توحيد الألوهية
للشيخ
محمد بن إبراهيم الحمد
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً ـ .
أما بعد:
فغير خافٍ على من عنده أدنى إلمام بعلم العقيدة ـ ما لتوحيد الألوهية من الأهمية؛ فهو توحيد العبادةِ، والعبادةُ هي الغاية المرضية والمحبوبة لله ـ عز وجل ـ وهي الغاية العظمى والمقصود الأسمى؛ فلأجلها خلقت الجنة والنار، وقام سوق الجهاد بين المؤمنين والكفار، ولأجلها أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل.
ثم إن توحيد الألوهية دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اقتفى أثرهم من العلماء، والدعاة والمصلحين.
وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن توحيد الألوهية، وذلك من خلال المباحث التالية:
- تعريف توحيد الألوهية.
- أسماؤه الأخرى.
- أهمية توحيد الألوهية.
- أدلته.
- أركانه.
- تعريف العبادة لغةً، واصطلاحاً.
- الفرق بين العبادة وتوحيد العبادة.
- متى تقبل العبادة؟.
- أهمية الإخلاص والمتابعة.
- أركان العبادة.
- أيُّهما يغلب، الرجاء أو الخوف؟.
- الخوف الواجب والخوف المستحب.
- أنواع العبادة.
- عبودية الخلق لله ـ عز وجل ـ.
- فضائل توحيد الألوهية.
- أسباب نمو التوحيد في القلب.
- طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم.
- علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية في القرآن الكريم.
- ما ضد توحيد الألوهية؟.
- الفرق التي أشركت في توحيد الألوهية.
هذا ما تيسر جمعه وتقييده في هذا الباب، فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفع بهذه الصفحات، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تعريف توحيد الألوهية(1/1)
عرف العلماء توحيد الألوهية بتعريفات متقاربة، إلا أن بعضها قد يكون أطول من بعض، فمن تلك التعريفات مايلي:
1- هو إفراد الله بأفعال العباد.
2- هو إفراد الله بالعبادة.
3- هو إفراد الله ـ تعالى ـ بجميع أنواع العبادة؛ الظاهرة، والباطنة، قولاً، وعملاً، ونفي العبادة عن كل من سوى الله ـ تعالى ـ كائناً من كان.
4- وعرفه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ بتعريف جامع ذكر فيه حد هذا التعريف، وتفسيره، وأركانه، فقال: " فأما حدُّه، وتفسيره، وأركانه ـ فهو أن يعلم، ويعترف على وجه العلم، واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة بأحد من المخلوقات، ولا يستحقها إلا الله ـ تعالى ـ.
فإذا عرف ذلك واعترف به حقَّاً أفرده بالعبادة كلها؛ الظاهرة، والباطنة، فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة: كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الله، وحقوق خلقه.
ويقوم بأصول الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره لله.
لا يقصد به غرضاً من الأغراض غير رضا ربِّه، وطلب ثوابه، متابعاً في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فعقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة، وأعماله وأفعاله ما شرعه الله ورسوله، وأخلاقه، وآدابه الاقتداءُ بنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هديه، وسمته، وكل أحواله.
قال الشيخ حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ عن هذا النوع في منظومته سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد:
هذا وثاني نوعي التوحيد إفرادُ ربِّ العرش عن نديد
أن تعبد الله إلهاً واحداً معترفاً بحقه لا جاحدا
أسماؤه الأخرى
توحيد الألوهية يسمى بعدة أسماء منها:(1/2)
1- توحيد الألوهية ـ كما مر ـ وسمي بذلك، باعتبار إضافته إلى الله، أو باعتبار الموحِّد، ولأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة لله وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة.
2- توحيد العبادة؛ باعتبار إضافته إلى الموحِّد وهو العبد، ولتضمنه إخلاص العبادة لله وحده.
3- توحيد الإرادة؛ لتضمنه الإخلاص، وتوحيد الإرادة والمراد، فهو مبني على إرادة وجه الله بالأعمال.
4- توحيد القصد؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده.
5- التوحيد الطلبي؛ لتضمنه الطلب، والدعاء من العبد لله.
6- التوحيد الفعلي؛ لتضمنه لأفعال القلوب والجوارح.
7- توحيد العمل؛ لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده.
أهميته
توحيد الألوهية أهم أنواع التوحيد، فمن أجل تحقيقه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين.
يقول الشيخ حافظ الحكمي عن أهميته في منظومته.
وهو الذي به الإله أرْسلا رسْلَه يدعون إليه أولا
وأنزل الكتابَ والتبيانا من أجله وفرَّق الفرقانا
وكلف الله الرسولَ المجتبى قتالَ من عنه تولى وأبى
حتى يكونَ الدينُ خالصاً له سراً وجهراً دقَّه وجلَّه
وهكذا أمته قد كلفوا بذا وفي نص الكتاب وصفوا
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية توحيد العبادة: " وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها كما قال الله ـ تعالى ـ : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].
وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [الأعراف: 59].(1/3)
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: " وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال ـ تعالى ـ : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) [الأنبياء: 19 - 20].
وذم المستكبرين عنها بقوله : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [غافر: 60].
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال ـ تعالى ـ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) [الإنسان: 6] وقال : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) [الفرقان: 63] ".
وقال رحمه الله في موطن آخر: "واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ـ ليس له نظير فيقاس عليه، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقةَ العبدِ قلبُه وروحُه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن بالدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه، ولو حصل للعبد لذاتٌ أو سرورٌ بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ ـ غير منعمٍ ولا ملتذٍ له، بل قد يؤذيه اتصالُه به، ووجوده عنده، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلابد له منه في كل حال، وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ) [الأنعام: 76].
وكان أعظم آية في القرآن الكريم : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) [البقرة: 255] ".(1/4)
وقال ـ رحمه الله ـ : " فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله ـ سبحانه ـ ومن عبد غير الله ـ وإن أحبه، وحصل به مودة في الحياة الدنيا، ونوع من اللذة ـ فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم ".
وقال ـ رحمه الله ـ: " واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه ".
وقال : " فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذِّب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثرُ مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار بالاستقراء.
وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثرُ من نفعه؛ فصارت المخلوقات وبالاً عليه، إلا ما كان لله وفي الله؛ فإنه كمال وجمال للعبد.
وهذا معنى ما يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ".
وقال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية هذا النوع: " وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها، وأفضلها، وأوجبها، وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجنَّ والإنسَ لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائعَ لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين ".
ومما يدل على أهميته أن قبول الأعمال متوقف عليه، وأنه يتضمن جميع أنواع التوحيد فكلها تدخل فيه؛ فمن اعتقده فهو معتقد لغيره من الربوبية والأسماء والصفات، ومن اكتفى بغيره دونه لم يدخل في دين الإسلام.
أدلة توحيد الألوهية(1/5)
لقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، وتنوعت دلالتها في وجوب إفراد الله بالعبادة؛ّ َفتارة تأتي نصوص الكتاب آمرةً بتوحيد الله أمراً مباشراً، وتارة تأتي مبينةً الغاية من خلق الجن والإنس، وتارة تأتي موضحةً الهدف من إسال الرسل وإنزال الكتب، وتارة تأتي محذرةً من مخالفته، وتارة تأتي لبيان ثواب من عمل به في الدنيا والآخرة، وتارة لبيان عقوبة من تركه، وتخلى عنه، أو ناوأه، وحارب أهله.
فمن تلك الأدلة من الكتاب والسنة على وجود إفراد الله بالعبادة قوله ـ تعالى ـ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة: 21]، وقوله : ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) [هود: 123]، وقوله : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) [قريش: 3]، وقوله : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [النساء: 36]، وقوله : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [الأنعام: 151]، وقوله : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) [الإسراء: 23]، وقوله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56]، وقوله : ( وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ) [الإسراء: 39]، وقوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الفاتحة: 5]، وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء: 25] وقوله : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [النحل: 36].(1/6)
ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار فقال لي: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟.
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً.
قلت: أفلا أبشر الناس؟.
قال: لا تبشرهم فيتكلوا ".
أركان توحيد الألوهية
توحيد الألوهية يقوم على أركان ثلاثة هي:
1- توحيد الإخلاص: ويسمى توحيد المراد، فلا يكون للعبد مرادٌ غير مراد واحد وهو الله - سبحانه وتعالى - فلا يزاحمه مرادٌ آخر.
2- توحيد الصدق: ويسمى توحيد إرادة العبد، وذلك بأن يبذل جهده وطاقته في عبادة ربه.
3- توحيد الطريق: وهو المتابعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ أعني سبيل الحق والإيمان
فقوله: ( فلواحدٍ ): أي لله، وهذا هو توحيد المراد.
وقوله: ( كن واحداً ): في عزمك، وصدقك، وإرادتك، وهذا هو توحيد الإرادة.
وقوله ( في واحد ): هو متابعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو طريق الحق والإيمان، فهذا هو توحيد الطريق.
والأدلة على هذه الأركان الثلاثة كثيرة، فمن أدلة الإخلاص قوله ـ تعالى ـ : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [البينة: 5] ودليل الصدق قوله - تعالى - : ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً
) [محمد: 21]، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة: 119]، ودليل المتابعة قوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ ) [آل عمران: 31].
فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح، ولا ينقص كمال العبد إلا بنقص واحد من هذه الأشياء.(1/7)
تعريف العبادة لغةً، واصطلاحاً
تعريف العبادة لغةً: هي التذلل والخضوع فيقال بعير معبد أي مذلل، وطريق معبد أي مذلل، ذللته الأقدام.
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته المشهورة يصف ناقته:
تباري عتاقاً ناجيات وأتبعت وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد
فقوله: فوق مور معبد: أي فوق طريق مذلل من كثرة السير عليه، فالمور هو الطريق.
تعريف العبادة في الاصطلاح: عرفت العبادة في الاصطلاح بعدة تعريفات، ومنها ما يلي:
1- عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بأنها: " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ".
2- وعرفها ابن القيم بأنها: " كمال المحبة مع كمال الذل ".
وقال في النونية:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
3- وعرفها الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ بعدة تعريفات منها قوله:
" العبادة روحُها وحقيقتُها تحقيقُ الحبِّ والخضوع لله؛ فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما ـ فليست عبادة؛ فإن حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة التي تتبعها المحاب كلها ".
4- وعرفها بتعريف ثانٍ فقال: " العبادة والعبودية لله اسم جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، فكل ما يقرب إلى الله من الأفعال، والتروك فهو عبادة، ولهذا كان تارك المعصية لله متعبداً متقرباً إلى ربه بذلك ".
ومما ينبغي التنبيه عليه أن العبادة تطلق إطلاقين:
1- الفعل الذي هو التَّعَبُّد.
2- المفعول وهو المُتَعَبَّدُ به أو القربة.
مثال ذلك الصلاة ففعلها عبادة وهو التعبد، وهي نفسها عبادة وهي المتعبد به.
فعلى الإطلاق الثاني تُعَرَّف العبادة بتعريف شيخ الإسلام، وعلى الإطلاق الأول تُعَرَّف بالتعريف الثاني والثالث.
أما التعريف الرابع الذي هو تعريف ابن سعدي فإنه يشمل الإطلاقين الفعل والمفعول.(1/8)
ومن التعريفات لها أيضاً " الأعمال الصالحة الإرادية التي تُؤَدَّى لله ـ تعالى ـ ويفرد بها ".
وهذا يشمل الإطلاقين أيضاً.
الفرق بين العبادة وتوحيد العبادة
الفرق بينهما ظاهر؛ فالعبادة هي ذات القربة أو فعلها.
أما توحيدها فصرفها لله وحده لا شريك له.
متى تقبل العبادة ؟
لا تقبل العبادة إلا إذا توفر فيها شرطان:
1- الإخلاص لله.
2- المتابعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال ـ تعالى ـ : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) [الكهف: 110].
وذلك تحقيق الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية : أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه؛ فعلينا أن نصدق خبره، ونطيع أمره ".
فمن أراد عبادة الله فلابد له من توفر الشرطين ولسان حاله يقول : ( إياك أريد بما تريد ).
قال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ في قوله ـ تعالى ـ : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [الملك: 2].
قال: أخلصه وأصوبه.
قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟
قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
فإذا فُقِد الشرطان أو أحدُهما بطلت العبادة.
وتوضيح ذلك بالمثال الآتي: لو أن شخصاً صلى لغير الله وعلى صفة غير الصفة التي علمنا إياها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لردت عبادته، لماذا؟.
لأنه فقد الشرطين معاً.
كذلك لو صلى كما كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي؛ بحيث أتى بصفة الصلاة كاملة، ولكنها صرفها لغير الله لبطلت عبادته، لماذا؟.(1/9)
لأنه فقد الإخلاص، والله سبحانه يقول : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [النساء: 48] وقال : ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 88].
كذلك لو صلى لله ولكن على صفة غير الصفة التي علمنا إياها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ بحيث ابتدع صفة من عنده بطلت عبادته؛ لأنه فقد المتابعة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في الحديث المتفق عليه : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
أي مردود، والجار والمجرور في قوله "عليه" متعلق بمحذوف تقديره (حاكماً أو مهيمناً).
وفي رواية أخرى للحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ".
وهذان الشرطان ـ في الحقيقة ـ متلازمان؛ فإن من الإخلاص لله أن تتبع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتباعُه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مستلزم للإخلاص.
أهمية الإخلاص والمتابعة
مما يدل على أهمية الإخلاص والمتابعة اللذين هما شرطا قبول العبادة مايلي:
1- أن الله أمر بإخلاص العبادة له، قال ـ تعالى ـ : ( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [الأعراف: 29].
2- أن الله ـ تعالى ـ اختص نفسه بالتشريع، فهو حقه وحده، ومن تَعَبَّد الله بغير ما شرع فقد شارك الله ـ عز وجل ـ في تشريعه، قال ـ تعالى ـ : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) [الشورى: 13].
وقال : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) [الأنعام: 153].
3- أن الله أنكر على من يشرع من عند نفسه، قال ـ تعالى ـ : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [الشورى: 21].(1/10)
4- أن الله أكمل لنا الدين، ورضيه لنا، قال ـ تعالى ـ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ) [المائدة:3].
فالابتداع في الدين إنما هو في الحقيقة استدراك على الله وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتهام للدين بالنقص.
5- أنه لو جاز للناس أن يتعبدوا بما شاءوا، كيفما شاءوا ـ لأصبح لكل إنسان طريقتُه الخاصة بالعبادة، ولأصبحت حياةُ الناس جحيماً لا يطاق؛ إذ يسود التناحر والتنافر؛ لاختلاف الأذواق، مما يؤدي إلى الشقاق والافتراق؛ والاتباعُ وترك الابتداع أعظمُ سببٍ للائتلاف والاجتماع.
6- لو جاز للناس أن يعبدوا الله بما شاءوا كيفما شاءوا ـ لترتَّب على ذلك عدم حاجة الناس إلى الرسل، ولا يقول بهذا عاقل.
أركان العبادة
للعبادة ثلاثة أركان، هي:
1- الحب 2- الخوف 3- الرجاء
وجعلها بعض أهل العلم أربعة: الحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء.
ولا تعارض بين الأمرين؛ فإن الرجاء ينشأ من الحب، فلا يرجو الإنسان إلا من يحب، وكذلك الخوف ينشأ من التعظيم، فلا يخاف الإنسان إلا من عظيم.
وقد أثنى الله على أهل الخوف والرجاء من النبيين والمرسلين فقال : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) [الأنبياء: 90].
ومدح القائمين بذلك من سائر عباده، فقال : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) [الزمر: 9]، وقال : ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ) [الإسراء: 57]، وقال : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) [السجدة: 16].
كما أمر ـ عز وجل ـ باستحضار ذلك وقصْدِه فقال : ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) [الأعراف: 56].(1/11)
هذه هي عبادة الأنبياء والمرسلين، وعباد الله المؤمنين، فمن ذا الذي هو أحسن منهم؟ وأكمل من هديهم؟ وهل تقبل دعواه؟!!
الجواب: لا، فالخوف والرجاء متلازمان؛ فكلاهما بريد الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فلو سألت من لا يزني من المؤمنين ـ مثلاً ـ مع قدرته على الزنا: لم لا تزني؟ لبادر بقوله: إني أخاف الله، وأرجو ثوابه.
ولو سألت المصلي لِمَ تصلي؟ لقال: خوفاً من الله وطمعاً في ثوابه، وهكذا...
فغير الله قد يُحَبُّ ولكن لا يُخاف منه، وقد يُخاف منه ولكن لا يُحب.
أما الله ـ عز وجل ـ فيجتمع الأمران في حقه؛ فيُخاف ويحب، فلابد للمؤمن ـ إذاً ـ من الجمع بين الحب، والخوف، والرجاء، والتعظيم.
أما العبادة بالحب وحده فلا تكفي، وليست صحيحة؛ لأنها لا تتضمن تعظيماً لله، ولا خشيةً منه؛ إذ إن صاحبها يجعل الله ـ سبحانه ـ بمنزلة الوالد والصديق، فلا يتورع من اقتراف المحرمات، بل يستهين بها بحجة أن الحبيب لا يعذب حبيبه، كما قالت اليهود والنصارى : ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) [المائدة: 18]، وكما يقول غلاة الصوفية: نحن نعبد الله لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، إنما نعبد الله حباً له كما عبر بذلك كثير منهم كرابعة العدوية التي تقول:
أحبك حبين حبَّ الهوى وحبَّاً لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجبَ حتى أراكا
وكما قال ابن عربي:
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
ولا شك أن هذا مسلك باطل، وطريقة فاسدة، لها آثار وخيمة منها الأمن من مكر الله، وغايته الخروج من الملة؛ فالذي يتمادى في التفريط والخطايا ويرجو رحمة ربه بلا عمل يقع في الغرور، والأماني الباطلة، والرجاء الكاذب.(1/12)
كذلك العبادة بالخوف وحده، دون الحب والرجاء ليست صحيحة، بل هي باطلة فاسدة، وهي طريقة الخوارج الذين لا يجعلون تعبدهم لله مقروناً بالمحبة، فلا يجدون للعبادة لذة، ولا إليها رغبة، فتكون منزلة الخالق عندهم كمنزلة سلطان جائر، أو ملك ظالم، وهذا مما يورث اليأس أو القنوط من رحمة الله، وغايته الكفر بالله، وإساءة الظن به، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني ".
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول قبل وفاته بثلاث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ـ عز وجل ـ ".
وحسن الظن هو الباعث على العمل؛ الذي يلزم منه تحري الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرةِ عند الاستغفار والإثابةِ عند العمل.
أما ظن المغفرة والإجابة والإثابة مع الإصرار على الذنوب والتقصير في العمل ـ فليس من حسن الظن في شيء، بل هو سَفهٌ وجهل وغرور.
فلابد للعابد أن يكون الله أحبَّ إليه من كل شيء، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كل شيء؛ فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله؛ فإنك إذا خفته فررت إليه، فالخائف من الله هارب إليه قال ـ تعالى ـ : ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ) [الذاريات: 50].
وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم، من عَبَدَ الله بالحب وحده ـ فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبده بالخوف، والرجاء، والحب، فهو مؤمن موحد.
أيهما يُغلّب، الرجاء أو الخوف ؟
الجواب: أنه اختُلف في ذلك على أقوال منها:
1- قيل: ينبغي أن يغلِّب الإنسان جانب الخوف؛ ليحمله ذلك على فعل الطاعة وترك المعصية.
2- وقيل: يغلِّب جانب الرجاء؛ ليكون متفائلاً والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعجبه الفأل.(1/13)
3- وقيل: في فعل الطاعة يغلب الرجاء؛ لينبعث إلى العمل؛ فالذي منَّ عليه بالطاعة سَيَمُنُّ عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء فانتظر الإجابة؛ لأنه يقول : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر: 60].
وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف؛ لأجل أن يمنعه ذلك من فعل المعصية قال ـ تعالى ـ : ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [الأنعام: 15].
وهذا قريب ولكن ليس بالقرب الكامل، إذ قد يُعْتَرض عليه بقوله ـ تعالى ـ : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) [المؤمنون: 60].
4- وقيل: يغلب جانب الخوف في الصحة، وجانب الرجاء في المرض.
5- وقيل: هما كجناحي الطائر، فالمؤمن يسير إلى الله بجناحين هما الرجاء والخوف، فإذا استويا تم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
6- وقيل يختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، والله أعلم.
" الخوف الواجب والخوف المستحب "
الخوف الواجب هو ما يحمل على فعل الواجبات وترك المحرمات.
والخوف المستحب هو ما يحمل على فعل المستحبات، وترك المكروهات.
أنواع العبادة
العبادة لها أنواع كثيرة، فبعضها قولي؛ كشهادة أن لا إله إلا الله، وبعضها فعلي؛ كالجهاد في سبيل الله، وإماطة الأذى عن الطريق، وبعضها قلبي؛ كالحياء، والمحبة، والخوف، والرجاء، وغيرها، وبعضُها مشترك كالصلاة مثلاً فإنها تجمع ذلك كله.
ومن أنواع العبادة ـ زيادة على ما سبق ـ الزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للمنافقين والكفار، والإحسان إلى الحيوان، والأيتام، والمساكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والدعاء، والذكر، وكذلك الذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والاستعانة، والتوكل، والتوبة، والاستغفار.(1/14)
وهذه العبادات لا يجوز صرفها إلا لله، ومن صرفها لغيره فقد أشرك.
عبودية الخلق لله
تنقسم عبودية الخلق لله إلى ثلاثة أقسام:
1- عبودية عامة: ويشترك فيها كافة الخلق؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
قال ـ تعالى ـ : ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ) [مريم: 93].
فهذه عبودية الربوبية فالخق كلهم عبيد لله مربوبون له.
2- خاصة: وهي عبودية الألوهية، وهي عبودية عباد الله الصالحين وهم كل من تعبد لله بشرعه، وأخلص في عبادته.
قال ـ تعالى ـ : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً ) [الفرقان: 63].
ولهذا أضافهم إلى اسمه إشارة إلى أنهم وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، وهذه إضافة التشريف.
3- خاصة الخاصة: وهي ـ أيضاً ـ عبودية الألوهية، وهي للأنبياء والمرسلين الذين لا يباريهم ولا يدانيهم أحد في عبادتهم لله، قال ـ تعالى ـ : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) [ص: 45]، وقال عن نوح : ( إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ) [الإسراء: 3]، وقال عن داود ـ عليه السلام ـ : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) [ص: 17]، وقال عن محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) [الإسراء: 1]، وقال : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ) [الجن: 19].
فضائل توحيد الألوهية
توحيد الله، وإفراده بالعبادة أجَلُّ النِّعم وأفضلها على الإطلاق، وفضائله وثمراته لا تعد ولا تحد، ففضائل التوحيد، كثيرة تنتظم خيري الدنيا والآخرة، ومن تلك الفضائل مايلي:(1/15)
1- أنه أعظم نعمة أنعمها الله على عباده، حيث هداهم إليه، كما جاء في سورة النحل التي تسمى سورة النعم، فالله ـ عز وجل ـ قدم نعمة التوحيد على كل نعمة، فقال في أول سورة النحل : ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) [النحل: 2].
2- أنه الغاية من خلق الجن والإنس : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].
3- أنه الغاية من إنزال الكتب ومنها القرآن، قال ـ تعالى ـ فيه: ( آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) [هود: 1 - 2].
4- أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتهما كما في قصة يونس ـ عليه السلام ـ.
5- أنه يمنع من الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل.
6- أنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية كما في حديث عتبان في الصحيحين؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ".
7- حصول الاهتداء الكامل، والأمن التام لأهله في الدنيا والآخرة ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) [الأنعام: 82].
8- أنه السبب الأعظم لنيل رضا الله وثوابه.
9- أن أسعد الناس بشفاعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
10- أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها - على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.(1/16)
11- أنه يسهل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات؛ فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده ـ تخف عليه الطاعات؛ لما يرجوه من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخطه وأليم عقابه.
12- أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
13- أنه يخفف على العبد المكاره، ويهون عليه الآلام؛ فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح، ونفس مطمئنة، وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
14- أنه يحرر العبد من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم، وخوفهم، ورجائهم، والعمل لأجلهم.
وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
15- ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء ـ أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام ـ فإنه يُصَيِّر القليل من العمل كثيراً، وتضاعف أجور صاحبه بغير حصر ولا حساب.
16- أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
17- أن الله يدافع عن الموحدين شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه وبذكره.
وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، فمن حقق التوحيد حصلت له هذه الفضائل كلها وأكثر منها، والعكس بالعكس.
أسباب نمو التوحيد في القلب
التوحيد شجرة تنمو في قلب المؤمن، فيبسقُ فرعها، ويزداد نموها، ويزدان جمالها كلما سقيت بالطاعة المقربة إلى الله ـ عز وجل ـ، فتزداد بذلك محبة العبد لربه، ويزداد خوفه منه، ورجاؤه له، ويقوى توكله عليه، وبهذا يكتمل التوحيد ويتحقق؛ فليس تحقيقه بالتمني، ولا بالدعاوى الخالية من الحقائق.(1/17)
وإنما يتحقق بما وقر في القلب من عقائد الإيمان، وحقائق الإحسان، وصدّقته الأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة الجليلة.
ومن الأسباب التي تنمي التوحيد في القلب ما يلي:
1- فعل الطاعات؛ رغبة بما عند الله.
2- ترك المعاصي؛ خوفاً من عقاب الله.
3- التفكر في ملكوت السموات والأرض.
4- معرفة أسماء الله وصفاته ومقتضياتها وآثارها، وما تدل عليه من الجلال والكمال.
5- التزود من العلم النافع، والعمل به.
6- قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم لمعانيه وما أريد به.
7- التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بالنوافل بعد الفرائض.
8- دوام ذكر الله على كل حال؛ باللسان والقلب.
9- إيثار ما يحبه الله عند تزاحم المحاب.
10- التأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، ومشاهدة بره وإحسانه، وإنعامه على عباده.
11- إنكسار القلب بين يدي الله، وافتقاره إليه.
12- الخلوة بالله وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الآخير، وتلاوة القرآن في هذا الوقت، وخَتْمُ ذلك بالاستغفار، والتوبة.
13- مجالسة أهل الخير والصلاح، والإخلاص، والمحبين لله ـ عز وجل ـ والاستفادة من كلامهم وسمتهم.
14- الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشواغل.
15- ترك فضول الكلام، والطعام، والخلطة، والنظر.
16- أن يحب العبد لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، وأن يجاهد نفسه على ذلك.
17- سلامة القلب من الغل للمؤمنين، وسلامته من الحقد، والحسد، والكبر، والغرور، والعجب.
18- الرضا بتدبير الله ـ عز وجل ـ.
19- الشكر عند النعم، والصبر عند النقم.
20- الرجوع إلى الله عند ارتكاب الذنوب.
21- كثرة الأعمال الصالحة من بر، وحسن خلق، وصلة أرحام، إلى غير ذلك.
22- الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل صغيرة وكبيرة.
23- الجهاد في سبيل الله.
24- إطابة المطعم.
25- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم(1/18)
تنوعت طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية وأساليبها في القرآن الكريم، فمن ذلك ما يلي:
1- أمره ـ سبحانه ـ بعبادته، قال ـ تعالى ـ : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [النساء: 36].
2- النهي عن عبادة مَنْ سواه كما في قوله ـ تعالى ـ : ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 22].
3- إخباره ـ سبحانه وتعالى ـ أنه خلق الخلق لعبادته كما في قوله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
4- إخباره أنه أرسل الرسل بالدعوة إلى عبادته، والنهي عن عبادة من سواه كما في قوله : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [النحل: 36].
5- الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية؛ فإذا كان الله ـ تعالى ـ هو الخالق الرازق الذي أنعم عليك بالنعم الظاهرة والباطنة ولم يشاركه في ذلك مشارك ـ فعليك أن لا تتأله لغيره، ولا تتعبد لسواه، ويلزمك أن تخصه بالتوحيد كما قال ـ تعالى ـ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
6- الاستدلال على وجوب عبادته بكونه النافع، الضار، المعطي، المانع؛ فمن اتصف بهذه الصفات فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه.
7- الاستدلال على وجوب عبادته بانفراده بصفات الكمال، وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) [مريم: 65].
وقوله : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [الأعراف: 180].
وقوله عن خليله ـ عليه السلام ـ أنه قال لأبيه : ( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) [مريم: 42].(1/19)
8- الاستدلال على وجوب عبادته بدقة صنعه ـ سبحانه وتعالى ـ فكلما تدبر العاقل ذلك، وتغلغل فكره فيه، وازداد تأمله في ذلك ـ علم أنه هو المستحق للعبادة.
9- الاستدلال على وجوب عبادته بتعدد نعمه، فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة فمن الله - وحده - وأن أحداً من المخلوقين لا ينفع أحداً إلا بإذن الله، وأن الله هو النافع الضار ـ علم أن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
10- تعجيزه لآلهة المشركين كقوله ـ تعالى ـ : ( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) [الأعراف: 191 - 192]، وقوله : ( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ) [الإسراء: 56]، وقوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [الحج: 73].
11- تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأنبياء: 66 - 67]، وقوله : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) [البقرة: 130].(1/20)
12- بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبوداتُ في أحرج المواقف كما قال ـ تعالى ـ : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ ) [البقرة: 165 - 167]، وقوله : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) [فاطر: 14].
13- بيان مصير الموحدين وعاقبتهم في الدنيا والآخرة كما قال عن إمامهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ : ( وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ) [البقرة: 130]، وقوله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) [الأنعام: 82].(1/21)
14- رده على المشركين باتخاذ الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له ـ سبحانه ـ لا تطلب من سواه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وبعد رضاه عن المشفوع له، قال ـ سبحانه ـ : ( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الزمر: 43 - 44] وقال : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) [البقرة: 255].
15- بيان أن هؤلاء المعبودين من دون الله لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه كما قال ـ تعالى ـ : ( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) [سبأ: 22 - 23].
16- ذكر البراهين والأمثلة الدالة على بطلان الشرك، وسوء عاقبته، مما يجعل النفوس السليمة تنفر منه، قال ـ تعالى ـ : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) [الحج: 31].
علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية
أنواع التوحيد متلازمة، وبعضها مرتبط ببعض، وفيما يلي يتبين لنا شيء من علاقة توحيد الألوهية؛ بتوحيد الربوبية والعكس:
1- توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الألوهية؛ فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته ـ وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده ـ لزم إفراده بالعبادة.(1/22)
2- توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمناً في توحيد الألوهية، فمن عَبَدَ الله وحده لا شريك له فلابد أن يكون معتقداً أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر.
3- الربوبية عمل قلبي لا يتعدى القلب، ولذا سمي توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي.
أما الألوهية فهو عمل قلبي وبدني، فلا يكفي فيه عمل القلب، بل يتعداه إلى السلوك والعمل قصداً لله وحده لا شريك له.
4- أن توحيد الربوبية لا يكفي وحده؛ ذلك لأن توحيد الربوبية مركوز في الفطر، فلو كان كافياً لما احتاج الناس إلى بعثة الرسل، وإنزال الكتب، فلا يكفي أن يقر الإنسان بما يستحق الرب ـ تعالى ـ من الصفات، وأنه الرب الخالق وحده.
ولا يكون موحداً إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله هو المألوه المعبود وحده، ويعبده بمقتضى هذه المعرفة.
5- توحيد الألوهية هو الذي جاءت به الرسل، وهو الذي حصل به النزاع بين الرسل ـ عليهم السلام ـ وبين أممهم، كما قال قوم هود لنبيهم هود ـ عليه السلام ـ عندما قال لهم : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [الأعراف: 59] ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [الأعراف: 70].
وكما قال كفار قريش لما أُمِروا بإفراد الله بالعبادة : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) [ص: 5].
أما توحيد الربوبية فإنهم لم ينكروه، بل إن إبليس لم ينكره ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) [الحجر: 39].
6- أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا فترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل لفظ ما يراد به، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ ) [الناس: 1 - 3].(1/23)
فيكون معنى الرب: هو المالك المتصرف، وهذا توحيد الربوبية، ويكون معنى الإله: المعبود بحق المستحق للعبادة دون سواه وهذا توحيد الألوهية.
وتارة يذكر أحدهما مفرداً عن الآخر فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر: " من ربك؟ ومعناه: من إلهك؟ " وكما في قوله ـ تعالى ـ : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) [الحج: 40]، وقوله : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً ) [الأنعام: 164]، وقوله عن الخليل ـ عليه السلام ـ : ( رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) [البقرة: 258] وكما في قوله ـ تعالى ـ : ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) [النمل: 62].
7- لابد لسلامة التوحيد، والفوز بالدارين من تحقيق هذين الأمرين.
ما ضد توحيد الألوهية ؟
1- الشرك؛ الذي يذهب به بالكلية.
2- البدع؛ التي تذهب بكماله الواجب.
3- المعاصي؛ التي تقدح فيه، وتنقص ثوابه
الفرق التي أشركت في توحيد الألوهية
الفرق التي أشركت في هذا النوع من التوحيد كثيرة منها:
1- اليهود: الذين عبدوا العجل، ولا يزالون يعبدون الدرهم والدينار؛ فالمال هو معبودهم.
2- النصارى: لادعائهم ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ وعبادتهم له.
3- الرافضة: لدعائهم علياً، والعباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما من آل البيت.
4- النصيرية: لعبادتهم عليا ـ رضي الله عنه ـ وزعمهم أنه الإله.
5- الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيدي.
6- غلاة الصوفية، وعباد القبور: لغلوهم في الأولياء، وصرف النذور، والقرابين لأصحاب القبور، وطوافهم حول القبور إلى غير ذلك من القربات التي تصرف لأصحابها.(1/24)