تعظيم الآثار رؤية شرعية
محمد بن عبد الله الهبدان
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فتعظيم الآثار ظاهرة قديمة ، تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة عند كثير من
الشعوب والأمم ، وقد درجت بعض الدول في العصور المتأخرة على إحياء آثارها
التاريخية لأسباب سياسية واقتصادية ، ونشطت كثير من المنظمات الدولية في
رعاية تلك الآثار ودعوة الدول إلى العناية بها .
وبعد حادثة تحطيم الأصنام التي جرت في أرض أفغانستان كثر حديث الساسة
والمنظمات الدولية والقنوات الإعلامية عن الآثار التاريخية وضرورة العناية بها ،
فكتبت هذه الدراسة المتواضعة توضيحاً للمنهج الشرعي الصحيح ، وبياناً للحق
مستعيناً بالله - تعالى - فأقول ، وبالله التوفيق :
تعريف الآثار لغة واصطلاحاً :
1 - تعريف الأثر لغة [1] :
الهمزة والثاء والراء ، لها ثلاثة أصول : تقديم الشيء ، وذكر الشيء ، ورسم
الشيء الباقي .
فالأول وهو تقديم الشيء : كأن تقول افعل يا فلان هذا آثِراً ما ، أي : إنْ
اخترت ذلك الفعل فافعل هذا إما لا . قال ابن الأعرابي : معناه : افعله أوَّلَ كلِّ
شيء .
والثاني وهو ذكر الشيء : ومنه قول ابن عمر - رضي الله عنهما - : « ما
حلفت بعدها آثِراً ولا ذاكراً » فقوله : آثِراً : أي مخبراً عن غيري أنه حلف به .
والثالث وهو رسم الشيء الباقي : قال الخليل : والأثر بقية ما يرى من كل
شيء ، وما لا يرى بعد أن تبقى فيه علقة . والآثار الأثر ، كالفلاح والفلح ، والسداد
والسدد ، قال الخليل : أثر السيف ضربته ، وتقول : من يشتري سيفي وهذا أثره ،
يضرب للمجرب المختبر .
وقال الأصفهاني : أثر الشيء : حصول ما يدل على وجوده ، يقال : أَثَر
وإثْرٌ ، والجمع : الآثار ، قال - تعالى - : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا }
( الحديد : 27 ) ، { وَآثَاراً فِي الأَرْضِ } ( غافر : 21 ) .(1/1)
ومن هذا يقال : للطريق المستدَل به على مَنْ تقدم : آثار ، نحو قوله -
تعالى- : { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } ( الصافات : 70 ) ، { قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى
أَثَرِي } ( طه : 84 ) .
2 - تعريف الآثار اصطلاحاً :
من خلال البحث لم أجد أحداً عرَّف الآثار ، ومجمع اللغة العربية عرَّف علم
الآثار بقوله : علم الوثائق والمخلفات القديمة [2] .
وهذا التعريف قاصر ؛ إذ لا يتناول المواقع التي لا يوجد فيها أمور عينية ، وهي
من الآثار .
ويمكن أن يقال في تعريفها بأنها : ما يدل على أثر مَنْ سلف من الأمم .
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده وموقفهم من الاهتمام
بالآثار :
من خلال تتبع بعض الأحداث يتبين لنا منهج رسول الله ، فمن ذلك :
1 - الأماكن التي زارها النبي قبل البعثة وبعد البعثة لم يرد دليل واحد على
أن النبي قصد زيارتها أو أمر بزيارتها أو حث على الاهتمام بها ، ونحو ذلك . قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « فإن النبي بعد أن أكرمه [الله] بالنبوة لم
يكن يفعل ما فعله قبل ذلك من التحنث في غار حراء أو نحو ذلك ، وقد أقام بمكة
بعد النبوة بضع عشرة سنة ، وأتاها بعد الهجرة في عمرة القضية ، وفي غزوة الفتح ،
وفي عمرة الجعرانة ولم يقصد غار حراء ، وكذلك أصحابه من بعده ، لم يكن أحد
منهم يأتي غار حراء .. » [3] ويقول أيضا : « وكذلك قصد الجبال والبقاع التي
حول مكة غير المشاعر ؛ عرفة و مزدلفة و منى مثل جبل حراء والجبل الذي عند
منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك ؛ فإنه ليس من سنة رسول الله
زيارة شيء من ذلك بل بدعة » [4] .
2 - عندما فتح النبي مكة وطاف بالكعبة كسر الأصنام التي حول الكعبة كلها
كما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِي اللَّه عَنْه - قَالَ : دَخَلَ النَّبِيُّ مَكَّةَ(1/2)
وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاثُ مِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُباً فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَجَعَلَ
يَقُولُ صلى الله عليه وسلم : { جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }
( الإسراء : 81 ) [5] وهذه الأصنام تعتبر من الآثار التي يحافظ عليها في مثل
هذا الزمن ؛ فلماذا لم يحافظ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتني بها ،
ويجعلها في متحف ونحوه ؟ ! !
وعلى هذا المنوال سار أتباعه الكرام ، وإليك البيان :
لقد كان هدي السلف الصالح الاهتمام بالآثار الفعلية والقولية من أقوال
المصطفى صلى الله عليه وسلم وأفعاله ، ولا أدل على ذلك من هذه الكتب التي
تزخر بالكثير من الآثار الفعلية والقولية .. فأفنوا أعمارهم من أجل المحافظة عليها ،
وقطعوا القفار وكابدوا مشقة الأسفار ؛ وواصلوا الليل بالنهار ؛ كل ذلك جمعاً لآثار
النبي المختار صلى الله عليه وسلم وتدوينها ليعمل بها .. وبلغ من حرصهم على
تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية أن يُنقَل لنا حتى شؤون النبي
صلى الله عليه وسلم الزوجية في غسله ووضوئه ، في أكله وشربه ، وفي نومه
واستيقاظه .. في كل شيء .. هذا كان ديدنهم ، وتلك كانت همتهم . ولم يكن معروفاً
عنهم تتبع الآثار المكانية والعينية والاهتمام بها وتشييدها أو عمل مزارات . يقول
الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : « ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم - ورضي الله عنهم - أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وأكملهم نصحاً لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار ، ولم يعظموها ،
ولم يدعوا إلى إحيائها .. ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمراً مشروعاً لفعله النبي
صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا
إليه .. » [6] .
ومما يدل على ذلك :
1 - موقفهم من الآثار الموجودة في مكة و المدينة وبيت المقدس : فلم يعرف(1/3)
أن أحداً منهم زار تلك الآثار أو تتبعها وأمر بتشييدها ، بل كانوا يسدون هذا الباب ؛
فإن المسلمين لما فتحوا تُستَر ، وجدوا هناك سرير ميت باق ذكروا أنه « دانيال »
ووجدوا عنده كتاباً فيه ذكر الحوادث ، وكان أهل تلك الناحية يستسقون به ، فكتب
في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر ، فكتب إليه أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً ،
ثم يُدفَن بالليل في واحد منها ويعفَّى قبره ؛ لئلا يفتتن الناس به [7] ولذلك يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « لم تَدَعِ الصحابة في الإسلام قبراً ظاهراً
من قبور الأنبياء يفتتن به الناس ؛ ولا يسافرون إليه ولا يدعونه ، ولا يتخذونه
مسجداً ؛ بل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة ، ومنعوا الناس منه
بحسب الإمكان ، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان ؛ إن كان الناس يفتتنون به ،
وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره .. » [8] .
وفي بعض الأحايين تحصل مناسبة لزيارة تلك الأماكن الأثرية ومع ذلك لا
يزورونها كما حصل لعمر ابن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما - فقد
زارا بيت المقدس ولم يأتيا الصخرة ولا غيرها من البقاع [9] ، بل إذا خشيت الفتنة
أمروا بإزالتها كما أمر عمر بقطع الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان .
2 - وجود الأهرامات في مصر : فبعد دخول الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن
العاص - رضي الله عنه - لم تذكر كتب التراجم والسير والتاريخ أن أحداً منهم
زار تلك الأهرامات مع أنها تعتبر معلماً من معالم مصر فضلاً عن الاهتمام بها
وتشييدها .
وكم هم العلماء الذين رحلوا إلى مصر لطلب العلم والحديث ! ! فهل نقل أن
أحداً منهم زار تلك الآثار ؟ ! ! فهذا الإمام الشافعي و العز بن عبدالسلام و ابن
خزيمة و أبو حاتم وغيرهم كثير .. وقد سئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول
ونحوها : « هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر ؟ فقال : كان أكثرها مغموراً
بالرمال ولا سيما أبا الهول » [10] .(1/4)
بل إن كثيراً من هذه الآثار لم تكتشف إلا أخيراً ؛ فمعبد أبي سمبل مثلاً الذي
يعد من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل
قرن أو نصف قرن تقريباً ، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا
الوقت لم تكتشف إلا قريباً .
« ومما يدل دلالة واضحة على عدم الاهتمام بها أن بعض تلك الآثار يعلو
عليها التراب ، يقول ياقوت الحموي : وفي سفح أحد الهرمين صورة آدمي عظيم
مصبغة وقد غطى الرمل أكثرها » [11] مما يدل على أنها مهملة .
وأشد من ذلك صدور محاولات عدة من الولاة لهدمها كالمأمون [12] والملك
العزيز الأيوبي [13] . وقد ذكر ابن خلدون أن الخليفة الرشيد حاول كسر إيوان
كسرى على ضخامته مع أن بعضهم أشار عليه بتركه ؛ لا من أجل التفاخر به ؛
ولكن من أجل أن يستدل به على عظم ملك آبائه الذين سلبوا الملك لأهل ذلك
الهيكل [14] ؛ ومع ذلك لم يستجب فقام بمحاولة تكسيره - رحمه الله - .
وقال أبو علي الأوقي : سمعت أبا طاهر السِّلَفي [15] يقول : « لي ستون سنة
بالإسكندرية ما رأيت منارتها إلا من هذه الطاقة ، وأشار إلى غرفة يجلس
فيها » [16] . مع أنها معلم من معالم الإسكندرية .
ولكن بدأ هذا النوع ينمو ويسري في بلاد المسلمين كلها وهو : العناية بالآثار ،
وعمل المزارات لها وارتيادها ، والاهتمام بها ، والحفاظ عليها ، بل هذا يعتبر من
أبرز اهتمامات وزارات السياحة ، وإدارات الآثار .
بيان أن الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين :
من المعلوم أن الدول الغربية هي التي شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام
لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي .. فها هو ( جب ) يقول بصراحة تامة :
« وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث
الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن ،
فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفي مصر وفي إندونيسيا وفي العراق وفي(1/5)
فارس ، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوروبا ، ولكن من
الممكن أن يلعب في المستقبل دوراً مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم
مقوماتها » [17] .
وهذا التصريح يعلل لنا عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع
الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية
الشعوبية فيها وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة ، مثل الاهتمام
بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه ، والاستعانة
على ذلك بالأناشيد ، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب
المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال بها ، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي
خاص ولا سيما غطاء الرأس مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص ، بعد أن
كانت تشترك في كثير من مظاهره [18] .
وحتى يحصل لهم ما يريدون ، ويتحقق لهم ما يشتهون « أعانت الدول
المحتلة كُلاً في منطقة نفوذه على تدعيم قداسة هذه الأوطان الجديدة في نفوس الناس
بأسلوب علمي منظم ، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه
الأقطار ، ونشط الحفر للبحث عن آثار الحضارات القديمة السابقة على الإسلام في
كل من العراق و سوريا و لبنان و فلسطين وشرق الأردن ومصر ؛ لتوهين عرى
الجامعة العربية ، ولتشتيت القلوب التي ألف بينها الإسلام وجمعها على لغة واحدة ؛
فاستيقظت العصبيات الجاهلية ، وراح كل بلد يفاخر البلاد الأخرى بمجده العريق ،
وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات
البابليين والآشوريين والكلدانيين والحثيين والفينيقيين والفراعنة .
وكانت أصابع الغربيين واضحة في هذه الجهود ؛ فقد عاش المسلمون دهوراً
وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً ، ولا يتحدثون عنها حين
يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة ، لا يثير الحديث عنهم(1/6)
شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم ، وظلوا على هذه الحال حتى بدأ الغربيون
بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها منذ اتجهت مطامعهم إلى بلادهم .
وللأوروبيين في ذلك أسلوب خبيث ماكر ؛ فهم يبدؤون التنقيب ببعوث من علماء
الآثار الغربيين ، حتى إذا حققوا ما يهدفون إليه من اهتمام كل بلد من هذه البلاد
بتراثه القديم وتحمسه له وغيرته عليه ، ورأوا أن هذه الغيرة تدفعه إلى منافسة
الأجانب في هذا الميدان الذي يعتبر نفسه أوْلى به وأحق ، بوصفه وارث هذه
الحضارة ، عند ذلك يتخلون عن مهمتهم ويتركونها في رعايته ، مطمئنين إلى أنه
سيوالي السير في الخطوط التي رسموها له .
والأدلة على هذا الأسلوب الخبيث كثيرة لا تعوز الباحث ؛ فقد بلغ من اهتمام
الأوروبيين بنبش هذا التاريخ القديم واتخاذه أساساً لتدعيم التجزئة الجديدة للوطن
العربي أن عصبة الأمم قد نصَّت في صك انتداب بريطانيا إلى فلسطين على
الاهتمام بالحفريات ، وذلك في المادة ( 21 ) التي تنص على : « أن تضع الدولة
المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً خاصاً بالآثار
والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية .. » ، وكذلك كان شأن الفرنسيين في سوريا
ولبنان ، فقد كان أول ما اهتم به الفرنسيون أن ألَّفوا في خلال الحرب العالمية
الأولى لجاناً في دمشق و بيروت لكتابة تاريخ الشام ، فكتبوا منه بعض تاريخ لبنان
وأهملوا تاريخ سوريا ، ثم لم يلبث الآباء اليسوعيون في بيروت أن كلفوا ثلاثة من
رهبانهم الفرنسيين سنة 1920م بكتابة هذا التاريخ ، بعد أن قسموه إلى ثلاثة
عصور : العصر الآرامي والفينيقي ، والعصر اليوناني والروماني ، والعصر
العربي .
ومما لا تخفى دلالته في هذا الصدد أن الثري الأمريكي اليهودي الأصل
روكفلر ( ابن روكفلر الكبير ) صاحب الملايين ، قد أعلن سنة 1926م عن تبرعه
بعشرة ملايين دولار أمريكي لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر ، يلحق به(1/7)
معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن ، واشترط لمنح هذه الهبة أن يوضع
المتحف والمعهد تحت إشراف لجنة مكونة من ثمانية أعضاء ليس فيها إلا عضوان
مصريان فقط ، على أن تظل هذه اللجنة هي المسؤولة عن إدارة المتحف والمعهد
لمدة ثلاث وثلاثين سنة .
وقد استرد الثري الصهيوني الأمريكي هبته وقتذاك ، بعد أن أرسل مندوباً
يمثله من علماء الآثار الأمريكيين المعروفين وهو الأستاذ بْرِسْتِدْ ومعه أحد محاميه ،
وذلك لرفض الحكومة شرط إشراف الأجانب الفني على المعهد ، وقد كان واضحاً
من تحديد صاحب الملايين مدة الإشراف بثلاث وثلاثين سنة أنه يهدف إلى خلق
جيل من المتعصبين للفرعونية ثقافياً وسياسياً ، ومصلحة الصهيونية في ذلك ظاهرة ؛
لأنها إذا نجحت في سلخ الدول العربية عن عروبتها فقد سلختها من إسلامها ، وإذا
انسلخت هذه الدول من إسلامها ومن عروبتها أمن اليهود كل معارضة لاستقرارهم
في فلسطين ، وعاشوا مع جيرانهم في هدوء يمكن لهم من الإعداد لوثبة جديدة
يأكلون فيها جيرانهم النائمين ؛ لأن معارضة الدول العربية لمطامع اليهود في
فلسطين إنما تستند إلى الإسلام والعروبة ، فإذا انسلخ المصريون مثلاً من الإسلام
والعروبة ولبسوا ثوب الفرعونية مات الحافز الذي يدفعهم إلى مجاهدة اليهود
ومعارضة دولتهم في فلسطين ؛ إذ يصبح اليهود والعرب لديهم عند ذلك
سواء » [19] .
وقد وضح الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - أن إحياء الآثار القديمة تعتبر
من دسائس الأعداء فقال : « ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية دعوتها إلى إحياء
الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يشغلوا المسلمين عن العمل المثمر
بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام ، وإلا فما
فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة ! والرسوم البالية الدارسة ! وما
فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد أو ألعاب قد فنيت وبادت ! في وقت هم في(1/8)
أمسّ الحاجة إلى العمل الجاد المثمر ، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا
كثيراً من بلادهم وبعض مقدساتهم ! إنهم في مثل هذه الظروف بحاجة إلى العودة
إلى دينهم وإحياء سنَّة نبيهم ، والاقتداء بسلفهم الصالح حتى يعود لهم عزهم
وسلطانهم ، وحتى يستطيعوا الوقوف على أقدامهم لرد أعدائهم ، وأن يعتزوا
برصيدهم العلمي من الكتاب والسنة والفقه ، ويستمدوا من ذلك خطة سيرهم في
الحياة ، ويقرؤوا تاريخ أسلافهم لأخذ القدوة الصالحة من سيرهم ، أما أن ينشغلوا
بالبحث عن آثار الديار ، وإحياء الفنون الشعبية بالأغاني والأسمار ، وإقامة مشاهد
تحاكي العادات القديمة ؛ فكل ذلك مما لا جدوى فيه ، وإنما هو استهلاك للوقت
والمال في غير طائل ، بل ربما يعود بهم إلى الوثنية ، والعوائد الجاهلية » [20] .
أسباب الافتتان بالآثار :
إن الله - تعالى - أرسل الرسل ، وأنزل الكتب تبياناً لأهم قضية خُلقت
الخلائق من أجلها ألا وهي قضية التوحيد والنهي عن الشرك ، وقد ركز القرآن
والسنة في بيان هذه القضية ووضحها غاية الإيضاح ، وبينها غاية البيان حتى غدت
من ضروريات هذا الدين التي لا يمكن جهلها ، ولكن لما اشتدت غربة الإسلام
وتباعد عصر النبوة ؛ انتشر الشرك في الأمة وعظم الخطب في آثار الأنبياء
والصالحين ، وأصبحوا يعتقدون فيهم الاعتقادات الباطلة ، والخرافات الساقطة ،
فلما كان ذلك كذلك احتاج الأمر إلى دراسة الأسباب التي جعلت الكثير من أفراد
الأمة يفتنون في مثل هذه الآثار ، حتى يتم علاجها وإيجاد الحلول المناسبة لهذه
القضية الجلل « لأن معرفة المرض وسببه يعين على مداواة أصحابها وإزالة
شبهاتهم » [21] وهذه الأسباب متفاوتة من جهة تأثيرها على الناس ومتعددة ،
وسأذكر إن شاء الله - تعالى - بعض هذه الأسباب مقدماً الأهم فالأهم ، فأقول وبالله
التوفيق :
السبب الأول : الجهل بحقيقة هذا الدين :(1/9)
لقد كان الناس قبل البعثة في جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء ، حتى جاءهم
بمن أخرجهم من ظلمات الجهل ، إلى نور العلم ، جاءهم خاتم الأنبياء محمد صلى
الله عليه وسلم جاءهم ليعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( آل عمران : 164 ) . فما مات
صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على
المحجة البيضاء ، ثم قام أصحابه بتبليغ رسالته لمن بعدهم فكانوا أعلم الناس بنبيهم
صلى الله عليه وسلم ثم حمل عنهم العلم مَنْ بعدهم ، وهكذا كل جيل يحمل العلم عن
سلفه ، وفي هذا كله لا يزال العلم ينقص ، ويكثر الجهل كلما امتد الزمان ؛ وذلك
مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « يقبض العلم ويظهر الجهل
والفتن » [22] .
وقد حصل بالفعل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتشر « الجهل
بحقيقة ما بعث الله به رسوله ، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد ، وقطع أسباب
الشرك ، فقلّ نصيبهم جداً من ذلك ، ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ، ولم يكن عندهم
من العلم ما يُبطل دعوته ، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل ، وعصموا
بقدر ما معهم من العلم » [23] بل وصل الأمر عند بعض دهماء الأمة إلى جعل
المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؛ ولذا يقول ابن القيم - رحمه الله - : « قد غلب
الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل ، وخفاء العلم ، فصار المعروف منكراً ،
والمنكر معروفاً ، والسنة بدعة ، والبدعة سنة ، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه
الكبير ، وطمست الأعلام ، واشتدت غربة الإسلام ، وقلّ العلماء ، وغلب السفهاء ،
ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ، ولأهل الشرك(1/10)
والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير
الوارثين » [24] .
وقد بين ابن الجوزي - رحمه الله - أن « الباب الأعظم الذي يدخل منه
إبليس على الناس هو الجهل ، فهو يدخل منه على الجهال بأمان ، وأما العالم فلا
يدخل إلا مسارقة » [25] . وقال القرافي المالكي « .. أصل كل فساد في الدنيا
والآخرة إنما هو الجهل ؛ فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت ، كما أن أصل كل
خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم ؛ فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله - تعالى -
هو المعين على الخير كله » [26] .
وهذا الجهل الذي وقعت به الأمة ناتج والله أعلم عن أمرين :
الأول : الإعراض عن الكتاب ، والسنة تعلماً وتعليماً ، وتدبراً وتفهماً لما
فيهما :
فمن أعرض عن السنة اشتغل بالبدعة ، « وأما من أصغى إلى كلام الله بقلبه ،
وتدبره وتفهمه ، أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ،
وينبت النفاق في القلب ، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول صلى الله
عليه وسلم بكليته ، وحدّث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن
البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس
وتخيلاتها ، ومن بَعُدَ عن ذلك فلا بد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه ، كما أن من
غمر قلبه بمحبة الله - تعالى - وذكره ، وخشيته ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ،
أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه ، وأغناه أيضاً عن عشق الصور ،
وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه ، أي شيء استحسنه ملكه واستعبده .
فالْمُعْرِض عن التوحيد مشرك ، شاء أم أبى ، والمعرض عن السنة مبتدع
ضال ، شاء أم أبى .. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم » [27] .
الثاني : أنهم حملوا نصوص الكتاب والسنة على أناس قد مضوا ، وأما هم
فغير مخاطبين بهما ؛ وهذا ما يتصوره « أكثر الناس ، [حيث] لا يشعرون بدخول(1/11)
الواقع تحته ، وتضمنه له ، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا
وارثاً ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، ولعمر الله إن كان أولئك
قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم ، وتناول القرآن لهم كتناوله
لأولئك ، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : « إنما تُنقَض
عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية » ، وهذا لأنه
إذا لم يعرف الجاهلية والشرك ، وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره ، ودعا إليه
وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر
منه ، أو دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه .. » [28] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - رحمه الله - :
« .. ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن
المشركين ، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا ، وأناس سلفوا
وانقرضوا ، ولم يعقبوا وارثاً ، وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين :
هذه نزلت في عباد الأصنام ، هذه في النصارى ، هذه في الصابئة ؛ فيظن الغُمْر أن
ذلك مختص بهم ، وأن الحكم لا يتعداهم ، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين
العبد وبين فهم القرآن والسنة » [29] .
السبب الثاني : علماء الضلال :
من أسباب انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين علماء أهل الضلال ،
وهؤلاء ابتليت الأمة بهم حتى وصل الأمر ببعضهم - كما قال شيخ الإسلام - أنهم :
« يُصنِّفون لأهل السيف والمال من الملوك والوزراء في ذلك ، ويتقربون إليهم
بالتصنيف فيما يوافقهم .. » [30] ، وقد صنف شيخ الرافضة ابن النعمان المعروف
عندهم بالمفيد كتاباً سماه : « مناسك المشاهد » جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج
الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس ، وهو أول بيت وضع للناس فلا(1/12)
يطاف إلا به ، ولا يُصلى إلا إليه ، ولم يأمر الله إلا بحجه [31] . وهؤلاء الذين
صنفوا هذه الكتب لهم أغراض فاسدة ؛ منها التقرب إلى الأئمة ، ومنها إضلال الأمة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « وهذا إنما ابتدعه وافتراه في
الأصل قوم من المنافقين والزنادقة ليصدوا به الناس عن سبيل الله ، ويفسدوا عليهم
دين الإسلام ، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين لله .. ولهذا صنف
طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه ، واتفقوا هم
والقرامطة الباطنية على المحادة لله ورسوله حتى فتنوا أمماً كثيرة وصدوهم عن دين
الله . وأقل ما صار شعاراً لهم تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد ؛ فإنهم يأتون من
تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها ما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه
وسلم ؛ بل نهى الله عنه ورسوله عباده المؤمنين . وأما المساجد فيخربونها ؛ فتارة
لا يصلون جمعة ولا جماعة بناءً على ما أصلوه من شعب النفاق ، وهو أن الصلاة
لا تصح إلا خلف معصوم ، ونحو ذلك من ضلالتهم .. » [32] . بهذا تعرف مدى
تأثير هؤلاء العلماء في انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين .
السبب الثالث : الأئمة المضلون :
لا يشك عاقل في خطر الأئمة المضلين ، وكما قيل : الناس على دين ملوكهم ،
وقد حذر صلى الله عليه وسلم الأمة منهم بقوله كما في حديث ثوبان - رضي الله
عنه - : « إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين » [33] ، وعن زياد بن حدير قال :
قال لي عمر : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال : قلت : لا ، قال : يهدمه زلة
العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين » [34] .
فمثلاً القبة التي على الصخرة لم تكن موجودة في عهد الصحابة رضي
الله عنهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بل كانت مكشوفة
حتى تولى عبد الملك بن مروان الملك فبنى القبة على الصخرة وكساها في(1/13)
الشتاء والصيف ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس [35] . وقال في موضع
آخر : « وظهر في ذلك الوقت تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن
المسلمون يعرفونه بمثل هذا ، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في
تعظيمها » [36] .
وذكر الشيخ أحمد بن عبد الحميد العباسي رحمه الله المتوفى في القرن العاشر
الهجري في كتابه : « عمدة الأخبار في مدينة المختار » أنه لما كان عام ثمان
وسبعين وستمائة هجرية أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي والد
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ببناء قبة على الحُجرة الشريفة ، ولم يكن
قبل هذا التاريخ عليها قبة ولها بناء مرتفع وإنما كان حظير حول الحجرة الشريفة
فوق سطح المسجد ، وكان مبنياً بالآجر مقدار نصف قامة بحيث يميز سطح الحجرة
الشريفة على سطح المسجد ، وكان مبنياً بالآجر فعملت هذه القبة الموجودة
اليوم .. » [37] .
والمشاهد لم تكن معروفة في العصور المفضلة ، ولكن ظهرت وكثرت في
دولة بني بويه ، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة
كفار ، مقصودهم تبديل دين الإسلام ، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على
بعض ذلك [38] ، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي - رضي الله عنه -
بناحية النجف [39] .
السبب الرابع : الشبهات التي يتمسكون بها في تسويغ فعلهم :
ومن الأسباب التي أدت إلى الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين بعض الشبهات
التي يتشبث بها أصحاب الأهواء والشهوات ، وهي شبه كبيت العنكبوت في
الضعف والوهن ، وكما قيل :
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور [40]
فمن تلك الشبهة مثلاً قولهم : « إن من التماثيل ما يعد أصناماً وما لا يعد كذلك ،
والأولى هي التي تعبد من دون الله ومن ثم فتحريمها مقطوع به على المسلمين ،
أما التماثيل التي لا تعبد فوصفها بأنها أصنام فيه افتئات ينبغي أن يتنزه عنه العقل(1/14)
الرشيد » ، واستدل على هذا التفريق بقوله الله - تعالى - : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ
مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } ( سبأ : 13 ) فسليمان - عليه السلام - كانت تصنع له
التماثيل ، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء [41] .
والجواب على هذا :
أولاً : أن ما فُرِقَ به بين التمثال والصنم لا دليل عليه لعموم النصوص
الشرعية ؛ فالحكم واحد ؛ سواء جعل للعبادة أو لم يجعل لما رواه الترمذي
( 2806 ) وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« أتاني جبريل فقال : إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك
البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان في باب البيت تمثال الرجال ، وكان في البيت قرام
ستر فيه تماثيل ، وكان في البيت كلب ؛ فمُرْ برأس التمثال الذي بالباب فليقطع
فليصيَّر كهيئة الشجرة ، ومُرْ بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتين منتبذتين يوطآن ،
ومُرْ بالكلب فيخرج . ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم » . « ومن المعلوم
أن هذا التمثال الذي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متخذاً للعبادة ، ولا
يشك في ذلك مسلم ؛ ومع ذلك فقد أمره جبريل بإزالته . وروى مسلم من حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا
تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير » [42] .
أما استدلاله بالآية فقد وضح الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره وغيره
أن هذه الآية تدل على أن تصوير التماثيل كان مباحاً في ذلك الزمان ، ونسخ بشرع
محمد صلى الله عليه وسلم [43] . والنصوص في تحريم صناعة التماثيل المجسمة
كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها وهذا قول جماهير العلماء قاطبة ، بل نقل كثير من
المالكية الإجماع على ذلك [44] .
السبب الخامس : الغلو في التعظيم [45] :
من الأسباب التي أدت إلى انتشار الفتنة بآثار الأنبياء والصالحين هو الغلو في(1/15)
التعظيم ، وقد جاءت النصوص الكثيرة في التحذير من هذا الداء العضال على سبيل
العموم سواء كان ذلك في جانب العقيدة أو العبادة ، يقول الله - تعالى - : { قُلْ يَا
أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ } ( المائدة : 77 ) ، وقوله سبحانه : { يَا
أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ } ( النساء : 171 )
فهاتان الآيتان وإن كان الخطاب موجه فيهما إلى أهل الكتاب فإن أمة محمد صلى
الله عليه وسلم تدخل فيهما تبعاً [46] لأنها قد نُهيت عن اتخاذ سبيلهم والسير على
منوالهم واتباع نهجهم ، وهذا واضح غاية الوضوح لمن تتبع الأدلة واستقرأها [47] .
وجاء في حديث الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« ياكم والغلو في الدين ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين » [48] . قال شيخ
الإسلام رحمه الله : « وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال ،
وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة بناءً على
أنها أبلغ من الصغار ، ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا
إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به ، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من
الهلاك » [49] .
وقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - أن سبب شرك بني آدم هو الغلو
في تعظيم قبور الصالحين فقال : « والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين : أولها :
تعظيم قبور الصالحين ، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها ، وهذا أول الأسباب التي بها
ابتدع الآدميون ، وهو شرك قوم نوح .. » [50] . وقد ذكر ابن القيم أن من أعظم
مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس ، وما نجا منها إلا من لم يرد الله - تعالى -
فتنته « ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور ، حتى آل الأمر
فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله ، وعُبدت قبورهم ، واتخذت أوثاناً ، وبنيت(1/16)
عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ، ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل ،
ثم جعلت أصناماً ، وعبدت مع الله - تعالى - ، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم
نوح ، كما أخبر - سبحانه - عنهم في كتابه ، حيث يقول : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ
عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لاَ
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً } ( نوح : 21-24 ) . قال غير واحد من السلف : « كان هؤلاء قوماً
صالحين في قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا
تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم » . فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة
القبور ، وفتنة التماثيل ، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنها - :
« أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كنيسة رأتها بأرض الحبشة ، يقال لها مارية ، فذكرت له ما رأت فيها من
الصور ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أولئك قوم إذا مات فيهم العبد
الصالح ، أو الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجداً ، وصوروا فيه تلك الصور ،
أولئك شرار الخلق عند الله » [51] . فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور ،
وهذا كان سبب عبادة اللات ؛ فقد روى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور
عن مجاهد { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى } ( النجم : 19 ) قال : « كان يلت لهم السويق
فمات ، فعكفوا على قبره » . وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما : « كان يلت السويق للحاج » .
فقد رأيتَ أن سبب عبادة وَدّ ، و يغوث و يعوق و نسر واللات ، إنما كانت(1/17)
من تعظيم قبورهم ، ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوهم كما أشار إليه النبي صلى الله
عليه وسلم .. » [52] .
السبب السادس : الحرص على تحصيل المال والجاه :
من أسباب الاهتمام بآثار الأنبياء والصالحين ونحوها الحرص على الحصول
على الأموال والجاه والشرف والمكانة بين الناس ؛ فمن ذلك ما ذكره عبد القدوس
الأنصاري أن الحجر الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني
ظفر [53] رآه في خزانة زجاجية عالية بمدخل دار الكتب المصرية ، وعلم من
المدير العام لها أن شخصاً من أهل المدينة نقله إلى مصر فيما بعد وباعه إلى الدار
بثمن كبير ! ! ! [54] .
يقول العلامة الشوكاني - رحمه الله تعالى - : « وربما يقف جماعة من
المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور
ويستدروا منهم الأرزاق ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود
عليهم ، وعلى من يعولونه ، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر
لذلك الميت بتهويلات ، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه ، ويوقدون
في المشهد الشموع ، ويوقدون فيه الأطياب ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة
يتجمع فيها الجمع الجم ، فيبهر الزائر ، ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج
الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت والتمسح بأحجار قبره وأعواده ،
والاستغاثة به والالتجاء إليه ، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات ، مع
خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال ، ونحرهم أصناف
النحائر » [55] .
السبب السابع : التأثر بأصحاب الديانات الضالة :
من أسباب الاهتمام بالآثار اختلاط المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى من
يهود ونصارى وغيرهم ، وهؤلاء عندهم اعتقادات وأباطيل كثيرة ، تأثر بها بعض
ضعاف المسلمين ، فتعظيم القبور كان موجوداً عند اليهود والنصارى ، وفي
النصارى أكثر وأشد ؛ قال صلى الله عليه وسلم : « لعن الله اليهود والنصارى(1/18)
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا » [56] ، ولأن النصارى يعيشون بين
المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كان التأثر بهم أكثر ؛ فشيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يذكر أن كثيراً : « من جهال المسلمين ينذرون
للمواضع التي يعظمها النصارى ، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس
النصارى ، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم » [57] .
ولو تأملت بعض ما يفعله القُبوريون لعلمت أنه امتداد لعادات وثنية كانت
سائدة قبل الإسلام : « وأول هذه العادات : تقديس الأولياء ، تلك العادة التي لقيت
رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ ؛
ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر
الديني المصري منذ العصر الفرعوني ، ولا سند لها في القرآن والسنة .. » [58]
يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ
اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة : « هذا عين ما كان يحتج به المشركون
الأولون وحكاه الله - تعالى - عنهم ... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور
القديسين » .
ويقول أيضاً : « ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم
الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري .. واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين ،
ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله - تعالى - بنفسه ، بل لا بد له من أحد هؤلاء
المعتقدين ليقربه إليه زلفى » [59] .
ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي : « وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء
والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير
المسلمين وقبور المقدسين عندهم ؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم ، ومد يد الطلب
والضراعة إليهم كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم ... » [60] .
ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه ، فيقول : « في بنارس(1/19)
[في الهند] قبر أبي البشر آدم - عليه السلام - ، وقبر زوجه وقبر أمه ! ويقال :
« إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة » ، وقبور قضاته ، وهي تحت قباب
مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف ، وقباب غيره .. وجميع هذه
القبور تعبد بالطواف حولها ، والتمسح بها ، وتلاوة الأدعية والأوراد عندها ،
كغيرها من تماثيل معبوداتهم ، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها
وكهنتها ، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء
وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها ، وأنهم ليس لهم فلسفة في
عبادتها » [61] .
بهذا يتبين أن اختلاط المسلمين بغيرهم ، ومساكنتهم لهم ودخول كثير منهم في
الإسلام مع بقاء بعض العادات الجاهلية سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار
الاهتمام بالآثار .
هذه بعض الأسباب التي أدت إلى انتشار الاهتمام بالآثار والبحث عنها في
بلاد الإسلام حتى عمت البلوى بها في كل مكان حتى لا تكاد ترى من يسلم من ذلك
إلا من وفقه الله لسلوك سبيل المؤمنين الموحدين .
فنسأل الله - تعالى - أن يصلح حال الأمة ، وأن يزيل عنها الغمة ، وينصر
السنة ويقمع البدعة ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
________________________
(1) انظر : مقياس اللغة (1/53) ، لسان العرب (4/5) ، مفردات ألفاظ القرآن ، ص 62 .
(2) المعجم الوجيز ، ص 5 .
(3) مجموع الفتاوى (11/18) .
(4) مجموع الفتاوى (26/144) .
(5) أخرجه البخاري (2478) .
(6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/ 338 339) .
(7) مجموع الفتاوى (27/ 170 171) بتصرف ، وقد ذكرها أيضا بسياق أتم في (27/270) ، وقال: « رواه يونس بن بكر في : (زيادات مغازي ابن إسحاق) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال » ثم ذكر الخبر .
(8) الفتاوى (27/271) .
(9) انظر : اقتضاء الصراط المستقيم 2/809 .
(10) شبه جزيرة العرب (4/1188) .(1/20)
(11) معجم البلدان (5/400) وما بعده ، وانظر : الموسوعة العربية العالمية (1/98) .
(12) انظر : مقدمة ابن خلدون ص 346 ، معجم البلدان (5/400) وما بعده تحفة النظار في رائب الأمصار وعجائب الأسفار (1/57 58) لابن بطوطة وقد بين سبب امتناع الخليفة عن الهدم ؛ وهو بسبب إشارة بعض مشايخ مصر .
(13) انظر : التاريخ المنصوري (1/5) .
(14) انظر : مقدمة ابن خلدون ، ص 346 .
(15) قال الذهبي في ترجمته في السير : هو الإمام العلاَّمة المحدِّث المفتي ، شيخ الإسلام شرف المعمرين أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني الجرواني السير (21/5) .
(16) سير أعلام النبلاء (21/22) .
(17) انظر : أساليب الغزو الفكري ، ص 78 .
(18) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/141) .
(19) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/137140) ، محمد محمد حسين .
(20) الخطب المنبرية (3/85 86) .
(21) الرد على البكري ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ص 80 .
(22) أخرجه البخاري في كتاب العلم ، ح/ 85 ، مسلم في كتاب العلم ، ح/ 157 .
(23) إغاثة اللهفان (1/214) .
(24) زاد المعاد ، (3/507) .
(25) تلبيس إبليس ، ص 130 .
(26) الفروق (4/265) .
(27) إغاثة اللهفان (1/214) بتصرف يسير .
(28) مدارج السالكين (1/343 344) .
(29) تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس ، ص 59 60 .
(30) الاستقامة (1/43) .
(31) انظر : منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام (1/476) .
(32) مجموع الفتاوى ، (4/517) .
(33) رواه أحمد ، ورقمه (21359) ، والترمذي (2229) وقال (حسن صحيح) ، و أبو داود (4252) .
(34) سنن الدارمي ، (216) .
(35) انظر : مجموعة الرسائل الكبرى 2/62 .
(36) الاقتضاء 2/810 .
(37) ص 124 ، وانظر رياض الجنة في الرد على أعداء السنة ، للشيخ مقبل الوادعي ، ص 272 وما بعده .
(38) انظر : مجموع الفتاوى (27/176) .
(39) انظر : المرجع السابق (27/466) .(1/21)
(40) قاله الخطابي في الرد على المتكلمين ، انظر نقض المنطق ص 26 ، ومجموع الفتاوى 4/ 28 ، و الحموية ، ص 114 .
(41) مقال في صحيفة الشرق الأوسط ، لفهمي هويدي بتاريخ 24/11/1421هـ .
(42) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب اللباس والزينة ، ح/ 2112 .
(43) انظر : الجامع لأحكام القرآن (14/174) .
(44) انظر : أحكام التصوير في الفقه الإسلامي ، ص 208 .
(45) انظر في هذا : الفتاوى (17/460) ، و (27/124) ، جامع الرسائل (2/53) .
(46) فقد بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه باب (ما يكره من التعمق والتنازع والغلوّ في الدين والبدع لقوله - تعالى - : [ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ] (المائدة : 77) : « واستدلاله أي البخاري بالآية ينبني على أن لفظ أهل الكتاب للتعميم ليتناول غير اليهود والنصارى ، أو يحتمل على أن تناولها من عدا اليهود والنصارى بالإلحاق) ، وانظر مقاصد الشريعة الإسلامية ، ص60 ، لمحمد الطاهر عاشور .
(47) انظر في ذكر الأدلة التي تأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم اقتضاء الصراط المستقيم ، ص 12 ، وما بعده .
(48) أخرجه النسائي ، ورقمه (3057) ، و ابن ماجه (3029) ، وأحمد (1/215 ، 347) ، و الحاكم (1/466) ، وابن خزيمة (4/274) ، و ابن حبان ، ورقمه (1011) ، والحديث صححه الحاكم وابن خزيمة وابن حبان وشيخ الإسلام ابن تيمية ، كما في الاقتضاء ص 106 ، وقال : « هذا إسناد صحيح على شرط مسلم » ، وصححه من المعاصرين العلامة الألباني في السلسة الصحيحة ، ورقمه (1282) .
(49) نقلاً من تيسير العزيز الحميد ، ص 275 ، ويوجد نحوه في الاقتضاء (1/289) .
(50) الرد على المنطقيين ، ص 285 ، الفتاوى (17/460) .
(51) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، ح/ 434 ، مسلم في كتاب المساجد ، ح/ 528 .
(52) انظر : إغاثة اللهفان (1/183 184) بتصرف واختصار وانظر زاد المعاد (3/458) .(1/22)
(53) ولا يعني هذا التسليم بصحة أن هذا الحجر هو الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
(54) آثار المدينة المنورة ، ص 131 .
(55) الدر النضيد ، ص 93 94 .
(56) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، ح/ 435 ، 436 ، مسلم في كتاب المساجد ، ح/ 531 .
(57) مجموع الفتاوى 27/461 .
(58) الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة ، ص 128 .
(59) مجلة المنار ج 3 ، م33 ، ص 216 218 .
(60) عن : الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ ، ص 780 .
(61) مجلة المنار ج 3 ، م33 ، ص 216 218 ، نقلاً من مجلة البيان عدد 131 ، ص 81 .
في الحلقة الأولى عرَّف الكاتب الآثار لغة واصطلاحاً ، ثم تحدث عن منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ بعده وموقفهم من الاهتمام بالآثار ، وبيَّن أن
الاهتمام بالآثار من عادة غير المسلمين ، ثم عدَّد أسباب الافتتان بالآثار التي أدت
إلى انتشار الاهتمام بها في بلاد المسلمين ، وفي هذه الحلقة يتابع الكاتب الجوانب
الأخرى من الرؤية الشرعية لتعظيم الآثار .
- البيان -
عواقب التعلق بالآثار :
كوننا مأمورين بالسير في الأرض ، والنظر في خلق الله ، والاعتبار بمصائر
الأمم السابقة ، لا يعني تقديس آثار السابقين أو المحافظة عليها ، ومما يوضح ذلك
أننا نُهينا عن البقاء بديار الأمم الغابرة التي هلكت ، وأُمرنا إذا مررنا بآثارها أن
نكون مسرعين باكين ؛ فكيف نعدها من التراث الثمين والأمجاد ؟ !
ولو كان للناس في تتبع هذه الآثار من مساكن ونحوها مصلحة دينية أو
معاشية لأرشدنا الله إليها ، ولما خفيت على الخلق كثير من تلك الآثار والمساكن
والقبور .
وقد أنكر الله - تعالى - على قوم عاد إطالة البناء وجودته ، فقال سبحانه :
{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ }
( الشعراء : 128-129 ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ(1/23)
آيَةً تَعْبَثُونَ } ( الشعراء : 128 ) أي : مَعْلَماً بناء ًمشهوراً . { تَعْبَثُونَ }
( الشعراء : 128 ) أي : وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه ؛ بل لمجرد
اللعب وإظهار القوة ؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم - عليه السلام - ذلك ؛ لأنه تضييع
للزمان ؛ وإتعاب للأبدان في غير فائدة ، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في
الآخرة [1] . فإذا كان هذا يقال في بناء المساكن ؛ فكيف يكون الحال إذن في
الاهتمام بأماكن الآثار وتحسينها ؟ ! ألا إن الأمر أشد والخطب أعظم .
المبحث الأول : الشرك :
من مفاسد إحياء الآثار أنه يؤدي إلى الشرك الذي هو أعظم الذنوب عند الله -
تعالى - والذي قال الله فيه : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاءُ } ( النساء : 116 ) .
أما كيف يؤدي إلى الشرك ؟
فإن ذلك يحصل - بإحدى حالتين :
الأولى : التمسح بها والصلاة عندها ، وطلب كشف الكربة والشفاعة منها :
قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - : « إن العناية بالآثار على
الوجه الذي ذُكِرَ [2] يؤدي إلى الشرك بالله - جل وعلا - ؛ لأن النفوس ضعيفة
ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها ، والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس
لا يدركها ، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة
يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها ، وما فيها من أشجار أو أحجار ، ويُصلُّون
عندها ، ويدعون من نُسبت إليه ظناً منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول
الشفاعة ، وكشف الكربة . ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية
في نفوسهم ممن يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى
يحصلوا بسبب ذلك على بعض الكسب المادي ، وليس هناك غالباً من يخبر زوارها
بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس .
ويشاهد العاقل ذلك واضحاً في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة(1/24)
وأصبحوا يعبدونها من دون الله ، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها
أولياء ؛ فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ! كما أن
الشيطان لا يفتر في تحيُّن الأوقات المناسبة لإضلال الناس . قال الله - تعالى -
عن الشيطان إنه قال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
المُخْلَصِينَ } ( ص : 82-83 ) ، وقال أيضاً - سبحانه - عن عدو الله الشيطان :
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ } ( الأعراف : 16 ) » [3] .
الحالة الثانية : تقديس أمكنة الأنبياء والصالحين وآثارهم ، وتعظيمها :
وقد كان أصل حصول الشرك وعبادة الأصنام في الأرض بسبب تعظيم
الموتى الصالحين .
روى ابن جرير الطبري - رحمه الله - عن بعض السلف في تفسيره لقوله
تعالى : { وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً } ( نوح : 23-24 ) أن هذه أسماء رجال صالحين من بني
آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم :
لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم ، فلما ماتوا جاء
آخرون دب إليهم إبليس ، فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يُسقَوْن المطر ،
فعبدوهم . وروى ابن جرير أن هذه الأصنام كانت تُعبد في زمان نوح - عليه
السلام - ، ثم اتخذها العرب بعد ذلك [4] .
وأيضاً : فإن اللات التي هي من أكبر أوثان العرب في الجاهلية كان سبب
عبادتها تعظيم قبر رجل صالح والعكوف عليه .
وبهذا تبين أن سبب عبادة الأصنام هو المبالغة في تعظيم الصالحين . وقد رد
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - على مقال نشر بعنوان : ( رميم
بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحريملاء ) وذكر صاحب المقال أن الإدارة العامة(1/25)
للآثار والمتاحف أولت اهتماماً بالغاً بمنزل مجدد الدعوة السلفية الشيخ محمد بن
عبد الوهاب - رحمه الله - في حي غيلان بحريملاء ؛ حيث تمت صيانته وأعيد
ترميمه بمادة طينية تشبه مادة البناء الأصلية .. إلى أن قال : وتم تعيين حارس
خاص لهذا البيت .. إلخ . يقول الشيخ - رحمه الله - : « وقد اطلعت اللجنة
الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية على المقال المذكور ،
ورأت أن هذا العمل لا يجوز ، وأنه وسيلة للغلو في الشيخ محمد - رحمه الله -
وأشباهه من علماء الحق والتبرك بآثارهم والشرك بهم ، ورأت أن الواجب هدمه ،
وجعل مكانه توسعة للطريق سداً لذرائع الشرك والغلو ، وحسماً لوسائل ذلك ،
وطلبت من الجهة المختصة القيام بذلك فوراً ، ولإعلان الحقيقة والتحذير من هذا
العمل المنكر جرى تحريره ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه » [5] .
المبحث الثاني : الابتداع :
الاهتمام بالآثار وإحياؤها ابتداع في الدين ليس عليه دليل من كتاب الله -
تعالى 0 ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يفعله السلف الصالح - رحمهم
الله تعالى - ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه . يقول الشيخ عبد العزيز ابن باز -
رحمه الله - : « ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من أحدث
في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » أخرجه الشيخان ، وفي لفظ لمسلم : « من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ، وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه -
قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة : « أما بعد :
فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر
الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهذه
الآثار التي ذكرها الكاتب كغار حراء ، و غار ثور ، وبيت النبي صلى الله عليه
وسلم ، و دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ومحل بيعة الرضوان وأشباهها إذا عُظِّمت(1/26)
وعُبِّدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار الفراعنة ،
وآثار عظماء الكفرة ، وإنما تزار للتعبد والتقرب إلى الله بذلك ، وبذلك نكون بهذه
الإجراءات قد أحدثنا في الدين ما ليس منه ، وشرعنا للناس ما لم يأذن به الله ؛
وهذا نفس المنكر الذي حذر الله - عز وجل - منه في قوله - سبحانه - : { أَمْ لَهُمْ
شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } ( الشورى : 21 ) ، وحذر منه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
فهو رد » .. ولو كان تعظيم الآثار بالوسائل التي ذكرها الكاتب وأشباهها مما
يحبه الله ورسوله لأمر به صلى الله عليه وسلم أو فعله ، أو فعله أصحابه الكرام -
رضي الله عنهم - ؛ فلما لم يقع شيء من ذلك عُلم أنه ليس من الدين ، بل هو من
المحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ، وحذر منها أصحابه - رضي
الله عنهم - ، وقد ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
أنه أنكر تتبع آثار الأنبياء ، وأمر بقطع الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه
وسلم تحتها في الحديبية لما قيل له إن بعض الناس يقصدها ، حماية لجناب
التوحيد ، وحسماً لوسائل الشرك والبدع والخرافات الجاهلية » [6] .
المبحث الثالث : الوقوع في أنواع من الكذب [7] :
إن من مفاسد الاهتمام بالآثار لجوء أصحابه إلى الكذب ، من أجل الاستدلال
على شرعية ما ذهبوا إليه ، أو لغرض تعيين موضع أو تحديد مكان ، ولهذا وقعوا
في عدة أنواع من الكذب ، تلك الخصلة الذميمة الممقوتة ، ويمكن بيان أنواع الكذب
التي وقعوا فيها بسبب الاهتمام بالآثار فيما يأتي :
الأول : الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم : لا شك أن أشد أنواع
الكذب هو الكذب على الله - تعالى - أو على رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد حذر - عليه الصلاة والسلام - من الكذب عليه بقوله : « من كذب عليّ(1/27)
متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » [8] .
ويتنوع الكذب هنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد يكون في أقواله
للاستدلال على شرعية زيارة أماكن الآثار وهذا هو الكثير ، وقد يكون الكذب في
آثاره صلى الله عليه وسلم .
ومن نماذج الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله ما يأتي :
1 - الأحاديث الموضوعة في فضل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم .
2 - الأحاديث المكذوبة في فضل الصخرة بالقدس .
3 - أحاديث في فضل الجامع الأموي بدمشق ومضاعفة الصلاة فيه .
أما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في آثاره فإن المقصود به ما قد
ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً - لا سيما في العصر الحاضر - من
آثاره الحسية كشعراته مثلاً ، وكذا دعوى وجود موطئ قدم النبي صلى الله عليه
وسلم على بعض الأحجار .
الثاني : الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، كالكذب على
الصحابة - رضي الله عنهم - أو التابعين رحمهم الله ، وغيرهم من الصالحين .
وهذا الكذب عليهم قد يكون في الأقوال ، مثل ما ينسب إليهم من الروايات
المكذوبة في ذكر فضائل بعض الأماكن ، وقد يكون الكذب عليهم في الأفعال كادعاء
حصول الخير عند بعض القبور مثل ادعاء أن الشافعي كان يدعو عند قبر أبي
حنيفة إذا نزلت به شدة فيستجاب له .
الثالث : الكذب في تعيين موضع الأثر[9] :
ويكثر هذا النوع في تعيين مواضع قبور بعض الصالحين من الصحابة
وغيرهم وكذا المساجد والموالد .
فمن ذلك مثلاً : مسجد يسميه البعض مسجد الكوع ؛ لأن الرسول صلى الله
عليه وسلم وضع عليه كوعه ملتمساً شيئاً من الراحة عندما اشتد عليه أذى
القوم ! ! [10] .
ومسجد الراية يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركز رايته يوم الفتح عند
هذا الموقع ! ! [11] .
وتحديد مكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم [12] .
الرابع : ادعاء بركة بعض المواضع دون مستند شرعي :(1/28)
ومن النماذج على ذلك : زعمهم أن دار خديجة - رضي الله عنها - بمكة أفضل
المواضع بعد المسجد الحرام ، وأن الدعاء يستجاب فيها .
ومنها كثرة ادعاء استجابة الدعاء عند بعض المقابر أو الجبال أو المساجد
المحدثة المبنية على آثار الأنبياء والصالحين .
المبحث الرابع : التشبه بالكفار :
ومن مفاسد الاهتمام بالآثار أن فيه مشابهة للمشركين الذين يهتمون بمثل هذه
الجوانب ؛ كما تقدم أن عصبة الأمم قد نصت في صك انتداب بريطانيا على
فلسطين على الاهتمام بالحفريات ، وذلك في المادة ( 21 ) التي تنص على : « أن
تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانوناً
خاصاً بالآثار والعاديات ينطوي على الأحكام الآتية .. » . والنبي صلى الله عليه
وسلم يقول : « من تشبه بقوم فهو منهم » [13] . وقد تقدم أيضاً أن المسلمين عاشوا
دهوراً وهم غافلون عن هذه الآثار القديمة لا يعيرونها التفاتاً ، ولا يتحدثون عنها
حين يتحدثون إلا كما يتحدثون عن قوم غرباء من الكفرة أو العتاة ، لا يثير الحديث
عنهم شيئاً من الحماس أو الزهو في نفوسهم ، وظل المسلمون على هذه الحال حتى
بدأ الغربيون بالكشف عن كنوزهم ولفت أنظارهم إليها ، فهي عادة غربية ونحن
مأمورون بمخالفة المشركين وعدم التشبه بهم . يقول الشيخ عبد العزيز بن باز -
رحمه الله - : « أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى [14] فإن الله - جل وعلا -
أمر بالحذر من طريقهم ؛ لأنه طريق ضلال واتباع الهوى ، ولا يجوز التشبه بهم
في أعمالهم المخالفة لشرعنا وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما
جاء به أنبياؤهم ؛ فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك
طريقهم » [15] .
المبحث الخامس : إضاعة السنن :
ومن مفاسد الاهتمام بالآثار إضاعة السنن ؛ وهذا من خصائص البدع ، ذلك
أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن [16] .(1/29)
ولهذا جاء في الأثر : « ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم
مثلها » [17] .
ولا شك أن السنن تموت إذا أُحييت البدع « لأن الباطل إذا عُمل به لزم ترك
العمل بالحق ، كما في العكس ؛ لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين » [18] .
ثم إن من لم يعطل الفرائض والسنن فستضعف عنايته بها على الأقل بسبب
تعلقه بالبدع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند سياقه مفاسد البدع : « ومنها
أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن ، ورغبتهم فيها ، فتجد
الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن ،
حتى كأنه يفعل هذه عبادة ، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة ، وهذا عكس
الدين ، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة
والخشوع ، وإجابة الدعوة ، وحلاوة المناجاة ، إلى غير ذلك من الفوائد ، وإن لم
يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله » [19] .
هذا ومن الأمثلة على ما يؤدي إليه الاهتمام بهذه الآثار من إضاعة الواجبات
والسنن ما يأتي :
1 - ما يفعل عند القبور من العكوف عندها والمجاورة ، ونحو ذلك من
المظاهر المبتدعة يشغل عن كثير من الفرائض والواجبات والسنن المشروعة في
الدين . بل بلغ ببعض الغلاة إلى تفضيل زيارة المشاهد التي على القبور على حج
البيت الحرام ، وإلى اعتقاد أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل
من حج البيت [20] .
2 - قصد المساجد المحدثة المبتدعة ، وتتبع آثار الأنبياء والصالحين وبعض
الجبال والمواضع ، في مكة والمدينة و بلاد الشام وغيرها ، لأداء العبادات فيها
كالصلاة والدعاء .. وفي ذلك تعطيل لأداء العبادة المفروضة أو المسنونة في
المساجد الثلاثة الفاضلة ، وسائر المساجد الأخرى التي شرعت العبادة فيها .
المبحث السادس : اقتراف المعاصي :
إن من مفاسد الاهتمام بالآثار الوقوع في المعاصي والمنكرات ، ومن الأمثلة(1/30)
على ذلك ما يلي :
1- صرف النفقات الباهظة المحرمة على بناء القباب والمزارات وكسوتها
بالأقمشة وتزيينها بالمصابيح ، وتحبيس الأوقاف على ذلك ، وبناء المصاعد على
الجبال ، وإضاعة المال عن طريق النذور التي تقدم لصالح الأموات ، ويأكلها
السدنة .
2 - اختلاط الرجال بالنساء ، وما ينتح عن ذلك من الفتنة والواقع في الدول
الإسلامية خير شاهد على ذلك .
3 - ما يحصل عند بعض المزارات من تبرج وسفور فيحصل فيها من الفتن
ما الله به عليم .
وسائل مقاومة الافتتان بالآثار :
بعد عرض أسباب الافتتان بالآثار وسلبياته لا بد من بيان وسائل مقاومته
للقضاء عليه ، والحد من انتشاره بين المسلمين ، ويمكن حصر ذلك في عدة وسائل
مهمة ، وبيانها فيما يأتي :
المبحث الأول : نشر العلم :
لا يشك أحد في فضل العلم ، ورفعة منزلته ، وفضل طلبه وفضيلة العلماء ،
والمراد بالعلم هنا : العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر
دينه ، في عباداته ومعاملاته ، والعلم بالله تعالى وصفاته ، وما يجب له من القيام
بأمره وتنزيهه عن النقائص [21] .
ومن لوازم تعلم العلم : تبليغ العلم ، ونشره بين الناس ، وتعليمهم إياه ، كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » [22] ،
وكما قال صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه في الحج : « ليبلغ الشاهد
الغائب » [23] .
فعلى العلماء بذل العلم ونشره بين الناس على أوسع نطاق ، وعدم كتمان العلم
ولا سيما عند شيوع الجهل وظهور البدع ، حتى يعرف الناس الحق من الباطل ،
ويعبدوا ربهم على بصيرة وعلم .
وبما أن أهم ما يتضمنه العلم الشرعي بيان أصول الدين - المسمى أحياناً بعلم
العقيدة - فإن ذلك يعني بيان العقيدة الصحيحة ، عقيدة السلف الصالح التي تقوم
على اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتمسك بما كان
عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم .(1/31)
ومن المعلوم أن الاهتمام بالآثار لون من ألوان البدع المحدثة كما سبق ؛ ففي
نشر العلم الشرعي - المتضمن بيان عقيدة أهل السنة والجماعة وما يضادها -
وقاية من الوقوع في مثل هذا الاهتمام ، كما أن في ذلك أيضاً مقاومة له بعد حصوله .
المبحث الثاني : الدعوة إلى المنهج الحق :
ومن الوسائل المهمة لمقاومة الاهتمام بالآثار وبعثها من جديد الدعوة إلى
المنهج الحق ، وأعني بهذا دعوة من ابتلي بشيء من هذا الاهتمام حتى يرجع إلى
الحق وإلى منهج الشرع القويم .
وتحقيق ذلك داخل ضمن مبدأ عظيم من مبادئ الدين ، ألا وهو مبدأ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر .
فعلى هذا يجب على من عنده علم واستطاعة إنكار المنكرات التي أعظمها
البدع المحدثة في الدين ، ومنها بدعة الاهتمام بالآثار .
ويمكن دعوة من يفعل ذلك إلى المنهج الحق باتباع الوسائل الآتية :
1 - تبصير الناس بالمنهج الحق الذي كان عليه سلف الأمة الأبرار ، وتحذير
الناس من الابتداع والإحداث في الدين ، وسد الذرائع المفضية إلى ذلك .
2 - على الدعاة إنكار جميع ما يقع من مطالبات لإحياء هذه الآثار والاهتمام
بها .
3 - على العلماء مناقشة الشبهات التي يتمسك بها مؤيدو إحياء هذه الآثار
والرد عليها ، عن طريق المؤلفات ، وشتى الوسائل المختلفة المناسبة .
4 - وضع مرشدين من طلبة العلم عند بعض المواضع التي يكثر طَرْقُها من
قبل عامة الناس للتوعية والإرشاد بشكل دائم .
5 - كتابة النشرات الإرشادية المناسبة على لوحات ، ووضعها عند الأماكن
التي يُعتقد فيها كالمقابر والمشاهد ، والجبال ، والمساجد المحدثة .
6 - صدور فتاوى من كبار العلماء في هذا الموضوع ، وينص بمنع أصحاب
الأقلام في الصحافة ونحوها من الكتابة والمطالبة فيه .
7 - توعية الأدلاَّء الجهال أو من يسمون ( المزوِّرين ) الذين يصطحبون
الحجاج أو الزوار إلى المزارات المشروعة ، وعقد الدورات العلمية لهم لتوجيههم ،(1/32)
واشتراط أن يكونوا متعلمين ، ومن المعروفين باتباع السنة .
ولقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن حكم عمل القُوّام عند
القبور أو غيرهم الذين يأمرون زوار القبور بالبدع ويرغبونهم فيها ، ويأخذون على
ذلك جُعلاً ، وعن موقف ولي الأمر من ذلك .
وكان مما أجاب عن ذلك قوله - رحمه الله - بعدما أبان حرمة هذا العمل :
« ومن أمر الناس بشيء من ذلك ، أو رغبهم فيه ، أو أعانهم عليه ، من القُوّام أو
غير القُوَّام ، فإنه يجب نهيه عن ذلك ، ومنعه منه ، ويثاب ولي الأمر على منع
هؤلاء ، وإن لم ينته عن ذلك فإنه يُعزر تعزيراً يردعه ، وأقل ذلك أن يعزل عن
القيامة ، ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين » .
وأفاد - رحمه الله - أن « الكسب الذي يكسب بمثل ذلك خبيث ، من جنس
كسب الذين يكذبون على الله ورسوله ويأخذون على ذلك جُعلاً ، ومن جنس كسب
سدنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جُعلا » [24] .
المبحث الثالث : إزالة وسائل الغلو ومظاهر الاهتمام :
من الوسائل الفعلية النافعة في مقاومة الاهتمام بالآثار : إزالة وسائل الغلو في
الأنبياء والصالحين وغيرهم ؛ والأصل في إزالة المنكر قوله صلى الله عليه وسلم :
« من رأى منكم منكراً فليغيره بيده .. » [25] . وتغيير المنكر وإزالته باليد ونحوها
أعلى مراتب التغيير ، ولا يجوز العدول عن هذه المرتبة إلى ما دونها إلا عند عدم
الاستطاعة .
وتأمل في قصة وفد ثقيف عندما أسلموا ووفدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ فإنهم فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية - وهي
اللات - لا يهدمها ثلاث سنين ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، فما
برحوا يسألونه سَنَة سَنَة ، ويأبى عليهم ، حتى سألوه شهراً واحداً بعد قدومهم ، فأبى
عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى ، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يَسْلَموا بتركها(1/33)
من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ، ويكرهون أن يروِّعوا قومهم بهدمها ، فبعث المغيرة
بن شعبة و أبا سفيان بن حرب لهدمها [26] .. فتأمل - يا رعاك الله - المصالح التي
ذكروها .. فهم حدثاء عهد بإسلام فيحتاجون إلى التأليف .. وخافوا من سفهاء
قومهم .. وأرادوا تأليف قومهم وعدم ترويعهم حتى يدخلوا الإسلام .. ومع ذلك كله
فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن المصلحة في دك حصون الشرك وقلع
قواعده وهدم صروحه ، ولم يلتفت إلى تلك المصالح الموهومة مطلقاً .
قال ابن القيم - رحمه الله - في فوائد قصة ثقيف هذه : « ومنها : أنه لا
يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً
فإنها من شعائر الكفر والشرك ، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع
القدرة البتة » [27] ويقول أيضاً : « ومنها : هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً
للطواغيت وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات
والمواخير ، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويُشرك
بأربابها مع الله لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها ، ولا يصح وقفها ولا
الوقف عليها » [28] .
وهناك نماذج عديدة لإزالة المنكر الظاهر على مر العصور من قبل الأنبياء
عليهم السلام وغيرهم ، كخلفاء المسلمين .
فقد كسر إبراهيم - عليه السلام - أصنام قومه ، يقول الله تعالى : { وَتَاللَّهِ
لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } ( الأنبياء : 57 ) ، { فَرَاغَ إِلَى
آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ }
( الصافات : 91-93 ) ، وأحرق موسى - عليه السلام - العجل الذي عُبد من
دون الله . يقول الله - تعالى - : { وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ(1/34)
ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً } ( طه : 97 ) ، وكسر النبي صلى الله عليه وسلم
الأصنام لما فتح مكة [29] ، وهدم عليه الصلاة والسلام مسجد الضرار بالمدينة ،
وحرق بعض الخلفاء أمكنة الخمر ، وأتلفوا المغشوش مما يباع في أسواق
المسلمين ، وقطع عُمَرُ - رضي الله عنه - الشجرة التي بويع النبي صلى الله
عليه وسلم تحتها .
إلى غير ذلك من الأمثلة الأخرى ، وما أجمل ما قاله محمد إقبال :
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ منها الحلي والدينارا
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
________________________
(1) تفسير ابن كثير (3/342) .
(2) من ذلك تحقيق المواقع التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة ، ووضع شواخص تدل عليها كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد ، مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك وتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده (بدأ بغار حراء ثم ثور ، والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك) .
(3) مجموع فتاوى ومقالات متفرقة (3/334) .
(4) تفسير الطبري 29/98 ، 99 .
(5) مجموع فتاوى ومقالات (7/425) .
(6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/401) .
(7) انظر : في هذا المبحث : التبرك أنواعه وأحكامه ، د ناصر الجديع ، ص 490- 492 بتصرف .
(8) أخرجه البخاري ، كتاب العلم ، باب : ليبلغ العلم الشاهد الغائب ، رقم 110 ، ومسلم ، المقدمة ، رقم 3 .
(9) انظر : تاريخ مكة للأزرقي (2/198) وتلحظ أن كل الأماكن التي يذكرها يقول فيها : يقال
كذا ! ! .
(10) انظر : دراسات في آثار المملكة العربية السعودية (1 /101) تأليف د محمد أحمد بدين
وعبدالرحمن بكر كباوى .
(11) المرجع السابق (1/92) .
(12) المرجع السابق (1/95) .
(13) أخرجه : أبو داود (4031) وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء : إسناده جيد .(1/35)
(14) حيث استدل الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 في تطوير الأماكن الأثرية بأن « السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي ، وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس ! ! » .
(15) مجموع فتاوى ومقالات (3/338) .
(16) الاقتضاء 2/740 .
(17) أخرجه الدارمي ، رقم 99 ، من قول حسان بن عطية .
(18) الاعتصام للشاطبي 1/114 .
(19) الاقتضاء 2/611 ، وانظر : 2/741 .
(20) الاقتضاء 2/793 .
(21) فتح الباري 1/141 .
(22) أخرجه البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب : خيركم من تعلم القرآن ، رقم 5027 .
(23) أخرجه البخاري ، كتاب العلم ، باب : ليبلغ العلم الشاهد الغائب ، رقم 104 .
(24) انظر : مجموع الفتاوى (27/106 111) .
(25) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب : كون النهي عن المنكر من الإيمان ، رقم 49 .
(26) انظر : الطبقات لابن سعد (5/505) ، تاريخ الطبري (2/180) .
(27) زاد المعاد (3/506) .
(28) المرجع السابق (3/601) .
(29) الحديث في الصحيحين .(1/36)