإرشادات موضحة مبينة مع ما تصنعه من آلات تعتبر شركة مقصرة في البيان ناقصة في الإدارة والخبرة جاهلة بما تعمل وما يتطلب ما تعمل؟
?وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[النحل:60].
فالله سبحانه قد خلق وأرسل لهم كتباً هادية ، موضحة مبينة ، في كل ما يحتاج إليه الناس من هداية في شئون حياتهم . وإذا كان من الجهالة عدم إرسال الشركة الصناعية لكتب وإرشادات موضحة لما صنعت ، أو ليس من الجهالة الكبرى عدم الانتفاع بإرشادات الصانع بعد وصلها! وإذن أليس من الجهالة الكبرى عدم اتباع الكتب الإلهية والتوجيه الرباني بعد إذ جاءنا؟ والمؤمن تراه منتفعاً بهذا الهدى .
?قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[ الأعراف: 203] .(1/5)
وإذا كانت الكتب الإلهية السابقة قد حرفت وبدلت، فإن الله سبحانه قد حفظ على عباده كتابه الأخير من كل تحريف أو تبديل ذلك هو القرآن الكريم، الذي احتوى على ما سبقه من هدى.
الركن الرابع :
أما الركن الرابع فهو الإيمان بجميع رسل الله الذين اصطفاهم من بين سائر البشر؛ ليقوموا بحمل الرسالة الإلهية إلى خلقه ، وليعلموا الناس كيف يكون الاتباع ، والتطبيق ، لهذا والنور اللذين أرسلهما الله لتبديد ظلمات الجهل، والحيرة والارتياب .
ألا ترى أن أي شركة صناعية ترسل مهندسيها ومندوبيها لتعليم الناس كيف يستخدمون آلاتها، وكيف يصلحونها عند حدوث أي خلل يطرأ عليها؟ وهكذا رسل الله .
? وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?
يرسلهم الله هداة للبشرية، يعلمون الناس ما يصلح حالهم ويرشدونهم إلى الطريق الحكيمة لإصلاح كل فساد يطرأ على حياتهم ، ويعرفونهم لماذا خلقهم ربهم؟ ولماذا استخلفهم على الأرض؟ وما الذي يرضي خالقهم عنهم؟ وما العمل الذي يغضبه منهم؟ كما يبينون لهم جزاء كل عمل يعملونه، ويبشرون المؤمنين بما أعد الله لهم من نعيم ، وينذرون العصاة والكافرين والمنافقين بالمصير الأليم الذي ينتظرهم.
قال تعالى : ? رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ?[النساء: 165](1/6)
وإذا كانت العبرة عند الناس بالنتيجة ، فهذا التاريخ البشري قد ازدحمت صفحاته بأسماء الفلاسفة والعلماء والزعماء والمصلحين ، كما سجلت أسماء رسل رب العالمين. فإذا قارنا بين نتائج الدعوات الإلهية ، والدعوات البشرية في مجال إصلاح الأوضاع الإنسانية ، وجدنا الفرق الشاسع. فبينما نجد الإصلاح الإلهي شاملاً لكل جوانب الحياة ، عميقاً ينبع من داخل النفس، دائماً ما دام الناس سائرين عليه ، نجد الدعوات البشرية جزئية لا تشمل جوانب الحياة الإنسانية ، سطحية لا تسيطر على دخائل النفوس ، مؤقتة سرعان ما تنتهي ويتطرق إليها الخلل السريع ، وتختفي أسماء أصحابها. وليس ذلك إلا شاهداً بأن الإصلاح الإلهي هو إصلاح العليم الخبير بما خلق . وإصلاح البشر إصلاح لا يحيط علماً بكل شيء. قال تعالى في أمثال هؤلاء المفسدين :
? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ?[البقرة: 11، 12] .
وإيماننا بالرسل يقوم على الأدلة الساطعة ، والحجج الواضحة والبينات النيرة، التي تلزم كل عقل بتصديقهم، والتي تقطع كل حجة للكافرين .
قال تعالى : ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...?[من سورة الحديد:25] .
وهكذا نجد حياة المؤمن نور على نور .
فهو يعرف خالقه معرفة تشعر بها الفطرة، وتقوم على الأدلة العقلية ، والراهين التي تملأ صفحة الكون، وتعلم من الرسالات السماوية .
والمؤمن يعرف رسول ربه ، الذي يحمل إليه الهدى ، والنور معرفة تقوم على العلم الصحيح، القائم على البينة والأدلة اليقينية ، والحجج والبراهين العقلية .(1/7)
وبمعرفة المؤمن لربه ، ولرسول ربه إليه عرف لماذا خلقه ربه ، وعلم بالحكمة من وجوده ، وفهم دوره في هذه الحياة ، وأصبح على بينة من كل ما يعمل، لماذا يعمله، وما هي نتيجة عمله ، وإذا جاءه الموت فإنه يعرف ما يؤول إليه أمره بعد الموت ، فلا يفزع ولا يجزع ، لأنه قد استعد لهذه اللحظة، وعرف ما بعدها ، وأعد لها في حياته الأولى عدتها .
وبهذا الهدى من رب الناس ، ملك الناس، إله الناس، علم المؤمن بمنزلته في الكون ، وبدوره على الأرض ، وبعلاقته بغيره من خلق الله ، فهو على بينة من ربه في كل أمر من أموره العامة والخاصة.
قال تعالى : ? أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?[الأنعام:122] .
الركن الخامس :
وأما الركن الخامس فهو الإيمان باليوم الآخر ، فالمؤمن بالله يعلم أن هذه الأرض ليست له بدار بقاء ، إنما هي دار عمل وامتحان .
قال تعالى : ? وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ?[القصص:60] .
ويعلم أن الأجل لن يتجاوز به وبجيله أكثر من مائة عام ينتقل بعدها إلى الدار الآخرة.
? وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ?[العنكبوت: 64] .
ويعلم المؤمن أن الطريق إلى الفوز بالسعادة الأبدية في الجنة لا يكون إلا بالعمل الصالح الخاص لوجه الله ، فتجده مجداً في عمل الصالحات. لا يقصد بعمله مصلحة دنيوية فانية ، إنما يقصد بعمله أن ينجو في الآخرة ويرضى عنه ربه وخالقه ومالكه الذي منه البداية ، وإليه النهاية وعليه الحساب.(1/8)
? إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ?[الغاشية:25، 26] .
إن المؤمن الصادق هو ذو الأخلاق الرفيعة والمعاملة الطيبة برزت في صورة إنسان متحرك، قد تزكى وتطهر من الأخلاق الذميمة وليس ذلك خلقاً صناعياً يريد به انتزاع ثقة الناس لاستغلالهم فيما بعد، وإنما لأن ربه أمره بذلك، وهو يخشى غداً أن يهلك في نار جهنم إن خالف أمر ربه، إن المؤمن دائم الخوف من عقاب ربه ، مؤثر للآخرة على الدنيا ، يؤمن بأن الدنيا خلقت له وأنه خلق للآخرة، فإذا كان هذا الفرد تاجراً فهو التاجر الصدوق الأمين، وإذا كان فقيراً فهو الرجل الشريف العامل، وإذا كان عاملاً فهو العامل المجتهد الناصح، وإذا كان غنياً فهو الغني السخي المواسي، وإذا كان قاضياً فهو القاضي العادل الفهم، وإذا كان والياً فهو الوالي المخلص الأمين، وإذا كان رئيساً فهو الرئيس المتواضع الحازم الرحيم، وإذا كان خادماً أو أجيراً فهو الرجل القوي الأمين وإذا كان أميناً للأموال العامة فهو الخازن الحفظ العليم ، وعلى هذه اللبنات يقوم المجتمع الإسلامي وتتأسس حكومته الرشيدة ، ولا يكون المجتمع والحكومة بطبيعة الحال إلا صورة مكبرة لأخلاق الأفراد، ونفسيتهم فيكون المجتمع مجتمعاً صالحاً أميناً ، مؤثراً للآخرة على الدنيا ، متغلباً على الأطماع المادية، غير محكوم لها، ينتقل إليه : صدق التاجر وأمانته ، وتعفف الفقير وسعيه، واجتهاد العامل ونصحه، وسخاوة الغني ومواساته ، وعدل القاضي وحكمته، وإخلاص الوالي وأمانته، وتواضع الرئيس ورحمته وحزمه ، وقوة الخادم ، وحراسة الخازن، وتكون الحكومة حكومة راشدة مؤثرة للمبادئ على المنافع ، والهداية على الخيانة ، وبتأثير هذا المجتمع وبنفوذ هذه الحكومة توجد حياة عامة كلها إيمان وعمل صالح ، وصدق وإخلاص ، وجد واجتهاد ، وعدل في الأخذ والعطاء ، وإنصاف النفس مع الغير .(1/9)
قال تعالى : ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ?[الأنفال:24].
الركن السادس :
والركن السادس من أركان الإيمان ، هو الإيمان بالقدر .
قال تعالى : ? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ?[القمر:49].
والإيمان بالقدر هو ينبوع لسعادة المؤمن فهو يكسب في نفسه الرضا على كل حال ويغمر قلبه بالطمأنينة والراحة ، لأن المؤمن يعلم أن ربه ورب هذا الكون حكيم عليم خبير لا يضع شيئاً إلا لحكمة، وإن غابت الحكمة عن الإنسان فذلك يرجع إلى قصور العلم البشري عن الإحاطة بما علمه العليم الخبير خالق كل شيء. وهكذا يرضى المؤمن بكل حال من الأحوال دون سخط أو تبرم لأنه يؤمن أن لربه حكمة في كل ما يكون. ولكنه مع ذلك يسعى للخروج من أقدار الشر لينعم بأقدار الخير لأن الله كلفه بذلك ، ومنحه سمعاً وبصراً وفؤاداً . ولا يزال التقدم العلمي الذي يبحث في ملكوت الله يقدم الدليل بعد الدليل على صدق إيمان المؤمن بقول ربه:
? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?
فما من أمر إلا وقد أحكم نظامه، وحددت أقداره لحكمة معينة ، وتلك سنة إلهية تنطبق على الذرة كما تنطبق على المجرة .
ذلك هو حال المؤمن المغمور بنور ربه، السائر على صراط مستقيم الذين أنعم الله عليهم ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ?.
ما هو الكفر؟
أما الكفر فهو تغطية للحق الواضح، وهو جحود بما جاء به المرسلون الصادقون.
*فكل كافر يعلم أنه ما خلق نفسه وأن له خالق هو مالكه وسيده ولكن الكافر لا يهتم بمعرفة خالقه. أو تجده قد هام في وثن أصم ، أو أ؛د الطواغيت أو طبيعة جامدة بليدة ، أو توهم وتعلق بتفاعلات كيماوية مقدرة ، مسيرة بنظام ، محكوم بقوانين ، وقد تجده محتاراً في أمره تائهاً كريشة في مهب الريح . وأي عذر للكافر وقد امتلأت الدنيا برسل ورسالاته ، وأي عذر له يوم يسأل غداً:(1/10)
? وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ(65)فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ?[القصص:65، 66] .
*والكافر يعرف أن الله قد أرسل رسلاً إلى الناس لهدايتهم وأيدهم بالمعجزات والبينات التي تثبت صدقهم ، وتجد الكافرين إما قد اطلعوا على بينات الرسول:
? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ?[النمل:14] .
تكبراً واستهزاءً واتباعاً للهوى ، أو تجد فريقاً منهم قد أعرضوا ولم يكلفوا أنفسهم أن يعرفوا ما أنزل ربهم من هدى فتعاموا وتناسوا، فويل لهؤلاء المتغافلين المتعامين عند ما يوجه إليهم غداً هذا السؤال:
? حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ?[النمل: 84].
وأي عذر للكافرين وهم يرون أو يسمعون بذلك الموكب الإيمان الكبير الذي يمتد عبر القرون يقوده الأنبياء والمرسلون، وقد التف حولهم وسار خلفهم ملايين الملايين من الناس أمثالهم.
? وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ?[الشورى:16] .
*والكافر يعلم أن كل نعمة يتمتع بها في نفسه كالسمع والبصر والعقل والصحة والحياة، وكل نعمة ينتفع بها في الأرض كالنبات والحيوان والماء والهواء والخيرات المختلفة والمعادن، وكل نعمة يستفيد منها في السماء كالشمس والقمر وتقلب الليل والنهار، يعمل الكافر أن كل هذه النعم الظاهرة والباطنة لم يخلقها لنفسه، وأن لها رباً وخالقاً أنعم بها عليه ولكنه يجحد نعمه ويتناسى ويتعامى عن فضل خالقه عليه ويستخدم نعم ربه في المجاهرة بالكفر والمعصية .(1/11)
? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ?[إبراهيم: 32-34] .
قال الله تعالى في الحديث القدسي: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)..
ما لهؤلاء الكافرين ..
? أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ?[العنكبوت:67] .
نعم .. فذلك هو الكفر : باطل وتغطية للحق وضلال .
*والكافر يسبح في ظلمات الجهالة الكبرى لا يعرف خالقه الحق!!
ولا يعلم لماذا خلقه؟! ولا يدري لماذا جاء به إلى هذه الدنيا؟!يستخدم ما سخر له ربه بدون علم بالعمل الذي يريد ربه منه أن يعمله ، والذي يغضبه سبحانه منه إن عمله، قد سخرت الدنيا للناس ، ولكن الكافر لا يدري ما الحكمة من تسخيرها له . يأكل ويشرب ، وينام ويستيقظ ، ويموت كموت البعير.. لا يدري لماذا بدأت حياته؟! ولا يدري لماذا انتهت؟! ولا يدري لماذا عاش على الأرض مدة ذلك الأجل المحدود؟! وتجد الكافر يتعاطى الأشياء مجارفة دون إرشاد من الخالق لها كمن يتعاطى تسيير آلة دون اتباع إرشاد صانعها!! فيفسد في الأرض وهو يظن أنه يصلح بإفساده.
? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ?[البقرة:11، 12] .
? لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ?[آل عمران: 196].(1/12)
فما أشبه الحضارة الكافرة التي يعيش فيها الناس بدون إيمان ، بدون هدف ، بدون صلة بالخالق سبحانه؛ ما أشبه تلك الحضارة بصانع سفينة ضخمة ، أنيقة ، جميلة ، قد رتبت فيها أماكن الطعام، وأماكن الرقود، وأماكن اللعب والتسلية، وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها، ويشرح لهم كيف يأكلون وكيف يشربون ، وكيف يرقدون وكيف يلعبون؟ حتى إذا سأله أحد الركاب : وإلى أين تذهب بنا هذه السفينة؟
أجاب: لا أدري!! اركبوا فقط!!
*والكافر لا يعرف إلا دنياه ، ولا يعرف من دنياه إلا مصالحه ولذائذه فهي التي توجه عمله، وتحدد علاقاته بغيره من الناس .
إن الكافرين يبالغون في تقدير هذه الحياة.
? ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ?[النجم:30].(1/13)
وترى الفرد منهم يسرف في عبادة ذاته، وإرضاء شهواته، قد انقطعت الصلة بينه وبين ربه لتكذيبه برسالة الأنبياء، وعقيدة الآخرة ، فكان هذا الفرد الكافر هو مصدر شقاء هذه المدينة، فإذا كان تاجراً فهو التاجر المحتكر النهم الذي يحجب السلع أيام رخصها ويبرزها عند غلائها، ويسبب المجاعات والأزمات ، وإذا كان فقيراً فهو الفقير الحاقد، الذي يريد أن ينال ما في أيدي الآخرين بغير تعب ، وإذا كان عاملاً فهو العامل المطفف الذي يريد أن يأخذ ماله ولا يدفع ما عليه ، وإذا كان غنياً فهو الغني الشحيح القاسي لا رحمة فيه ولا عطب ، وإذا كان والياً فهو الوالي الغاش، الناهب للأموال، وإذا كان سيداً[1] فهو الرجل المستبد المستأثر الذي لا يرى إلا فائدته وراحته وإذا كان خادماً فهو الضعيف الخائن، وإذا كان خازناً فهو السارق المختلس للأموال وإذا كان وزير دولة أو رئيس وزارة، أو رئيس جمهورية فهو المادي المستأثر الذي لا يخدم إلا نفسه وحزبه وشيعته ولا يعرف غير ذلك، وإذا كان زعيماً أو قائداً فهو الأناني الذي يعقد مصلحة مواطنيه ويدوس كرامة البلاد الأخرى، والشعوب الأخرى، وإذا كان مشرعاً فهو الذي يسن القوانين الجائرة ، والضرائب الفادحة، وإذا كان مكتشفاً صنع الغازات المبيدة للشعوب المخربة للبلاد، ولقد أصبحت القنابل الذرية أعظم مشكلة. تهدد سلامة العالم كله بين لحظة وأخرى، وإذا كان منفذاً هو المنفذ القاسي منزوع الرحمة، وقد يخرج أفراد من الكفار عن بعض الأوصاف السابقة ولكنها حالات نادرة .(1/14)
ومن هؤلاء الأفراد الفاسدين تكونت المجتمعات الكافرة فكانت مجتمعات مادية اجتمع فيها احتكار التاجر، وحقد الفقير ، وتطفيف العامل، وشح الغني , وغش الوالي ، واستبداد السيد ، وخيانة الخادم، وسرقة الخازن ، ونفعية الوزراء ، وأنانية الزعماء ، وإجحاف المشرع، وإسراف المخترع والمكتشف ، وقسوة المنفذ ، ومن هذه النفسيات المادية تبعث المشكلات الكبرى في المجتمعات الكافرة وتصاب الإنسانية بويلاتها .
*وترى الكافر يعيش حياة مضطربة لا اطمئنان فيها ولا استقرار ، حياة ساخطة ثائرة، ولكن ذلك السخط والقلق لا يدفعان عنه شيئاً إنما هو العذاب النفسي الذي تكتوي بناره المجتمعات الكافرة في الدنيا .
*والكافر برفضه لعبودية الخالق، سريعاً ما يتحول إلى عبد ذليل لمخلوق مثله ، إما إلى عبد متذلل لطاغية ، أو إلى دكتاتور ، أو زعيم ، أو وثن، وقد يكون عبداً للأهواء، أو الخرافات، والأوهام السخيفة.
جزاء المؤمنين والكافرين غداً :
قال تعالى : ? هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ?[الحج: 19-24] .
وقال تعالى :(1/15)
? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ?[آل عمران: 91] .
وقال تعالى :
? ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ?[سبأ:17] .
الخلاصة :
*الإيمان هو التصديق ـ الثابت ، القوي ـ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وهو يثمر الأعمال الصالحة .
*يقوم الإيمان بالله على الأدلة القاطعة والبراهين القوية ، والمؤمن متحرر من كل عبودية لغير الله، وهو يهتدي بهدى خالقه الحق الذي ينجيه من جحيم الاختلافات البشرية .
*يزيد الإيمان بالملائكة في وعي المؤمن بمخلوقات الله ، كما يسكب الأنس في قلوب المؤمن وينبه فيه مشاعر الخوف من اقتراف المعاصي ، والمسارعة في عمل الصالحات ، وتأثير مراقبة الملكين على المؤمن أقوى من مراقبة فرقة كاملة من الشرطة .
*من الجهالة عدم الانتفاع بإرشادات الصانع ، كما أن من الجهالة الكبرى عدم الانتفاع بكتاب الخالق ـ سبحانه ـ الذي قد حفظ من كل تبديل أو تحريف .
*أرسل الله الرسل ليعلموا الناس كيف يتبعون هدى الله وإذا قارنا بين نتائج دعوات الرسل ودعوات غيرهم، وجدنا الإصلاح النبوي شاملاً لكل جوانب الحياة ، عميقاً ينبع من داخل النفس، دائماً ما دام الناس يهتدون بهدى الله ، ويقوم إيماننا بالرسل على الدليل والبرهان .
*والمؤمن يعرف الحكمة من خلقه ، ودوره في الأرض ، والعمل الذي يرضي ربه ويتجنب ما يغضب خالقه . وهو على علم بالمصير الذي ينتظره بعد موته، والمؤمن عارف بخالقه وبرسول الخالق إليه، أما الكافر فتلفه ياجير الظلام والجهل بكل ما سبق .(1/16)
*الإيمان باليوم الآخر يدفع إلى عمل الصالحات وإلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وإخلاص العمل لوجه الله ، فترى المؤمن مصدراً لأعمال الخير والصلاح ، والمجتمع الذي يؤلفه الأفراد المؤمنون هو أسعد المجتمعات وأفضلها وأتقاها .
*يبعث الإيمان بالقدر ـ في نفس المؤمن ـ الرضا ، والراحة ، والاطمئنان .
*الكفر هو التغطية للحق ، والكافر لا يؤمن بخالقه ، رغم ظهور آياته في الأرض والسماء، ولا يؤمن برسل ربه رغم ظهو حججهم ، وبراهين صدقهم ، وتراه عابداً لإنسان أو وثن ، ومطيعاً لطاغية أو دجال دون دليل أو برهان .
*بالرغم من أن الكافر لم يخلق لنفسه نعمة من النعم ، فهو يجحد فضل المنعم عليه ، ويستعين بنعم خالقه على ارتكاب معاصيه
*يسبح الكافر في ظلمات من الجهل بالحكمة في خلقه ، ودوره على الأرض ، ومصيره الذي ينتظره ، والعمل الذي ينجيه .
*تعلم الحضارة الكافرة الناس كيف يعيشون فقط ، ولكنها لا تدري لماذا يعيش الناس .
*حياة الكافر كحياة سبع ضار لا يعرف حلالاً أو حراماً ، همة تحقيق مصالحه ، ولذائذه قبل أن يدركه الموت . ولا يبالي أن يهلك الحرث والنسل في سبيل تحقيق أهدافه ، ومن هذه الصورة السيئة للإنسان يتكون المجتمع الكافر .
*يغمر القلق والاضطراب حياة الكافر ، وتراه مقيداً بسلاسل من العبودية لوهم، أو طاغية، أو دجال ، أو هوى .
*يجزي الله المؤمنين رضاه والجنة ، ويعاقب الكافرين بغضبه والنار، أعادنا الله من ذلك .
وجود الله
حقيقة فطرية :
أنت موجود .. وهذا الكون الزاخر بخلق الله موجود .
إذن:
ربك ، ورب هذا الكون ، المسير له ، المسيطر عليه، المتصرف فيه لا شك موجود .
قال تعالى :
? أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ?[إبراهيم:10] .
ولقد قال قديماً أحد الأعراب : (إذا كانت البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير، فأرض ذات فجاج ، وسماء ذات أبراج ، أفلا تدل على اللطيف الخبير؟) .(1/17)
إيماننا يقوم على الحجة القاطعة :
وإيمان المسلم الصادق يقوم على الحجة القاطعة لكل زيف أو باطل وهو إيمان راسخ بالبراهين والأدلة .
? قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ?[الأنعام :149] .
ولا يعتبر الإسلام قيمة لإيمان المقلد ، الذي سرعان ما يتزعزع إيمانه وينهار إسلامه بأدنى مجهود من شياطين الجن والإنسان ، لذلك نجد القرآن يستنكر التسوية بين إيمان المبصر الواعي ، وإيمان المقلد الأعمى .
قال تعالى :
? أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الرعد:19] .
فيجب على المسلم أن يكون على علم بدليل إيمانه وبرهان شهادته التي يرددها كل يوم وفي كل صلاة : (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) .
الأدلة على وجود الله :
الأدلة على وجو الله لا تحصى ، وعددها كعدد مخلوقات الله ، فكل مخلوق يحمل أدلة تدلنا على خالقنا وتعرفنا بموجده العليم الحكيم .
قال تعالى : ? إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ?[الجاثية:3] .
وقال الشاعر :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
ونعرف وجود الله بطريقين :
أولاً : عن طريق الأدلة المشاهدة في المخلوقات :
وتقوم هذه الأدلة على أسس عقلية لا يخالفنا فيها أحد مهما كان دينه أو جنسه أو علمه أو مكانته وهذه هي الأسس :
العدم لا يفعل شيئاً :
فمن المستحيل أن يوجد فعل بدون فاعل ، ومن المستحيل أن يفعل العدم شيئاً لأنه لا وجود للعدم .
الفعل مرآة لبعض قدرة فاعله وبعض صفاته :
إن بين الفعل والفاعل علاقة قوية ، فالفاعل هو المقدمة ، والفعل هو النتيجة ولا يكون شيء في الفعل ليس للفاعل قدرة على فعله . فمثلاً : إذا نظرنا إلى مصباح كهربي عرفنا:
*أن لدى صانع ذلك المصباح زجاجاً .
*وأن الصانع يقدر على تشكيل ذلك المصباح في الشكل الذي تراه (شكل كرة).(1/18)
*وأن لدى الصانع أسلاكاً من (التنجستن) ذلك لأنه من المستحيل وجود المصباح بزجاجة وأسلاك (التنجستن) التي فيه دون أن يكون له قدرة على تشكيل الزجاج والتنجستن في الشكل الذي تراه في المصباح .
وإذا تأملت جيداً إلى المصباح وتفكرت:
*ستجد الإحكام في الصنع يحدث عقلك أن صانع المصباح حكيم .
*وسترى التصميم الكهربائي يشهد لك أن الصانع خبير بالكهرباء .
وإذا شاهدنا سيارة متحركة، تسير في الطرقات المعبدة، وتتحرك عند اللزوم ، وتتوقف في المكان المعلوم، وتدور في المكان المعد للدوران عرفنا:
*أن سائق السيارة عاقل مفكر .
*وأن له إرادة حكيمة أحكمت توجيه السيارة .
*وأنه على علم بطريقة قيادة السيارة .
* وأنه موجود . فلولا وجوده ما تحركت السيارة تلك الحركات المنظمة الدقيقة.
*هناك علاقة محكمة بين المصنوع والصانع، والفعل والفاعل.
*لا يكون شيء في المصنوع أو الفعل إذا كان الصانع أو الفاعل لا يملك قدرة أو صفة تمكنه من فعل ذلك الشيء في مصنوعه أو فعله .
*كل شيء في المصنوع أو الفعل يدل على قدرة أو صفة الصانع أو الفاعل .
*المصنوع أو الفعل مرآة لبعض قدرة الفاعل وبعض صفاته .
إذن :
*إذا تفكرنا في أي مصنوع أو فعل عرفنا منه بعض صفات صانعه أو فاعله وبعض قدرته.
وكذلك :
*إذا تفكرنا في المخلوقات عرفنا منها بعض صفات الخالق وبعض قدرته سبحانه .
وهكذا عرفنا بعضاً من قدرة الصانع والسائق وصفاتهما من الآثار المشاهدة لأفعالهما أمامنا، وبهذا كان الفعل مرآة لقدرة فاعله وبعض صفاته .
فاقد الشيء لا يعطيه:(1/19)
فنحن إذا شاهدنا مقتولاً في الشارع فإن أحداً منا لا يدعو إلى إلقاء القبض على حجرة بجواز القتيل بتهمة القتل ، لأنها لا تملك القدرة على الفعل ، كما أن الواحد منا لا يزعم بأن حيواناً لا يعقل قد أطلق قمراً صناعياً يدور حول الأرض؛ لأن الحيوان لا يملك القدرة على إطلاق ذلك القمر. وهكذا يحكم العقل حكماً جازماً بأن ليس الفاعل من لا يملك القدرة على الفعل. وفاقد الشيء لا يعطيه .
تطبيق الأسس العقلية :
1 ـ فإذا طبقنا الأساس الأول : (العدم لا يخلق شيئاً) وشاهدنا ملايين الملايين من الأحداث تحدث كل يوم في هذا الكون الفسيح جزمت عقولنا بأن لكل فعل منها فاعلاً لأن العدم لا يخلق شيئاً.
? أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ?[الطور:35، 36] .
2 ـ وإذا طبقنا الأساس الثاني : الفعل مرآة لبعض قدرة فاعلة وبعض صفاته وجدنا أن هذه الأفعال والأحداث :
*محكمة في نظامها تشهد أنها من صنع حكيم .
*موجهة في سيرها تشهد أنها من صنع مريد .
*عظيمة في تكوينها تشهد أنها من صنع عظيم .
*متناسقة في أعمالها مترابطة في خلقها تشهد أنها من صنع الواحد الأحد.
*خاضعة لنظام موحد تشهد أنها من صنع حاكم مهيمن .
فتجزم كل العقول بأن خالق هذه المخلوقات : حكيم، عليم ، خبير .. الخ .
الوجود :
( أ ) وإذا شاهدنا هذا الملكوت البديع وجدناه دائماً في سيره، مستمراً في نظامه، فيشهد ذلك لكل صاحب عقل، أن حاكمه المهيمن على سيره ، المسيطر على نظامه الثابت المتنوع لا شك موجود دائم .
? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ?[الزخرف:87] .
? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ?[العنكبوت:61] .
? قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ?[المؤمنون:84] .(1/20)
? قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ?[المؤمنون:88] .
? قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ?[يونس:31] .
(ب) إن الصفات السابقة ، التي عرفنا أنها صفات لخالق الكون (حكيم، عليم، خبير، مريد، عظيم، واحد، أحد، حاكم، مهيمن) ، إن هذه الصفات لا تكون صفات لمعدوم إنما هي صفات لا شك للخالق الموجود الدائم .
3 ـ وإذا طبقنا الأساس الثالث : فاقد الشيء لا يعطيه نجد أنه :
لا يوجد بين هذه المخلوقات من يتصف بأنه : الحكيم ، العليم ، الخبير ، المريد ، العظيم، الواحد ، الأحد ، الحاكم ، المهيمن ، الموجود ، الدائم .
إذن :
خالق الكون هو غير الكون المخلوق . هو : الحكيم ، الخبير، المريد، العظيم، الواحد، الأحد، الحاكم ، المهيمن، الخالق، الموجود، الدائم.
قال تعالى :
? هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[الحشر:24] .
وهكذا نجد أن الطريق الأول لمعرفة الله هو التفكر في مخلوقاته. فكلما ازداد الإنسان علماً بمخلوقات الله وأسرار خلقها ازداد إيماناً. لذلك حث الإسلام إلى التفكر وحض على العلم المفيد وأشار خاصة إلى العلوم الكونية التي تبحث في أسرار خلق الله .
? أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ?[الأعراف:185] .
قال تعالى :(1/21)
? أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ?[فاطر: 27، 28] .
ثانياً : معرفة الله بواسطة رسله:
أنك حقاً قد عرفت بعض صفات صانع المصباح الكهربائي وسائق السيارة ، ولكن هل تستطيع أن تعرف أخلاق صانع المصباح الكهربائي من مشاهداتك لما صنع؟ أهو كريم أو بخيل؟ أهو رحيم أم قاس؟ وهل سيبيع لك المصباح أم لا، وهل هو متواضع أم متكبر؟ وما هي الأشياء التي يحبها والأشياء التي يؤكد لك أن لهذا المصباح الكهربائي صانعاً ولديه الزجاج ولديه أسلاك التنجستن وأنه خبير في الكهرباء وأنه قادر على صناعة هذه المصابيح كما يعرفك بما يعرف هو من أخلاق الصانع السالفة الذكر. ولكنك لا تطمئن إلى شيء مما يقوله مندوب الصانع إلا بعد أن تتاكد أنه حقاً مندوب الصانع، وأنه صادق فيما يقول..
? وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ?[النحل:60].
وهكذا بالنسبة لكمال معرفتنا بخالقنا ، فنحن نجهل كثيراً من صفات الله التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالاتصال برسل الله الذين يحملون الأدلة التي تثبت حقاً أنهم مرسلون صادقون قد أرسلهم الله. وإن الدنيا لتمتلئ بأخبارهم وقصصهم حتى كاد أن يكون تاريخ البشر هو تاريخهم مع رسل الله.
فالطريق الثاني لمعرفة وجود الله وتأكيد ما عرفناه من مشاهدة مخلوقاته ومعرفة ما غاب عنا من صفاته هو طريق معرفة رسله الذين أيدهم بالمعجزات والأدلة، والبينات، الشاهدة لهم، أنهم رسل رب العالمين حقاً .(1/22)
قال تعالى : ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ?[الحديد :25] .
جهالة :
وإن تعجب فمن تلك الجهالة المضحكة التي تزعم: أن إيمان المسلم يقوم على مقدمات لم يسلم بها. فهل المقدمات السابقة لا تسلم بها العقول؟!! إن كل عقل سليم من عصبيات الجاهلية لا شك يسلم ويذعن للمقدمات السابقة التي يقوم عليها إيمان المسلم . أما أدلة وبينات رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فستأتي في مكانها .
الخلاصة :
*الإيمان بوجود الله شعور فطري ينبع من النفس .
وعلى المسلم أن يؤيد إيمانه الفطري بالأدلة العقلية القاطعة، والبينات الساطعة، فلا خير في إيمان المقلد الأعمى .
*عدد الأدلة على وجود الله كعدد مخلوقاته، وتنقسم إلى قسمين:
(أ) أدلة مشاهدة في المخلوقات .
(ب) أدلة جاء بها المرسلون.
*القواعد العقلية التي لا يعارضها إنسان هي:
1- العدم لا يخلق شيئاً .
2- الفعل مرآة لبعض قدرة فاعله وبعض صفاته .
3- فاقد الشيء لا يعطيه .
* وبتطبيق هذه القواعد نجد : أن هذه المخلوقات التي تملأ صفحة الكون تشهد بأن لها خالقاً حكيماً ، عليماً ، خبيراً ، مريداً ، عظيماً ، حاكماً ، مهيمناً ، موجوداً .
*استمرار النظام، ودوام السير المحكم يشهد أن خالقه المهيمن على السير والنظام موجود، كما تشهد الصفات المشاهدة آثارها في الكون أنها صفات لخالق موجود، لأن المعدوم ليس له صفات أو آثار .
*لا يوجد مخلوق يتصف بصفات: الحكمة ، والعلم الشامل، والإدارة المطلقة ، والمهيمنة على ما في الكون ، فيشهد ذلك بأن خالق الكون غير هذه المخلوقات المشاهدة.
*آمنا بصدق الرسل لأنهم قدموا لنا الأدلة القاطعة ، والبينات الواضحة على صدق رسالتهم.
*يقوم الإسلام على مقدمات عقلية تسلم بها العقول، ولا يجحدها إل من أصيب بعصبية وجاهلية.
الله هو المقيت الرزاق
قال تعالى :(1/23)
? فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ?[عبس: 24-32] .
نحن والطعام :
هذا الرجل كان بالأمس طفلاً صغيراً فمن أين جاء نمو جسمه؟
هذا الإنسان الذي يتحرك أمامك من أين جاءت له القوة المحركة لأجزائه الساكنة؟!!
من أين جاءت هذه الصحة المشاهدة في الناس؟!!
إن النظرة القاصرة السريعة تجيب فتقول:
الطعام هو الذي نمى الأطفال ومد الأجسام بالطاقة المحركة، وعمل على وقايتها من الأمراض.
فهل يقوم الطعام بذلك حقاً من ذات نفسه بتدبير منه وتقدير، أم أنه يقوم بما سبق بتدبير وتقدير من خالق الطعام؟ وهيا لننظر:
? فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ?
إننا قد وجدنا أنه لكي ينمو الجسم ويتحرك ويكتسب وقاية من الأمراض فهو بحاجة إلى توفير كميات مستمرة إلى داخل كل خلية في الجسد من المواد الآتية: الزلاليات (البروتينات) ، والأملاح، والمواد النشوية، والدهنية، والفيتامينات والماء[2] كما أن كل خلية بحاجة إلى إخراج دائم لبقايا التفاعلات الكيماوية وفضلاتها وإلا أهلكتها تلك البقايا والفضلات .
مشكلات كبرى :
وهنا تبرز أمامنا ثلاث معضلات كبرى :
1 - من أين نتحصل على هذه المواد الخاصة التي يمكن لخلايا أجسامنا أن تتغذى عليها.
2 – من أين لنا كميات هائلة من هذه المواد تكفي لغذاء كل خلية من ملايين الملايين الخلايا في جسم الإنسان باستمرار؟ ثم من أين لبني الإنسان جميعاً وكذا سائر الحيوانات غذاء لكل خلية في كل جسد باستمرار؟ إن الحاجة ماسة إلى كميات خيالية تتوفر باستمرار من المواد الغذائية الصالحة لتغذية الخلايا .(1/24)
3 – كيف يمكن إمداد كل خلية في جسم الإنسان بهذه المواد سواء كانت تلك الخلية في وسط المخ أو في غلاف الكلية أو في باطن القلب أون في مخ العظام أو في سطح الجلد؟ وكم من الملايين الملايين من الأنابيب الرئيسية والفرعية والشعرية التي يجب أن تمد كل خلية في جسم الإنسان؟ هذه مشاكل كبرى بغير تدبير حل لها نموت .. ويموت كل كائن حي .
أين الحل ومن يصنعه؟
المشكلة الأولى تتمثل في إيجاد المواد الصالحة لغذاء الخلايا وهذه المواد هي :
(أ) الأحماض الأمينية "البروتينيات".
(ب) المواد السكرية "نشويات".
(ج) أحماض دهنية وجلسرين "مواد دهنية" .
(د) فيتامينات.
وهذه جميعاً لا توجد مستقلة على وجه الأرض ، لنذهب إلى مكانها ونأخذ منها حاجتنا.
(و) الأملاح ، وهذه لا توجد مستقلة وإنما توجد مختلطة بالتربة .
(ز) أما الماء فهو يوجد مستقلاً في الآبار والينابيع والأنهار والمياه الجوفية فأين نجد هذه المواد الضرورية لحياتنا؟
إن معظم المواد السابقة توجد في صورة مركبة معقدة في مختلف النباتات أو لحوم الحيوانات، التي تغذت على هذه النباتات ، أو على حيوانات تغذت بالنباتات . فالمصدر الأصلي ـ الخام ـ للمواد السابقة هو هذه النباتات التي تكسو الأرض .
ولكن الموجود في النباتات مواد خام، لا تصلح رأساً لتغذية خلايا الجسم مباشرة . مما يبعث مشكلة جديدة ، وهي :الحاجة إلى أجهزة خاصة ومواد خاصة تقوم بإعداد هذه المواد الخام، وتحويلها إلى مواد صالحة مناسبة لغذاء الخلايا .
أما المواد الخاصة التي تقوم بتحويل الطعام (الخام) إلى طعام صالح للجسم فهي:
( أ ) إنزيمات : الببسين ، الرنين ، التربسين ، الأربسين ، وذلك لتحويل المواد البروتينية إلى أحماض أمينية صالحة لغذاء الخلايا وذلك مثال . وهناك ـ إنزيمات أخرى لتحويل المواد النشوية والدهنية إلى سكر ، وأحماض دهنية وجلسرين. فأين نجد هذه المواد الكيماوية المخصصة بكميات كافية؟(1/25)
ما هو الجهاز الذي سيقوم بعملية التحويل هذه؟ ولن نطيل البحث كثيراً عن هذه المواد (الإنزيمات) والجهاز المحول للطعام الخام إلى غذاء مناسب للخلايا لأن الجواب موجود في أنفسنا. إن هذه المواد الكيماوية المخصوصة (الإنزيمات) موجودة في لعابنا، ومعدنا ، وأمعائنا . ولقد خلقت لنا خلايا خاصة (غدد) ونحن في الأرحام ، لتقوم بإنتاج هذه المواد بالكميات الكافية.
وأما الجهاز المحول فهو (الجهاز الهضمي) الذي توجد فيه هذه الغدد المفرزة للإنزيمات الهاضمة. وهو جهاز محكم دقيق قد أعد لوظيفته في غاية الدقة والإتقان، ونحن لا نزال أجنة في بطون الأمهات، ومن دقائق صنع هذا الجهاز أن معدتك تفرز إنزيمات تذيب اللحم. وبالرغم أن المعدة من اللحم إلا أنها قد غطيت بغشاء مخاطي ، يمنع وصول هذه الإنزيمات للحم إلى المعدة .
نحن والنبات :
إذن فمصدر غذائنا الخام هو النبات ، ومصدر المواد الكيماوية الهاضمة التي تعد الطعام الخام ، وتحوله ليكون صالحاً لخلايانا ـ هو تلك الغدد المفرزة للإنزيمات الموجودة في الجهاز الهضمي، الذي أحكم صنعه ، ونحن لا نزال أجنة نتغذى من دماء أمهاتنا .
صنع الغذاء في النبات وتوفيره :
قد علمنا كيف تحصل الخلايا في أجسادنا على المواد الغذائية المناسبة بأخذ الطعام الخام من النبات، وهضمه بواسطة مواد خاصة في جهازنا الهضمي، وبقيت المشكلة الثانية: وهي من أين للنبات كميات الغذاء الهائلة اللازمة لتغذية كل كائن حي؟
وهيا لنتفكر في طعامنا ونتأمل كيف أوجد الرزق الرحيم الحل لهذه المشكلة :
1 – البذور (الأصول النباتية) : نحصل على هذه البذور، والأصول النباتية من نباتات سابقة ، والنباتات السابقة من بذور وأصول سابقة وهكذا حتى نقف وجهاً لوجه مع الأصل الأول لهذه النباتات المتنوعة ، ثم نرى الروعة في إعادة خلقها ، وتكوينها مرة بعد أخرى ، وتوفيرها بكميات هائلة كافية لحاجات كل ما يتغذى على النباتات .
قال تعالى :(1/26)
? وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ?[ق: 7-9] .
المواد الخام :
(أ) التربة: لقد وفرت التربة الصالحة للزراعة بكميات هائلة تكفي لحاجة كل الكائنات الحية.
قال تعالى :
? أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?[الشعراء: 7، 8] .
(ب) الماء: ولقد وفر الخالق الماء ـ الذي لا يكون زرع إلا به ـ بكميات تكفي حاجة كل الكائنات الحية ، ويسره لنا فنأخذه من الأنهار الجارية , أو العيون ، أو الآبار، أو المياه الجوفية المخزونة قريباً من سطح الأرض. وأصل هذا الماء تلك الأمطار التي تنزل من السحب على الأرض باستمرار بمعدل: (16 مليون طن في كل ثانية) . ومن رحمة منزل المطر أنها تنزل سيولاً هائلة في شكل نطف صغيرة ، لا تضر زرعاً ، ولا إنساناً ولا حيواناً ، وتلك السحب هي: مياه متحركة تحركها الرياح من فوق البحار إلى القارات حيث توجد البذور والتربة.
قال تعالى :
? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ?[السجدة: 27] .
(ج) وبغير الهواء لا تنبت نبتة على وجه الأرض، والهواء الصالح لتكوين الغذاء هو (ثاني أكسيد الكربون) الذي نخرجه من أجسامنا ومن أجسام كل الحيوانات، وبهذا يكون الإنسان والحيوانات مصدراً لمادة من المواد الخام اللازمة لصناعة الطعام، ومن دقائق الخلق والتقدير أن (ثاني أكسيد الكربون) لو بقي في الجو لخنق كل كائن حي ، ولكن النباتات تأخذه باستمرار ، وتخرج لنا (أكسجين) عوضاً عن الذي استهلكناه في أجسامنا .(1/27)
(د) ومادة الخام الأخيرة هي ضوء الشمس ، الذي يأخذه النبات من الشمس بواسطة المادة الخضراء الموجودة في خلايا النباتات ، والذي يصل إلى وجه الأرض بالقدر الكافي، المناسب للحياة، فلو بعدت عنا الشمس نصف المسافة لتجمد كل نبات وكل حي ، ولو قربت نصف المسافة بيننا وبينها لاحترق كل كائن حي .
قال تعالى :
? وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ?[إبراهيم: 33].
(هـ) المصانع الخضراء في النبات: وفي النبات المصنع الوحيد الذي تدخل إليه هذه المواد الخام (أملاح التربة، الماء ، الهواء، ضوء الشمس) فيصنع من هذه المواد سكراً يتحول إلى مختلف المواد الغذائية: نشويات ، دهون ، بروتينات، فيتامينات. ذلك بواسطة إنزيمات مركبة خاصة، وتفاعلات كيماوية دقيقة مرتبة ، وهذه المصانع الخضراء عبارة عن نقط خضراء صغيرة تسبح في بعض خلايا النبات وخاصة خلايا الأوراق. وينتج النبات من هذه المصانع الخضراء كميات وفيرة هائلة تكفي لتصنيع المواد الخام السابقة إلى أغذية مناسبة صالحة كافية لغذاء كل الكائنات الحية .
قال تعالى :
? وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[الأنعام:99] .
توصيل المواد الخام إلى المصنع :(1/28)
إذا عرفنا أن مصانع الغذاء في النبات تتركز في الأوراق والأجزاء الخضراء منه، فإن علينا أن نعرف الآن أن هذه المصانع بحاجة إلى مواد الخام. كما أنها بحاجة إلى وضع تصميم ، وترتيب ، وتنظيم يتم به وصول هذه المواد الخام إلى المصانع الخضراء (البلاستيدات الخضراء) فكيف حل الخالق هذه المشكلة ؟
1 – الماء : قد عرفنا كيف يصل الماء إلى التربة التي تتشربه .
2 – الأملاك : تذوب الأملاح الموجودة في التربة مكونة محلولاً مائياً في الماء والأملاح، وتقوم الماصات الجذرية الموجودة في البذور النباتية ، بامتصاص الماء والأملاح الذائبة فيه بقوة أودعها الله فيها وتسمى بقوة (الضغط الأسموزي) ، ثم تقوم هذه الماصات الجذرية (الشعيرات الجذرية) بتوصيل الماء والأملاح الذائبة إلى أنابيب خاصة موجودة في الجذور قد أعدت لاستقبال الماء والأملاح، ورفعه إلى شتى أجزاء النبات، حيث يصل في فروع صغيرة إلى المصانع الخضراء الصغيرة .
3 – الهواء : ويدخل الهواء إلى المصانع النباتية بواسطة ثغور صغيرة قد أعدت بإحكام ، وتنتشر في الطبقة السطحية للأوراق، وقد خلق الخالق سبحانه خليتين حارستين أو أكثر تقوم هذه الخلايا بدور البواب الذي يفتح ويقفل بنظام ، وبحسب الحاجة .
4 – الضوء : أما الضوء فيصل رأساً إلى المصانع الخضراء المنتشرة في أجزاء النبات فوق سطح الأرض ، وقد كان تصميم وضع النبات متناسباً مع هذا الطلب منذ أن خرج ذلك الجزء النباتي من البذرة المنبتة الذي شق الأرض وترابها إلى أعلى ، لا إلى أسفل كما يفعل الجزء الثاني الذي سيكون الجذر ، ويحمل معه أصول الأجزاء النباتية العليا من ساق ، وأغصان ، وأوراق ، وأزهار ، وثمار، ولا يخطئ حامل الأوراق هذا في اتجاهه ، كما لا يخطئ الجزء الذي سيكون الجذر حتى لو وضعت البذرة مقلوبة ، فإن حامل المصانع الخضراء يعرف طريقه دائماً إلى أعلى ، حيث يوجد ضوء الشمس.
الصناعة والتخزين :(1/29)
بعد أن وصلت المواد الخام إلى المصانع ، لم تجد أمامها مصنعاً ، أو مصنعين بل استقبلتها ملايين الملايين من المصانع التي تقوم بأخطر إنتاج في العالم وأعظمه ، إنه الإنتاج الوحيد ، من المصانع الوحيدة، القادرة على إنتاج البروتينات ، والدهنيات ، والنشويات ، والفيتامينات ، والأملاح من ماء + أملاح + ثاني أكسيد الكربون (هواء) + ضوء الشمس .
ومن بديع صنع هذه المصانع أنها تقوم بعملها دون ضجيج أو إزعاج، وتقوم هذه المصانع بعملها في عمليات كيماوية طويلة متلاحقة ، وفي سلسلة متتابعة في الخطوات حتى يكون الناتج هي تلك الثمار اللذيذة الشهية التي ليست إلا مخازن ، خزن فيها الغذاء وأحكم حفظه فيها .
فجئنا نحن نجني هذه الثمار ، ونفتح هذه المخازن وتتغذى عليها ، كما يتغذى كل حي على ما يعده الله في النبات من غذاء .
المعضلة الثالثة :
قد علمنا كيف حلت المعضلتان السابقتان : معضلة إعداد المواد المخصوصة لغذاء الخلايا ، ومعضلة توفير هذه المواد باستمرار وبكميات هائلة وبقيت المعضلة الثالثة وهي : كيف يمكن إيصال هذه المواد إلى كل خلية في جسم الإنسان ، سواء في وسط المخ أو في قشرة الكلية ، أو في سطح الجلد؟ إذ إنه لا معنى لتوفير المواد المطلوبة دون توصيلها إلى المكان المطلوب .
ويجب أن يعرف كل عاقل أن رازقه المقيت الرحيم قد أعد أجهزة كاملة تتعاون لحل هذه المعضلة .
أولاً : الجهاز الهضمي :
فالجهاز الهضمي الذي يبدأ بالفم الذي بغيره ما دخل طعام قط إلى الجوف والذي فيه يقطع الطعام (الخام) إلى قطع صغيرة بواسطة الأسنان التي تحركها عضلات المضغ ثم يطحن الطعام لكي يسهل هضمه ، كما أن هضماً جزئياً يبدأ بواسطة اللعاب الذي تفرزه غدد خاصة موجودة في الفم، والذي يساعد بلزوجته على انزلاق اللقمة ، في المريء إلى المعدة ويقوم اللسان بعملية تقليب الطعام في الفم ليتم خلطه باللعاب ثم قذف اللقمة إلى البلعوم.(1/30)
ثم ترمي اللقمة إلى الحنجرة حيث يفتح لها لسان المزمار (اللهاة أو شرطي المرور) باب المريء ويسد عليها باب القضية الهوائية ، وتنزلق اللقمة إلى المعدة بواسطة حركات دودية في المريء كما يساعدها على الانزلاق ما يفرزه المريء من إفرازات مخاطية . وفي المعدة تستمر عملية الهضم، حيث يتحول الطعام إلى سائل يسمى (سائل الكيموس) الذي تفتح له فتحة البواب في المعدة ويتجه إلى الاثنى عشر حيث تستمر عملية الهضم التي هي تحويل المادة الخام من الطعام إلى مادة مناسبة صالحة لتغذية خلايا الجسم ، ثم منها إلى الأمعاء الدقيقة ، حيث تستكمل عمليات الهضم النهائية فتصبح المواد الزلالية أحماضاً أمينية ، والمواد النشوية سكراً ، والمواد الدهنية أحماضاً دهنية وجلسرين. ويصبح الطعام بهذه الصورة صالحاً لأن يمتص بواسطة (الخملات) الموجود في الأمعاء ليجري مع تيار الدم.
ثانياً : الجهاز الدوري :
إن دوريات هائلة ، مستمرة في الدماء ، تقوم بالدوران على كل جزء، وكل نقطة في الجسم، فتأخذ من كل نقطة ومن كل جهاز ما هو مكلف بإعداده. وتقوم هذه الدوريات بإيصاله إلى المكان الخاص الذي أعدله في الجسم. ولذلك فهذه الدوريات تمر على الأمعاء الدقيقة، كما تمر على المعدة والمريء والفم . ولكنها لا تأخذ الطعام إلا من الأمعاء الدقيقة حيث تمت عمليات الهضم، أو بعبارة أخرى : إن الطعام بعد تمام هضمه قد جرى في تيار الدم بواسطة أجهزة خاصة (الخملات) قد أعدت في المكان المناسب الذي تمت فيه كل التفاعلات والتحولات .
ولهذا الجهاز الدوري محطة ضخ مركزية ، هي : القلب الذي يقوم بإرسال هذه الدماء المتدفقة باستمرار . ويمكنك أن تضع يدك الآن على قلبك لتحس عمله الجاد في إرسال هذه الدماء الدائرة إلى استقبالها مرة ثانية وذلك في أضخم شكة مواصلات على الأرض .
ثالثاً : الجهاز اللمفاوي:(1/31)
إن المواد الغذائية التي انتقلت من الأمعاء إلى الدم وأرسلها القلب مع تيار الدم إلى كل نقطة في الجسم في حبس داخل الشعيرات الدموية ، وحقاً لقد قطعت هذه المواد الغذائية رحلة طويلة من المصانع الخضراء في النبات إلى أن وصلت الآن إلى قرب الخلية، ولكن ليس إلى داخلها لأن جدار الشعيرة الدموية يمنع انتقالها من الشعيرة إلى الخلية ، فخلق الرزاق المقيت حلاً لهذه المشكلة بخلق جهاز لمفاوي ونحن لا نزال أجنة في بطون الأمهات، ويقوم هذا الجهاز بإعداد سائل اللمف بعملية الوساطة بين الشعيرة الدموية والخلية فيترشح الطعام من الشعيرة الدموية إلى السائل الذي يربط بين الشعيرة الدموية والخلية (سائل اللمف) ويقوم هذا السائل بدوره بإيصال هذه المواد الغذائية إلى الخلية ، وأخذ الفضلات ، والمواد المتبقية من الخلية وتسليمها للشعيرة الدموية التي تقوم بنقلها إلى أجهزة الإخراج العدة لهذا الغرض .
لهذا كان ذلك الإعداد .
وكل ما سبق ذكره ابتداء من حركات السحب بالماء، وسطوع الشمس بالضوء، وامتصاص الجذور للماء والأملاح ودخول الهواء من ثغور الأوراق وعملية التصنيع في المصانع الخضراء، وانتهائه بدخول (الأحماض الأمينية والسكر والأحماض الدهنية والجليسرين والأملاح الذائبة والفيتامينات) من سائل اللمف إلى الخلية ، كل ذلك ليس إلا توصيلاً للمادة الخام إلى مكان التصنيع الجديد. حيث تحول تلك المواد الغذائية إما إلى عظام أو لحم أو دم أو مخاط أو شمع في الأذن أو مني يمنى أو شعر أو أظافر أو إنزيمات هاضمة وأو هرمونات ، أو أي نوع آخر مما يحتوي عليه جسم الإنسان.
رابعاً : الجهاز الإخراجي:(1/32)
إن عملية التصنيع السابقة التي تتم في الجسم أو في داخل الخلايا يتخلف عنها فضلات وبقايا. وما لم تطرح هذه الفضلات والبقايا يتعرض الإنسان للهلاك. فخلق الرزاق الرحيم جهازاً خاصاً يقوم بعملية إخراج لهذه المواد المتبقية التي لا فائدة من بقائها . وتبدأ عملية الإخراج عن طريق المعي الغليظ الذي يحمل بقايا الطعام الذي لم يذب في الإنزيمات الهاضمة ويخرجه غائطاً من فتحة الشرج، وتقوم الرئتان بإخراج ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء المتولد في عمليات التصنيع والبناء داخل الخلايا. وأما الغدد العرقية الموجودة على الجلد فمنها يخرج (الملح والبولينا والماء) كما أن هناك كليتين وما يتصل بهما من حالب ومثانة ومجرى بول وعن طريقها ترشح (البولينا وحامض البوليك والماء) من الدماء وتخرج إلى الخارج بواسطة مجرى البول .
خامساً : الجهاز الهضمي :
وهناك جهاز عصبي في جسم الإنسان يقوم بالإشراف على سير وتنظيم كل عملية من العمليات السابقة وكل عملية أخرى من عمليات الجسم .
تفكروا يا أولي الألباب
* من أوجد المواد الخام بكميات وافرة تكفي لحاجة كل كائن حي؟ من قدر كميات هذه المواد بما يناسب حياة من عليها؟ من خلق هذه المواد الخام: (البذور، الماء، التربة الصالحة للزراعة، ضوء الشمس، ثاني أكسيد الكربون، المصانع الخضراء)؟ ومن وفرها؟ وما الذي كان يحدث لو كونت الأرض مع نقس مادة من المواد السابقة؟
قال تعالى :
?وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ?[فصلت:10].(1/33)
إنه لو زاد سمك الطبقة العليا من الأرض بضعة كليو مترات لاستهلك الأكسجين الموجود الآن كله في تكوين الزيادة في قشرة الأرض، وإذاً لما وجد نبات أو حيوان أو ثاني أكسيد الكربون. كما أن الأكسجين يكون 8و88% من وزن الإنسان في العالم ، والباقي أيدروجين ، فلو أن كمية الأيدروجين زادت الضعف عند انفصال الأرض لما وجد إذن أكسجين، ولكان الماء غامراً الآن كل نقطة في الأرض . ولو يطول اليوم قدر ما هو عليه عشر مرات لأحرقت الشمس كل نبات على وجه الأرض، فمن قدر الليل والنهار على الأرض ليناسب حياة من عليها؟!! مع العلم أن بعض الكواكب نهارها أطول من نهارنا عشرات المرات ، وبعضها قد أصبح جزء منها نهاراً دائماً ، والجزء الآخر ليلاً دائماً .
? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ?[القصص: 71، 72] .
ومن ينظم حركة الأرض مع الشمس بحيث استمرت المحافظة على أصول الأشعة الضوئية بالقدر المناسب للنبات ، وما على الأرض من أحياء ، فلو تبعد عنا الشمس نصف المسافة بيننا وبينها لتجمد كل كائن حي ولو تقرب نصف المسافة لاحترق كل حي؟!.
*ومن يتقن صناعة النبات بحيث يتمكن من استقبال المواد الخام في يسر وسهولة؟ ومن يوصل إليه هذه المواد الخام كما يحدث بالنسبة لنقل الماء إلى البخار ، وتصعيده ، وتكثيفه، وسوقه، وإنزاله، وحفظه، وإيصاله إلى حيث توجد الماصات الجذرية للنبات؟
*من سخر النبات وأمره أن يصنع المواد الوحيدة المعدومة التي تصلح لغذاء الحيوان والإنسان (بروتينات، نشويات ، دهون ، فيتامينات، أملاح) .
قال تعالى :(1/34)
?أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ?[الملك:21] .
*من أنشأ الملايين الملايين من تلك المصانع الخضراء الصغيرة التي تكسو وجه الأرض بلونها الأخضر الجميل؟ ومن يخلق هذه المصانع الفريدة في كل يوم مع كل نبات ينبت وكل ورقة تتكون؟ ومن منح ذلك المصنع الصغير تلك القدرة العجيبة على تحويل (أملاح التربة، والماء، وثاني أكسيد الكربون ، وضوء الشمس) إلى سكره؟! ثم تحويله إلى المواد المطلوبة لغذاء الإنسان والحيوان؟ ومن أخرج تلك المواد المصنوعة إلى تلك المخازن الغذائية (اللذيذة ليسهل على الإنسان الحصول على أكبر كمية من الغذاء في أصغر حيز؟
*ومن شق لك فمك وعلم أنه في بداية الجهاز الهضمي فزوده بأسنان عظيمة بارزة ، قاطعة، وممزقة، وطاحنة.. والعظام في الجسم مغطاة بلحم إلا في الفم حيث يجب أن تكون العظام مكشوفة؟! وعلم أن تقطيع الطعام وتمزيقه وطحنه وتليينه أمر ضروري لتسهيل انزلاقه في المريء إلى المعدة فخلق العضلات المحركة للأسنان ، وخلق ذلك القلاب الخلاط الماهر: ذلك اللسان ، وأنشأ تلك الغدد اللعابية التي تسكب في الفم لعاباً ، يقوم بجزء من الهضم كما يلين البلعة الغذائية ، ويرابط بلزوجته بين أجزائها؟ ما يا ذوي الألباب؟
قال تعالى :
? أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ?[البلد: 8، 9].
من خلق ذلك الفم بما فيه من أدوات في مكانه الصحيح ـ بداية الجهاز الهضمي ـ بالمواصفات المناسبة؟ من يا أولي الأبصار؟!!(1/35)
*وهيا لنقف قليلاً عند شرطي المرور (لسان المزمار ـ الغلصمة) الذي قف في الحنجرة لينظم دخول الهواء إلى قصبته ، ودخول الطعام إلى المريء ، وبغير خلق هذا الشرطي يحدث الخلل في سير الجهاز الهضمي ، والجهاز التنفسي ، ويموت الإنسان (بشرغة)!! فمن علم بتلك الحاجة الماسة لتلك الزيادة البارزة من لحم ودم (لسان المزمار ـ الغلصمة) ووضعها في المكان الوحيد في جسم الإنسان ـ الصالح لأداء وظيفتها ـ من علم ذلك الإنسان حيث لا يزال جنيناً في بطن أمه وأحاط علمه بأن ذلك الجنين سيخرج من ضيق الرحم إلى سعة الأرض، وأنه سيأكل ويتنفس، وأن الأكل والهواء سيمران من مكان واحد ، وأنه لا بد من إنشاء (لسان المزمار ـ الغلصمة) ، ليقوم بتنظيم سير الطعام والهواء فامتدت به قدرته الرحيمة، وأنشأت ذلك الشرطي الماهر من لحم ودم حسب الوصف المطلوب (تركيباً ، وحجماً ، ووزناً ، ووضعاً) في المكان المحدد المطلوب؟ ألا ترى أن ذلك كله قد تم بعلم وتدبير وحكمة، وتقدير دقيق؟ أم أن في عقلك خللاً كخلل عقول عصبية الجاهلية الذين زعموا أن ذلك قد حدث صدفة، ونشأ بدون علم أو فهم لما يقوم به من وظيفة ودور خطير!! وهل للحم والدم، أو القصبة الهوائية والمريء حكمة أو تدبير، أم أن رحم الأم ، هو صاحب تلك الحكمة البديعة والصنع الحكيم ، والتصوير الدقيق ، وأنه قد علم بما سيؤول إليه أمر الجنين بعد خروجه منه وعلم بحاجته إلى (لسان المزمار ـ الغلصمة) فأنشأه مقدماً؟! وهل يصح في الأفهام وصف الرحم بالعلم، والتفكير، والتدبير؟
قال تعالى :
? يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ?[الانفطار:6-8].(1/36)
*والمريء قصبة ذات حركات دورية وإفرازات مخاطية ، تعمل بإتقان لتسهيل نزول اللقمة ـ البلعة ـ إلى المكان المعد لها في المعدة ، فمن ربط هذه القصبة (المريء) بالمعدة؟ ولم يربطها بالكبد المجاور للمعدة أو غدة البنكرياس أو إحدى الرئتين؟ ألا يدل ذلك الربط الهادف أن خالق تلك القصبة خبير بما يخلق؟ وليس في الجلد أو العضلات حركات دورية ومخاط يفرز باستمرار ، أما في قصبة المريء من الداخل فذلك موجود لأنه بهذه الحركات الدورية المتجهة إلى المعدة وبتلك الإفرازات المخاطية ، تصل البلعة الغذائية بيسر وسهولة . فهل تم ذلك خبطاً عشوائياً؟ أم أنشء المريء بعلم وخبرة ليقوم بوظيفة محدودة، وهل حدد المريء لنفسه هذه المهمة؟ وهل له علم أو خبرة أو فكر أو تدبير؟ وهل يقدر أن يغير وظيفته حتى تقول : إن له حرية في ترك أو فعل؟
*وهذه المعدة تفرز (إنزيماً) يذيب اللحم ، فمن علم أن لحماً سيأتي إليها فخلق معها تلك الغدد المفرزة لهذا الإنزيم ، وهي بعد قطعة صغيرة من ذلك الجنين الذي يصل إليه غذاؤه جارياً ذائباً مهضوماً مع دماء الأم؟ ومع ذلك فالمعدة أيضاً تتكون من لحم. وإذاً فهذا الإنزيم يشكل تهديداً خطيراً للمعدة نفسها . فمن الخبير بخصائص هذا الإنزيم الذي صنع حائلاً من غشاء مخاطي بين لحم المعدة المخاطي ، من أنشأ هذا الاحتياط العجيب؟ فهل المعدة هي صاحبة هذا التدبير الحكيم، وهل تملك المعدة تفكيراً تحل به المشكلات ، وتصمم الاحتياطات ، وهل يعي ذلك الغشاء المخاطي دوره؟ أم أنه يقوم به كما حدد له خالقه، لا يملك لنفسه تبديلاً ولا تحويلاً . أم أن الخبط الأهوج، والصدف العمياء ، هي التي حددت الوظائف كل جزء في الإنسان ، ووضعت كل شيء في موضعه المناسب، وأقامت هذا النظام المحكم الدقيق كما يتوهم الكافرون؟
انظر ما يقوم أحد أساطين العلوم الحديثة..(1/37)
إنه "أ. كريسي موريسون" رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك ، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة سابقاً في كتابه المترجم إلى العربية "العلم يدعو للإيمان" : "..فأولاً نضع في هذا المعمل أنواعاً من الطعام كمادة غفل (خام) دون أي مراعاة للمعمل نفسه ، أو تفكير في كيفية معالجة كيميا الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم، والكرنب، والحنطة، والسمك المقلي، وندفعها بأي قدر من الماء.. وقد نضيف إلى كل ذلك كبريتا وعسلاً أسود، كدواء في الربيع. ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية ، دون مراعاة للفضلات ، ويعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة تصبح غذاءً لمختلف الخلايا ، وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود ، والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات, وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع.. وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ في العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض. ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمراً وأن لا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام، وأظافر ، ولحم ، وشعر وعينين، وأسنان ، كما تتلقاها الخلية المختصة .(1/38)
فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج عن المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان. وهاهنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم، ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام! .. ومثل هذه المجموعة من المعجزات لا يوجد، ولا يمكن أن يحدث بأي حال، في غيبة الحياة، وكل ذلك يتم في نظام كامل، والنظام مضاد إطلاقاً للمصادقة. أليس ذلك كله من صنع الخالق؟
*والأمعاء الدقيقة تستلم الغذاء من المعدة وبعضه نصف مهضوم كالمواد الزلالية (البروتينات) التي بدأ هضمها في المعدة ولم يتم فيفرز البنكرياس المادة الكيماوية الوحيدة على وجه الأرض التي تتم هضم المواد الزلالية وتحولها إلى أحماض أمينية . فمن الذي علم أن الأمعاء التي تخلق الآن في ظلمات الأرحام سيصلها في المستقبل غذاء نصف مهضوم من المواد الزلالية والنشوية، فأقام ترتيبات بين النكرياس وهذه الأمعاء تنظم التعاون بينهما لإكمال هضم المواد الناقصة بواسطة إفراز كيماوي (إنزيم) هو الوحيد الذي يعمل على إتمام الهضم؟ وهل يصدق عاقل إذا قيل له إن ذلك الاستعداد المناسب الذي هيئت به الأمعاء في ظلمات الأرحام قد كان بدون علم أو دراية لما سيأتي من المعدة من غذاء؟ وهل تعي الأمعاء هذا الدور الهام الذي تقوم به في سلسلة ترتيبات محكمة قد صممت لإيصال الغذاء الصالح إلى كل خلية في جسمك؟(1/39)
*والدم يستلم الغذاء من جدر الأمعاء الدقيقة، حيث الهضم قد تم بعد وصول الغذاء إلى الكبد ولا يأخذه من جدر المعدة مع أن العروق الدموية منتشرة في جدرها أيضاً فهل لدى الدم إدراك بأن الهضم لم يتم بعد، وأن عليه أن ينتظر إتمام الهضم الذي سيتم في الأمعاء الدقيقة؟ وما الذي كان يحدث لو طال انتظار الدم لإتمام الهضم حتى يخرج من فتحة الشرج دون أن يؤخذ منه الغذاء؟ فهل عرف الدم المكان الصحيح للامتصاص فوضع أجهزة الامتصاص في المكان المناسب؟ عجباً !! وهل للدم تفكير أو تدبير. وهل يوصف بعقل أو فهم؟ لا شك أن وصف الدم أو طبيعته أو وصف أي جزء من أجزاء جسم الإنسان أو طبيعته بشيء من هذه الصفات لا يختلف عن وصف الأوثان الصماء بالفهم والإدراك والإرادة ، لأن الجميع لا يملك لنفسه تبديلاً ولا تحويلاً . ولا ضراً ولا نفعاً.(1/40)
*وتلك العروق الدموية التي تكون أضخم وأعقد شبكة في العالم، من مدها إلى كل نقطة من الجسم؟ ومن ربطها بمحطة الضخ العاملة المجدة (القلب) وفروعها دون أن ينسى نقطة في الجسم؟ وهل تم مد تلك الشبكة الدموية في أجزاء جسم الإنسان بوعي أو إدراك أم تخبط ومصادفات؟! وهل تصدق إذا رأيت صورة لهذه الشبكة الدموية وقيل لك : إن هذه الخطوط المترابطة التي تشهدها قد ارتبطت مع بعضها في الصورة بواسطة تفاعلات كيماوية تمت بين الألوان وورق الصورة أو بمصادفات وضعت كل خطة في مكانه؟ إن مد شبكة مياه في إحدى القرى يحتاج إلى مهندسين وفنيين فمن مد هذه الشبكة الكبرى إلى كل نقطة في جسمك وأنت لا تزال جنيناً في ظلمات الرحم؟ وهل قام بذلك التوصيل المحكم الدم واللحم في عضلة القلب؟ وهل لدم أو اللحم وعي أو إدراك؟ أم أن ذلك جاء مصادفة؟ وهل يعي الدم لدوره وما يقوم به من أعمال؟ هل يعلم لماذا يدفعه القلب ليدور على كل نقطة في الجسم ولماذا يدور في الرئة فيأخذ منها (الأكسجين) ويلقي فيها (ثاني أكسيد الكربون) ويمر على الكبد فيأخذ منه (الأنسولين) المنظم لتركيز السكر في الجسم، ويمر على الغدد الصماء فيستلم منها إفرازاتها الدقيقة. ويمر على الأمعاء فيأخذ منها الطعام ويمر على الكلية فيسلمها البول، ويمر على الغدد العرقية فيسلمها العرق لتبريد الجسم عند ارتفاع حرارته يمر على كل جزء من جسم الإنسان فيعطيه حاجته. ويأخذ منه ما يجب توصيله من ذلك الجزء إلى أماكن أخرى في الجسم. فمن جعل هذا السائل الدموي يقوم بوظيفة موزع البريد الماهر؟ ومن حدد له العناوين؟ ومن ربط أعضاء الجسم وأجزاءه به ، وألهمها أنه المؤتمن على إفرازاتها ، وأنه الأمين الذي سيؤدي دوره، ومن قرر المعاش للدم الذي يمكنه من القيام بعمله؟ وأمده بالقوة المحركة الدائمة؟ ومن صمم القلب في غاية الإحكام ليقوم بتحريك الدم؟ وهل يعرف القلب الدور الخطير الذي يقوم به؟ وهل بيده أن يغير وظيفته؟(1/41)
وإذن فمن الذي يحركه؟!
إن كل عضو وكل جزء في جسم الإنسان يقوم بواجبه الذي لا يقدر على عمل شيء غيره؛ لأنه خلق وركب ليقوم بوظيفته المحددة فليس إلا آلة مسيرة، لا حرية لها ولا إرادة ولا اختيار. فمن الذي قدر سير هذه الأعضاء وحدد وظائفها ونظم بين أعمالها؟ ونسق بينها ذلك التنسيق الهادف المحكم الدقيق؟
قال تعالى :
? قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31)مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ? [عبس:17-32] .
*وسائل "اللمف" بعقده وأنابيبه ، أنه يقوم بتوصيل المواد المختلفة من الخلية إلى الشعيرات الدموية، ومن الشعيرات الدموية إلى الخلايا؛ فلماذا يقوم اللمف بهذه الخدمة للخلايا مجاناً؟ دون أن يعود عليه أي مقابل مباشرة من هذه الخلايا، فهل سخر سائل اللمف نفسه لخدمة الخلايا بإرادته ليحمل إليها الغذاء ويحمل منها الفضلات والبقايا؟ ومن ألهم الخلية وأعلمها أن سائل اللمف يقف على الأبواب فما عليها إلا أن تفتح الأبواب لاستلام التموين وإخراج الفضلات، فمن علمها إخراج الفضلات وإدخال التموين؟!
*وتلك الخلية النشطة العاملة النامية هل قررت القيام بما ألقى عليها من مهام البناء والعمل، ومقاومة الأمراض، بعد أن ضمنت باتفاقية مبرمة بينها وبين كل من يشترك في إعداد غذائها الخاص؟ إن كل الأطراف المعنية ستقوم بواجبها فلا داعي للتوقف أو الإضراب عن العمل!!(1/42)
وعليه فإن البذور ، والتربة ، والبحار، والرياح، والسحب، وحرارة الشمس، والأنهار ، والعيون، والمياه الجوفية ، والجذور النباتية، والمصانع الخضراء، والضوء القادم من الشمس، وتقلب الليل والنهار، وثاني أكسيد الكربون ، ورئات الحيوانات، وثغور الأوراق، ومخازن الغذاء، والأسنان، واللسان ، والغدد اللعابية، ولسان المزمار (الغلصمة) والمريء وحركاته الدورية وإفرازاته المخاطية، والمعدة (إنزيماتها) وغشائها المخاطي المبطن ، والأمعاء الدقيقة وخملاتها ، وإنزيماتها البنكرياس، والدماء وأنابيب الدماء (العروق والشعيرات) والقلب، واللمف وعقده وأنابيبه ، كل هذه المخلوقات قد قررت الوفاء بشروط الاتفاقية كل فيما خصه لإمداد خلايا الجسم بالغذاء. أم أن هذه المخلوقات تقوم بواجبها الذي قدر لها فقط. وأن هناك خالقاً قادراً عليماً مريداً خبيراً هو الذي خلق خلايا الإنسان محتاجة إلى الغذاء، وهو الذي خلق لها الغذاء وأحكم نظامه وقدر أسبابه. فمن الخالق الرازق؟ العليم الخبير؟ من إلا الله ..
*ألا تشهد كل هذه الأفعال المشاهدة والأحداث التي تقع أمام أبصارنا كل يوم أن لها خالقاً يصنعها؟
*أولا تشهد كل هذه التدابير المحكمة أنها من صنع حكيم مريد؟
*ألا تشهد هذه النظم الرحيمة بحياة الكائنات الحية أنها من فعل الرحيم؟
*ألا تشهد هذه الأقدار المعدة لتدبير أرزاق الكائنات الحية على وجه الأرض أنها من تقدير الرزاق المقيت؟(1/43)
*إلا يشهد هذا التساند والتنسيق بين كل المخلوقات التي تشترك في صنع وإعداد وتصيل الغذاء إلى كل خلية حية باستمرار أنه من فعل الرزاق الجامع العظيم المحيط علماً بكل ما خلق؟ وأنه خالق الشمس، والتربة والشعيرات الجذرية وأنه مقلب الليل والنهار، وخالق البحار والرياح والسحب والأمطار والأنهار ، وأنه خالق الأرزاق والمصانع الخضراء، وأن خالق تلك البطون الجائعة هو خالق الطعام وخالق الجهاز الهضمي ، والجهاز الدوري والدموي ، والجهاز اللمفاوي ، والجهاز الإخراجي، والجهاز الهضمي ، وأنه خالق واحد ورب واحد بيده مقاليد الأمور؟
بلى .. بلى .. إن كل ما سبق يشهد كما يشهد المسلم شهادة الحق الساطع أن ما سبق ذكره من أحداث وأفعال ، ونظم ، وأقدار من صنع الحكيم ، العليم ، الخبير ، الرحيم ، القادر، الرزاق، المريد، الواحد، الجامع، العظيم.
فمن الذي له هذه الصفات العظيمة، التي تركت آثارها وعلاماتها فيما نشاهده من صنعه وأفعاله؟
*أهو وثن أصم؟
*أم طبيعة عمياء بليدة؟
*أم صدفة عشوائية؟
*أم تفاعل كيماوي لا يملك تدبيراً ، ولا عقلاً ، ولا حكمة ، ولا إرادة ولا يملك لنفسه تبديلاً ولا تحويلاً؟
كلا ... كلا ... إن هذه الأوثان العاجزة لا تقدر على فعل شيء مما سبق بيانه من أفعال هادفة محكمة، وأحداث منسقة بديعة ، وإذن فليست هي الرازقة يا أولي العقول والأبصار.
إنه الخالق ربكم ورب كل شيء .. ليس شيئاً من هذه المخلوقات الضعيفة المشاهدة، إنه العلي العظيم ، الحكيم ، العليم ، الخبير ، الرحيم ، القادر ، الرازق ، المريد، الواحد الأحد، الجامع، العظيم، إنه الله المقيت الرزاق سبحانه. وبهذا تتحدث المخلوقات إلى عقولنا عن خالقنا وتشهد كما يشهد المسلم أنه الله الذي لا إله إلا هو. وصدق الله العظيم القائل:(1/44)
? أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ ?[الطور:35-37] .
الخلاصة :
*يحتاج الجسم إلى إمداد دائم بالمواد الغذائية وإخراج للبقايا والفضلات باستمرار ليتمكن من النمو والحركة ومدافعة الأمراض
*المعضلات الثلاثة في أمر تغذية خلايا الجسد هي:
1 – توفير مواد غذائية مخصوصة لا يوجد معظمها على وجه الأرض مستقبلاً .
2 – صنع كميات كافية لحاجة كل خلية حية على وجه الأرض .
3 – توصيل الغذاء إلى كلي خلية مهما كان موقعها في الجسم .
*يقوم النبات بصنع هذه المواد في صورة مواد خام ويقوم الجهاز الهضمي بتحويل المواد الخام إلى المواد المطلوبة، ويصنع النبات المواد الخام الغذائية من مواد خام قد وفرت منذ خلقت الأرض بكميات هائلة كالتربة والماء والضوء الشمس، أو توفر بكميات كافية في كل يوم كالبذور والأصول النباتية وثاني أكسيد الكربون والمصانع الخضراء .
*وقد رسمت طرق محكمة لتوصيل المواد الخام الأرضية إلى المصانع الخضراء داخل النبات، كما أعدت أجزاء من النبات لتخزين المواد الغذائية وتجميعها في أصغر حيز هي تلك الثمار اللذيذة.
*ولقد خلق الرزاق للإنسان وهو لا يزال في بطن أمه أجهزة كاملة تتعاون جميعاً لإيصال المواد الغذائية بعد تحويلها إلى مواد مناسبة إلى كل خلية في الجسد.
*وقد أعد الجهاز الهضمي بالأسنان واللعاب وعضلات المضغ واللسان والخلاط والقلاب والبلعوم ولسان المزمار (الغلصمة) (شرطي المرور) ، والمريء ذي الحركات الدورية والإفرازات المخاطية والمعدة ذات العصارات الهاضمة (الإنزيمات) والأمعاء المتصلة بالنبكرياس ، وعصارتها الهاضمة السابقة وخملاتها الممصتة (أنابيب الامتصاص) للغذاء .(1/45)
*وتصل دوريات الدم إلى الأمعاء حيث الغذاء المهضوم وحيث توجد المواد المناسبة لغذاء الخلايا، فيحمل معه هذا الغذاء ويدور به كل خلية حيث يحمله سائل اللمف من جدار الشعيرات الدموية إلى الخلايا ويسلم سائل اللمف والبقايا والفضلات التي يستلمها من الخلايا للشعيرات الدموية، لقتوم دوريات الدماء بإيصال كل من هذه البقايا إلى الأجهزة التي أعدت لإخراجها إلى خارج الجسم.
*ويشترك الجهاز العصبي في تنظيم هذه العمليات، وكل عملية من عمليات الجسم.
*إذا تفكرت في العمليات السابقة التي قد أعدت وأجريت، لتحقيق تغذية الخلية الحية، وإذا تأملت في المخلوقات التي قد سخرت للقيام بواجب صنع الغذاء المناسب وتوفيره بكميات هائلة وإيصاله إلى كلي خلية، وإذا نظرت إلى الخطوات المنسقة المترابطة المتتابعة التي تحدث كل يوم واحدة بعد أخرى للوصول بالغذاء إلى حيث الاحتياج له عرفت بعقلك، ووصلت إلى نتيجة منطقية هي أن خالق هذه العمليات الدقيقة المحكمة ومسخر تلك المخلوقات في إعداد الغذاء وتوفيره وتوصيله، ومنشئ تلك الخطوات المحكمة المترابطة المتتابعة التي تحدث كل يوم ـ لا شك ـ أنه خالق عليم ، حكيم ، جامع ، مريد ، رزاق ، رحيم ، خبير ، محيط ، قادر ، عليم ، واحد، أحد .
*وإذا تأملت في كل ما تشاهد من مخلوقات أو في أي وثن من الأوثان المزعومة: كالأصنام أو الطبيعة أو الصدفة أو التفاعل الكيماوي لم تجد من يمكن وصفه بالعلم والإرادة والحكمة، والرزق والرحمة والخبرة والإحاطة والقدرة والوحدانية فيجزم عقلك بأن ليس شيئاً من هذه المخلوقات الضعيفة العاجزة والأصنام البليدة هو صاحب تلك التدابير المحكمة والخلق العظيم الرائع وذلك ما تشاهد على أن خالقه هو غير هذه المخلوقات هو الله الرحمان الرحيم العليم الخبير القادر الرزاق الذي لا إله إلا هو. هو الله باعث الرسل وهادي العقول بآياته التي تملأ الآفاق.
حقيقة الإيمان وثمرته
الإيمان :(1/46)
الإيمان بالله يمثل أكرم صلة بين الإنسان وخالقه ، ومن ثم كانت الهداية إلى الإيمان أجل نعمة على الإطلاق، وليس الإيمان مجرد النطق باللسان ، والاعتقاد بالجنان[3]، وإنما هو عقيدة تملأ القلب وتصدر عنها آثارها كما تصدر عن الشمس أشعتها وكما يصدر عن الورد شذاه.
ثمرة الإيمان :
ثمرة الإيمان الأولى ، وأثره الأول : أن يكون الله ورسوله أحب إلى المرء من كل شيء وأن يظهر ذلك في أقواله وأفعاله وتصرفاته .
قال تعالى :
? قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ?[التوبة: 24] .
إن الإيمان لا يكمل إلا بالحب الحقيقي: حب الله ، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الشريعة التي أوحى بها إلى نبيه، وفي الحديث الصحيح، (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:
1 – أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .
2 – وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله .
3 – وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار.
وكما يتمثل الإيمان في الحب في الله يتمثل في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، والكفاح لرفع راية الحق ، والنضال لمنع الظلم والفساد في الأرض .
قال تعالى :
? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ ?[الحجرات:15] .
وأثر الإيمان يبدو واضحاً في خشية الله والخوف منه، فمن عرف الله وعرف عظمته، واستشعر جلاله وكبرياءه، وعرف تقصير نفسه في الواجب نحو ربه خشيه ، وخاف منه.
قال تعالى :(1/47)
? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ?[فاطر:28] .
وكلمات كانت المعرفة أكمل كانت الخشية أتم.
والإيمان يربط بين المؤمنين وبين الله برباط المودة والمحبة، ويحدد العلاقة بين المؤمنين وبين أعداء الله الذين يصدون عن الحق، وقد تجلت هذه الصفة في الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم . قال تعالى :
? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ?[الفتح:29] .
والعمل الصالح الذي تزكو به النفس، ويطهر به القلب ، وتعمر به الحياة أثر من آثار الإيمان، ولهذا يأتي الإيمان في الآيات القرآنية مقروناً بالعمل الصالح. فالإيمان إذا تجرد عن العمل الصالح كان إيماناً عقيماً، وكان كالشجرة التي لا تثمر ثمراً، ولا تمد ظلاً ، والعمل إذا خلا من الإيمان كان رياء ونفاقاً وهما من شر ما يصاب به الإنسان.
? وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ?[سورة العصر] .
وإذا عرف الإنسان ربه عن طريق العقل والقلب أثمرت له هذه المعرفة ثماراً يانعة وتركت في نفسه آثاراً طيبة ، وسلكت به طريق الخير، وبعثت في نفسه روح الشجاعة ، واحتقار الموت والرغبة فيما عند الله . ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه .(1/48)
ومن هذه الثمار تحرير النفس من سيطرة الغير، ذلك لأن الإيمان يقتضي الإقرار بأن الله هو المحيي المميت، الخافض الرافع، الضار النافع، قال تعالى معلماً رسوله صلى الله عليه وسلم :
? قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[الأعراف: 188] .
والإيمان يبعث على الاعتقاد بأن الله هو الرزاق، لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره.
قال تعالى :
? وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?[هود:6] .
وقال سبحانه :
? وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?[العنكبوت: 60] .
وقال عز من قائل:
? اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ?[العنكبوت:62] .
والإيمان يرفع من قوى الإنسان المعنوية ويربطه بمثل أعلى وهو الله مصدر الخير، والبر، والكمال.
وبهذا يرى الإنسان أن الخير والسعادة في النزاهة والشرف وهذا هو السر في اقتران العمل الصالح بالإيمان بالله.
الطاعة الشاملة لكل ما جاء من عند الله:
وإذا صدق إيمان المرء بربه وخالقه، المالك لكل صغيرة وكبيرة في هذا الوجود، وفي أنفسنا، فإن ذلك يثمر الطاعة الكاملة الشاملة للدين الذين جاء من عند الله .
قال تعالى :
? فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ?[النساء:65] .(1/49)
وقال عليه الصلاة والسلام : (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ويجب أن تكون طاعتك لدينك شاملة كاملة ولقد بين الله في كتابه حال المؤمنين والمنافقين فقال سبحانه:
? وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50)إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ?[النور: 47-51] .
وقال تعالى : ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ?[البقرة:208] . فيجب على المؤمن أن يستسلم لخالقه في كل أمر من أمور حياته، وأن يكون الدين الذي أرسله إليه ديناً لعقله ، وقلبه، وعينه ، وأذنه ، ويده، ورجله، وجسده، وبطنه ، وقلمه، ولسانه، وأيامه، ولياليه، ومساعيه، وأعماله.
الدعوة إلى دين الله :
والمؤمن الصادق معتز بدينه، يدعو الناس إليه .
? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ?[فصلت: 33].
وقال تعالى معلماً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدث بصفته وصفة أتباعه:
? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ?[يوسف:108] .(1/50)
وبهذا الكلام يكون هم الفرد المؤمن والمجتمع المؤمن نشر مكارم دين ربهم ، وبث محاسنه وفضائله، وبذل الجهد المستطاع في دعوة البشر كافة إلى الإيمان والدخول في دائرته حتى يكون ذلك الدين دين العالم بأسره .
وكما أن الحق لا ترضى طبيعته إلا أن يعيش قاهراً غالباً كذلك من صميم طبيعة عاطفة الحق أن لا يهدأ لها ضجيج ، ولا يقر لها قرار، حينما يتبين لها الحق، إلا بمتابعة الجهود. ومواصلة المساعي لإعلاء كلمة الحق، ورفع رايتها وغلبتها على كل باطل يقوم في وجهها وذلك واجب حمله الله المسلمين بقوله:
? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا?[البقرة: 143] .
ولن نكون شهداء على الناس كما أراد الله إلا بتبليغ دينه إليهم ، ولقد حمل أسلافنا الصالحون هذا الواجب فساحوا في الأرض شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً يعلون راية الإسلام ويرفعون لواء الإيمان فرددت أرجاء الأرض أصداء دعوتهم وهتاف إيمانهم: الله أكبر. ولا تزال تردد إلى يومنا هذا.
الاتباع وعدم الاتباع:
والمؤمن الصادق يعلم أن الله قد أكمل دينه بما أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فقال تعالى :
? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ?[المائدة:3] .
وما بعد التمام إلا النقص، وما بعد الهدى إلا الضلال. فمن زعم أنه سيضيف إلى الدين شيئاً جديداً فقد زعم أن الله لم يكمل هذا الدين ، ويكون بذلك من الكافرين والعياذ بالله، لأنه كذب بالآية السابقة، ومن كذب بآية واحدة فهو كافر .
ولذلك نجد المؤمن الصادق حريصاً على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ ?[آل عمران: 31] .
موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين:(1/51)
ومن صفات المؤمن الصادق ذلته على المؤمنين وعزته على الكافرين.
قال تعالى :
? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ?[المائدة:54] .
والمؤمن الصادق يعلم أن المؤمنين يسلكون طريق الجنة وأن الكافرين يسلكون طريقاً إلى النار فهو يكره السير في طريق النار ويبذل جهده للابتعاد عن هذا الطريق وأهله، وتراه يوثق صلته بالمؤمنين ويسير معهم في الطريق المستقيم . قال تعالى :
? أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?[التوبة:16] .
وقال تعالى :
? إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ?[المائدة:55].
وقال تعالى :
? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ?[التوبة:23] .
وقال تعالى :
? لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ?[المجادلة :22] .(1/52)
ومن صفات المؤمنين الصادقين حب كل مؤمن وخاصة السابقين إلى الإيمان من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الذين كان لهم فضل السبق إلى الإيمان به والنصر له والتأييد. قال تعالى :
? وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[التوبة:100] .
وقال تعالى :
? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ?[الحشر:10] .
العمل الصالح غذاء للإيمان :
وإذا كان العمل الصالح ثمرة للإيمان ، فهو أيضاً غذاء له ، كما أن النبات يصنع الغذاء ويتغذى على ما صنع . وإذا طرأ خمول على عمل الصالحات ولم يسارع المؤمن إلى التخلص من هذا الخمول فإنه لا يلبث أن يتحول إلى خمول دائم ويضمر الإيمان بقدر البعد عن عمل الصالحات .
قال تعالى :
? وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ?[الزخرف: 36، 37] .
وأما عمل الصالحات وجاهد نفسه وجاهد الباطل في سبيل الله فإن إيمانه يزداد قوة وقلبه يزداد هداية. قال تعالى :
? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ?[العنكبوت: 69] .
الخلاصة :
*الإيمان: عقيدة تملأ القلب وتثمر الأعمال الصالحة، وهو أجل النعم وأكرم صلة بين العبد وخالقه.
*يجب أن تظهر آثار الإيمان في الأقوال والأفعال .
*من ثمار الإيمان وعلاماته:(1/53)
1- أن يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمن مما سواهما .
2- أن يحب المرء لا يحبه إلا لله .
3- أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار .
4- الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس .
5- خوف الله ومراقبته وخشيته في السر والعلانية .
6- أن تحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك .
7- العمل الصالح هو الذي تزكو به النفس، ويطهر به القلب، وتعمر به الحياة.
8- التحرر من سيطرة الغير .
9- الإقدام والشجاعة وعدم الخوف إلا من الله .
10- حب الخير والمثل الرفيعة.
*بين الإيمان والعمل الصالح علاقة وثيقة فإذا قوي أحدهما قوي الآخر ومن أهمل عمل الصالحات لا يلبث أن يضمر الإيمان في قلبه ويموت .
الحاجة إلى الرسل وبيناهم
معرفة الخالق :
أنت أيها الإنسان مخلوق ، فهل عرفت خالقك؟ وهل عفت صفاته؟
معرفة المالك :
أنت أيها الإنسان لا تملك من نفسك شيئاً، لا تملك يدك، ولا عينك، ولا قدمك ، ولا أصغر عرق أو خلية من جسمك، لأنك لم تخلق شيئاً من نفسك، فهل عرفت مالكك الحق الذي يملك كل شيء فيك؟
معرفة المنعم:
أنت أيها الإنسان لا تملك الماء الذي تشرب ، ولا الهواء الذي تتنفسه، ولا الطعام الذي تأكله ، ولا الأرض الذي تسكن فيها ، ولا تملك شيئاً في كل ما تنتفع به وتستخدمه، وتتصرف به في هذا الوجود ، فهل عرفت مالك كل هذه النعم؟
معرفة الدين :
وأنت أيها الإنسان قد منحت مقدرة على عمل ما تشاء في هذه الأرض، وأعطيت صلاحية التعرف في كثير من الأشياء ، فهل عرفت من الذي استخلفك على هذه الأرض، ومن الذي خولك هذه الصلاحيات؟ وهل عرفت ما الذي يرضيه من عملك؟ وما الذي يغضبه من فعلك؟
? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ?[الشورى: 21] .
معرفة الحكمة من الخلق :
وأنت أيها الإنسان محدود المهلة على هذه الأرض ، وأيامك عليها معدودة، وأنت منها خارج كما دخلت عليها:(1/54)
? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ?[الأنعام: 94] .
فهل عرفت لماذا جئت إلى الدنيا؟ إن لأنفك حكمة ولم يخلق عبثاً ، وإن لعينك حكمة ولم تخلق عبثاُ ، وإن لقدمك حكمة ولم تخلق عبثاً ، وإن للعرق الصغير وللشعيرة الدموية في جسمك حكمة ولم يخلقا عبثاً ، ولكن هل علمت ما هي الحكمة من وجودك بأكملك؟ ولماذا جئت إلى هذه الدنيا؟ إنك لن تعرف إلا بتعليم من خالقك وحده ، لأنه هو الذي خلقك وفقاً لإرادته التي أرادها من خلقك ، ولن تعلم إرادته التي خلقك وفقاً لإرادته التي أرادها من خلقك ، ولن تعلم إرادته التي خلقك من أجلها إلا بتعليم منه وحده ، فإرادته سبحانه لا تعلم إلا بتعليم منه ، تماماً كما لا يعلم الناس بالحكمة من أي آلة أو جهاز إلا بتعليم من صانعها وحده .
الجاهلي الأكبر :
ولكي تفهم أهمية معرفة الحكمة من وجودك ما هو رأيك في الشخص الذي لا يعرف الحكمة من عينه. وما رأيك في الشخص الأكثر جهلاً منه الذي لا يعرف الحكمة من عينه وأنفه وأذنه. وما رأيك في الشخص الأكثر جهلاً الذي لا يعرف الحكمة من عينه ولا أنفه ولا أذنه ولا فمه ولا رأسه ولا يده؟ فهل علمت الآن من هو الجاهلي الأكبر؟ إنه ذلك الشخص الذي لا يعرف الحكمة من وجوده على هذه الأرض.
معرفة المصير :
وأنت أيها الإنسان سائر إلى ما سار إليه الأولون ، ومنتقل من هذه الدار كما انتقلت من دار الرحم الصغير ، إلى هذه الدنيا ، فهل عرفت إلى أين المصير؟ وما الذي ينتظرك بعد موتك؟!!
معرفة أسباب النجاح:
وأنت أيها الإنسان لا شك محاسب أمام من استخلفك ، ولا بد أن تجد جزاء عملك الذي علمت في هذه الدنيا ، وأنه لا يمكن لك أن تعلم ما هي الأعمال المرضية لخالقك وما درجتها عنده؟ وما ثوابها؟ ومثلها الأعمال السيئة التي تغضبه سبحانه؟ وما مقدار سوئها؟ وما عقابها؟ فهل تعرف شيئاً من ذلك أيها الإنسان؟(1/55)
الحاجة إلى الرسل:
إن كل العلوم السابقة تمثل تحدياً للإنسان فمهما أوتي إنسان من ذكاء؛ فإنه لا سبيل إلى معرفة أي شيء مما سبق، إلا بتعليم من الخالق المالك المنعم المحاسب المتصرف، فكل ما سبق لا يمكن لإنسان أن يعرفه إلا بهدي الخالق وحده، لذلك فالبشرية في أمس الحاجة إلى هؤلاء المرسلين ، الذين يطلعهم الله على تلك العلوم السابقة لتعليمها وإبلاغها للناس .
قال تعالى :
? عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ?[الجن:26، 27] .
مقتضى الكمال الإلهي:
وإذا كنا نقرر عجز وتقصير أي شركة صناعية ، لا ترسل البيانات الموضحة لفائدة وعمل مصنوعاتها ، عند إرسال هذه المصنوعات للناس، فإن خالق الإنسان المفكر هو الكامل الذي يعجزه ولا ينقصه شيء، ومن كمال قدرته وحكمته أنه لا يخلق إنساناً مفكراً متسائلاً عن خالقه، وصفاته، والحكمة من خلقه ومصيره، وغيرها ثم يتركه لحيرته دون هدى أو بيان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال تعالى : ? رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ?
بينات الرسل :
ولكي لا يكذب أحد رسل الله ، ولكي لا يدعي كاذب النبوة والرسالة ، أيد الله رسله ببينات تشهد لهم أنهم رسله، وتميزهم عن غيرهم ، وتقوم بهذه البينات والدلائل الحجة على الناس .
قال تعالى :
? لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ?[الحديد:25].
فإذا حاج الرسول بعد هذه البينات وخاصمه جاحد ومكابر أجابهم مستغرباً :
? أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي ?[الأنعام:80] .
ووصفهم كما وصفهم الله :
? بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ?[يونس:39] .
من بينات الرسل :(1/56)
وهذه أمثلة من البينات التي أيد الله بها رسله ، فلقد أيد الله رسوله صالحاً عليه السلام المرسل إلى ثمود بالناقة .
قال تعالى : ? وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ?[الإسراء:59] .
ذلك أن ثمود طلبوا من رسولهم صالح عليه السلام: أن يخرج لهم ناقة من الصخر لتكون دليلاً على صدق نبوته ورسالته ، فأخرج الله لهم ولكنهم لم يؤمنوا بأجمعهم وما آمن له إلا القليل.
وأما سيدنا إبراهيم عليه السلام ، فقد ألقاه أعداؤه في النار، ولكن الذي قدر في النار خاصية الإحراق، أنقذ رسوله من كيد الكافرين .
قال تعالى :
? قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68)قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?[الأنبياء: 68، 69] .
وأما سيدنا موسى عليه السلام ، فقد أيده الله بتسع آيات بينات عندما أرسله إلى فرعون ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ?[من سورة الإسراء:101] .
وقال سبحانه :
? وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ?[النمل: 12-14] .
أما سيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ فقد أرسله الله ببينات ذكرها القرآن :(1/57)
? إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ? [المائدة: 110] .
وربما كان لهذه البينات القوية ، كإحياء الموتى التي أيد الله بها عيسى عليه السلام فهم معكوس أعان الجهلة والمحرفين على وصف عيسى أنه ابن الله ـ استغفر الله ـ تلك بعض آيات الله التي أيد الله بها رسله ليعرف الناس ويستيقنوا ، بصدق رسالة الرسل والأنبياء . وأنت تجد هذه البينات قد قامت على أساس أن يستصحب الرسول معه أشياء لا يملكها إلا الله ، حتى يكون ذلك دليلاً على أنه مرسل من لدن صاحب ومالك هذه الأشياء ، تماماً كما ترسل بعض الحكومات مندوبيها ومعهم مصفحات أو سيارات شرطة وضباط وجنود، فيكون ذلك دليلاً كافياً على أن المندوب قد أرسلته الحكومة، وأيدته بما تملك وحدها فيكفي ذلك في تصديقه .
السجل الصادق
وإذا سأل سائل ما هي معجزات محمد صلى الله عليه وسلم وبينات رسالته التي آمن بها الناس والتي يمكن أن يؤمن بها الناس اليوم؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف الحقيقة الآتية وهي :(1/58)
إن المعجزات والبينات التي أجراها الله على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال ظاهرة إلى يومنا هذا شاهدة برسالته كما ستتضح بعد هذا ، إلا أن البينات والمعجزات التي أجراها الله على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي انتهت بانتهاء زمن حدوثها كتأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرياح والملائكة ، وكنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم هذه المعجزات والبينات قد سجلت في سجل صادق لا يشك فيه العاقل .
أولاً : القرآن الكريم :
لقد سجل القرآن في صفحاته بعض المعجزات التي حدثت وشاهدها الناس فلقد كان ينزل القرآن منجماً على حسب الأحداث ، ذاكراً لها ، معقباً عليها ، شارحاً لأسبابها مستخلصاً للعبر منها:
قال تعالى :
? لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ?[الأنبياء : 10] .
ولا بد أن يعتقد كل عاقل أن ما سجله القرآن من الأحداث حق لا ريب فيه، حتى ولو لم يكن مسلماً . ذلك القرآن عندا يذكر مثلاً أن الله شتت جموع الأحزاب التي تجمعت لاستئصال المسلمين، ربما أرسل الله عليهم من رياح وجنود لم يرها الناس وأدركوا آثارها .
قال تعالى :
? اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ?[الأحزاب:9] .
وعندما يسجل القرآن هذه المعجزة البينة ، ويسمع المؤمنون والكافرون ما سجله القرآن أثناء تلاوة القرآن في الصلاة أو المجالس وحلقات العلم ، فإن كان ما سجل حقاً فإن المؤمنين يزدادون ولاء للإيمان .
ولا يجد الكافرون إلا الصمت أو الإيمان . أما لو سجل القرآن ما لم يقع . فسيقول الذين آمنوا به : انظروا أيها الناس فيما يزعم محمد: إنه يزعم أن رياحاً وجنوداً قد سلطت علينا، ولم يحدث شيء من ذلك ، فكيف نؤمن به ونصدق ما يقول وقد ظهر كذبه!!(1/59)
غير أن الذي حدث هو أن ازداد المؤمنون إيماناً وشكراً لنعمة ربهم ، وتحول الكافرون من عنادهم، وكفرهم، إلى الإسلام وحقائقه الساطعة .
ولقد كان عبدالله بن رواحة أحد الصحابة ينشد قائلاً :
وفينا رسول الله يتلو كتابه
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
... ... إذا انشق مكنون من الفجر ساطع
به موقنات إن ما قال واقع
كما أن كل عاقل يجب أن يطمئن أن القرآن الذي يقرؤه اليوم هو نفس القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فلو أخذ هذه الآية التاسعة من سورة الأحزاب وذهب إلى لندن وباريس، وموسكو، وواشنطن، وبكين ، وتل أبيب ، وقرى في أذغال إفريقيا ، ومكة المكرمة وأخذ مصحفاً من كل هذه الأماكن ، وفتح على سورة الأحزاب ، بل وما بين دفتي المصاحف جميعاً كلام واحد لم يتغير ولم يتبدل .
قال تعالى :
? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?[الحجر:9] .
ثانياً : الحديث النبوي :
لم يوجد رجل في العالم كرسولنا صلى الله عليه وسلم ، اهتم جيله بحفظ أحاديثه كلها عن ظهر قلب، وتدارسها كل يوم ، وعقد حلقات العلم لتدارسها وتعليمها للأبناء ، وإقامة المدارس لمدارستها، وخضوع الناس لمن يحفظ أكبر قدر منها كأئمة المذاهب ، وقيام المئات من رواة الحديث يقضون أعمالها في جمع هذه الأحاديث ، وترتيبها ، وتدوينها ، والسفر من بلاد إلى بلاد للمطابقة بين الأحاديث ، والتحري من ألفاظ الحديث، ورواته وسيرتهم وذلك كالبخاري ومسلم والنسائي وأحمد والترمذي وأبي داود وغيرهم، حتى وجد الرسول صلى الله عليه وسلم بأسانيدها ودرجاتها. ذلك لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم جزء من الدين الذي ينظم السلوك اليومي للمسلم في صلاته وصيامه وزكاته وحجه ، وبيعه وشرائه وزواجه وطلاقه ، وعلاقاته بأسرته وجيرانه كما يوضح للمسلم ما الذي يجب عليه نحو ربه وأمته . هذا الحديث النبوي الذي لقي من المسلمين هذا الاهتمام بعد أن أمرهم ربهم بقوله:(1/60)
? وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ?[الحشر: 7] .
هذا الحديث النبوي المدون المضبوط ، وثيقة تاريخية ، يقف العاقل أمامها موقف التقدير والاحترام. وسنجد في هذه الوثيقة التي دقق في حفظها معجزات وبينات قد أظهرها محمد صلى الله عليه وسلم للناس . وعلى أساسها آمن الناس وصدقوه .
السيرة النبوية :
وإذا أردت أن تعرف أهمية السيرة النبوية في تسجيل الحقائق ، وأدق تفاصيل وأعمال حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فنأمل في أعظم زعيم اليوم. وسل نفسك هل تعرف اسم أمه أو جده أو بنته؟! وهل تعرف أين ولد هذا الزعيم، وأين تربى ، ومن أرضعته ومن كفله، ومن هم أصحابه، وما أسماؤهم، وكيف كانت بداية صداقته معهم، وما الذي يحب هذا الزعيم من المأكل والملبس والمشرب؟ وما هو رأي هذا الزعيم في أمور الحياة بأجمعها؟ عندئذ أن هناك ألغازاً في حياة الزعيم أنت تجهلها ، بالرغم من الكتب والصحف والإذاعات التي تتحدث عن هذا الزعيم.. وستجد أنك تعرف هذه الأمور بالنسبة لحياة سيدنا محمد صلى الله بل ستجد كتباً قد خصصت لوصف وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقامته ولونه ، وملبسه ، وشكل حداثة ، وأدق تفاصيل حياته ولست وحدك. بل إن ملايين البشر في كل بقاع الأرض في كل زمن قد علموا بكل تفاصيل حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أدق وأوضح سيرة على وجه الأرض. ولسنا نعرف رجلاً اشتغلت الملايين في قرنه وعهده وما بعدها من قرون، بتفاصيل أعماله ودقائق أفعاله لتجعلها منهاجاً للحياة وشريعة للناس وأدعية في الصلاة والعبادات كما حدث ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد أحصيت آثاره ، ونقدت بحذر ومحصت بدقة، وسبب هذه العناية بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتسجيل كل ما دار وحدث له عليه الصلاة والسلام، أن الاشتغال بهذه العلوم عبادة يؤجر صاحبها وتقربه إلى الله ، وترفعه منزلة اجتماعية ،(1/61)
وتكسبه تقديراً وحباً بين الناس. ونحن نجد أن بعض المعجزات والبينات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم والتي انتهت بانتهاء وقوعها قد سجلت لنا في سجلات صادقة هي: القرآن الكريم والحديث النبوي، والسيرة النبوية، ويمكن لأي إنسان أن يقف على هذه البينات والمعجزات من خلال هذه السجلات الصادقة.
حملة ثقات:
وإذا كانت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حفظت في سجلات صادقة فإن حملتها هم أوثق من عرفته البشرية، لأن البلاد التي فتحها المسلمون قد أجمعت في شهادتها بصدق إيمان الفاتحين الأرض. فالتحق بهم ودخلت في دينهم، وقاتلت معهم ، وانتسبت إليهم، وتعلمت دينهم ولغتهم ولا تزال إلى يومنا هذا تمجد ذلك اليوم الذي تم فيه فتح أرضها على أيدي المسلمين وخاصة أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذين علمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وزكاهم وطهرهم بتوجيهاته وتحت إشرافه، وإذا كانت الأمم قد شهدت للفاتحين من الصحابة والتابعين بصدق الإيمان فانقادت لهم محبة وإكباراً فإن هؤلاء الفاتحين قد شهدوا لعلمائهم الضابطين الأتقياء ووثقوهم بانقيادهم لهم ، واعترافهم بكرامتهم وفضلهم ، وهؤلاء العلماء الضابطون هم الذين حملوا الدين ، وصان الله بهم القرآن وثبت بهم الحديث والسيرة . ويكفينا ما شهد الله به لأصحاب رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لنعرف مقدار الدرجة التي وصلوا إليها وأن الله سبحانه قد هيأهم لحمل دينه إلى العالمين . قال تعالى :
? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ? [آل عمران: 110] .
وقال تعالى :
? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا?[البقرة: 143] .
وأخبر المولى أنه قد هيأ هذا الجيل لحمل الرسالة فقال سبحانه:(1/62)
? وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ?[الحجرات: 7] .
وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :
? هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ?
وقال سبحانه مبيناً صدق إيمان هؤلاء الصحابة والتابعين وتابع التابعين الذين حملوا هذا الدين فمكن الله لهم في الأرض واستخلفهم .
? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ?[النور: 55] .
وهذه الأمة الراشدة الصادقة الوسط هي التي حملت هذا الهدى .
الخلاصة :
*إن جهل الإنسان بخالقه ، ومالكه. والمنعم عليه، والدين الذي يرضي ربه، والحكمة من خلقه، ومصيره الذي يسير إليه بموت ، وأسباب النجاح التي تنجيه عند ربه وأسباب الخسران في آخرته. إن الجهل بكل ذلك لا يزيله إلا هدي يأتي من عند الله .
*إن العدل والكمال الإلهي يقتضيان إرسال البيان الشافي لمن خلقهم الله من بني الإنسان المتسائلين عما سبق بيانه .
*ولكي تقوم الحجة على الناس ، ولكي لا يدعي النبوة دجال ، أو كذاب ، فإن الله يؤيد رسله ببينات واضحة ، ومعجزات لا تأتي لبشر تشهد لهم بصدق الرسالة والنبوة .
*من أمثلة بينات الرسل السابقين، ناقة صالح ، ونار إبراهيم، وآيات موسى التسع ، وإحياء عيسى للموتى، وشفاؤه للأعمى ، وغيرها من البينات الأخرى .(1/63)
*ولقد أيد الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ببينات كثيرة ودلائل دائمة، ومعجزات متعددة، لا تزال باقية ظاهرة ، وأما تلك التي انتهى حدوثها في زمانه ، كتسخير الرياح له ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام القليل فقد سجلت في سجلات صادقة .
*يعتبر القرآن سجلاً صادقاً للأحداث التي وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان ينزل منجماً حسب الحوادث ، وكان ما يسجله عن الأحداث لا يتشكك فيه مؤمن، ولا يعارضه كافر، ولو سجل فيه ما لم يقع لعارضه الكافرون، وتشكك فيه المؤمنون .
*ويعتبر الحديث النبوي سجلاً صادقاً أيضاً فلقد كان هم المسلمين حفظ كل حديث يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل موافقة منه لأن ذلك جزء من دينهم الذي ينظم سلوكهم الشخصي، وعلاقاتهم بربهم، وأهلهم، وجيرانهم الذي ينظم سلوكهم الشخصي، وعلاقاتهم بربهم، وأهلهم, وجيرانهم ومجتمعهم وكان من يقضي عمره من المسلمين في الاشتغال بعلوم الحديث، ينال الدرجة العالية بين الناس ، وينال رضاء ربه .
*والسيرة النبوية أوضح وأدق سيرة عرفت للإنسان على وجه الأرض فليس فيها غموض، أو لبس، بل هي أوضح بعشرات المرات من سيرة أشهر الزعماء المعاصرين، وقد محصت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بدقة ، وعكف عليها دراسة ، وحفظاً ، وتمحيصاً عبر القرون، وهي بهذا سجل صادق لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه .
*ولقد حمل هذا الهدى رجال ثقات شهدت لهم الأمم التي كانت تعيش معهم إيمانهم، وصدق قولهم، فاتبعت دينهم وما زالت تتابعهم إلى اليوم، كما شهد القرآن الكريم بصلاحية وصدق هؤلاء الحملة لدين الله من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
إشعار سابق
قال تعالى :
? وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ?[الشعراء:196] .
إشعار سابق :(1/64)
من بينات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بينة سابقة لظهوره لا دخل له فيها، تلك البينة هي الإشعار السابق من الله سبحانه للناس في الكتب الإلهية السابقة. بأنه سيرسل رسولاً بعد عيسى عليه السلام، حدد الله مكانه وبين علامات زمانه، ووضح أوصافه هذا الرسول لكي يعرف بها عند ظهوره، وعندما بدأت أمارات الزمن تظهر ، أخذ الأحبار والرهبان من اليهود والنصارى يعلنون عن قرب ظهور النبي المنتظر، وبينما الناس ينتظرون ظهور هذا النبي إذا به يظهر في المكان المحدد وفي الوقت المعلوم، ويأتي علماء النصارى وأحبار اليهود، فيتفرسون في أوصافه صلى الله عليه وسلم، فيعرفون انطباق كل الأوصاف عليه فيعلن الكثير منهم إسلامه وإيمانه ومفارقة دينه، وتحوله إلى الدين الجديد، تلميذاً متعلماً بدلاً من العالم المعلم، وفرداً وتابعاً بدلاً من زعيم متبوع، حتى حاج القرآن المشركين بإسلام هؤلاء العلماء من بني إسرائيل:
? أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ?[الشعراء:197] .
? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ?[القصص: 52، 53] .
زمن ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/65)
1 – حرفت التوراة والإنجيل فانعدم وجود التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام، وبقي لدى اليهود أسفار يدعون أنها التوراة ، وليست إلا كتابات قام بها بعض علمائهم، وينقص هذه الأسفار وجود سند متصل إلى ـ موسى عليه السلام ـ كما أن إنجيل عيسى ـ عليه السلام ـ قد اختفى وضاع من بين أيدي المسيحيين ، واستبدل بدلاً عنه سبعون إنجيلاً اختصرت أخيراً إلى أربعة أناجيل هي : إنجيل متى ، إنجيل مرقص ، إنجيل لوقا، إنجيل يوحنا. وأنت ترى أن كل إنجيل قد نسب إلى صاحبه الذي كتبه. فهذه الأسفار والأناجيل بمثابة سيرة لموسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ وهي أيضاً سير ليست صحيحة كلها ، أو ملزمة ، وقد احتوت التوراة والإنجيل. وبلغ الضياع الديني أوجه عندما انقسم النصارى إلى فرق متعددة يكفر بعضها بعضاً، وكل منهم لا يستند على شيء ثابت كما بلغ الصراع بين اليهود والنصارى درجة كبيرة كل يسفه الآخر ويسخر ، ولقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف:
? وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ? [البقرة:113] .
وهكذا خلا العالم من هدى الله ، وتخبط الناس في ظلمات الجاهلية المشركة أو الوثنية ، وهكذا بدا لكل من يعرف سنة الله في خلقه أنه لا بد للهادي سبحانه أن يبعث نوراً يهدي به الناس إلى طريقه القويم ، ولقد جاء في إنجيل (برنابا) في الفصل الثاني والسبعين على لسان عيسى عليه السلام مخبراً للحواريين عن زمن مجيء الرسول الذي من بعده قائلاً : (إنه لا يأتي في زمنكم بل يأتي بعدة سنين حيثما يبطل إنجيلي ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمناً. في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء) .
كثرة أخبار ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم :(1/66)
لما ظهرت علامات الزمان الذي سيظهر فيه الرسول المنتظر. أخذ الأحبار والرهبان لهم اطلاع يكثرون من الإعلان عن قدوم الرسول المنتظر، وقد حفظ القرآن ، وكتب الحديث والسيرة طرفاً من هذه الأخبار.
فهذا سيف بن ذي يزن الحميري يبشر عبدالمطلب بأنه سيأتي من نسله النبي المنتظر بعد أن استمع إلى نسبة المتصل بإسماعيل عليه السلام .
وهذا زيد بن نفيل وجماعة من أصحابه ، قد خرجوا عن دين إبراهيم فوصل زيد إلى راهب بالشام قال لزيد: إنك لتطلب ديناً ما أنت بواجد من يدلك عليه ، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم فالحق به .
وهذا قس بن ساعدة الإيادي يقول في خطبة له في سوق عكاظ : (إن لله ديناً هو أحب من دينكم ـ يتحدث لقومه العرب ـ ونبياً قد حان حينه وأظلكم أوانه) . أما يهود المدينة فقد أكثروا من الإعلان بمقدم النبي المنتظر وكانوا يتوعدون العرب المشركون بظهوره ، وبأنهم سيتبعونه ويقتلونهم معه قتل عاد إرم . ولقد سجل القرآن موقف اليهود هذا ، وواجههم به ، واحتج عليهم بما كانوا يقولون قبل نزول القرآن، وأخذ المسلمون بدورهم يحاجون اليهود، فلا يجد اليهود إلا أن يعترفوا أمام المؤمنين. وإذا خلا بعضهم إلى بعض تلاوموا. لقد كان اليهود يقولون إذا دهمهم أمر: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة . وسجل القرآن الكريم استفتاح اليهود هذا على العرب المشركين عندما يظهر النبي المنتظر بقوله:
? وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ?[البقرة: 89] .
كما سجل القرآن الحوار والجدال اللذين كانا يدوران بين المسلمين واليهود حول ما كان اليهود يعلنون من أن نبياً سيظهر .
قال تعالى :(1/67)
? وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ? [البقرة:76، 77] .
فلقد كان اليهود يعترفون بما كان منهم سابقاً ، ويؤكدونه ، وهم يعلمون أن ذلك سيكون عليهم حجة عند ربهم لعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لذلك كانوا يلومون بعضهم على ما كانوا يقولون للناس الذين سيشهدون عليهم يوم القيامة بأنهم يعرفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما آمنوا به ـ فكانوا يصفون أنفسهم على فعلهم هذا بالجنون (أفلا تعقلون) ، ويرسمون طريقاً آخر لكتمان الحقيقة بعدم التحدث عما في التوراة من بشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يعتقدون أن الله لا يحاسبهم إلا بما شهد عليهم به الناس .
? أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? .
وهذه المدينة يسلم أهلها قبل إسلام أهل مكة . مع طول لبث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ، بسبب ما كانوا يسمعون من جيرانهم من اليهود ـ سكان المدينة ـ من أوصاف وبشارات بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فلقد كان ما قاله أول وفد أسلم من المدينة عندما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم : إن هذا والله للنبي الذي توعدكم به (يهود) فلا يسبقنكم إليه .
المتحققون :
1 ـ الراهب (بحيرا) :
عندما خرج محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب أثناء سفره الأول إلى الشام، التقيا بالراهب بحيرا الذي تفرس في محمد صلى الله عليه وسلم ورأى معالم النبوة في وجهه ، وبين كتفيه فسأل أبا طالب :
الراهب : ما هذا الغلام منك؟
أبو طالب : ابني .
الراهب : ما يغبني أن يكون أبوه حياً !(1/68)
أبو طالب : فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به .
الراهب : صدقت ارجع به إلى بلدك واحذر عليه (يهود)[4] .
2 ـ الراهب (نسطورا) :
وكما تعرَّف بحيرا على محمد النبي أثناء رحلته الأولى إلى الشام، تعرف عليه أيضاً الراهب (نسطورا) الذي رأى الغمامة تظله ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
قال تعالى :
?أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ?[المؤمنون : 69] .
3 ـ نجاشي الحبشة (أصمحة) :
عندما سمع النجاشي بعضاً من آيات القرآن يتلوها عليه جعفر بن أبي طالب بكى حتى اخضلت لحيته وقال : (إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة)[5] ولهذا كانت الحبشة مأوى للمسلمين في هجرتهم الأولى والثانية إذا ضاقت بهم أرض العرب ، ولما وصل عمرو بن أمية الضمري بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يدعوه فيه إلى الإسلام ، وضع النجاشي على رأسه ونزل من على سريره تواضعاً ، وكتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً يعلن فيه: أنه قد آمن. وأرسل النجاشي وفداً من النصارى كان فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام هم: بحيرا الراهب ، وإدريس ، وأشرف وأبرهة ، وثمامة فبكوا حين سمعوا القرآن. وفي هؤلاء العلماء من النصارى الذين اغرورقت عيونهم بالدمع عند سماعهم القرآن نزل قوله تعالى :
?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ?[المائدة : 82، 83] .
4 ـ وفد علماء النصارى إلى مكة :(1/69)
عندما سمع النصارى بظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم أرسل النصارى وفداً إليه مكوناً من عشرين شخصاً فلما جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وسمعوا القرآن وأجوبة الرسول صلى الله عليه وسلم على أسئلتهم ، فاضت أعينهم بالدمع وأسلموا. فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطل مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم! ما نعلم ركباً أحمق منكم ـ أو كما قال لهم ـ فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نألوا أنفسنا خيراً . وفي هذا الوفد نزل قوله تعالى مسجلاً الحادث :
?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ(52)وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53)أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54)وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ?[القصص: 52-55] .
عبدالله بن سلام :(1/70)
وهو من كبار أحبار اليهود ، لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توجه إليه عبدالله بن سلام يتحقق من العلامات فلما تحقق أعلن إسلامه، ولكنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتم إسلامه حتى يسمع رأي اليهود فيه، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وأخذ يسألهم عن صاحبهم عبدالله بن سلام ـ وعبدالله مختبئ في مكان قريب ـ فقالوا : إنه سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا ، فخرج عليهم عبدالله بن سلام ودعاهم إلى الإسلام والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، فرفضوا واستكبروا وفي هذا العالم اليهودي نزل قوله تعالى مخاطباً العرب:
?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ?[الأحقاف: 10] .
6 ـ زيد بن سعنة :
وهو من أحبار اليهود الذين أسلموا : لنتركه يروي بنفسه قصة إسلامه قال : لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه[6]:
1 ـ يسبق حلمه جهله .
2 ـ ولا تزيده شدة الجهل إلا حلماً .
فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فابتعت منه إلى أجل فأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيت فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله يا بني عبدالمطلب لأنتم قوم مطل (مماطلون) .
فقال عمر : يا عدو الله ، أتقول لرسول الله ما أسمع؟ فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك .
ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر عمر في سكون وتؤدة ، وتبسم ثم قال :(1/71)
(أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر . أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن الاقتصاء، اذهب يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعاً مكان ما روعته ـ أي بدل ترويعك له ـ ففعل.
فقلت : يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما :
يسبق حلمه جهله .
ولا تزيده شدة الجهل إلا حلماً .
فقد خبرتهما ، فأشهدك أني قد رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً[7].
7 ـ سلمان الفارسي :
ولما سمع سلمان الفارسي بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ذهب للقائه وأخذ يمتحن فيه ثلاث علامات :
1- لا يأكل الصدقة .
2- يقبل الهدية .
3- علامة على ظهره كبيضة .. أمارة جسدية بأنه النبي المنتظر ، وكان قد تعلم هذه العلامات من راهب الشام .
فقدم سلمان حفناً من تمر للرسول صلى الله عليه وسلم وقال له : هذه صدقة ، ففرقها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ولم يأخذ منها .. هذه واحدة .
ثم عاد سلمان بحفن آخر وقال له : هذه هدية ، فأخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال سلمان وهذه الثانية ، ثم أخذ سلمان يحاول رؤية ختم النبوة في ظهر النبي صلى الله عليه وسلم حتى رآه فأعلن إسلامه .
8 ـ مخيريق اليهودي :
وهذا مخيريق اليهودي يتحقق من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيعلن إسلامه ويحارب معه، ويقدم الدليل على إيمانه بأن يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ماله له إن هو قتل في المعركة، فاستشهد رحمه الله ، وكان ما له من بعده صدقة لفقراء المدينة .
إن ما سبق ذكره أمثلة فقط للآلاف والملايين من أهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم وإسلامهم ذكره أمثلة فقط للآلاف والملايين من أهل الكتاب الذين أعلنوا إيمانهم وإسلامهم عن طواعية ورضا. وذكر القرآن مواقف بعضهم محتجاً على الأعراب الذين لا يزالون يكابرون في الحق .
قال تعالى :(1/72)
?أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ?[الشعراء:197] .
وقال تعالى :
?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?[البقرة: 146] .
تغيير اليهود والنصارى للبشارات :
بعد أن ظهر محمد صلى الله عليه وسلم غير اليهود والنصارى البشارات وبدلوا حتى لا تبقى للمسلمين عليهم حجة . يقول المؤرخ الإنجليزي الشهير (جيبون) في (ج5) من كتابه: إن الأحبار والرهبان صوروا وبدلوا بعد ظهور الإسلام نصوصاً كثيرة في التوراة والإنجيل . ويقول المسيحي الذي هداه الله بشرى زخاري ميخائيل في كتابه (محمد رسول الله هكذا بشرت الأناجيل) : إن الرهبان قد حرفوا وبدلوا ويظهر ذلك من اختلاف الطبعات للإنجيل بفعل أيدي الرهبان حذفاً وتحريفاً . ويبين لنا أحد رجالات المسيحية أنفسهم هو الأب عبدالأحد داود الأشوري (مطران الموصل) في كتابه ( الإنجيل والصلب) نحواً من هذا التحريف الذي حصل فيشير إلى عبارة (الحمد لله من الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة) لم تكن هكذا من الأول بل كانت : (الحمد لله في الأعالي ، وعلى الأرض إسلام ، وللناس أحمد) فانظر كيف فعل التحريف باسم محمد واسم الدين .
بقايا نور :
وبالرغم من التحريف والتأويل . فقد بقي في التوراة المحرفة والأناجيل المحرفة ما يشير إلى قدوم محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن أمثلة ذل :
في أسفار التوراة :
1 ـ جاء في الإصحاح الثامن عشر في سفر التثنية قوله ـ أي موسى عليه السلام ـ : قال لي ربي : قد أحسنوا فيما تكلموا ، سوف أقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا أكون المنتقم من ذلك أما النبي الذي يجترئ بالكبرياء ويتكلم في اسمي ما لم آمره به بأن يقوله أم باسم آلهة غيري فليقتل (17-20) .(1/73)
وهذه البشارة ـ كما يقول بشرى زخاري ميخائيل[8] ـ ليست بشارة (يوشع) كما يزعم أحبار اليهود ، كما أنها ليست بشارة السيد المسيح كما يفسر ذلك علماء اللاهوت المسيحي، بل هي بشارة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لعدة أسباب ذكرها (بشرى زخاري) منها :
أنه جاء في البشارة لفظ مثلك ، ويوشع لم يكن مثل موسى فلم يوح إليه بكتاب. ولقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الرابع والثلاثون : (ولم يقم بعد ذلك نبي في بني إسرائيل مثل موسى يعرف الرب وجهاً لوجه) كما أن المسيح عيسى السلام لم يكن مثل موسى ، فقد ولد من غير أب وتكلم في المهد ولم تكن له شريعة كموسى كما أنه اختلف عن موسى في وفاته فموسى عليه السلام مات وعيسى ـ عليه السلام رفعه الله . كما أن لفظ (من بين إخوتهم) لا ينطبق على (يوشع) الذي كان حاضراً في الأسباط الاثنى عشر فلو كان المقصود (يوشع) أو المسيح لقالت البشارة (منهم) أي من بني إسرائيل ولكن البشارة قالت : (من بني إخوتهم) ولقد كان إسماعيل وذريته ، التي منها محمد صلى الله عليه وسلم إخوة لإسحاق ويعقوب (إسرائيل) وذريته .
ولقد ثبت في إنجيل يوحنا أن اليهود كانوا ينتظرون المسيح ونبياً آخر غير المسيح في زمن ظهور المسيح، جاء في إنجيل يوحنا قوله : (وإن قوماً من الجمع لما سمعوا كلامه قالوا هذا في الحقيقة هو النبي. وقال آخرون هذا هو المسيح) (40- 41) .
وجاء في البشارة قول (سوف أقيم لهم) و(يوشع) كان حاضراً عند موسى داخلاً في بني إسرائيل فكيف يصدق عليه هذا اللفظ؟
وجاء في البشارة لفظ (أن النبي الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره به يقتل) فلو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً لكان قد قتل ، لكن لم يستطع أحد قتله رغم كثرة المحاولات ، ورغم ما أحط بها من دسائس ومؤامرات .(1/74)
2 ـ جاء في التوراة[9] قوله (هم أغاروني بما ليس إله وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة وأنا أيضاً أغيرهم بما ليس شعب وبشعب جاهل أغضبهم) أي أن الله يقول : إن اليهود أغاروني بعبادة الأوثان كالعجل ، وأنا أغيظهم يجعل الهداية والنبوة في شعب جاهل. وقد كان العرب أشد الناس احتقاراً عند اليهود لكونهم أولاد إسماعيل وهو ابن الجارية وهم أبناء إخوة إسحاق ابن الحرة :
وقد تحققت هذه الإغاظة لليهود بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم .
?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ?[الجمعة:2] .
ولقد حاول بعض علماء اللاهوت كما يقول الأستاذ بشرى زخاري ميخائيل رد هذه الجاهلية إلى الشعب اليوناني ، ويرد الأستاذ بشرى[10] عليهم بقوله : لكن واضح أن اليونان قبل ظهور المسيح بمئات السنين كانوا متفوقين في العلوم والفنون ، وكان اليونانيون في عهده في أعلى مستوى من الكمال في الفنون ، وكانوا واقفين على أحكام التوراة، وسائر كتب العهد القديم.
3 ـ جاء في التوراة الحالية (الترجمة العربية المطبوعة عام 1844م) قوله : (جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران) ويرى المفسرون أن هذه العبارة الموجودة في التوراة تشير إلى أماكن نزول الهدى الإلهي إلى الأرض .
فمجيئه من سيناء : إعطاؤه التوراة لموسى .
وإشراقه من ساعير : إعطاؤه الإنجيل للمسيح .
وساعير : سلسلة جبال ممتدة من الجهة الشرقية من وادي عربة في فلسطين وهي الأرض التي عاش فيها عيسى عليه السلام .
واستعلاؤه من جبل قاران : إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ، وفاران : هو الاسم القديم لأرض مكة التي يسكنها إسماعيل عليه السلام ، كما جاء ذلك في التوراة (سفر التكوين 21: 22) .(1/75)
وقد رأى القس الذي اهتدى أخيراً (إبراهيم خليل أحمد) أن هذه البشارة تتطابق مع قوله تعالى:
?وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ(1)وَطُورِ سِينِينَ(2)وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ?[التين : 1-3] .
فالله قد أقسم بنفسث الأماكن الثلاثة التي ذكرت في التوراة نظراً لأهميتها؛ فالقسم بالتين والزيتون: مجاز من منابتهما في فلسطين، حيث سكن عيسى عليه السلام ، وتقابل : ساعير.
والقسم بطور سينين : قسم بالجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام .
والقسم بالبلد الأمين : مكة المكرمة وتقابل فاران .
4 ـ وجاء في التوراة[11] وعد من الله لإبراهيم عليه السلام بأن يجعل من ابنه إسماعيل ـ ابن الجارية ـ أمة هادية عظيمة (وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك) ولم تكن أمة هداية عظمى من نسل إسماعيل عليه السلام ، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? هذه بعض الأمثلة لما بقي من نور التوارة غفل المحرفون عنها ، وهناك بشارات أخرى في التوراة غير هذه.
من الأناجيل :
1 ـ جاء في إنجيل متى حديث من عيسى عليه السلام ـ (يسوع) كما تسميه الأناجيل ـ لقومه : ( ما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناءون ، قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم : إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره)[12] .
في هذا الكلام إشارة إلى أن نور الهداية الإلهية سينزع من بني إسرائيل يهوداً ونصارى، ويعطي لأمة أخرى تعمل به ، وأن هذه الأمة لا ذكر لها ولا ستصبح رأس الزاوية . ولقد قال محمد عليه الصلاة والسلام : (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البناء فيقولون : ألا وضعت ها هنا لبنة فيتم البناء؟ فأنا اللبنة جئت فختمت الأنبياء)[13] .(1/76)
2 ـ وجاء في إنجيل[14] يوحنا الإصحاح الرابع (20-24) : نقاش بين يسوع (عيسى عليه السلام) والمرأة السامرية أعلن عيسى عليه السلام في هذا الحوار أن القبلة التي يصلي إليها الناس سوف تغير في وقت آخر إلى مكان آخر . ومن المعلوم أن القبلة لم تغير في وقت آخر إلى مكان آخر. ومن المعلوم أن القبلة لم تغير في وقت عيسى عليه السلام كما أنه من المعلوم أ، القبلة لا تتغير إلا بواسطة رسول يرسله الله ولم تغير القبلة إلا عندما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على أن البشارة في هذا الإنجيل قد انطبقت على محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ جاء في هذا الإنجيل أن المرأة السامرية قالت ليسوع : (آباؤنا سجدوا في هذا الجبل ، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه . قال يسوع : يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ، ولا في أورشليم تسجدون لله .. (الله روح) والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا) .
وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم :
?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ?[البقرة: 144] .
3 ـ جاء في إنجيل يوحنا الإصحاح السادس عشر (18) حديث يسوع (لكني أقول لكم إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق يأتكم الفارقليط) ، والفارقليط لفظ معرب للفظ اليوناني (بير كلوطوس) الذي هو قريب من معنى محمد وأحمد وقد استدل علماء الإسلام على النصارى بهذا اللفظ لكن النصارى قالوا : إن الأصل اليوناني هو : (باركلي طوس) الذي هو بمعنى المعزي أو المعلم .(1/77)
4 ـ جاء في إنجيل يوحنا (16 – 12 – 13) . قول (يسوع) : إن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن. وإذا جاء روح الحق ذلك هو يعلمكم جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما سيأتي . وهذه بشارة برسول يأتي بعد عيسى عليه السلام ولم يكن رسول بعده أخبر بما سيكون في المستقبل حتى قيام الساعة غير محمد صلى الله عليه وسلم . هذه أمثلة لبعض البشارات في الأناجيل الحالية ، وهناك بشارات أخرى .
قبس من النور الأول : (إنجيل برنابا) :(1/78)
إن التحريف في التوارة والإنجيل قد لعب دوره في إخفاء البشارات التي كانت البشارات في التوراة والإنجيل في زمن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما قبله، والتي أسلم عليها وفود من العلماء من اليهود ، والنصارى وشعوب كثيرة ولكن شاءت العناية الإلهية أن تكتشف قبساً من النور كان البابوات قد عملوا على إخفائه فقد صدر في عام 492م أي قبل ظهور الإسلام أمر من البابا جلاسيوس بتحريم قراءة بعض الكتب وكان من بينها كتاب يسمى (إنجيل برنابا) وصودر هذا الإنجيل من كل مكان غير أن مكتبة البابا لم تخل من هذا الكتاب، وشاء الله أن تظهر آياته على يد راهب لاتيني هو الراهب (فرامينو) الذي عثر على رسائل (الأبريانوس) يذكر فيها إنجيل برنابا ويستشهد به ، فدفعه حب الاستطلاع إلى البحث عن إنجيل برنابا هذا. وقد توصل إلى مبتغاه لما صار أحد المقربين إلى البابا (سكتش الخامس) فقد كانت مكتية البابا محتوية على هذا الإنجيل وقد كتب باللغة الإيطالية وعلى الورق الإيطالي المعروف بالآثار المائية التي فيه والتي يمكن اتخاذها دليلاً صادقاً على تاريخ النسخة الإيطالية فأخذ الراهب (فرامينو) هذا الإنجيل وأخذ يقرؤه فإذا فيه : أن عيسى عليه السلام ، ليس إلا رسولاً من عند الله ، وأن الرسول المنتظر هو محمد عليه الصلاة والسلام جاء في إنجيل برنابا قوله: (وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله)[15] ولما عرف الراهب (فرامينو) الحق ساطعاً أسلم وعمل على نشر الكتاب وأخرجه من الأسوار المنيعة التي حبسه البابوات بداخلها ، وإلى جانب النسخة الإيطالية فقد عثر على نسخة إسبانية في أوائل القرن الثامن عشر . ويعلن الدكتور القس تشارلس فرنسيس بوتو في كتابه (السنون المفقودة من عيسى تكشف) فيقول: إن إنجيلاً يدعى إنجيل برنابا استبعدته الكنيسة في عهدها الأول ، والمخطوطات التي اكتشفت حديثاً في منطقة البحر الميت جاءت(1/79)
مؤيدة لهذا الإنجيل .
شاهد جديد :
عثر أخيراً على مخطوطات قديمة في حفرة داخل أواني فخارية بجوار البحر الميت وتملك الأردن هذه المخطوطات التي قال عنها الدكتور (د. ف. البرايت) ـ وهو عمدة في علم آثار الإنجيل ـ : (إنه لا يوجد أدنى شك في العالم حول صحة هذا المخطوط، وسوف تعمل هذه الأوراق ثورة في فكرتنا عن المسيحية) وقال عنها القس (أ. باول ديفز) رئيس كنيسة كل القديسين في واشنطن في كتابه (مخطوطات البحر الميت) : إن مخطوطات البحر الميت وهي من أعظم الاكتشافات أهمية منذ قرون عديدة ، قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل) . وقد جاء في هذه المخطوطات .
(إن عيسى كان مسيا المسيحيين وإن هناك مسياً آخر) .(1/80)
وبعد .. لقد أرسل الخالق سبحانه لعباده إشارات سابقة في الكتب المنزلة السابقة ، بأن له رسولاً بعد عيسى اسمه أحمد ، يبين لهم صفاته وصفات بلاده وزمانه ، فلما بدأت علامات زمنه تظهر كثر حديث الأحبار والرهبان عنه ، فلما ظهر جاء المتحققون من الرهبان والأحبار وفوداً وجماعات وأفراداً . فآمنوا به ، وصدقوه ، وسجل القرآن مواقف هذا النفر من علماء أهل الكتاب، وتبعهم إلى الإسلام آلاف من أهل الكتاب. غير أن الذين عاندوا من أهل الكتاب أخذوا يحرفون البشارات ويغيرونها خاصة بعد ظهور الإسلام . وبالرغم من ذلك فقد بقي شيء من النور الضئيل في التوراة والإنجيل الحالية ، يشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشاء الله أن يظهر آياته فجعل أحد الرهبان المقربين إلى البابا يتمكن من الاطلاع على إنجيل برنابا ، فإذا به يجد الحق الذي أخفاه البابوات وألقوه في غياهب سجن مكتبة البابا ، وإذا به أمام حديث (برنابا) أحد الحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام يتحدث إليه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فآثر هذا الراهب (فرامينو) الحق على الباطل، وأعلن إسلامه ، ونشر إنجيل (برنابا) وجاءت مخطوطات البحر الميت تؤكد هذا الإنجيل، وبمرور الزمن يبين الله آياته واضحة جلية تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله .
الخلاصة :
*من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، الإشعارات الإلهية السابقة في الكتب السابقة التي بشرت بمجيئه صلى الله عليه وسلم ووضحت اسمه وبلاده وصفاته وصفات زمانه ، ومن البين أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن له دخل في وضع هذه الإشعارات المنطبقة عليه في هذه الكتب الإلهية قبل أن يولد .(1/81)
*عندما حرفت التوارة والإنجيل ، واختفى هدى الله كان لا بد أن يبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أخبرت به الكتب السابقة ، وأخذ الأحبار والرهبان يحدثون الناس بموعد قرب ظهور النبي المنتظر، وشاع أمر النبي المنتظر بين الناس وخاصة من كان على صلة بأهل الكتاب كسكان المدينة .
*وفي الوقت المعلوم الذي اشتدت فيه حاجة البشرية إلى نبي بعيدها إلى طريق الله القويم، ظهر محمد صلى الله عليه وسلم وفيه كل العلامات والمميزات التي أعلنتها الكتب المقدسة السابقة، وجاء المتحققون من الأحبار والرهبان يتفحصون هذه العلامات فوجدوها حقاً فتركوا دينهم ، وتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، وسجل القرآن بعض مواقفهم ومنهم الراهب بحيرا، ونسطورا، ونجاشي الحبشة ، ووفد علماء النصارى ، ووفد علماء نصارى الحبشة والشام ، والحبر عبدالله بن سلام، والحبر زيد بن سعنة ، وسلمان الفارسي ، ومخيريق اليهودي .
*بعد أن ظهر الإسلام عمل الكافرون من أهل الكتاب على إخفاء ما كان في كتبهم من بشارات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبقي في التوراة المحرفة والإنجيل المحرف بقايا من نور لم يتنبه المحرفون لطمسها تشهد بنبوءة محمد عليه الصلاة والسلام .
وشاء الله أن يظهر للناس قبساً من النور الأول فتمكن الراهب اللاتيني (فرامينو) من الاطلاع على إنجيل برنابا الذي كانت الكنيسسة قد حرمت قراءته قبل محمد صلى الله عليه وسلم والذي بقيت نسخة منه في مكتبة البابا ، فشاهد في هذا الإنجيل البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأسلم وعمل على نشر هذا الإنجيل ، كما جاءت المخطوطات التاريخية في البحر الميت تؤكد ما جاء في إنجيل برنابا .
السبق العلمي للقرآن
معجزة جديدة :(1/82)
إن معجزات وبينات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتنوعة ، ودائمة ، لأنه خاتم الرسل والأنبياء ، ومن بينات رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما ظهر من إعجاز جديد للكتاب الذي جاء به صلى الله عليه وسلم من عند الله ، وذلك الإعجاز هو السبق العلمي للقرآن الكريم الذي ذكر حقائق في الكون لم تكن البشرية تعلم عنها شيئاً ، وبعد مرور عدد من القرون ، وبعد تقدم أجهزة الكشف العلمي وقف العلماء على طرف من هذه الحقائق التي كان القرآن الكريم قد ذكرها قبل قرون وقرون ، فكان ذلك شاهداً بأن هذا القرآن قد أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ، كما يشهد بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله الذي أحاط علماً بكل شيء.
أمثلة :
ومن أمثلة هذا الإعجاز الجديد لكتاب الله ما يلي:
1 ـ الرياح وإثارة السحب: إن أحدث تقسيم للسحب يقوم على أساس نوع الرياح التي تكونها وتثيرها . ولقد عرف علماء الإرصاد أن الرياح تثير السحب من بخار الماء المتصاعد من البحار، كما تثير الرياح الغبار أو التراب ، وعرفوا أن الرياح تحمل معها أجزاء صغيرة من ذرات التراب والغبار ، أو حبوب اللقاح أو الدخان ، فتلقح بهذا الغبار بخار الماء المتصاعد من البخار فتثير بخار الماء ليتجمع حول هذه الجزئيات الدقيقة التي ألقيت فيه ، مكونة أغلفة مائية تنمو وتنمو ، مكونة قطرات ثقيلة. ولقد ذكر القرآن الكريم استثارة السحب بواسطة الرياح في قوله تعالى :
?اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ?[الروم : 48] .
كما ذكر تلقيح الرياح لبخار الماء الذي يكون بعده تكون السحب الثقال ونزول المطر في قوله تعالى :
?وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ?[الحجر: 22] .(1/83)
وذكر القرآن أيضاً أن الرياح تستثير السحب وتحملها أيضاً إلى أعلى. قال تعالى : ?حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا.. ? أي الرياح ، وأقل الشيء لغة : حمله ورفعه وهذا ما كشفه العلم اليوم وأشار إليه القرآن من قبل .
?إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ?[يونس: 24] .
2 ـ ملازمة الليل والنهار على الأرض :
هذه الآية الكريمة تتحدث عن الحياة الدنيا ، وتذكر عدة حقائق:
الأولى : أن الدنيا سوف تتزين وتتجمل قبل يوم القيامة وهذا أمر مشاهد .
الثانية :أن الناس سيظنون أنهم لا حاجة لهم إلى الخالق، وأنهم قد بلغت مقدرتهم على عمل كل أمر يهمهم في حياتهم، وكلا الأمرين مشاهد في هذا الزمان، بل إن الكافرين اليوم يزعمون أن الإيمان بالله لا محل له في عصر المصانع فهو لا يليق إلا بالمجتمع الزراعي .
الثالثة : أن الساعة التي ذكرها الله بقوله :
?وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ? ستأتي على الأرض إما ليلاً أو نهاراً .
وهنا قد يسأل سائل : إذا كان أمر الساعة كلمح بالبصر فلا شك أنه سيكون إما بالليل أو بالنهار فلماذا لم يقل القرآن : (أتاها أمرنا ليلاً) أو قال : (أتاها أمرنا نهاراً) ، وأن كل إنسان يعرف أنه إذا لم تكن الساعة ليلاً فستكون نهاراً؛ فما الداعي لهذا القول أستغفر الله ـ ?أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا?؟(1/84)
والأمر قد وضح بعد تقديم العلم وكشف عن السر الخفي في هذا التعبير القرآني فلو قال القرآن: أتاها ليلاً . لصح لأي إنسان أن يقول إن هذا القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالمثل لو قال (أتاها أمرنا نهاراً) ذلك لأن الساعة التي ستقع كلمح البصر ستقع على الأرض بأكملها. وقد عرفنا أن الليل والنهار على الأرض دائماً ففي الوقت الذي يكون عندنا ليل يكون عند غيرنا نهار وهكذا يأتي أمر الله ? لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ?ليلاً على الذين عندهم الليل ، ونهاراً على الذين عندهم نهاراً . وصدق الله العظيم القائل :
? كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ?
النطفة :
3 ـ لما تقدم علم الطب وتقدمت أدوات التكبير عرف العلماء أن النطفة التي يتكون منها الإنسان ليست مجموعة المني الذي ينزل عند كل دفقة . وإنما هو جزء صغير جداً منه أفلا يكون ذلك كشفاً لما كان قد أخبرنا به في كتاب الله من قبل مئات السنين .
قال تعالى :
? أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ?[القيامة: 36، 37] .
4 ـ السبب في الذكورة والأنوثة :
كشف العلم الحديث أن السبب في الذكورة والأنوثة هو ماء الرجل، فإذا كان الحيوان المنوي (النطفة التي تمنى) يحمل خصائص الذكورة كان المولود ذكراً وإذا كان يحمل خصائص الأنوثة كان مهيأ ليكون أنثى .
وهذه صورة لمجموع الكروموزونات (حاملات الوراثة التي يتخلق منها الإنسان) هذا الكروموزوم + ينزل من الماء الدافق من الرجل ، وبه يتحدد نوع المضغة وتقبلها للذكورة أو الأنوثة.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى أن الذكورة والأنوثة تتحدد بماء الرجل الذي يمنى ويكون من نصف كثيرة (هي الحيوانات المنوية) قال تعالى :
? أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ?[القيامة: 36، 37] .(1/85)
والنطفة التي تمنى تكون في ماء الرجل كما تذكر الآية السابقة ، وهذه الآية تحدد أن نوع الذكورة والأنوثة يتحدد في هذه النطفة التي تخرج من الرجل .
5 ـ النهار ينسلخ من الليل :
لقد كشف العلم الحديث أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان ، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد، وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزئيات الموجودة في الهواء مما يسبب النهار . فيحدث بهذا الدوران سلخ النهار من الليل والله يقول :
? وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ?[يس: 38] .
6 ـ العظام واللحم في الجنين :
بعد أن تقدم علم الأجنة عرف الأطباء أن الأصول الأولى للعظام تسبق في تكوينها الأصول الأولى للعضلات (اللحم) وذلك ما كان قد أشار إليه القرآن الكريم في قوله :
? فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ?[المؤمنون : 14] .
وأما الحديث الشريف فنأخذ منه هذا المثال .
الجحر الصحي :
قال عليه الصلاة والسلام عن الطاعون : (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) . هذا هو الحجر الصحي الذي أمرنا به رسولنا عليه الصلاة والسلام، والذي لم تعرفه أوروبا إلا سنة 1370م عندما بدأت مدينة (البندقية) بإيطاليا تنفيذ الحجر الصحي، هذا الذي لم تعرفه أوروبا من قبل ، والذي نفذه المسلمون قبلهم بمئات السنين . هذه أيها الأخ القارئ بعض أمثلة قليلة لما ظهر اليوم من إعجاز علمي للقرآن الكريم، والحديث الشريف في عصر العلم والتقدم العلمي ، تصديقاً لوعد الله القائل :
? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ?[فصلت: 53] .
الخلاصة :(1/86)
*القرآن معجزة متجددة ، وكذلك الحديث فيه بينات شاهدة بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله ، فقد تكلم القرآن بحقائق لم يعرفها البشر إلا بعد تقدم العلوم وأجهزة الكشف العلمي.
*لقد أثبت العلم أن الرياح تعمل على إثارة السحب وتكوينها وذلك ما نطق به الكتاب الكريم.
*ووصف القرآن زينة الأرض وزخرفتها وغرور أهلها بما وصلوا إليه قبل أن تقوم الساعة، وهذا ما نشاهده في أيامنا بعد حديث القرآن عنه بمئات السنين، كما ذكر القرآن أن الساعة ستأتي على من في الأرض ليلاً أو نهاراً ، وهذا ما عرفه الناس اليوم ، إن جزءاً من الأرض فيه ليل والجزء الآخر فيه نهار .
*وأخبر القرآن بأن الإنسان لا يتكون من المني بأكمله ، بل من نطفة منه وهذا ما علم على وجه الدقة في هذا الزمان .
*وأخبر القرآن الكريم أن ما جاء الرجل الذي يمني هو الذي يتكون منه الذكر والأنثى وهذا ما أدركه الباحثون في هذا الزمان .
*وأخبر القرآن الكريم أن ماء الرجل الذي يمنى هو الذي يتكون منه الذكر والأنثى وهذا ما أدركه الباحثون في هذا الزمان .
*وأخبر القرآن أن النهار يشبه الجلد عندما ينسلخ ، واكتشف الباحثون أن النهار هو حالة إضاءة تكون في الغلاف الهوائي الذي يشبه الجلد ، والليل يحيط بالنهار من كل جهة ، وعرف الباحثون في هذا الزمان دقة ذلك الوصف القرآن لعملية انسلاخ النهار في الليل .
*كما أخبر القرآن بأن تكون العظام يسبق تكوين اللحم في الجنين وهذا ما أثبته علم الأجنة .
*ولقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالحجر الصحي الذي لم تعرفه أوروبا إلا بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به بسبعة قرون .
*كل ذلك يشهد أن هذه العلوم التي أخبر بها محمد صلى الله عليه وسلم ، ليست إلا الوحي الذي يأتيه من عند الله الذي أحاط علماً بكل شيء .
الإيمان بالغيب .. والمادية
الذين يؤمنون بالغيب :
لقد امتدح الله المؤمنين ، بوصفهم أنهم يؤمنون بالغيب :
قال تعالى :(1/87)
? ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ?[البقرة : 2، 3] .
والإيمان بالغيب صفة حميدة ، صفة عالية لا يليق بإنسان أن يتخلى عنها فيرتكس وينتكس إلى دنيا الحيوان الذي لا يعلم شيئاً غير ما يقع في نطاق حراسه .
والإيمان بالغيب توسيع للمعرفة البشرية ، والمادية تقضي على العلم ، إن المادي يزعم أنه عدو للمذهب الغيبي ، ويعلن في اغترار وجهالة أنه لا يؤمن إلا بما يرى ، وما لم ير الشيء أن يقع خارج نطاق حواسه فهو لن يؤمن به أو يصدق ، إن هذا المادي لو نظر في ما يقول برهة لامتلكه الخجل، ولعلم أنه قد اختار أسلوب الحيوانات في العلم ، ورغب عن خصائص الإنسان، ما رأيه إذا ولد يتيماً : ينكر أن له أباً لأنه لم يره ولم يحسه بحواسه الخمس لأنه مات قبل أن يولد!!
وهل يثق المادي بما يقوله الإخصائيون في كل فرع في فروع الحياة بالرغم من أن كل ما يقوله الإخصائيون لا يقع داخل نطاق حواسنا ، وهل يصدق المادي كل ما تحتويه كتب الدراسة والعلوم بالرغم من أنها تحتوي على أكثر من 90% من المعلومات التي لا تقع في نطاق حواس المطلع على هذه الكتب؟!(1/88)
وما رأى المادي فيما تذيعه الإذاعات وتنشره الصحف؟ هل يكذب بكل ما يقوله الناس في هذه الأجهزة لأنه لا يشم رائحة ما أخبروه به ، ولا طعم ذوق ما تحدثوا به إليه ولا لمس أو رأى أو سمع صوت ما يذكرون؟! وما رأى المادي هذا إذا جاء له أخوة أو ابنه يقول له : إن أباك قد أرسلني إليك وهو ينتظرك في المنزل. هل يصدق المادي هذا الخبر؟ وكيف يصدق أن والده في المنزل وهو لم يشم رائحة والده ، أو لا طعم ذوق والده ، ولا لمس والده أو رأي والده ولم يسمع صوت والده الذي بالمنزل؟ إن عليه أن ينهال ضرباً على ابنه أو أخيه هذا الذي طلب منه الإيمان بما غاب عن حسه. كما أن عليه أن يسعى جاهداً لإغلاق محطات الإذاعة ودور النشر والمدارس والجامعات؛ لأن كل هذه المؤسسات تطلب من الإنسان أن يكون على استعداد للتصديق بما تقول، ولو كان ما تخبر به خارج نطاق حواسه. إن هذه المؤسسات مراكز كبرى لترويج (الغيبة) بين الناس. وعلى هذا المادي أن يطلب من كل من يريد أن يضيف إلى معلوماته شيئاً أن يكون على استعداد لأن ينقله إلى المكان أو الشيء الذي يريد أن يحدثه عنه ليرى بعينه أو يسمع بإذنه أو يشم بأنفه أو يطعم بلسانه أو يحس بجلده. وإلا فهي (الغيبة) التي يهرب منها هذا المادي!! إننا لو نلتزم بهذا المبدأ المادي لحكمنا على العلم والمعرفة بالإعدام ولتحولنا إلى عالم الحيوان .(1/89)
لكن العاقل ـ بل والمادي نفسه ـ لا يسلك هذا السلوك فهو يعلم أن حواسه محدودة، ويعلم أن غيره قد اطلع على معلومات لم يطلع عليها هو . فتراه يذهب إلى المدرسة أو الكلية ليسمع ما غاب عنه من المعلومات ويستمع إلى الإذاعة ليحيط ببعض ما غاب عن حواسه من أحداث، وتراه يقرأ الصحيفة أو الكتاب ليتعرف على ما غاب عنه من معلومات ، وتراه يذهب إلى الأخصائي في الطب والهندسة أو الزراعة أو غيرها، ليستفيد من هذا الأخصائي الذي أحاط بما لم يحط به السائل. إننا نؤمن بأن الحواس محدودة ونطاق عملها محدود كما نؤمن بأن الطريق الوحيد لتوسيع معارف الإنسان هو أن يكون الإنسان منفتحاً لتعلم ما غاب عنه ، وبقدر ما يتعلم الإنسان من غيره بقدر ما تتسع معارفه ويزداد إدراكه لكن شرطاً واحداً يجب أن يتحقق ، وهو التأكد من صدق المصدر الذي نأخذ منه علومنا .
فنحن لا نتعلم في المدرسة أو الجامعة إلا لأننا نثق في صدق معلوماتها . وكذلك الأخصائي لا نصدقه إلا بعد أن نعرف صدقه ومعرفته ، وهكذا تمكن الإنسان من توسيع معارفه، وعلى هذا تقدمت العلوم ، وبهذا امتاز الإنسان على الحيوان .
لا يوجد مادي على وجه الأرض :
وإذا تأملت جيداً في الأمر فلن تجد إنساناً على وجه الأرض لا يصدق إلا بما وقع تحت الحواس، إلا أن يكون مجنوناً .
الذين أطلعهم الله على الغيب :
فإذا كان الباب الوحيد للفوز بالسعادة الدنيوية ، هو أن نتعلم ما جهلناه من أمور دنيانا ، فننمي معارفنا بالتعلم من الذين علموا ما لم نعلم ، فإن السبيل الوحيد للفوز بالسعادة الأخروية هي أن نكون على استعداد كامل للاستفادة بعلوم الذين أحاطوا بما لم نعلم ، وعرفوا ما لم نعرف من أمور المبدأ والمعاد ، والحياة الأولى والآخرة .
قال تعالى :
? عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ?[الجن: 26، 27] .
ولكن بشرط :(1/90)
إننا نقبل على رسول الله بكل حواسنا ، لنتعلم منهم ، ونعرف من أمورنا الهامة ما غاب عنا، ولكنا لا نأخذ منهم هكذا، ولا نقبل منهم رأساً إننا نستوثق أولاً بأنهم حقاً رسل من عند الله، ونستعرض بينات رسالتهم، ونتفحص معجزاتهم ، ثم نشهد لهم بعد ذلك بالرسالة، ونستوثق ثانياً بأن الذي نقرؤه ونتعلمه عنهم حقاً قد قالوه .
وبهذه الصفة الحميدة ينفتح المؤمن على آفاق العلوم الدينية والدنيوية، وينفتح بعلوم غيره من المتخصصين في شتى العلوم والفنون ، ومن الذين اختصهم الله بالهداية والنور. ولكن ذلك كله بعد الثقة من صدق المصدر .
وبهذا ينتفع المؤمن بأذنه التي جعلها الله للإنسان نافذة إلى علم الغيب ، كما ينتفع باللغة التي جعلها الله رموزاً ليعرف بها ما غاب عن حواسه .
الخلاصة :
*الإيمان بالغيب صفة عالية وصف الله بها عباده المؤمنين.
*إن الذي لا يريد الإيمان إلا بما وقع في نطاق حواسه عليه :
أن ينكر والده إذا مات قبل أن يولد ، وأن ينكر كل ما يدرسه الطلاب في المدارس والجامعات، وأن ينكر كل ما يسطره في الكتب والرسائل .
وأن ينكر كل ما يتحدث به الأخصائيون .
وأن ينكر كل ما تتحدث به الإذاعات والصحف .
وأن ينكر كل ما يحدثه به الناس وهو لم يسمع صوته ، أو يشاهد صورته، أو يشم رائحته، أو يطعم ذوقه ، أو يتبين ملمسه .
لأن كل ما سبق يقع 90% منه خارج نطاق الحواس .
*أما العاقل فهو يعلم أن حواسه محدودة وأن هناك ملايين الحقائق تقع خارج نطاق حواسه، وأن عليه أن يوسع علومه ، ويتخلص من جهله ، والانتفاع بما علمه غيره وغاب عنه؛ ولكن بعد أن يثق في صدق المصدر الذي يتعلم منه .
*ورسل الله قد أطلعهم الله على غيوب كثيرة جهلناها وعرفوها فنحن نتعلم منهم، ولكن بعد أن نتأكد من صدق رسالتهم ونشهد لهم بأنهم حقاً رسل الله .
شبهة ماكرة
محمد صلى الله عليه وسلم مصلح اجتماعي :(1/91)
يزعم المستشرقون الذين بذلوا الجهود للكيد للإسلام والمسلمين على ترويج شبهة خادعة، وتبعهم في زعمهم الذين انخدعوا بأقوال المستشرقين ، وبحثوا عن دينهم من أفواه أعداءهم . زعموا كائدين فقالوا : إن محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا مصلحاً اجتماعياً رأى الظلم ، والجور، والفساد فثار على الظلم والجور والفساد , وزعم لنفسه النبوءة حتى يتمكن من طاعة الناس له وعندها يتبعون أوامره ويتجنبون نواهيه .
محمد رسول الله :
ونحن نؤمن أن محمداً عليه الصلاة والسلام خير من أصلح أحوال الناس وهداهم إلى الصراط المستقيم في كل شئون حياتهم ، ولكنه ما قدر على شيء من ذلك إلا لأنه رسول من عند الله، ولم يحفزه إلى دعوته شيء غير إرضاء الله سبحانه .
تفنيد الباطل :
لو كان الداعي لمحمد صلى الله عليه وسلم هو ما يقوله الكائدون أو الجاهلون لوجدنا في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم ما يلي :
أولاً : أن أي داع للإصلاح لا شك أنه يتوخى دائماً أن يسلك بدعوته الطريق الذي يضمن لها النجاح. كما أنه يبذل جهده لتعريف الذين يدعو ـ من أجل إنصافهم وإصلاح حالهم ـ بالهدف من دعوته ، ويسعى جهده أن يكسبهم إلى صفه ، فما باله عليه الصلاة والسلام يتوجه بعدائه إلى الأوثان والأصنام يبين باطلها ، وينعي على أتباعها ، فيستثير بذلك كل أفراد المجتمع ضده: الظالم والمظلوم ، القوي والضعيف .(1/92)
ثانياً : ما باله لم يتراجع بعد أن رأى ثمرة دعوته قد آلت إلى تعذيب كل من تبعه ، أو قتله ، أو تشريده إلى الحبشة غريباً عن أهله ، وبعيداً عن ماله ووطنه؟ ما باله لم يتراجع وها هو ذا نفسه يؤذى، ويسب ، ويرد ويطرد من كل قبيلة يتوجه بالدعوة إليها ؟ ما باله يتراجع إن كان يريد الإصلاح وها هو ذا يرى أن دعوته ما جنت إلا تمزيق وحدة القبيلة ، وتعذيب وتشريد وتغريب البعض الآخر. ما باله لا يتراجع وقد جاء وفد من قريش يعرض عليه المال الوفير أو أن يسودوه عليهم، ولا يقطعون أمراً دونه على شرط أن يتراجع عن سب دين آبائهم وأجدادهم. ما باله يرفض كل مساعي إصلاح شأنه مع قومه، ويرفض الرئاسة والمال، ويرضى بالعذاب والتشريد والاضطهاد من أجل شيء واحد : هو أن يعبدوا الله ويترك الناس عبادة الأوثان . إن حالته البائسة هذه هو وأتباعه قد منعت بعض الناس من الإيمان ؛ خشية أن ينالهم من العذاب ما نال غيرهم ولقد حكى الله ذلك في كتابه :
?وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا?[القصص: 57] .
ثانياً : وإذا كان يريد الإصلاح فقط لأحوال قومه ما له ولأهل الكتاب؟ ما شأنه باليهود والنصارى؟ ولماذا هذه الحملات الفكرية والمناقشات الطويلة وماذا يفيد مثل هذا في محاولة لإصلاح أوضاع العرب الاجتماعية والأخلاقية .
رابعاً : والآن هيا لنقف على ما ينقض هذه الفرية من أساسها فها هو ذا محمد عليه الصلاة والسلام ينتصر، ويتحقق له ما يريد ، فلم هذا التشديد الكبير على أداء خمس صلوات كل يوم والوضوء لكل صلاة في أرض صحراوية يعز فيها الماء؟ وما دخل هذا لأي محاولة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية . إن هذه الصلاة هي الفرق بين الكافر والمسلم كما أنها أحد أركان الإسلام .
والصيام .. ما دخل فرض صيام شهر كامل في كل عام ؟ هل هو مجرد محاولة للإصلاح الاجتماعي؟ كيف وهو يقرر أن من أفطر رمضان متعمداً فهو كافر خارج عن دين الله؟!(1/93)
ثم ما الداعي للحج وجعله ركناً من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً؟ ولماذا هذا الحث على الاغتسال كل يوم جمعة ، وبعد كل جنابة ، وفي كل عيد في بيئة صحراوية يعز فيها وجود الماء؟ وما دخل هذا في محاولة الإصلاح الاجتماعي؟ ألا تكون هذه القيود عائقاً للناس ومانعاً في نظر كل عاقل من الاستجابة لدعوته؟ فلماذا هذا التشديد. وليس الأمر بزعم الكائدين أو الجاحدين إلا محاولة للإصلاح الاجتماعي فقط؟ ثم لماذا هذا التشديد والحث الدائم على قيام الليل وصيام التطوع والإكثار من القيام بشعائر العبادة ؟
ما دخل هذا كله في إصلاح الأوضاع الاجتماعية؟!!
خامساً : وأخيراً نقول للكائدين : إن إيمان المسلم برسول ربه إليه ما قام على غير أساس، بل إيمان المسلم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم تقوم على الحجة القاطعة والبينات الساطعة والبراهين القوية ، فهي أصل الإيمان ، ولا خير في إيمان من لم يعلم : لماذا آمن بأن ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من عند الله .
قال تعالى :
?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الرعد: 19] .
الخلاصة :
*هناك من المستشرقين الكائدين ومن اغتر بهم من يروج أن محمداً عليه الصلاة والسلام ليس إلا مصلحاً اجتماعياً .
*والمسلم يؤمن بأن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قام بأكبر إصلاح اجتماعي لكنه لم يأت له ذلك إلا لأنه رسول الله .
*ولو أراد محمد صلى الله عليه وسلم الإصلاح الاجتماعي فقط ـ لما أخذ يعادي الناس جميعاً من أعز شيء لديهم: دين آبائهم وأجدادهم ، فحاربه الظالم والمظلوم، والقوى والضعف. ولكان تراجع بعد أن بلغ الإيذاء باتباعه أشده وهجروا أهلهم وأموالهم. ومنهم من عذب ومنهم من قتل ، وفي الوقت نفسه تقدمت له العروض بالرئاسة والمال الوفير فرفض كل ذلك، لأنه لا يريد من الناس إلا أن يعبدوا الله وحده .(1/94)
ولو وجد همه لهدفه الوحيد، وترك أهل الكتاب وشأنهم لوفر على نفسه المشتاق .
ولحاول التسهيل على الناس في طاعته، فلا يحملهم الأمور الشاقة كالصلاة والوضوء والغسل في كل جمعة ، وبعد كل جماع ، والصيام والحج ، وقيام الليل وغيرها من الشعائر، وبعد كل جماع، والصيام ، والحج ، وقيام الليل وغيرها من الشعائر ، وخاصة لمن هم في بيعة صحراوية.
*إيمان المسلم بأن محمداً رسول الله قد قام على الحجة والدليل وما أيد الله به رسوله من بينات ومعجزات .
ما خلق الإنسان عبثاً ولن يترك سدى
قال تعالى :?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ?[المؤمنون: 115، 116] .
خلق الإنسان لحكمة :
كل إنسان يتوهم أن ربه خلقه عبثاً، ليس عليه إلا أن يجرب طمس عينيه ليرى هل خلق الله له العينين عبثاً؟ أو يحاول سد أذنيه ليعرف الحكمة من وجودهما ، أو يقطع أصابعه ، ليرى العبث الذي خلقت الأصابع من أجله ، أو يقطع عرقاً صغيراً ليرى الآلام الشديدة تصرخ في وجهه:
أيها الجاهل لقد أفسدت عمل هذا العرق ، وعبثت بالحكمة التي خلق من أجلها. وإذا تأمل الإنسان في نفسه جيداً وجد أنه بحاجة إلى أن يدرس عدة سنوات في كلية الطب ليتمكن من معرفة الحكمة من كل جزء من أجزاء جسمه، وسيعلم أن جميع كليات الطب في جميع الدول على اختلاف مبادئها وأجناسها تدرس علماً كاملاً اسمه (علم وظائف الأعضاء) .
وإذا سألت ما الحكمة من وجود أي جزء في الإنسان؟ أجاب المختصون بقولهم : القيام بوظيفة لصالح الكيان الإنساني بأكمله ، فالفم يأكل للجسم كله ، والقلب يضخ الدماء للجسم كله وهكذا.
وإذا ما كان كل جزء في الإنسان قد خلق لحكمة .
وهذه الحكمة هي من أجل خدمة الكيان بأجمعه .
فهل يخطر على فكر عاقل بعد هذا أن الإنسان قد خلق عبثاً؟ !
الجهالة الكبرى :(1/95)
فما هو حكمنا على من لا يعرف الحكمة من البيت الذي يسكن فيه ، أو الفراش الذي يرقد عليه، أو الملابس التي يلبسها؟ لا شك أن موقفنا من هذا الجاهل هو التعجب والسخرية من بلادته وجهله!! لكن هناك من هو أجل منه. إن جهالة الذي لا يعرف الحكمة من عينيه أو فمه أو أذنيه أو رأسه أكبر بكثير من الذي يجعل الحكمة من المنزل، أو الفراش أو الملابس. ومع ذلك فهناك جاهل جهالته أكبر من كل جهالة . ذلك هو الجاهلي الأكبر الذي يجهل الحكمة من كيانه بأجمعه، ووجوده بأكمله!!
الحكمة من خلق الإنسان :
إن الكافرين لن يتخلصوا من حياة الجهالة الكبرى ، لن يعرفوا الحكمة من وجودهم، فتراهم على علم بالحكمة من أصغر جزء في الإنسان، لكن الحكمة من وجود هذه الأجزاء المحكمة المنسقة هم بها جاهلون ، لأن الحكمة من أي مصنوع لا تعلم إلا بتعليم من الصانع أو رسوله، فتراهم قد تاهوا بين سؤالين .
هل نأكل لنعيش ؟
أم نعيش لنأكل؟
أمام المسلم فهو يعلم أن الحكمة من وجوده وخلقه هي طاعة ربه وعبادته فما من مصنوع يصنع إلا ليسير وفق إرادة صانعه ذلك هو الأصل .
قال تعالى : ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِي(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات: 56، 58] .
ولقد شاء الله أن تكون الصورة التي نعبدها عليها ، وتتحقق بها طاعاتنا له أن نكون خلفاء له في أرضه نستخلفها وفق مشيئته ونعمرها وفق إرادته، ونعمل فيها ما يدعونا إلى عمله، ونترك كل ما ينهانا عن فعله .
قال تعالى : ?إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً?[من سورة البقرة: 30] .
وبهذا الاستخلاف ، اختبار لطاعتنا له فيما استخلفنا عليه ، ويتميز المؤمنون الطائعون من العصاة الكافرين ، وتنتهي المدة المحددة للاستخلاف وقد كسب الإنسان لنفسه الخير ورضا خالقه، أو الشر وغضب سيده ومالكه .(1/96)
قال تعالى :
?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?[الكهف :7] .وبعد انتهاء المدة المحددة للإنسان في دار العمل، والاستخلاف يسترد الله منه كل ما استخلفه عليه، ويسترجع منه كل ما خوله له .
قال تعالى :?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ?[الأنعام: 94] .
والذي خلق بني الإنسان واستخلفهم في أرضه، يخرجهم منها بعد انتهاء المدة المحددة، فيموت الناس، لينتقلوا إلى دار الجزاء ، ويعقبهم قوم آخرون وهكذا حتى تنتهي الأجيال البشرية ويأذن الخالق ببدء الحساب .
قال تعالى :?قُلْ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(26)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ?[الجاثية : 26، 27] .
لن يترك الإنسان سدى :(1/97)
وإذا كان كل جزء منا يشهد أنه لم يخلق عبثاً وأن الله قد خلق الإنسان لحكمة، وإذا كانت الحكمة من خلق الإنسان لم تظهر جلية في هذه الحياة الدنيا. فإن العقول لتستنتج أن الحكمة لابد ظاهرة في حياة أخرى هي تلك الحياة التي تسير إليها أجيال البشر جيلاً بعد جيل. وما أشبه هذه الحياة الدنيا بحياة الجنين في بطن أمه. فلو أن ذلك الجنين تفكر في نفسه: لماذا تصنع لي العينان اللتان لا انتفاع بهما الآن (في رحم الأم)؟ لماذا تصنع لي الرئتان اللتان لا قيمة لهما الآن (في رحم الأم)؟ بل لماذا تصنع لي اليدان والقدمان والمعدة والأمعاء والكبد والكلى والأذنان والأنف والفم ولا فائدة لي الآن (في رحم الأم) من كل هذا التكوين ؟! لكنه لو انتظر حتى يخرج من عالم الرحم إلى عالم الأرض لعرف أنه ما من شيء إلا وله حكمة، غير أنها غابت عنه في عالم الرحم ، ولو أنه كان للرحم وعي أو إدراك لأخذ يتساءل : أين ذهب الجنين عند ولادته؟ وسيجد الجواب على حسب علمه المحدود أنه قد ذهب سدى ، لكنه لو قدر له أن يرى ذلك الجنين وهو يسير في الأرض ويعمرها لعرف أن ذلك الجنين ما ذهب سدى . ألا ما أشبه طورنا في هذه الحياة الدنيا، بطور حياتنا في رحم الأم وما أشبه الموت بالولادة، وما أشبه الخروج من الدنيا بالخروج من الرحم!!
قال تعالى :?يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا?[الحج: 5] .(1/98)
وإذا كان العاقل يتنزه عن أن يعمل شيئاً عبثاً ، كما يتنزه أن يصنع الشيء ويحسن تكوينه ثم يعود ليهدم ما بنى، وينقض ويحطم ما أعد ورتب ، إن ذلك العمل يتنزه عنه كل عاقل ومن باب أولى؛ فخالق العقل والعقلاء لا شك منزه عن كل العبث، وترك الأمور تذهب سدى .
?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ?[المؤمنون: 115، 116] .
ولو كان الخالق ينوي أن يذهب الإنسان سدى . فلماذا ينشئه من لا شيء ؟ لقد جاء حين على الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً ، ولو كان مصير الإنسان هو الذهاب سدى لما كان هناك داع لتنشئة الإنسان من تراب ، وتصويره من نطفة ، وتسويته في أحسن تقويم . فلقد كان في الأصل سدى.
قال تعالى :?أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى?[القيامة : 36 ـ 40] .
الثواب والعقاب :
وإذا كان الله يتنزه عن فعل العبث ، كما يتنزه عن ترك الأمور تذهب سدى فإنه سبحانه قد أعد للإنسان حياة بعد هذه الحياة ، كما أعد له حياة على الأرض بعد حياته في بطن أمه، وحياته على الأرض هي مقدمة لحياته الأخرى ، كما أن حياة الرحم مقدمة لحياة الأرض، فما يزرعه الإنسان في الدنيا يحصده في الآخرة .(1/99)
قال تعالى :?وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا(47)وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا(48)وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا?[الكهف: 47: 49] .
وقال تعالى : ?فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه?[الزلزلة : 7، 8] .
مسخ الفطرة البشرية :
والآن ما رأيك في الذي يحول السيارة إلى حانوت؟!
وما هو رأي العقلاء في الذي يحول عينه إلى أصبع؟!
وما رأي الناس في الذي يحول البندقية إلى حطب؟!
وما هو رأي العاقل في الذي يحاول تحويل الأذن إلى فم ليأكل منها؟!
الجواب: لا شك أن كل عاقل يسخر من أي إنسان يحاول أن يستخدم أي شيء في غير ما صنع من أجله أو في غير ما خلق من أجله . لأن تلك المحاولة ليست إلا مسخاً وإفساداً وخسراناً لذلك الشيء الذي أسيء استخدامه .
وهل تعلم الآن أيها الأخ القارئ أن الكافر لا يحاول تغيير الحكمة من أنفه أو فمه أو أذنه أو سيارته أو بندقيته ، بل يقوم بتحويل الحكمة من وجوده بأجمعه ، وحياته بأكملها .
لقد خلق الله الناس لعبادته ، لكن الكافرين يغيرون الحكمة التي خلقهم الله من أجلها؛ فيتكبرون عن عبادته فيخسرون أنفسهم ويمسخون فطرتهم غير أن نتيجة هذا التغيير تكون هناك في دار الجزاء ، حيث يمسخ الكفار أنفسهم في نار جهنم .(1/100)
قال تعالى :?الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(70)إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ(71)فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ?[غافر : 70-72] .
?فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ?[الأعراف: 9] .
العبادة الاستخلاف :
فأنت ترى أيها القارئ أن الصورة التي أراد الله منا أن نعبده بها هي أن نكون خلفاء له في أرضه ، نعمرها، ونزرعها ، ونستثمر خيراتها ، ونسير عليها وفقاً لمشيئته وتبعاً لهداه. فليست العبادة صلاة وصوماً فحسب ، ولكن العبادة أيضاً عمل ، وبناء ، وجد ، وجهاد ، واستخلاف لا في الأرض. وإن أي توجيه للإنسان إلى غير ما خلقه الله من أجله ليس إلا مسخاً للبشرية .
العبادة أنواع مختلفة :
والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ويشمل كل ما يقصد به العبد وجه الله سبحانه من فعل واجب أو مندوب أو مباح أو ترك محرم أو مكروه .
1- فمن العبادة أداء الشهادتين .
2- ومن العبادة أداء أركان الإسلام كما بين الله ورسوله .
3- ومن العبادة الدعاء والاستعانة والمقصود من هذا دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه أحد غير الله ، أما من استغاث بمن يملك سبباً من الأسباب التي قضى الله إجراء الخير أو دفع الشر بها فلا يكون عابداً لغير الله كاستغاثة الغريق بالسباح .
4- الاستعاذة فلا تكون إلا بالله .
5- الإنابة والتوكل على الله . قال تعالى : ?ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?.
6- الخوف والرهبة . قال تعالى : ?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?.
الخوف الفطري كالخوف من الحية والجوع وغيرها فليس عبادة .
7- النذر لا يكون إلا لله .
8- الذبح لا يكون إلا لله .
9- الحكم لا يكون إلا لله .(1/101)
ولقد خلقنا الله لعبادته فيجب علينا أن نعبده سبحانه ?وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?.
الخلاصة :
*كل جزء في جسم الإنسان قد خلق لحكمة تشهد بأن الله ما خلق الإنسان عبثاً .
*ليس الجاهل الأكبر من لا يعرف الحكمة من ملبسه ، أو مسكنه، أو فراشه، أو فمه، أو أنفه، أو عينه، بل الجاهل الأكبر من يجهل الحكمة من كيانه بأجمعه ، ووجوده بأكمله.
*جهل الكفار بالحكمة من خلقهم فتاهوا في حيرة بين سؤالين: هل نأكل لنعيش؟ أم نعيش لنأكل؟ ولكن المسلم يقول : إن ربه خلقه ليعمل وفق إرادته وإن إرادة الله قد شاءت أن يكون الإنسان خليفة لربه على أرضه ، يستخلفها وفق هدى ربه ، فالمؤمن يأكل ليعيش ، ليعمل في الأرض وفق هدى ربه ، ليرضى عنه فيفوز بالجنة وينجو من هذا النار .
*ظهور أن الإنسان قد خلق لحكمة ، وغياب هذه الحكمة في الدنيا شاهد بأن هناك حياة أخرى تظهر فيها الحكمة من خلق الإنسان كاملة جلية، كما تظهر الحكمة من خلق العينين والرئتين والفم والمعدة والقدمين بالنسبة للجنين ، بعد خروجه من عالم بطن أمه إلى عالم الأرض .
*إذا كان العاقل يتنزه عن إهدار ما أعده ، وكونه ، وتضييع ما صنع سدى ، فإن خالق العقل والعقلاء يتنزه عن هذا من باب أولى ، وذلك يشهد بأن خالقنا لن يتركنا بعد موتنا نذهب سدى .
*لو كان لله إرادة في تضييع الإنسان سدى ، فلقد كان قبل وجوده ضائعاً لا قيمة له ، ولما كان هناك مبرر لخلق الإنسان وتصويره في أحسن تقويم وأعدل صورة .
*لقد شاء الخالق أن تكون الدنيا مقدمة لحياة الآخرة ، كما أن الحياة في الرحم مقدمة للحياة الدنيا فكل ما يزرعه الإنسان في الدنيا يحصده في الآخرة.(1/102)
*إذا عرفنا أن تحويل أي شيء عما صنع له وخلق لأجله ليس إلا إهداراً له ، ومسخاً وتضييعاً، فكذلك كل محاولة كافرة تسعى لجر الإنسان بعيداً عن عبادة ربه ، واستخلاف أرضه وفق مشيئته ليس إلا إهداراً وتضييعاً ومسخاً للإنسان ، ويظهر ذلك جلياً عندما يسخر الكافرون أنفسهم في نار جنهم .
*ليست العبادة صلاة وصياماً فحسب ، بل هي أيضاً جد وجهاد وسعي وعمل وبناء وعمران وسير في الأرض يرضي الله .
وهي أنواع كثيرة ، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
الموت
ما هو الموت :
الموت : هو مفارقة الروح للجسد ، وانتقالها إلى الحياة البرزخية[16] وعودة الجسد الترابي إلى أصله الذي جاء منه ، وبخروج الروح من الجسد يتوقف عمل كل جهاز من أجهزة جسم الإنسان ، وكل خلية من خلاياه ، كما تنساح مكونات كل خلية وتختلط مواد الجسم بعضها ببعض ، ويتحول البدن على حالة الجماد الذي لا يحس ، ولاينمو ولا يتغذى ، ولا يتحرك ، ولا يتنفس ولا يفكر، ولايعمل شيئاً . وما أشبه الموت بالنوم، إلا أن الفارق هو بقاء الروح متصلة بالجسد عند النوم، وانفصالها تماماً عنه عند الموت .
قال تعالى :
?اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى?[الزمر: 42] .
ملائكة الموت :
إذا حضرت ساعة الإنسان أرسل الله إليه ملك الموت الموكل به لقبض روحه .
قال تعالى :?قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(11)وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ?[السجدة : 11 ، 12] .(1/103)
وقال تعالى :?وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ?[الأنعام : 93 ] .
الموت سنة لا مفر منها :
لقد جاء هذا الجيل من البشر بعد أموات سبقونا ، فقبل مائة عام لم يكن لهذا الجيل وجود على الأرض . وجاء الموت فأخرج من كانوا قبلنا وما ترك منهم أحداً ، وبعد مائة عام نكون جميعاً أهل هذا الجيل في الحياة البرزخية ولن يتمكن أحد من الفرار من الموت .
?قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?[الجمعة: 8] .
وعند مجيء الأجل المحتوم لا يتأخر الموت عن أحد .
قال تعالى :?فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ?[النحل : 61] .
وقد يسأل سائل حول العلاج الطبي ، وهل يدفع الأجل المحتوم؟ والجواب: إن الذي يصاب بمرض معين ، ما أصيب به إلا وقد علمه الله ، وقد علم الله أيضاً أنه سيجد الطبيب، وأن العلاج سيتوفر ، وأنه سيتمكن من وضع العلاج الذي قدر الله فيه الشفاء على المرض الذي قدر الله فيه الانتهاء عند وضع ذلك الدواء علم الله ذلك فكتبه وقدره ، وظن الجاهل أن العلاج قد جاء من وراء علم الله وذلك باطل ، وأما الذين دنت ساعتهم فإنهم يتقدمون للموت مهما كان العلاج ، ومهما كانت العناية الطبية ، كما يحدث لمن يتوفى من الرؤساء والملوك .
بل إن الساعة قد تأتي الرجل الموفور الصحة والعافية ، فتنقله إلى عالم البرزخ دون أي خلل جسماني أو أعراض مرضية كما يحدث في الذين يموتون موت الفجأة : ويسميه الناس (السكتة القلبية).
علامات الموت :(1/104)
مقياس الموت الحقيقي هو خروج من الجسد. غير أن الروح لا تشاهد بالعين إلا أن خروجها يترك أمارات في جسم الميت ، يستدل من هذه الأمارات على أن الشخص قد مات فمنها :
1- أن تغمض عيناه .. ولكن النائم تغمض عيناه!!
2- أن يتوقف النفس .. ولكن الغريق غير الميت يتوقف تنفسه لفترة .
3- أن يتوقف القلب .. وقد يخفق القلب ويتوقف فترة ويعود للعمل مرة ثانية .
4- أن يتوقف حركة (الستيوبلازم) داخل كل خلية ، وتفقد كل (نواة) سيطرتها على محتويات الخلية فتنساح المواد في الخلية بعضها في بعض ويتغير تركيب كل خلية في جسم الإنسان .
وإذا كانت الأمارات الثلاثة الأولى لا تكفي للتأكد من خروج الروح ، فإن هذه الأمارة الرابعة أمارة قوية جداً . ومن حكمة غسل الميت أن الغسل بالماء قد ينبه لجسم لو كان ما زال حياً .
شبهة :
يروج بعض الجهلة : بأنه قد أصبح في مقدور الأطباء إحياء الموتى ، وذلك لأنهم يبنون مقدمتهم على باطل فيأتي الباطل في النتيجة .
يقولون؛ إن من توقف قلبه فقد مات ، وليس توقف القلب إلا أمارة تحدث عند الموت وعند أي مرض آخر، كما تغمض العينان عند الموت، وعند النوم على سواء ، فهل يليق بعاقل أن يقول: إنه قد أحيا ميتاً ، لأنه رأى شخصاً قد أغمض عينيه فأيقظه ففتح الرجل عينيه مرة ثانية!!
الخلاصة :
*الموت هو مفارقة الروح للجسد ، وانتقالها من الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية ، والنوم قريب الشبه من الموت .
*يرسل الله ملائكته المكلفة بقبض أرواح العباد عند حلول الأجل .
*العلاج منا لمرض يكون باستخدام الدواء الذي قدر الله فيه الشفاء من ذلك المرض، وعلم الله قد أحاط بكل شيء ، وعلم أن فلاناً سيمرض وسيجد الطبيب والعلاج فيشفى، وأن فلاناً سيمرض وسيجد الطبيب والعلاج ويموت، وأن فلاناً سيمرض ولا يجد العلاج فيموت ، ولا يكون إلا ما قد كتبا لله في سابق علمه .(1/105)
*للموت علامات: إغماض العينين، توقف النفس، توقف دقات القلب، توقف حركة (السيتوبلازم) في كل خلية من خلايا الجسم، وانسياح مكونات الخلايا بعضها ببعض، واختلال تكوين الجسم ، وهذه هي العلامة الأقوى الدالة على الموت .
*توقف القلب وإعادته للعمل بالعلاج، أو التدليك ليس دليلاً على إحياء الأموات إلا إذا كان فتح العينين بالإيقاظ بعد غمضها بالنوم يعتبر إحياء لمن كان قد نام وغمضت عيناه!! ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الصافات : 180-182] .
~
---
1 السيد هنا هو صاحب النفوذ على غيره بدون ولاية حكومية .
2 لأنه السائل الوحيد على وجه الأرض الصالح لإتمام العمليات الحيوية وحدوث التفاعلات الكيماوية والحيوية .
3 الجنان : القلب.
4 أخرج هذه القصة : الترمذي (4/296) والجزري والبزار .
5 أخرج هذه القصة : ابن إسحاق في المغازي 11و12 من ابن هشام وأحمد (رقم 1740) وأورد القصة القرطبي في تفسيره.
6 أخبرهما : امتحنهما .
7 الطبري ، وابن حبان والحاكم ، والبيهقي .
8 في كتابه : (محمد رسول الله ، هكذا بشرت الأناجيل) .
9 الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الاستثناء 11 .
10 في كتابه : (محمد رسول الله ..) .
11 سفر التكوين 11: 13 .
12 إنجيل متى : 21 ، 42، 43 .
13 صحيح مسلم .
14 إنجيل متى وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا المعتمدة الآن عند المسيحيين وأما إنجيل عيسى فمفقود وهي بمثابة سير محرفة لعيسى عليه السلام .
15 إنجيل برنابا الباب : 220 .
16 حياة البرزخ : هي الحياة التي تفصل بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى وهي حياة الانتظار ليوم القيامة .
منزلة علم التوحيد والأدوار التي مر بها
منزلة علم التوحيد :(1/106)
إن منزلة علم التوحيد من سائر العلوم بمنزلة الرأس من الجسد . لأنه أصل الدين وأساسه المتين، ولأنه يبحث في أهم القضايا الأساسية التي تتعلق بالوجود الإنسان، وهو أفضل العلوم وأشرفها: لأن شرف العلم بشرف المعلوم . ولأن التوحيد هو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع .
وإذاً فلا يكون الإنسان مسلماً ، ولا مؤمناً إلا بمعرفة علم التوحيد معرفة تظهر آثارها في الأقوال، والأفعال، وفي جميع الأحوال
وحاجة العباد إلى علم التوحيد أشد من حاجتهم إلى غيث السماء، ونور الشمس الذي يذهب عنهم حنادس[17] الظلماء .
فضرورتهم إليه أعظم الضرورات . وحاجتهم إليه مقدمة على جميع الحاجات، لأنه لا حياة للقلوب إلا به ، ولا سعادة للإنسان إلا إذا عرف ربه ، ومعبوده وفاطره، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، معرفة يقينية ، وعرف رسول ربه إليه وتأكد من بينات ومعجزات رسالته ، وعرف الحكمة من وجوده على الأرض، وعلم بالحلال والحرام وعرف أثر كل فعل في المستقبل الذي يسير بالموت إليه.ومن رحمة الله بعباده ، ومن حكمته جل وعلا أن بعث الرسل ليكونوا معرفين به وداعين إليه، ومبشرين من آمن، ومنذرين من خالف وكفر، وجعل الله مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه.
قال تعالى : ?إِذْ جَاءَتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[فصلت: 14] .
وعلى هذه المعرفة تبنى قواعد الرسالة وكل ما يتعلق بها .
الإنسان يتكون من روح وجسم :(1/107)
إن الإنسان يتكون من عنصرين: مادي ينمو ويتحرك وهو الجسم . ثم جوهري بريء من المادة، له تلك المظاهر الخاصة من تفكير ، وعلم ، وإرادة ، وحب ، وبغض ، وخلق كريم ، أو ذميم ، وهو الروح. ولكل من هذين العنصرين رغائب ، يتوق صاحبها إلى تحصيلها في أقصى حدودها، فللجسم رغائب من الطعام والشراب، إلى غيرهما من سائر الشهوات، واللذائذ الجسدية ، وللروح مدارج في الترقي ، يمكن أن تنال منها حظوظاً متفاوتة حسب سعيها ، ومجاهدتها .
ولقد اتصلت الروح بالبدن ، وفي هذا الاتصال أنواع من البلاء ، فصار كثير من الناس عبيداً لشهواتهم ، وانحطت بشريتهم ، وإنسانيتهم ، إلى درجة الحيوانية المحضة ، لا يرغبون من الحياة إلا في ألوان الطعام والشراب ، وسائر أنواع الشهوات ، بل بعضهم ينحدر إلى ما وراء الحيوانية المعتادة بما وهبوا من التفكير ، فيكشفون أنواعاً من الشهوات لا يصل إليها إلهام الحيوان .
لهذا جاء القرآن بتشريع روحي ، قوامه الإيمان بالله ، والتحقق بمعرفته معرفة يقينية ، لا يشوبها شك ، ولا يخالطها ريب ، معرفة تسمو بالإنسان إلى ذروة الكمال ، وتجعله فرداً صالحاً في المجتمع الإنساني ، وتنقذه من الأزمات النفسية التي تجتاحه اليوم من جراء جهله بربه الذي خلقه ، وخلق ما حوله ، وسخره له .
ثم دعا القرآن الإنسان أن يجاهد نفسه ، ويروضها على فعل الخير، وأن يصفي قلبه وينقيه من أدران الشهوة والهوى، والبغض، والحسد ، وسائر أمراض القلب من الأخلاق الذميمة لتجتمع النفوس على المحبة والإخاء والسلام .
لا هداية للإنسان بدون علم التوحيد :
ولا يمكن للإنسان أن يهتدي إلى الحق في تصرفاته بدون علم التوحيد ولكي تتضح هذه الحقيقة هيا لندرس هذه الظاهرة العجيبة .
ينقسم العلم البشري في المدارس والجامعات إلى نوعين من الدراسة :(1/108)
أ ـ دراسات حول علوم المادة (القسم العلمي) وتعتني هذه الدراسات بدراسة المادة ومعرفة أحوالها ثم استخدام هذه المادة لمصلحة الإنسان .
ب ـ دراسات حول العلوم الإنسانية (القسم الأدبي) وتعتني هذه الدراسة بالإنسان ودراسة أحواله .
وإذا كنا بدون شك نحرص على أن يوفق الإنسان في الدراسات الإنسانية، ولكي يتمكن من إصلاح نفسه ، وإصلاح أمر الإنسان مقدم على إصلاح أحوال المادة. ولكن للأسف الشديد لقد أخفق الإنسان في تحقيق هذا الهدف . لأن ذلك ليس من حقه كما سنرى .
مقارنة بين الدراسات المادية والإنسانية :
الدراسات الإنسانية (الأدبية)
الدراسات المادية (العلمية)
1 – اختلفت البشرية حول قواعدها وأصولها وما يدرس في بلد يختلف عما يدرس في البلاد الأخرى وما يراه أستاذ غير ما يراه الأستاذ الآخر. والأستاذ الواحد قد يرى نظرية في أول العام ويرى عكسها في آخر العام .
1 – اتفقت البشرية حول قوانينها وقواعدها فالحقيقة العلمية التي تدرس في أنحاء الأرض واحدة مثل 5×5= 25 هذه الحقيقة واحدة تتفق عليها البشرية.
س : ولماذا اتفقت البشرية على حقائق علوم المادة واختلفت في العلوم الإنسانية ؟
لدراسات المادية (العلمية)?
?
الدراسات الإنسانية (الأدبية)??
?2 – إن ظهور الحق في هذه العلوم جعل البشرية تتحد في هذه العلوم. فإذا سمعنا الآن شخصاً يقرع الباب فسنتفق جميعاً على أن شخصاً يقرع الباب وهكذا لما ظهرت حقائق العلوم المادي اتفقت البشرية عليه . ?
?
2 – إن عدم ظهور الحقائق في هذه العلوم جعل البشرية تختلف في هذه العلوم ، فإذا اختفى الذي يقرع الباب، فمنا من سيقول هذا طالب، وآخر يقول فراش، وثالث يقول بل هو المدير، ومنا من يقول هو طويل وآخر يقول بل هو قصير وهكذا عندما اختفت حقائق هذه العلوم اختلف الناس فيها
س : ولماذا ظهرت هذه الحقائق في علوم المادة ولم تظهر حقائق العلوم الإنسانية ؟
لدراسات المادية (العلمية)?
?(1/109)
الدراسات الإنسانية (الأدبية)??
?3 – وظهرت للإنسان حقائق هذه العلوم لأن الله الذي خلق الإنسان أعطاه قدرة على معرفة الحق في العلوم المادية . ?
?
3 – واختفت حقائق العلوم الإنسانية عن الإنسان لأن الله لم يعط الإنسان قدرة على معرفة الحقائق في هذه العلوم
س : ولماذا أعطى الله الإنسان قدرة على معرفة الحقائق في علوم المادة ولم يعطها له في علوم الإنسان؟
لدراسات المادية (العلمية)?
?
الدراسات الإنسانية (الأدبية)??
?4 – لأن الله خلق الإنسان خليفة في الأرض وسخر له ما في السموات والأرض فأعطاه علوم الاستخلاف ، التي يتمكن بها من تسخير ما سخر الله له من النعم . ?
?
4 – لأن الله خلق الإنسان خليفة في الأرض فسخر له كل شيء ، بشرط واحد هو أن يكون هذا الإنسان مسخراً لأمر الله ، ألا ترى أن الوزير أو المحافظ تخضع له الوزارة والمحافظة ولكنه يخضع للذي استخلفه وعينه. وكذلك المستخلف في حانوت أو مصنع ، كل ما في المصنع أو الحانوت يخضع له ، لكنه يجب أن يتلقى توجيهاته من صاحب الحانوت أو المصنع
النتيجة : لقد سخر الله للإنسان ما في الأرض ، وأعطاه العلم اللازم لاستخلاف هذه الأرض، ومكنه من معرفة الحقائق في علوم الاستخلاف (العلوم المادية) . ولكنه جعل هذا الاستخلاف تحت توجيهه وهدايته ، فجعل هداية الإنسان بيده سبحانه يتلقى الأوامر من الذي خلقه واستخلفه ، ولا تعرف هذه الحقائب إلا بتعليم من الخالق سبحانه. ولذلك أرسل الله الرسل فتوحدت البشرية على هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الأدوار التي مر بها علم التوحيد :(1/110)
أولاً : منذ أن قامت دولة التوحيد ، على يد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بقيت عقيدة التوحيد ، تستمد قدسيتها من وحي الله وتعاليم السماء، وتعتمد أول ما تعتمد عليه على كتاب الله العزيز ، وكان منهج القرآن في غرس هذه العقيدة في القلوب، هو أن يعرضها على الناس عرضاً كله السهولة والبساطة ، والمنطق السليم، فيلفت أنظارهم على ملكوت السموات والأرض، ويوقظ عقولهم إلى التفكير في آيات الله ، وينبه فطرهم إلى ما غرس فيها من شعور بالتدين ، وإحساس بعالم وراء هذا العالم المادي ، وعلى هذه السنن مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس عقيدة التوحيد في نفوس أمته، لافتاً للأنظار ، موجهاً للأفكار وموقظاً للعقول ، ومنبهاً للفطر ، ومتعهداً هذه الغراس بالتربية والتنمية ، حتى بلغ الغاية من النجاح ، واستطاع أن ينقل الأمة من الوثنية، والشرك ، إلى عقيدة التوحيد ، ويملأ قلوبها بالإيمان واليقين كما استطاع أن يجعل من أصحابه قادرة للإصلاح ، وأئمة للهدى والخير ، وأن ينشئ جيلاً يعتز بالإيمان، ويعتصم بالحق، فكان هذا الجيل كالشمس للدنيا ، والعاقبة للناس حتى وصفهم الله بقوله :
?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ?[آل عمران : 110] .
ثانياً : ثم كانت الخلافات السياسية ، والاتصال بالمذاهب الفكرية الأخرى ، وإقحام العقل فيما ليس له فيه مجال ، سبباً في العدول عن منهج القرآن الحكيم، كما كانت سبباً في تحول الإيمان من بساطته ، وإيجابيته ، وسموه ، إلى قضايا فلسفية ، وأقيسة منطقية ، ومناقشات كلامية تافهة ، أو ينهض به الفرد أو تحيا به الأمة ، وكان من أثر العدول عن نهج الفطرة، والتأثر بالمذاهب الفكرية الطارئة، وإقحام العقل في مجال الوحي[18] أن انقسمت الأمة على مذاهب مختلفة مزقتها شيعاً وأحزاباً.(1/111)
ولقد كان هذا الاختلاف ، والتنازع سبباً في ضعف العقيدة الضعف العام في الفرد، والأسرة، وفي المجتمع ، وفي الدولة ، حتى أصبحت الأمة عاجزة عن النهوض بمسؤولياتها داخلياً وخارجياً ، ولم تبق الأمة كما أرادها الله أن تكون صالحة لقيادة الأمم ، وهداية الشعوب .
ثالثاً : ثم خلف من بعدهم خلف فترت هممهم ، وضعفت عزائمهم ، فعكفوا على ما ألفه لهم من قبلهم من كتب العقيدة المبنية على الفلسفة ، وجمدوا على ما فيها ، فلا يفكرون إلا بعقول غيرهم، وهذا التقليد منعهم من إطلاق عقولهم ، وعوقهم عن التفكير ، فبنى كثير منهم إيمانه على التقليد ، كان ذلك رغم أن الدين الإسلامي يمنع التقليد من غير وقوف على الدليل واقتناع به؛ ويندد بالمقلدين الذين يجمدون على القديم المألوف . ولو كان غيره أهدى وأجدى .
ولقد كان مما أخذه القرآن على الكافرين جمودهم على التقليد .
قال تعالى :?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ?[البقرة: 170].
ولما كان هذا الدور هو دول التقليد ، فقد قلد المتأخرون السابقين ، حتى في الخرافات والأباطيل.(1/112)
رابعاً : ثم شاء الله أن تعود هذه الأمة إلى المنهج القويم ، في أخذ عقيدة التوحيد من الكتاب المجيد ، فنهض منها أفراد من العلماء الأعلام ، يدعون إلى العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، كما كان عليه السلف الصالح ، ويبينون للناس أن الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الجمود والابتداع ، وبذلك تنبهت العقول من غفلتها ، واستيقظت من سباتها فوجدت القرآن يدعوها إلى النظر في هذه الكائنات ، والتفكر في عجائب هذه المخلوقات ، فنظر أولو العقول، وفكروا ، فإذا بالعلوم الحديثة تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة ، بيد أن القرآن قد نبه عليها ، وأشار إليها إشارات صريحة ، من قبل أربعة عشر قرناً من الزمان . فكان ذلك تفسيراً عملياً لقوله تعالى :?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ?[فصلت: 53] .
وقوله تعالى :?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا?[النمل: 93] .(1/113)
كما وجد أصحاب العقول ، أن العلوم الحديثة ، في مختلف اتجاهاتها ، تكشف عن آيات الله التي بثها في مخلوقاته . فإذا كان الأولون يرون أن في خلقهم حكمة تشهد بأن خالقها هو الحكيم ، فإن هذه العلوم الحديثة قد جاءت لتكشف عن دقائق الحكمة الباهرة ، وتقف بالإنسان أمام أسرار عظيمة من الحكمة ، والإتقا. وإذا كان الأولون يرون من السماء ونجومها قوة وإبداعاً ، فلقد جاءت العلوم الحديثة لتعمق إيماننا بالقوى المبدع بما تظهر من ضخامة النجوم، وسعة السماء ، وقوة النظام ، وبديع الإحكام والإتقان . وهكذا يقول الله : ?إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ(3)وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(4)وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(5)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ?[الجاثية: 3، 6] .
الخلاصة
*علم التوحيد رأس العلوم ، فهو أصل الدين ، ومواضيعه تدور حول أهم قضايا الإنسان ، ولا يمكن الاستغناء عنه ، وبه يتم الإسلام ، ويتحقق الإيمان .
*بعلم التوحيد يتحقق الإنسان من معرفته بربه ، ويغذي روحه ، وقلبه وعقله ، بالإيمان القائم على العلم كما يتغذى الجسد على الطعام والشراب .
*ولقد مر علم التوحيد بعدة أدوار في أمة الإسلام .
1 – الدور القرآني الذي يعتمد على أخذ الدليل من آيات الله المبثوثة في الكون ، وعلى إيقاف الأحاسيس الفطرية والمشاعر الوجدانية ، وبه أخرجت للناس خير أمة .(1/114)
2 – دور الفلسفة والجدل ، وفيه حجبت الأقيسة المنطقية ، والمقدمات الفلسفية والتعقيدات الجدلية بساطة الإيمان ووضوح العقيدة فيمن اشتغل بها ، وقسمت المفكرين أولاً ، ثم الأمة ثانية، إلى شيع وفرق وأحزاب .
3 – دور التقليد : وذلك بعد أن فترت الهمم ، وخفت ضوء العلم . وتمزقت الأمة فأخذت العقائد بالتقليد ، رغم أن الإسلام يكره لأهله التقليد ، ولقد أدى التقليد إلى تقليد الحق والباطل. الصالح والطالح دون تفكير .
4 – الدور القرآني مع موجبات العلوم الحديثة . وهو الدور الذي نعيش فيه . وقد جاء هذا الدور عندما شاهد المسلمون أن معطيات العلوم الحديثة ليست إلا تدعيماً للتوحيد وكشفاً لنوع جديد من الإعجاز القرآني .
العلم الحق
أهمية العلم الحق :
كثير من الناس تسيطر على حياته الأوهام ، أو الخرافات ، أو الظنون وتدفعه إلى ممارسة أعمال باطلة ، ليس لها أساس صحيح يدعمها . فتضيع جهوده عبثاً أو توجه إلى باطل يلحق بالإنسان أكبر الأضرار .
قال تعالى : ?مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ?[النساء: 157] .
وقال تعالى في المعارضين من اليهود : ?وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ?[البقرة : 78] .
وقال تعالى عن المضلين :?إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ?[الأنعام : 116] .
وقال سبحانه :?وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام: 119] .
وسبب ذلك أن هذه الأفكار التي وجهت الإنسان إلى هذا الباطل قد سلكت طريقاً معوجاً إلى نفسه فأوقعت الإنسان في خديعة الظنون الكاذبة لذلك فلقد كان من الضروري معرفة الطريق الصحيح الذي يجب أن نأخذ منه علومنا؛ حتى لا نقع في خداع الظنون والأوهام أو الخرافات .
وسائل العلم
الحواس الخمس :(1/115)
1 – اللسان : وهي آلة خلقها الله سبحانه لتمييز طعم المواد المختلفة، وإن أصيب الإنسان ببعض الأمراض فقد يطعم بعض الأشياء على حقيقتها ويتغير طعم البعض الآخر . وحدود عمل اللسان ضيقة جداً فتمييزه للطعم محصور في نطاق ما لامس اللسان . بشرط أن يذوب في اللعاب . وأي علم يأتينا من اللسان فهو علم نقبله مع بعض التحفظات[19].. ولكن العلوم التي نكتسبها بواسطة اللسان محدودة جداً جداً ، وأثرها لا يكاد يذكر في بناء العلوم الإنسانية .
2 – الأنف : وهو جهاز نعرف به روائح المواد ذات الرائحة ويبطل عمله إذا أصيب الإنسان بمرض الزكام . وحدود عمله ضيقة جداً إذ أن قدرته على الشم لا تتجاوز بضعة أمتار ويختص بالمواد ذات الروائح ، وما جاءنا من علم بواسطته نأخذه مع بعض التحفظات . والعلوم التي نكتسبها بواسطته محدودة جداً جداً وأثرها لا يكاد يذكر في بناء العلوم الإنسانية .
3 – الجلد : وهو آلة حسن لما يقع على الجسم من أشياء يقدر على الإحساس بها فيميز بين الناعم منها والخشن ، والثقيل والخفيف ، والحاد وغير الحاد ، والحار والبارد ، وهو لا يدرك من الأشياء إلا ما كان له ثقل معلوم فهو لا يحس بالجراثيم أو الكائنات الدقيقة ، أو الضوء أو الأمواج الإشعاعية كأمواج الراديو واللاسلكي ، وقد يخدر فلا يحس شيئاً ، وحدود عمله ضيقة جداً يحد بحدود الجسم ، وليس له اثر يذكر في بناء العلوم الإنسانية ، فالطالب كل علومه في المدرسة بغير طريق اللمس أو الشم أو الطعم إلا نادراً في بعض التجارب العملية ومعلومات الجلد نقلبها إجمالاً[20].(1/116)
4 – العين : هي نعمة كبرى بها نرى الأشياء المختلفة تقدر أحجامها وأبعادها وألوانها وأشكالها وقد تسحر العين أو تخدع كأن ترى الشمس كفرص الخبز وهي كالأرض : (1.350.000)مرة، أو ترى العصا في حوض الماء مكسورة عند سطح الانفصال ، أو ترى المنازل من الطائرة كعلب السجائر، ومجال عملها الواضح محدود بعدد من الأمتار ، لكنه يمتد بصفة مجملة إلى غير حقيقة ، وكل ما يأتينا منها لا نقبله بالتسليم المطلق ، فقد يرينا الساحر التراب ذهباً .
ولكنها آلة هامة جداً في بناء العلوم الإنسانية، ومعظم الأشياء المطعومة ، والمشمومة والملموسة، تقع تحت رؤية العين.
5 – الأذن : وهي نعمة كبرى في مجال العلم البشري ، فبها يستفيد الإنسان من علوم غيره، وكأن الأربع الحواس السابقة للناس جميعاً قد أصبحت مسخرة للإنسان ، وذلك بواسطة نقل نتائج عملها إليه عن طريق السماع بواسطة أذنه ، ومجال عمل الأذن واسع جداً، حدوده هي حدود مشاهدة الجنس البشري بأكمله ، وتمتد حدود عمل الأذن إلى ما شاهده المرسلون ، وإلى ما أطلعهم عليه ربهم من غيوب تعلمناها من علم الله المحيط بكل شيء علماً . ولكن الأذن أيضاً تخدع ، إذ أن ما تسمعه من أخبار ومعلومات كثير جداً، ومنه الحق ، ومنه الباطل ، وبهذه الآلة يتعلم طلاب العلم أكثر من 90% من علومهم، كما أن أكثر من 90% من العلوم الإنسانية قد قامت عليها . ونحن لا نأخذ ما جاءنا من علوم بواسطة الأذن بدون تحر أو تدقيق في المصدر الذي يحدثنا بعلم أو خبر ، كل هذا إلى جانب أن الأذن تسمع ـ إلى جانب أصوات اللغة ـ أصوات ما له صوت مما حوله إلى مسافات قريبة، كأصوات الحيوانات وتحرك بعض الجماعات وغيرها.
قوة التصور :(1/117)
إن في الإنسان مقدرة على تصور ما يسمع أو ما يفكر فيه تعينه على فهم ما يسمع أو ما يفكر فيه ، وهي نعمة كبرى تمكن الإنسان من التخطيط لحياته ، ووضع الترتيبات لما يريد عمله . كما أ،ها سلاح المخترعين والمهندسين ، فهم يتصورون ما يريدون في عالم الخيال والتصور، ويحولونه إلى عالم الأشكال الهندسية ، ثم إلى عالم الواقع. لكن هناك فرق كبير بين الحقيقة، وما يتصوره الناس من حيث التفاصيل والدقائق .
والمادة الأولى لقوة التصور ، هي المعلومات التي تأتي من الحواس الخمس ، الإنسان يركب، ويحلل ما جاءه من الحواس الخمس في صورة جديدة مبتكرة، ولا يستطيع الإنسان تصور شيء لم تأته أصوله عن طريق الحواس الخمس ، فما سمعنا أحد من الأولين يتحدث عن الأشعة الذرية، أو عن أمواج اللاسلكي أو أمواج الراديو ، كما نشاهد أن تصور كل إنسان مرتبط ببيئته
إن قوة التصور هي مصدر الخيال الواسع في حياة الإنسان ، ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصور إلا بعد فحصه جيداً أمام العقل، ومعظم الأوهام الباطلة التي تتحكم في حياة الناس تنبع من تصورات خاطئة . أما مجال عمل قوة التصور فهو مجال واسع جداً ، يشمل جميع مجالات الحواس الخمس.
من القاضي الذي يفصل؟
إذا فكرت في الوسائل السابقة، وجدت أن جميعها عرضة للوقوع في الخطأ، فكيف نميز الحق من الباطل؟ لقد جعل الله لنا عقلاً يميز الحق من الباطل، فهو إذن القاضي الذي تعرض عليه كل المعلومات القادمة من خطأ لا من ذاته ولكن بسبب تغرير به أثناء عرض المعلومات ، كأن تقدم له معلومات ناقصة أو مشوهة، فتأتي أحكامه ناقصة مغلوطة ، مشوهة ، ولكن ذلك لا يرجع إليه وإنما يرجع إلى مؤثرات خارجية، ولكن العقل مع ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه العلم الحق.
حدود العقل :(1/118)
1 – حدود في المجال : إذا عرفنا أن الحواس الخمس محدودة في قدرتها في مجالات عملها، وعرفنا أيضاً أن قوة التصور محدودة بالحواس الخمس لأنه لا يعلم شيئاً إلا ما جاء بواسطة هذه الحواس التي هي نوافذه المفتوحة إلى خارج كيان الإنسان ، بحيث أنا لو تصورنا شخصاً قد سلب الحواس الخمس فلا يمكن له أن يكتسب معرفة واحدة بعقله مما يوجد حوله من حقائق وأشياء .
2 – حدود في القدرة : وإذا كان ذلك بالنسبة لحدود مجال العقل؛ فإن هناك حداً للعقل في قدرته فمثلاً :
العقل يعجز عن إدراك نفسه، وهو إلى الآن عاجز عن إدراك كيفية عمله: كيف يفهم؟ كيف يميز؟ كيف يعقل ؟
كما يعجز العقل عن إدراك الروح التي تدب في الإنسان أو الإحاطة بها .
كما يعجز عن الإحاطة بأكبر عدد ، فإذا سألته ما هو أكبر عدد؟ أجاب: أكبر عدد ما لا نهاية ( } ) . فإذا قلت له :
اجمع ما يلي : } + } وكم النتيجة؟ كانت الإجابة مضحكة = } (مالا نهاية) !!
وإذا قلت له } + 20 مليون كم النتيجة ؟ أجاب إجابة مضحكة = } (ما لا نهاية) .
وإذا قلت له } - 300 مليون كم النتيجة؟ أجاب إجابة مضحكة = } ( مالا نهاية) .
كما يعجز العقل عن إدراك بداية الزمان أو يحيط بنهايته ، وكذلك يكل ويعجز عن إدراك نهاية للمكان .
والعقل يعرف أن أحداثاً ستكون غداً ، ولكنه يعجز عن إدراكها ومعرفتها مع أنها كائنة لا محالة ، ومع أن بعض الرؤى النامية تتفوق على العقل في هذا الباب . فتعرف ما سيكون غداً فيأتي كما رأت أو قريباً منه . كما يعجز العقل عن معرفة ما سيحدث لنا بعد موتنا بثوان وصدق الله العظيم القائل: ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ?[البقرة: 255] .
تلك هي وسائل العلم وأدواته ، فما هي مصادره؟
مصادر العلم(1/119)
1 – المخلوقات : المطعومة والمحسوسة والمشمومة والمرئية والمسموعة . وهذا المصدر هو مصدر معلوماتنا اليومية التي نكتسبها في كل يوم . ويمكن أن نطلق على هذا المصدر عالم المشاهدة المحسوس.
2 – التعليم الإنساني : بواسطة اللغة . ومن هذا المصدر نأخذ كل العلوم التي يجهلها الإنسان لأنها لا تقع في نطاق حسه مباشرة فيتعلمها الإنسان مما عرفها بواسطة اللغة. وعلى هذه العلوم قامت الحضارة الإنسانية ، وهي تمثل أكثر من 90% من العلوم الإنسانية التي تقدم في المدارس والجامعات وغرها من المؤسسات العلمية .
3 – الوحي : وهو أرقى مصادر العلم ، لأن علومه تأتي من لدن من أحاط علماً بكل شيء ، ولا يكون إلا لمن يصطفيهم الله من عباده ، ويختصهم بوحيه ، ويؤيد الله رسله ، حملة وحية بالآيات، والبينات ، والمعجزات المصدقة لهم أنهم رسل من عنده .
وعلوم الوحي أرقى العلوم أو أعلاها وبواسطتها نعرف خالقنا والحكمة من خلقنا على الدنيا، والحلال والحرام، وما يريده الله منا ، ولماذا نموت وما الذي ينتظرنا بعد الموت، كما نعرف بها منزلتنا في الكون والطريق التي نسير عليها في حياتنا المرضية لخالقنا ، وهذه الأمور لا يستطيع العلم البشري معرفتها وحده دون هداية الله ووحيه ، وليس من موقف للعاقل أمام إخبار الوحي إلا الإيمان والتصديق لكل ما جاء به بعد أن صدق ، وآمن ، واستيقن بصدق مصدر الوحي.
4 – الرؤيا الصادقة : وهي مصدر من مصادر العلم والمعرفة ، ولكنها شخصية نادرة ولا تلزم الآخرين بالتصديق .
5 – قد يعتبر ما يسترقه الجن من الملأ الأعلى ويلقونه إلى الكهان مصدراً من مصادر العلم ولكن الجني يخلط مع الحقيقة الواحدة 99 كذبة كما جاء في الحديث، وهذا يلقي لنا الضوء على صدق إخبار بعض الكهان في بعض الأمور ، ولكنه لا يصلح مصدراً للعلم ، بل إن ما يقرب من 99 كذب في كل مائة خبر تجعله مصدراً من مصادر الضلال ، لذلك نهى الإسلام عنه نهياً شديداً .(1/120)
أساس العلوم الحديثة
قانون المعرفة العلمية :
لبعض الفلاسفة آراء تثير السخرية والضحك ، إذ أن بعضهم شك في عقله وحواسه ، وزعم أن كل ما نشاهده خيال في خيال ، وبعضهم ألغى العقل وقال : إن الحق هو ما أدركته الحواس فقط. ولقد كان فرنسيس بيكون أول من نقل المبدأ العلمي (قانون المعرفة العلمية) إلى أوروبا ، وهو المبدأ الذي قامت عليه النهضة العلمية الحديثة، وذلك من المسلمين المتاخمين لأوروبا في جامعات الأندلس. ولا شك أن المسلمين قد علموا ذلك في قول ربهم :?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا?[الإسراء:36] .
يقول القانون العلمي للمعرفة:
التجربة أو الظاهرة+ المشاهدة + الاستنتاخ العقلي = الحقيقة العلمية، فنحن نشاهد التجربة ، ونراقبها ، ونعرف مقدماتها ، ونتابع سيرها ونلاحظ نتائجها ، ثم بالعقل نستنتج الحقيقة العلمية التي ربطت بين ما شاهدناه أولاً في مقدمات التجربة وبين ما شاهدناه ثانياً في نتائجها .
فالحقيقة العلمية إذن هي ما استنتجته العقول مما أدركته الحواس :
وإذا كانت بعض الأمور لا تخضع للتجربة كسير الفلك أو عمل الأجسام الحية، فإن الظاهرة المشاهدة تقوم مقام التجربة .
إذن
الحقيقة العلمية هي ما تستنتجه العقول ولو لم تكن مشاهدة :
1 – الحرارة تذيب الثلج . هذه حقيقة علمية .
ثلج + حرارة = ماء .
فمن شاهد الحرارة وهي تتحد بجزئيات الثلج وتذيبها ، وتحولها من مادة جامدة إلى مادة سائلة؟ إن الذي شاهدناه أولاً هو الثلج ومصدر الحرارة وقد قرب من الثلج ، وكان الذي شاهدناه هو الماء في حالة سائلة ، فاستنتجت الحقيقة العلمية التي لم نشاهدها وهي أن الحرارة تذيب الثلج .
2 ـ أكسجين + أيدروجين حرارة ماء .
هذه حقيقة كيماوية استنتجناها من مشاهدتين :
الأولى مشاهدة : الأكسجين وأيدروجين وإدخال الحرارة عليهما .(1/121)
الثانية تكون الماء بعد إدخال الحرارة على مخلوط منهما . لكن أحداً لم يشاهد أبداً عملية اتحاد الغازين وقيام الحرارة بعملية التوحيد هذه التي ينتج عنها الماء . ذلك لأن الذرات والحرارة لا ترى إلى اليوم .
وإذا تعمقنا قليلاً نجد :
أن الصورة التي نشاهدها للشيء ليست حقيقته : إنما هي ما فهمه الوعي من الإشارات التي يحملها العصب البصري ، والتي حدثت في العصب البصري بتأثير أضواء الصورة المكونة على الشبكية في العين .
ولقد كانت هذه الأضواء نتيجة لتأثير الجسم المشاهد على الأشعة الساقطة عليه من الشمس أو من مصباح .
فالرؤية البصرية إذن ليست إلا إدراكاً ، ووعياً ، وفهماً لآثار الألوان المختلفة الساقطة من أي جسم على الشبكية .
وكذلك السمع ليس إلا إدراكاً وفهماً ، ووعياً لأثر اهتزازات الهواء على العصب السمعي.
والمواد المشمومة لا ندرك حقيقتها ، وصفة تركيب ذراتها من مجرد الشم ولكنا نفهم، وندرك، ونعي آثار هذه المواد في الأعصاب الشمية .
والمواد المحسوسة كذلك إنما ندرك ونفهم ونعي آثارها على الأعصاب الحسية .
والمواد المطعومة إنما ندرك ونفهم ونعي آثارها على أعصاب الطعم والذوق. وأيما شيء لا يحدث أثراً على أعصاب الرؤية أو السمع أو الشم أو اللمس أو الطعم فإنه لا سبيل لنا لمعرفة أي شي عنه إلا بصنع أجهزة يحدث فيها ذلك أثراً يرى أن يسمع أو يلمس .. الخ .
فليس العلم بالحقائق والأشياء ملامسة لها ، أو اتصال العقل رأساً بها . إنما العلم يأتي عن طريق عرض آثار الأشياء والحقائق على الحواس أو غيرها (كالأجهزة العلمية للكشف) ثم وعي ، وفهم ، وإدراك معنى هذه الأشياء وفهم حقائقها بواسطة تلك القوة العظمى ، قوة العقل .
العلم بالله
إذا كانت الحقيقة تعرف بالاستنتاج العقلي ، مما تدركه الحواس .(1/122)
وإذا كان العلم بالحقائق ليس بملابسة العقل لها ، إنما بعرض آثارها في الحواس مباشرة أو غير مباشرة، فإن علمنا بالله قد قام على هذا الأساس الحق أيضاً ، قائم على استنتاج الإيمان من مشاهدة مخلوقاته ، فإن لله آيات في خلقه وآثار علمه ، وحكمته ، وقدرته ، وعظمته ، مبثوثة في كل أرجاء الكون. فنحن قد علمنا بربنا بإدراك آثاره في مخلوقاته ، ومشاهدة هذه الآثار بحواسنا فأردكنا الحق وآمنا بالله القائل في كتابه :?كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ?[البقرة: 242] .
?إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ?[الجاثية: 3] .
وكذلك فإن لله رسلاً قد عرفونا به ، بعد أن أظهروا لنا من المعجزات ما يثبت صدق نبوءتهم ورسالتهم .
نور يقذفه الله :
غير أن العلم بالله هداية ، من طلبها وجدها، وزاده الله منها قال تعالى : ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى?[محمد:17] . وتزيد المعرفة بالله بزيادة الطاعات قال تعالى : ?وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ?[البقرة: 282] .
وبواسطة ما يقذفه الله من نور الإيمان والهداية في قلوب العباد المخلصين نجد أن إيمان بعض العامة على قلة علمهم قوي راسخ كالجبال .
قانون عام
إذا تأملت فيما سبق وجدت أن أهم آلات العلم في الإنسان هي :
( أ) العين التي ترى وتشاهد ما يحيط بالإنسان .
( ب) الأذن التي تنتقل بها المعلومات عما غاب عنا، ووقع خارج نطاق مشاهدتنا.
( ج) العقل الذي يميز بين الحق والباطل .
قال تعالى : ?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا?[الإسراء: 36] .
***
الخلاصة
*يقع كثير من الناس أسرى للظنون ، والأوهام والخرافات لانحرافهم أو إهمالهم لطريق العلم الحق.(1/123)
*خلق الله في الإنسان وسائل يصل بها إلى العلم الحق ، منها الضيق المحدود في عمله كاللسان والجلد والأنف وبهذه الحواس نعرف الطعوم والأثقال وملمس الأجسام والروائح ، ومنها ما ميدان عمله واسع كالعين والأذن ، التي نمت عن طريقهما العلوم الإنسانية ، وهناك فرق هائل بين من فقد الشم والطعم واللمس ، وبين من فقد السمع والبصر في مجال العلم والمعرفة .
*الحواس كالأنف واللسان تنخدع إذا أصيب صاحبها بمرض كالزكام . والجلد لا يحس كل شيء ولا يعلم عما لا يلامسه شيئاً ، وقد يخدعه التخدير ، والعين يخدعها السحر والبعد والسراب، والأذن يخدعها الكذب .
*وقوة التصور محدودة بما يأتيها من الحواس المحدودة. وقد تخدعها الظنون والأوهام ، وتنخدع أيضاً بما تنخدع به الحواس .
*العقل إذن هو القاضي الذي يفصل بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ، ولكنه أيضاً محدود بحدود الحواس . فلو تخلينا شخصاً بدون حواس فإن عقله إذن لن يتمكن من معرفة أي شيء، والعقل يعمل بدقة في حدود فإذا تجاوزها خالط أحكامه الضلال ، فهو يعجز عن الإحاطة بأكبر عدد أو بقواعده الحسابية ، كما يعجز أن يدرك حدود الكون ، وبدايته أو أن يحيط ببداية الزمان ونهايته، أو الإحاطة بحقيقة نفسه وهي أقرب الأشياء إليه .
*للعلم مصارد هي :
1- الأشياء المطعومة ، والملموسة ، والمشمومة ، والمرئية ، والمسموعة .
2- التعليم من مصادر موثوق بها بواسطة اللغة .
3- الوحي الذي يخص به الله من يشاء ، ونعرف به ما لا نعرف بحواسنا ولا بتعليم الناس لنا.
4- الرؤيا الصادقة وهي قليلة، لا يلزم بها الآخرون .
5- أخبار الكهان ، ولكنها مصدر للضلال، إذ أن كذبها هو الغالب والصدق فيها هو النادر جداً .
*الحقيقة العلمية هي : ما يستنتجه العقل مما تشاهده الحواس وفي الغالب لا ترى هذه الحقائق، إنما تستنتج فقط .(1/124)
*وعمل الحواس هو إعطاء آثار ، وإشارات معينة على أعصاب الحس المختلفة يفهم العقل معناها، وليس عمل الحواس ملامسة الحقيقة .
*وإيمان المسلم بربه حقيقة تعرف من استنتاج العقل ، وفهمه لآثار قدرة ربه في مخلوقاته ، ويقذف الله نوراً في قلوب العابدين المتقين يزيدهم إيماناً وهدى .
*أهم وسائل العلم المسؤولة: سمع ، وبصر ، وفؤاد يعي ويعقل ويفهم .
من آيات الله في المادة
المادة التي يتكون منها هذا الكون المشاهد وغير المشاهد بعيداً في أعماق الفضاء الكوني، المادة هذه التي تتكون منها أبداننا كما تتكون منها أجسام الميكروبات الدقيقة، وتتكون منها نسمات الهواء، كما تتكون منها أجرام السماء؛ هذه المادة نجدها على ثلاث حالات ، لا على حالة واحدة، ولكل من تلك الحالات حكمة:
الأولى : حالة الصلابة : وهذه الحالة تجعل المادة محافظة على شكلها وهيئتها وقد استفاد الإنسان من هذه الخاصية في المادة في بناء منازله ، لأن الأحجار الصلبة ، والأسمنت المسلح الجاف الجامد يحافظ على شكل المنزل ، كما أن شكل الإنسان الثابت يرجع إلى المادة الصلبة، كالعظام التي تحدد هيكل الإنسان، كذلك ولأن قشرة الأرض صلبة لما كان لنا مقر على الأرض أو حياة ، ولو كانت المادة في صورة صلبة فقط ما حدث تغيير أو تبديل أو تحويل في كثير من تفاصيل الكون والحياة .
الثانية : حالة السيولة : من الخصائص الهامة للسوائل أنها تتشكل بشكل الإناء الذي يحتويها، وبهذا تمكن الدم السائل أن يتشكل بأشكال العروق ، والشعيرات الدموية فيجري في كيان الإنسان دون صعوبة كما تشكلت المياه بشكل الوديان فجرت أنهاراً وعيوناً .
قال تعالى :?أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ?[الزمر: 21] .(1/125)
وبخاصية المياه السائلة يدخل الماء إلى جذر وساق وأغصان وأوراق في عالم النبات. ولو كانت المادة في صورة سائلة فقط ما وجد شكل ثابت مستقر .
الثالثة : الحالة الغازية : التي من خصائصها الانتشار ، وعدم الاستقرار في مكان واحد، وبهذه الخاصية انتشر الهواء بقدرة الرحمن إلى كل مكان على سطح الأرض ، ولو كانت المادة جميعها في صورة غازية فقط ما استقرت مادة في مكان محدد .
ومما سبق نجد :
*إن لصلابة المادة حكمة انتفعنا بها في الحصول على مواد بأشكال محددة ثابتة لا تتغير ، فبنى الإنسان بها العمارات والمنشآت ، وصنع الآلات المختلفة ، وكلها كانت تنعدم بغير مادة صلبة ذات شكل ثابت .
*وإن لسيولة المادة حكمة انتفعنا بها في إيجاد أي شكل نريده ، كتغير شكل الحديد السائل إلى آلات مختلفة بالأحجار والأشكال المطلوبة .
*وإن لغازية المادة حكمة ، فبغيرها لا يوجد هواء ، ولا توجد رياح تسوق الأمطار ، كما أننا ننتفع بغازية المادة في كثير من الصناعات وكثير من المنتجات ، كتحول البنزين إلى غاز نفاث يطير الطائرات النفاثة .
فمن قدر هذه الأحوال المحكمة في المادة الواحدة ، ووضع القوانين اللازمة لكل حال من هذه الأحوال؟
هل المادة البليدة هي صاحبة هذه الحكمة ؟
هل المادة البليدة التي لا تملك لنفسها حولاً ولا قوة هي اختارت هذه الحالات؟
كيف والمادة لا تملك حكمة أو تدبيراً؟!!
كيف والإنسان ـ خليفة في الأرض ـ يحول المادة من صورة إلى صورة متى شاء وكيفما شاء، وهي لا تملك لنفسها منعاً ولا تحويلاً ولا تبديلاً؟
وإذا لم تكن هذه الحالات المحكمة من صنع المادة فمن صنع من إذن؟
والجواب: لا شك أنه من صنع غيرها . فمن خلق هذه المادة وأحكم حالاتها إلا :(1/126)
?الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا?[الفرقان : 2 ،3] .
تحولات
وإذا تأملت أحوال المادة هذه وجدت أنها ليست ثابتة أبدية ، وإنما بالإمكان أن تتحول المادة من صورة إلى أخرى ، ولذلك حكمة أيضاً .
الانصهار :
إن المواد الصلبة تتحول إلى حالة سائلة بالانصهار كانصهار الثلج أو الحديد بواسطة الحرارة، وبهذا يمكن للإنسان أن يشكل المعادن كيفما يريد .
الذوبان :
ويمكن أن تتحول المادة الصلبة إلى جزء من سائل بواسطة الذوبان ، كما تصبح قطعة السكر الصلبة جزءاً من سائل (الشاي أو القهوة) ولهذا الذوبان حكمة فبواسطته أمكن إمداد النبات بأملاح التربة بسبب ذوبان أملاح التربة في المادة فتمكنت من الدخول معه إلى كل جزء من أجزاء النبات. ولأن الطعام يذوب في عصارات الجهاز الهضمي سهل وصوله إلى كل جزء من أجزاء الإنسان مع تيار الدم السائل . ولذوبان المواد الصلبة حكمة كبرى في إعداد الطعام وتكوينه .
التجميد :
وهو تحول المادة السائلة إلى حالة صلبة كتجمد الماء إلى الثلج ، وتجمد المعادن المنصهرة السائلة إلى معادن صلبة ، وبغير تجمد المواد السائلة ما كنا قدرنا أن نحصل على آلة من الآلات المعدنية الحديثة.
الترسيب :
هو عكس الذوبان ، ويكون بترسيب المادة الذائبة وانفصالها عن السائل الذي ذابت فيه ، ولهذه العملية حكمة عظيمة فبترسيب مادة الكالسيوم ـ من الدم مثلاً ـ في أماكن تكون العظام ينشأ عنه وجود هذه العظام القوية التي تحفظ للإنسان والحيوان شكله وهيكله . وقد انتفع الإنسان بهذه الخاصية في فصل بعض المواد عن غيرها .
التبخر :(1/127)
وهو تحول السائل إلى حالة غازية كتحول ماء البحار إلى بخار يتصاعد إلى السماء . ومن مزايا التبخير أن المادة الذائبة في السائل المتبخر تبقى ولا تتصاعد ، وبهذا أخرج الخالق لنا ماء عذباً من ماء أجاج .
قال تعالى :?أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ(68)أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(69)لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ?[الواقعة: 68، 70] .
التكثيف :
وبه تتحول المادة إلى الحالة الغازية إلى حالة السيولة، وبهذه العملية يعود الماء الذي تصاعد بخاراً إلى شكل قطرات مائية مكوناً سحباً ثقيلة .
إن التحولات السابقة لا تتم بطريقة عشوائية ، وإنما تتم وفقاً لقوانين وأحكام وقواعد بينتها كتب خواص المادة والفيزياء وغيرها مما يؤكد أن الذي قدر هذه التحولات المفيدة في أوصاف المادة وخصائصها؛ إنما قدرها بنظام محكم دقيق يجعل هذه التحولات مفيدة نافعة ضمن خطة عامة حكيمة يسير عليها هذا الكون ، كما أن هذه القوانين الحكيمة ، وهذه التحولات المقدرة تشهد أن ربها حكيم ، عليم ، خبير ، بصير . ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان :2] .
تأمل .. وتفكر
*لو كان الانتشار من صفات السوائل لطغى ماء البحر على الأرض وأغرق كل شيء .
*لو أن الانتشار من صفات المواد الصلبة لدفنت الجبال كل من يعيش على وجه الأرض ولما استقر شيء في مكانه .
*لو أن صفتي التجمد أو السيولة من خصائص الغازات لا نحصر الهواء على بقعة ضيقة من الأرض، ولتعسر دخوله إلى الرئتين بيسر وسهولة .
*ولو كانت السيولة من صفات المواد الصلبة لما وجدت بيت أو آلة أو كيان ثابت لإنسان أو حيوان .(1/128)
*وإذا كانت هذه الخواص التي نشاهدها في المادة قد أحكمت وقدرت، ونظمت بقوانين صارمة ، نافذة ، محددة ، فمن قدر هذه الخصائص ووهبها للمادة؟ ومن أصدر القوانين المتعددة التي نظمت أوضاع المادة؟ ومن أخضع المواد لهذه القوانين ؟
*إن هذه الخواص الحكيمة المودعة في المادة تشهد أنها من صنع حكيم .
*إن وهب هذه الخصائص للمادة يشهد أنه من فعل الوهاب.
*إن القوانين المنسقة الدقيقة النافذة تشهد أنها من أمر الحاكم المهيمن على كل شيء .
*إن إخضاع المادة للنظام والقوانين يشهد أنه من فعل القوى القاهرة المهيمن.
*فمن هذا الخالق الحكيم الوهاب الحاكم المهيمن القوي القاهر؟
إنه هو الله سبحانه وتعالى عما يشركون .
***
أصل واحد
وإذا سألت عن أصل المادة ، أجابك المختصون : بأن أصغر شيء في المادة هو الذرة ، وأنها أصل كل مادة شوهدت في الأرض أو السماء . إنها لبنة البناء في مادة الكون المشاهد.
وقد وجد الباحثون أن الذرة مكونة من جسيمات مادية متعددة ، وكلما تقدم علمهم كشف لهم جسيمات مادة جديدة في الذرة حتى أن بعض هذه الجسيمات لا يعمر في الذرة أكثر من عشرة أجزاء من مليون جزء من الثانية . واسم مكونات الذرة الأساسية هي ما تسمى : (بروتونات) و(نيوترونات) و(إلكترونات) وكل عنصر مادي في الكون يتكون من ذرات، سواء كان حديداً أو غازاً. ولا فرق بين جميع ذرات العناصر المادية المختلفة ، إلا في عدد مكوناتها ، وترتيبها فالحديد أصله (إلكترونات) و(بروتونات) و(نيوترونات) وغيرها والأكسجين مكون من نفس الأشياء، لكنها تختلف في العدد والترتيب فقط .
قال تعالى :?الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ?[الملك :3] .
وباختلاف في العدد والترتيب اختلفت العناصر المادية اختلافاً كبيراً .
فمن أوجد أصول العناصر المادية (إلكترونات، بروتونات، نيوترونات، ميزونات..الخ)؟(1/129)
ومن جمع بينها مكوناً منها ذرات العناصر المختلفة ، وفق نظام محدد وتركيب معين؟ ومن وهبها اختلافاً في الخصائص والصفات؟
المادة نفسها؟! وأي شيء في المادة هو؟ (الإلكترونات) ؟ أم (البروتونات)؟ أم (الميزونات)؟ وأي جسم من هذه الجسيمات هو الذي أوجد باقي أجزاء الذرة ، وربط ووحد بينها في تشكيلات مختلفة؟
إن كل هذه الجسيمات أجزاء من الذرة ، والجزء لا يوجد الكل ، فليس أي جسيم إذن هو المكون للذرة .
أم أن الصدفة هي التي أوجدت البروتونات؟ وعلمت الصدفة أنه لا بد لا تزان الذرة (كهربائياً) من خلق عدد مساو من (الإلكترونات) فأنشأت الصدفة أعداداً متساوية متوازنة من الإلكترونات والبروتونات في كل ذرة مما لا يحصى من ذرات الوجود .. صدفة!! وهكذا صدفة وجدت ذرة الأكسجين وكذلك ذرة الأيدروجين بالكمية المناسبة والقدر الكافي، والخصائص المطلوبة لتكوين الماء الكافي لحياة الكائنات الحية!! وبالصدفة تكونت ذرات الكربون والحديد والنحاس وغيرها ليتكون منها هذا الكون المنتظم بالصدفة!! والذي لم يختل له نظام بالصدفة!!
فيا أيها العاقل .. هل تصدق إذا قيل لك : إن سيارة من السيارات قد تكونت أجزاؤها (العجلات، الموتور ، المقاعد ، التروس..الخ) بالصدفة ، وأنها قد ارتبطت ببعضها بالصدفة!! وعلى هذا فكتابة هذه الأسطر قد جاءت بالصدفة!!
وكذلك .. هل تصدق إذا قيل لك : إن الدرج الذي أمامك قد تكون بالصدفة!!
لقد ضرب أحد العلماء مثلاً على بطلان القول بالصدفة فقال: لو أعطينا مليون فرد مليون آلة كاتبة، وقدر لهذه القرود أن تطبع على تلك الآلات ملايين الملايين من السنين . فإنه من المستحيل أن يطبع أحد هذه القرود بالصدفة قصيدة لأحمد شوقي، بل من المستحيل أن يطبع أحد هذه القرود بالصدفة عبارة مفهومة منتظمة.
اتحاد محكم وفق نظام دقيق :(1/130)
ويخبرنا علماء المادة : أنه لا يتم تفاعل كيماوي بين المواد إلا وفق قوانين محكمة منظمة، وأن سلطة هذه القوانين تمتد إلى كل مكان في الأرض أو السماء وأنه لا يمكن لأي تفاعل كيماوي أن يتمرد على هذه القوانين ، كما أن أي مادة لا بد أن تستلم وتخضع لأحكام القانون .
وهيا نفكر الآن، ماذا يقول لك عقلك عندما تشاهد دولة منظمةيسير كل شيء فيها وفق قانون ونظام؟ هل تنكر أن وراء تلك القوانين سلطة مشروعة سنت تلك القوانين ، وأن تلك القوانين قد نفذت في تلك الدولة بسلطة قوية منفذة للقانون ، وتعمل باستمرار في المحافظة عليه؟!
*فمن سن القوانين المحكمة لهذه المواد في شتى أرجاء الكون؟
*ومن حدد أحكام القوانين وقدر أقدارها؟
*ومن أخضع كل مادة في الكون لهذه الأحكام والسنن والقوانين؟
*إن هذه القوانين الدقيقة، المحكمة، النافذة، تشهد لكل عقل أنها من أمر الحاكم، المهيمن، القوي، القاهر.
*إن الذرات المختلفة ، ذات الهيئة الواحدة، والنظام الموحد في كل أرجاء الكون ، تشهد أنها من خلق الواحد ، الحكيم سبحانه
شبهة :
ويزعم بعض الكافرين: أن الإنسان عبارة عن تفاعلات كيماوية ، وأن لا شيء فيه غير المادة، التي تتفاعل مع بعضها كيماوياً فينتج عنه هذا النشاط الإنساني ، فالأكل ، والشرب، والعمل، والكلام، والضحك، والبكاء، والحب ، والكراهية ، والشجاعة ، والجبن وكل سلوك إنساني ليس إلا نتيجة لتفاعلات كيماوية!!
ولا يرد هذا القول بأكثر من القول: بأن الإنسان على هذا لا إرادة له في أي عمل يقول به؛ لأن التفاعلات الكيماوية تحدث داخله فتجعله شجاعاً أو جباناً ، كريماً أو بخيلاً، متحركاً أو واقفاً ، ضاحكاً أو باكياً، متكلماً أو صامتاً، محسناً أو مسيئاً. ومعنى هذا أيضاً أنه إذا قتل شخص غيره فلا يسأل عن ذلك ، لأن التفاعلات الكيماوية التي تمت في جسمه هي التي حركت جسمه للقتل!!(1/131)
ولو كان هذا القول الباطل حقاً؛ لكنت تعمل وتتوقف ، تسير وتتحرك، تتكلم وتصمت بطريقة آلية كيماوية ، وبدون إرادة منك أو اختيار ، وذلك أمر ظاهر البطلان .
إنك روح وجسد كما قال ربك :?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ?[الحجر: 29] .
روح تتصرف ، وجسد يتحرك تحت تصرف ذلك الروح .
***
الخلاصة
*للمادة ثلاث حالات، ولك حالة حكمة:
(أ) حالة الصلابة : تجعل الأشكال ثابتة فنبني المنازل ، ونصنع الآلات، ونستقر في الأرض.
(ب) حالة السيولة: تمكن المادة من تغيير شكلها فيسري الدم في عروقنا، ويجري الماء في أجزاء النبات وأعيته .
(ج) الحالة الغازية: تمكن المادة من الانتشار فنجد الهواء قريباً ميسراً في كل مكان .
*وتتحول المادة من حال إلى حال وفي كل تحول حكمة:
(أ) بانصهار المادة الصلبة إلى سائل نتمكن من تشكيل المواد الصلبة كصناعة الآلات من حديد منصهر.
(ب) وبذوبان مادة في أخرى تمكن النبات من الانتفاع بأملاح التربة الذائبة في الماء، ووصل الطعام في كل خلية في أجسامنا مع الدم الجاري في العروق والشعيرات الدموية .
(ج) وبالتجمد أخذت المعادن المنصهرة أشكالها الثابتة النافعة وأقلت الأرض من عليها .
(د) وبالترسيب تكونت العظام الصلبة من أملاح الكالسيوم التي كانت ذائبة في الدم .
(هـ) وبالتبخر ارتفع ماء البحر فوق مستوى الجبال استعداداً لنقله إلى أعماق القارات وتخلص مما فيه من أملاح .
(و) وبالتكثيف امتنع صعود بخار الماء إلى النجوم فاستقر سحباً فوق مستوى الجبال .
*لكل حالة صفات مناسبة :
(أ) فلو كانت صفة الانتشار من صفات السوائل لطغى ماء البحر على كل شيء .
(ب) ولو كانت صفة الانتشار من صفات المواد الصلبة لدفنت الجبال كل حي .
(ج) ولو كانت صفة تغير الشكل من صفات المواد الصلبة لغصنا في الأرض ولما وجد شكل ثابت.
(د) ولو كانت صفة الثبات من صفات السوائل ما جرى دم أو نهر أو ماء في نابت .(1/132)
(هـ) ولو كانت صفة الثبات من صفات الغازات لا نحصر وجود الهواء في مكان محدود .
*الذرة لبنة البناء في الكون وتتكون كل الذرات المادية المختلفة من أنواع واحدة من الجسيمات (إلكترونات ، بروتونات، نيوترونات.. الخ) وهي مرتبطة ببعضها البعض، وسبب اختلاف العناصر المادية يرجع إلى اختلاف عدد الجسيمات في الذرة وترتيبها .
*إن تلك الأحوال المحكمة للمادة، والقوانين المنظمة لها ، والتحولات البديعة ، والتفاعلات المادية المتقنة ، والأحكام النافذة ، والتركيب الموحد لكل ذرات الكون يشهد أنه من خلق : حكيم، عليم، حاكم ، قوي ، مهيمن ، واحد هو الله سبحانه .
*ليس النشاط الإنساني نتيجة لتفاعل مادي كيماوي ، لأنه نشاط حر غير مقيد بحركة آلية، ولأنه يصدر عن إرادة روح حرة وجسم مادي منفذ محدود .
قدر فهدى
بدء تكوين الماء :
لقد قدر الخالق سبحانه أن الحياة لا تكون بغير الماء فهدى الأرض عند انفصالها عن السماء من أجسام، أن تنفصل بالقدر المناسب من غاز (الأيدروجين، والأكسجين) لتكوين القدر المناسب من الماء لحياة ما على الأرض من حياة وأحياء ، شريطة أن يبقى من الأكسجين القدر المناسب في الجو لتنفس الكائنات الحية ، فتأمل: لو زاد مقدار (الأيدروجين) عند الانفصال لا تحد (بالأكسجين) الموجود الآن في الهواء ، ولزادت كمية ماء البحر فيغطي القارات ويغمرها بالماء ، ولا نعدم (الأكسجين) في الهواء فنموت ويموت كل كائن حي .قال تعالى :?أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ?[الأنبياء: 30] .
إن كل عاقل سليم يستنتج أن انفصال الأرض عما في السماء كان وفق تقدير محكم يشهد أن صانعه عليم ، حكيم ، رحيم .
لطف بالأسماك :(1/133)
من المعروف أن الماء إذا زادت درجة حرارته زاد حجمه ، وقلت كثافته ، فيرتفع الماء الساخن إلى أعلى وينزل الماء البارد إلى أسفل . وكذلك الحال في جميع السوائل :
حرارة + ماء = زيادة حجم الماء وارتفاعه إلى أعلى والعكس صحيح .
برودة + ماء = نقص في حجم الماء وهبوط إلى أسفل .
إن هذه السنة الإلهية تعمل كما تعمل باقي السنن الإلهية الأخرى: مقدمة معينة تعطي نتيجة معينة أو مقدمة واحدة تعطي نتيجة واحدة .
وعلى هذه السنة الإلهية: التي قضى الله بها أن يرتفع الماء الحار، وينخفض الماء البارد. على هذه السنة كان لا بد أن ينزل الثلج الموجود في البحار المتجمدة إلى القاع ، ويتراكم حتى السطح ، وعندئذ يصبح البحر قطعة واحدة من الثلج وبهذا تتجمد الأسماك وكل حيوانات البحر وتموت.
ولكن شيئاً من ذلك لا يحدث فالأسماك وكافة الحيوانات البحرية في المحيط المتجمد الشمالي حية ترزق وتسير وتجيء . ذلك لأن الخالق قد عكس هذه القاعدة عند نقطة الخطر فجعلها:
برودة + ماء = زيادة في حجم الماء وصعوده إلى أعلى .
ولا تعجب .. كيف كانت المقدمات واحدة .
برودة + ماء
فأعطت نتيجتين مختلفتين :
1- برودة + ماء = نقص في حجم الماء وهبوطه إلى أسفل .
2- برودة + ماء = زيادة في حجم الماء وصعوده إلى أعلى .(1/134)
ولا عجب من ذلك أبداً أن هذا التغيير في النتيجة كان لا بد أن يحدث لصالح حياة كل حي يعيش في البحار المتجمدة. ومع ذلك الذي سن السنة الأولى ، هو الذي سن السنة الثانية لصالح كل حي يعيش في الماء . وجعل لكل من السنتين السابقتين مجالاً تعمل فيه ، فتعمل السنة الأولى ابتداء من درجة (4ْم) أربع درجات مئوية وهذا مجال ليس فيه ضرر على حيوانات البحر، كما تعمل السنة الثانية ابتداء من درجة الصفر المئوي (0ْم) إلى درجة (4ْم) أربع درجات مئوية وذلك مجال له أثر كبير على أحياء الماء ، لأنه يجعل الثلج من أعلى والماء الرائق الدافئ عند درجة (4ْم) من أسفل فتتحرك فيه الأحياء ، وتستمر لها الحياة مهما كانت طبقات الثلج من أعلى .
إن العقول لتستنتج مما مضى : أن الذي نظم الكون بهذه السنن والقوانين لا تقيده السنن أو القوانين ، إنما هو الذي يحددها كما يشاء يضع السنة وعكسها، وكم وقف المتأملون في المخلوقات على مثل هذا فسموه (شذوذاً) وقالوا: لكل قاعدة شواذ ، ويقول المؤمن : إن القاعدة سنة ، والشذوذ سنة ، ولكل حكمة ، والكل شاهد بإرادة الخالق الحر التي لا تقيدها تفاعلات كيماوية أو أوضاع مادية .
كما تستنج العقول أن الذي خلق الماء قد هداها ليؤدي دوره في هذه الحياة كما قدر له الخالق، ووضع له سنناً وأحكاماً تسيره فيما قدر له ، سنناً تجعله سحباً طائرة، وسنناً تدفعه في أوراق الشجر وأغصانها ، وسنناً تجعل الماء وسطاً كيماوياً صالحاً لصنع الطعام ، وسنناً تحول الماء جزءاً من الدم الجاري في العروق، وسنناً تجعل الماء بحراً يمتلئ بالأسماك وغيرها من الكائنات الحية، وسنناً تيسر البحر لسير السفن وتسهيل النقل عليه .
الاتحاد الكيميائي:
إذا تأملت في قوانين الاتحاد الكيميائي ستشاهد :(1/135)
*أن أي مادة لا تتحد إلا بمواد مخصوصة مع أن أصل المواد شيء واحد (الكترونات، وبروتونات، ونيوترونات..) فمن الذي يهدي الأكسجين مثلاً ويعرفه أن هذه المادة (كربون) يمكن أن يتفاعل معها، وأن هذه المادة ذهب لا يتفاعل معها؟
*وأن أي مادة لا تتحد إلا بمقدار معلوم من المادة التي تتحد معها ويسمى ذلك المقدار (الوزن المكافئ) ، فمن يهدي الأوزان المكافئة للاتحاد ويمنع الاتحاد لغير تلك المقادير المحدودة؟ ولماذا هذا التحديد؟ ومن صاحب هذا التحديد والتقدير والهداية ؟
*إن العقل ليستنتج من مشاهدة هذه التفاعلات الكيماوية أن التقدير والتحديد لا يكونان إلا من مريد، وأن التوجيه والهداية لا يكونان إلا من هاد .
فمن الذي يقدر هذه التفاعلات الدقيقة المحكمة في شتى أرجاء الكون، ومن الذي يهدي كل تفاعل إلى نتيجة المقدرة له؟
إن العقل ليجزم بأن خالق هذه المواد هو المريد الذي قدر أحكامه، وأنه الهادي الذي سيرها.. إنه الله (الذي قدر فهدى) .
ثعابين البحر:
يحدثنا أحد رواد العلم الحديث (أ. كريس موريسون)[21] في كتابه المترجم (العلم يدعو للإيمان) فيقول: .. وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء، فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها هاجرت من مختلف البرك والأنهار وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي (برامودا)[22] وهناك تبيض وتموت. أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شي سوى أنها في مياه قفز فإنها تعود أدراجها ، وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها ، ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة.. لقد قاومت التيارات القوية، وثبتت للأمداد والعواصف وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ، وهي الآن يتاح لها النمو، حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها، فمن أين ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟(1/136)
إن عقولنا لتستنتج من هذه الرحلة الموجهة، ومن كل عمل موجه يظهر في هذا الكون، في الأرض أو السماء ، في البر أو الجو أو البحر، أن وراء ذلك التوجيه المحكم إرادة هاد حكيم.
إن ذلك التوجيه توجيه الذي قدر لكل شيء دوره في هذا الكون، وهداه إلى القيام بما قدر له فـ ?سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى?[الأعلى: 1-3] .
خلق الإنسان :
لقد كان الإنسان نطفة (حيواناً منوياً) ناقصة في خصية الرجل، وكان النصف الآخر نطفة (بويضة) ناقصة في مبيض الأم فكل خلية في جسم الإنسان رجلاً كان أو امرأة تنقسم إلى قسمين:
وكل قسم من هذين القسمين يكون خليه كاملة فيها (48) حاملاً وراثياً (كروموزوم) إلا تلك الخلايا المنقسمة في خصية الرجل ومبيض المرأة والتي ينشأ عن انقسامها تكوين (الحيوانات المنوية) في الرجل (نطفة الرجل) والبيضة في الأنثى (نطفة المرأة) فإن الانقسام فيها يكون مخالفاً لسائر الانقسامات في جميع خلايا الجسد ، لأن كل خلية منوية ذكرية أو أنثوية (حيوان منوي أو بويضة) لا يتكون إلا من (24) حاملاً وراثياً (كروموزوم)، فلماذا شذت الخلية التي يتكون منها الحيوان المنوي في الرجل عن سائر خلايا الإنسان في عدد الحوامل الوراثية في كل منها؟(1/137)
والجواب نعرفه بعد خروج نطفة الرجل من مكانها ، وخروج نطفة المرأة في المبيض والتقاء النطفتين في القرار المكين (رحم المرأة) حيث تتحد النطفتان فتتكون منهما خلية واحدة عدد حواملها الوراثية (48 كروموزوم) ، ومن هنا نعرف لماذا حدث ذلك الاختلاف في انقسام الخلايا المنوية عن سائر خلايا جسم الإنسان ، ذلك لأن كل خلية في جسم الإنسان تعتبر وحدة مستقلة متكاملة، فيجب أن يكون عدد الحوامل الوراثية كاملاً وقدره (48) ، وأما الخلايا المنوية فإنه من المعروف والمفهوم والمعلوم أنها ستتحد مع بعضها لتكوين الجنين فيجب أن يكون في كل منها نصف القدر من الحاملات الوراثية حتى إذا تم الاتحاد تكونت خلية ببشرية كاملة بالقدر الصحيح. فماذا تستنتج أيها العاقل من هذه الآية التي تحدث في كل إنسان بالغ، بل وفي كل حيوان بالغ؟
إن العقل ليستنتج أن الذي يخلق النطفة الذكرية ناقصة في حواملها الوراثية (24) (كروموزوم) يعلم أن مصير هذه النقطة المذكرة أن تتخذ بالنطفة المؤنثة التي تتكون أيضاً من (24) حاملاً وراثياً وبالاتحاد تنتج الخلية الإنسانية الكاملة المكونة من (48) حاملاً وراثياً .
فهل تعلم الخصية في الرجل وكذا باقي التفاعلات الكيماوية ما أعد من مبيض الأنثى من تكميل للنقص في عدد الحوامل الوراثية في الخلية المنوية المذكرة التي تنشأ في الخصية؟
وهل تعلم الخصية وكذا المبيض أن مصير ما ينتجانه من خلايا ناقصة هو الاتحاد وتكميل بعضها البعض؟(1/138)
إن العاقل ليسخر من هذه الأوهام كما أنه لا يشك لحظة أن خالق النطف المنوية المذكرة والمؤنثة عليم بما يصنع في أعماق أحشاء الرجل والمرأة على السواء، حكيم في تقديره وتدبيره، كما لا يشك العاقل في أن الطبيعة ليست هي صاحبة ذلك العلم والتقدير .قال تعالى : ?نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ(57)أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ(58)أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ?[الواقعة : 57-59] .ويقول سبحانه : ?قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ?[عبس: 17-22] .
وتأمل كيف تتحول تلك النطفة المنوية بالغذاء السابح في دماء الأم إنسان كامل التصوير والتكوين والتركيب. فجزء من ذلك الغذاء يكون يداً ، وجزء مماثل يكون اليد الأخرى، وجزء يكون القدم ، وجزء يكون القدم المساوية الأخرى ، وجزء يكون العين ، وجزء يكون العين المساوية الأخرى ، وجزء يكون الرئة وجزء يكون المعدة، وجزء يكون الكبد، وجزء يكون العظام، وجزء يكون اللحم ، وجزء يكون الجلد وهكذا ..
فمن يشرف على ذلك التكوين الدقيق ، وعلى عملية البناء المنسقة المتساوية المتوازنة. المتماثلة، المتكاملة؟!
إن العقل ليستنتج مما يشاهد في خلق الإنسان وغيره من الكائنات أن خالق الإنسان والحيوان في ظلمات الأرحام أو داخل قبة البيضة لا شك خبير بما يخلق ، عليم بما ينشئ ، بصير بما يصنع.
فمن صاحب هذه الحكمة والبصيرة والخبرة والإدراك؟
هل الغذاء السابح في الدم هو صاحب تلك الحكمة والخبرة والبصيرة؟ أم أن النطفة التي تكون المبيض نصفها من غذاء الأم ، وكونت الخصية نصفها من غذاء الأب هي التي نظمت ، وأدركت ، وأحكمت ، ووازنت ، ودققت؟
إن ذلك الغذاء لا يملك إرادة ، أو حكمة ، أو بصيرة .(1/139)
إن تلك الأحشاء والأمعاء لا نعي إلا ما جبلت عليه من الأعمال ، وحدد لها من الأفعال ، دون زيادة أو نقصان .
إن تلك النطفة التي صنعتها الخصية في الذكر ، والمبيض في الأنثى لا تدري من أمرها شيئاً ، بل إن الإنسان المتكون عنها لا يزال جاهلاً ، لا يملك بصيرة أو حكمة ، أو صواباً لمدة عدد من السنين بعد ولادته .
ولا شك أيضاً أن الشمس أو القمر ، أو الرياح ، أو المطر ، أو النبات أو الحيوانات ، أو النجم، أو المجرة لم تدخل إلى بطن الأم لتصور ، وتركب وتكون ، هذه الآلاف العديدة التي تولد كل يوم من أطفال بني الإنسان وأطفال كل الكائنات الحية ، ولا شك أيضاً أن هذه المظاهر الطبيعية جميعاً لا تملك عقلاً أو بصيرة أو حكمة . فكيف ظن الجاهلون أن الطبيعة البليدة العمياء هي التي منحت الإنسان عقلاً ، وبصيرة ، وحكمة؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه .
فمن الخالق الخبير ؟
فمن الخالق الحكيم؟
فمن الخالق البصير ؟
أيها العقلاء .. أيها المفكرون!
إنه الله رب العالمين القائل في كتابه : ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ(15)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ?[المؤمنون : 12-16] .(1/140)
وإذا تفكرت في عملية تكوينك في بطن أمك ، وجدت آيات وآيات . ذلك الجزء الذي يصنع العين لماذا يصنع العين؟ لأنه لا حاجة لك بالعين في بطن أمك!! فهل قد أصبح ذلك الجزء من النطفة ـ في ظلمات الرحم ـ عالماً بما سيؤول إليه أمرك ، خبيراً بنظام الضوء وسننه ، وقوانينه الذي ستلاقيه بعد خروجك من بطن أمك ، فنظم لك جهازاً بصرياً لترى به ما حولك مستخدماً الضوء وقوانينه وسننه؟ ومن أعلم ذلك الجزء من النطفة من بطن الأم أنك ستخرج من بطن أمك ؟ ومن أفهمه أنك ستحتاج إلى عينين بعد خروجك؟ ومن أعطاه درساً في قوانين الضوء وأسراره، وهو لم ير ضوءاً من قبل؟! ومن منحه بعد ذلك مقدرة على تحويل الطعام السابح بين الدماء إلى أغشية بصرية رقيقة، وعدسة محكمة، وماء زجاجي مقدر ، وشبكة تتكون إحدى طبقاتها من ثلاثين مليون عود بصري وثلاثة ملايين مخروط بصري؟ ومن أخبر ذلك الجزء من النطفة أن ينشء العصب البصري ويشق له فتحة بقدره في الجمجمة ، ويصنع مركزاً بصرياً خاصاً في المخ ويربط به ذلك العصب البصري؟
وإذا تأملت في الرئتين اللتين تصنعان لك في بطن أمك وأنت لا زلت جنيناً . لماذا صنعت هاتان الرئتان؟ بل لماذا تصنع ملايين الرئات مع كل المواليد الجدد في كل يوم من أجنة بني الإنسان والحيوان.
إنه لا حاجة للجنين إلى الرئتين بل لو دخل إلى الجنين قليل من الهواء إلى القرار المكين لأحدث فيه أضراراً بالغة . فلماذا يصنع إذن هذا الجهاز التنفسي لاستقبال الهواء؟
لا شك أن الذي يصنع هذا الجهاز على علم بمصير الجنين في كل إنسان وحيوان . إن الذي صنع لك الرئتين والجهاز التنفسي لا شك أنه عالم بمصيرك وأنك ستخرج من بطن أمك وأن الهواء سيحيط بك من كل مكان ، وأنك ستكون في أمس الحاجة إليه ، فهو يصنع له طريقاً إلى كل نقطة في جسمك وأنت لا تزال جنيناً في بطن أمك لا تعلم شيئاً .(1/141)
?هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ?[النجم: 32] .
وهو أيضاً يصنع للهواء جهازاً كاملاً هو الجهاز التنفسي .
وما قيل في تكوين العين والجهاز التنفسي يقال في تكوين الجهاز الإخراجي ، والجهاز الدوري الدموي ، والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي ، فكل هذه الأجهزة لست بحاجة لها وأنت في بطن أمك، ولن تكون لك بها حاجة إلا بعد خروجك من بطن أمك عندئذ تكون ألزم الأشياء وأهمها لبقاء حياتك .
ألا تستنتج كل عقل سليم من هذه الأفعال والأحداث التي تجري في بطن أمك أنها تسير وفق خطة مرسومة مقدرة ، وتبعاً لتدبير حكيم خبير عليم بما يصنع ويفعل .
وكم يسخر العلماء الذين يطلقون الصواريخ ورواد الفضاء إذا قال جاهل بليد : بأن الترتيبات اللازمة التي يعد بها رائد الفضاء أثناء انطلاقه إلى الفضاء قد جاءت بالطبيعة أو صدفة أو بدون علم علماء وخبرة خبراء!!
إن المسلم لا يكفر بالحق الواضح ، والكافر يغطي الحق البين ، إن المسلم يشهد كما تشهد أحداث خلقه وتكوينه أن ربه الخالق ، العليم ، الحكيم ، الخبير ، القوي ، المهيمن ، القادر ، الذي..
?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى: 11ٍ] .وصدق الله العظيم القائل :?يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ?[الانفطار: 6-8] .
وهكذا تجد العقول المفكرة أن لكل مخلوق خطة وعملاً قد قدره له خالقه ، ثم هداه إلى القيام بعمله كما هدى الخصية والمبيض وهدى النطفة وأجزاءها إلى ما قدر لها ، وهدى العينين والرئتين، وهدى كل جزء إلى ما قدر له ربه .
***
الخلاصة :
*لقد هدى الله الأرض عند انفصالها أن تنفصل بمقادير حكيمة فلو زاد مقدار الأيدروجين المنفصل لطغى البحر على الأرض وانعدم الأكسجين وماتت الأحياء .(1/142)
*الماء الساخن يرتفع إلى أعلى ، والبارد ينخفض إلى أسفل ، ولكن هذه القاعدة تتغير عند الدرجة الخطرة بالنسبة لحيوانات البحار ابتداء من درجة الصفر إلى درجة أربعة مئوية فتعكس القاعدة فيرتفع الثلج (الماء البارد) إلى أعلى ويبقى تحته الماء الدافئ لتسهيل حياة كائنات البحر الحية، ويشهد هذا الاختلاف الحكيم في نظام الماء أن خالقه رحيم ، وأن إرادته مطلقة تفعل ما تشاء وليس ما يقال: لكل قاعدة شواذ إلا دليلاً على الإرادة الحرة لمن يضع القاعدة ويضع شذوذها ، والذي قدر للماء دوره في الحياة هداه إلى ما قدر له .
*لا يتم تفاعل كيميائي إلا بين مواد معلومة أو وزن محدود فالذي قدر التفاعل بين المواد بتلك المقادير هو الذي يهدي كل تفاعل إلى ما قدر له .
*إن الذي قدر حياة ثعابين البحر في برك وأنهار أوروبا وقدر سفرها إلى (برمودا) لتتناسل وتتزاوج وتموت في برمودا هو الذي هدى صغارها إلى العودة إلى مواطن عيش الآباء وعودتها إلى برمودا ثانية لتموت دون أن تضل الطريق .
*إن الذي قدر خلق الإنسان من نطفة رجل وامرأة قد هدى خصية الرجل إلى صنع النصف، وهدى مبيض المرأة إلى صنع النصف الباقي المطابق وليس للدماء أو الأحشاء هداية أو علم، لكن ذلك هداية الله جل وعلا ، وهو الذي هدى كل جزء في النطفة إلى القيام بدوره المحدود فكانت النتيجة ذلك الإنسان المخلوق في أحسن تقويم ، وأن تلك الخطة المحكمة ، المتتابعة المراحل في خلق الإنسان تشهد بأن الله هو الذي هدى سيرها وليس الطعام أو الأحشاء هو صاحب تلك الحكمة والهداية والبصيرة .(1/143)
*إن الذي قدر لك أن تخرج من بطن أمك لتسعى في الأرض ، وترى ما حولك هو الذي يخلق لك العينين وأنت ما زلت جنيناً وفق سنن الضوء وأحكامه، وإن الذي قدر لك أن تستنشق الهواء هو الذي هدى ذلك الجزء من النطفة أن يصنع جهازاً تنفسياً بالغ الدقة . إن الذي قدر للإنسان أن يحيا على هذه الأرض هو الذي هدى كل جزء من النطفة إلى صنع جهاز أو عضو ليتم من الجميع ذلك الخلق القويم المهيأ للحياة على هذه الأرض .
?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?
صدق الله العظيم
هل صفات الإنسان كصفات الجماد؟
وهل إذا رأينا إنساناً ينتقل من مكان إلى آخر سألناه من الذي ينقله؟
وما حجة من يسأل : إلا أن الجماد يحتاج ويفتقر إلى من ينقله ، فيقر أن الإنسان كذلك يحتاج ويفتقر إلى ما ينقله ؟
أليس الجواب على من يسأل هذا السؤال هو : أن الإنسان يختلف عن الجماد ، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الجماد ، وعلى ذلك فهو لا يفتقر إلى من يحركه من مكانه فصفات الجماد غير صفات الإنسان .
وما هو موقفنا من شخص ينكر أن للإنسان عقلاً وإدراكاً ، وحجته في ذلك أن مصنوعات الإنسان لا تملك عقلاً[23] ولا إدراكاً؟
لا شك أن أي عاقل سيقول له : يا هذا! إن صفات الإنسان وخصائصه غير صفات مصنوعاته وأدواته، فإن كانت لا تتصف بالعقل فليس معنى ذلك أن الإنسان لا يتصف بالعقل أيضاً! وليس كل ما ينطبق على مصنوعات الإنسان يجب أن ينطبق على الإنسان . إنك إذا أنكرت وجود عقل الإنسان فقد أنكرت وجود مصنوعاته التي لم تصنع إلا بتدبير عقل مفكر وهندسة عقل واع.
إن كل مخلوق في الأرض والسماء يختلف عن بقية المخلوقات في الخصائص والصفات ، ولولا ذلك الاختلاف لكانت المخلوقات جميعاً شيئاً واحداً ، ولكان الحجر ، والشجر ، والحيوان، والإنسان ، والماء ، والتراب ، والهواء ، والنجم شيئاً واحداً(1/144)
وإذا كانت المخلوقات تختلف عن بعضها في صفاتها وخصائصها ، فمما لا شك فيه أن الخالق سبحانه وتعالى يخالف مخلوقاته التي أوجدها وسيرها فلا بد إذاً أن يخالفها في صفاته الإلهية وخصائصه الربانية .
قال تعالى :?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] .
ولو كان شيئاً يماثله لكان إلهاً وخالقاً .
قال تعالى : ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?[الأنبياء: 22] .
ومع ذلك فالشيطان لا يزال يوسوس بجهالة كبرى ، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعتمد هذه الجهالة على أساس باطل: هو التسوية والمشابهة والمماثلة بين الخالق ومخلوقاته في الصفات والخصائص ـ استغفر الله ـ يوسوس الشيطان قائلاً : هذا خلق الله فمن خلق الله؟
ومعنى السؤال : إذا كنا نشاهد هذه المخلوقات أول ما تتصف به أنها مفتقرة إلى خالقها ، ومحتاجة إلى بارئها فلن يكون لها وجود إذا لم يوجد خالقها فكذلك يجب أن يتصف بنفس ما اتصفت به مخلوقاته فهو محتاج مفتقر مثلها .
وللجواب على هذه الجهالة الشيطانية نقول : ومن الذي قد قرر أن ما تتصف به المخلوقات لا بد أن يتصف بها الخالق ـ أستغفر الله ـ ؟ من الذي صدق أن كل ما يحتاج ويفتقر إليه المخلوق لا بد أن يكون الخالق مفتقراً ومحتاجاً إليه حتى أصبح الخالق ومخلوقاته شيئاً واحداً ؟ ـ أستغفر الله ـ إن الخالق غير مخلوقاته التي أوجدها وسيرها ، كما أن الإنسان غير مصنوعاته التي صنعها واخترعها ، وما يتصف به الخالق سبحانه من عظيم الصفات يجب أن يخالف ما تتصف به مخلوقاته وإلا لكان الجميع شيئاً واحداً .(1/145)
فإذا كانت المخلوقات فقيرة إلى ربها محتاجة في وجودها إلى خالقها ، فإن الله سبحانه هو الصمد الغني الذي لا يفتقر إلى غيره ، ويفتقر إليه كل مخلوق . تلك الصفات من صفات ربنا ، تخالف صفات مخلوقاته ، ويشهد هذا الكون الزاخر بالمخلوقات التي لا تحصى ولا تعد بأن رب هذا الكون غني لا يحتاج إلى غيره ولا يفتقر إلى سواه .
أما من عاند أواصر على وصف الخالق بما يتصف به المخلوق فعقله يلزمه على هذه الجهالة الكبرى أن ينكر وجوده ، ووجود كل ما في هذا الكون الفسيح المشاهد، ذلك لأنه لا يبقى غير الخالق ومخلوقاته إلا العدم المطلق .
فإذا كنا نشاهد من حال المخلوقات حاجتها وافتقارها إلى خالقها الذي أوجدناها وأنشأها ، فإن عقولنا تقرر أنه لن يكون لها وجود بغير وجود خالقها، كما أنه لن يكون وجود للسيارة إذا انعدم وجود صانعها فإذا صدقنا بالباطل الذي يصف خالقنا بوصف مخلوقاته ـ استغفر الله ـ وقلنا إن الخالق محتاج مفتقر في وجوده إلى غيره . ولا يوجد غير الخالق ومخلوقاته إلا العدم فعندئذ يكون افتقار الخالق واحتياجه إلى العدم الذي لا يعمل شيئاً ، وإذاً فالخالق غير موجود ، لأن العدم لا يعمل شيئاً ، وإذاً فأنا وأنت وهذه الأسطر وكل ما في هذا الكون لا وجود له . لأن الكفر يريد أن يصف خالقنا باطلاً بما تتصف به المخلوقات ، فيزعم أنه محتاج مفتقر لمن؟ للعدم: لأنه ما بقي غير الخالق ومخلوقاته إلا العدم . لكنا نحن المؤمنين نؤمن أن لله المثل الأعلى ، والصفات العليا وأن أي شيء من مخلوقاته لا يشابهه ولا يكافئه فإذا كانت أول صفات المخلوقات المشاهدة حاجتها وافتقارها إلى خالقها فإن خالقها هو الصمد الغني الذي لا يفتقر إلى غيره، ولا يحتاج إلى سواه ، وإن الله هو الذي أوجد هذا الكون وخلقه .
أما إذا افترضنا التسلسل :(1/146)
فإنا سنصل في النهاية إلى ما وصلنا إليه سابقاً إما أن يكون جميع أفراد السلسلة عاجزين فقراء محتاجين إلى من يخلقهم وليس غير هذه السلسلة (سلسلة الخلق) ـ أستغفر الله ـ والمخلوقات إلا العدم ، إذاً ليس موجوداً من يخلق هذه المخلوقات التي نحن منها إذاً فالجميع عدم ولا وجود لهذا الكون، ولا وجود لنا أيضاً ، وإلغاء وجودنا مستحيل وباطل ، وما لزم من المستحيل فهو مستحيل وباطل .
وأما انتهاء هذه السلسلة بالخالق القادر الغني عن غيره الذي تفتقر المخلوقات إليه ولا يفتقر إلى غيره الذي له من الصفات العليا ما لا تتصف به مخلوقاته ، وعندئذ تتحول باقي السلسلة (سلسلة الخلق) إلى نطاق المخلوقات لهذا الخالق الصمد الواحد الأحد فلا يكون الأمر إذاً إلا أن مخلوقاته تفتقر في وجودها إلى خالق خلقها وأوجدها ، صمد غني لا يفتقر إلى غيره ، له صفات الكمال العليا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ?، ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ? .(1/147)
ومن أبى الإيمان بهذا فعقله يلزمه أن ينكر وجوده، ووجود كل ما في هذا الكون البديع من مخلوقات ، قل له أيها المسلم إن لقيته كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (آمنت بالله الغني الصمد الواحد الأحد الذي يفتقر إليه كل مخلوق ولا يفتقر إلى أحد) وليس غريباً على العقول أن تؤمن بأن صفات الخالق غير صفات مخلوقاته، بل إن العقول توجب علينا الإيمان بمخالفة صفات الله عن صفات مخلوقاته ، وإلا لكان الجميع شيئاً واحداً ، عندئذ لن يكون هناك خالق أو مخلوق ، ويعبر عن هذا الدكتور (ماريت ستانلي كونجده) عضو الجمعية الأمريكية الطبيعية ، والأخصائي في الطبيعة وعلم النفس فيقول: (ومما لا شك فيه أننا نحتاج في محاولتنا إلى وصف الخالق ومعرفة صفاته إلى مصطلحات ومعان تختلف اختلافاً بيناً عن تلك التي نستخدمها عندما نصف عالم الماديات ، وبخاصة بعد أن تبين لنا أن هذا الكون الذي نعيش فيه لا يمكن أن يكون مادة صرفاً وإنما هو مادة وروح ونار ، أو مادة وغير مادة ولا نستطيع أن نصف الأشياء غير المادية بالأوصاف المادية وحدها) .(1/148)
إن صفات الله العليا وكماله القدسي حقيقة قائمة ، يشهد بها كل ما في الكون وتتحدث بها الفطرة البشرية ، فكل إنسان منا يشعر أن فيه نقصاً دون الكمال وكما يشعر عندما يرى أي شيء أن هناك ما هو أكمل منه فهذا الشعور الذي نحسه بوجود نقص في كل ما نشاهده ، باعثه الأصلي في النفس إحساس الفطرة بوجود من يتصف بالصفات العليا وله الأسماء الحسنى ، حتى رأت كل شيء ناقصاً إحساساً منها بوجود الكامل العظيم سبحانه ، وتلك هي الفطرة الإنسانية المؤمنة التي فطرها الله على الإيمان . وصدق رسولنا الكريم القائل : (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) أما نحن المسلمين ، فإن علمنا بصفات الله وأسمائه الحسنى يقوم على أساس التعليم المباشر ، والتعريف الكامل منه سبحانه ، وذلك بواسطة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي نقل إلينا كلام خالقنا عن نفسه وما أراد لنا الخالق أن نعرف عنه من صفات .
قال تعالى :? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ?[الشورى : 11] .
? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ?[سورة الإخلاص] .(1/149)
? اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ?[البقرة: 255] .? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمران: 18] . ? وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ?[الأنعام : 133] .? هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ?[الحديد: 3] .(1/150)
? ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(102)لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ?[الأنعام : 102-103] . ? هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[الحشر: 24] .? يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(16)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(17)وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18)وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19)وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ(21)وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ(23)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ(24)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(25)ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ(1/151)
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ?[فاطر: 15-28] .
***
الواحد الأحد
دلائل الوحدانية :
1 – من تأمل في نظام الكون المستقر ، وأحداثه المنسقة ، وسيره المنتظم ، وجد أن ما في الكون الثابت يشهد له : أنه تحت نفوذ إرادة واحد وتحت تصرف حاكم واحد .
? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ?[الأنبياء:22] .
2 – إن هذا الارتباط المحكم ، الدائم بين أجزاء الكون يشهد : بأنه تحت سيطرة مالك واحد ولو كان مع الله آلهة أخرى لفصل كل إله ما خلق، ولشاهدنا عمليات الانفصال ، والتجزئة ظاهرة في هذا الكون . وكم تكون الحياة سيئة لو أن للشمس إلهاً منع عنا ضوءها ، وأن للشجر إلهاً منع عنا ثمارها ، وأن للسحب إلهاً منع عنا قطرها .
قال تعالى :? مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ?[المؤمنون: 91] .
3 – ولو كان مع الله آلهة أخرى ، لحاول بعضهم أن يستعلي على غيره ، وعندئذ يشهد الكون حروباً مروعة ، مدمرة ، ويكون الملكوت ميداناً لصراع جبار بين الآلهة المتنازعة! أو لحاول الضعاف من هذه الآلهة المتنازعة أن يتعاونوا على من له القوة والنفوذ في هذا الملكوت..!!
قال تعالى :? قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا(42)سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ?[الإسراء:42، 43] .
الربوبية والألوهية :(1/152)
وإذا كان الله سبحانه هو الخالق الواحد ، فإنه هو الرب الواحد والإله الواحد. ومما يأتي من الآيات الكريمة يتبين لنا ما يريد القرآن من كلمة رب وكلمة إله :
قال تعالى : ? قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ(89)بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?[المؤمنون: 84-90] .(1/153)
وقال سبحانه :? وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ?[الزمر:8] . وقال تعالى :? يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ?[فاطر:3] .? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ?[الأنعام : 46] .? وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(70)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ?[القصص: 70-72] . ? يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ?[الزمر:6] . ? أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ(1/154)
الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ?[النمل: 60-64] .? الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ?[الفرقان: 2، 3].
وإذا تأملنا في الآيات السابقة وجدنا الرب هو : الحاكم المطلق لهذا الكون، وهو مالكه وآمره، ومنشئه وموجهه الواحد الذي لا شريك له .
وسترى من الآيات أن الإله هو المالك : الذي يملك جميع السلطات والصلاحيات في السموات والأرض، فالخلق مختص به ، والنعمة كلها بيده والأمر له وحده ، والقوة والحول في قبضته وكل ما في السموات والأرض قانت له ، ومطيع لأمره طوعاً وكرهاً ولا سلطة لأحد سواه ، ولا ينقذ فيها الحكم لأحد غيره وما من أحد دونه يعرف أسرار الخلق ، والنظم والتدبير أو يشاركه في صلاحيات حكمه ، ومن ثم لا إله في حقيقة الأمر إلا هو .
***
العبادة :
لذلك كله فقد استحق الله وحده العبادة دون سواه .(1/155)
قال تعالى :? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[البقرة:172] .
? وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى ?[الزمر:17] .
? الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ(5)وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ?[الرحمن: 5-6]. ? تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ?[الإسراء: 44] ? قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?[غافر: 66] .
? وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر: 60] .
? وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ?[هود: 123] .
والعبادة قد اشتملت على الشكر والإنابة والسجود ، والتسبيح ، والخضوع ، والاستسلام ، والدعاء ، والتوكل ، كما تشمل النذر ، والاستغاثة الغيبية ، والذبح والخوف من الله . وقد استحق الله العبادة لأنه الخالق الواحد المالك الرب الواحد في هذا الوجود . وقال تعالى : ? ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ?[الأنعام:102]
وقال تعالى : ? قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ?[الأنعام:164] .
معنى العبادة :(1/156)
وقد وردت العبادة في القرآن بمعاني كثيرة ولعل التعريف الجامع لكل صور العبادة هو أنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
لا يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله :
قال تعالى :? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ?[البينة: 5]
وقال تعالى : ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي ?[الذاريات: 56] .
? فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ?[الكهف:110].
***
الشرك:
الشرك ضد التوحيد ومعناه إثبات شريك لله تعالى فيما هو من خصائص الألوهية والربوبية، باتخاذ شريك لله في ذاته القدسية ، أو في صفاته العليا أو في أفعاله .
والشرك أنواعه أربعة :
1- عبادة غير الله ، من حجارة ، أو أصنام ، أو أشجار ، أو حيوان ، أو قبور ، أو أجرام سماوية ، أو قوى طبيعية ، أو اتخاذ البشر آلهة ، أو أن الله قد حل ببشر ، أو أن له سبحانه بنين وبنات.
2- إشراك بعض المخلوقات في بعض صفات الله ، كالاعتقاد بالتثليث وأن الابن وروح القدس كما يزعم النصارى لهما صفة الأبدية ، والقدرة الإلهية والعلم الإلهي ، أو أن هناك خالقاً للشر وخالقاً للخير ، أو أن للمادة صفة أبدية التي لا بداية لها كما يزعم الماديون.
3- اتخاذ بعض الناس بعضهم أرباباً ، ويؤثر أنه عندما نزل قول الله تعالى في شأن أهل الكتاب من يهود ونصارى :
? اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ?[التوبة: 31] .(1/157)
قال عدي بن حاتم ـ وكان مسيحياً قبل دخوله في الإسلام ـ للرسول صلى الله عليه وسلم : إن النصارى واليهود لم يعبدوا أحبارهم ورهبانهم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فدلك عبادتهم إياهم) ذلك لأن الكون مخلوق لله ومملوك له فليس لأحد غيره أن يتصرف في شيء إلا بإذنه ، وليس لأحد من الناس أن يحلل ويحرم في ملك الله بدون إذنه ، وليس لأحد أن يحكم في ملك الله بدون إذن المالك لهذا الوجود.
قال تعالى : ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ?[الشورى:21] .
وقال سبحانه : ? وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?[القصص:70] .
وليس لأحد أن يحكم في جزء من ملك الله ومخلوقاته بما يتناقض حكم الله .
قال تعالى :? وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ?[المائدة: 44] .
وقال تعالى :? أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?[المائدة: 50] .وقال تعالى :? فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ?[النساء: 65] .
وقد ذكر سبحانه الأنواع الثلاثة السابقة في قوله تعالى .
? قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ?[آل عمران : 64] .
4 – اتباع الهوى وطاعته ، فلا يهوى الإنسان شيئاً إلا اتبعه قال تعالى : ? أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ?[الفرقان: 43].(1/158)
وقد جعل الله اتباع الهوى شركاً ، لأن طاعة غير الله فيما لم يرض به الله تعالى يعد شركاً .
الشرك جهالة كبرى :
إذا تأمل الإنسان في الكون وجد آيات الوحدانية شاهدة بأن رب هذا الكون واحد، وإذاً فلا يكون الشرك بالله إلا ضرباً من السفه والجنون وسبباً لغضب الله الملك الحق، الإله الواحد سبحانه.
قال تعالى :? إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ?[النساء: 48] .
وقال تعالى :? ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ?[النحل: 86] . وقال تعالى : ? ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ?[النحل: 27] .
وقال تعالى : ? وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(62)قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ(63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ(65)فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ ?[القصص: 62-67] .
جهالة حول مقام الأولياء :(1/159)
ولقد وقع بعض المسلمين فيما وقع فيه من قبلهم من الأمم ، الذين أخذوا يرفعون من مقام الأولياء والأنبياء والصلحاء ، من درجة العبودية لله تعالى أن درجة تقارب الألوهية ، وتصل إلى مقامها، وذلك باعتقاد أن الأولياء أو الأنبياء أو الصلحاء يتصفون بصفات لا تكون إلا لله : مثل القدرة على الإعانة الغيبية ، وكشف الضر ، ومنح الأولاد ، والإغاثة بقوة غيبية تخرج عن السنن والقوانين التي يسير عليها الكون ، مما يدفعهم ذلك إلى القيام بين أيديهم. أو على قبورهم بشعائر التكريم أو التعظيم مما يكاد يكون تألها وقنوتاً ، ولقد نعى القرآن الكريم على الذين يسلكون هذا المسلك الباطل.
قال تعالى :? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ(17)قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ?[الفرقان : 17-18].
ولقد قال الطبري في تفسيره لهذه الآية :
يقول تعالى ذكره : ويوم نحشر هؤلاء المكذبين بالساعة العابدين الأوثان ، وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجن.. ولا يغيبن عن ذهنك أن أولياء الله أول من يرفض هذه المكانة التي يرفعهم الجاهلون إليها ، كما أنهم يجب أن يكونوا قدوة لنا نتبع طريقهم ، وننهج نهجهم في عبادتهم لربهم فإن لأولياء الله لدرجة العالية عند الله ولهم البشرى في الحياة الدنيا ويوم القيامة وهم السالمون من الخوف والحزن .
قال تعالى :? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[يونس: 62-64] .(1/160)
وأنت ترى من الآية أن الولي هو المؤمن حقاً ، والمتقي حقاً ، والإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ، والعمل هو اتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه . ذلك معنى الولاية. أما البشرى التي لهم في الحياة الدنيا فقد فسرها حديث صححه الحاكم : بأنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له.
رسول الله عيسى عليه السلام :
أرسل الله رسوله عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأيده بمعجزاته عظيمة كان منها إحياء الموتى، غير أنه لم تنته مدة رسالته على الأرض حتى تعرض علماء النصارى إلى الاضطهاد اليوناني وكان (نيرون)[24] يطلي أجساد العلماء القطران ويشعل النار في أجسادهم ليستضيء لهم في حديقته.
وبغياب العلماء وبعدهم عن الجماهير ، أخذت الخرافات تنتشر بين الناس حول شخصية عيسى عليه السلام ، وضاع إنجيل عيسى وظهرت بدلاً منه عدة أناجيل بلغ عددها أكثر من سبعين إنجيلاً. ومنع النصارى تداول الكثير من الأناجيل إلا إنجيل (متى) وإنجيل (يوحنا) وإنجيل (مرقص) وإنجيل (لوقا) ، وظهر أخيراً إنجيل من الأناجيل التي منعت من سابق هو إنجيل (برنابا) وهو يتفق اتفاقاً كبيراً مع ما جاء في القرآن حول كثير من الأمور، وهكذا أخذ النصارى عقائد الوثنيين السابقين وأدخلوها في دينهم . وزعموا أن عيسى ابن الله ، وكانت حجتهم الكبرى أنه قد ولد من أم بغير أب . ولقد رد القرآن على فريتهم هذه فقال سبحانه : ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ?[آل عمران: 59] . أي إذا كانت حجتكم هذه أيها النصارى فتذكروا أباكم آدم ، لقد خلقه الله من غير أب وأم .
وهل يعني ذلك أنه ابن الله ؟
وهل لا يقدر الله بظنكم أن يخلق إنساناً إلا إذا كان بواسطة أب وأم ، إن قدرة الله أعظم مما تتصورون فهو إذا أراد شيئاً قال له : كن فيكون .
فإذا أراد الله إنساناً من غير أب وأم قال له : كن فكان آدم .(1/161)
وإذا أراد الله إنساناً من غير أم قال له : كن . فكان حواء .
وإذا أراد الله إنساناً من غير أب قال له : كن . فكان عيسى .
نقاش بين علماء المسلمين والنصارى :
1 – قال أحد المسلمين لقسيس : إن بعض الناس أخبرني أن رئيس الملائكة قد مات ، فقال له القسيس : إن ذلك كذب ، لأن الملائكة خالدون لا يموتون ، فقال له المسلم : وكيف؟ وأنت تقول الآن في وعظك : إن الإله قد مات على خشبة الصلب ، فكيف يموت الإله وتخلد الملائكة؟ فبهت القسيس ولم ينطق بكلمة .
2 – وقال أحد العلماء المسلمين : إن عقائد النصارى ضد بديهات العقل فلقد زعموا أن 1=3 لأنهم يقولون : الأب والابن والروح القدس إله واحد .
وقال البوصيري في قصيدته :
جعلوا الثلاثة واحداً ولو اهتدوا لم يجعلوا العدد الكثير قليلاً
3 – وقال أحد شعراء المسلمين :
جباً للمسيح بين النصارى
أسلموه إلى اليهود وقالوا
فلئن كان ما يقولون حقاً
فإذا كان راضياً بأذاهم
وإذا كان ساخطاً غير راض
?
?
وإلى الله والداً نسبوه
إنهم بعد قتله صلبوه
فسلوهم أين كان أبوه
فاشكروهم لأجل ما صنعوه
فاعبدوهم لأنهم غلبوه
ولقد أخذ كثير من علماء النصارى يتراجعون عن التثليث كما ظهرت مخطوطات تاريخية تقول : إن عيسىكان (مسيا)[25] المسيحيين وأن هناك مسياً آخر .. كما أن الله سبحانه قد بين أنه لا يمكن أن يكون إله من كان محتاجاً إلى طعام وشراب ، ثم هو بعد ذلك لا شك يحتاج إلى التخلص من باقي الطعام والشراب من جسمه .
? مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ?[المائدة: 75] .
جهالات وخرافات :(1/162)
1 – ادعاء علم الغيب : هذه خرافة يمارسها كثير من المشعوذين لابتزاز أموال الناس، ولو كان هؤلاء يعلمون الغيب لكسبوا لأنفسهم الخير الكثير ، ودفعوا عن أنفسهم الشر . ولكنهم يقعون في الخطر كغيرهم ، ويفوتهم الربح وكثير من الخيرات كغيرهم، والله قد بين لنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير خلق الله ـ لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله قال تعالى :
? قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ?[الأعراف: 188] .
ومن صدق عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
2 – التعلق بالأحجار أو الأشجار : وهذه جهالة وخرافة أخرى تجعل بعض الناس يظن أن الحجر أو الشجر يضر وينفع لأن فيه بركة فلان أو لأنه مكان مبارك وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فقال تعالى :? قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ?[الأعراف: 188] .
3 – السحر : وهذا ضلال كبير يقع فيه بعض الجهلة ولقد بين الله أن هذه الأسحار لا تضر المؤمن إلا بإذن الله ، وأن ممارستها من فعل اليهود الكافرين قال تعالى : ? وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ?[البقرة: 102] .
الخلاصة
من دلائل وحدانية الله : ثبات الكون واستقراره على نظام محكم دون أن يتسرب إليه فساد مما يشهد أنه يسير تحت إرادة واحدة، كما يشهد ترابط الكون وتناسقه أنه تحت يد مالك واحد. وعدم وجود صراع بين أجزاء الكون يشهد أنه لا توجد آلة أخرى غير الله تتصارع على السيادة في الكون.
*الرب: هو المالك المطلق، والموجود والمنشئ الوحيد الذي لا شريك له .(1/163)
*الإله : هو المالك الذي يملك جميع الصلاحيات والسلطات في السموات والأرض، فالحق مختص به ، والنعمة كلها بيده ، والأمر وحده والقوة والحول في قبضته ، وكل ما في السموات والأرض قانت له ، مطيع لأمره طوعاً وكرهاً ولا سلطة لأحد سواه . ولا ينفذ في الكون حكم لغير إلا برضاه.
وتشتمل العبادة على الشكر ، والإنابة ، والسجود ، والتسبيح والخضوع ، والاستسلام ، والدعاء، والتوكل ، ولا يستحق أحد العبادة سوى الله .
*الشرك : هو إشراك غير الله في الذات الإلهية ، أو الصفات الإلهية، أو الأفعال الإلهية وهو أربعة أنواع :
1- عبادة الأوثان كالأحجار والنجوم .
2- اعتقاد أن الله ثاني اثنين ، أو ثلاثة أو أكثر .
3- الخضوع عن رضا لغير حكم الله ، واتباع هدى غير هداه .
4- اتباع الهوى .
*الشرك ظلم عظيم للحق وللنفس ، وإن غفر الله ذنوب المذنبين، فإنه لا غفران لمن أشرك بربه غيره وهو يعلم الحق .
*غالى الجهال في مقام الأولياء ، والأنبياء ، والصالحين، حتى رفعوهم إلى مقام لا يليق إلا بالله وحده .
*بعد أن اضطهد الرومان علماء النصارى، فشت الخرافات بين النصارى وضاع إنجيل عيسى، ونسج الوهم والخيال : أن عيسى ابن الله ، بحجة أنه لا أب له ، وعرف الله النصارى في كتابه، أن الله قادر على خلق إنسان من أم بغير أب ، كما أنه خلق آدم من قبل بغير أب ولا أم ، كما عرف النصارى أن الرب لا يحتاج إلى طعام وشراب وبالتالي قضاء الحاجة ، كما هو حال سيدنا عيسى .
*لقد ظهر إنجيل أخفاه البابوات هو إنجيل (برنابا) يتفق مع القرآن في كثير من الأمور: منها نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبشرية عيسى عليه السلام ، وجاءت المخطوطات التاريخية تؤيد ما في هذا الإنجيل .
*هناك جهالات وخرافات شاعت بين الناس يحاربها الإسلام مثل : ادعاء علم الغيب ، واعتقاد الضر والنفع في بعض الأحجار والأشجار المباركة (بزعم الجهلة) والسحر والشعوذة .
الوثن الأكبر .. الطبيعة(1/164)
أصل الوثنية :
كلما انحرف الناس عن عبادة ربهم ، ونسوا إرشاد رسلهم ، حاولوا أن يجعلوا لله رمزاً في الأرض مجسداً ، يعتقدون فيه ، أولاً أن فيه من العناية الإلهية ، أو فيه سر إلهي خاص، فيقدسونه ، وتمر الأيام وهم يزدادون مغالات في تقديس هذه المخلوقات ، حتى ينسب إليها الأعمال الخارقة تجعل شريكاً لله في التقديس والعبادة . كما حكى الله عن مشركي العرب وقولهم عن أوثانهم:? مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ?[الزمر: 3] .
وقد تزداد الجهالة فتتخذ هذه الأصنام آلهة من دون الله ، ولقد حفظ التاريخ البشري أنواعاً متعددة من الوثنيات : كعبادة الفراعنة ، أو عبادة العجول والأبقار ، أو عبادة النجوم ، أو الأحجار، أو البحار ، أو الرعد ، أو الشمس ، أو القمر ، أو المطر ، أو غير ذلك من مظاهر الطبيعة .
الوثن الأكبر :
ولقد كان الوثن الجديد ، هو مجموعة الأوثان السابقة : الطبيعة التي تحتوي على النجوم بخصائصها ، وعلى القمر بخصائصه ، وعلى الإنسان بخصائصه ، وعلى الحيوان بخصائصه، وعلى الماء بخصائصه ، فجمعت الأوثان السابقة في وثن واحد ، هو الوثن الأكبر . وزعم الوثنيون الجدد أنه الخالق .
نظرية التوليد الذاتي :(1/165)
وكان مما ساعد على انتشار الجديدة ، هو ما شاهده العلماء الطبيعيون من تكون (دود) على براز الإنسان أو الحيوان ، وتكون بكتريا تأكل الطعام فتفسده : ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها وراحت هذه النظرية التي مكنت للوثن الجديد في قلوب الضالين ، التائهين بعيداً عن هدى الله الحق ، لكن الحق ما لبث أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور (باستر) الذي أثبت أن الدود المتكون ، والبكتريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتياً من الطبيعة، وإنما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها ، وقام بتقديم الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله فوضع غذاء وعزله عن الهواء وأمات البكتيريا بالغليان ، فما تكونت بكتريا جديدة ولم يفسد الطعام، وهذه هي النظرية التي قامت عليها فكرة الأغذية المحفوظة (المعلبات) .
الإنسان أرقى من الطبيعة :
وإذا تأمل الإنسان في نفسه وجد:
أنه عاقل ، والطبيعة لا عقل لها .
أنه عالم ، والطبيعة لا علم لها .
أنه مريد ، والطبيعة لا إرادة لها .
أنه سميع ، والطبيعة لا سمع لها .
أنه بصير ، والطبيعة لا بصر لها .
أنه صاحب مشاعر وأحاسيس والطبيعة لا مشاعر لها ولا أحاسيس. يحكم الأعمال والطبيعة لا حكمة لها ، صاحب خلق والطبيعة لا أخلاق لها .
فهل يصدق عاقل أن يكون المخلوق أرقى من خالقه ؟
وهل يعقل أن يكون العقل في الإنسان مما لا عقل له ، والعلم في الإنسان مما لا علم له ؟
والإرادة في الإنسان مما لا إرادة له؟
والسمع في الإنسان مما لا سمع له ؟
والبصر في الإنسان مما لا بصر له ؟
والمشاعر والأحاسيس في الإنسان مما لا مشاعر له ولا أحاسيس؟
وإحكام العمل في الإنسان مما لا حكمة له ؟
والأخلاق في الإنسان مما لا خلق له ؟
كيف وفاقد الشيء لا يعطيه ؟(1/166)
قال تعالى : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ?[الأنعام: 46] .وقال سبحانه :? قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?[المائدة: 76] .
الطبيعة في خدمة الإنسان :
ولقد سخر الله الطبيعة للإنسان وذللها ، فسخر الهواء والبحار والشمس والقمر والنجوم والتراب والرياح، واستخدم الإنسان المعادن والنبات والحيوانات (قوانين) يسير عليها الكون لمنفعته:
قال تعالى :? أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ?[لقمان:20] .
ولكن الكافرين في غرور وضلال ، يرون أنه قد سخر لهم ما في السموات وما في الأرض فلا يشكرون النعمة للمنعم سبحانه، ولكنهم يقولون : قهرنا الطبيعة في الوقت الذي يزعمون فيه أنها خلقتهم فعجباً لهذا الإله الحقير الذي يخلق من يقهره ويذله ويتحكم فيه كيفما شاء!!
إن الإله الذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى طفل ليس بإله ، ولقد عاد أحد الوثنيين السابقين إلى رشده عندما شاهد بول ثعلب يقطر من رأس صنمه فأنشد قائلاً :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب(1/167)
قال تعالى : ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ?[الحج:73] . وقال سبحانه : ? وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ?[فصلت:37] .
***
الخلاصة :
*تبدأ الوثنية باعتقال باطل أن الله أسراراً في بعض مخلوقاته، فيعظمها الناس ويقدسونها ، حتى يعتقدوا أن لهذه المخلوقات قداسة ذاتية فيشكرونها مع الله وقد تزداد جهالتهم فيعبدونها من دون الله.
*عبد الوثنيون السابقون أجزاء من الطبيعة ، وزعم الوثنيون الجدد أن مجموع الأوثان السابقة الطبيعة هي الإله الذي خلقهم .
*ساعد انتشار نظرية التوليد الذاتي على نشر وثنية الطبيعة حتى جاء العالم الفرنسي (باستير) وأثبت بطلان هذه النظرية .
*في الإنسان عقل ، وعلم ، وإرادة ، وسمع ، وبصر ، ومشاعر ، وأحاسيس وإحكام في العمل ، وأخلاق ولا تملك الطبيعة شيئاً من ذلك ، ومن المستحيل أن تهب الطبيعة ما لا تملك ، ولا أن يكون المخلوق أرقى من خالقه!!
*لقد سخر الله الطبيعة للإنسان ، وزعم الكافرون أنهم قهروها فعجباً لمخلوق يقهر خالقه ، وعجباً لخالق لا يستطيع رد الأذى عن نفسه!!
من بينات ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم
النبي الأمي :(1/168)
لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ولقد كانت أمية الرسول صلى الله عليه وسلم بينة على أنه ما تلقى العلوم التي حيرت العلماء إلا من الله العليم الحكيم، ولقد واجه القرآن المشركين بهذه الحقيقة في حينها ، وسجله الله لنا في كتابه الذي حفظه من كل تحريف، لنوقن كما أيقن الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا تفاصيل أحواله
قال تعالى :? وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ?[العنكبوت:48].
أي إنك يا محمد: ما قرأت ولا كتبت كتاباً قط ، وقومك الذين عنت بينهم يعرفون هذا ، ولو أنك قرأت أو كتبت لتشكك المبطلون بأن ما جئتهم به من هدى وعلم ونور إنما هو ثمرة علم اطلعت عليه وحدك، وغاب عن غيرك ، وسمع الكفار هذه الآية فما قال أحد منهم : لقد كذب القرآن ـ أستغفر الله ـ إنه يقول : إن محمداً لم يقرأ ولم يكتب ، ألم يقرأ في ذلك اليوم كتاب كذا ألم يكتب في يوم كذا؟ وكان مثل هذا القول كفيلاً بتكذيب القرآن وتفريق المسلمين من حول محمد صلى الله عليه وسلم ، ونصر أعدائه عليه ، ولكن سلطان الحقيقة الساطعة كان أقوى من كل معاند أو مكابر فلم يقل الكفار . إن محمداً كان متعلماً ، بل قالوا : إن القرآن قد كتب له وإنه يملي عليه بكرة وأصيلاً .(1/169)
وسجل القرآن الكريم قول الكافرين في القرآن المحفوظ ، قال تعالى : ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا(4)وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(5)قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ?[الفرقان: 4-6] .وقال تعالى لنبيه : ? قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ?[يونس: 16] .
أي يا أيها الناس تعلمون جهلي بما جاء في هذا الوحي من علوم ، وتعلمون أني بقيت فيكم أربعين عاماً ما سمعتم أني أهتم بشيء من هذا، أو أقول شيئاً مما تسمعون أو حتى أفكر فيه فكيف جاءني كل هذا فجأة؟ إنه الوحي من الله أفلا تعقلون؟
المعجزة والبينة القرآنية
القرآن يتحدى:
فطر العرب على حب البلاغة ، والأدب والشعر والخطابة ، فحسبك أنهم كانوا يقيمون في كل سنة موسماً يتبارى فيه الشعراء ويتنافس الخطباء، وكان يحكم هذه المباراة شعراء فحول ، فمن فازت قصيدته ذاع صيته ، وحسن ذكره ، وعلت كلمته ، وكتبت قصيدته بماء الذهب وعلقت على الكعبة.(1/170)
وما السبع المعلقات وسوق عكاظ إلا دليلان ظاهران في تاريخ العرب على مكانة الفصاحة والبلاغة بين قوم سمعوا لغتهم الفصحى وسموا الأمم الأخرى عجماً ، فكانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم من جهته أقوى ما يشتهر به قومه ويفتخرون ليظهر جلياً أمام عجزهم عن الإتيان يمثل سورة من القرآن أن مراده أنه ليس من قول البشر، ولما كان من عادة العرب أن يتحدى بعضهم بعضاً في المساجلة بالكلام والتحدي بالقصيد والخطب ويعقدون لذلك الندوات ويدعون له الحكام جعل الله بينة محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الكبرى قرآناً يتلى يتكون من نفس الأحرف والكلمات التي يتكون منها كلام العرب، لكن الإنسان والجن يعجزون عن الإتيان بمثله أو بعضه أو سورة منه ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، ومن المعلوم لدى العارفين أن الفصاحة والبلاغة وإن كان أساسهما استعداد صاحبهما الفطري إلا أنه لا بد لمن أراد الإجابة فيهما أن يتعلم فنونهما ، وأن يهتم بمراجعة الخطب ومحاورة الفصحاء ومغالبة البلغاء لكن محمداً الذي جاء بهذا القرآن ما قرأ ولا كتب ولا عرف عنه قول مأثور طوال أربعين عاماً . ومع ذلك فهو يتحدى الإنسان والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعضه أو سورة منه ، لأنه يعلم أنه ليس في مقدور المخلوق أن يأتي بمثل كلام الخالق سبحانه .
قال تعالى :? قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ?[الإسراء:88] .? أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ(33)فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ?[الطور: 33-34] .(1/171)
? أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[هود:13-14] .
?أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?[يونس:38] .
?وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ?[البقرة:23-24] .
***
علامات إلهية في القرآن
لقد جعل الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزته كتاباً أرسله معه ، وأودع فيه من العلامات التي لا تكون إلا لكلام الله، حتى إذا رآها الناس ووقفوا عليها قامت حجة ربهم، وظهر صدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن هذه العلامات :
1 – الجدة الدائمة :
إن كل كلام بشري يبلى إذا كرر ، بقدر ترديده بقدر ما يخلق ، وتسقط مكانته، ويختلف القرآن عن كلام البشر بجدته الدائمة التي لا يؤثر فيها ترديد أو تكرار ، فكم كرر المسلمون ويكررون سورة الفاتحة وقصار السور كل يوم وكم أعادوا وكرروا تلاوة القرآن وكلهم يجمعون على أن القرآن لا يزال جديداً على ألسنتهم ، وهذه علامة تخضع للتجربة من كل إنسان يعرف لغة العرب في أي زمان أو مكان، وهذه علامة إلهية من كل سورة من كتاب الله .(1/172)
ولقد نطق أحد كبار المستشرقين بهذه الحقيقة هو المستشرق (ليون) فقال : (حسب القرآن جلالة ومجداً أن الأربعة عشر قرناً التي مرت عليه لم تستطع أن تخفف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا يزال غضاً كأ، عهده بالوجود أمس) .
2 – الروح الإلهية :
إن أي كلام من كلام البشر، إنما يكون انعكاساً لشخصية قائله ، وعلمه ومزاجه ونفسيته، وكل كلام يحمل روح قائله لأنه أثر من آثاره . وقهارئ القرآن المتدبر لابد أن يقع في نفسه شعور بأن هذا القرآن كلام الله وأنه مطبوع بروح الخالق سبحانه القائل :?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ?[الشورى: 52].
إن في هذا القرآن سراً خاصاً يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها ، إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن يشعر أن هناك شيئاً ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن هنالك عنصراً ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن يدركه بعض الناس غامضاً ولكنه على كل حال موجود. وإنه الإحساس بأن مصدر هذا القرآن هو الله سبحانه . فهذه الروح الإلهية تطالعنا من بين كلمات هذا التنزيل .
3 – الكلام الفريد :
إن أي كلام على وجه الأرض يمكن إدماجه بغيره فلا يستطيع أحد أن يميز ذلك الكلام الذي أدمج بغيره ، لأنه بالإمكان أن يقلد الناس كلام أي أديب أو شاعر . غير أنا إذا أخذنا سورة من كتاب الله أو عشر آيات وحاولنا إدماجها في أي كلام لا بد أن تتميز وحدها .(1/173)
إن هذا القرآن كلام فريد وحده في هذا الوجود قال الدكتور طه حسين في كتابه (مرآة الإسلام) : إن القرآن لسي نثراً كما أنه ليس بشعر إنما هو قرآن ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم ، ليس شعراً وهذا واضح فهو لم يقيد بقيود الشعر، ولسي نثراً لأنه مقيد بقيود خاصة به لا توجد في غيره وهي هذه القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة. ولقد أدرك هذا أيضاً المستشرق الفرنسي الدكتور موريس فقال: إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر ، وإنه كان لا ريب فيه . وكان مما قال المستشرق (جيمس متشنر) في مقاله: لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم ، وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً ، وأشهدها أثراً في الحياة اليومية لمن يؤمن به فليس طويلاً كالعهد القديم ، وهو مكتوب بأسلوب رفيع أقرب إلى الشعر منه إلى النثر .
ومن مزاياه أن القلوب تخشع عند سماع وتزداد إيماناً وسموه .
4 – قوة تأثيره :
جرب بنفسك واقرأ ما شئت من كلام البشر في موضوع من موضوعات الحياة، ثم اقرأ ما تيسر من كلام ربك في نفس الموضوع عندئذ تشعر أن لهذا القرآن تأثيراً لا يشبه غيره من كلام البشر، أو استمع لوعظ واعظ واستمع إلى حديث وترقب أثر ما يتلو من القرآن على نفسك وأثر ما تسمعه من كلامه، بل جرب أن تعظ الناس بكلامك وجرب أن تعظهم بكلام الله، وستحس الفرق في وجوه المستمعين وفي نفسك بشرط أن تكون قد شرحت بعض الألفاظ القرآن المجهولة المعنى لدى العامة في هذا الزمان .
ولقد أدرك هذه العلامة الإلهية المستشرق (س. ل) كما أدركها غيره فقال : (إن أسلوب القرآن جميل وفياض ، ومن العجب أنه يأسر بأسلوبه أذهان المسيحيين ، يجذبهم إلى تلاوته سواء من ذلك الذين آمنوا أم لم يؤمنوا به وعارضوه) . ويكفي المتأمل ما أحدثه من تأثير هائل في حياة العرب الجاهلين حتى جعل منهم خير أمة أخرجت للناس .
5 – علومه :(1/174)
( أ ) لقد احتوى القرآن على تفصيل تاريخ الأنبياء والمرسلين السابقين ، وهو التاريخ الذي لم يكن يعرف أشتاتاً منه إلا الأحبار والرهبان وكانوا على خلاف فيما بينهم ، أما أمة العرب فلم تكن تعرف عن تفاصيل ذلك التاريخ شيئاً . فجاء النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من بين قومه الجاهلين جاء بتاريخ الرسل مفصلاً واضحاً جلياً ، اعترف به الكثير من الأحبار والرهبان ، وصدقوه فيما روى عن ربه وخرجوا من دين كانوا علماءه وتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم . قال تعالى :?تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ?[هود: 49] .
( ب ) كما كان القرآن ينزل كاشفاً لما يدور في صدور الناس وخاصة المنافقين فيواجههم القرآن بحقيقة ما أخفوا من صدورهم ، ولقد جرب كثير من الأعراب صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بإخفاء أشياء كان الوحي ينزل فيكشفها فيعترفون ويتوبون ، وكان القرآن كثير ما يذكرهم بهذا .
قال تعالى في شأن بعض المنافقين :?يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?[التوبة: 94] .
ومن أمثلة ذلك :
1 – إن بني حارث ، وبني سلمة هموا فيما بينهم أن ينسحبوا من غزوة أحد بعد أن انسحب المنافقون ولكنهم ثبتوا في المعركة وكتموا ذلك في أنفسهم ، فأنزل الله وحياً كشف لهم ما دار في نفوسهم ووضح لهم ما أخفوه فاعترفوا ، وقالوا : وما نحب أنها لم تنزل لأن الله أعلن لهم أنه وليهم جزاء ثباتهم وعدم انهزامهم .(1/175)
قال تعالى :?إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ?[آل عمران: 122] .
وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله قال : فينا نزلت ?إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا ? قال : نحن الطائفتان : بنو حارثة وبنو سلمة ، وما نحب ـ أو ما يسرني ـ أنها لم تنزل لقوله تعالى : ? وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ?.
2 – كان اليهود يبشرون بظهور نبي قرب زمانه يخرج من بلاد العرب ، وكانوا يتهددون العرب بأنهم سيتبعونه ويقتلونهم مع قتل عاد وإرم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بالمدينة كان العرب المؤمنون يلقون اليهود ويذكرونهم بما كانوا يقولون من بشارات ، فيعترفون ويعلنون إيمانهم ، ثم إذا خلا بعضهم ببعض أنكر بعضهم على بعض الاعتراف بما يعلمون من أمر الرسول لأن ذلك سيجعل العرب يشهدون عليهم يوم القيامة عند الله ، لأنهم كانوا يظنون أن ما كانوا يقولونه سراً بينهم ، فما كذبوا ما قال الله عنهم وإنما دخل جماعة منهم في دين الله وتركوا دينهم.
قال تعالى حاكياً عن اليهود في المدينة :? وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(76)أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ?[البقرة: 76-77] .
(ج) كما أن القرآن الكريم أخبر بغيوب تكون في المستقبل تكون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده فجاء مرور الأيام تفسيراً لما أنبأنا الله به في كتابه ومن أمثلة ذلك :(1/176)
1 – إخباره بأن الرسوم ستغلب الفرس في أقل من عشر سنوات ، بعد أن فرح الوثنيون بانتصار الفرس على الروم وتأهبوا على كذب ما وعد الله في كتابه ، فما مرت سبع سنوات إلا وتحقق ما وعد الله .
قال تعالى :? الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ?[الروم: 1-6] .
2 – حارب الإسلام الكثير من الناس عند ظهوره ، ولكنهم عادوا فأسلموا وكانوا من خيار المسلمين أمثال عمر ، وخالد ، وأبي سفيان ، وعمروا ابن العاص وغيرهم، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع إسلام قومه إلا أن القرآن الكريم أعلن له وللمسلمين عن بعض الأشخاص الذين لن يسلموا أبداً وسيموتون على الكفر أمثال أبي لهب وبالرغم من قرابته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمال إسلامه أقرب من احتمال إسلام عمر إلا أن الله قال في كتابه عنه : ? سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ? فمات وزوجته على الكفر .
ومثل الأخسن بن شريق الذي نزل فيه قوله تعالى :?وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ(1)الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ(2)يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3)كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ(5)نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ?[الهمزة: 1-7] .
فمات على الكفر، ومثل الوليد بن المغيرة قال تعالى في شأنه ? سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ? فمات كافراً .(1/177)
3 – ومنها إخبار القرآن بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله من الناس وتولى كف أيدي الناس عند محاولة قتله :
قال تعالى : ? وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ?[الإسراء: 60] .
وإذا كان العرب لا يسكتون على من سب خيولهم وجمالهم فكيف بهذا الذي جاء فسفه أحلامهم وعاب آلهتهم وضلل آباءهم، ونهوه ولم ينته وتوعدوه بالاستئصال، فإذا بالقرآن يخبر أن ربه قد أحاط بمؤتمرات الناس ولن يفلحوا في قتله ، فكان لا بد من محاولة قتله عند هجرته فأحبط الله كيدهم، وتآمر عليه اليهود في المدينة ليقتلوه فأحاط الله بهم، وحاولت قريش غزوة عدة مرات ففشلت، ودس اليهود السم له في خبير فأنجاه الله ومات أحد أصحابه السم ، وجاء رجل وقد شهر سيفه لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسقط الله السيف من يده ، وذهب عمير بن وهب لاغتياله فما عاد إلا مسلماً ، وهكذا تحقق وعد الله ومات على فراشه بالرغم من أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين بعده قد قتلوا قتلاً. وكان احتمال قتله أكثر من غيره لن وعد الله لا يتخلف .
4 – ومنها قوله تعالى : ? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ?[القمر: 45] .
نزلت هذه الآية بمكنة ولم يكن أحد يعلم معناها. وكان عمر يقول : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: سيهزم الجمع ويولون الدبر. فعرفت تأويلها يومئذ. وتحقق هذا الوعد بعد الهجرة إلى المدينة وعندما جمعت قريش جيشاً لقتال المسلمين في بدر هزمهم الله وولوا الأدبار .
5 – ومنها قوله تعالى :? يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ?[المائدة: 67] .(1/178)
إن هذه الآية قد جاءت حاثة الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الرسالة ، مصرحة أكثر من صراحة الآية السابقة ? إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ? بأن الله سيعصمه صلى الله عليه وسلم من الناس ولن يتمكنوا منه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية ? وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ? قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال : يا أيها الناس انصرفوا عنا فقد عصمنا الله عز وجل ، وبالرغم من كثرة محاولات قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وتيسر أسبابه لأن حجرات نسائه كانت من جريد النخل، وهو بعد نزول الآية أصبح يسير بغير حرس، ومع ذلك فقد عصمه الله من كل محاولة لاغتياله ، بالرغم من قتل الملوك وهم في حصونهم وقصورهم وراء الأبواب الحديد والعبيد والجنود والحارسين .
6 – ومنها قوله تعالى :? فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ?[الأنعام: 89] .
نزلت هذه الآية تواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كذبه قومه وعشيرته، وتخبره عن أمر في الغيب بأن الله سيقيض للرسالة قوماً يحملونها ولا يكفرون بها ، وجاءت الأيام فإذا بالمهاجرين والأنصار يبرزون من بين الناس لحمل هذه الرسالة كما أخبر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من قبل.
7 – ومنها قوله تعالى :? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا?[النور: 55] .(1/179)
فلقد كان المسلمون يعبدون الله سراً وهم خائفون ، ثم هاجروا إلى المدينة فكانوا يبيتون ويصبحون في سلاحهم فقال أحد الصحابة: يا رسول اله أبد الدهر نحن خائفون هكذا أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه جديدة) ثم نزلت هذه الآية مباشرة بأن الله سيزيل عن المسلمين الخوف، وسيجعلهم قادة الأرض وخلفاءها ، وسينصر دينهم على باقي الأديان ، وتحقق وعد الله في عهد رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده .
8 – ومنها قوله تعالى :? إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ?[الفتح: 1، 2] .
فلقد نزلت هذه الآية عقب إبرام صلح الحديبية الذي كان رأي المسلمين فيه أنه خيب آمالهم ، وأن فيه جوراً على المسلمين ، بما جاء فيه من شروط قاسية غير أن القرآن نزل يذكر أن ما يراه المسلمون هزيمة وانتكاساً إن هو إلا فتح عظيم للدعوة الإسلامية ، ومرت الأيام فإذا بالمسلمين يجنون من وراء صلح الحديبية فتوحاً ، وانتصارات عظيمة دينية وعسكرية وسياسية ، وبه تمكنوا من فتح مكة بعد عامين فقط . فعرف المسلمون بعد ذلك ما أخبرهم القرآن به قبل عامين .(1/180)
9 – ومنها قوله تعالى : ? لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(18)وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(19)وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ?[الفتح: 18-20] .
في هذه الآية وعد الله المؤمنين بثلاثة أمور :
1- فتح قريب .
2- مغانم مع هذا الفتح .
3- مغانم كثيرة في المستقبل .
وأخبرهم أن الله فعل هذا ليكون علامة إلهية للمؤمنين ؛ تثبت إيمانهم وتقويه. ولقد تحقق ما أخبر الله به ووعد :
1- فبعد شهر من نزول الآية فتح المسلمون خيبر .
2- وغنموا منها غنائم كثيرة .
3- كما غنم المسلمون بعد ذلك في حنين ، غنموا كنوز كسرى وقيصر .
10 – ومنها قوله تعالى : ? لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا ?[الفتح: 27] .
وعد الله المسلمين في هذه الآية أنهم سيدخلون بيت الله حاجين، محلقين ومقصرين آمنين، لا يخافون من إيذاء قريش، التي حاربت المسلمين وعذبتهم وهاجمتهم مراراً ، وغزتهم في المدينة فتحقق وعد الله وما أخبر به سبحانه وإن كان المسلمون يستبعدون ذلك فإنه قد علم ما لم يعلموا ، فكان ما أخبر الله في كتابه ، وطاف المسلمون بالبيت محلقين رؤوسهم ، ومقصرين آمنين لا يخافون.
11- ومنها قوله تعالى : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?[الحجر: 9] .(1/181)
وقد تحقق هذا الوعد . فخذ مصحفاً من أي بلاد الأرض ، طبع في أي زمان وقارن بمصحفك ستجدها شيئاً واحداً تماماً ، في عدد السور ، وأسمائها ، والأجزاء والآيات ، وأرقامها ، وعددها، وحروفها وستجد أن أي مصحف في الأرض هو نفس المصحف الذي تقرأ فيه وتسمعه من الإذاعات المختلفة، بينما ضاع كل من توراة موسى وإنجيل عيسى عليهما السلام .
12 – ومنها قوله تعالى : ? مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ?[الأحزاب :40] .
تعلن هذه الآية أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ، فلا نبي بعده وجاءت الأيام ، وها نحن اليوم في القرآن الرابع عشر، نجد صدق هذا الخبر الإلهي في كتاب الله ، مع أن الأنبياء كانوا يتتابعون في الأرض حتى أنه كان يوجد في وقت واحد أكثر من نبي .
13 – ومنها قوله تعالى : ? قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?[الأنعام: 65] .(1/182)
سأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل ستقع هذه الآية؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (أماإنها كائنة لم يأت تأويلها بعد) ففسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها ستكون، ولكن في المستقبل أي عندما يعصي المسلمون ربهم ، يرسل عليهم هذه الأنواع من العذاب. وكان المسلمون يسألون عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو من أكابر المفسرين عن حقيقة العذاب الذي يأتي من أعلى والذي يكون من أسفل فكان يقول ـ رضي الله عنه ـ : هذه الآية سيفسرها الزمان. ونحن اليوم نشاهد طرفاً من معاصي الناس، وهكذا جاء في القرآن الكثير من الأنباء التي ستكون في المستقبل ، ومرت الأيام وإذا بالأنباء الغائبة تظهر للعيان وصدق الله العظيم القائل ? وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ?[ص: 88] .
ولقد جاء القرآن بالشريعة التي أصلحت أمر الإنسان ، فأخرجت خير أمة للناس ، وسعد في ظلها الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم وأوطانهم ، وأوجدت الحلول لكل مشكلة في مختلف البلدان والأزمان، فكانت الشريعة بخصائصها الإلهية قوية في تأثيرها ، عادلة في حكمها، ثابتة في قيمها ، مرنة تستجيب لكل ألوان الحياة المتجددة ولقد شهدت لها المجامع القانونية الدولية في عصرنا هذا ، رغم مخالفة هذه المجامع لنا في العقيدة. ومن أمثلة هذه الشهادات:
1 – قال القانوني (سانتيلانا) في كتابه : إن في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني إن لم نقل : إن فيه ما يكفي الإنسانية كلها .
2 – وهذا أحد كبار رجال القانون الأجانب يقول للمسلمين : إن فقهكم الإسلامي واسع وجداً إلى درجة أني أعجب كلما فكرت في أنكم لم تستنبطوا منه الأنظمة والأحكام الموافقة لزمانكم وبلادكم .
3- ويقول (سليم باز) القانوني المسيحي اللبناني : أعتقد بكل اطمئنان أن في الفقه الإسلامي كل حاجة البشر في عقود، ومعاملات، وأقضية والتزامات .(1/183)
4 – ويقول القانوني الألماني الشهير (كهلر) : إن الألمان كانوا يتيهون عجباً على غيرهم في ابتكار نظرية الاعتساف والتشريع لها في القانون المدني الألماني الذي وضع 1787: أما وقد ظهر كتاب الدكتور محمود فتحي وأفاض في شرح هذا المبدأ[26] عن رجال الشريعة الإسلامية ، وأبان أن رجال الفقه الإسلامي تكلموا عنه طويلاً ابتداء من القرن الثامن للميلاد فإنه يجدر بالعلم القانوني الألماني أن يترك مجد العمل بهذا المبدأ لأهله الذين عرفوه قبل أن يعرفه الألمان بعشرة قرون؛ وأهله حملة الشريعة الإسلامية .
5 – ويقول (هوكتنج) أستاذ القانون بجامعة هارفارد في كتابه (روح السياسة العالمية) عام 1932م : إن سبيل تقدم الممالك الإسلامية ليس في اتخاذ الأساليب الغربية ، التي تدعي أن الدين ليس له أن يقول شيئاً في حياة الفرد اليومية ، وعن القانون والنظم السماوية ، وإنما يجب أن يجد المرء في الدين مصدراً للنمو والتقدم ، وأحياناً يتساءل البعض: عما إذا كان نظام الإسلام يستطيع توليد أحكام جديدة ، وإصدار أحكام مستقلة تتفق وما تطلبه الحياة العصرية؟ فالجواب عن هذه المسألة : هو أن في نظامه كل استعداد داخلي للنمو ، لا بل إنه من حيث قابليته للتطور يفضل كثيراً من النظم المماثلة ، والصعوبة لم تكن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشرع الإسلامي وإنما في انعدام الميل إلى استخدمها[27] وإني أشعر بكوني على حق حين أقرر أن الشريعة الإسلامية تحتوي بوفرة على جميع المبادئ اللازمة للنهوض.
6 – أما الأستاذ (شيرا) عميد كلية الحقوق في جامعة فينا فقد أعلن في مؤتمر الحقوقيين 1927م قوله : إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد لها ، إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي[28] بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة.(1/184)
7 – ولقد وقف الأستاذ (لامبير) في مؤتمر القانون الدولي المقارن المنعقد في لاهاي في أغسطس 1932م : فأعلن تقديره للشريعة من الناحية الفقهية .
8 – وأما المؤتمر الدولي الذي انعقد في لاهاي أيضاً (أغسطس 1937) فقد أعلن ما يلي:
(أ) اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام ، أي أن الشريعة الإسلامية قد أصبحت مصدراً للمحاكم الدولية ، والقوانين الدولية لا لقوة أهلها ، ولكن لصلاحيتها هي ، وقوتها الذاتية التي فرضت نفسها .
(ب) وأصدر المؤتمر إعلاناً بأن الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها ، مستقلة عن غيرها ، ليست مأخوذة من غيرها .
9 – أما مؤتمر المحامين الدوليين الذي انعقد في (لاهاي عام 1948) فقد أصدر توصياته بدراسة الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة .
10 – وأما جمعية القانون الدولي العام فقد اعتبرت محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الرائد الأول للقانون الدولي العام .
11 – أما أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس ، فقد وقف فيه نقيب المحامين الفرنسيين، فقال : (لا أدري كيف أوفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وعدم صلاحيتهما كأساس لتشريعات متطورة ، وبين ما سمعته مما يثبت من غير شك فاعلية الشريعة الإسلامية من عمق وأصالة ودقة ، وكثرة تفريع وصلاحية لمقابلة جميع الأحداث) . وقد قرر المؤتمر ما يلي :
1- اعتبار مبادئ الفقه الإسلامي ذات قيمة تشريعية لا يمارى فيها .
2- اختلاف المذاهب الفقهية يحوي ثروة تشريعية هي مناط الإعجاب ومنها يستجيب الفقه الإسلامي لجميع مطالب الحياة .
فليست هذه الشريعة الثابتة المرنة ، التي لم تنل منها الأيام ، والتي تحقق العدل والسعادة للإنسان في كل زمان ومكان إلا علامة ، وبينة إلهية تشهد: أن ربها الله الذي أحاط علماً بأمر الإنسان، وأن النبي الأمي ليس إلا رسولاً يبلغ ما يوحى إليه من ربه .(1/185)
ولا يزال القرآن كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنقضي عجائبه .. ولا تشبع منه العلماء) فكلما مر الزمن ، كلما كشف عن وجه جديد من إعجازه ، فما إن دخل الناس في عصر العلوم الكونية حتى وجدوا في كتاب الله نبأ بأن الله سيريهم آياته في الآفاق .
قال تعالى : ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ?[فصلت: 53] .
وإذا بالوعد متحقق ، فهناك آيات كثيرة ظهرت لعلماء الكون في الآفاق وكان الله قد أخبر بها رسوله أو بنى عليها حكماً أو أشار إليها .
ونذكر هذه الأمثلة للتدليل على هذه الحقيقة:
1- حرم القرآن الزواج من الأخوات في الرضاعة .
قال تعالى :? حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ ?[النساء: 23] .
وها هو الدكتور إبراهيم الراوي يشرح لنا سر هذا التحريم فيقول: إن الطب الحديث اليوم ممكن من أن يكشف النقاب عن أسرار تحريم الزواج في الإسلام بين الإخوة في الرضاعة ، لقد أثبتت الدراسة الطبية الحديثة أن الطفل الذي يتغذى على ثدي امرأة ما ، تنتقل إليه عوامل وراثية مكتسبة إضافة إلى الأحاسيس العاطفية والتفاعلات النفسية التي يتأثر بها عند عملية الرضاعة من ثدي المرأة، وضمه إلى صدرها ، كما أن الأنسجة والخلايا الجديدة التي تتكون في جسم الطفل وأعضائه، تنمو كجزء منتقل إليه من جسم المرأة المرضع ، حيث تنتقل إليه في خلاياها ، وأنسجتها عن طريق تراكيب الحليب المعدة لبناء جسم جديد وتكوين أنسجة وخلايا حية مستحدثة .
وبهذا تكون العوامل الوراثية للأخوين في الرضاعة موحدة مما يحدث ضعفاً في النسل .
2 – أعمدة الجذب التي لا ترى :(1/186)
وكشف التقدم العلمي أن لكل كوكب نجم في السماء مركز ثقل في داخله غالباً ما يكون قريباً من وسط جوفه ، وبالرغم من أن هذه الكواكب والنجوم في حركة مستمرة إلا أن المسافة بين مراكز الثقل بين هذه الكواكب والنجوم ثابتة لا تزيد ولا تنقص ، مما يشير إلى أن هناك عموداً للجذب لا يرى يحفظ مراكز الثقل في أجرام السماء على مسافات ثابتة من بعضها ، بالرغم من الحركة التي تشمل كل هذه الأجرام . ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأعمدة التي لا ترى في قوله تعالى :
? اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ?[الرعد: 2] .
3 – النار السوداء :
قبل ثلاث سنوات أي في عام 1973م . اكتشف الباحثون أن في السماء نجوماً سوداء وأنها أشد حرارة من النجوم المشتعلة بلون أبيض ، وأن النجوم البيضاء أشد حرارة من النجوم الحمراء التي تشتعل بلون أحمر .
وهكذا عرف الباحثون أن النار السوداء هي أشد أنواع الحرارة التي عرفت حتى اليوم . ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث يحمل هذه الحقيقة في وقت ما كان يتصور فيه أحد من البشر أن هناك ناراً سوداء على الإطلاق. قال عليه الصلاة والسلام: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة) . أخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي وغيرهم . وصدق الله القائل عن رسوله صلى الله عليه وسلم :? وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ?[النجم: 3، 4] .
4 – الحاجز بين البحرين :(1/187)
وقد اكتشف الباحثون أن مياه البحار والأنهار لا تمتزج مع بعضها البعض، بل لقد وجدوا أن مياه البحر الأبيض المتوسط لا تمتزج بمياه المحيط الأطلنطي عند جبل طارق فتغطس مياه البحر الأبيض المتوسط لا تمتزج بمياه المحيط الأطلنطي عند جبل طارق فتغطس مياه البحر الأبيض تحت مياها لمحيط لأن البحر الأبيض أكثر ملوحة من المحيط ، ولم يعرف محمد صلى الله عليه وسلم البحر ولم يشاهد ملتقى البحار والأنهار وما كان يملك من أدوات البحث والتحليل ما يفهم به ما تقرره هذه الآية:
? مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ?[الرحمن: 19، 20] .
فهناك التقاء ولكن هناك حاجز وسبحان القائل :
? أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ?[النمل: 61] .
إن العلامات الإلهية في كتاب الله كثيرة ، ذكرنا طرفاً منها آنفاً وقد جعلها الله في صلب الرسالة ذاتها، في كتاب الله الذي بين الحلال والحرام وفيه البيان لكل ما يحتاج إليه الإنسان من هدى على هذه الأرض ، وهذه العلامات يجدها كل من تدبر في كتاب الله .
? أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ?[محمد: 24] .
إن الله قد حفظ هذا الكتاب، وحفظ ما فيه من بينات مصدقة لرسوله صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الحجة على الناس، فكانت هذه العلامات الإلهية شهادة من الله بأن (محمداً رسول الله) .
? لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ?[النساء: 166] .
وكانت هذه العلامات الإلهية في القرآن شاهدة منه وله بأنه كتاب من عند الله .(1/188)
قال تعالى : ? أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ?[هود: 17] .
موقف العرب من القرآن وتحديه
عندما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في قومه ، وأمره بتبليغ الرسالة فكذبه قومه، وطالبه العقلاء ببينة رسالته ، وبرهان نبوته ، فأخبرهم : أن بينة رسالته هو هذا القرآن ، الذي نزل بعلم الله، والذي يحمل دليل صدقه فيه ، ففيه من العلامات الإلهية ما يكفي للمتدبر ، والذي يعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله ، أو مثل عشر سور منه ، أو مثل سورة واحدة.
قال تعالى :? وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ?[البقرة: 23، 24] .
فنظر المنصفون إلى كلام الله ، وشهدوا أن هذا الكلام قول الله ، وأن أي أحد من البشر لا يقدر عليه ، وأن محمداً الأمي الذي عاش بينهم أربعين عاماً لم يسمعوا منه بيتاً من الشعر، أو قولاً بليغاً، لهو أكثر عجزاً من غيره من الشعراء والفصحاء على الإتيان بسورة من مثله .
وتأمل المستكبرون في كلام الله فوجدوه قد غلب برهانه على قلوبهم ، فمنعوا أنفسهم وأتباعهم من مجرد الاستماع ، وسجل القرآن موقفهم في حينه مبكتاً لهم .
قال تعالى :? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ?[فصلت: 26] .(1/189)
وكانوا يقطعون من عرف عنه تساهلاً في الاستماع إلى كتاب الله الذي أعجزهم بفصاحته وبهرهم ببلاغته، وهم أهل الفصاحة وأرباب البلاغة .
وجاء موسم مجيء القبائل ـ وقريش مختلفة على نفسها ، ليس لهم قول موحد حول محمد صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة ، والد خالد ـ سيف الله المسلول ـ
فقال : إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأياً ، لا يكذب بعضكم بعضاً.
فقالوا : نقول كاهن .
فقال : والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته[29] ولا سجعه[30] .
قالوا : مجنون.
قال : ما هو بمجنون ، ولا بحنقة[31] ولا وسوسته[32] .
قالوا : فنقول شاعر :
قال : ما هو بشارع ، قد عرفت الشعر كله ، رجزه[33] وهزجه[34] وقريضه[35] ومبسوطه[36] ومقبوضه[37].
قالو : فنقول ساحر .
قالوا : ما هو بساحر ، ولا نفثه[38] ولا عقده[39] .
قالوا : فما نقول؟
قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وأن أقرب القول أنه ساحر فإنه[40] سحر يفرق بين المرء وابنه ، والمرء وأخيه ، والمرء وزوجه ، والمرء وعشيرته .
فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس من أن يستمعوا لمحمد صلى الله عليه وسلم فيسحرهم بكلامه ويستدلون بحالهم في قريش على ما يفترون ، فأنزل الله قرآناً سجل هذه الحادثة ويهدد صاحب التدبير هذا .
قال تعالى : ? ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ?[المدثر: 11-24] .(1/190)
ومرت ثلاث وعشرون سنة ، والقرآن يتحدى المكذبين ، أن يأتوا بمثل سورة منه ، وأن يعقدوا ندوة كتلك الندوات التي كانوا يعقدونها ليتبارى فيهم الخطباء والشعراء، أيهم أحسن قولاً. فعجزوا عن ذلك وكابر بعضهم قائلاً : (لو شئنا لقلنا مثل هذا..) ولكنه لم يجرؤ على أن يتقدم بشيء من ذلك، فلجأوا إلى القتال وبذل الأموال، وكان يكفيهم أن يأتوا بسورة من مثله، بدلاً عن المعارك، وما تجلبه عليهم من خسائر في الأموال والأنفس، خاصة والفرصة متسعة ، والوقت طويل، لكنهم اعترفوا بعجزهم وقالوا : هذا كلام سحري ، من سمعه سحر قلبه. ولكن عنادهم كان إلى حد معلوم، فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ورايات الإسلام ترفرف على أرجاء الجزيرة العربية. شاهدة لمحمد صلى الله عليه وسلم شهادة صدق بالنبوة . وقد يعجب الإنسان من تأثير القرآن على العرب هذا التأثير القوي!! ويرجع السبب في ذلك إلى أن القرآن نزل بلغتهم ، فما كان شيء من ألفاظه مجهولاً عليهم ، ثم هم أهل الفصاحة والبلاغة ، فلا شك أنهم أكثر الناس تقديراً ومعرفة ببلاغة القرآن وفصاحته المعجزة.. ولا يزال هذا التأثير في القرآن مدركاً اليوم، للناس على قدر فهمهم للغة العرب وأساليبها البلاغية .
بينات أخرى
خوارق العادات :
أجرى الله الكون على سنن معلومة ، وقوانين محددة ، وهذه السنن والقوانين هي ما عودنا الله أن يسير ما في الكون طبقاً لها ، ولا يستطيع تغييرها إلا الله فإذا أحدث تغيير لهذه السنن على يد رسول ، كان ذلك التغيير بمثابة قول الله : صدق عبدي . تسمى هذه الأحداث : خوارق العادات.(1/191)
وقد أجرى الله على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خوارق متعددة ، شاهدها الجيل الذي عاصر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتمتاز على خوارق العادات الأخرى التي أيد بها الرسل السابقين ، في أنها سجلت في كتاب الله الذي لم يتبدل منه حرف، والذي سمعه المسلم والكافر فما كذب به أحد ، وفي الحديث الشريف الذي بذل المسلمون الجهود الجبارة التي لم يعرف لها مثيل في التاريخ: لحفظه وضبطه وتحقيقه، وفي السيرة النبوية التي استقصت تفاصيل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبحت سيرته عليه الصلاة والسلام أوضح من سيرة حياة أشهر زعيم على وجه الأرض اليوم .
كما امتازت هذه المصادر العلمية الإسلامية ، بأنها كانت شغل المسلمين الشاغل فأقاموا لها المدارس، وأوقفوا لها الأوقاف الواسعة ، وكرموا كل من اتسع علمه في هذه الميادين ، فكان القرآن والحديث والسيرة سجلات تاريخية لا يوجد لها نظير في التاريخ . وفي هذه السجلات التاريخية نجد:
1 – في القرآن :
أيد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإنزال النعاس أمنة على جنوده ، في غزوة بدر ، وأنزل عليهم المطر لتطهيرهم وتثبيت أقدامهم ، حتى لا تغوص في الأرض ، وقلل عدد الكافرين في أعينهم وكثرهم في أعين الكافرين عند اشتداد المعركة، وأنزل الله جنوداً من الملائكة للقتال في صف المؤمنين، كما أنزل جنوداً لحمايته أثناء هجرته من مكة إلى المدينة ، كما غشاهم النعاس في غزوة أحد، كما سخر له الرياح في قتاله ضد الأحزاب ، وأسرى الله برسوله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وعرج به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى . وكذبه قومه وقدم لهم أدلة صدقه فألزمهم الحجة .قال تعالى :? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء: 1] .(1/192)
وطلب منه كفار قريش أن يصف لهم المسجد الأقصى ، فوصفه لهم وصفاً دقيقاً فقالوا : أما هذا فقد صدق فيه ، وطلب منه آخرون أن يخبرهم عن قافلتهم فأعطاهم خبرها وأوصافها وميعاد وصولها ووصلت في الوقت الذي حدد، وكانت كما وصف ، وفلق له القمر نصفين ، فقال أكثر الكفار: سحرنا محمد ، وقالوا : انظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فقالوا ذلك . وسجل الله هذا الحادث في كتابه فقال سبحانه : ? اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ(1)وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ(2)وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ?[القمر: 1-3] .
وسمع الكفار هذه الآيات فما قالوا : إن هذا القرآن كذب[41] وكان يكفيهم أي خطأ في القرآن، حتى يثبتوا أنهم على حق في تكذيبهم ، ولكنهم قد أخرستهم الحقائق الساطعة .
وأنزل جنوداً لقتال الكفار في حنين عندما فر أكثر المسلمين أمام ضربات هوازن وثقيف وغيرها من الخوارق والتي نجدها مفصلة في كتاب الله .
2 – في الحديث والسيرة :(1/193)
كل الخوارق السابقة[42] التي سجلها القرآن قد جاءت مفصلة في كتب الحديث والسيرة ، وجاء في كتب الحديث والسيرة من خوارق العادات هذه الكثير، التي كانت تقع في محافل المسلمين ، وفي اجتماعاتهم ، ورواها بعضهم في وقته وأقرها الباقي بسكوتهم لأنهم يعرفون أنها الحق، ولو عرفوا باطلاً ما سكتوا عليه ، وهم الذين لا يخافون في الله لومة لائم. ومن هذه الخوارق: تكلم الشجر ، والحجر، والحصى ، والشهادة له بالنبوة ، وتسبيح الطعام ، ونطق الحيوان ، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى ما يحتاج المسلمون إلى الماء في أسفارهم أو حربهم وتكثير الطعام القليل الذي لا يكفي إلا فرداً أو فردين حتى يكفي العشرات والمئات من المسلمين ، وإبراء ذوي العاهات ، وظهور الآثار العجيبة فيما لمسه صلى الله عليه وسلم ، هذا غيره كان يحدث تثبيتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتدعيماً له ، وشهادة للناس بصدق نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الاعتماد على هذه الخوارق في الإقرار بالنبوة ، وإنما كانت هذه الخوارق مساندة للبينات والآيات التي كان الوحي ينزل بها ، وتدل بنفسها على أنها من عند الله ، وكانت هذه الخوارق تنفع بعض الناس في التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالرسالة .
شاهد الحال :
إن بينات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة ، وإن أحواله عليه الصلاة والسلام – التي هي أوضح من حياة أي زعيم على وجه الأرض ـ لهي شاهد وبينة ـ شاهد يشهد : بأن من كانت هذه أحواله فلا يكون إلا نبياً مرسلاً . ذلك لأن حقيقة الإنسان لا بد أن تظهر من مراقبة أحواله، وإن اختفت بعض الوقت ، فلا بد أن تظهر ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت سيرته ظاهرة، وزاد في ظهورها تتبع المؤمنين للاقتداء ، ومراقبة الكافرين الأقوياء للنقد والتجريح . فكيف كانت أحواله صلى الله عليه وسلم ؟
1 – ليس زعيماً سياسياً :(1/194)
الزعيم السياسي هو الذي يتملق مشاعر القوم وخاصة عقائدهم ، أو هو الذي إذا عادى طائفة من الناس حرص أن يجامل الطوائف الأخرى الأقوياء لتكون عوناً له على الباقي، وهو الذي يحرص كل الحرص على إرضاء الناس ، أو التوفيق بين المنازعات المختلفة بين أتباعه ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره يجد مجالاً خصباً في دعوته لمحاربة الدخيل المتحكم بالعرب من فرس وروم ، حتى ينتظم العرب أو أهل الحمية إلى صفة ، أو كان بإمكانه أن يثيرها طبقية فيجد الأغلبية المستقلة ، أو الكثير منها إلى صفه ، أو يعلنها حرباً خلقية ليكسب إلى صفة ذوي الأخلاق الرفيعة ، ولكنه صلى الله عليه وسلم خرج يدعو الناس جميعاً إلى دعوة جعلت العرب جميعاً كبيرهم وصغيرهم وفقيرهم وغنيهم جميعاً ضده ، وأخذ يهاجمهم في أعز ما يحرصون عليه في دينهم وتجارتهم ، إذ أن تهديم الأصنام كان يعني ترك العرب لزيارة مكة ، وحرمان أهلها من منافع اقتصادية كبيرة ، وإذا به يحارب هو وأتباعه صلى الله عليه وسلم ، ويطردون من مكة . ويفرون بدينهم بعيداً عن المال والولد.
فهل هذا هو سلوك سياسي؟! لا يدعو الناس إلا إلى عبادة الله وحده ، ولا يمني أتباعه إلا برضا ربهم عنهم يوم القيامة!!
ثم ها هي ذي قريش تعرض عليه صلى الله عليه وسلم الرئاسة ، والمال والجاه ، على أن يترك دعوته فلا تجد منه قريش إلا صداً شديداً وعزماً على المضي في دعوته وقت لا يزال أصحابه تحت العذاب، أو غرباء في الأرض، وبعد أن تحقق له النصر ، لم يفترض الحرير، ولم يلبس الديباج ، ولم يتزين بالذهب ، كان بيته صلى الله عليه وسلم كأبسط بيوت الناس ، وكان يمر عليه الشهران ولا توقد في بيته نار. قال عروة ـ وهو يسمع خالته عائشة تتحدث بهذا إليه ـ : يا خالتي ما كان يعيشكم . قالت : إنما هما الأسودان التمر والماء .(1/195)
وذات مرة رأى عمر بن الخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم على حصير بالية ، وقد أثر في جسمه صلى الله عليه وسلم فبكى ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك؟ قال : ما بال كسرى وقيصر ينامان على الديباج والحرير، وأنت رسول الله يؤثر في جبنك؟ فقال: صلى الله عليه وسلم : ( يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟
ولقد جاءت غنائم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتصار المسلمين فرأت نساؤه أن يستفدن بشيء من هذه الغنائم ، وطلبن منه أن يكون لهن نصيب منها ، فإذا بالآية الكريمة تنزل بالجواب على سؤالهن :
? يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا(28)وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ?[الأحزاب: 28-29] .
هذه سيرة زعيم سياسي؟!
إن الشعوب في ذلك الزمان كانت ترى أن من حق قادتها وزعمائها أن يتمتعوا بخيرات الأرض، وبقدر ما يكون بذخ القادة واستعلاؤهم بقدر ما يكون شرف الشعوب وقوتها ، حسب مفهوم ذلك الزمان ، غير أن الرسول وحده ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو الزعيم الوحيد على وجه الأرض آنذاك الذي عكس القاعدة السابقة فما مصلحته في الحياة الخشنة ولم يزهد عنها؟ وهو بعد نصره قادر عليها ، ولن يجد من أحد اعتراضاً؟(1/196)
وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يتميز على أصحابه ، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويكره أن يقوم الناس له، ولقد أراد بعض الصحابة أن يمتدحوا ويثنوا عليه . فقال لهم صلى الله عليه وسلم : (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم) وتترك سيرته أثرها على خلفائه الراشدين وأصحابه. وها هو إذ يقرأ على الناس قرآناً فيه تقريع شديد له من ربه لبعض مواقف وقفها، والسياسي يخشى كل نقيصة من نقائصه ، وكل زلة من زلاته بأي ثمن وبأي طريقة ، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فما عليه إلا البلاغ ولو كان في ذلك تقريع له ، وهذه بعض الآيات التي جاءت بالتقريع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاها على الناس كما بلغه ربه :? عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى?[عبس: 1-10] .? اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ?[التوبة : 80].(1/197)
? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?[الأنفال :67-68] .? وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ?[الأحزاب: 37] .? وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73)وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ?[الإسراء: 73-75] .
2 ـ هل كان مصلحاً اجتماعياً :
إن محمداً كان رسولاً نبياً ، ولا شك أنه أصلح الأوضاع الإنسانية كلها ، بصفته رسولاً. أما الذين يفترون من أعداء الإسلام على محمد صلى الله عليه وسلم بأنه إنما احتال باسم الدين ليصلح الأوضاع الاجتماعية التي كان يراها فاسدة . فهيا لنرى في أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم هل نصدق ما زعموا؟
إن الداعي إلى الإصلاح يوجه مساعيه إلى هدفه ، فما بال محمد صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه وأصحابه للهلاك حول قضية الوحدانية وإخلاص العبادة لله التي تبدو بعيدة كل البعد عن الهدف المقصود؟ وكيف يبقى مستمراً في دعوته هذه وهو يرى أنه قد جلب الأذى الشديد لمن تبعه، والحصار في الشعب والمقاطعة والتشريد من الوطن . أي إصلاح اجتماعي إذاً هذا؟
وما باله يكلف أتباعه قيام الليل ، والصلاة كل يوم ، والصوم شهراً كاملاً ويعتبر هذه الأمور من أركان الإسلام ، فما علاقة هذا كله بدعوة لإصلاح أوضاع اجتماعية محدودة؟!(1/198)
وما باله يسفه اليهود والنصارى ويحمل عليهم ويدعوهم لترك دينهم، ودخولهم في دينه ، وما علاقة هذا بإصلاح أوضاع قريش الاجتماعية؟ ودعوته للعالم وإعلانه أنه خاتم الأنبياء والمرسلين ما دخل هذا كله في محاولة لإصلاح بعض الأوضاع الاجتماعية ؟ وهذا الفرض للغسل من الجنابة، والتأكيد على الغسل كل جمعة، والوضوء خمس مرات في اليوم في بيئة صحراوية ، ما دخل مثل هذا في محاولة لإصلاح أوضاع اجتماعية ؟ ألا إن هذه الأحوال لتشهد أنها أحوال رسول يبلغ عن ربه ، ولا يحسب لغير ذلك حساباً .
3 ـ علامات بارزة في أحواله صلى الله عليه وسلم :
*بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن تهيأت فيه أحوال العالم لظهوره، وزاد فيه إعلان أهل الكتب بمقدم الرسول ، فجاء في الوقت الصحيح ولم يأت بعده غيره .
*علامة (ختم النبوة) على كتفه مطابقة لبشارات الكتب السابقة .
*بقي أربعين عاماً بين قومه يلقبونه الصادق الأمين وعجز أعداؤه أن يجدوا كذبة واحدة عرفت عنه.
*عند نزول الوحي ذهب خائفاً مرتعشاً إلى أهله يقول : زملوني زملوني ولو كان مفترياً ما وقفنا على هذا الحادث في تأريخه .
*لقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب في غيبوبة عند اتصاله بجبريل ، ولقد كان جبينه يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، فهل يقدر الإنسان أن يفتعل مثل هذا؟ وما الداعي له؟ غير أن الاتصال بعالم الملائكة يحتاج تهيئة خاصة، وكان إذا غاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سجي بثوب حتى ينتهي الوحي .
*كان صلى الله عليه وسلم لا يأمر الناس بأمر إلا كان هو أول العاملين به ، ولا ينهاهم عن شيء إلا كان أول التاركين له ، فلم إذاً يكلف نفسه أعباء كثيرة إن لم يكن رسول الله؟!
*كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ، ويكثر الصلاة ، ويتصدق بما يجد لديه حتى مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهود بقوت أهله .(1/199)
*عند موت إبراهيم بن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم انكسفت الشمس ساعة دفنه، وتصايح المسلمون حول القبر : إنها لآية من آيات الله .. وكسوف الشمس يومئذ خبر من أخبار الفلك الثوابت ، أيده حساب الفلكيين في العهد الأخير. فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين يتصيدون الخوارق ولا ينكرونها ليستطيعوا أن يدعوها ـ لو كان كذلك أستغفر الله ـ لما كلفته هذه الخارقة إلا أن يسكت عنها ، فلا يدعيها ولا ينكرها . ولكنه صلى الله عليه وسلم لم ينس ساعة حزنه أمانة الهداية للمؤمنين بدينهم وبادرهم لساعتها مذكراً لهم بآيات الله قائلاً : (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته) ـ حديث صحيح أخرجه الشيخان ـ هذا قليل من كثير .
أحواله مع أعدائه وأتباعه :
رأى الكفار الرسول صلى الله عليه وسلم فاستهزءوا بأمره، وسخروا منه . قال تعالى :
? وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ?[الفرقان :41] .
فلم تؤثر فيه السخرية ، فاتهموه صلى الله عليه وسلم بالجنون ، وذلك لغرابة ما يدعوهم إليه:
? وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(7)مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ?[الحجر: 6-8] .
غير أن إعجاز القرآن وآيات الله في كتابه دلت بنفسها على ربها ، فما كان أحد من المشركين يسمع كلام الله ، حتى يأخذ القرآن بعقله وقلبه، ويدخل في دين الله . فزعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم يسحر الناس بقوله :
? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ?[سبأ: 43] .
وأخذوا يعملون على تشويش الحق بما يطلقون من الدعايات والأكاذيب:(1/200)
? قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ?[الأنبياء: 5] .? وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ?[الإسراء: 90-93] .
وهكذا علم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : إن الأمر بيد الله ، وهو الذي يؤيدني بالبينات التي يشاء ، والتي تكفي لإقناع الناس بصدقي ، والله سبحانه لا يقبل شروطاً لإيمان الناس ، وإلا لاشترط السفهاء ما يجعل أمر الرسالة والألوهية سخرياً وعبثاً وتفاهة ، وقال تعالى : ? أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[العنكبوت: 51] وبرغم الآيات الكثيرة التي أيد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بها ، إلا أنهم أخذوا يشتطون في معاداته فتارة يقولون:
? وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ?[القصص:57] .
ومرة أخرى يظهرون كراهيتهم المطلقة للهدى التي يفضلون عليها الموت:
? وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?[الأنفال : 32] .(1/201)
هؤلاء هم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم الذين يفضلون الموت والعذاب على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فما بالهم قد تحولوا من صف القتال ضده، وصف الكراهية له والحقد عليه، إلى جنود مخلصين في جيشه ، وأتباع محبين له ، وعباد قانتين لربهم ، وزهاد في الدنيا ومتاعها ، فعلقت آمالهم بما وعدهم ربهم على لسان رسولهم صلى الله عليه وسلم ، متحابين يؤثرون على أنفسهم غيرهم إرضاء لربهم ، يقيمون الصلاة في أوقاتها ، يقومون الليل لا يفترون عن ذكر الله ، يخرجون الزكاة من أموالهم، ويتسابقون في الإنفاق عن ذكر الله ، ويتدافعون إلى ساحات الاستشهاد حباً في أن يقدموا أرواحهم فداء لدينهم ، راضية بذلك نفوسهم. كيف دخل أولئك المجاهدون في دين الله أفراداً وأفواجاً؟ كيف دخلوا في دين الله؟ وما الذي جعلهم في غاية الحرص عليه ينشرونه في الآفاق ، يقدمون الأموال والأنفس في سبيل أتباع رسولهم صلى الله عليه وسلم الذي طالما وصفوه بالجنون ، وطالما سخروا منه واتهموه بالسحر؟! كيف حدث هذا؟ لا جواب إلا ما كانوا يرددونه كل يوم قائلين: نشهد أن محمداً رسول الله ، فلم يطرأ على الأمر أنهم تحققوا من صدق رسولهم، وشهدوا له بالرسالة ، بعد أن رأوا من بينات رسالته عليه الصلاة والسلام .
الخلاصة
*لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لم يقرأ ولم يكتب طوال عمره وسجل القرآن أميته وسمع بذلك أصحابه، وأعداؤه فما كذبوا ، وجعل القرآن أمية محمد صلى الله عليه وسلم دلالة على أنه رسول الله من عند الله ، فما عارضوا القرآن لأنهم يعرفون حقاً أنه النبي الأمي .(1/202)
*اشتهر العرب بالفصاحة في الأقوال، فكانوا يقيمون المباراة بين الشعراء والخطباء، وكانوا يكتبون أحسن أقوالهم بماء الذهب ، فجاء القرآن معجزاً لهم في الأمر الذي اشتهروا به ليكون الإعجاز بيناً وأجراه الله على لسان أمي ليكون أبلغ في الإعجاز ، وتحدى القرآن العرب والإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعضه ، أو حتى بمثل سورة منه فعجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه، ولجأوا إلى القتال وإهلاك أموالهم وأنفسهم بعد أن أخرستهم بلاغة القرآن .
*يحمل القرآن العلامة الإلهية التي تدل على أنه من عند الله ومنها :
1- كلام الله جديد لا يبلى مهما كرره الناس .
2- إذا كان الكلام يدل على شخصية صاحبه فإن قارئ القرآن يشعر أن الله هو الذي يحدثه.
3- كل كلام يمكن إدماجه في غيره ، إلا القرآن فإنه يتميز عن أي كلام لأنه كلام الله الذي لا يشبهه كلام .
4- للقرآن تأثير كبير على المستمع الواعي ، لا يشبهه في ذلك كلام من كلام البشر لأنه كلام الله .
5- احتوى القرآن على علوم لا يعلمها إلا الله منها :
( أ) أخبار السابقين التي ما سمعها المنصفون من الأحبار والرهبان حتى آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
( ب) أخبار ما كان يدور في صدور الناس ، ولا يعلمها إلا الله ، كما حدث بالنسبة لبني حارثة، وبني سلمة ، وكما حدث لليهود وما كانوا يخفون من كلام فيما بينهم.
( ج) ولقد أخبر القرآن بأمور تكون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده فجاءت الأيام بما كان قد أخبر القرآن به من قبل ، ومن ذلك:
1- انتصار الروم في أقل من عشر سنوات .
2- أن أبا لهب سيموت هو وامرأته على الكفر، وكذلك الوليد بن المغيرة والأخنس بن شريق .
3- إحاطة الله بالناس ، ودفع أذاهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4- هزيمة كفار قريش وجمعهم في غزوة بدر وفرارهم أمام المسلمين .
5- حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم من محاولة الاغتيال وتركه للحراسة وفشل كل المحاولات.(1/203)
6- الإعلان عن القوم الذين سيحملون الرسالة ولا يكفرون بها عندما كفرت قريش بالرسالة .
7- استخلاف المسلمين في الأرض ، وتمكينهم من دينهم بعد محاصرتهم وخوفهم .
8- الإخبار عن الفتح الذي كان في صلح الحديبية ، وظنه المسلمون هزيمة ولكنه كان فتحاً كما أخبر القرآن .
9- الإخبار بأن المسلمين سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين.
10- الإخبار عن فتح خبير ، والمغانم الكثيرة التي نالها المسلمون .
11- الإخبار بحفظ القرآن من كل تحريف .
12- الإخبار بأن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين .
13- الإخبار بالعذاب الذي ينزل على المسلمين عند عصيانهم من السماء ومن تحت أرجلهم واختلافهم شيعاً ، وتسليط بعضهم على بعض .
(د) لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم بشريعة أصلحت وحدها أحوال الإنسان في كل زمان ومكان ، وأخرجت للناس خير أمة ، وشهد المتخصصون بأفضليتها على كل القوانين والشرائع التي عرفها الإنسان إلى يومنا هذا . ومنهم (سانتيلانا) و(فمبري) و(سليم باز) و(كهلر) و(كنتج) و(شيرل) و(لامبير) ، والمؤتمر الدولي القانوني في (لاهاي) المنعقد في عام 1937م ، ومؤتمر المحامين الدوليين المنعقد في لاهاي عام 1948م ، وجمعية القانون الدولي العام ، ونقيب المحامين الفرنسيين، والقانونيين العالميون الحاضرون في أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس عام 1953م .
*وفي زمن العلوم الكونية اكتشف الباحثون حقائق في الكون، ووجد العلماء المسلمون أن القرآن كان قد أخبر بهذه الحقائق في وقت لم تكن البشرية تعرف عن هذه الحقائق شيئاً، فكان ذلك شاهداً جديداً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته .(1/204)
*ومن أمثلة ذلك تحريم القرآن للتزوج من الأخت في الرضاعة، لأن الرضاعة تكسب خصائص واحدة في الراضعين كما تكسب الأخوة الأصلية خصائص وراثية في الإخوة ، وإخبار القرآن عن الأعمدة التي لا ترى بين أجرام السماء ، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن النار السوداء، وإخبار القرآن عن الحاجز بين البحرين الملتقيين .
*أما العرب الذي تحداهم القرآن فما كان أحد منهم يسمع القرآن ، حتى يشهد بأن كلام الله، فتواصى الكفار بعدم الاستماع إليه ، وأخيراً لم يجدوا إلا أن وصفوه فقالوا : إنه سحر ، من سمعه سحر قلبه ، فكان قولهم هذا شاهداً بأنه ليس من كلام البشر .
*وهناك بينات أخرى لمحمد صلى الله عليه وسلم ، منها :-
1-ما ذكره القرآن من خوارق العادات : كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر ، وإنزال النعاس لتأمين المسلمين ، والمطر لتثبيت أقدامهم وتطيرهم ، وتقليل عدد الكافرين ، وزيادة عدد المؤمنين، وإنزال الملائكة لتأييد المسلمين ، وجنود لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته، وتسخير الرياح للمسلمين ضد الأحزاب .
2-ماذكرته الأحاديث النبوية ، وكتب السيرة من تفصيل للخوارق السابقة، وذكر لخوارق أخرى منها: كلام الشجر ، والحجر، والحيوان وشهاداتها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، وإبراؤه صلى الله عليه وسلم لذوي العاهات ، وظهور الآثار العجيبة فيما يلمسه عليه الصلاة والسلام.
ولم تكن هذه الخوارق إلا تثبيتاً وتدعيماً للمعجزة القرآنية ، وبينات للرسالة الأخرى .
*إن أحوال أي إنسان طوال حياته لتكشف حقيقته ، ولقد كانت ولا تزال أحوال محمد صلى الله عليه وسلم أوضح وأظهر من أحوال أي إنسان عرف حتى هذا الزمان ، فليس في سيرته صلى الله عليه وسلم غموض أو إخفاء . وإن أحواله لتشهد :(1/205)
1-أنه لم يكن زعيماً سياسياً يريد توحيد قومه ، وإعلاء ذكره فلقد رفض كل محاولة لتوحيد كلمته وأتباعه مع قبيلة إلا أن يكون ذلك تبعاً لهدي الله ، وتحمل هو وأتباعه لصنوف العذاب مالا يطيقه الناس ، ولما جاء النصر والفتح زهد عن متاع الدنيا فما كانت حالته إلا شاهدة بنبوته ، ولم يقصر في تبليغ الوحي الذي يتضمن التقريع الشديد له .
2-وما كان ينوي الإصلاح الاجتماعي فقط، فلقد كان حرصه الأول على الصلاة والصيام والزكاة والحج، وكلما يقرب الإنسان من ربه وإن كان الإصلاح الاجتماعي والسياسي قد تحقق على يده إلا أنه لم يكن جزءاً من دعوته .
3-وباقي أحواله صلى الله عليه وسلم تشهد بأن أحواله لم تكن إلا أحوال بني مرسل .
*ومن تأمل في أحواله صلى الله عليه وسلم مع قومه ، وجدها مصدقة لرسالته، فلقد عاداه قومه أشد عداء ، كانوا يتمنون الموت عليه على أن يتبعوه ، فعرض عليهم بيناته فإذا هم الأتباع، الذين يؤثرون الموت على الحياة في سبيل إرضائه .
أشراط الساعة وعلاماتها
قال تعالى :? فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ?[محمد: 18] .
علامات في كتاب الله :ذكر القرآن الكريم بعض العلامات الكبرى الساعة ، كيأجوج ومأجوج ، والدابة ، وظهور عيسى عليه السلام مرة ثانية على قول بعض المفسرين :وذلك في قوله تعالى :? حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96)وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ?[الأنبياء: 96-97] .
? وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ?[النمل: 82](1/206)
? وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ?[الزخرف: 61] . وفي قراءة ? وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ?وجاء أيضاً عن نزول عيسى عليه السلام قوله تعالى ? وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ?ومن المعلوم أن عيسى عليه السلام لم يمت بل رفعه الله إليه حياً، وقد فسر المفسرون هاتين الآيتين بنزول عيسى مرة ثانية كما تواترت بذلك الأحاديث ولم يشذ عن هذا التفسير إلا القليل.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد ذكر بعض هذه العلامات قبل قيام الساعة فإن السنة النبوية تفيض بذكر العلامات المختلفة الصغرى والكبرى .
موقف عض العلماء :
ولقد وقف بعض العلماء موقف الرفض للعلامات، والأمارات التي جاء بها الحديث، أما لتشككهم في صحة الأحاديث ، أو لأن هذه الأحاديث يتصورها الناس ويصعب على الناس الإيمان بها، فاستبعدوا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذه الأحاديث ، لكن هذه الأحاديث كثيرة جداً قد رويت في كل كتب الحديث: (الأمهات الست وغيرها) ثم جاءت أحداث الزمن مؤكدة لكثير منها .
أمثلة من الحديث:
1-أمور عظيمة لا تخطر على البال :
قال عليه الصلاة والسلام : ( لا تقوم الساعة حتى تروا أموراً عظاماً لم تكونوا ترونها ، ولا تحدثون بها أنفسكم) (رواه نعيم بن حماد في كتابه المشهور بكتاب الفتن من حديث سمرة بن جندب ورواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير) . وقال عليه الصلاة والسلام : (سترون قبل أن تقوم الساعة أشياْ ستنكرونها عظاماً تقولون : هل كنا حدثنا فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله تعالى واعلموا أنها أوائل الساعة) (رواه البزار والطبراني من حديث سمرة) .
2-استخراج للكفار للمعادن:(1/207)
قال عليه الصلاة والسلام : (ستكون معادن يحضرها شرار الناس)(1)[1] . (رواه أحمد في مسنده من حديث رجل من بني سليم) وقال عليه الصلاة والسلام : (لا تقوم الساعة حتى تظهر معادن كثيرة لا يسكنها إلا أراذل الناس) (رواه الطراني في الأوسط من حديث أبي هريرة).
3-تزيين المساكين وإطالة البناء :
قال عليه الصلاة والسلام : (إذا رأيت الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان فانتظر الساعة) (رواه البخاري ومسلم) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن وحتى يتطاول الناس في البنيان) (رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (ما أنتم إذا مرج الدين، وسفك الدماء، وظهرت الزينة وشرف البنيان) (رواه الطبراني في الكبير عن ميمونة أم المؤمنين) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشونها وشي المراجيل) والمراجيل : هي الثياب المخططة (رواه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة).
وقال عليه الصلاة والسلام : (من أعلام الساعة وأشراطها أن يعمر خراب الدنيا ويخرب عمرانها) (رواه الطبراني عن أبي مسعود وابن عساكر عن محمد بن عطية).
وإذا كان هناك صعوبة على السابقين في فهم حدوث التخريب للعمران وعمران الخراب، فإنا نجد اليوم المدن الجديدة تنشأ في الأماكن الخربة غير المعمورة والمدن المعمورة تهدم لإعادة تخطيطها، ولا تعني الحديث أن ذلك حرام إنما يعني أن حدوث هذا علامة على قرب الساعة . وقال عليه الصلاة والسلام: (إن من أعلام الساعة وأشراطها، أن تزخرف المحاريب وتخرب القلوب) .
4-ارتباط أجزاء الأرض وتقاربها :
قال عليه الصلاة والسلام : (لاتقوم الساعة حتى يتقارب الزمان وتزوى الأرض زياً) أي تطوى ويضم بعضها إلى بعض. (رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي موسى الأشعري) .
5-في المواصلات:(1/208)
1- أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن زمناً سيأتي لا تستخدم فيه الإبل للتنقل وحمل الأمتعة، ومعلوم أن عدم استخدام الجمال مع وجودها إنما يكون بسبب وجود وسيلة أحسن، وليس هناك من الحيوانات ما هو أقدر من الجمال على السفر في الصحراء. ولقد رأينا في هذا الزمان تعطل الجمال عن حمل الأمتعة وهذه الظاهرة هي في ازدياد كل يوم. قال عليه الصلاة والسلام: (ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) (رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة) .
2-قال عليه الصلاة والسلام : يكون في آخر الزمان رجال يركبون على المياثر حتى يأتون أبواب المساجد) (رواه أحمد والحاكم عن ابن عمر) والمياثر: كما فسرها عمر بن الخطاب هي السروج العظام، وقال عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على السروج كأشباه الرجال ينزلون على أبواب المساجد) (رواه أحمد في مسنده والحاكم في صحيحه عن ابن عمر) فما هي السروج العظام التي ليست رجالاً وإنما كأشباه الرجال؟ والتي يركب عليها الناس إلى أبواب المساجد، لم يعرف من المسلمين أنهم شدوا البغال والجمال أو الخيول ووضعوا عليها السروج العظيمة، ليذهبوا بها إلى المساجد. فلا شك أن هذه الوسيلة للمواصلات غير هذه، والحديث يصف أن الركوب على السروج لا على الخيول أن الجمال أو غيرها من الحيوان. إنا نجد الوصف ينطبق اليوم على السيارات ذات المقاعد التي تشبه السروج العظيمة والتي يركب الناس عليها إلى أبواب المساجد.
3- ولقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة سير الدجال في الأرض؟ قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ : (كالغيث استدبره الريح) أي كسرعة سير السحب، (الحديث رواه مسلم في صحيحه وغيره من حديث النواس من سمعان) .
6- حديث السباع ونطق الجماد:
قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى الرجل عذبة سوطه ، وشراك نعله وتخبره بما أحدث أهله من بعده)(1)[2].(1/209)
قال عليه الصلاة والسلام : (إنها أمارات من أمارات بين يدي الساعة أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهله من بعده)(1)[3].
أما حديث السباع فإن حيوانات السيرك تأتي بالغرائب ، والكلاب (البوليسية) تدل الشرط على معلومات ، فقد تكون هذه طرفاً من تفسير الحديث ، والمستقبل متسع لما هو أكبر من هذا والله أعلم.
أما حديث السوط والنعلين عما أحدث الأهل في البيت ففيه إنباء بنطق الجماد وقد نطق، وفيه إناء بأجهزة الاستقبال التي تمكن صاحب البيت من الاطلاع على معلومات من داخل بيته بواسطة مراسلات معين تستقبلها أجهزة استقبال توضع في النعلين، أو في سوط يحمل باليد ، وقد نطق الجماد اليوم، والمستقبل يتسع لتفسير باقي الحديث والله أعلم .
7- نهضة علمية من جهل الدين:
قال عليه الصلاة والسلام : (من اقترب الساعة كثرة القراء، وقلة الفقهاء وكثرة الأمراء وقلة الأمناء)(2)[4].
وقال عليه الصلاة والسلام : (إن من أشراط الساعة أن يظهر القلم)(3)[5].
وقال عليه الصلاة والسلام : (سيأتي على أمتي زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء، ويقبض العلم ويكثر الهرج) وقبض العلم الديني يكون بموت العلماء ، وعدم وجود من يخلفهم كما صرحت بذلك الأحاديث، والهرج: القتل والكذب(4)[6].
وقال عليه الصلاة والسلام : (من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماماً يصلي بهم)(5)[7].
وقال عليه الصلاة والسلام : (يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة)(6)[8].
8- اتساع في الحركة التجارية وزيادة الدخل:
قال عليه الصلاة والسلام : (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام ، وفشو القلم وظهور الشهادة بالزور، وكتمان شهادة الحق)(7)[9].
قال عليه الصلاة والسلام : (إن من أشراط الساعة أن يفشو المال، وتفشو التجارة ، ويظهر القلم)(8)[10].(1/210)
وقال عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة تسليم الخاصة ، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة)(1)[11].
9-تبرج النساء:
قال عليه الصلاة والسلام : (يكون في آخر الزمان رجال ، يركبون المياثر حتى يأتون أبواب المساجد نساؤهم كاسيات عاريات ، على رؤوسهن بأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات)(2)[12] على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف: أي يضعف على رؤوسهن ما يشبه سنام الجمل الضعيف وربما كان ذلك إشارة إلى تجعيد شعورهن وتسنيمها أو وضع البرانيط التي تلبسها بعض النساء والله أعلم .
وقال عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهم: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)(3)[13].
وأسنمة البخت : أسنمة الإبل، ونحمد الله فلا يوجد لدينا إلى الآن هذا الصنف من النساء في اليمن، وربما كان المسلمون السابقون يجدون إشكالاً في فهم التناقض الظاهري في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (كاسيات عاريات ) غير أن تقدم الزمان قد جعلنا نرى في البلدان الإسلامية التي أصيبت بالاستعمار ، وجود النساء اللاتي يملكن الكاسيات بالكساء الضيق، الذي يجعل تفاصيل جسم المرأة ظاهرة وكأنها عارية ، ووجدنا النساء يلبسن الثياب في المنازل ويتحللن منها في شواطئ البحر، إلا من قطع صغيرة على الفرج والثديين وبهذا يرتفع الإشكال حول الحديث والله أعلم.
10-تشبه النساء بالرجاء وتشبه الرجال بالنساء:
قال عليه الصلاة والسلام : ( من اقتراب الساعة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال)(4)[14].
11-شرب الخمور وكثرة الزنا:
قال عليه الصلاة والسلام : (لا تذهب الأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها)(5)[15].(1/211)
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن ناساً من أمتي يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها)(1)[16] وقد وجد من يشرب الخمر ويقول هذه بيرة والبيرة ليست خمراً .
وقال عليه الصلاة والسلام : (لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس تسافد البهائم في الطرق)(2)[17].
ونسمع من هذا أشياء ، قد وجدت في بعض البلاد الأوروبية أعاذنا الله منها .
وقال عليه الصلاة والسلام : (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر الزنا ويكثر شرب الخمر)(3)[18].
12- تربية الكلاب وكراهة الأولاد:
قال عليه الصلاة والسلام : (إذا اقترب الزمان يربي الرجل جرواً خير له من أن يربي ولداً له، ولا يوقر كبير ولا يرحم صغير، ويكثر أولاد الزنا حتى أن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أمثلهم في ذلك المراهن)(4)[19].
وقال عليه الصلاة والسلام : (يأتي على الناس زمان لا يربي أحدهم جرواً خير له من أن يربي ولداً لصلبه)(5)[20].
13- التعامل بالربا وشيوعه:
قال عليه الصلاة والسلام : (ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره)(6)[21].
14- التحية بالتلاعن:
قال عليه الصلاة والسلام : (لا تزال الأمة على شريعة حسنة ما لم تظهر فيهم ثلاث: ما لم يقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الخبث(7)[22]، ويظهر فيهم السقارون قالوا : وما السقارون؟ قال: نشء يكونون في آخر الزمان تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا تلاعوا)(8)[23].
15- الشياطين وكتب سماوية:
قال عليه الصلاة والسلام: (إن في البحر شياطين مسجونة ، أوثقها سليمان يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآناً)(9)[24].(1/212)
وإن جمعيات تحضير الأرواح في هذا الزمان قد أخذت تبشر بدين جديد، وزعمت أنه قد أوحت الملائكة إليها بكتب من السماء والكتاب المعتمد من الجمعية لتحضير الأرواح والذي أوحى به (سلقر بوش) و(هوايت هوك) مندوبا الملائكة بزعمهم هو كتاب : (الحكمة البالغة).
16- اختلاف الأخوة في الدين:
قال عليه الصلاة والسلام : (لا تقوم الساعة حتى تتباكى القلوب، وتختلف الأقاويل ، ويختلف الأخوان من الأب والأم في الدين) أعاذنا الله من ذلك(1)[25].
17-السكتة القلبية:
قال عليه الصلاة والسلام: (من اقتراب الساعة موت الفجأة)(2)[26] ويقول الأطباء: إن السكتة القلبية مرض من أمراض المدنية لم يكن شائعاً في المجتمعات القبلية، ويندر أن يموت الفلاحون والقبائل عن طريق السكتة القلبية.
18- كثرة القتل:
قال عليه الصلاة والسلام : (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ، ويكثر الكذب ، وتتقارب الأسواق، ويتقارب الزمان، ويكثر الهرج، قلت: وما الهرج؟ قال القتل)(3)[27].
قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقتل الرجل أخاه، لا يدري فيم قتله)(4)[28].
وقال عليه الصلاة والسلام : (ما أنتم إذا مرج الدين ، وسفك الدماء ، وظهرت الزينة، وشرف البنيان)(5)[29].
19- حسن القول وسوء العمل :
قال عليه الصلاة والسلام : (إنه يكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون العمل)(6)[30].
وقال عليه الصلاة والسلام : (إذا ظهر القول وخزن العمل، واختلفت الألسن، وتباغضت القلوب وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)(7)[31].
20- تعطيل السيف:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أشراط الساعة سوء الجوار، وقطيعة الأرحام، وأن يعطل السيف في الجهاد)(8)[32] .
21- كثرة الفتن:(1/213)
روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتن كقطع الدخان ، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، يبيه أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا) أعاذنا الله من ذلك(1)[33].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ستكون فتن يفارق الرجل فيها أخاه وأباه تطير الفتنة في قلوب الرجال منهم إلى يوم القيامة، حتى يعير الرجل فيها بصلاته كما تعير الزانية بزناها)(2)[34].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً)(3)[35].
22- وطائفة على الحق ظاهرين:
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله)(4)[36].
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (المتمسك بستني عند فساد أمتي له أجر شهيد)(5)[37].
23- نحن واليهود والدجال وعيسى ابن مريم:
روي عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال : (تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله)(6)[38].
وقال عليه الصلاة والسلام: (تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول: يا عبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله)(7)[39].(1/214)
ويؤخذ من هذه الأحاديث أن اليهود ستكون لهم دولة ، وذلك ما كان يعتبر مستحيلاً إلى أوائل هذا القرن فجاءت الأيام مصدقة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن هذه الدولة ما وجدت لتبقى ، بل لقد جاءت البشارة في الحديث بنصر المسلمين على اليهود نصراً تشارك فيه الأحجار. وإذا كان عصيان المسلمين هو الذي مكن لأعدائهم اليهود أن تكون لهم دولة لتفوقهم واختلافهم ، وكثرة المعاصي كما جاء في الحديث الذي رواه ابن إسحاق بن بشر وابن عساكر كما في (كنزل العمال) عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الدجال اليهودي: (وتكون آية خروجه تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهاونهم بالدماء، إذا ضيعوا الحكم ، وأكلوا الربا ، وشيدوا البناء وشربوا الخمر ، واتخذوا القيان ، ولبسوا الحرير، وأظهروا بزة آل فرعون ، ونقضوا العهد وتفقهوا لغير الدين ، وزينوا المساجد ، وخربوا القلوب ، وقطعوا الأرحام، وكثرت القراء، وقلت الفقهاء ، وعطلت الحدود ، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال وتكافئ الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، بعث الله الدجال فسلط عليهم) .
قال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فعند ذلك ينزل أخي عيسى ابن مريم، وينزل عيسى عليه السلام – في وصف المسلمين المجاهدين الذين يجاهدون الدجال واليهود ويقاتلونهم، فيقتل الدجال ويدخل الناس جميعاً في دين الله ولا يبقى على وجه الأرض أحد إلا دخل الإسلام).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لتقاتلن المشركين ، حتى يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه) قال راوي الحديث ولا أدري أين الأردن يومئذ من الأرض(1)[40].(1/215)
وأما اليهود وأحبارهم فهم يرددون منذ عشر سنوات مضت: بأن زمن المسيح قد قرب، وأنه سينزل في إسرائيل ، ناسين أن المسيح الحقيقي عيسى عليه السلام قد جاء وله من يوم مولده 1988 عاماً فإن جاءهم أحد فليس إلا دجالاً يدعي أنه المسيح ، وسينتصر المسلمون على اليهود – إن شاء الله ـ ولا بد أن نقاتل اليهود فنفوز بالشهادة أو يأتي نصر الله الذي وعدنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
24- العلامات الكبرى:
إن ما فصل قد سمي بالعلامات الصغرى ، وهناك علامات كبرى ذكر بعضها في القرآن والأحاديث النبوية ، وذكر البعض الآخر في الأحاديث النبوية :
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام ، والدجال ، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن(1)[41] تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا) روى الحديث أحمد وهكذا رواه مسلم وأهل السنن عن حذيفة .
الحكمة من ذكر علامات الساعة :
1-إذا شاهد المسلم علامات قرب الساعة ألقى ذلك في نفسه الخوف من الله فأخذ نفسه بالاستعداد بالأعمال الصالحة ، والمبادرة إلى كل ما أمر الله به واجتنابه ما نهى الله عنه ، قبل فوات الأوان.
كما قال تعالى :? هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ?[الأنعام: 158].
ومعنى قوله تعالى : ? أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ? أي علامات الساعة .(1/216)
2-تأكيد الإيمان بأن وعد الله حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو كائن الآن لا يكون إلا من رسول علَّمه الله فتولد في النفس يقيناً، بأن ما وعدنا الله ورسوله بأنه ملاقينا ونازل بنا بعد موتنا ، فيبعث في النفس حوافز العمل الصالح، الذي ينجينا من عذاب النار ويجعلنا نفوز بالجنة .
فذكر هذه الإمارات حافز للعمل وليس بحافز للتواكل واليأس لأنه لا ينجينا من عذاب الله، ويوصلنا إلى الجنة إلا العمل الصالح
3-إن هذه العلامات تعطينا ثباتاً في إيماننا لا يؤثر فيه ضغط الأحداث ولا تزلزله جهود الضلال، وتأثير الفتن الهوجاء وتجعل المؤمن يقول: ذلك ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
4-لقد وردت هذه العلامات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فداريتها جزء من الدين ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ بعد تحدثه بعلامات خروج الدجال: (..إنما أحدثكم هذا لتعقلوه وتفهموه وتفقهوه فاعلموا عليه وحدثوا به من خلفكم ، وليحدث الآخر الآخر ، فإن فتنته أشد الفتن) روى الحديث نعيم ورواه الحاكم في المستدرك .
زمن حياة بعض العلماء الذين دونوا الأحاديث ورويناها عنهم
ام وفاته?
عام مولده ?
اسم العالم ??
?241?
164?
أحمد بن حنبل ??
?238?
...?
نعيم بن حماد??
?235?
...?
ابن أبي شيبة ??
?241?
194?
البخاري ??
?275?
202?
أبو داود ??
?261?
206?
مسلم ??
?273?
209?
ابن ماجه ??
?279?
209?
الترمذي ??
?293?
...?
البزار ??
?307?
210?
الديلمي ??
?303?
215?
النسائي ??
?321?
237?
الطحاوي ??
?360?
260?
الطبراني ??
?395?
310?
ابن منده ??
?405?
321?
الحاكم ??
?430?
336?
أبو نعيم ??
?571?
499?
ابن عساكر O??
الخلاصة
*ذكر القرآن بعض أمارات الساعة الكبرى: كيأجوج ومأجوج وظهور عيسى مرة ثانية، والدابة وذكرت الأحاديث النبوية الكثير من العلامات الصغرى والكبرى.(1/217)
*وقف بعض العلماء من العلامات التي جاءت في الأحاديث موقف الرفض إما لتضعيفهم للأحاديث، أو استبعادهم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال مثل هذه الأخبار التي لم يكونوا يتصورون وقوعها .
*من العلامات الصغرى التي أخبر بها الحديث:
1-أنه ستحدث أمور عظيمة لم تكن تخطر على البال.
2-أنه ستستخرج معادن كثيرة على غير أيدي المسلمين.
3-أن المساكن ستتزين وتطال.
4-وأن أجزاء الأرض ستتقارب.
5-وأن الإبل لن تستخدم للسفر، وسيركب الناس على مياثر ينزلون بها على أبواب المساجد ، وأن سرعة سير الدجال في الأرض ستكون كسرعة سير السحب.
6-وأن السباع ستكلم الإنس وأن الجماد سينطق.
7-وأنه ستكون نهضة علمية مع جهل بالدين.
8-وأن الحركة التجارية ستتسع ويزيد دخل الفرد.
9-وأن النساء ستتبرج.
10-وأن النساء ستتشبه بالرجال وأن الرجال سيتشبهون بالنساء.
11-وأنه سيكثر شرب الخمر كما سيكثر الزنا .
12-وأن الناس سيكرهون تربية أولادهم يحبون تربية الكلاب .
13-وأن الناس سيأكلون الربا ويصيبهم من غباره .
14-وأنه سيأتي جيل يحيي بعضه بعضاً بالتلاعن .
15-وأنه سيظهر شياطين تقرأ على الناس كتاباً بالقرآن.
16-وأنه سيختلف الأخوان في الدين.
17-وأنه سيكثر الموت بالسكتة القلبية .
18-وأنه سيكثر القتل.
19-وأن الناس سيحسنون القول ويسيئون العمل.
20-وأن السيف سيعطل من الجهاد.
21-وأن الفتن ستكثر .
22-ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرين – أجر المتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كأجر شهيد عند بدء الفساد، وكأجر مائة شهيد عندما يبلغ أقصاه.
23-وأن اليهود سيقاتلون المسلمين وسينصر الله المسلمين عليهم، وأن الدجال سيظهر في اليهود، وأن عيسى عليه السلام سينزل في المسلمين ، وسيقتل المسيح حق المسيح الدجال وأن معارك ستدور بين المسلمين والدجال على نهر الأردن ، المسلمون شرقيه واليهود غربيه.
*هناك حكمة من ذكر علامات الساعة:(1/218)
1-تقوية استعداد المسلم للقاء ربه.
2-تأكيد الإيمان بأن الله حق وأن الساعة لا ريب فيها، ودليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
3-يعطى المؤمن ثباتاً أمام الفتن الهوجاء.
4-دراستها جزء من الدين، لأنها آيات قرآنية، وأحاديث نبوية.
*لقد ظهر العلماء الذين دونوا الأحاديث الواردة هنا بين عام 64 وعام 571، ولا يعقل أن يعلموا الغيب بما هو كائن هذا الزمان، إلى جانب أنهم أكثر الناس خوفاً من الله إن هم افتروا على رسوله صلى الله عليه وسلم الكذب ، وما اشتهروا إلا بحرصهم على جميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أدلة الإيمان باليوم الآخر
1-إخبار الله به:
إن الذي خلق الناس، وجاء بهم إلى الدنيا جيلاً بعد جيل، وأخرجهم منها أمة بعد أمة، قد بين للناس حقيقة أمرهم، بواسطة رسل أيدهم بالمعجزات حتى لا يكذبهم أحد، فبين الله لعباده أنه قد قضى أن يستخلفهم في الأرض، ليعلموا فيها بما يأمرهم، وينتهوا عما ينهاهم ، فتظهر بذلك طاعتهم من معصيتهم ، فمن أطاع ربه فقد استحق الثواب، ومن تكبر وعصى فقد استحق العقاب. ولم يخلق الله الدنيا لتكون دار الجزاء فقد خلق داراً للجزاء هي الدار الآخرة.
وإذا كانت الولادة هي الطريق إلى الدنيا، فقد جعل الله الموت هو الطريق إلى الدار الآخرة. وهناك يتم الجزاء وتوفى كل نفس بما كسبت.
قال تعالى: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ?[آل عمران: 185].
2-لا معنى للوجود الإنساني بدونه:(1/219)
إذا كان كل جزء من أجزاء السيارة، أو الطيارة، أو القلم قد صنع لحكمة فلا شك أن كل أجزاء السيارة وكل أجزاء الطائرة وكل أجزاء السيارة وكل أجزاء الطائرة وكل أجزاء القلم قد صنعت لحكم، ومن الجهالة الكبرى أن يظن إنسان أن السيارة أو الطيارة أو القلم قد صنعت عبثاً ولغير حكمة . في الوقت الذي يؤمن بأن كل جزء من أجزاء السيارة أو الطائرة أو القلم قد صنع لحكمة ، والإنسان ما من جزء فيه أو خلية أو عرق إلا وقد خلق لحكمة، ولا شك أن الإنسان بأجمعه إذن قد خلق لحكمة ولم يخلق عبثاً ، وإذا قصرنا أنظارنا على الحياة الدنيا للإنسان فإنا لن نجد معنى أبداً لحياة الإنسان ووجوده أبداً. لأننا سنجد الموت يقضي على كل حكمة ، نتوهمها لتفسير وجود إنسان على الأرض، سيقول واهم: لقد خلق الإنسان لتحقيق الحياة السعيدة، أو يقول: لقد خلق الإنسان للصراع من أجل الحياة ونقول له : فلماذا يموت وهو لا يزال يصارع؟ أو يقول: لقد خلق الإنسان ليتمتع باللذات ونقول له: فلماذا يموت؟ وكل ما توهم الإنسان حكمة لحياته سيجد أن الموت يقضي على كل ما توهم .
ولقد أصبح كثير من الفلاسفة في حيرة كبرى ، دفعت بهم إلى إنكار الحكمة من وجود الإنسان على الأرض ذلك لأنهم كما قال تعالى : ? يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ?[الروم:7] .(1/220)
فأصبح حالهم كحال من اقتصر على حياة الطفل في بطن أمه فقط، رأي أن نطفة صغيرة قد دخلت الرحم، وأخذت تنمو وتتكون منها الأجهزة المختلفة المحكمة والأعضاء المتوازنة السوية، رأي العين تتكون فلم يجد لوجودها داخل الرحم معنى، وشاهد الرئتين فلم يجد لهما قيمة ، ورأي اليدين والقدمين تسويان فظن ذلك كله عبثاً ، وزاد في حيرته أنه وجد الطفل بعد أن كمل تكوينه خرج إلى حيث لا يدري . إن كل عاقل يرى أن الإنسان لم يخلق عبثاً ولا أن يكون قد خلق إلا لحكمة ولكنه إذا قصر نظره على الحياة الدنيا فلم يجد له حكمة أو معنى، إذن لا بد من حياة أخرى تتم الحياة الأولى وتعطي للوجود الإنسان قيمته ومعناه، إذن فقد صدقت شواهد الحياة ما قاله المرسلون تماماً كما ترى نصف سيارة أو نصف طيارة ، أو نصف أي آلة من الآلات وتحاول أن تعرف الحكمة من ذلك النصف من الآلة قد صنع عبثاً إلا أنك لن تعرف الحكمة من نصف آلة فقط ولن يظهر لها معنى، وستجزم بأن لهذا النصف نصفاً آخر يتممه ويكلمه ويعطيه المعنى الذي صنع من أجله. وكذلك أمر الحياة الأولى والحياة الأخرى لا يظهر معنى للوجود الإنساني إلا بالإيمان بهما .
3- تحقيق لعدل الله :
إن حب العدل صفة حميدة في الإنسان ، والله خالق الإنسان ، ولا شك أنه أكمل وأعظم من مخلوقاته ، فلا شك أن الله عادل لا يشبهه أحد في عدله من مخلوقاته، وليس ما نشاهده من عدل في مخلوقات الله إلا أثر من آثار عدله سبحانه.
ونحن نشاهد أن عدل المخلوق منا يرفض التسوية بين الظالم والمظلوم والمطيع والعاصي ، والمحسن والمسيء، والقاتل والمقتول، ويبذل المخلوق جهده لإقامة العدل ـ كما يراه الناس ـ في بلادهم.
وهنا يأتي السؤال: وأين العدل الإلهي؟ لماذا يعاقب المسيء ويثيب المحسن؟ ولن نجد أمامنا إلا أحد أمرين:
1-إما أن نفتري كذباً وباطلاً ونقول ـ أستغفر الله ـ إن عدل المخلوق أكمل من عدل خالقه.(1/221)
2-وإما أن نقول كما قال المرسلون : إن عدل الله قائم في الدنيا بإعطاء المهلة الكافية للإنسان، ثم ينقله إلى دار الجزاء حيث يكون الحساب على كل صغيرة وكبيرة وإن تك مثقال ذرة ، وواضح أن الجواب الأول يخالف العقل والمنطق لما بقي مع العقل إلا أن يقول بما قال به رسل الله .
قال تعالى :? أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ?[الجاثية:21] .? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ?[آخر سورة فاطر]. ?وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى?[طه: 134-135] .
4-إقامة للحق :
إن الله سبحانه قد خلق كل شيء بالحق، وأقام السموات والأرض بالحق، فما تجد ذرة من الذرات إلا وقد خلقها الله بحجمها الصحيح ووزنها الصحيح وقدرها الصحيح في مكانها الصحيح، وكذلك كل جزء من أجزاء الكون إلا حياة الإنسان في الدنيا فإنك تجد الصالح في غير مكانه اللائق به، وتجد الفاسد في غير مكانه الذي يستحقه، إن ملاحظة وضع الأمور بالحق صغيرها وكبيرها يجعل العقول ترجع بل تؤمن بأن الله ما ضيع الحق في حياة الناس ، ولكن كما قال المرسلون بأن للحق في حياة الإنسان يوماً خاصاً هو اليوم الآخر .(1/222)
قال تعالى :? وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ?[الجاثية: 22] .
5- إكمال لحاجات كيان الإنسان:
لقد خلق الله كل جزء من أجزاء الإنسان، وخلق له ما يكفيه : خلق القلب وخلق له من الدماء ما تكفيه ، وخلق المعدة وخلق لها من الطعام ما يكفيها ، وخلق العين ، وخلق لها من الضوء ما يكفيها وهكذا .
ولا نجد شيئاً في الإنسان ليس له ما يكفيه إلا تلك الآمال الواسعة فإنه لا يكفيها من العمر إلا الخلود، ولا يكفيها من الحاجات إلا أن تحصل على كل ما تشتهي ، وإذا رأينا الحياة الدنيا لم نجد فيها الكفاية لهذا الجانب الهام من كيان الإنسان ، فلماذا خلقت الآمال والواسعة في الإنسان إذن؟! وما يكفيها؟!
إذا رأيت آلة من الآلات قد جهزت مستلزماتها، ثم وجدت فتحة كبيرة في هذه الآلة فلا شك أنك ستقول : إن صانع هذه الآلة صانع حكيم ولا يمكن أن يكون قد صنع هذه الفتحة عبثاً وإذا كنت شاهداً أنها بحاجة إلى غطاء فلا شك أن الصانع قد صنع لها غطاء وإذا كان غير موجد الآن فربما كان في مكان آخر ، وإذا لم يأت من الصانع إلا هذا فالراجع عقلاً أن الغطاء سوف يأتي وربما تأخر في الطريق .
وهل يبقى لك شك إذا وصلتك رسالة من الصانع تخبرك بالغطاء ، وأنه سيأتي إليك؟ هل يبقى في قلبك شك؟
قال تعالى :? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا?[الكهف:46] .
وقال تعالى : ? وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ?[الأنبياء:102] .
6- الاحتفاظ بالأعمال للنظر فيها :(1/223)
لقد ثبت أخيراً ثبوتاً قاطعاً أنه من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات ، إلا وهي مسجلة في سجل الكون، ومدونة في كتاب الوجود ، فليس شيء منها ضائعاً ولا يمكن لشيء منها أن يزول. ولقد صنعت آلة تصوير حديثة تمكن بها الباحثون أن يصوروا أحداثاً بعد ساعة من وقوعها ولقد جاء في تفسير قوله تعالى :? إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ?[سورة الزلزلة] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه : (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ? يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا?فقال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا الله ورسوله أعلم . قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها: أن تقول: عمل كذا وكذا قال : فهذه أخبارها(1)[42].
وإذا كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود، فلماذا سجلت الأعمال إذن؟ ألا تجد العقول جواباً إلا أن تقول سجلت الأعمال لإعادة عرضها ولكنا لا نرى الإعادة في الدنيا! إذاً لا بد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وقال المرسلون .
حقيقة الحياة الدنيا
الإنسان خليفة:(1/224)
إذا تأمل الإنسان في مكانته على الأرض وجد أنه المخلوق الذي غلب غيره من المخلوقات، ووجد أنه لم يخلق شيئاً من هذه المخلوقات التي يتصرف فيها كيفما شاء ، بل سيجد بتفكره أن الإمكانيات التي تمكن بها من أن يستخدم غيره ليست من خلقه ، فالعين التي يبصر بها ، واليد التي يعمل بها ، والقدم التي يتحرك بها ، والأذن التي يتعلم ويسمع بها والعقل الذي يفكر به ، والأعضاء المختلفة التي تحافظ على حياة الإنسان ، وهو بأكمله ليس من خلق نفسه وليس الإنسان بمالك لشيء من نفسه ولا لشيء من المخلوقات التي ينتفع بها ويسخرها لمصالحه فيكف تأتي للإنسان أن يتصرف فيما لا يملك؟!
ولا نجد جواباً لهذا السؤال إلا أن الخالق للإنسان والمخلوقات هو الله سبحانه وتعالى قد اختار الإنسان لدور الخلافة فسخر له المخلوقات وأعطاه إمكانيات تمكن بها من استخلاف غيره وتسخيرها.
الحكمة من الاستخلاف :
لا تكون الحكمة من الاستخلاف إلا أن يعمل المستخلف ما يريد صاحب الملك ، وهكذا فالحكمة من وجود الإنسان على الأرض واستخلافه عليها ليس إلا أن يعمل الإنسان ما يريد الخالق الذي خلقه في الأرض واستخلفه عليها . وطاعة الإنسان لربه هي العبادة :
قال تعالى :? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِي(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ?[الذاريات: 56-58] .
امتحان الطاعة :
وإذا كانت الحكمة من خلق الإنسان هي العبادة لله سبحانه وتعالى فإن هذه الحياة الدنيا ليست إلا امتحاناً لهذه الطاعة فقد اقتضت حكمة الله أن تكون الدنيا دار اختبار للطاعة، والآخرة دار الجزاء، والموت انتقال من دار العمل إلى دار الجزاء.(1/225)
قال تعالى :? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ?[الملك :1، 2].وقال تعالى : ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7)وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ?[الكهف: 7، 8] .
وقال تعالى : ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ?[العنكبوت:2، 3] .وعلم الله هو علم الوقوع ، فالله يعلم كل شيء سبحانه ولا يريد أن يحاسبنا إلا بعمل وقع منا بالفعل ، وشهد به سمعنا وأبصارنا والملائكة وهذه الأرض التي تحملنا فلا يكون هناك عذر لأحد.
الامتحان بالشدائد:
إذن لا بد من امتحان الخليفة ليظهر المطيع من العاصي ، وهناك يأتي الامتحان الأول بالشدائد ويحتسب ذلك في سبيل الله ويحاول دفع الشر والأذى ، ولكن دون أن يرتكب معصية أو يستحل حراماً أو يحرم حلالاً ، فيظهر بذلك صدق إيمانه، وإذا كان منافقاً فإنه لن يحتمل الشدائد أو يصبر ويحتسب ذلك لله ، بل تراه ضائقاً بقدر الله ساخطاً يحاول التخلص مما هو به ولو بارتكاب المعاصي، فيظهر بذلك نفاقه أو كفره .قال تعالى :? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ?[البقرة: 155].وقال تعالى : ? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ?[الأنبياء: 35] .
الامتحان بالخير :قال تعالى : ?وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ?[العاديات: 8] .(1/226)
فالامتحان بالخيرات أشد من الامتحان بالشدائد ، ولا يظهر صدق الإيمان إلا بتقلب أحوال الناس بين الخير والشر.
قال تعالى : ?وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ?[آل عمران: 140] .
فالامتحان بالخير هو أن يبسط الله على عبده ما يشاء منا لنعم ، ليرى هل يشعر أنه مستغن بالنعم عن خالقه؟ فينسى ربه ويركن إلى النعم فيصرف همه إليها بدلاً عن ربها ، فيطغى في الأرض ولا يصبر على عبادة الله ولا ينفق هذه النعم في سبيل الله، ولذلك كان تقليب أحوال الناس بين الخير والشر هو المحك الصادق لصدق الإيمان.
قال تعالى : ?وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ?[الجن: 16، 17] .
فالإنسان في فتنة وامتحان طوال حياته على الأرض حتى يموت وينتقل إلى دار الجزاء . وإن أشد الامتحان هو الامتحان بالخيرات .قال تعالى : ?كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?[العلق: 6-7] .
ولكن المؤمن القوي لا يزلزله الامتحان بالشدائد ، كما أنه لا يطغيه الامتحان بالخير.
تذكر من نسي لعله يرجع :
فإذا بدأ الناس ينسون ما جاءهم من ربهم وأخذوا يرتكبون المعاصي سلط الله عليهم الفساد ـ والشدائد لتذكيرهم بربهم وتنبههم من غفلتهم لعلهم يرجعون إلى الله تعالى . ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الروم: 41] .
الأخذ بغتة بعد فتح أبواب كل شيء :(1/227)
أما إذا طغى النسيان لما جاء من عند الله وزاد الكفر ، فإن العقوبة تكون بأن يفتح الله لهؤلاء الغافلين أبواب كل شيء ثم يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون .قال تعالى :?فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ?[الأنعام: 44].
الموت انتقال إلى دار الجزاء :
ويأتي الموت ، وتنتهي حياة الناس جيلاً بعد جيل ، وما الموت إلا خروج من دار العمل ودخول إلى دار الجزاء .
قال تعالى : ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ?[آل عمران : 185] .
وهكذا ندخل في الدنيا عرايا لا نملك شيئاً ، فنملك ونعطى ويستخلفنا الله ويخولنا ما شاء لأجل معلوم. ومدة محدودة ليمتحن المطيع من المعاصي: ثم يأتي الموت ويسترد الله ودائعه، ونخرج من الدنيا كما دخلنا فيها ولكن بعد أن تميز الخبيث من الطيب، وظهر المطيع من المعاصي ، والمؤمن من الكافر والمنافق ليجد كل جزاء عمله وثمرة سعيه .
قال تعالى :?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ?[الأنعام: 94] .
الخلاصة :(1/228)
إن الذي خلق الناس وجاء بهم إلى الدنيا قد بين لهم حقيقة أمرهم بواسطة رسل أيدهم بالمعجزات ، وبين لهم أنه لم يخلقهم عبثاً، فما من جزء من الإنسان أو خيله أو عرق فيه إلا وقد خلق لحكمة، ولا شك إذن أن الإنسان بأجمعه قد خلق لحكمة ولم يخلق عبثاً ، والحكمة هي استخلافهم في الأرض لعبادة خالقهم فيعملون فيها بما يأمرهم، وينتهون عما ينهاهم فمن أطاع خالقه فقد استحق الثوابت ، ومن تكبر عصى فقد استحق العقاب وليست الدنيا دار الجزاء وإنما هي الدار الأخرى ، وإذا كانت الولادة هي الطريق إلى الدنيا فقد جعل الله الموت هو الطريق إلى الأخرى ليتم الجزاء على ما عمل ، وكل الأعمال محفوظة ، ولقد ثبت أخيراً أنه ما من صوت من الأصوات ولا عمل من الأعمال ولا حركة من الحركات إلا وهي مسجلة في سجل الكون ومدونة في كتاب الوجود.
قال تعالى :?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ?[الزلزلة : 4-6] .
وقد جعل الله للإنسان مهلة كافية في هذه الدنيا عدلاً منه ورحمة .
وإذا كانت الحكمة من خلق الإنسان هي العبادة فإن هذه الحياة ليست إلا امتحاناً ، وقد يمتحن الله عباده بالشدائد ليظهر بذلك صدق الإيمان فالمريض يصبر ويحتسب ذلك لله .
وقد يمتحنهم بالخير وهو أشد من الامتحان بالشدائد ، ولكن المؤمن لا يزلزله الامتحان بالشدائد كما أنه لا يطغيه الامتحان بالخير .
ويأتي الموت وهو الخروج من دار العمل ، ودخول إلى دار الجزاء ، وكما دخلنا الدنيا فرادى لا نملك شيئاً ، كذلك نخرج منها(1/229)
قال تعالى :?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ?[الأنعام: 94] .?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الصافات: 180-182] .
الدين وأهميته
ما هو الدين ؟
الدين هو الطريق والمنهج(1)[43].
قال تعالى : ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ?[التوبة: 33] .
وقال تعالى :?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف : 108] .
ويفهم من هاتين الآيتين وغيرهما أن القرآن يريد من لفظ (دين): طريقة ومنهج الحياة الإنسانية الفكرية والعلمية .
هل الدين ضروري للبشرية؟(1/230)
إن أي عمل من الإنسان العاقل لا بد أن يسبقه رأي فكرة عقيدة تحدد له الهدف من عمله، وتصور له خطوات عمله قبل مباشرة العمل . ولو أراد الإنسان أن يعمل عملاً بدون رأي سابق أو عقيدة تحدد الهدف من العمل وطريقة فعله، لكان الفاعل من زمرة المجانين أو السكارى الذين يعبثون بأفعالهم فتكون أفعالاً لا جدوى منها ولا هدف لها ، وفيها يضيع كل ما استخدام لها . هذا بغض النظر عما إذا الرأي أو العقيدة السابقة للفعل صحيحة أم باطلة . المهم أن تعرف أن العقيدة أو الرأي أو النية تسبق الفعل وتحدد الهدف منه وطريقة فعله . وإذا كان سير الفلك والشمس والقمر والليل والنهار والرياح والسحب والمطر ونمو النبات وحركة الحيوان يتم بطريقة آلية منظمة لا دخل لهذه المخلوقات فيها ، أو بطريقة غريزية محددة توجه سير الحيوان، فإن الله قد جعل العقيدة أو الرأي أو النية هي المحدودة لسير الإنسان وسعيه ، قال عليه الصلاة والسلام : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)(1)[44].ولما كانت أعمال الإنسان كثيرة ومتشيعة في ميادين شتى ، فإن الإنسان بحاجة ماسة إلى خطة فكرية (عقيدة) عامة تربط بين جميع أعماله وتنسقها ونجعلها متعاونة متساندة تصب في نقطة واحدة، وتلتقي عند هدف واحد هو الهدف العام من وجود الإنسان على هذه الحياة. أي أنه بغير طريقة عامة ، ومنهج عام يحدد سير الإنسان على هذه الحياة . أي أنه بغير طريقة عامة ، ومنهج عام يحدد سير الإنسان وينظم مساعيه تذهب أعمال الإنسان سدى . وتتصادم تصرفاته وأفعاله ، وتضيع كل جهوده، معنى هذا أن (الدين) ـ الطريقة والمنهج ـ ضروري للإنسان ولا غنى له عنه .
الدين القيم :
ويجب أن تتوفر في الدين ـ الطريقة والمنهج ـ الصالح الذي يفي بحاجات البشر عدة شروط:(1/231)
أولاً : أن يكون وضعة وصاحبه على علم بالحكمة من خلق الإنسان على هذه الأرض ، وأن يحدد هذا الدين : الهدف العام من حياة الإنسان على وجه الأرض ، وأن يحدد دور الإنسان ومكانته ومنزلته في هذا الكون.
وبدون تحديد للهدف العام من حياة الإنسان الذي تنخرط تحته كل الأهداف الفرعية لشتى جوانب حياة الإنسان ، والذي ينسق بين هذه الجوانب المختلفة ، ويربط بينها ، ويدعم بعضها ببعض، بدون ذلك الهدف تصبح حياة الإنسان كحياة حكومة مفككة الوزارات ، لا يربطها رابط أو كسيارة مفككة الأجزاء تعمل كل قطعة وحدها ، لا تجدي ، ولا تنفع وبغير معرفة للهدف العام من حياة الإنسان يحيا الإنسان حائراً ، تائهاً ، ضائعاً ملفوفاً بظلمات حالكة ، يعمل ، ويشقى ، ويكدح ، وهو لا يدري لماذا؟
ثانياً : أن يكون واضع هذا الدين وصاحبه ، عارفاً وعالماً بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بشتى مجالات الحياة الإنسانية المختلفة ، حتى يتمكن من وضع دين شامل لكل جوانب الحياة البشرية والروحية ، والفكرية ، والخلقية ، والسياسة ، والاقتصادية ، والحربية ، والقانونية ، والعائلية، والشخصية ، ذلك لأن الحياة الإنسانية نتيجة للتفاعل القائم بين هذه الجوانب المتفرعة في الكيان الإنساني ، ولأن الحياة الإنسانية ترتبط أجزاؤها ارتباطاً وثيقاً ، وتلتصق كل ناحية بالأخرى التصاقاً تاماً لا ينقطع ، ولا ينفعل ، وثؤثر كل جانب على الجانب الآخر ويتأثر به ، ويربط هذه النواحي جميعاً دم واحد، وتدب في أوصالها جميعاً حياة واحدة ، هي الحياة الإنسانية وارتباط الحياة الإنسانية كارتباط أجزاء الجسم المختلفة بعضها ببعض .
وإذا سلخنا جانباً من هذه الجوانب أو تناسيناه كان ذلك سلخاً لجزء من الكيان الإنساني أو تناسياً له ، وتشويهاً للحياة البشرية .(1/232)
ولو أخذنا بدين سينظم الحياة الاقتصادية فقط ( لأنه ينظر للإنسان كمعدة جائعة فقط) نكون بهذا قد حاولنا إلغاء الجوانب الأخرى من الحياة الإنسانية ، وشوهنا الفطرة البشرية ونكون كمن يحاول الإبقاء على المعدة في الإنسان مع إلغاء باقي أجهزة الجسم المختلفة ولا بد أن يأتي يوم تصدمنا الفطرة البشرية ، التي لا يلائمها هذا الدين المبتور ، فإن لكل من الحياة السياسية ، والاجتماعية والسياسية ، والخلقية ، والفكرية والروحية ، والقانونية ، أثراً هاماً في غيرها وأثراً أيضاً في الناحية الاقتصادية : الفردية والجماعية .
ثالثاً : أن يكون الدين ثابتاً يحيط بعلاج السلوك البشري، ولا تقلبه الأحداث اليومية ، وأن يكون مرناً يتلاءم مع كل ما يمكن أن يطرأ في حياة البشر. فلا يضطر الناس إلى تبديل دينهم في كل يوم ، أو في كل عام ، ولن يكون للدين صفة المرونة والثبات إلا بأحد أمرين :
1-أن تكون قواعده وأحكامه متعلقة بالفطرة البشرية والخلقية الإنسانية الثابتة التي لم تتغير ولم تتبدل ، فالحكمة من أنف آدم عليه السلام لا تزال هي نفس الحكمة من أنفك ، وهي نفس الحكمة من أنف أي إنسان في أي زمان وفي أي مكان ، وكذلك كل جزء من أجزاء جسمك ?فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ..?.
فالإنسان في الهند ، أو الصين أو أوربا ، أو أمريكا ، هو نفس الإنسان في البلاد العربية في تركيبه الجسدي وتكوينه الفطري ، وهو نفس الإنسان في زمن الفراعنة ، وفي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي يومنا هذا ، فإذا كانت أحكام الدين متعلقة بإصلاح الفطرة البشرية ـ والخلقة الإنسانية التي لم تتغير ولا تتغير ـ فإن هذا الدين تكون له صفة الثبات ما بقيت تلك الخلقة ثابتة .(1/233)
2-أن يكون مصوغاً في قواعد عامة ـ إجمالية ـ في الأمور التي تختلف صورها ، وتتبدل أشكالها، حتى يكون مناسباً مطبقاً ، على كل صورة من صور الأوضاع الإنسانية ، التي تتغير باختلاف الزمان أو المكان .
رابعاً : أن يكون واضع هذا الدين وصاحبه على علم كامل بدخائل النفوس البشرية، التي تحرك الحياة وتدفعها، والتي حيرت العلماء الفلاسفة ، فاختلفوا في أمرها ، واتفقوا جميعاً على صعوبة فهم أحوالها، أو يتحتم على واضع الدين للإنسان أن يكون على علم دقيق بكل ما يؤثر في النفس البشرية من عوامل الإصلاح أو الفساد .
خامساً : أن تكون لهذا الدين من الحوافز ما يكفي لحمل الناس على تنفيذه والخوف من مخالفته ، إذ لا معنى لدين لا ينفذ أو يطبق .
عجز البشر عن وضع الدين القيم :
وإذا تأملنا في الشروط الضرورية السابقة اللازمة لوجود الدين القيم ـ الذي ينظم الحياة البشرية ، ويهدي الإنسانية في مسالك حياتها المتشعبة المترابطة المعقدة ، والذي لا غنى للإنسانية عنه ـ وجدنا أن الإنسان لا يقدر على اصطناع دين لنفسه للأسباب الآتية :
1-أن الهدف العام الذي خلق الإنسان من أجله ، والذي ترتبط به كل شعوب الحياة، وتستمد وجودها ومعناها منه ، وأن الهدف العام لخلق هذه الأجيال البشرية المتعاقبة ، لا يمكن للإنسان أن يحيط به ، أو يدركه وحده ، فلا يعلم ذلك إلا خالق الإنسان ، وإذاً فكل دين أرضي لا بد أن يكون وحده، فلا يعلم ذلك إلا خالق الإنسان . وإذاً فكل دين أرضي لا بد أن يكون خالياً عن الهدف العام لحياة الإنسان ، أو به خطأ ، وبذلك تبقى الحياة الإنسانية أوصالاً مفرقة . كل ناحية منها تعمل في ميدان ، كأجزاء تلك السيارة المبعثرة المفرقة التي يعمل كل منها على حدة دون ربط أو تنسيق أو معنى أو فائدة عامة .(1/234)
2-إن علم الإنسان بنفسه ناقص ، وهو يزداد يوماً بعد يوم، كما أنه لا يوجد شخص من الناس, أو جماعة منهم تدعى أنهم قد أحاطوا علماً بدخائل النفوس البشرية ، ودقائق تركيبها ، وسنن نشاطها المتعددة والمتنوعة ، وعلاقة فروع الحياة بعضها ببعض ، وقيمة كل فرع وأهميته وما يناسبه من العمل ، لأن ذلك يقتضي معرفة بأدق أسرار خلق الإنسان وتكوينه . وذلك ما لم تصل إليه العلوم البشرية مجتمعة . فالقادة لشتى هذه العلوم يقولون: عرفنا أشياء ، وغابت عنا أشياء وكل يوم علمنا يزداد . ولا يزال علماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد ، وغيرهم في خلاف شديد، وتباين بعيد حول هذه الموضوعات المعقدة ، فإلى متى يجب أن ينتظر الناس ، حتى يحيطوا علماً بكل ما يتصل بحياتهم من ذات أنفسهم حتى يتمكنوا من وضع (الدين القيم) التي تسعد به حياتهم؟ ألا ليت الناس عرفوا الطريق القريب السهل إلى ذلك ، ووفروا على أنفسهم مشقات الضلال والإضلال . ونتائج قصور علمهم وجهالتهم . وتوجهوا إلى خالقهم ، الذي يعرف كل أمر من أمورهم، وكل صغيرة وكبيرة في تكوينهم فيهتدوا إلى الصراط المستقيم.
3- ولجهل البشر بفطرتهم ، فهم يجهلون كيف سيسلك البشر غداً عند تبدل الأحوال ، ودخول عوامل جديدة في ميادين الحياة؟ فالإنسان لا يستطيع أن يضع ديناً ثابتاً مستقراً ، شاملاً، مرناً يلائم ظروف الحياة المتجددة ، فكل ما يقدر عليه الإنسان أن يضع بعض النظريات القاصرة، ويدعو الناس لتجربتها مدة من الزمن لحين ظهور أحطائها عندئذ تقوم دعوة بالإصلاح لذلك الخطأ لتدخل في تجربة جديدة وأخطاء جديدة. وهكذا تعيش الشعوب تحت التجارب كأنها حيوانات تقام عليها التجارب ، وترصد النتائج ، وما من تجربة إلا ولها أخطاؤها، والشعوب هي التي تتحمل الأخطاء ، وتذهب ضحية لذلك القصور في علم البشر .?قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ?[يونس: 35] .(1/235)
وإذا كان البشر عاجزين عن وضع الدين القيم فمن إذاً يضع لهم هذا الدين الذي لا غنى لهم عنه؟
لا شك أن صاحب الحق الوحيد في هذا الأمر ، هو الخالق سبحانه لبني الإنسان. فالهدف العام من حياة البشر ، هو إرادة تخص الخالق وحكمة في علمه سبحانه ، لا يعلمها أحد إلا بتعليم منه سبحانه. فالحكمة من أي مصنوع إنما تعلم بإرشاد من صانعه ، قال تعالى :?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك: 14] .وقال تعالى : ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ?[البقرة: 255] .وقال تعالى :?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ?[الأعراف: 54] .
والله وحده الذي يحيط علماً بدقائق خلق الإنسان وكل ما يتصل به ، قال تعالى : ?هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ?[النجم: 32] .ويسخر القرآن بأولئك (المتعالمين) قائلاً : ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ?[البقرة: 140] .ويقول سبحانه : ?فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ(7)أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ?[التين: 7، 8] .
وإذاً فربما أعلم بما يصلحنا ، وبما يضرنا ، وبما يسعدنا ، وبما يشقينا . الحق إذن أن يكون الخالق هو الذي يصنع الدين ويرسم حدود المنهج والطريق الذي يجب أن يسير عليه الإنسان . وكل الناس يسلمون بهذا الحق : حق الهداية والتوجيه لكل صاحب صنعة ، فالناس يخضعون ويستسلمون لكل إرشاد يأتيهم من صانع أي آلة . كما أن صانع الآلة هو مرجعهم عند حدوث أي خلل وفساد في آلته التي صنعها .
فكيف تغفل البشرية أو تتناسى أن الخالق وحده هو الذي يقدر على إرشاد الخلق إلى طرق الصلاح؟!(1/236)
ثم أليس الخالق هو المالك لكل ما نستخدمه ونتصرف فيه؟ فكيف يحق لنا أن نتصرف فيما لا نملكه بدون إذن مالكه؟ إن مالك السموات والأرض، إن الذي خضعت له الكائنات في الأرض والسموات واستلمت لأمره ، وسارت تحت مشيئته أدق أعمال أجسامنا لا شك أنه الأولى بالاتباع والطاعة ?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ?[آل عمران: 83] ?قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحجرات: 16] .
الدين والفطرة :
إن أي صانع مصنوعه ، إلا بعد تحديد الحكمة منه ، ووظيفة كل جزء منه وطريقة عمله ، ومنهج سير هذه الأجزاء ، فيأتي الصنع وفقاً للمنهج والخطة، فإذا أراد شخص تعديلاً في المنهج لابد أن يصحبه تعديل في الصنع والتركيب ، لأن الصنع الأول كان مطابقاً للمنهج الأول ، وإلا لا بد من حدوث الخلل والفساد في المصنوع ?وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى?.
فالله سبحانه ما خلق الإنسان إلا لإرادة قد حددها ، ومنهج يسير عليه ، ويعمل وفقاً له ، ذلك هو (الدين) الذي خلق الإنسان طبقاً له ، وتبعاً له ولا يستقر حال الإنسان ما لم يسر على أحكام الدين وهداه ، لأن دين الخلق والفطرة . ومن أراد تغييراً في الدين وهداه ، لأنه دين خلق الله لكي يكون الخلق جديداً مطابقاً للتبديل الجديد ولقد قال (هارولد لاسكي) أحد كبار المفكرين البريطانيين في أحد كتبه : إن علينا أن نخلق إنساناً إذا أردنا أن نشرع له . وصدق الله العظيم القائل: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ?[الروم: 30] .
الإسلام دين الفطرة :(1/237)
مما سبق نعرف أنه لا طريق لمعرفة الدين الحق إلا أن يكون وحياً من عند الله . فهل قد جاء ذلك الوحي؟
الجواب يعرفه كل إنسان ، فالأغلبية من سكان الأرض يتبعون واحداً من هؤلاء المرسلين بالدين من الله ، بغض النظر عن التحريف والتبديل الذي حدث في هذه الأديان .
ونحن من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم نقول للبشرية : إن دينكم الذي يصلح أمركم ، ويسعدكم في الدنيا والآخرة قد حمله إلى الناس آخر الأنبياء ،و خاتم المرسلين (محمد عليه الصلاة والسلام) وهو لدينا سليم من كل تحريف ، وإن براهين صدق محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في نبوته ورسالته لم تنقض بموته وإنما هي باقية ظاهرة إلى يومنا هذا لمن شاء أن يهتدي(1/238)
وديننا الإسلامي هو دين الفطرة الذي اشتمل على الهدف العام في هذه الحياة ، وهو أن يكون الإنسان خليفة ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً?[البقرة:3] يعمر الأرض ويبنيها ويتصرف بما أودع الله فيها ، وهو في مدة هذا الاستخلاف يقضي فترة الامتحان لتمحيص طاعته لربه في معصيته، وهل سيستخلف الأرض وفقاً لما يأتيه من أمر وهدى من خالقه؟ ?قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة: 38-39] ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...?[الكهف:7] وأن هذه الدنيا دار مهملة وعمل ومقدمة تتبعها نتائجها في حياة أخرى هي دار الجزاء على ما قدم الناس من أعمال في الدار الأولى . وقد اشتمل هذا المبدأ على سائر المبادئ فأصبح سعي المسلم وحياته مرتبطين بهدف واحد هو : عبادة الله بفعل الصالحات في الدنيا لينجو من العذاب ويفوز بالجنة في حياته الأخرى.(1/239)
وديننا شامل لكل نواحي الحياة ، حتى إنه ليعلم أهله كيف يدخلون الخلاء(1)[45] وديننا مرن متعلق بالفطرة البشرية التي كان خلق الإنسان طبقاً لأحكامها ، لأنه من لدن الخالق سبحانه . كما أنه قد أجمل أحكام ما يتغير باختلاف الزمان والمكان. وفصل أحكام العبادات التي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان. وحسبنا أن شريعتنا الإسلامية حكمت مختلف الحضارات في مختلف البلدان والأزمان طوال مئات السنين ، ولم توجد مشكلة إلا ووجد لها حل في شريعتنا الإلهية الثابتة المرنة. وهذه شهادة رجال القانون والمستشرقين في مؤتمرهم الدولي للقانون المقارن المنعقد في باريس سنة 1952م ، فلقد قالوا في قرارهم بالإجماع على اختلاف بلدانهم وأجناسهم وأديانهم قالوا: (..نظراً لما ثبت للمؤتمرين من الفائدة المحققة التي أتاحتها البحوث التي عرضت في خلال أسبوع (الفقه الإسلامي) وما دار حول هذه البحوث من مناقشات أثبتت بجلاء (أن الفقه الإسلامي) يقوم على مبادئ ذات قيمة أكيدة لا مرية في نفعها ، وأن اختلاف المبادئ في هذا الجهاز التشريعي الضخم ينطوي على ثروة من الآراء الفقهية وعلى مجموعة من الأصول الفنية البديعة التي تتيح لهذا الفقه أن يستجيب بمرونة هائلة لجميع مطالب الحياة الحديثة ؛ فإن أعضاء المؤتمر يعلنون رغبتهم في أن يظل أسبوع الفقه الإسلامي يتابع أعماله سنة فسنة ..) .وديننا الإسلامي خطته يد الرحمن الهادي العليم الخبير بدخائل النفوس ودقائق الخلق دين ?لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ?.
وديننا الإسلامي يبعث في قلوب أتباعه أقوى حوافز العمل به ، وهو الفوز برضاء الله والجنة إلى جانب ما يملكه أي دين آخر من سلطة حكومية كما يملك أقوى مانع لمخالفته ، وهو غضب الله وعذاب النار إلى جانب معاقبة السلطة الحكومية والمجتمع المسلم .(1/240)
وبهذه الخصائص العظيمة في ديننا الإسلامي ، كان دين الإسلام هو الدين القيم ، دين الفطرة ، دين الحياة الإنسانية الرفيعة ، وكم سعد الناس به طوال قرون عديدة ، وكم شقي الناس بغيره. ولقد كان المسلمون أرقى الأمم وأعزها وأسعدها بقدر ما كانوا متمسكين بدينهم .
وإذا وقر الإيمان بالله رب الدين ، سهل الخضوع لدينه ، وإذا ثبت الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، سهل اتباع ما جاء به دون تلكؤ أو تردد ، لأنه المعصوم الذي يبلغ عن من لا يخطئ عن الله سبحانه ، وليس كعلم التوحيد علم يثبت الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
الخلاصة :
*الدين هو الطريقة والمنهج للحياة البشرية الفكرية والعلمية .
*كل عمل إنساني لا بد أن يسبقه رأي أو عقيدة تحدد الهدف منه وطريقة عمله. والأعمال المتعددة المترابطة لا بد لها من منهج ينسق بينها ويربط بين أجزائها حتى لا تتصادم أعمال الإنسان، ويلغي بعضها بعضاً وتذهب جهوده هباء. أي أنه لا بد للحياة البشرية من دين يحدد الطريق الفكري والعلمي لها . ولا يعيش بغير دين إلا المجانين أو السكارى الذين لا يعرفون ما يفعلون .
*الدين القيم هو الدين:
1-الذي يبين المكانة الحقيقية للإنسان ودوره على الأرض والحكمة من خلقه ويربط أجزاء الحياة بالهدف العام من حياة الإنسان .
2-الشامل الصادر عمن أحاط علماً بدقائق الحياة البشرية . ويضع لها نظاماً شاملاً مترابطاً يشد بعضه بعضاً ، مع تقدير كل جانب من جوانب الحياة بما يستحق دون إفراط أو تفريط .
3-أن يكون ثابتاً متعلقاً بإصلاح الفطرة البشرية الثابتة ، فلا تهزه الأحداث الطارئة كل يوم.
4-أن يصدر ممن هو على علم شامل بحقيقة التكوين البشري ، وأسرار النفس الإنسانية.
5-أن تكون له قوة تقيمه في واقع الحياة .(1/241)
*البشر عاجزون عن وضع الدين الحق ؛ لأنه لا يعلم الحكمة من خلقهم إلا خالقهم، ولأن علمهم بأنفسهم عجزوا عن وضع دين فطري ثابت ، فلجأوا إلى أجزاء تجارب تثبت الأيام أخطاءها على الدوام .
*الخالق سبحانه هو وحده رب الدين القيم ، لأنه وحده المحيط علماً بمن خلق، وأعلم بما يصلح حياتهم أو يفسدها ، وهو الذي خلقنا طبقاً لما أراده لنا من دين .
*أرسل الله المرسلين الصادقين بالدين القيم ، وأيدهم بالمعجزات ومعظم سكان الأرض أتباع لهؤلاء المرسلين الصادقين . بغض النظر عن ما طرأ على الأديان السابقة من تبديل وتحريف. ونحن ننتسب إلى دين الله ، الذي حمله إلينا خاتم الأنبياء والمرسلين وحفظه الله من كل تحريف أو تبديل.
*إن الدين الإسلامي هو الدين الحق لبني الإنسان من خالقهم الحق.
المخرج من مأزق الحضارة المعاصرة :
لقد تقدمت الحضارة المعاصرة في الجانب المادي ، وتخلفت في الجانب الإنساني.
فهي متحدة في حقائق علوم المادة في كل أنحاء العالم، وهي مختلفة ومتنوعة في حقائق العلوم الإنسانية في كل دولة وجامعة ومعهد فيما عدا المدارس الدينية الإسلامية .
وإذا كان الباحث يوجه أجهزة بحثه ليعرف حقائق ما يدور في أطراف المجرة النجمية ، وفي أعماق الأرض، وداخل جزئيات الذرة نجد أن ابنه أو ابنته قد احتار كل منهما ـ متجاهلاً لفطرته ـ ولا يدري هل يسلك سلوك الذكور أو الإناث؟!
إن الشرق يعترف للغرب بتفوقه في علوم المادة ، كما يعترف الغرب للشرق في ذلك لكن كل منهما يسفه الآخر في العلوم الإنسانية ويخطؤه .
وإذا كان الإنسان قد وصل إلى علاقة نافعة مع المادة فعرف قوانين التعامل معها بصورة رائعة، نجده قد جعل علاقته مع أخيه الإنسان علاقة صراع ونزاع.
إن البشرية تقدمت في الجانب المادي ووقعت في مأزق حرج في الجانب الإنساني ولا مخرج لها منه إلا بالإسلام .
مأزق الحضارة :
1-الاختلاف في الرأي:
إن رأي الإنسان يتوقف على خمسة عوامل :(1/242)
أ ـ علم الإنسان : فإذا اختلف العلم اختلف الرأي .
ب ـ فهم الإنسان: فمن الناس من يفهم فهماً عميقاً وآخر سطحياً وثالث يفهم بعيداً وهكذا.
ج ـ أخلاق الإنسان: فرأي الكريم يختلف عن رأي اللئيم .
د ـ تجارب الإنسان: إذا زادت التجارب غيرت في الرأي .
هـ- مصلحة الإنسان : إن مصلحة الإنسان تؤثر تأثيراً كبيراً في الرأي فالأمريكي يقاتل مع أمريكا لأن مصالحه ارتبطت بهذه الدولة والروسي كذلك وهكذا .
فإذا أردنا أن نوحد رأي الناس فعلينا أن نوحد العوامل المؤثرة في تكوين الرأي عند الإنسان فجعلهم على علم واحد وفهم واحد وخلق واحد وتجربة واحدة ومصلحة واحدة وهذا مستحيل . فمن المستحيل أن تتحد البشرية على رأي ، ما لم تعترف بأن خالق الإنسان هو صاحب العلم الشامل والإحاطة بالظاهر والباطن وأنه صاحب الصفات الكاملة والمثل الأعلى ، وحاضر مع ما كان وما يكون وما سو يكون ، وليس له مصلحة في أن ينحاز لأحد على أحد ، لأن الجميع عباده.
فلا مخرج من هذا المأزق إلا بمعرفة الله الحق الذي له هذه الصفات التي تجعله ، هو صاحب الحق في أن يدين الناس له .
وما لم يعرف الناس خالقهم فلن يخرجوا من مأزق الاختلافات ?وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ?.
ويوم أ، تلقى الناس الهدى من خالقهم اتحدت آراء الناس حول قضاياهم من أقصى المشرق في الصين إلى أطراف فرنسا في الغرب .
2-الصراع:(1/243)
لقد نشأ الصراع بسبب أن الله خلق في كل إنسان أطماعاً واسعة لا تكفي الأرض لإشباع أطماع إنسان واحد فكيف بأربعة بلايين يتزاحمون في هذه الأرض الصغيرة. فإذا أراد الإنسان إشباع طموحه ، وتحقيق رغباته فلا مفر له من الصراع وهذا هو حال الإنسان صراع بين الأحلاف، وصراع داخل الأحلاف ، وصراع بين الدول ، وصراع داخل الدول، وصراع بين الأحزاب، وصراع داخل الأحزاب وصراع بين أجنحة الأحزاب والطوائف والجماعات ، وصراع داخل تلك الأجنحة ، حتى ينتهي الصراع في البيت الواحد وبين الفرد والفرد، ولا مخرج من مأزق الصراع إلا بنزع الأطماع من فطرة الإنسان وخلقته ، أو بخلق أراضي أخرى تناسب أطماع الناس .
ومن المستحيل تغيير فطرة الإنسان وتبديلها ، كما أن من المستحيل علينا أن نشبع أطماع الناس وأهواءهم . ولا بد من الصراع إذن على المتاع القليل ، وسيكون الفوز للقوي أو المحتال.
ولا مخرج من هذا المأزق إلا بتوجيه الفطرة ، لتستقيم مع حقيقة خلقتها وحقائق الوجود ومن حولها ، وذلك بإقناع الإنسان بتلك الحقيقة التي بينها الله في أن هذه الدنيا دار ممره ، إلى الآخرة التي هي دار مقر والتي يتحقق فيها كل مطالب الإنسان من خلود ومن رغبات ولكن بشرط أن يسلك في الدنيا السلوك الذي يقوم على التعاون والرحمة والمحبة والمودة والعطف مع غيره .
3-الظلم:(1/244)
لا بد للناس من حكام، ولا بد للناس من قانون يحكمهم وإذا كانت الدنيا لا تكفي لأطماع شخص واحد ، وإذا كان الإنسان مملوءاً بالشهوة والأطماع ، إذاً فالفرصة مؤاتية أمام الحكام أن يستأثروا بأكبر قد من متاع الدنيا ، وأن يضعوا من التشريعات ما يخدم مصالحهم . فمصالح الشعب في الغرب تؤول إلى أيدي مجموعة من الرأسماليين ، ومصالح الشعب في الشرق تؤول إلى أيدي مجموعة من قادة الأحزاب ولا مفر من الظلم ، لأن الذي يحكم بين الناس هو واحد من الناس له أهواؤه وشهواته ومصالحه التي يراعيها أثناء حكمه ولا مخرج من مأزق الظلم إلا أن يأتي التشريع من الخالق العليم الحكيم الذي لا ينحاز لفئة ضد فئة ولا يميل مع الهوى سبحانه .
4-الضياع:
ومن لا يعرف حكمة خلقه هو في نظر نفسه أتفه من قصاصة الورق وأحقر من نعله ، لأن للورقة حكمة ، ولقصاصة الورق حكمة وهو لا يعرف حكمة خلقه ووجوده . ولقد حاول الإنسان أن يعرف حكمة خلقه ولكنه باء بالفشل فأنشد شاعرهم يقول :
جئت لا أعلم من أين؟ ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت ..
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت .
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري
وهذا هو لسان حال البشرية المعاصرة ، لا يعرف الإنسان فيها لماذا خلق؟ ولا يعرف لماذا لا يعرف؟
ولن يخرج الإنسان من مأزق الضياع هذا إلا إذا عرف ربه وخالقه، هو وحده سبحانه الذي يعرف الحكمة التي خلق الإنسان من أجلها . وإذا كانت الحكمة من أي جهاز تختفي في نفس صانع الجهاز وتعلم بتعليم منه ، فإن الذين لا يعرفون حكمة خلقهم جهلوا هذه الحقيقة، ولم يعرفوا أن الحكمة من خلق الإنسان قد اختفت في الخالق ولا تعلم إلا بتعليم منه سبحانه .
5-الانهيار الأخلاقي والاجتماعي :(1/245)
لقد انهارت أخلاق الرجال والنساء ، حتى ظن كثير من الناس أن هذه سمة لازمة للحضارة المعاصرة لا يمكن أن تنفك عنها .. وتهدمت الأسر بكثرة الزنا والخيانات الزوجية، وانعزل الإنسان عن جاره لأنه يخشى منه على عرضه وماله؛ فيعيش الجار بجانب جاره أعواماً لا يعرفه اسمه .
وسبب الانهيار الأخلاقي يرجع إلى أن قوة الشهوة لا توقفها إلا قوة الإيمان، وبغير إيمان يتحايل الناس تحت ضغط شهواتهم على أي قانون فلا تؤدي القوانين ثمرتها الكاملة ، وسرعان ما ينكشف للناس أن القوانين قد أصبحت قيداً ضد ما وقعوا فيه من الشهوات والانحرافات ، فسرعان ما يبادروا إلى تغييرها، وجعل الانحراف أمراً مشروعاً ، وهكذا يسقطون وراء شهواتهم من هاوية إلى هاوية، حتى يباح الزنا واللواط وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، ولا يزالون يسقطون حتى تتحطم في الإنسان قواه وتدمر فطرته وإنسانيته ومع الانحلال الخلقي يأتي الزنا، ومع الزنا تتحطم الأسر، ويتفكك المجتمع فيضيع الأطفال الضعاف بتفكك الأسرة ، ويضيع الآباء في سن الشيخوخة وضعفها لنفس السبب ، ولا مخرج للناس من هذا إلا بالإيمان الذي يكبح الشهوة بجانب قانون الشريعة الذي لا يسير مع الهوى ، ولا يسمح التردي في الهاوية .
6-القلق والضيق:
وحيثما ذهبت وجدت الضيق والشقاء والتعاسة من علامات الحضارة المعاصرة ، فتجد الانتحار، والإدمان على المخدرات لتناسي الضيق والقلق، وموجات الهيبيز والرافضين لواقعهم ، وكل ذلك يرجع إلى أن الإنسان لم يستقر في أعماق نفسه على فهم وعقيدة يطمئن إليها ، فهو لا يعرف من الذي خلقه؟ ولا يعرف من المالك الحقيقي له ولكل ما يتصرف به في هذا الوجود؟ ولا يعرف المصير الذي ينتقل إليه فجأة بين لحظة وأخرى؟ ولا يعرف هل عمله مرضي عنه من رب هذا الكون أم لا؟ إلى جانب أن أوضاعه مع أهله وجيرانه ومجتمعه تتعرض باستمرار للاهتزاز فهو بذلك لا يجد طعم الاستقرار الداخلي .(1/246)
أما المؤمن فهو أرضى بقضاء ربه على كل أحواله، يعرف أن ربه حكيم، وأن حكمه الحق ، كما يعرف العلاقة التي بينه وبين خالقه وبينه وبين عباد الله ، فهو مطئمن يعيش في سعادة ورضى.
قال تعالى :?يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي?[الفجر: 27-30]
7-الاختلاف التشريعي:
الإنسان لا يعرف الحكمة من خلقه فكيف يشرع لنفسه التي يجعل حقائقها.
والإنسان لا يملك من نفسه أو مما ينتفع به شيئاً فكيف يشرع لما لا يملك.
والإنسان مملوء بالأهواء والشهوات والأطماع فكيف يشرع من ملئ شهوة وأهواء وأطماعاً.
إن التشريع يكون خادماً لأهواء الطبقة الحاكمة ومصالحها ويدور معها حيث دارت، وتكون الشعوب ضحية تلك التشريعات
وإذا انحرف المجتمع إلى وضع سيء طوعوا التشريع لانحرافهم ، فجعلوا من الانحراف وضعاً شرعياً يقره القانون .
ولا مخرج للبشرية من هذا الاختلاف في أمر التشريع إلا بتلقي الشريعة من الخالق سبحانه الذي يعلم بدخائل النفوس . ويملك كل شيء في الوجود ، وتحلى بأوصاف الكمال والجلال سبحانه، ولا ينحاز لفئة من الناس في أحكامه بغير حق، ولا يقر انحرافاً أو إجراماً .
وبعد.. إذا كان الإنسان قد عمر الأرض بالحضارة المعاصرة فهو أيضاً قد خرب الإنسانية وأوقعها في مأزق ولا مخرج له منها إلا بالإسلام .
الخلاصة :
*لقد قدم الإنسان في حضارته المعاصرة في الجانب المادي منها وتخلف في الجانب الإنساني.
*لقد وقعت البشرية في حضارتها المعاصرة في عدد من المآزق ولا مخرج لها منها إلا بالإسلام.(1/247)
*العلم والفهم والخلق والتجربة والمصلحة دعائم يقوم عليها رأي الإنسان، ولا يمكن أن توجد في الناس جميعاً ، ولا مخرج لهم من الاختلاف إلا بتلقي الهدى من ربهم الذي أحاط علمه بكل شيء وعلم الظاهر والباطن ، وتحلى بأكمل الصفات ، وهو حاضر مع ما كان ويكون وسوف يكون، وليس له مصلحة في أن ينحاز إلى فئة ضد فئة .
*الدنيا لا تكفي لأطماع شخص، فمن جعلوها غايتهم من الكافرين فلا مفر لهم من الصراع ، أما المؤمن فقد علم أن الدنيا ممار إلى الآخرة فتعلق بالآخرة. وعلم أنه لا يفوز بالآخرة ونعيمها إلا إذا تعاون مع إخوانه وأحبهم وعطف عليهم ، فتصبح العلاقة بينهم: تعاوناً ومحبة ، بدلاً من الصراع والحقد.
*ولا مخرج من ظلم الإنسان وطغيانه إلا بتلقي الشريعة من الله التي لا تميل مع الحاكم ضد المحكوم، ولا تنحرف مع القوي أو صاحب النفوذ ضد الضعيف .
*الحكم من خلق الإنسان لا يعلمها إلا الخالق، ولا تعرف إلا بتعليم منه، وما لم يعرف الإنسان ربه فلن يخرج من مأزق الضياع ، وسيبقى الإنسان تافهاً لا قيمة له في نظر نفسه .
*لن يتوقف الانهيار الأخلاقي ، ولا مخرج للبشرية من مأزقه إلا بالإيمان الذي يعين البشرية على التغلب على أهواء النفس وشهواتها الجامحة .
*لا مخرج للإنسان من حياة القلق والانتحار والضيق ما لم يستقر من أعماقه على عقيدة صحيحة تعرفه بخالقه ، وبالحكمة من خلقه ، بمصيره الذي ينتظره ، وبالعمل المشروع له ، والمحرم عليه.
*يختل تشريع الإنسان لنفسه ، بسبب جهله بحكمة خلقه وبسبب أنه مملوك لي له حق التشريع ، وبسبب أنه مملوء بالأهواء والأطماع والشهوات التي تنعكس على أحكامه وتشريعاته ولا مخرج من هذا المأزق إلا بتلقي التشريع من الخالق سبحانه .
الحي الدائم
حياة الله :(1/248)
الله الذي خلق كل شيء ، الله الذي خلق السموات والأرض، الله الذي خلق ويخلق كل حي ، لا شك أنه أكمل موجود . وإذا كانت الكائنات الحية ، أرقى من الموجودات الميتة ، الجامدة، فلا شك أن خالق هذه الموجودات الحية أكمل وجوداً منها .
فهو إذن أكمل حياة منها ؛ فلو لم يكن حياً لكان من مخلوقاته ما هو أكمل منه وجوداً وذلك مستحيل.
وإذا كنا نرى في كل يوم يد القدرة الإلهية تخلق ملايين المخلوقات من نجوم، وكواكب ، ونبات وحيوان ، وليل ، ونهار في صور بديعة ، وتكوين محكم ، وتقدير دقيق ، فلا شك أن خالق هذه المخلوقات التي تتجدد كل يوم ، لا شك أنه قادر ، عليم ، حكيم ، مريد. ومن كان ميتاً فلا قدرة له ولا علم ولا حكمة ولا إرادة .
إذن : الله حي ، وحياته أكمل حياة ، وما مظاهر الحياة المشاهدة إلا أثر ضئيل لحياة الحي القيوم الذي ينفخ من روحه (أمره) في الموت فيهتز وفي الجماد فيتحرك .?إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ?[الأنعام:95].
والموت لا يكون على الخالق ، لأن الموت يأتي عند انعدام أسباب الحياة، ومجيء أسباب الموت ، فإذا كانت أسباب الحياة من مخلوقات الله فحياة الله إذن قبل وجود هذه الأسباب ، أي أن حياة الله كاملة ليست مشروطة بوجود أسباب معينة .
وأما أسباب الموت ، فإما أن تكون هذه الأسباب قديمة أزلية ، ومعنى ذلك أنها أزلية كأزلية الخالق . ومعنى هذا أنه لا وجود للخالق ـ أستغفر الله ـ لأن أسباب موته قد توفرت منذ الأزل قبل وجود هذا الكون . وبناء عليه فلا وجود لهذا الكون، لأن الذي سيخلقه ميت منذ الأزل، لتوفر أسباب موته من الأزل . وهكذا كلام باطل وسخيف .(1/249)
وإما أن تكون أسباب الموت مخلوقة حديثة ، وهذا محال لأن الخالق جل وعلا لن يخلق لنفسه أسباب الموت ، فلا يكون الانتحار إلا للعاجزين الضعفاء الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلاً . أما الخالق سبحانه فهو القوي العزيز الذي إذا أراد شيئاً قال له : كن . فيكون .
مما سبق نعرف أن الله حي كامل ، لا تتوقف حياته على أسباب الحياة ، كما أن حياته كاملة لا تهددها أسباب الموت فالله هو الحي الدائم الذي لا يموت بهذا تقضي العقول وبهذا أخبرنا المرسلون الصادقون ونطق الكتاب العزيز .
?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ?[الفرقان: 58] .?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة: 255].?وَعَنَتْ(1)[46] الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ?[طه: 111] .
الأول :
وجود الله سبحانه ممتد في القدم ، بحيث لا يتصور قبله وجود قط .
وما دام كل وجوده قد نشأ عنه تعالى فهو أسبق منه . فالله هو الأول وكلما تخيل تصورك وجوداً فاعلم أنه مخلوق لله وأن وجود الخالق أسبق منه ، فالله هو الأول قبل كل شيء .
ومن أعجب العجب أن ينكر الملحدون قول المؤمنين بالله : إنه الأول قبل كل شيء. في الوقت الذي يصفون فيه المادة (السديم المادي) بنفس الوصف ويقولون عنه : إنه أول بلا بداية ، ويقولون: إنه لا خالق له ، في حين أن الأدلة متضافرة ومشاهدة تنطق بأن هذا الكون مخلوق من عدم، وأنه حدث بعد أن لم يكن شيئاً ، وأنه ليس أولاً بلا بداية كما يزعمون ، بل الله الخالق له هو الأول.?سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد: 1-3] .
الدليل على حدوث الكون:(1/250)
أولاً: إذا تأملنا في الكون نجد أن النجوم تمثل مصادر قوية للحرارة ، ونجد أجزاء أخرى باردة مثل الكواكب وغيرها ومعلوم أن الحرارة تنتقل من المستوى الأعلى حرارة إلى المستوى الأقل حرارة، ولو أن الكون أزلياً لكانت الحرارة قد تساوت في كل أجزاء الكون .
ثانياً : هناك مواد مشعة في الكون ، وهي تفقد أجزاء منها في كل فترة زمنية بانتظام وتتحول إلى مواد أخرى غير مشعة ، ولو أن الكون أزلياً لكانت هذه المواد المشعة قد تحولت بكاملها .
ثالثاً : إذا شاهدنا تركيب السديم وجدناه يتكون من ذرات مادية، وقد عرف العلماء أن هذه الذرات مركبة من عدة جسيمات (إلكترونات، بروتونات، نيترونات..إلخ) .
ومن هذا التركيب تستنتج العقول أن هناك بداية لتكوين الذرة في الكون ، وأن تكوين الذرة ليس أزلياً قبله شيء ، إنما الذرة مخلوق حادث وعرفنا ذلك من اجتماع أشياء مختلفة متغايرة: (إلكترونات ذات شحنة كهربائية سالبة ، وبروتونات ذات شحنة كهربائية موجبة ، نيوترونات، ميزونات..إلخ) ، وذلك كما تعرف أن القلم الذي بيدك حادث ليس أزلياً من ملاحظة تركيبه من سن معدنية ،وجسم عاجي ، فتجزم بأن هناك لحظة جمع فيها المعدن مع العاج. وكذلك تدلنا العقول أيضاً على أن هناك لحظة جمعت فيها الإلكترونات مع البروتونات مع غيرها لتكوين الذرة تلك اللحظة هي لحظة تكوين الذرة المادية في هذا الكون التي يتكون منها السديم .(1/251)
وإذن ليس هذا السديم أزلياً قديماً كما يزعم الكافرون اليوم. ولا تظن أنه قبل التقاء الإلكترونات مع البروتونات مع غيرها من مكونات الذرة كانت الإلكترونات ، والبروتونات سابحة في الكون، هي وباقي مكونات الذرة ، ثم اتحدت لتكوين السدم ، لا تظن ذلك لأن الإلكترونات قد خلقت لتتحد بالبروتونات الموجبة ، وقد خلقت سائر مكونات الذرة لتكوين الذرة وفق خطة محكمة وتنظيم دقيق وتقدير محدد موزون ، فإذا كانت الحكمة المشاهدة من خلق (البروتونات، الإلكترونات..إلخ) هو: تكوين الذرة.
وإذا كانت الذرة المادية حادثة غير أزلية .
فلا شك إن أن وجود هذه المكونات (إلكترونات، بروتونات..إلخ) حادث ليس بالأزلي الذي لا أول له كما يزعم الكافرون.
ثالثاً : وإذا تأملت في أحوال المادة وجدتها مقيدة بقوانين متعددة، وأنها تخرج من حكم قوانين إلى حكم قوانين أخرى . فمثلاً: ذرة الهيدروجين لها قوانين معينة وخصائص محددة فإذا اتحدت بذرة الأكسجين تغيرت القوانين والخصائص إلى قوانين جديدة، وخصائص جديدة ، فبعد أن كان الهيدروجين يشتغل بسهولة، ها قد أصبح بعد اتحاده بالأكسجين ماء مطفئاً للنيران لا يشتعل ، وبعد أن كان خفيفاً يصعد إلى طبقات الجو العليا أصبح ثقيلاً يقسط إلى الأرض. فإذا طرنا به في صاروخ بسرعة قوية نقص الوزن(1)[47]، وإذا وصلنا إلى منطقة انعدام الوزن انعدم وزنه، وإذا سخناه زاد حجمه وإذا بردناه قل حجمه.
إذاً المادة شيء والقوانين شيء آخر .
وهكذا نجد أن القوانين التي تحكم المادة متغيرة غير ثابتة في المادة وكذلك الخصائص لهذه المادة متغيرة، وبما أنه لكل متغير بداية ونهاية فلا شك أن للقوانين المتغيرة والخصائص المتبدلة بداية ونهاية .
وإذن لا بد من بداية للخصائص والقوانين التي تحكم المادة.(1/252)
وبما أنه لا يمكن وجود مادة بغير خصائص أو قوانين، لأنه من المستحيل أن تكون مادة موجودة ولا وزن لها ولا حجم، ولا نظام أو خصائص فلا شك أن للمادة بداية بدأت مع بداية الخصائص والقوانين التي تحكم المادة، وقبل تلك البداية لم يكن هناك مادة أو قوانين أو خصائص، فدلنا ذلك على أن لهذا الكون بداية بدأت عندما قدر الخالق لهذا الكون نظامه وأقداره، ووهب لكل شيء خصائصه عندما قال للمادة: كوني بتلك الأقدار ، والخصائص والصفات فكانت. وصدق الله العظيم القائل:?بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?[البقرة: 117] .(1/253)
وإذن فليس هذا الكون أزلياً بلا بداية ، هكذا تستنتج العقول مما تشاهد من أحوال هذا الكون. إنما الأول هو الله خالق هذا الكون .وهذا هو الدكتور (بول كلارانس ابرسولد) أستاذ الطبيعة الحيوية ومدير قسم النظائر والطاقة الذرية في معامل (أوك ريدج) وعضو جمعية الأبحاث النووية يقول في بحث له تحت عنوان (الأدلة الطبيعية على وجود الله) : (إن الأمر الذي نستطيع أن نثق به كل الثقة ، هو أن الإنسان وهذا الوجود من حوله، لم ينشأ هكذا نشأة ذاتية من العدم المطلق بل إن لهما بداية ، ولا بد لكل بداية من مبدئ ، كما أننا نعرف أن هذا النظام الرائع المعقد الذي يسود الكون يخضع لقوانين لم يخلقها الإنسان ، وأن معجزة الحياة في حد ذاتها لها بداية كما أن وراءها توجيهاً وتدبيراً إلهي محكم) . وهذه شهادة رائد آخر من رواد العلم الحديث إنه الدكتور (ايرفنج وليام) أخصائي في الحياة البرية، وأستاذ العلوم الطبيعية في جامعة (ميشجان) وأخصائي في وراثة النباتات، يقول في بحث له تحت عنوان (المادة وحدها لا تكفي) : (فعلم الفلك مثلاً يشير إلى أن لهذا الكون بداية قديمة وأن الكون يسير إلى نهاية محتومة وليس ما يتفق مع العلم أن نعتقد بأن هذا الكون أزلي ليس له بداية أو أبدي ليس له نهاية فهو قائم على أساس التغير).
الآخر:
ووجود الله ممتد في الأبد بحيث لا يتصور بعده وجود، فما دام كل وجود ينتهي بأمره فهو آخر كل وجود، وكلما تخيل عقلك وجوداً ، فاعلم أن وجود الله هو آخر كل وجود. وقد سبق بيان أن الله هو الحي الدائم الذي لا يموت، فهو الآخر الذي ليس بعده شيء ولا نهاية له قال تعالى : ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:88] وإلى هذا دلت العقول، وبه أخبرنا الرسل الصادقون.
الخلاصة :
*الخالق أكمل من مخلوقاته، وحياته أكمل من حياة كل الكائنات الحية.(1/254)
*نشاهد في المخلوقات آثار قدرة الله وعلمه وحكمته، وإرادته فنعرف من ذلك أن الله حي لأنه لا قدرة، ولا علم، ولا حكمة ، ولا إرادة لميت، وما مظاهر الحياة إلا أثر لحياته سبحانه .
*حياة الله لا تعتمد على أسباب فهي موجودة قبل وجود الأسباب ولو كان هناك أسباب للموت فإما أن تكون الأسباب أزلية وعندئذ لا يوجد شيء وإما أن يخلقها الخالق لنفسه وذلك لا يفعله العزيز الحكيم فلا أسباب للحياة الإلهية ولا أسباب للموت فالله حي دائم لا يموت .
*كل وجود ناشئ عن الوجود الإلهي ، فالله هو الأول قبل كل شيء وكلما تخيلت وجوداً سابقاً فخالقه أسبق منه .
*ويجادل الكافرون في هذا الوقت الذي يصفون (السديم) المادي بأنه الأول بلا بداية ، وهذا باطل فأحوال السديم لا تدل على ذلك:
(أ) لو أن الكون أزلي لتساوت درجة الحرارة في كل أجزائه واستنفدت المواد المشعة إشعاعها .
(ب) الذرة التي يتكون منها السديم مركبة من جسيمات مختلفة واجتماع المكونات المختلفة في الذرة يدل على لحظة التقت فيها تلك المكونات . وإذن فللذرة بداية .
وإذا كانت جسيمات الذرة قد خلقت لتكوين الذرة وللذرة بداية، فلا شك إذن أن لهذه المكونات بداية بعكس ما يظن الماديون .
(ج) القوانين التي تحكم المادة وخواصها تتغير ولكل متغير بداية ونهاية وإذن فللخواص وللقوانين المادية بداية ونهاية ، ولا مادة بغير قوانين أو خواص وإذن فللخواص وللقوانين المادية بداية ونهاية ، وإذن فليست المادة أزلية كما يزعم الماديون.
*ما دام كل موجود ينتهي بأمر خالقه، فالخالق آخر كل موجود، وبما أن حياة لا تهددها أسباب الموت فالله حي دائم لا يموت
*قد دلت العقول إلى هذا وبه نطق المرسلون الصادقون .
بعض صفات الله
السميع البصير:(1/255)
من الصفات التي يتصف بها الخالق : السميع ، والبصر. ولا يمكن تصور الذات الإلهية دون سمع وبصر ، وهذه الحقيقة ذكرها القرآن على لسان إبراهيم ـ عليه السلام ـ عندما دعا والده إلى نبذ عبادة الأصنام بقوله : ?يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا?[مريم: 43] ومعنى هذا القول أن الإله المعبود يجب أن يكون سميعاً بصيراً، وقد قرر القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة (خولة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت تحدثه ، ما أسمع ما تقول فأنزل الله عزوجل:
?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ?[المجادلة:1] .
وقال سبحانه لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ عندما قالا:
?رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45)قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه: 45، 46] .
ومن المعلوم أن مرتبة الوجود الإلهي أعلى وأكمل مراتب الوجود وكل مرتبة من مراتب الوجود تتصف بعدد من الصفات الوجودية ما هو لازم لتلك الدرجة. وتقضي البداهة باتصاف الوجود الإلهي الكامل الأعلى بأكمل الصفات وأعلاها، ومن الواضح أن صفتي السمع والبصر صفات عليا في المخلوقات ، ومن هذه المخلوقات ما هو سميع بصير .
فلو لم يكن ربنا ـ جل وعلا ـ سميعاً بصيراً لكان في المخلوقات ما هو أكمل منه ، وهذا محال.
ثم هو سبحانه واهب السمع والبصر في عالم المخلوقات، ولا يغفل أن مصدر ذلك يكون فاقداً له. فإن الله سميع بصير وذلك من لوازم وجوده تعالى .
وصفه السمع هي : ما به تنكشف المسموعات .
وصفة البصر هي : ما به تنكشف المبصرات.(1/256)
لكن علينا أن نعتقد أن هذا الاكتشاف ليس بآلة ، ولا جارحة ، ولا حدقة مما هو معروف لنا لأن ربنا كما وصف نفسه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? ولكنه حق على حقيقته على الوجه اللائق بذاته تعالى .
ومن أدلة اتصاف الله بالسمع والبصر، أنه سبحانه يسمع دعاء الداعي ويجيبه إلى حيث هو ، فكم شاهد الناس نزول الغيث من الأمطار بعد خروجهم مستغفرين، تائبين ، متضرعين إلى ربهم أن يغيثهم بعد طول جفاف فمن ينزل المطر بعد الدعاء إلا السميع؟
ومن يسوقه إلى المكان المحدد إلا البصير؟
وكل من دعا ربه بتضرع وصدق وإيمان ، سيجد الإجابة تشهد له أن ربه سميع بصير مجيب الدعاء . قال تعالى :
?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ?[النمل: 62] .
العليم:
إن الله عليم بكل شيء لم يسبق علمه جهل ، ولا يعدو عليه نسيان ، ولا يمكن أن يخالف الواقع ، وعلمه محيط بما كان ، وما هو كائن الآن وبما سيكون؛ فيستوي الماضي والحاضر والمستقبل في علم الله .
وعلم الله محيط بالظاهر والباطن، بالسماء والأرض، والدنيا والآخرة.
وما هذا الكون وما فيه من أحكام وإتقان إلا برهان على شمول علم الله وحكمته لجميع الكائنات، دقيقها وجليلها ، عظيمها وحقيرها ، إن الله خالق كل شيء، والذي يخلق المخلوقات كلها عليم بأسرارها وخفاياها وهذا من البراهين القاطعة التي أشار إليها في القرآن بقوله تعالى :
?وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك: 13، 14] .(1/257)
وقد يعرف الإنسان شيئاً عن حاضره، وقد يذكر طرفاً من ماضيه وما وراء ذلك فهو بالنسبة له عمى ، بيد أن الإنسان لا يذكر من ماضيه الطويل إلا قليلاً من الحوادث، ولا يدري من تأريخ العالم الذي يعيش فيه شيئاً طويلاً لكن الله وحده يحصي أعمالنا الماضية ساعة ساعة، ويسجل أحوال العالم العابرة دولة دولة ، وحادثة حادثة. ولقد قال فرعون لموسى ـ عليه السلام ـ كما حكى القرآن: ?قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى(51)قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى?[طه: 51-52] .
والله سبحانه يعلم دقائق هذا الكون وخفاياه : ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?[الأنعام: 59] . فالعلم الإلهي يهيمن على أطوار الموجودات هيمنة كاملة ، يحيط بعدد ما في صحاري الأرض من رمال، وعدد ما في بحار الدنيا من قطرات، وعدد ما في الأشجار من ورقات , وعدد ما في الأغصان من ثمار، وما في السنابل من حبوب، وما في رؤوس البشر وجلودهم من شعر ، إنه العلم الشامل المحيط بكل شيء.
قد ينير الله بعض العقول بحقائق يسيرة ـ على قدر طاقتها ـ من المعارف الكونية، أو رشحات ضئيلة من الغيوب الخفية، حسب قواعد مدروسة ، وحكم مأنوسة، وما وصل إليه البشر من ذلك مقرر معروف. وما أوتوا إلا القليل، أما الله عز وجل فهو كما قال في كتابه :(1/258)
?اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8)عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي(9)سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ?(1)[48][الرعد: 8-10] .
إنك إذا تأملت في عمل خلية عضلية أو عصبية أو دموية أو عظمية، وجدتها تقوم بعملها وكأنها على علم كامل بما يدور حولها ويقدم لها ويؤخذ منها إلى سائر أجزاء الجسم مع أن تلك الخلية حبسة في مجال محدود، وإذا تأملت في نشاط جسمك وجدته يتم وكأنه على علم بما يحيط به من ضوء وهواء وجاذبية وماء وطعام وغير ذلك ، وإذا تأملت إلى هذه الأرض التي تسكن فيها وجدتها تسير مع المجموعة الشمسية كأنها على علم بدورها وعلاقاتها مع غيرها فكان ذلك الاتزان ، وإذا تأملت إلى هذه الأرض التي تسكن فيها وجدتها تسير مع المجموعة الشمسية كأنها على علم بدورها وعلاقاتها مع غيرها فكان ذلك الاتزان في السير. ونحن نعلم أن الأرض صماء عمياء جامدة لا عقل لها ولا تدبير ولا علم . كل ذلك شاهد قائم يصيح في أهل العقول قائلاً : إن ربكم قد أحاط بكل شيء علماً .
وهذا خلاف ما يعتقد بعض المنحرفين من أن الله سبحانه قد خلق العالم ثم عرج إلى السماء ولا شأن له به .
ولقد وصف الخالق نفسه بما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلام فقال تعالى:(1/259)
?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ(5)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ?[الحديد: 4-6] .
***
كلام الله :
الكلام هو الوسيلة إلى الإبانة عما في النفس، من معارف ونصائح ورغبات شتى، وتفهيم ذلك للآخرين ، ولا شك أن الله سبحانه متصف بصفة الكلام ، فقد ورد أنه سبحانه كلم موسى، ونطق القرآن بأنه (القرآن) كلام الله ، فمصدر الكلام المسموع عنه تعالى لا بد أن يكون شأناً من شئونه، وصفة من صفاته جلَّ وعلا.
ولقد عهد الله جلّ جلاله إلى ألوف مؤلفة من الملائكة بالقيام على شئون هذه الكائنات : كالإحياء والإماتة، في أنحاء هذا العالم العريض، كما عهد إلى غيرهم بشئون شتى لا نعرف منها إلا القليل ، وهذا التسخير الدائم خاضع لأوامر الله التي يتكلم بها : خلقاً، ورزقاً ، ورفعاً ، وخفضاً، ومحوراً وإثباتاً، وتقديراً ، وتدبيراً .. إلخ.
ولا شك أن الله سبحانه عليم بكل شيء بما كان ، وما هو كائن الآن، وما سيكون في المستقبل إلى مالا نهاية .(1/260)
وما يدل على هذا العلم من كلمات لا نهاية لها كذلك ، ألا ترى أن أحدنا في مباشرة أعماله المحدودة يحتاج إلى قاموس من الألفاظ، فما ظنك برب العالمين ، الخالق لهذه الكائنات، والحاكم لها، والمدبر لأمورها والمنظم لشئونها، ألا يكون كلامه عز وجل من السعة والاستبحار على النحو الذي يقول الله تعالى فيه :?قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا?[الكهف: 109] .وقال سبحانه:?وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ?[لقمان: 27] .
والكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مظهر من مظاهر اتصافه جل شأنه (بالكلام) ، وقد كلم الله بعض أنبيائه كموسى عليه السلام وكالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج حين فرض عليه الصلاة ، وسوف يكلم الله كثيراً من عباده يوم القيامة.أما حقيقة الكلام كصفة من صفات الله جل جلاله فإنا لا نعلم كيفيتها ، والذي نؤمن به أنها ليست كأي كيفية من كيفيات كلام المخلوقين ألفاظاً وتصنعها الشفتان واللسان ، وتضبطها الرئتان والحنجرة والأسنان فذاك شأن الإنسان ، لا وصف الرحمن الذي : ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ?.وإن اتصاف الله سبحانه بالكلام والتكليم هي إحدى صفاته الملازمة لكماله وجلاله ، ومتى ما شاء تكلم بها إلى من يشاء : ? تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ?[البقرة: 253] .
الخلاصة :(1/261)
*الله هو السميع البصير ، الذي خلق السمع والبصر للمخلوقات ، وهو السميع البصير الذي يسمع دعاء الداعي ويجيبه إلى حيث هو. والسمع ما به تنكشف المسموعات ، والبصر ما به تنكشف المبصرات. وليس سمع الله وبصره كسمع الناس وبصرهم فهو سبحانه : ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ?.
*الله عليم لم يسبق علمه جهل ، أو يعتريه نسيان ، وعلم الله شامل محيط بكل شيء. وإن سير الكون في غاية الدقة والإحكام والإتقان لشاهد على أن خالق هذا الكون المهيمن عليه ، لا لعلمه سبحانه.
*الكلام هو الوسيلة إلى الإبانة عما في النفس: من معارف، ونصائح ورغبات شتى وتفهيم ذلك للآخرين.
*والله يتكلم إلى من يشاء من عباده وملائكته ، أو غيرهم من المخلوقات التي يعلمها الله ولا حد لكلام الله سبحانه .
*والتكلم صفة من صفات الله فمتى ما شاء تكلم.
*وليس الكلام الإلهي ككلام البشر. بل كلام يليق بجلاله وكماله ويناسب ذاته العلية .
الإسلام والإيمان والإحسان
الإسلام:
هو الاسم الذي عرف به الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه التسمية لم تكن اجتهاداً من الرسول عليه الصلاة والسلام وإنما كانت من الله تعالى حيث يقول : ? وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ?.
والإسلام في اللغة : يطلق على الطاعة والإذعان ، وعلى الصلح والأمان وعلى الخلوص من الآفات الظاهرة والباطنة ، ويطلق في الشرع على توحيد الله والانقياد لأوامره ، والخضوع له ، والإخلاص في العبادات التي جاءت من عند الله .(1/262)
وليس هنا من موقف ـ منطقي ـ للمخلوق أمام خالقه سوى أن يستسلم له . والدين هو النهج الذي به يتحقق استسلام العبد لربه ؛ فسمي الدين بذلك إسلاماً في كل زمان ومكان ـ وإن اختص به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام ـ فالله يقول : ? إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران: 19]. ولقد جاء في رسالة سيدنا سليمان لملكة سبأ كما حكى القرآن : ? أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ?[النمل: 31] .وقال سحرة فرعون عندما آمنوا فتوعدهم فرعون بالعذاب .
? وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ?[الأعراف : 129] .
وكان دعاء يوسف عليه السلام : ?تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ?[يوسف : 101] .وبهذا قال أصحاب سيدنا عيسى عليه السلام : ?قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران : 52] .
وأنت تلاحظ أن كل ما في الكون قد خضع لقانون ، واستسلم لما سن ربه من نظام ، فكل ما في الكون إذن مسلم لربه خاضع لحكمه ، حتى فم الكافر ولسانه فإنها لا تنطق إلا وفق سنن محددة ، بغيرها لا تنطق ، غير أن الإسلام الذي يطالب به ، ليس إسلاماً إجبارياً كإسلام الكواكب والنباتات في خضوعها واستسلامها لتقدير خالقها قسراً ، إنما الإسلام الذي نطالب به هو الخضوع الاختياري، الذي ينبي عليه رضا الخالق سبحانه . قال تعالى : ?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ?[آل عمران : 83] .وأنت ترى أن القارئ أن المسلمين وحدهم هم الذين بقوا على شعار الدين الحق، واسمه الصحيح؛ في حين باقي الأديان قد نسيت إما إلى قبيلة كاليهودية ، أو إلى شخص كالمسيحية أو البوذية.(1/263)
الإيمان :
يطلق في اللغة : على التصديق ، قال إخوة يوسف لأبيهم: ?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? أي ما أنت بمصدق.
وأما من الشرع : فيطلق تارة على التصديق بالله وملائكته إلى آخر ما يأتي في أركان الإيمان ، وهذا إذا أطلق مقروناً بالإسلام كما في حديث جبريل، وتارة يطلق على الدين كله وذلك إذا أطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام نحو : ?اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا? ?وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ?.
الإحسان :
هو في اللغة : إجادة العمل وإتقانه ، وفي الشرع : تحسين الظاهر بالعبادة والباطن بالإخلاص.
ومجموع المراتب الثلاث السابقة هو الدين القويم الذي بعث الله به النبي الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .(1/264)
حديث جبريل :عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) قال : صدقت ـ فعجبنا له يسأله ويصدقه! ـ قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) قال : صدقت فأخبرني عن الإحسان . قال : (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) قال : فأخبرني عن الساعة. قال : (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) قال: فأخبرني عن أماراتها. قال : (أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) قال : ثم انطلق فلبث ملياً ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : (إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)(1)[49].
بيان ما في الحديث :
كفاك أيها الأخ القارئ ما احتوى عليه هذا البحث الشريف من مراتب الدين وشرائعه .
الأولى : الإسلام . هذه المرتبة الأولى ، وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم هنا الإسلام على الأعمال والأقوال الظاهرة، التي هي الشهادتان وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. وقد يطلق الإسلام على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله، وفروعه: من عقائد، وعبادات ، ومعاملات وأخلاق، كقوله تعالى : ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ? .(1/265)
الثانية : الإيمان وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان هنا على : التصديق بالله، وملائكته، وكتبه ، وسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وقد يطلق على الإفراد غير مقترن بالإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله تعالى :
?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا? [الأنفال : 2-4] .
الثالثة : الإحسان هذه المرتبة الثالثة وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم الإحسان هنا على تحسين الظاهر بالعبادة ، والباطن بالإخلاص الكامل، وقد يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان فحينئذ يراد به الدين كله كقوله تعالى :
?وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى?[لقمان: 22] .
وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً وجيزاً مع وفائه بالمعنى وهذا لا يستطيعه إلا من آتاه الله جوامع الكلم . فقال صلى الله عليه وسلم : (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا إخبار بأن مرتبة الإحسان على درجتين وأن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين.
المقام الأول ـ وهو أعلاهما ـ : أن تعبد الله كأنك تراه ، وهذا مقام المشاهدة ، وهو أن يتنور القلب بالإيمان ، وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان . فمن عبد الله عز وجل على استحضار قربه منه ، وإقباله عليه وأنه بين يديه كأنه يراه ، أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم .(1/266)
المقام الثاني : الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه ، فإذا استحضر العبد هذا في عمله فهو مخلص لله تعالى غير ملتفت إلى غيره ولا مريد بعمله سواه .
والمحسن هو الذي يعبد الله بدافع من اقتناعه بأن الله يستحق الطاعة والعبادة والخضوع بغض النظر عن الأجر والثواب ، أو العذاب والعقاب ، فهو كذلك الذي يحسن إلى دولته وحكومته ، يبذل كل الجهود لإقامتها ودعمها دون النظر إلى مكافأة أو معاقبة . تراه يقظاً إلى كل ما من شأنه المساس بحكومته فيقوم ببذل كافة الجهود والمساعي لدفع الخطر، ودرء الفساد ، دون النظر إلى أي شيء آخر ، ذلك هو المحسن في دولته ومثله كمثل المحسن في دينه ، ولهذا نجد رحمة الله قريب من المحسنين. قال تعالى : ?وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ?[الأعراف: 56] .
وفاز المحسنون بحب الله قال تعالى : ?وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ?[البقرة: 195] .
كما يخبر الله أنه مع المحسنين وإلى صفهم ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت :69].
الخلاصة :
1-الإسلام:
هو الاسم الذي عرف به الدين الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطلق في اللغة : على الطاعة والإذعان ، وعلى الصلح والأمان ، وعلى الخلوص من الآفات الظاهرة والباطنة.
ويطلق في الشرع : على توحيد الله والانقياد لأوامره والخضوع له . فسمي الدين بذلك إسلاماً في كل زمان ومكان لأنه النهج الذي يتحقق به استسلام العبد لربه .
2-الإيمان:(1/267)
يطلق في اللغة: على التصديق ، وفي الشرع: يطلق تارة على التصديق بالله، وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهذا إذا كان مقروناً بالإسلام، وتارة: يطلق على الدين كله إذا ذكر على الإفراد .
3-الإحسان:
وهو في اللغة : إجادة العمل ، وإتقانه. وفي الشرع : تحسين الظاهر بالعبادة ، والباطن بالإخلاص. والإحسان مطلوب في كل عمل .
ومجموع المراتب الثلاث هو الدين القويم الذي بعث الله به النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مبين في حديث جبريل عليه السلام .
القرآن يسبق العلوم الحديثة .
القرآن كتاب هداية :
لم ينزل القرآن لتعليم الناس علم الكيمياء والهندسة أو الطب أو الزراعة أو غيرها من علوم استخلاف الأرض، التي فوض الله أمرها إلى الإنسان، الذي جعله خليفة في الأرض بعد أن منحه المقدرة على التعليم واكتساب المعارف في هذه المبادئ قال تعالى : ?اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ?[العلق: 3-5] .
وإذن فليس القرآن كتاباً علمياً بحتاً لهذه العلوم يجب أن نجد فيه كل ما نشاء من الحقائق العلمية في شتى ميادين العلوم السابقة . لكن القرآن قد أنزله الخالق سبحانه لهداية الناس إلى أهم قضايا الحياة الإنسانية، يهديهم ، فيعرفهم بربهم ، ولماذا خلقهم ، ويبين لهم دورهم على الأرض، وما الذي ينتهي إليه الإنسان بالموت. وما الذي ينتظرهم بعد موتهم. كما يهديهم إلى أحسن الطرق التي يقيمون عليها حياتهم وسلوكهم ، وأخلاقهم ومعاملاتهم . قال تعالى : ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?وقال سبحانه :?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ?[الأنفال:24] .
القرآن يشير إلى حقائق الخلق:(1/268)
لكن القرآن قد أشار بآياته إلى سنن الخلق ، وحقائق التكوين التي لها صلة بالعلوم السابقة ، وبما أن القرآن صادر من واضع السنن كلها كان جميع ما جاء فيه حقاً لا شك فيه ، وإن لم يكن مدركاً ذلك وقت نزوله إلا على طريق الإجمال والتأويل لضعف العلوم الإنسانية آن ذاك .
القرآن يعد بكشف الآيات لتدعيم الإيمان :
لكن الذي خلق الإنسان وعلمه ، وأنزل القرآن وبينه أخبر في كتابه ووعد بأنه سيكشف للناس وللعلماء خاصة حقيقة ما في هذا القرآن من آيات بينة لتكون دليلاً لهم على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ?[فصلت: 53] .
وقال تعالى :?وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ?[سبأ: 6] .
وقال تعالى : ?كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ?[الأعراف: 32] .
الوعد يتحقق:(1/269)
وقد تحقق وعد الله، وكان مما تحقق في عصرنا هذا عصر العلوم الكونية أنه كلما تقدمت الكشوف العلمية في ميدان من الميادين ، كشفت للناس عن آيات الخلق الباهرة التي تزيد الناس إيماناً بربهم وخالقهم ، وكشفت أيضاً عن معنى من المعاني ، فإن القرآن قد تحدث بصراحة أو أشار إليه؛ وبقيت تلك الآية تؤول أو تفسر على غير معناها لعدم معرفة السابقين بحقائق خلق الله، ودقائق ما أشارت إليه الآية ، فكان هذا نوعاً من إعجاز القرآن يظهر في عصر العلم الكوني يشهد بأن القرآن: كلام الله بما حوى من حقائق جهلها البشر جميعاً طوال قرون متعددة وأثبتها القرآن في آياته قبل أربعة عشر قرناً من الزمان فكان ذلك شاهداً بأن هذا القرآن ليس من عند رجل أمي أو من عند جيل من الأجيال البشرية لا يزال يعيش في جهل كبير ، إنما هو من عند الذي خلق الكون وأحاط بكل شيء علماً وصدق الله القائل لنبيه?وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ?[النمل: 6]
آيات صريحة تسبق العلوم في تقرير حقائق ثابتة:
ومن الأمثلة على ذلك إخبار القرآن بحقائق كونية ، جهلها الناس جميعاً وجاء التقدم العلمي كاشفاً لصدق ما أخبر به القرآن والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
1-انفصال الأرض:
لقد ثبت لدى العلماء بصفة فعلية أن الأرض انفصلت عما في السماء، ولكن الاختلاف بين الباحثين ينحصر في تحديد الجزء الذي انفصلت عنه ، فمن نظرية تقول: بأن الأرض انفصلت عن الشمس ، ومن قائل : انفصلت عن نجم.(1/270)
وإذا كان يصعب على الإنسان تصور أن هذه الأرض كانت جزءاً من السماء، فإن البدوي أكثر النسا سخرية من هذا القول ، غير أن هذه الحقيقة الكونية قد أجراها الله على لسان رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة قبل أربعة عشر قرناً من الزمان فيما أوحي إليه من القرآن . قال تعالى : ?أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ?[الأنبياء:30] .
2-الماء والحياة:
ولقد تضمنت الآية حقيقة أخرى، وهي أن سائل الماء أساسي لوجود الحياة فلا يوجد سائل على وجه الأرض يصلح أن يكون وسطاً صالحاً للتفاعلات الحيوية غير الماء. ولقد ثبت لدى الباحثين أن بعض (البكتريا) ، تستطيع الحياة بدون هواء غير أنه لا يمكن مطلقاً أن توجد حياة بدون ماء، كما تشير الآية إلى ذلك من قبل أن يعرف البشر شيئاً عن ذلك .
وإذا كانت الحقيقتان السابقتان قد عرفتا بواسطة الكفار ، فما أحرى أن يكون الخطاب موجهاً لهم كما هو في الآية لعلهم يومنون .
3- من بين فرث ودم:
بعد تقدم علم التشريح والأجهزة المكبرة في الآونة الأخيرة تتبع العلماء سير الطعام في الأنعام وبحثوا عن كيفية تكون اللبن فوجدوا أن الإنزيمات الهاضمة ، تحول الطعام إلى فرث يسير في الأمعاء الدقيقة، حيث تمتص العروق الدموية (الخملات) المواد الغذائية الذائبة من بين ذلك الفرث فيسري الغذاء في الدم، حتى يصل إلى الغدد اللبنية ؛ وهناك تمتص الغدد اللبنية المواد اللبنية (التي سيكون منها اللبن) من بين الدم فيتكون اللبن الذي أخرج من بين فرث أولاً، ومن بين دم ثانياً، وذلك نص ما تنطق به الآية الكريمة :?وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ?[النحل:66]
4-كأنما يصعد في السماء:(1/271)
بعد أن تمن الإنسان من الطيران، والصعود إلى السماء ، والارتفاع إلى طبقات الجو العليا، عرف أنه كلما ارتفع إلى أعلى قل الأكسجين والضغط الجوي، مما يسبب ضيقاً شديداً في الصدور، وعملية التنفس ، وذلك عين ما تنطق به الآية الكريمة قبل طيران الإنسان بثلاثة عشر قرناً من الزمان.
قال تعالى :?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ?[الأنعام: 125] .
والحرج: شدة الضيق. والآية تمثل من عمل ما يستحق به أن يعاقبه الله بإضلاله . فمثل حاله عند سماعه الموعظة، وما يتصل بالإسلام، وما يصيبه من ضيق شديد كحال ذلك الذي يتصعد في السماء. وما أدرى الرجل الأمي بتلك الحقيقة التي لا تُعرف إلا لله ، وإلا لمن تصعد في السماء من بني الإنسان فهل كانت له طائرة طار بها؟
الظلمات التي في البحار العميقة والأمواج التي تغشاها:
كشف العلم الحديث أن في قاع البحار العميقة ـ كثيرة الماء ـ (البحر اللجي) ظلمات شديدة، حتى أن المخلوقات الحية تعيش في هذه الظلمات بدون آلات بصرية وإنما تعيش بواسطة السمع، ولا توجد هذه الظلمات الحالكة في ماء البحر الذي يحيط بالجزيرة العربية .
كما كشف العلم الحديث أن هناك موجاً داخلياً يغشى البحر وهو أطول وأعرض من الموج السطحي، وقد تمكن الباحثون من تصوير هذا الموج بالأقمار الصناعة أيضاً ـ كما يرى في الصورة التي بجانب هذا ـ والقرآن يذكر هذه الحقيقة قبل قرون .
قال تعالى :?أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ?[النور: 40] .
وهذه الظلمات هي نتيجة :
1-كثرة الماء الذي هو (بحر لجي).(1/272)
2-الموج الداخلي الذي يعكس الأشعة فلا يسمح لكثير منها بالنفاذ إلى أسفل.
3-الموج السطحي الذي يعكس الأشعة فلا يسمح لكثير منها بالنفاذ إلى أسفل.
4-السحاب الذي يحجب كثيراً من الأشعة فلا يسمح لها بالنفاذ إلى أسفل.
فهي ظلمات بعضها فوق بعض . وأسبابها المنشئة لها بعضها فوق بعض.
والجبال أوتاداً:
الوتد يغرس في الرمل لتثبيت الخيمة ، وهكذا الجبال قد اخترقت بامتداداتها الطبقة اللزجة التي تقع في أسفل الطبقة الصخرية التي تكون القارات ، فأصبحت بالنسبة للقارات كالوتد بالنسبة للخيمة فالوتد يثبت الخيمة بالجزء الذي يغرس في الصحراء وهكذا الجبال تثبت القارات بالجزء المغروس منها في الطبقة اللزجة التي تقع تحت الطبقة الصخرية التي تتكون منها القارات. ولقد تأكد الباحثون من هذا في عام 1965م . وعلموا أنه لولا أن الله قد خلق الجبال بشكل أوتاد لطافت القارات ومادت الأرض واضطربت من تحت أقدامنا ، والله يذكر لنا هذه الحقيقة في القرآن. قال تعالى : ?والجبال أوتاداً? وقال سبحانه :
?وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ?[النحل:15] .
السير في الأرض لمعرفة كيفية بدء الخلق:
إن تحديد المنهج العلمي للبحث أمر في غاية الأهمية ، وهذه الآية القرآنية: ?قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..? تحدد لنا منهجاً علمياً لمعرفة كيفية بدء الخلق وتبين أنه لا بد لنا من أن نسير في الأرض باحثين ومنقبين، وأن معرفة تلك الكيفية التي بدأ بها الخلق تتوقف على سيرنا في الأرض، وهذا ما وجده الباحثون في هذا الزمان من أنه لا بد من دراسة عينات الصخور والمقارنة بين تركيبات الأرض المختلفة إذا أردنا أن نعرف بدء الخلق على الأرض فمن أخبر محمداً النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بكل هذا؟
5-موج من فوقه موج:(1/273)
وإلى قبل عام 1900م كان الناس جميعاً لا يعرفون إلا موجاً واحداً في البحار، هو ذلك الموج المشاهد على سطح الأرض فجاء البحارة الإسكندرنافيون ليشكفوا للعالم حقيقة كانت مخبوءة في أعماق البحار. تلك الحقيقة هي أنه يوجد في أعماق البحار نوع آخر من الموج، وأنه يقذف بالغائصين فيه كما يقذف الذي فوق بالسابحين عليه، غير أن الله قد أجرى هذه الحقيقة على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي لم يعرف بحراً طوال حياته قبل نيف وأربعة عشر قرناً من الزمان.
قال تعالى :?أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ?[النور: 40]
فتأمل كيف تنص هذه الآية على هذه الحقيقة؟! وكيف تؤكد أنها طبقات بعضها فوق بعض؟ فمن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم علم بعلم البحار الذي جهله البشر أجمعون من عهده إلى قبل 76 عاماً؟!
6-مما تنبت الأرض:(1/274)
كان المعلوم لدى الناس جميعاً ، أن الذكورة والأنوثة لا توجد إلا في الإنسان والحيوان فقط، أما في النبات فهو كسائر الجمادات لا يتصف بذكورة أو أنوثة ، وبالرغم من أن زراع النخل ـ مثلاً ـ يعلمون أن النخل لا يثمر إلا إذا أبر (لقح) بضرب أجزاء الطلع بطلع نخلة أخرى، فإن ذلكم لم يكن يعني لديهم أي شيء غير أنها عادة، أثبتت التجارب نفعها، ولذلك نجد في الحديث الشريف قصة من هذا النوع. فعندما مر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم يؤبرون النخل نهاهم عن ذلك فانتهوا ، ولم يحتجوا على رسول الله بقولهم: إن النبات مذكر ومؤنث ولا يتم الثمر إلا بالتلقيح (التأبير) بين المذكر والمؤنث، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم علمه البشري، يقصر عن إدراك الزوجية الموجودة في النخل لأن الأجزاء المذكرة والمؤنثة غاية في الصغر لذلك وجدناه ينهاهم. فلما جاء وقت الثمر لم تثمر النخل، فذهبوا يشكون أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم) أي : إني لا أعلم بهذه الفنون الزراعية، وأنتم أعلم مني وليس ما قلت وحياً من الله إنما هو رأيي البشري. وإذا كنا نرى نقصاً في علم الرسول صلى الله عليه وسلم البشري في إدراكه الزوجية في النبات فإن ذلك كان مجهولاً عند البشرية جميعاً حتى تقدمت أجهزة التكبير، وتقدم علم تشريح النبات وذلك نص ما جاء في الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال تعالى : ?سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ?[يس: 36] .
7-وأبنتنا فيها من كل شيء موزون:(1/275)
كان الناس جميعاً يجهلون الاختلاف في تكوين النباتات المختلفة حتى تقدمت العلوم في هذا العصر وكشفت أن جميع النباتات تتكون من مواد أساسية واحدة (كربون ـ أكسجين ـ أيدروجين ـ نتروجين ، كبريت أو فسفور) وبعض المواد الضئيلة الأخرى ، غير أن سبب اختلافها يرجع إلى اختلاف أوزان المواد في كل منها ، وأن جذر كل نبات لا يمتص من مواد الأرض إلا مقادير موزونة محددة. وبهذا نطق الكتاب . قال تعالى : ?وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ?[الحجر:19] .
8-خضراً نخرج منه حباً متراكباً :
جهلت البشرية طويلاً كيف تتكون الحبوب والثمار بل كيف تتكون الأجزاء المختلفة في النباتات. وأخذ المفكرون يدرسون في هذا العصر كيف يكون النبات حبوبه وثماره علنا نقدر على محاكاته، ونصنع طعاماً كما يصنع؟ فأخذوا يدرسون الثمار والحبوب لتأخذ بأيديهم إلى السر الخفي، حتى وصلوا إلى نتيجة تعرف باسم (التمثيل الكلوروفيلي) ، أو التمثيل الضوئي، حيث وجوا أن في النبات مصانع خضراء صغيرة (بلاستيدات خضراء) هي التي تعطي النبات لونه الأخضر. وأن هذه المصانع منها تخرج المواد الغذائية التي تتكون منها الحبوب والثمار بل وسائر أجزاء النباتات.
وهذه المصانع الخضراء تخرج من النبات عند بد نموه والنبات يخرجه الماء من بذوره وأصوله. وهذا عين ما نجده في الآية الكريمة :?وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?[الأنعام:99] .(1/276)
فما أعجب هذا الكتاب الكريم يذكر الحقيقة ويدلنا على باب الوصول إليها بقوله ?انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ? ولما بدأ الإنسان يتفكر وينظر في الثمار وصل إلى الحقيقة ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?!!
وتأمل الدقة في قوله تعالى : ?فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا? أي نخرج من النبات خضراً وخص ذلك (الخضر) بأن يخرج منه حباً متراكباً فالحديث عن الخضر لا عن النبات كله .
9-فلا أقسم بمواقع النجوم:
إن الناظر البدائي يظن النجوم قريبة ، وأنه إذا علا إلى رأس الجبل ربما لمس النجوم كما قال فرعون ?يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى?، غير أن التقدم العلمي جاء ليبين الأبعاد لمواقع النجوم وذلك ما جهله الإنسان طويلاً ، فالشمس تبعد عنا مسافة 93 مليون ميل تقريباً ويقطع الضوء هذه المسافة في ثمان دقائق؛ لأن سرعة الضوء (300) ألف كيلومتر في الثانية . والضوء يقطع المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا في مدة أربع سنوات وربع ، ومنها ما يبعد عنا مسافة يقطعها الضوء في مائة سنة ، ومنها ما يسافر منها الضوء إليها في ألف سنة ، ومنها ما يبقى الضوء مسافراً منها إلينا في مدة مليون سنة ، ومنها ما يبقى الضوء مسافراً منها إلينا في (340) مليون سنة ، ومنها ما يبقى الضوء مسافراً منها إلينا في مدة ملايين السنين!! أليس هذا كشف لما تضمنته الآية الكريمة من حقيقة بقيت مجهولة مدة طويلة . قال تعالى : ?فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ?[الواقعة: 75، 76] .
فمن أعلم محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة التي تعلن الآية جهل الناس بها وقت نزولها من العليم الخبير؟ ومن الأبعاد كما قررها العلم الجديد .
10-من جبال فيها من برد :(1/277)
?أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ?[النور: 43] .
لنترك تفسير هذه الآية لرئيس قسم الفلك بكلية العلوم جامعة القاهرة (الدكتور جمال الدين الفندي) فيقول : (قلت للطلبة : يجدر بنا أن نذكر هذه الآية ضمن المراجع العلمية بوصفها أول ما عرفنا من حقائق ، تتعلق بتلك السحب ، ويجب أن نوضح ذلك لعلماء الغرب ممن درسوا موضوع السحب وبحثوه وبالغوا فيه حتى يتبين لهم السبق العلمي للقرآن .
ومن مزايا السحب الركامية أنها قد تمتد رأسياً إلى علو خمسة عشر كيلو متراً أو أكثر، وبذلك يظهر لمن ينظر إليها عن بعد كالجبال الشامخة . وتتيح فرصة النمو في الاتجاه الرأسي نشوء السحب الركامية عبر طبقات من الجو تختلف درجات حرارتها اختلافاً كبيراً، فتنشأ بذلك الدوامات الرأسية ويتولد البرد، ولهذا فإن السحب الركامية هي وحدها التي تولد البرد وهذه الحقيقة في ذاتها تفسر لنا قوله تعالى : ?وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ?.
وعندما استخدم العلماء الرادار في تصوير مراحل تكون السحب الركامية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، تبين لهم أن السحب إنما تبدأ على هيئة عدة خلايا أو وحدات من السحب التي تثيرها تيارات الهواء ويعقب ذلك أن تتحد كل خليتين أو أكثر حسب الظروف مكونة السحب الركامية الممطرة، ورغم أن الإنسان لم يتوصل إلى هذه الحقيقة العلمية الرائعة إلا في الماضي القريب نجد أن القرآن يقررها في بساطة إذ يقول : ?أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا?.(1/278)
وهكذا يقرر لنا الجزء الأول من الآية مراحل تكون السحب الركامية ثم يخصصها بالنمو الرأسي حتى تصير كالجبال فعندئذ تجود دون غيرها من السحب بالبرد، وليس من اللازم أن يتساقط البرد من السحابة بمجرد تكونه إذ ربما يحول تيار الهواء الصاعد دون نزوله في مكان معين حتى إذا ما ضعف هذا التيار هوى البرد على هيئة ركام لا هوادة فيه ، وكأنما انفجرت السحابة، وهذا يفسر لنا المراد بقوله تعالى : ?فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ?.
ومن أعم صفات هطول البرد حدوث الرعد. ومرة أخرى نجد أن السحب الركامية النامية هي وحدها التي يمكن أن تتولد فيها عواصف الرعد وعندما تنظر إلى الآية الكريمة نجدها تقول : ?يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ? أي سنا برق البرد لأن البرد هو أقرب مذكور للضمير) . وهناك آيات كثيرة تتحدث عن حقائق كونية وكشف التقدم العلمي صدق ما جاء في حقائق القرآن ، ومع كل تقدم للعلوم نجد كشفاً جديداً لآيات أخرى وسبقاً علمياً جديداً للقرآن الكريم، وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف عن دقة تلك المعاني والألفاظ القرآنية مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علماً بكل شيء، وإن كان قد حدث جهل بفهم بعض ألفاظه ومعانيه فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لتعرف الإنسان بما جهل من كلام ربه .
ومن أمثلة ذلك:
1-قوله تعالى :?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ?[فصلت:11] .
فقوله تعالى ? وَهِيَ دُخَانٌ ? أي : أن السماء كانت دخاناً ، وإن البحث العلمي الآن ليقول : إن أصل الأرض ، ونجوم السماء هي السدم ، والسدم: عبارة عن غازات تعلق فيها بعض المواد الصلبة المظلمة، فليست كالنجوم مشعة مضيئة ، أليس أدق وصف لذلك هو وصف (دخان)؟!(1/279)
2-قوله تعالى : ? وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ?[الذاريات: 47] .
قرر علم الفلك الحديث بأن السماء لا زالت في اتساع دائم سواء في تكوين مدن نجومية جديدة باستمرار، أو في تباعد هذه المدن النجومية باستمرار .
3-قوله تعالى :? وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ?[الرحمن:7] .
اكتشف (نيوتن) أن في السماء قانوناً محكماً دقيقاً يحكم أجرام السماء هو قانون الجذب وأن محصلة هذا الجذب بين الكواكب هو الاتزان بينها (الميزان) ويعتبر اكتشاف الكوكبين (نبتون وبلوتو) نصراً للقانون الذي اكتشفه نيوتن ، فباستخدام ميزان الجذب حدد الفلكيون مواقع لكواكب (أورانس) ولكن بواسطة الرصد وجدوا مواقعه مختلفة فافترض الفلكيون وجود كواكب أخرى تؤثر بجذبها لأورانس ، وقد أمكن حساب مواقع الكوكب السيار نبتون في السماء في مقدار تأثيره على أورانس، وحدد الاتجاه الذي شوهد فيه بعد تقدم رسائل الرصد، تطبيقاً لقانون الجذب، وبالمثل في هذا الميزان أمكن اكتشاف السيار الآخر (بلوتو) فهل فهم الآن معنى قوله تعالى : ? وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ?؟!
4-قوله تعالى:? أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا(27)رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا(28)وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا(29)وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا(30)أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا(31)وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا?[النازعات: 27-32] .
في هذه الآيات ألفاظ قرآنية كشف التقدم العلمي عن مقدار دقتها:
(أ) السماء بناها:
أثبت التقدم العلمي أن أجرام السماء كأحجار في بناء واحد يشد بعضه بعضاً، ويقوم كل على الآخر فإذا اختل النظام في جرم أو أجرام اختل البناء كله .
(ب)رفع سمكها:
فلم يعرف الإنسان مقدار ارتفاع السماء إلا بعد كشف العلم عن مواقع بعض النجوم فعرفنا أن السماء مرتفعة وليست قريبة كما يظن النظر المجرد .(1/280)
(ج)وأغطش ليلها وأخرج ضحاها:
إن الأرض والشمس والنجوم كانت جميعاً شيئاً واحداً لا يتميز عليه ليل أو نهار، فلما حدث الانفصال وأخذت بعض الكواكب تبرد وتدور حول نفسها فببرودتها أصبحت معتمدة وبدور أنها أمام الشمس والنجوم المضيئة تميز عليها النهار ، كما تميز الليل. وهكذا تبين لنا دقة هذا التعبير.
(د)والأرض بعد ذلك دحاها:
دحاهاً : أي بسطها لتكون صالحة للإنبات ونفع الإنسان. ومن معاني الأدحية : البيض، ومن معاني دحا: دحرج. ويظهر أن الأرض عند انفصالها أخذت تدور وتتدحرج في مسارها ولا تزال تتدحرج وتتقلب وهي تجري في فلكها ومسارها، فهل تلقى هذه الحقيقة العلمية أوضح معنى من قوله تعالى : ? وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ?؟!
(هـ)أخرج منها ماءها:
فمن الأرض يخرج ماء المطر ولا يزال بعض الناس يظنون أن ماء المطر يسكب من خزانات في السماء وماء البحار الأول كان جزءاً من الأرض نتج عن التفاعلات الكيماوية أثناء تصلب القشرة الأرضية. ولقد كانت هذه التفاعلات بقدر معلوم لتنتج ماء بقدر مناسب .
5-? وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ?[يس: 39] .
هذه الآية تقرر حقيقة: هي أن سبب تغير شكل القمر في كل شهر هو تنقله في منازل معلومة حتى يعود هلالاً وهو المعبر عنه في الآية بـ(العرجون).
6-وقوله تعالى:? تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ?[الفرقان : 61] .
وقوله: ? هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ?[يونس:5] .وقوله : ? وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ?[نوح:16] .(1/281)
من الآيات السابقة نجد تفريقاً بين ضوأي الشمس والقمر، وهكذا كل آيات القرآن تصف الشمس بالسراج الوهاج المضيء، وأما القمر فلا تصفه بأنه سراج إنما تصفه بأنه منير، ونور. فما هو الفرق الذي توحي به الآيات.
وهل هناك مبرر لهذا التفريق الوارد في القرآن؟ لقد أثبت التقدم العلمي أن ضوء الشمس من ذاتها فهي سراج وأما القمر فليس ضوؤه من ذاته إنما هو قد أنير بضوء الشمس.
7-قوله تعالى:? وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ?[النحل:8] .
? وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41)وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ?[يس: 41، 42] .
فالآية الأولى تذكر أن هناك شيئياً آخر سيركبه الإنسان ويتزين به ، سوف يخلق والناس لا يعلمون به ، وأنه من جنس ما يركبه الإنسان ويتزين به من خير وبغال وحمير ، وجاءت الآية الثانية تقول بأن الله قد أعد للإنسان مركوباً كذلك الفلك المشحون، هو (من مثله) وإذا تأمل الإنسان في وسائل النقل الأولى لا يجد شيئاً قد ركبه الإنسان يشبه الفلك المشحون فما هو إذن؟
ولقد جاء التقدم العلمي بالجواب وعرفنا من وسائل المواصلات والزينة غير الخيل والبغال والحمير وعرفنا ما يشبه ذلك الفلك المشحون: من قطارات وحافلات (باصات) وطيارات وبواخر، فعرفنا جزءاً من المقصود بقوله تعالى ? وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ? وقوله سبحانه ? وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ? .
ورأينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال : (لتتركن القلاص(1)[50] فلا يسعى عليها) وها قد حلت وسائل النقل الحديثة مكانها .(1/282)
8-وقوله تعالى : ? يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ?[الزمر:6] .
ما هي الظلمات الثلاث التي ينطوي داخلها الإنسان في بطن أمه من طور إلى طور؟
سؤال عرفت إجابته بدقة بعد أن تقدم علم التشريح وكيف أن الغشاء اللفائفي، وكل من هذه الأغشية لا يسمح بنفاذ الضوء أو الماء والحرارة ، أفل يكون بتلك الخصائص ظلمة وتكون جميعها ظلمات ثلاث؟
9-قوله تعالى : ? أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ(3)بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ?[القيامة: 3-4] ، البنيان: هي أطراف الأصابع وتسويتها هنا معناها: إعادتها إلى هيئتها الأولى ، فأيهما أصعب : إعادة البنان أم إعادة العظام؟ قد يتساوى الأمران عند النظرة الأولى ، ولكن إذا عرفنا أن لكل إنسان رسماً خاصاً لبنانه لا يشابهه رسم لبنان أي إنسان آ×ر، وقد استخدمت بصمات البنان في التعرف على الشخصية .
إذا نحن عرفنا هذا عرفنا السر الذي اختفى طويلاً من معنى هذه الآية حيث يقول العليم الخبير لمن أنكر البعث: ? أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ(3)بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ? أيأن في قدرتنا ليس جمع العظام فحسب بل وما هو أكبر منه ، وأدق وهو تسوية البنان ، أي إعادة تلك البنان بخطوطها التي يتميز بها كل إنسان بانفراده . وما عرف الناس أن إعادة تسوية البنان كما كان هي أصعب من جميع العظام إلا في هذا الزمان، فما أعظم خلق الله وما أدق كلام الله!!
10-وقوله تعالى : ? وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ?[البقرة: 228] .(1/283)
أي تنتظر قبل أي عقد جديد للزواج ثلاث حيضات ، فلماذا لا يكون حيضة؟ أو حيضتين؟ إن القانون الفرنسي مثلاً يقول: (يجب على المرأة الأرملة أو المطلقة إذا أرادت الزواج أن تعتد لمدة قدرها ثلثمائة يوم من وقت الوفاة أو الطلاق إلا إذا ولدت لأقل من ذلك)؟ وهذه المدة تزيد على تسعة أشهر، إن الجواب قد جاء به التقدم العلمي حيث يقول الأطباء: إن الحيض ينقطع بمجرد الحمل، ولكنه في حالات نادرة قد ينزل مرتين ولكنه لا ينزل مع وجود الحمل ثلاث مرات أبداً. وبهذا تكون مدة ثلاثة قروء هي المدة المحددة الصحيحة المناسبة لتقرير حمل المرأة من عدمه على أساس متين وقاعدة وثيقة.
11-وقوله تعالى :? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ?[البقرة: 222] .
وصف طبيب أضرار نكاح الحائض فقال : وإنما حرم الجماع في زمن الحيض للأسباب الآتية:
1-إن تهيج أعضاء الأنثى بالجماع في هذا التوقيت يحدث احتقاناً يسبب التهابات رحيمة أو مبيضية أو حوضية تضر بصحتها ضرراً بليغاً . وربما نشأ عن هذا الالتهاب تلف في المبيضين أو في مجاري البويضة تؤدي إلى العقم: وأيضاً فإن تعرض الأنثى للهواء في هذا الوقت يضر بأعضائها الداخلية وقد يحدث فيها التهابات.
2-إن دخول مواد الحيض في مجرى قضيب الرجل قد يحدث فيها التهاباً صديدياً في بعض الأحيان، وهذا الالتهاب يشبه السيلان وقد يمتد إلى الخصيتين فيؤذيها وربما نشأ عن ذلك عقم الرجل.
ألا ما أدق التعبير القرآن الحكيم : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ?.
12-قوله تعالى :? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ?[البقرة:233] .(1/284)
في هذه الآية دعوة للأمهات للرضاعة مع تحديد المدة المثالية للرضاعة، وبتقدم العلم انكشف أن في الرضاعة فائدة للأم وولدها على السواء، ويشرح محمود وصفي ذلك فيقول: (إن مص الطفل من ذي أمه يعد من الضروريات اللازمة للإسراع بعملية الكمش (عودة الرحم إلى حالته الطبيعية) وهذه الانقباضات الرحمية التي تحركها الرضاعة، توقف كذلك أي ميل للنزف من الجيوب الوردية التي تنفتح بانفصال المشيمة وأغشيته الجنينية المختلفة، والرضاعة بجانب ذلك تسبب انقطاع الحيض عند المرضع الجيد.. كما أنه قد قيل : إن نحو ثلاثة أرباع الإصابات بضخامة الرحم إنما يرجع إلى إهمال الوالدات إرضاع أطفالهن.. وقد وجد كذلك أن الوالدات المصابات بأت نوع من أنواع الحمى المعدية قد يكون في مصلحتهن الاستمرار في الرضاعة ما دامت حالتهن العامة طيبة، ولا ضرر على الأطفال حينئذ إذ إنهم يحصلون على مواد في اللبن تحصنهم دون العدوى بالأمراض المصابة بها الأمهات.. كما أن الرضاعة تفيد الضعيفات والمصابات ببعض حالات في فقر الدم في كثير من الأحيان، وأما الطفل فيستفيد من رضاعته من أمه أجل فائدة. ولا شك أن لبن الأم يلائم حياة الطفل ملاءمة تامة فيزيد مقداره في الحجم وفي تنوع محتوياته حسب حاجاته، كما أنه تتوافر فيه المواد التي يستحيل أن تتوافر في غذاء واحد سواه) .
وأما الدكتور عبدالعزيز إسماعيل فيقول: (وقد تغيرت النظريات الطبية في هذه المدة فقد كان الأطباء ينصحون بالرضاعة مدة تسعة أشهر فقط، وأحياناً سنتين ولكن آخر تقرير في سنة 1933م عن فائدة الرضاعة الطبيعية للجسم والأسنان يقول: إن المدة يجب أن تكون فوق السنة ويستحسن أن تكون سنتين كاملتين) .(1/285)
13-وقوله تعالى:? قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[الأنعام: 145] .
هذه الآية الشريفة تحرم أكل الميتة في وقت كان العرب يبررون أكلها لكلام خادع مؤثر يقول: ما أماته الله خير مما أمتناه بأيدينا!! ولكن القرآن حرمه وجاء العلم يكشف لنا شيئاً من حكمه التحريم، فقد عرف الإنسان أن جثة الحيوان الميت مستودع لمختلف جراثيم التعفن التي توجد طبيعية في أمعاء الحيوان، وتغزو جميع أجزاء الجسم بمجرد الوفاة عن طريق الأوعية الدموية واللمفاوية. وبعض هذه الجراثيم تكون أثناء تكاثرها ـ توالدها ـ مواد ضارة ، كما تحدث مواد أخرى سامة نتيجة التحلل يظل مفعولها حتى بعد عملية الغلي ، هذا مع العلم بأن الذبح يخلص الجثة من الدماء المحتوية على المواد البولية ، وقد يتضاعف الخطر إذا كان موت الحيوان ناشئاً عن أمراض تنقل إلى الإنسان كأمراض السل والحمى القمحية وغيرها .
وحرم الدم المسفوح ، فبمجرد نزوله من الحيوان يتلوث بالجراثيم وتنمو فيه بسرعة فهو بيئة خصبة لنمو الجراثيم ، كما تفقد الكرات البيضاء مقدرتها على المقاومة إلى جانب أن الدم عسر الهضم جداً حتى إنه إذا بقي جزء منه في المعدة تقيأه الإنسان، أو يخرج مع البراز بدون هضم على صورة مادة لزجة سوداء، وفي أثناء مرور الدم في القناة الهضمية يتحلل ويتعفن وبذلك يضر الجسم، والدم يحمل البولينا وغيرها من المواد المختلفة عن الجسم ، وهي فضلات ، فلا يصح إعادتها إليه ، كما أن الدم يحمل سموماً أخرى يعمل الدم على التخلص منها أثناء الحياة .
وتحرم الآية لحم الخنزير ، وقد عرف من أضرار أكل لحم الخنزير ما يلي:(1/286)
1-أن آكل لحم الخنزير عرضة للغصابة بالدودة الشريطية وتقرر كتب الطب أن الإصابة بهذه الدودة تكاد تكون عامة في جهات خاصة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا ولكنها نادرة الوجود في البلاد الشرقية، لتحريم أهلها أكل لحم الخنزير .
2-ويتعرض آكل لحم الخنزير للغصابة بمرض (التوبخينا) الذي يسبب آلاماً شديدة للإنسان خاصة في عضلاته ، وأهم ما يذكر عن هذا المرض أنه لا علاج له لأسباب فنية ، كما أنه يستحيل كذلك الحكم على خنزير ما بأنه خال من هذا المرض لأسباب أخرى فنية كذلك، ولقد حاول قال الدكتور (شروف بيرون) في مقال له تحت عنوان (الإسلام وحفظ الصحة) : (كلما ألفت الحياة الإسلامية أعجبت بقواعد حفظ الصحة العجيبة التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمؤمنين... عد محمد صلى الله عليه وسلم من الأشياء النجسة : الخنازير والكلاب . ولماذا ذلك؟! لأن لحم الخنزير قد ينقل مرض (التراشينور) وهو مرض خطير ، وكثيراً ما يكون مميتاً ... وقد تنقل الكلاب ديداناً خطرة تقضي على حياة الذين تدخل أجسامهم.
الخلاصة :
القرآن الكريم كتاب هداية لحياة الناس وليس كتاباً للهندسة والفلك والكيمياء ، يجب أن نجد فيه كل ما يتعلق بهذه العلوم من حقائق.
وعد الله بأنه سيري الناس آياته في الآفاق وأنه سيعرفهم بها ، ولقد تحقق الوعد في مجال هذه الحقائق العلمية في زمن التقدم العلمي الذي كشف عن هذه الحقائق ، وعرف الناس صدق ما جاء في القرآن عنها ليعلموا أن القرآن نزل بعلم الله وأنه الحق من ربهم .(1/287)
من هذه الحقائق ما هو واضح وجلي كالإخبار عن انفصال الأرض عن السماء وأن الماء أصل الحياة، وأن اللبن يستخرج من بين الفرث والدم تباعاً، وأن من تصعد في السماء أصابه ضيق شديد في صدره ، وأن في البحر فرعين من الموج: موج داخلي في البحر، وموج فوقه على السطح، وأن الزوجية موجودة في النباتات الأرضية تنبت وفق أوزان من مواد محددة، وأن المصنع الذي تخرج منه الحبوب هو المادة الخضراء الموجودة في النبات، وأن مواقع النجوم عظيمة لا كما يسحبها البدوي، وأن السحب الركامية تتألف من أجزاء متناثرة فتكون كالجبال ، وهذا هو الشرط في وجود البرد، وأن نزول البرد لا يخضع لرسم جغرافي محدد وإنما تصريفه غير محدود. وهناك آيات قرآنية كشف التقدم العلمي عن معناها ودقة ألفاظها : كوصف السديم بالدخان ، وتوسيع السماء المستمر، ميزان الجذب الذي يربط أجرام السماء ويجعلها كالبناء ، وارتفاع السماء ، وتميز الليل والنهار بعد فترة لم يكن فيها تميز ، ودحو الأرض ودحرجتها، وإخراج ماء الأرض منها، والإخبار بأن سبب عودة القمر إلى هلال هو تنقله في منازل معلومة، والتفريق بين الشمس والقمر في نوع الضوء ، والإعلان عما سيكون من وسائل النقل، والظلمات الثلاث التي يحاط بها الجنين في بطن أمه، والحكمة من تعظيم تسوية البنان، والحكمة من تحديد ثلاثة قروء للمطلقة، والحكمة في وصف نكاح الحائض بأنه أذى ، والحكمة في حث الأمهات على الرضاعة ، وفي تحديد مدتها المثلى بعامين ، والحكمة في تحريم لحم الميتة ، والدم المسفوح، ولحم الخنزير. كل ما سبق يدل على أن القرآن وحي من عند الله، وليس من علم رجل أمي عاش في القرن السادس الميلادي .
شبهات وردود
كثرة الفاسدين:(1/288)
يقول بعض الجهلة : لماذا يرضى الله بوجود الأغلبية الكافرة من الناس؟ وإذا كان الإسلام هو الحق فلماذا لا يدين به أغلبية الناس؟ وقد يحاول بعض المضلين عناداً وحمقاً بقوله: إذا كانت الأغلبية ستدخل الناس فأنا أحب أن أكون مع الأغلبية .
والجواب:
ابتداء: من الخطأ اعتقاد أن الأرض مركز الكون، أو أنها شيء هام في هذا الملكوت، مع إجماع علماء الفلك على أن الأرض بين النجوم لا تساوي نقطة ماء في المحيط. وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها في هذا الملكوت العظيم ، وقد جاء في الحديث : ( أنه لو كان الإنس والجن أولهم وآخرهم على أكفر قلب رجل منهم ما نقص من ملك الله شيء ، ولو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد في ملك الله شيء) لأن الدنيا لا تساوي بأكملها عند الله جناح بعوضة .
ولقد جاء في الحديث: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر فيها شربة ماء) وإذن ماذا ينقص في ملك الله لو كان في الأرض أغلبية كافرة؟..
ولنتأمل في الأجيال السابقة : لقد فنيت من الدنيا فهل أنقض فناؤهم هذا من ملك الله شيئاً؟ وسيفنى بعدهم الآخرون ? فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ?.? إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ?[إبراهيم: 8] .
ثم إن الأمر بالنسبة للخالق مالك السموات الأرض ليس أقلية وأغلبية إنما الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء ، ومن أحسن فاز بالجنة ، ومن أساء فمصيره النار يستوي في ذلك القليل والكثير.
ولقد جاء في الأحاديث أن نسبة الذين يدخلون النار أول مرة 999 من كل ألف ثم يعذبون فيها بقدر ذنوبهم ، ويخرجون تباعاً إلى الجنة حتى لا يبقى فيها من كان يقول لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان. أما لماذا لا يعتنق الإسلام أغلبية الناس طالما أن الإسلام هو الحق؟ فأسباب ذلك كثيرة .(1/289)
والله لا يعذب أحداً من الناس لم يصل إليه دينه الحق ، قال تعالى :? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ?[الإسراء:15] .
ومع ذلك فالحق لا يعرف بالأغلبية والأقلية فكم من مبادئ كان السواد الأعظم من الناس يحاربها ، ويقف ضدها، ثم ما تمر سنوات حتى يعود ذلك السواد الأعظم إلى اعتناقها والافتخار بالانتماء إليها. لقد قال تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أجمعت الدنيا على محاربته عند تبليغه لرسالة ربه .? وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ?[الأنعام: 116] .أما ذلك الذي يعلن أنه مستعد أن يدخل النار مع الأغلبية فإنا نطلب منه أن يجلس على جمرة خمس دقائق!!إنه لا ولن يرتضي ذلك قط ،وحينئذ فإعلانه الرضا بنار وقودها الناس والحجارة?كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ?[النساء: 56] ضرب من العبث والدعاوي الكاذبة .
الإسلام والرجعية :
يقول أعداء الإسلام : إن الإسلام (رجعية) . والجواب على هذه الشبهة يبدأ بسؤال عن معنى الرجعية ومعنى التقدم؟
معنى التقدم والرجعية:
فإذا كان التقدم هو السعي الجاد لتغيير الأحوال الفاسدة في شتى مجالات الحياة، وتبديلها بأحوال صالحة فذلك هو ما يدعو إليه الدين الإسلامي من الحث على العمل، والتعاون على البر والتقوى وإعداد العدة، والحصول على القوة ونشر العلم، والتحلي بالفضيلة: من الصدق والأمانة والعفة والشجاعة والتواضع والكرم والحياء ومحاربة الرذيلة، حتى قال صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)، وقال : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) .(1/290)
وإذا كان التقدم هو تعمير المدن والقرى، واستخدام المعادن، وصنعة الطائرات والبوارج، وإقامة الجيش القوي المزود بأنواع القوة وتوفير وسائل العلاج، واستصلاح الأراضي وزراعتها فذلك ما يحثنا عليه ديننا ويدعونا إليه . أما إذا مسخ معنى التقدم فأصبح يعني الاستهتار والتهتك وتضييع العقول بشرب الخمر، وتدمير الأسر بالزنا، ونشر الرذيلة، وملازمة الفاحشة بالخلاعة والتبرج، وتدمير الأسر بالزنا، ونشر الرذيلة، وملازمة الفاحشة بالخلاعة والتبرج، والانحلال وتمزيق الشعب شيعاً وأحزاباً، وتبديل الإيمان بالله الحي القيوم بوثنية جديدة هي ألوهية الطبيعة الصماء البليدة التي لا تعقل ولا تفهم، والتنكر لحقوق الآباء والأمهات، والتعامل بالكذب والخديعة وثلم الأعراض بالغيبة والنميمة، فذلك ليس في نظر العقلاء إلا سفاهة وجنوناً. والإسلام يعتبره رجوعاً إلى الجاهلية الأولى ، وردة عن النور والهدى، وعلى ذلك فلا يكون رجعياً إلا من رجع عن دينه كله، أو عن أصل من أصوله، أو عاند الحق أو أضاع العقل.
الإسلام وضعف المسلمين:
وقد يقول جاهل : إذا كان الإسلام حقاً فلماذا نجد المسلمون اليوم في حال يؤسف له من التخلف العمراني والصناعي والحضاري؟ والجواب:
إنه ليس حال المسلمين حجة على الإسلام بل الإسلام حجة على المسلمين، دعاهم إلى الوحدة فتفرقوا، ودعاهم الإسلام إلى العلم فقعدوا عنه، ودعاهم إلى إعداد القوة للأعداء فناموا وتكاسلوا، ودعاهم إلى الحكم بالعدل فظلم بعضهم بعضاً، ودعاهم إلى محاربة نفوذ الكافرين فمال بعضهم إلى مواطنتهم ومودتهم وموالاتهم، ودعاهم إلى خلق كريم فمالوا إلى اللؤم والخسة، ودعاهم إلى استثمار خيرات الأرض فتهاونوا.. أما الآباء والأجداد الذين صدقوا في إيمانهم واستجابوا لنداء ربهم، فلقد كانوا خير أمة أخرجت للناس، ولقد أسسوا أعظم حضارة عرفها التاريخ. فتأخر المسلمين إذاً ليس إلا بعدهم عن تعاليم الإسلام.(1/291)
التعذيب والكتابة في اللوح:
ويقول بعض المرتابين: إذا كان الله قد كتب علينا في اللوح(1)[51]: أننا سنعمل الشر فلماذا سنعل الشر فلماذا يعاقبنا على ما قد كتب علينا؟ والجواب واضح: وهو أن علم الله السابق الذي كتب في اللوح لم ينزل إلى الأرض لإرغامنا على فعل الشر والخير حتى نحتج بهذا السؤال، فليس لعلم الله السابق وما كتب في اللوح قوة تسوقنا مكرهين إلى فعل الأشياء، بل علم الله السابق صفة انكشاف لما سنعمل بحريتنا لا صفة تغيير لأفعالنا ، وكل إنسان منا يشعر تمام الشعور أنه يمارس عمله بحرية تامة؛ ويشهد بذلك ما في جسم الإنسان من عضلات إرادية تعمل تحت إرادة الإنسان، وعضلات لا إرادية هي تلك التي لا دخل للإنسان في توجيهها ، كعضلة القلب , وعضلات المعدة . ولذلك لا ينبني على أعمال هذه العضلات اللاإرادية أي ثواب أو عقاب. فإذا علمت أن شخصاً قد مشى إلى عمل من خير أو شر فهل علمك يؤثر فيما عمله الشخص المذكور؟ كذلك فإذا فعلت خيراً مثلاً، وكتب شخص ما فعلت من خير ، فهل يقول أي عاقل : إن تلك الكتابة هي التي أرغمتك على فعل الخير؟ كلا. إن كتابة ذلك الشخص ليست إلا تسجيلاً لما فعلت، والكتابة في اللوح ليست إلا تسجيلاً لما ستفعل باختيارك، وليس من فرق بين التسجيل لفعلك قبل حدوثه ، والتسجيل بعد حدوثه إلا لذلك الفرق بين علم الله الواسع الشامل السابق، وعلم الإنسان المحدود اللاحق.(1/292)
تأمل إلى الأستاذ الحاذق الذي يعرف أحوال طلابه فلو أنه كتب قبل الامتحان أسماء الذين سينجحون وأسماء الذين سيرسبون في مذكرته ، فهل من الحق أن يأتي الطالب الذي رسب ويقول: يا أستاذ أنت كتبت أني سأرسب في الامتحان في مذكرتك فرسبت، سيرد عليه الأستاذ قائلاً: لا تجعل دقة تقديري وعلمي بأحوال طلابي عذراً لبلادتك وكسلك، إني علمت حالتك فقدرت نتيجتك ، ولكن ذلك العلم لم يجبرك على الإجابة في الامتحان ، بل لقد أجبت بمحض إرادتك، ولكني كنت أعلم بأحوالك فقدرت تقديراً صحيحاً فكان علمي سابقاً لأوانه .
وقد يسأل مرتاب قائلاً: إذا كان الله قد علم أني سأفعل شراً، لماذا لم يمنعني عنه؟ والجواب:
لو عرف هذا المغرور حقيقة طلبه لكف عن الطلب، ولعلم بسخف اعتراضه على خالقه الحكيم.(1/293)
إن السائل لهذا السؤال يريد من الله أن يخبره عن فعل الخير، وترك الشر. ومعنى ذلك: أن يسلب الله الإنسان أهم الخصائص الإنسانية، وهي خاصة الإرادة التي تفعل بها ما تشاء لأن الله إذا أرغم الإنسان على فعل الخيرات، وترك الشرور، فذلك معناه: سلب الإرادة والاختيار وتحويل الإنسان إلى آلة كالجماد الذي يتحرك دون إرادة منه أو تدبير. ولقد كرم الله بني آدم بمنحهم الإرادة وحرية الاختيار. وإن كان سبحانه يعلم ما سيفعل الخلق إلا أنه لم يشأ أن يعذبنا على ما يعلم منه، بل شاءت إرادته أن يكون الجزاء بعد فترة يظهر فيها العمل ، وتشهد به الأرض والملائكة والجوارح والثقلان بما لا يبقى معه أي سبيل للإنسان إلى تكذيبه أو إنكاره. وهل يستطيع كافر أن ينكر علم الخالق بما خلق؟ ? أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ?[الملك: 14] . ? يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ?[غافر: 19] . ? وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ?[طه: 7] . وما علينا إذا لم يقتنع المعاندون بعد ظهور الحق الأبلج، فقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : ? إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ?[الشورى:48] ? إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56] فيفترون بقولهم: إذا كان الله يهدي من يشاء فلماذا يعذبنا وقد أضلنا؟ ولو تدبر هؤلاء الزائغون آيات القرآن لوجدوا الجواب واضحاً جلياً. ولعلموا أنه لا سلطان لأحد على ربه، وأن معنى ذلك: هو أن الله يفعل ما يشاء لا ما يشاء غيره. فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ربنا هو العدل الحكيم سبحانه فلا يهدي إلا من عمل ما يستحق به الهداية. قال تعالى : ?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ?[محمد:17] ، وقال سبحانه ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ?[العنكبوت:69](1/294)
. كما إن مشيئة الله العادلة لا تضل إلا من يستحق الضلال. قال تعالى : ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ?[الصف:5] .
أين النار؟
وهذه شبهة تقول: إذا كان الله قد وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض ، فأين النار؟
والجواب: في مكان آخر يعلمه الله. ألا ترى أنه إذا جاء النهار ذهب الليل الذي كان يملأ الآفاق إلى جهة أخرى؟؟!
مفاتح الغيب:
لقد أمكن للإنسان أن يعلم على وجه التقريب بوقت نزول المطر خاصة بعد تقدم أجهزة المراصد؛ كما أشارت بعض الأخبار بأنه قد أمكن للأطباء تمييز جنس الجنين ذكراً أم أنثى، وذلك بعد عدد من الأشهر والجنين لا يزال في بطن أمه. ويحاول بعض أعداء الإسلام التشكيك في حديث رسول الله القائل: (خمس لا يعلمهن إلا الله)(1)[52] (2): ? إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ?[لقمان:34] . فزعموا أن الإنسان قد علم بأمور كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن علمها مما اختص به الله سبحانه. وتلك دعوى لا تقوم على أساس سليم. فعلم الساعة لا يزال مجهولاً عن الإنسان ، وإن كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأماراتها غير أن وقتها المحدد سراً لا يعلمه أحد غير الله، والله وحده هو الذي يعلم بوقت نزول الغيث ومدة نزول علماً بقيناً كما يعلم موقع كل قطرة، ومصيرها، وأثرها. وما سيئول إليه أمرها بل وما سيترتب على نزولها من نفع وهذا أمر لا يعلمه علماً يقيناً إلا أن سبحانه. والله وحده هو الذي يعلم علم اليقين ماذا في الأرحام في كل لحظة، وفي كل طور من فيض، وغيض، وحمل ، حتى في حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم، وهو وحده الذي يعلم ما هو مودع في تلك النطفة في ظلمات الرحم من مواهب وطاقات ، فذلك العلم الدقيق الشامل لما في كل رحم من الأرحام،(1/295)
هو مما يختص الله بعلمه سبحانه.
وقد يعلم الإنسان على وجه الترجيح أو الظن بعض ما سيكسب غداً. غير أنه لا يصل إلى درجة اليقين والإحاطة الشاملة بكل ما سيلاقية الإنسان فذلك أمر لا يعلمه بتمامه وكماله وشموله إلا الله.
فكم ظن إنسان أنه سيكسب خيراً في غده فكان مكسبه خسراناً، وكم تهيأ مسافرون لما سيعلمون بعد انتهاء السفر فانقطعت بهم وسائل السفر. وقد يعمل الإنسان أنه سيموت في بلد معين أو وقت قريب غير أن علم الإنسان لا يزال ظنوناً . وقد تصيب وتخطئ فهي والحال كما ذكرنا ظنون أو شبهات علوم لا تصل إلى درجة اليقين. كما أنها لا تصل إلى درجة الدقة والإحاطة.
وهكذا نجد صدق ما جاء في حديث الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في عصر بلغ فيه العلم الإنسان درجة عالية من الرقي ، فنجد العلم اليقيني الشامل الكامل في هذه الأمور الخمسة مما اختص به الله وحده. أما علم الإنسان فقد يعلم شيئاً ما وكم غابت عنه أشياء، ومع ذلك فعلمه كما سبق القول لا يصل إلى ذلك العلم الإلهي الشامل قال تعالى : ? وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا?[الإسراء:85] . ولا عجب في أن يعلم الله الإنسان ما شاء له أن يعلمه ، فإن للإنسان مكانة عظيمة عند الله لأنه خليفة الله في أرضه.
شبهة المطر الصناعي:(1/296)
عندما تمكن الإنسان من معرفة السنن الإلهية التي أجراها الله والأسباب والمسببات التي قدرها لإنزال المطر، أخذ الإنسان يحاول أن يستخدم هذه السنن على نطاق محدود لإنزال ماء السحب عند بروزها. فظن بعض الجهلة أن ذلك تطاول من الإنسان على قدرة الله، ومساواة بين الإنسان وخالقه وقالوا: إنه قد أصبح في مقدور الإنسان الأمر الذي كان في مقدور الله. وسبب ذلك الظن هو الجهل بمكانة الإنسان التي منحه الله إياها . ولنا أن نسأل الآن إذا كان ماء المطر عند نزوله على بذور في التربة، يسبب نباتها . فهل يكون الإنسان هو المنبت للبذور عندما استخدم السنن الإلهية بسقي البذور فتنبت؟! كلا.
ألم يعلم هؤلاء أن الله هو خالق الأشياء وأسبابها وأقدارها، وأن الإنسان هو خليفة الله في هذه الأرض الذي يستخدم هذه السنن والأقدار، بما أودع الله فيه من قدرة على الاستخلاف تفوق بها على الملائكة وهي قوة العلم والمعرفة. وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يعمل ما يسبب نزول المطر فليس ذلك كما يستحث الإنسان إخراج الثمار والأشجار من البذور المخزونة ووضعها في التراب وسقيها بالماء كما قدر الله سبحانه ، وبالقوة التي أودعها الله في الإنسان.(1/297)
غير أن القرآن لا يحرم على الإنسان إنزال المطر، كما إن الله هو الذي يزرع الأشجار والنباتات بتقديره وقدرته، إلا أن ذلك لا يحرم على الإنسان أن يقوم باستخدام أقدار الزراعة وسننها في زراعة الأرض ، بل إن على الإنسان أن يعرف المكانة التي منحه الله إياها وذكر ذلك في كتابه بقوله : ?إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ?[البقرة:30] . وقال تعالى : ? وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ?[الجاثية:13] فإذا حقق الإنسان تقدماً وسخر شيئاً لخدمته فليذكر نعمة ربه عليه وليشكره؛ فما حصل على شيء من ذلك إلا باستخلاف الله له، وتسخيره له. ويحسن أن نذكر هنا كلمة عالم مختص في هذا الموضوع هو الدكتور محمد جمال الدين الفندي أستاذ الفلك والطبيعة الجوية بكلية العلوم بجامعة القاهرة الذي يقول : (إن الظروف الطبيعية التي تؤدي إلى تكوين المزن ونزول المطر لا يمكن أن يصنعها البشر، بل وحتى لا سبيل إلى التحكم فيها. ولا يزال موضوع المطر الصناعي(1)[53] واستمطار السحب العابرة ـ مجرد تجارب لم يثبت نجاحها بعد ، وحتى إذا ما تم نجاحها فإن من اللازم أن توفر الطبيعة الظروف الملائمة للمطر الطبيعي حتى يمكن استمطار السماء صناعياً أي إن واجب علماء الطبيعة الجوية لا يتعدى قدح الزناد فقط ، بتوليد حالات من فوق التشبع داخل السحب الركامية ، وعلى الأخص داخل المناطق(2)[54] نفقط الماء فوق البرد) .
الإسلام وغزو الفضاء :(1/298)
يرى بعض الجهلة أن محاولات الإنسان لغزو الفضاء فيه زعزعة للدين ، وتمرد على الخالق الذي أوجد الإنسان. كما يرون أن هذه المحاولة لم تكن في حساب الدين ولم يشر إليها مطلقاً، الأمر الذي يوجد الحيرة في نفوس المتذبذبين القاصري الفهم؛ فلا يدرون كيف يحددون موقفهم أمام هذه المحاولة!! والواقع أن تطلع الإنسان إلى استكشاف هذا الكون ليس فيه ما يزعزع العقيدة الصحيحة في نفس الإنسان ، وليس تمرداً على دين الإسلام بل إن فيها ـ في الحقيقة معجزة لنبيه عليه الصلاة والسلام وتصديقاً لما جاء في كتابه العزيز عن إحاطة الله سبحانه بكل ما كان وسيكون من أمر الإنسان قال تعالى ? يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ?[الرحمن:33] وقال تعالى : ? وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ?[الملك من 5] فإذا عرفنا أن النجوم لا تزال في مجال السماء الدنيا أي السماء القريبة من الأرض، وإذا عرفنا أيضاً أن علم الإنسان لا يزال محصوراً في نطاق النجوم التي هي زينة السماء الدنيا، وأن المحاولات مستمرة في اكتشاف نجوم جديدة مهما كبر الإنسان أجهزة الرصد لديه ـ مع العلم أن بيننا وبين بعض هذه النجوم مسافة لا يقطعها الضوء إلا في ستة بلايين سنة ضوئية ، والضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلثمائة ألف كيلو متر ـ فإذا عرفنا هذا وتأملنا القرآن الكريم وجدناه يخبر ـ قبل أربعة عشر قرناً ـ بأن الإنسان سيحاول النفاذ والخروج من أقطار السموات والأرض، كما حاول الجن من قبلهم ولم يستطيعوا تجاوز المنطقة الحرام التي يسترقون فيها السمع من الملأ الأعلى، وأشار القرآن إلى أن المحاولة لن تكون إلا عندما يكون لدى الإنسان سبب يمكنه من النفاذ ، ووسيلة بها يصعد في السماء، وليس ذلك السبب أو الوسيلة(1/299)
إلا نعمة من نعم الله . قال تعالى :
? يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ?[الرحمن: 33]
? فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ? كما أخبر القرآن أن المحاولة ليست فرضاً وإنما ستكون فعلاً ولكنها لن تنجح حتى يتمكن الإنسان من الخروج من نواحي وجهات السموات لسبع، بل إن المحاولة ستمنع عند مكان معين وستفشل بفعل شروط النار والنحاس اللذين يرسلهما الله سبحانه قال تعالى ـ بعد الآيتين السابقتين: ? يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ? غير أن الآية لم تحدد المكان الذي ستنطلق منه هذه الرجوم السماوية بمهاجمة الإنسان منه عند محاولته اختراق أقطار السموات السبع. علماً بأن الآيات في سورة الجن قد بينت الحدود المحرمة التي وصل إليها الجن من قبلنا. وهم الذين أشركوا مع الإنسان في الخطاب الذي حكته الآيات السابقة. فآيات سورة الجن بينت أن الجن من قبلنا قد قعدوا مقاعد في السماء لاستراق السمع من الملأ الأعلى قال تعالى حاكياً عن الجن: ? وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8)وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ?[الجن: 8، 9] .(1/300)
وإذن فالمجال أمام الإنسان مفتوح لغزو الفضاء ، وله أن يتخذ من القمر أو المريخ أو غيرهما من الكواكب مقاعد. حتى إذا بلغ به الأمر أن يصل إلى منطقة يتمكن فيها من استراق السمع من الملأ الأعلى فلا شك أنه عندئذ سيجد ما وجد سلفه الجن شهاباً رصداً ? يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ? وبهذه الآيات يكون القرآن أول من أخبر عن احتمال أو إمكان غزو الإنسان للفضاء في وقت كان فيه الغزو أمراً مستعجلاً ، مما يشهد شهادة قاطعة بأن هذا القرآن وحي الله الذي يعلم السر في السموات والأرض.
كروية الأرض ودورانها :
هناك من يقول : إن القرآن قد وصف الأرض بأنها مسطحة. بينما أثبت العلم أنها كروية، فقد جاء في القرآن قوله تعالى : ? وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ? كما أن القرآن لم يخبر بدوران الأرض . ومثل هذا القول لا يدل على عمق في تدبر آيات القرآن الكريم ، ولهذا فلا بد من نظرة تأمل عميقة لقول الله عز وجل: ? أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ?[الغاشية: 17-20] .(1/301)
فهذه الآيات تحث الإنسان على التفكر والتدبر في الكيفية التي تخلق بها الإبل ، والكيفية التي رفعت بها السماء، والكيفية التي نصبت بها الجبال ، والكيفية التي سطحت بها الأرض . والآية صريحة في حض الإنسان على التأمل والتفكر في مواضيع هامة تعرف اليوم بعلوم الحيوان، والفلك ، والجيولوجيا، والجغرافيا ، والإشارة إلى سطح الأرض في الآية حث على التفكر في الكيفية التي نسق بها كل ما على سطح الأرض: من بحار ، ويابس ، وجبال ، ووديان وعيون وأنهار، وصحاري، وجليد ، ومناطق حارة ومناطق باردة ، وغير ذلك من خصائص سطح الأرض ، فالحث على التفكر في سطح الأرض ليس فيه معنى يدل على عدم كروية الأرض، بل إن أكثر من آية قرآنية تدل بوضوح على أن الأرض ذات سطح كروي ، قال تعالى ? يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ?[الأعراف: 54] وقال سبحانه : ? وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ?[يس:40] ومن هاتين الآيتين يعرف أن الليل والنهار يجريان في تتابع بحيث لا يسبق أحدهما الآخر ، وأن كلاً منهما يحل محل الآخر، ومن المعلوم أن هذا التتابع على الأرض، وعليه فإما يكون هذا التتابع في خط مستقيم أو في خط دائري ، فإذا كان تتابع الليل والنهار في خط مستقيم، فإنه لن يحدث على وجه الأرض إلا ليل واحد، ونهار واحد مما يجعل التتابع على وجه الأرض المشار إليه مستحيلاً، وإذاً: لا يمكن إلا أن يكون تتابع الليل والنهار على الأرض في شكل دائري كما يشير إليه بدقة قوله تعالى : ? يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ? والتقليب يعني الدورة بشكل دائري لا السر في خط مستقيم ويزيد الأمور وضوحاً قوله تعالى : ? يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ?[الزمر:5] ولا يكون تكوير إلا على سطح كروي دائري، ومن المعلوم أن الليل والنهار يكوران على الأرض. ومن هذه الآيات تتضح لنا الصورة(1/302)
الكروية للأرض والتي لم تعرف إلا في هذا الزمان، وصدق الله العظيم القائل: ?وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ? وقال تعالى : ? سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ? أما دورة الأرض فيوضحها قوله تعالى ? وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ? والدحو لغة : الدحرجة. والدحرجة تعني الدوران . وقد رأى بعض المفسرين أن قوله تعالى : ?وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ?[النمل: 88] إشارة صريحة إلى أنه دوران الأرض، وأنكروا أن يكون ذلك يوم القيامة ، لأنه لا يبعث الإنسان إلا بعد أن تكون الأرض قاعاً صفصفاً فلا يتمكن من الرؤية فيها . قال تعالى : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ?[طه: 105-107] .
الشمس تجري:
ظن علماء القرن الثامن عشر والتاسع عشر أن الشمس ثابتة لا تتحرك وتبعهم بعض المرتابين في دينهم وتشككوا في قوله تعالى : ? وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ?[يس: 38] حتى جاء التقدم العلمي فكشف خطأ ما ذهب إليه علماء القرنين الماضيين ، وأثبت أن الشمس تجري حول مركز المجرة التي تعتبر أرضنا جزءاً منها ، والتي تدور كما يدور الرحى. فعرفنا بذلك شيئاً من معنى قوله تعالى ? وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ? كما ثبت أخيراً أن للشمس حركة حول نفسها فهي تجري ولكن حول نفسها . وقد يكون للآية معان كثيرة غير ما اتضح حتى الآن .
أرنا الله جهرة :(1/303)
وهذا مرتاب آخر يؤمن بعقله وبالجاذبية ، وأمواج الراديو، وبوجود من صنعوا الآلات المختلفة وهو لم ير شيئاً مما سبق، وحين نوقش في قضية الإيمان بالله اشترط أن يرى الله لكي يؤمن به لا يؤمن ـ حسب زعمه ـ إلا بما يرى . فإذا سألته، وكيف آمنت بما سبق الإشارة إليه؟ أجابك: لأني لمست آثارها أو سمعت عنها من مصادر موثوقة . فلو سألته: ولماذا آمنت بها دون أن تراها؟ لأجابك بأن بصره محدود في مجال عمله وقدرته، ولا يستطيع الإحاطة برؤية كل شيء. ولو أن مثل هذا الإنسان فكر بعقل ووعي لأدرك أن لله علامات وآثاراً في مخلوقاته تدلنا عليه ، كما دلنا تحرك الأجسام إلى أسفل نحو الأرض على جاذبيتها، ودلتنا عليه ، كما دلنا تحرك الأجسام إلى أسفل نحو الأرض على جاذبيتها ، ودلتنا تصرفات الإنسان العاقلة على عقله ، بالإضافة إلى أن لله رسلاً أظهروا بينات صدقهم فصدقناهم وآمنا بربنا. فمن اغتر ببصره وأصر على أنه يريد أن يرى الله فيجرب النظر مدة دقيقة إلى الشمس وهي في كبد السماء وسيجد أنه لا يتحمل ذلك ، فإذا كان بصره لا يحتمل نور الشمس فكيف يحتمل رؤية من هو نور السموات والأرض؟!
عذاب القبر بعد احتراق الجثة:(1/304)
وقد تساءل بعض الناس قديماً عن عذاب القبر الذي يكون على الميت الذي أكلته السباع أو أحرقته النار أو غرق في البحر، وقد أجاب علماء المسلمين على ذلك: بأن ذلك أمر لا يعجز القدرة الإلهية؛ فإن الروح بعد أن تفارق الجسد تعود لتتصل به أحياناً فيكون النعيم أو العذاب وقد يكون بكل الأجزاء أو ببعض الأجزاء ولو كانت تلك الأجرام قد فتتت على وجه الأرض أو أحرقت وسحقت ونسفت في الهواء ، فليس على الله ببعيد أن يصل الروح مرة ثانية في كل جزء من الأجزاء، وإذا كنا نشاهد اليوم من أنه قد أصبح في مقدور الإنسان أن ينقل نبرات صوته إلى كل مذياع (راديو) يوجد على مسافات بعيدة على وجه الأرض وأين ما كان ذلك المذياع في داخل البيوت أو الطائرات أو الغواصات تهتز كلها في لحظات وجيزة بنبرات واحدة. كما أ، بعض العلماء كابن حزم وابن هبيرة قد قالا : العذاب يكون على الروح التي تفارق الجسد فقط، وإذن فلا محل للسؤال وفقاً لهذا المذهب إلا أن جمهور العلماء قد اتفقوا على أن العذاب بعد الموت يكون على الجسد والروح معاً. وإن كنا لا ندرك أثر العذاب فليس ذلك إلا كاختفاء آلام النائم وعذابه أو فرحه وسروره وبالرغم من أنا لا نشاهد عليه أثراً مشاهداً .
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم:
وهذا سؤال يردده المتشككون من قديم وهو: كيف يبعث الله رجلين أكل أحدهما الآخر، كيف يكون الحساب لكل منهما؟ والجواب: أن قدرة الله لا يعجزها شيء، ذلك إيمان المسلم بربه ، غير أن الله قد بين للذين يتشككون فقال سبحانه:
? بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2)أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3)قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ?[ق: 2-4] .(1/305)
وهذه الآية تنطق بأن الأرض تأكل من الأجسام ، ومعنى ذلك أنه ربما تحول بعض تلك الأجسام إلى نبات ثم إلى غذاء ثم إلى جسم شخص آخر، لكن القرآن يوضح أن هناك كتاباً(1)[55] يعلمه الله يحفظ كيان إنسان مستقلاً غير متداخل بغيره. كما أن الرسول قد أخبر بأن عجب الذنب لا يبلى؛ أي لا تأكله الأرض ولا الدود، وقد يكون الذي لا يبلى من عجب الذنب جزءاً صغيراً جداً يحتوي على كل خصائص الإنسان فيكون ذلك الجزء الصغير هو لما أشارت إليه الآية، ويكون هذا الجزء في الإنسان بمثابة تلك البذرة الصغيرة للشجرة الكبيرة ، فقد تنتهي الشجرة الضخمة بفروعها وأوراقها وجذورها وتبقى تلك البذرة الصغيرة سليمة حتى إذا نزل المطر أنبتت وأعادت تلك الشجرة الضخمة وكذلك الإنسان قال تعالى : ? يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ?. فينزل الله مطراً يوم القيامة كما جاء في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فتنبت هذه الأصول الإنسانية التي لم تبل بريح أو مطر أو نار أو غير ذلك وينبت منها الإنسان كما تنبت الأشجار . ولا عجب أن يكون الإنسان مخزوناً بكل صفاته في حجم صغير جداً كالبذرة أو الخلية أو ما هو أصغر؛ فإننا قبل أن نولد قد كنا مخزنين في تلك الحاملات الوراثية الصغيرة التي يقول عنها العلم اليوم: وتبلغ (الجينات) (وحدات الوراثة) من الدقة أنها ـ وهي المسئولة عن المخلوقات البشرية جميعها التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وأجناسها ـ لو جمعت ووضعت في مكان واحد لكان حجمها أقل من حجم الكستبان (الكستبان: هو ذلك الغطاء المعدني الذي يضعه الخياط على إصبعه).(1/306)
وخلاصة القول : أن الله قادر على كل شيء ، كما لا يعجزه الإبقاء على شخصية كل إنسان مستقلة من كتاب حفيظ قد يكون في عجب الذنب وحده، وقد يكون شيئاً آخر بجانب عجب الذنب لا تؤثر فيه عوامل الإفساد والتحلل، ومنه يعود تكوين الإنسان مرة ثانية والله على كل شيء قدير؟
ظنون دارون وأسباب انتشارها
الدين الباطل:
عندما حرف النصارى دينهم ، وبدلوا ما أنزل الله إليهم أرسل الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم لهداية الناس، وتصحيح ما حرف النصارى ، وبيان ما بدلوا فآمنت طائفة منهم، وكفرت طائفة ولم يزل النصارى على باطلهم حتى أذن الله أن يكشف ذلك الباطل من الدين الذين هم عليه على يد جماعة منهم، وكان ما شاء الله ، فخرجت طائفة من علماء الطبيعة على قومهم تنادي فيهم أن علومهم الطبيعية قد كشفت زيف ذلك الدين وباطله لكن هذه الطائفة لم تنج من بطش القسيسين ، ولا من إيذاء الكنيسة التي حكمت عليهم إما بالحرق أو إهدار الدم أو السجن. وهكذا نشبت معركة حامية قاسية بين رجال الدين الباطل، وعلماء الطبيعة استخدم كل فريق منهم كل حيلة ، وشهر كل سلاحه في وجه خصمه، وفي خضم هذه المعركة القاسية ظهر (دارون) بنظرية التطور.
نظرية التطور:
تزعم هذه النظرية أن أصل المخلوقات حيوان صغير نشأ من الماء ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغيرات في تكوينه مما أدى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن ، أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في الأبناء حتى تحولت مجموعة هذه الصفا الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كبيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقاً أرقى، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان.
أساس النظرية :(1/307)
1- تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن (دارون) من الحفريات الأرضية فقد وجدوا أن الطرقات القديمة تحتوي على كائنات أولية وأن الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى. فقال (دارون) إن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى.
2- وتعتمد أيضاً على ما كان معروفاً في زمن (دارون) من تشابه جميع أجنة الحيوانات في أدوارها الأولى ، مما يوحي بأن أصل الكائنات واحد كما أن الجنين واحد وحدث التطور على الأرض كما يحدث في أرحام الكائنات الحية.
3- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات وليس لها الآن عمل في الإنسان مما يوحي بأنها أثر بقي من القرود لم يتور ، لأنها بدورها في حياة القرود الآن .
شرح (دارون) لعملية التطور وكيف تمت:
1- الانتخاب الطبيعي : تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية ، وذلك ما يسمى بزعمهم بقانون (البقاء للأصلح) فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته جديدة في الكائن وذلك هو (النشوء) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى وهكذا يستمر التطور . وذلك هو الارتقاء .
2- الانتخاب الجنسي : وذلك بواسطة ميل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح، فنورث بهذا صفات الأصلح ، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره.
3- كلما تكونت صفة جديدة ، ورثت في النسل .
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية:
1- علم الحفريات لا يزال ناقصاً فلا يدعي أحد أنه قد أكمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار، فلم يجد شيئاً جديداً ينقض المقررات السابقة .(1/308)
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإن وجود الكائنات الأولى البدائية أولاً ، ثم الأرقى ليس دليلاً على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الأدنى ، بما هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود ، وإذا كانت الحفريات في زمن (دارون) تقول : إن أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة فإن الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدرت أن عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين . أليس هذا أكبر دليل على أن علم الحفريات متغير لا يبنى عليه دليل قطعي ، وأنه قد يكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنا نؤمل؟
وليس هناك دليل على أن الظروف الطبيعية تنشيء صفات جديدة متسقة محكمة كما أن علم الحفريات (على افتراض صحة وثبات الترتيب الذي فيه) فإنه يعطي نتيجة واحدة هي : أن الحيوان الأرقى جاء في الحيوان الأدنى .
فمثلاً لو أن باحثين في طبقات الأرض جاءوا بعدنا بعد مليون عام، فعثروا في الطبقات الأولى على بقايا عربة يد ، وفي الثانية بقايا عربة خيل، وفي الثالثة بقايا سيارة حديثة ، وفي الخامسة بقايا طائرة حديثة ، وفي السابعة بقايا صاروخ ، وفي الثامنة بقايا سفينة فضائية ، فهل يدل هذا الترتيب الزمني في الظهور على أن عربة اليد قط تطورت بفعل الظروف الطبيعية إلى سفينة فضاء؟
أم أن هذا الترتيب الزمني يدل فقط على أن عربة الخيل جاءت بعد عربة اليد، وليس منها. وكذلك الترتيب الزمني لوجود الكائنات الأرقى بعد الأدنى لا يدل على أن الأرقى جاء بعد الأدنى ولا يدل على أنه تطور منه كما زعم دارون .(1/309)
يقول (البروفيسور كيث) : إننا لا نستطيع أن نسبب الإنسان إلى أي من هذه الأنواع. أما البروفيسور (و. برانكو) فيقول : إن علم (الباليونتولوجيا) لا يعرف للإنسان أسلافاً، إن ما يسمى بإنسان جاوه الذي اكتشفه (دبوا سنة 1891) ليس الذي يدندن حوله النشوئيون وليس كما يصفه النشوئيون فلقد أثبت (البروفيسور فيرشو) في المؤتمر الثالث الذي انعقد في (ليد) بأن عظمة الجمجمة التي تنسب إلى إنسان جاوه ما هي إلا قطعة من جمجمة شمبانزي وأن عظمة الفخذ هي الرجل.
أما إنسان (بيلتدون) فقد جمع من شظايا جمجمة إنسان ، وفك من بقايا شمبانزي كما أثبت ذلك التقرير الذي وضعه البروفيسور (هردليكا) أما أرثر كيث فقد أكد أن ضم هذه الشظايا يفترض أنها لمخلوق لا يستطيع أن يتنفس أو يأكل، ويؤكد (البروفيسور فيرشو) أن فكرة القرد ـ الإنسان هي محض خرافة .
يقول الدكتور (سوريال) في كتابه (تصدع مذهب دارون):
1 - إن الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء ، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فسحب ، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوة ولا بين المفصلية ، ولا بين الحيوانات اللافقرية والفقرية ، ولا بين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخيرة والزحارف، والطيور، ولا بين الزحافات والحيوانات الأديمية وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية.
ويقول الكونت دي نوي: (كل مجموعة، كل فصيلة تبدو وكأنها جاءت إلى الوجود فجأة إننا لم نعثر على أي شكل انتقالي، ومن المستحيل أن نسبب أي مجموعة حديثة إلى أخرى أقدم) .(1/310)
يقول الدكتور (جمال الدين الفندي) أستاذ الفلك في كلية العلوم بجامعة القاهرة : (إن من الأدلة التي تنفي نظرية دارون أن عمر الأرض كما قدره الفلكيون والطبيعيون لا يربو على ثلاثة بلايين سنة بينما يقدر علماء الحياة أن المدة اللازمة لتطور الأحياء على الأرض إلى حين عصور الحياة القديمة تزيد على سبعة بلايين سنة بمعنى أن عمر الأرض لا بد أن يكون عشرة بلايين سنة أي ضعف عمر الشمس.
2 – تشابه أجنة الحيوانات:
ذلك خطأ كبير وقع فيه نتيجة لعدم تقدم الآلات المكبرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنة المتشابهة العالم الألماني (أرنست هيكل) فإنه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنه اضطر إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المائة من صور الأجنة لنقص الرسم المنقول.
وقال: (عدداً من رسومي كانت تزويراً محضاً .. وإن مئات من علماء الحيوان قد ارتكبوا نفس الخطيئة) جاء هذا في مجلة (الجماين زيتونج ـ ميونخ) .(1/311)
3 – أما وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلاً قاطعاً على تطور الإنسان من القرد ، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجد الذي كان اعتماده على النباتات ، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات . ولقد عرف أخيراً أن الزائدة تقوم بوظيفة صمام أمن ضد العفونات في الأمعاء . كما أن العلم قد يكشف أن لها حكمة أخرى لا تزال غائبة عنا حتى اليوم . فالعلم كل يوم إلى ازدياد ، وإذا كانت الخنوثة صفة من صفات الكائنات الأولية الدنيا، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية ، فإن الثدي من أمارات الأنوثة ، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان ، في حين ذكور وذوات الحافز كالحصان والحمار لا ثدي لها إلا ما يشبه أمهاتها. فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان،و لم يبق فيما هو أدنى منه؟ مع أن (دارون) يزعم أن الإنسان تطور مما هو أدنى منه. ويقول البروفيسور (أ.س . جودريتش) من جامعة أوكسفورد: (من الحماقة القول بأن أي جزء من جسم الإنسان لا فائدة له) .
تنفيذ شرح دارون لعملية التطور:(1/312)
1 – يقو (دارون) : إن هناك ناموساً أو قانوناً يعمل على إفناء الكائنات الحية فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه فتتراكم الصفات القوية حتى تكون حيواناً جديداً . وحقاً هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها ، لأن الله قدر الموت على كل حي، إلا أن نظاماً وناموساً يعمل بمقابلة هذا النظام، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن؛ لأن الله قدر الحياة فهيأ أسبابها ، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنبات والجاذبية كل هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات ، فالنظر إلى عوامل الفنا وغض النظر عن عوامل البقاء يحدث خللاً في التفكير، فإذا كان هناك سنة للهلاك فهناك سنة للحياة ولكل دور في هذه الحياة ، وإذا كانت الظروف الطبيعية : من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعه ، كطمس عين أو تهديم بناء فإنه من غير المعقول أن تقدر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة البليدة أن تنشئ عيناً لمن لا يملك عيناً، أو تصلح بناء فيه نقص. إن العقل يقبل أن تكون الظروف الطبيعية صالحة لإحداث الخراب والهلاك، لكنه من غير المعقول أن تكون هذه الظروف صالحة لتفسير الخلق البديع والتصوير والتكوين المنظم المتقن. إن أي عضو من أعضاء الكائنات الحية قد رسم بإتقان ، وكون بنظام ، ورتبت أجزاؤه بحكمة بالغة محيرة ، ونسق عمله مع غيره في غاية الإبداع . ومن المحال أن ينسب ذلك الإتقان والنظام البديع إلى خبط الظروف الطبيعية العشواء .
ويقول البروفيسور لوك من جامعة (كمبردج) : (إن الاختيار سواء كان طبيعياً أو صناعياً لا يمكن أن يخلق شيئاً جديداً) .(1/313)
قال (جمال الدين الأفغاني) في كتابه (الرد على الدهريين) بعد نقاش لهذه النظرية : (وبعد ذلك فإني سائلهم كيف اطلع على جزء من أجزاء المادة مع انفصالها على مقاصد سائر الأجزاء وبأية آلة أفهم كل منها باقيها بما ينويه من مطلبه؟ وأي برلمان أو سينات ـ مجلس الشيوخ ـ عقدت لإبداع هذه المكونات العالمية التركيب البديعة التأليف؟ وأنى لهذه الأجزاء أن تعلم وهي في بيض العصفور ضرورة ظهورها في هيأة الطير يأكل الحبوب، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته؟! إن هذا المبدأ الذي أطلقه (دارون) (البقاء للأصلح) قد دمر الحياة البشرية ، لأنه أعطى المبرر لكل ظالم فرداً كان أو حكومات، لأن الظالم وهو يمارس غضبه وظلمه وحربه ومكره لا يمارس رذائل خلقية إنما هو يمارس قانوناً من قوانين الفطرة كما زعم (دارون) إنه يمارس قانون البقاء للأصلح وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة (الاستعمار كل بشاعته) .
2 – أما الانتخاب الطبيعي الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القوية مما سبب اندثار الأفراد الضعاف ، وبقاء الأقوى فليس ذلك دليلاً على حدوث تطور في النوع، بل يفهم منه بقاء النوع من نفس النوع اندثار النوع الضعيف . أما إذا قيل : بأن تطوراً يحدث على كائن ما فإنه يحدث فيه فتوراً جنسياً لأن الألفة بين الذكور والإناث تنقص بقدر التباعد والاختلاف بينهما في الشكل . ذلك ما يقوله (دويرزانسكي) أشهرا المختصين بالجيولوجية النوعية عام 1958م بعد قرن من (دارون) : المخالفة في الشكل تضعف الميل التناسلي منه ، فالميل إلى التناسل يضعف بين الأشكال والأنواع المختلفة بقدر ذلك الاختلاف . وليس صحيحاً أن الصفات الحسنة في فرد من الأفراد تنقل بواسطة الوراثة ، فمثلاً هذا الحداد قوي العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته، كما أن العالم الغزير العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه.(1/314)
3 – أما القول بحدوث نشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ثم توريثها في النسل فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث . فكل صفة لا تكمن في الناسلة ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة . يقول الأستاذ (نبيل جورج) أحد ثقات هذا العلم : إن الانتخاب الطبيعي لأجل هذا لا يصلح لتعليل مذهب النشوء ـ أو مذهب التطور ـ لأنه يعلل زوال غير الصالح ولا يعلل نشأة المزايا الموروثة بين الأفراد، والقائلون بالطفرة يقصدون أن الحيوان الذي لم يكن له عين ، فجأة بواسطة بعض الأشعة تكون له تلك العين!(1/315)
فقد ثبت لدى المختصين أن الأشعة السينية تغير العدد في الناسلات لكن أثر الأشعة تغيير لما هو موجود لا لإنشاء ما ليس له وجود، فعدد ناسلات القرد غير عدد ناسلات الإنسان، والأشعة لا تؤثر إلا في الناسلات الموجودة فضلاً عن أن تحدث هذه الأشعة التي لا عقل لها ولا إدراك. عقلاً للإنسان يمتاز به عن القرد وغيره من سائر الحيوانات. إن الأشعة تؤثر على الناسلات تأثيراً أقرب إلى التشويه منه إلى الإصلاح كما يحدث من الأشعة الذرية تقول مجلة (لايف) : (إن الإشعاع الذري هو كابوس علم الأجنة المزعج) ولقد اتفقت أبحاث (موللر) ودراسات (دونالدسون) على أن (التحولات الصغيرة تضعف والتحولات الكبيرة تقتل) وتقول مجلة (ساينس ليتر) في عددها الصادر في نوفمبر 1950م : (ليس من قبيل المبالغة أن تقول أن 99% من الجينات الناتجة عن التحولات جينات ضارة) . وإلى جانب مخالفة علم الوراثة (لنظرية دارون) فإن التجربة تنقصه فهاهم اليهود والمسلمون من بعدهم يختنون أبناءهم ولكن ذلك كله لم يسبب أن ولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين . وهكذا الفرق أن كلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية (دارون) وفي هذا يقول (كريس موريسون) رئيس أكاديمية العلوم (بنيويورك) وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة سابقاً في هذا الموضوع في كتابه المترجم (العلم يدعو للإيمان) يقول: (فعلم الوراثة الحديث يقيم أسئلة تصعب الإجابة عنها والاكتشافات الأخرى تجعل من عمل (دارون) مجرد خطوة عظيمة في سير الفكرة الفلسفية إلى الأمام) .
النظرية لا يؤيدها الواقع المشاهد:
1 – لو كانت النظرية حقاً لشاهدنا كثيراً من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور ، لا عن طريق التناسل فقط. وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهد0ة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية كل سنة ، أو كل عشر سنوات، أو كل مائة سنة!!(1/316)
2 – لو سلمنا أن الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي ، قد طورت قرداً إلى رجل ـ مثلاً ـ فإنا لن نسلم أبداً بأن هذه الظروف قد قررت أيضاً أن تكون امرأة لذلك الرجل ليستمرا في التناسل ولبقاء مع الموازنة بينهما(1)[56].
3 – إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات ـ كالحرباء ـ مثلاً التي تتلون بحسب المكان هي مقدرة كامنة(2)[57] في تكوين المخلوقات تولد معها ، وهي عند بعضها وافرة وعند البعض الآخر تكاد تكون معدومة، وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها فالقدرة على التكيف صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية، وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحار والأتربة وغيرها من الجمادات .
4 – تمتاز الضفادع على الإنسان بمقدرة على الحياة في البر والماء ، كما تمتاز الطيور عليه بمقدرة على الطيران المباشر والانتقال السريع وذلك بدون آلة، كما أن أنف الكلب أشد حساسية من أنف الإنسان ، فهل أنف الكلب أكثر رقياً من أنف الإنسان؟ وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب ؟
كما أن عين الجمل أو الخيل أو الحمار ترى أن النهار وفي المساء على السواء في حين تعجز عين الإنسان عن الرؤية عن الرؤية في الظلام كما أن عين الصقر أشد من عين الإنسان. فهل الصقر أو الحمار أرقى من الإنسان؟ وإذا أخذنا الاكتفاء الذاتي أساساً للرقي كما هو بالنسبة لحال الدول فإن النبات عندئذ يفوق الإنسان وجميع الحيوانات. لأنه يضع طعامه وطعامه غيره دون أن يحتاج لغذاء من غيره.
وإذا أخذنا الضخامة أساساً للرقي ، عندئذ يجب أن يكون الجمل والفيل وحيوانات ما قبل التاريخ الضخمة أرقى من الإنسان!!
موقف العلماء الطبيعيين من النظرية:
1 – المؤيدون للنظرية وتأييدهم كأن أكثره انتصاراً لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه وتقاومه ، وحرباً مضادة يشنها علماء الطبيعة ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت الحرب طاحنة بين الفريقين.(1/317)
2 – معارضون ، وهم المطالبون بدليل محسوس على فعل (الانتخاب الطبيعي) في تحويل الأنواع ولا سيما نوع الإنسان فالمعترضون عليه ـ طلباً للأدلة الطبيعية ـ لا يقلون عدداً أو اعتراضاً عن المعترضين اللاهوتيين في أوروبا. وهذه بعض آراء العلماء المعارضين كلما نقل الأستاذ إبراهيم حوراني : (إن العلماء لم يثبتوا مذهب "دارون" وكذلك نفوه وطعنوا فيه مع علمهم أنه بحث فيه عشرين سنة. ومنهم العلامة "دنشل" ومنهم العلامة "دالاس" الذي قال قال ما خلاصته : "إن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان ولا بد من القول بخلقه رأسا" ومنهم الأستاذ "فرخو" الذي قال : أنه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقاً بعيداً فلا يمكننا أن نحكم بأن الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم ولا يحسن أن نتفوه بذلك" . ومن "ميفرت" القائل بعد أن نظر في حقائق كثير من الأحياء : "إن مذهب "دارون" لا يمكن تأييده وإنه رأي من آراء الصبيان" ويقول أحد المتعصبين لنظرية دارون هو : (سير أرثر كيث) "إن نظرية النشوء لا زالت حتى الآن بدون براهين. وستظل كذلك والسبب الوحيد في أننا نؤمن بها هو أن الدليل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر وهذا أمر غير وارد على الإطلاق" . وهذا بروفيسور آخر من جامعة لندن هو البروفيسور (واطسون) يقول : "إن علماء الحيوان يؤمنون بالنشوء لا كنتيجة للملاحظة أو الاختيار أو الاستدلال المنطقي ولكن لأن فكرة الخلق المباشر فكرة بعيدة عن التصور" نعم هي بعيدة عن أذهان النصارى الذين يزعمون أن الله مكون من ثلاثة وهو واحد. وأن 1=3 . ومن المعارضين العلامة "فون بسكون" الذي قال بعد أن درس هو و"فرخو" تشريح المقابلة بين الإنسان والقرد ـ : إن الفرق بين الاثنين أصلي وبعيد جداً .. ومنهم العلامة "أغاسير" الذي قال في رسالة في أصل الإنسان تليت في ندوة العلم الفيتكورية ما خلاصته: إن مذهب (دارون) خطأ علمي باطل في الواقع،(1/318)
وأسلوبه ليس من العلم في شيء، ولا طائل تحته. ومنهم العلامة (هكسلي) وهو من اللاإدارية وصديق (لدارون) قال: إنه بموجب ما لنا من البينات لم يتبرهن قط أن نوعاً من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي أو الانتخاب الصناعي. ومنهم العلامة "تندل" وهو مثل "هيكل" قال : إنه لا ريب في أن الذين يعتقدون بالارتقاء يجهلون أنه نتيجة مقدمات لم يعلم بها ، ومن المحقق عندي أنه لا بد من تغيير مذهب (دارون) . ويرفض هذه النظرية كثير من العلماء أمثال الأستاذ "فيالتون" عميد كلية الطب بجامعة "مونتبلييه" وأستاذ علم الأجنة فيها ، وكالأستاذ "كاترفاج" مدير متحف التاريخ الطبيعي بباريس، وهو القائل : "إننا لا نعلم كيف تكونت الأنواع الحية. إننا نعلم فقط أنها غير قابلة للتحول وأننا على يقين بأن (دارون) و(لامارك) لم يكتشفا الناموس الحقيقي لطريقة تكوينها.
نظرية لا حقيقة:
لذلك كله فقد أطلق على ما قاله (دارون) بشأن التطور (نظرية التطو) وهناك فرق كبير لدى العلماء بين النظرية والحقيقة أو القانون . فالنظرية في اصطلاحهم هي ما تحتمل التصديق والتكذيب، أما الحقيقة أو القانون فلا يحتمل وجهاً من أوجه الباطل .
لماذا انتشرت إذن؟(1/319)
سبب انتشار هذه النظرية هو مجيئها في وقت أذن الله فيه أن يظهر باطل ذلك الدين المحرف الباطل (النصرانية) على أيدي جماعة من أبنائه ، فكان لتقدم العلوم أثر كبير في كشف باطل ذلك الدين الزائف، مما أدى إلى نشوب معركة ضارية ذهب ضحيتها آلاف من علماء الطبيعة. وفي المعترك الحامي أخذ كل فريق في استخدام كل سلاح ضد خصمه. فانتشرت هذه النظرية كسلاح شهره علماء الطبيعة في وجه دينهم ، ثم في وجه كل دين وطئت أقدامهم المستعمرة أرضه، لاعتقادهم بصدق هذه النظرية ، وانتقاماً من ذلك الدين الباطل الذي وقف حجر عثرة أمام البحث في ميادين العلوم الطبيعية ، ثم وسيلة لتحطيم أديان الأمم المستعمرة ، حتى يسهل على المستعمرين السيطرة على هذه الشعوب بعد أن تحطم دينها، وهكذا فرض التعليم الاستعماري هذه النظرية في مناهج الدراسة وقدمها في ثوب (علمي) حتى يستطيع أن يقنع الطلاب بصدق هذه النظرة ليحدث ما رسم له في أذهان الطلاب من خلاف بين العلم الذي زيفوه والدين ، فيكفر الناس بدينهم؛ ويكفي أن يعرف الطالب أنه بواسطة هذه النظرية انحرف كثير من أبناء الإسلام عن دينهم في شتى الأقطار الإسلامية. ولذلك فقد حرص الاستعمار على تعليم هذه النظرية في عدن لأبناء المدارس الابتدائية في الوقت الذي يحرم فيه القانون الأمريكي تعليم هذه النظرية في المدارس منذ سنة 1935م .
ولكن أوروبا بعد أن قضت على خصمها (الدين الباطل) عادت لتعلن أن نظرية (دارون) التي استخدمها في المعركة لدعم موقفها ليست حقيقة علمية ، وإنما هي مجرد نظرية تكشف العلوم كل يوم باطلها .
موقف العلماء المسلمين من النظرية:(1/320)
1 – قال فريق من العلماء : إن النظرية تتعرض لبيان الكيفية التي وجدت بها المخلوقات وترتيب وجودها ، وهذا ميدان حث الإسلام عليه بقوله : ? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ?[العنكبوت:26] وليس هناك نص قطعي في القرآن يحدد الكيفية التي جاء بها آدم إلى الأرض أو التي جاءت بها هذه المخلوقات. فلنا أن نبحث ونرى ونقرر بعلم قطعي ما وصل إليه بحثنا . فعلى فرض صدق نظرية "دارون" فهي لا تصادم نصاً قطيعاً ، لا يتحمل التأويل . وأشهر القائلين بهذا الشيخ حسن الجسر صاحب الرسالة الحميدية.
2 – وقال فريق آخر : إن قصة آدم قد بينها الله ، وكيف عاش في الجنة ثم هبط إلى الأرض فلا مجال للتأويل ، والنصوص ظاهرها أن آدم مخلوق مستقل خلقه الله لإرادة محددة، ولا داعي لتأويل القرآن وفقاً لنظرية مشكوك فيها كلما تقدم العلم كشف باطلها . ومن الحق أن نقول هنا: إذا كانت هذه النظرية صادقة فقد تكون صادقة في مجال خلق الكائنات الحية ما عدا الإنسان .
دعاء الله وآدابه
مجيب الدعاء :
إن بين المؤمن وربه علاقة وثيقة ، يرى المؤمن ويرى معه الناس آثار هذه العلاقة جلية واضحة ، تشهد بوجود الله سبحانه وبقربه من عباده وأن رحمته قريب من المحسنين تلك العلاقة هي : الدعاء من المخلوقات والإجابة من الخالق سبحانه .
أدلة مشاهدة :(1/321)
1 - من أبرز الأدلة في هذا هو ما يعرفه المسلمون من إجابة ربهم عندما يحبس عنهم المطر في موعده، ويتخلف عنهم أشهراً كثيرة أو عدداً من السنين حتى يضيق بهم الحال فيخرج المسلمون إلى ربهم تائبين من المعاصي وبقدر صدق التوبة ، وصدق النوايا تكون الإجابة . وكم شاهد اليمنيون في بلادهم كيف يحول ربهم تلك السماء الصافية إلى سماء ملبدة بالغيوم، وذلك الجو الجاف إلى جو مطير بتلك السحب التي ينشئها ويسوقها سميع الدعاء، وذلك عقب الدعاء . ولم يحدث هذا مرة أو عشر مرات ولكنه حدث عشرات الآلاف من المرات ، وأمره مشهور بين الناس لا ينكره إلا جاحد، هذا في بلاد اليمن ناهيك عما يعرفه المسلمون في باقي بلادنهم .
2 – ويعرف كثير من المرضى إجابة ربهم للدعاء ، بعد أن يعجز الطب عن شفائهم ، فيلجأون إلى الله بالدعاء فلا يلبث ذلك المرض أن يزول بقدرة الله الخفية . ونحن مأمورون بالتداوي، فإذا عجز الناس فإن الله لا يعجزه شيء، ويمكنك أن تسأل أيها القارئ المطلعين على مثل هذه الأمور فستجد كثيراً من الشواهد ، ويبرر الملحدون هذا بقولهم : هذا من تأثير العقائد ، وعجباً هل إذا اعتقدت الآن أنك قادر على الطيران بدون آلة سوف يؤثر فيك هذا الاعتقاد فتطير؟!
ويمكنك أن تعرف إجابة ربك للدعاء بأن تدعو أنت ربك وستجد الجواب على أن تكون متحلياً بآداب الدعاء .
3 0 ما حدثنا عنه تاريخنا الإسلامي بتواتر عن انتصار جيوش المسلمين القليلة في العدد والعدد على أعدائهم الذين يفوقونهم بالعدد والعدد .
آداب الدعاء :
1 – أن تؤمن بالله سبحانه ، وبأنه وحده الذي يملك مقادير كل شيء ، وأنه وحده الضار النافع ، وأن تستجيب لما نزل إليك من هدى ودين ، قال تعالى : ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ?[البقرة: 186] .(1/322)
2 – حضور القلب وعدم الشك في الإجابة . قال عليه الصلاة والسلام "القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل" .
3 – عدم استعجال الجواب فإن لله حكمة في كل فعل قد تغيب عنا فإن تأخرت الإجابة فلسي ذلك إلا لحكمة علمها الله وغابت عنك ، فمن آداب الدعاء أن لا تستعجل الإجابة ، قال عليه الصلاة والسلام: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي" .
4 – أن لا يكون في الدعاء إثم أو قطيعة رحم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" فقال الحاضرون : إذن كثر في الدعاء فإنه لا يضيع ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : "الله أكثر".
5 – عدم رفع الصوت ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعر رضي الله عنه. قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعو أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً" .
6 – ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال عليه الصلاة والسلام : "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم" .
7 – تحري الحلال في المأكل والمشرب . قال عليه الصلاة والسلام : "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك"(1)[58].
الدعاء عبادة :(1/323)
إن الدعاء عبادة ، بل هو مخ العبادة فالذي يدعو الله إنما يقول بالقدرة الكاملة ، ويعترف بأن بيده مقاليد الأمور وأنه المالك لكل شيء ، وأنه المتصرف في شئون المخلوقات ، لذلك فقد سمى القرآن الدعاء عبادة . قال تعالى : ? ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? وقال عليه الصلاة والسلام : (إن الدعاء هو العبادة). وقال: "الدعاء مخ العبادة".
دعاء غير الله شرك :
لذلك فمن دعا غير الله ظاناً أن له قدرة أو مشاركة مع الله في تصريف الكون فقد أشرك. قال تعالى : ? وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ?[الجن: 18] .وقال تعالى :?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:20] .
الدعاء استعانة لا استخدام:
والدعاء هو طلب العون من الله ، بعد أن يعمل الإنسان ما أمره الله وأعطاه القدرة على فعله من الأسباب المادية ، وليس من الدعاء في شيء أن يطلب الإنسان من ربه تحقيق كل أغراضه وآماله وهو في مكانه لا يمارس عملاً أو يقوم بواجب قدره الله عليه ، فيطلب من الله أن يزرع له الأرض، ويحصد له الحبوب ، ويطحنها ، ويعجنها ، ويخبزها ، ويلقمه إياها . وينزع السلاح من عدوه، ويسوقه مكتوفاً إليه ، ويضربه وهو لا يعمل شيئاً!
فليس هذا دعاء إنما هو استخدام، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
الدعاء بالأسماء الحسنى:
وأحسن الدعاء أن يدعو العبد ربه بأسمائه الحسنى. قال تعالى : ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا?.
الخلاصة
*بين المؤمن وخالقه علاقة مشاهدة فالمؤمن يدعو، والله يجيب. نشاهد إجابة الله للدعاء في استسقاء المسلمين عند شدة الجفاف، وفي علاج المرض وخاصة بعد عجز الأطباء.
*ويزعم الملحدون أن هذا من تأثير العقائد ، والعقائد لا تغير الحقائق إنما التأثير لله أولاً وأخيراً.(1/324)
*لقد اشتهر المسلمون الصادقون في التاريخ بتأييد الله لهم على عدوهم الذي كان يفوقهم دائماً بالعدد والعدد .
*للدعاء آداب هي:
1- الإيمان بالله، والاستجابة لأوامره .
2- حضور القلب وعدم الشك في الإجابة .
3- عدم استعجال الإجابة .
4- أن لا يكون في الدعاء إثم أو قطيعة رحم .
5- عدم رفع الصوت .
6- ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
7- تحري الحلال في المأكل والمشرب .
*الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة أنه ثقة ولجوء إلى قوة الله وقدرته .
*من دعا غير الله ظاناً أن له قدرة غيبية أو مشاركة في تصريف الأمور فقد أشرك.
*يجب الأخذ بالأسباب التي أقدرنا الله على فعلها ، وإلا كان دعاؤنا استخداماً ـ أستغفر الله ـ لا أطلب عون .
*أحسن صورة الدعاء أن يدعو العبد ربه بأسمائه الحسنى .
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء
صدق الله العظيم
أسس معرفتنا بالله :
أولاً :عرفنا الله بآياته في مخلوقاته، وتقوم هذه المعرفة على قواعد عقلية ثلاث يعرفها العقل من الصلة الوثيقة بين الفعل وفاعله :
(أ)لا فعل إلا بفاعل فالعدم لا يفعل شيئاً.
(ب)الفعل مرآة لقدرة فاعلة وبعض صفاته فلا يكون شيء في الفعل إلا إذا كان الفاعل يملك القدرة أو الصفة التي تمكنه من فعل ذلك الشيء.
(ج)ليس الفاعل من لا يملك القدرة على الفعل لأنه فاقد الشيء لا يعطيه .
وبتطبيق هذه الأسس :
(أ)عرفنا أن هذه الأحداث التي حدثت في الكون وتحدث وستحدث لا ينشئها العدم، وإنما هي شاهدة بأن لها خالقاً يكونها وينشئها. قال تعالى : ?أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ... ?.
(ب)وبتأملنا في هذه الأحداث والمخلوقات وجدناها تشهد أنها من خلق حكيم ، عليم ، خبير ، محيي مميت، رزاق ، مريد ، قادر ، هاد، حاكم ، مهين ، سميع ، بصير ، حي ، دائم ، واحد . قال تعالى : ?إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ?[الجاثية:3] .(1/325)
(ج)وإذا تأملنا في شتى أرجاء الكون لا نجد إلا مخلوقات عاجزة لا علم لها ولا إرادة ولا خبرة ولا دوام ولاهداية ، فعرفنا أنها مخلوقات محتاجة إلى خالق حكيم عليم خبير يختلف عنها في الذات والصفات ، تحتاج إليه جميع المخلوقات وهو الغني الصمد الذي لا يحتاج لأحد هو الله سبحانه. قال تعالى : ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ?[الحج: 73، 74] . وقال تعالى : ?وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[النحل:20] .
ثانياً : كمل لنا الرسل الذي عرفنا صدقهم معرفتنا بربنا التي نحتاج إليها .
ثالثاً : عرفنا ربنا وقربه منا بإجابته لدعاء الذين يستجيبون له ويؤمنون به، وأوضح ظاهرة لذلك هي دعاء الاستسقاء .
قال تعالى :?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ?[البقرة: 186] .
رابعاً : عرفنا الله بإحساس فطري في أصل يدلنا عليه ويظهر جلياً كلما أصاب الإنسان محنة أو شدة .
والإنسان يلجأ إلى ربه بالدعاء . قال تعالى : ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ?[النحل: 53، 54] .
وهل أحطنا بالله علماً ؟
إن العلم البشري لم يحط بالله علماً ، بل إن علم الإنسان لم يحط بالإنسان نفسه علماً، فكل يوم وهو يعرف الجديد عن نفسه .(1/326)
ولقد جاءت امرأة إنجليزية إلى الشيخ الحكيمي ، وكان عالماً يمنياً اهتدى على يده كثير من البريطانيين . فأردت هذه المرأة أن تحرج هذا العالم المسلم فقالت: لا والله أيها الشيخ إلا إذا أخبرتني كم طول الله؟ وكم عرضه؟ فأخبرها العالم : أن علمنا بالله محدود وأن الله لا يقاس بمثل هذه المقاييس؟ ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?.
وقال لها : هل تحبين زوجك؟ ـ وكان معها ـ قال : نعم .
وقال : وهل تشعرين بوجود الحب؟ قالت : نعم.
قال : أما أنا فسأنكر وجود حب فيك لزوجك إلا إذا قلت لي كم رطلاً وزن حبك لزوجك وكم طول هذا الحب كم وعرضه؟! فعرفت أنها اشترطت لإيمانها شرطاً سخيفاً.
هل الإحاطة شرط للإيمان؟
وهكذا نجد أنه يكفينا للإيمان بالله أن نتأكد من وجوده وأن نعرف أسماءه وصفاته وأنه صاحب الكمال الأعلى وأنه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? وأن نعرف كلامه ورسله وإرادته من خلقنا وأماتتنا وبعثنا. وكل هذه الأمور قد عرفناها بأدلتها ، وهناك أمور كثيرة عن ذات الله وكيفية أعماله وأفعاله، وكثير من شئونه لا تزال مجهولة بالنسبة لنا ولكن نقص العلم هذا لا يدفعنا إلى إنكار الحق الذي عرفناه ، فإن فعلنا كنا كمن ينكر وجوده لأنه جاهل بحقيقة نفسه؟ وجاهل بعدد المسام في جلده ، وجاهل بعدد شعر رأسه ، وجاهل بعدد حبات ترابها ورمالها! وعدد أشجارها وحشائشها! وهكذا نعرف سفاهة وزيغ من أراد أن يجعل عدم إحاطته بكل أمور شيء من الأشياء سبباً لإنكار وجود ذلك الشيء.
لماذا لم نحط علماً بالله؟(1/327)
إن الله سبحانه ليس لشأنه حد محدود، وقد علمنا أن العلم البشري محدود، وأنه إلى الآن لم يتجاوز معرفة النجوم في السماء التي هي زينة السماء الدنيا ، فكيف لمحدود أن يحيط بمن ليس له حدود؟ وكيف لمن لم يتجاوز بمعرفته زينة السماء الدنيا أن يحيط بمن ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?؟! وهل يمكن لكأس أن يستوعب مياه البحر؟! فعلمنا محدود وسائل علمنا محدودة ، فهي ككأس صغير لا يستوعب من بحار الأمور الإلهية إلا بقدره وصدق الله العظيم حيث يقول: ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?[البقرة:255].
الخلاصة
أسس معرفتنا بالله:
تقوم معرفتنا بالله على قواعد ثلاث :
(أ)لا فعل إلا بفاعل.
(ب)الفعل مرآة لقدرة فاعله.
(ج)ليس الفاعل من لا يملك القدرة على الفعل ، وبهذا نعلم أن كل فعل حدث لا بد له من منشئ وخالق قادر حكيم حي دائم، وكل المخلوقات تحتاج إلى خالق حكيم عليم، وهو الغني سبحانه. وقد كمل لنا الرسل معرفتنا بربنا التي نحتاج إليها ووضحوا لنا الطريق ومن ذلك الدعاء ?ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ?.
ودعاء الاستسقاء ظاهرة كريمة تدلنا على فضل الله واستجابته ، كما نعرف الله بإحساسنا وفطرتنا، ويظهر ذلك في شدتنا وأهوالنا فنلجأ إليه سبحانه ، فيكشف عنا ما نزل بنا من سوء ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ? وهل أحطنا بالله علماً؟ إذا كنا علم الإنسان لم يحط بالإنسان علماً، فكيف يحيط علمنا المحدود بالله سبحانه؟ ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?.(1/328)
ويكفينا للإيمان بالله أن نتأكد من وجوده بالأدلة والبراهين، وأن نعرف أسماءه وصفاته وأنه ليس لشأنه حد محدود ?وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?.
الآيات المتشابهة في القرآن
الآيات المحكمة والمتشابهة :
الآيات المحكمة : هي الآيات التي تحتمل المعنى الواضح المحكم المحدد الذي لا اشتباه فيه. والمتشابهة : هي ما كان لها أكثر من معنى .
الآيات المحكمة أم الكتاب :
وإذا تأملت في الآيات المحكمة وجدت أنها كافية لبيان العقيدة والشريعة والحلال والحرام ومعالم الهدى الذي يحتاج إليه الإنسان.?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ?[آل عمران: 7].
الحكمة من الآيات المتشابهة :
إن للإنسان علاقة بما في هذا الوجود فهو جزء مرتبط به ، لكن الإنسان لا يعرف من ماضي وجوده ووجود هذا الكون إلا اليسير ، ولا يعرف من حقائق الوجود إلا ما وقع في نطاق حواسه الضيقة ، ولا يعرف من أمر خالقه إلى ما شاهد من آياته الظاهرة ، ولا يفهم من حقائق مستقبله في الحياة الأحرى شيئاً.
فكان من تمام الهداية الإلهية أن يعرف الله عبده بهذه الحقائق التي ارتبطت بوجود الإنسان . وبمعرفة الإنسان بها يكون واعياً لحقائق الوجود ومن لا يعي هذا الوعي يعش ضيق الأفق قصير النظر، غافلاً عما حوله وما يرتبط به من حقائق الوجود الكبرى. فالآيات المتشابهة في القرآن هي التي تتعرض لهذه الأمور بصورة أشمل وأعم .
ما هي لغة التوعية والتثقيف؟(1/329)
وهنا يجب أن تعرف أصل لغتك . فألفاظ اللغة قد حددت للدلالة على أشياء قد تقع في نطاق حواس الإنسان المحدودة. فبأي لغة إذا تتم توعية الإنسان بالحقائق الكبرى التي لا يعرفها الإنسان؟ والتي ليس في لغته من الألفاظ ما يطابقها؟ وهنا يظهر فضل الله علينا في هدايتنا فقد جعل الله من ألفاظنا المشابهة للحقائق الكبرى آيات لتوعيتنا وهدايتنا، هي الآيات المتشابهة في القرآن . فاللفظ المتشابه لا ينطبق تمام الانطباق على الحقيقة التي يرمز إليها إنما يشابهها في وجه من الوجوه.
أمثلة :
ومن أمثلة ذلك :
1 – لنفرض أنك أردت توعية قوم عاشوا قبل خمسمائة سنة ، بما سيحدث من تطور في أساليب الحياة فكيف ستحدثهم عن المذياع (الراديو) أو (التلفزيون) أو (الحافلة ـ الباص) أو (الرادار) أو أي شيء في مستخدمات هذا الزمان ، ستحاول أن تأخذ من لغتهم ما يشابه الأشياء الموجودة الآن فتخبرهم عن المذياع فتقول : هو صندوق من حديد ومواد كالخشب يتكلم بكلام شخص في مكان بعيد؟ فهل المذياع صندوق كالصندوق الذي يعرفونه؟ أم إنه صندوق آخر فيه المكثفات وفيه الملفات الكهربائية وفيه الهوائيات وفيه الموجات وفيه ... وفيه ... إن كلمة صندوق تشابه المذياع مشابهة فقط ولا تنطبق عليه تماماً ولكن ذا اللفظ المشابه ضروري لغرض التوعية .
2 – إذا أراد طبيب أو عالم دين أن يتحدث للناس عن حقائق العلم التي يعرفها ، وأن يقوم بعملية توعية صحية أو عملية بين مواطنيه . هل سيعي الناس شيئاً حدثهم الطبيب والعالم بدقائق الحقائق الطبية والذرية؟!
والجواب لا .. وغنما على الطبيب أو العالم الذري أن يأخذ ألفاظاً تشابه في وجه من الوجوه حقائق العلم لتوعية الناس بهذه الألفاظ التي لا تنطبق تمام الانطباق على الحقائق العلمية وإنما تشابهها.
ليست الحقيقة كاملة في الألفاظ المتشابهة:(1/330)
وإذا كان اللفظ المتشابه لا ينطبق على الحقيقة تمام الانطباق . وإنما يشابهها في وجه من الوجوه ليعطي وعياً عاماً فإن من الضلالة أن يحاول الإنسان معرفة الحقيقة كاملة من الألفاظ المتشابهة التي لا تنطبق على الحقيقة تمام الانطباق.
مثال :
لنفرض أنك أثناء توعيتك لمن عاشوا قبل خمسمائة عام قد قلت لهم :
قد أصبح الحديد في زماننا يتكلم. ولم تشأ أن تعرفهم بكيفية كلام الحديد الذي يعتمد على الدوائر الكهربائية والموجات والملفات المغناطيسية والذبذبات الصوتية ولكنك بعد أن تركتهم أرادوا أن يعرفوا الحقيقة في كلام الحديد من اللفظ المتشابه (الحديد يتكلم).
فقال أحدهم: لقد قال لنا : الحديد يتكلم، وهل يتكلم الحديد بغير لسان؟ إذاً لا بد أن للحديد لساناً!
وقال آخر : وهل يمكن أن يكون للحديد لسان دون أن يكون له فم؟ إذاً لا بد للحديد من فم!
وقال آخر : وبما أن للحديد فماً ، إذاً لابد أن يتغذى ويأكل!!
وقال آخر: وبما أن الحديد يتغذى ويأكل ، إذاً لا بد أن له معدة وأمعاء ولا بد أنه يبحث عن طعامه!!!
فانظر إلى أي ضلال ذهب الذين لم يعرفوا حقيقة الألفاظ المتشابهة وأرادوا معرفة الحقيقة منها.
إيماننا وازدياد وعينا بالآيات القرآنية المتشابهة:
لذلك فالمؤمن العالم يعرف حقيقة الآيات المتشابهة وأنها جاءت من عند الله ، وأنها تدل دلالة كاملة على الحقائق التي تخبر عنها فيؤمن بأنها حق من عند الله، ويكتسب لنفسه معرفة ووعياً دون محاولة تعنت للألفاظ.?وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?.وكل معنى للآيات المتشابهة يناقض الآيات المحكمة نرده ولا نقبله ، قال تعالى : ?مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ?.
الذين في قلوبهم زيغ:(1/331)
أما الذين في قلوبهم زيغ فيستغلون الآيات المتشابهة ، ويحاولون تحويلها وتحريف معانيها وتوجيه بعضها لمناقضة البعض الآخر في جهالة وسفاهة ، وهناك مؤسسات أنشأتها الدول الكافرة وظيفتها التلبيس على المسلمين في أمر دينهم، وقد لمست هذه الدول حاجتها لمثل هذه المؤسسات عندما استعمرت هذه الدول بلاد المسلمين لأنها وجدت المقاومة في بلاد المسلمين مدفوعة بالمشاعر الإسلامية أو عندما قويت علاقتنا الثقافية بدول أخرى تطمع في السيطرة علينا بغزو فكري فلم تجد عقبة في طريق الغزو الفكري إلا الإسلام؛ لذلك أنشأت هذه الدول مؤسسات لتشكيك المسلمين في دينهم وفتنتهم عنه. وأغلب شبهاتهم تقوم على أخذ المعنى الزائف من الآيات المتشابهة التي تحتمل معاني كثيرة . قال تعالى : ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ(7)رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ?[آل عمران : 7-8] . هذا وللمفسرين آراء كثيرة في معنى الآيات المتشابهة في القرآن.
الخلاصة :
المحكم هو ما احتمل معنى واحداً . والمتشابه ما كان له أكثر من معنى. والمحكم من القرآن فيه الكفاية لبيان الشريعة والهداية، والحكمة من المتشابه: هو بيان أن الإنسان لا يعرف ماضي وجوده أو مستقبله أو الحقائق حوله ما وقع في نطاق حواسه الضيقة ولا يعرف من الحياة الأخرى شيئاً فكان من تمام الهداية أن يعرف الله عبده بهذه الحقائق .(1/332)
أما لغة التوعية والتثقيف : - فهي للدلالة على ما يقع في نطاق حواسنا. وقد جعل الله من ألفاظنا المتشابهة آيات لتوعيتنا وهدايتنا ، واللفظ المتشابهة وإن كان لا ينطبق على الحقيقة لكنه يشابهها في وجه من الوجوه ، كما لو فرض وحدثت قوماً عن شيء لم يروه كآلة ميكانيكية ، فإنما تحدثهم بألفاظ لا تنطبق تمام الانطباق على الحقيقة وإنما تشابهها في وجه من الوجوه .
ومن الصعوبة أن يعرف الإنسان الحقيقة كاملة من الألفاظ المتشابهة .
إيماننا بالآيات المتشابهة:
أهل الإيمان يؤمنون بأنها حق من عند الله ? وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ? أما أهل الزيغ فيحاولون تحريفها والتلبيس على المسلمين في أمر دينهم ? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ?...
هدانا الله إلى سواء السبيل.
? سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?.
[1] - وليس الاشتغال بصناعة المعادن حراماً ، فقد بين الله أن هذا من العلم الذي علمه الله الأنبياء ، فقال عن داود عليه السلام: (وألنا له الحديد) وقال عن ذي القرنين : (ءاتوني أفرغ عليه قطراً) وقال عن داود : (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم) ولقد امتن الله على داود وسليمان عليهما السلام بما وهبهما الله من علم : (ولقد آتينا داود وسليمان علماً) وبينت الآيات السابقة أن من هذا العلم الاشتغال بالمعادن، فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم إخبار عن تفوق الكافرين في هذه الصناعة في آخر الزمن.(1/333)
[2] - رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وأبو نعيم في الحلية وغيرهم .
[3] - رواه أحمد في المسند عن أبي هريرة .
[4] - رواه الطبراني عن عبدالرحمن الأنصاري .
[5] - رواه أحمد ، والبزار ، والطبراني ، وغيرهم عن ابن مسعود .
[6] - الحديث رواه الحاكم والطبراني عن أبي هريرة
[7] - رواه أحمد وأبو داود عن سلامة بنت الحران .
[8] - رواه أبو نعيم في الحلية والحاكم عن أنس .
[9] - رواه أحمد والحاكم وصححه البخاري عن ابن مسعود .
[10] - رواه النسائي عن عمر بن تغلب .
[11] - رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، والبزار ، والطحاوي في مشكل الآثار والطبراني والحاكم وصححه عن عبدالله بن مسعود .
[12] - رواه أحمد والحاكم عن ابن عمر .
[13] - رواه مسلم عن أبي هريرة .
[14] - رواه أبو نعيم في الحلية عن حذيفة وروى غيره مثله .
[15] - الحسن بن سفيان في مسنده عن أبي أمامة .
[16] - رواه الحاكم في المستدرك.
[17] - رواه الطبراني عن ابن عمر .
[18] - روى الحديث الحاكم عن أبي هريرة.
[19] - الحديث رواه البخاري ومسلم ، ورفع العلم موت العلماء وكثرة الجهل: الجهل بالدين.
[20] - الحديث رواه الطبراني والحاكم عن أبي ذر .
[21] - روى الحديث أبو داود وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة .
[22] - ولد الخبث أي ولد الزنا .
[23] - رواه الحاكم وأحمد والطبراني عن معاذ .
[24] - رواه مسلم عن ابن عمر .
[25] - رواه الديلمي عن حذيفة .
[26] - رواه ابن أبي شيبة عن الشعبي.
[27] - رواه أحمد في مسنده وصححه عن أبي هريرة .
[28] - رواه الحاكم في تاريخه عن أبي موسى .
[29] - رواه الطبراني في الكبير عن ميمونة أم المؤمنين ، ومرج الدين : أي اختلط .(1/334)
[30] - رواه أبو شعيب الحراني في فوائده، وأبو داود، والحاكم في المستدرك من حديث قتادة وأنس وأبي سعيد ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث أنس وحده.
[31] - رواه الطبراني في الأوسط عن سلمان .
[32] - رواه ابن مردويه عن أبي هريرة وأبو نعيم في تاريخ أصبهان .
[33] - رواه الطبراني عن الضحاك بن قيس وعن النعمان بن بشير ونحوه عند الحاكم من حديث أنس.
[34] - رواه أبو نعم بن حماد في الفتن والطبراني في الكبير .
[35] - رواه أحمد في مسنده .
[36] - رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن ثوبان .
[37] - رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وهذا عند بدء الفساد.
[38] - رواه البيهقي عن صحيحه عن ابن عمر .
[39] - رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر ، وروى غيره من علماء الحديث نحوه .
[40] - رواه البزار بسند حسن والطبراني وابن منده في الصحابة من حديث نهيك بن صريم السكوني .
[41] - ومن المعروف أن عدن تقع على فوهة بركان .
[42] - رواه الترمذي ، والبغوي وصححه .
[43] - وله معان أخرى .
[44] - أخرجه البخاري .
[45] - يوصي الإسلام بالميل إلى الجهة اليسرى أثناء التغوط ، وقد كشف علم التشريح أخيراً فائدة ذلك لأن فتحة الشرج تتصل بالمعي الغليظ في الجهة اليسرى فيساعد الميل على نزول الغائط .
[46] - عنت : خضعت .
[47] - عرف أخيراً أن السرعة تنقص من الوزن .
[48] - سارب : ظاهر.
[49] - أخرجه مسلم .
[50] - القلاص : النوق .
[51] - انظر التعليق بالحاشية في آخر الفصل ص: 383 .
[52] - أخرجه أحمد عن بريدة صحيح.
** - انظر التعليق بالحاشية في آخر الفصل ص 384 .
[53] - ليس مطراً صناعياً لأن المطر لا يصنعه الإنسان في المعمل وإنما هو مطر يستحث الإنسان نزوله .
[54] - منطقة من مناطق السحب .(1/335)
[55] - من أدلة الكتابة في اللوح لما سيكون: الرؤيا الصادقة التي تأتي كفلق الصبح، فهي تدل على أن النائم قد اطلع على ما سيكون في المستقبل قبل أن يقع مما يدل على أن هناك وجوداً حقيقياً للأشياء والأحداث في مكان ما قبل وقوع تلك الأشياء والأحداث. وقد تمكن صاحب الرؤيا الصادقة من الاطلاع عليها قبل وقوعها . فمثلاً رأى نائم أن فلاناً سيموت في المكان الفلاني برصاصة مثلاً فوقع الحادث كما أخبر صاحب الرؤيا فمعنى ذلك أن قتل فلان برصاصة في مكان كذا خبر معروف في مكان ما قبل وقوعه وأن النائم قد اطلع على هذا من ذلك المصدر أو من مصدر يتصل به؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من الوحي ، ورفع الله الوحي وبقيت الرؤيا الصادقة تؤكد بالبرهان المجرب المحسوس أن ما سيكون قد سبق علمه عند الله وسبقت كتابته (راجع صفحة 369).
*- يفهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خمس لا يعلمهن إلا الله) ثم قرأ هذه الآية : (إن الله عنده..) الآية يفهم من هذا العلم وحدوده التي تنفي عن الإنسان يؤخذ من مفهوم الآية الموضحة التي تلاها بعد قوله : خمس لا يعلمهن إلا الله.. وقد تضمنت الآية صيغاً مختلفة فصيغة تقول : وينزل الغيث ولم تنف عن غير الله، وصيغة تقول : وما تدري نفس ما تكسب غداً فنفت نفياً تاماً عن الإنسان العلم المؤكد عن الغد ، ومن صيغ الآية المختلفة التي ذكرت بعد الحديث نعرف ما يمكن للإنسان أو غيره أن يشارك في العلم في حدود معينة ، وما لا يمكن لأحد أن يشارك في علمه سبحانه.. والله أعلم .
[56] - ولأن ذلك الرجل ـ مثلاً ـ الذي تطور إلى قرد سيموت ولن يكون له سبيل لأنه لا يمكن أن يتزوج قردة، ولو تزوج قردة لما أنجبت له!!! وهكذا يموت ولا يبقى!!(1/336)
وهناك كائنات حية عمرها لا يزيد على يوم فهي تولد وتتزاوج وتموت في يوم واحد، فمتى تم تطور الذكور والإناث؟ لابد من وجود الذكر والأثنى دفعة واحدة من خلال يوم واحدة، وهذا لا يكون إلا بالخلق الخاص .
[57] - فمثلاً إذا جاءت ظروف حارة عرق جسم الإنسان . بينما إذا أنزلنا حجرة من بلد إلى بلد أخرى في الصيف فإنها لن تعرق لأنه لم يخلق معها غدد عرقية ، فتكيف الجسم بالعرق عند درجة حرارة معينة. وإذا تعود الإنسان رفع الأثقال فإن عضلاته تقوى وإذا رفع الإنسان الأثقال بالعصا فإنها مع مرور الوقت تضعف وتتكسر فالتكيف الموجود في العضلات صفة كامنة مع الإنسان ولا تكونها الظروف الطبيعية .
[58] - من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة.(1/337)