نظرات نقدية
حول بعض ما كتب
في تحقيق مناط الكفر في باب الولاء والبراء
كتبه
عبدالله بن صالح العجيري
abosaleh95@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد ..
فهذا بحث كتبته منذ مدة في تحقيق مناط الكفر في باب الولاء والبراء، والتعليق على مسألة مظاهرة المشركين على المؤمنين، وقد أطلعتُ عليه بعضاً من أفاضل أهل العلم ممن لهم عناية بتحقيق هذه المسائل ولهم بها اختصاص، ومنهم الشيخ عبدالرحمن المحمود والشيخ عبدالعزيز اللعبداللطيف والشيخ علوي السقاف -حفظهم الله ونفع بهم- فاستحسنوه، فقوي عزمي على إخراجه رجاء الإفادة والنفع، وحلّ شيء من الإشكالات والإجابة عن بعض الشبهات مما له صلة بهذا الباب، وذلك أنه قد قُدّر لي أن أطلع على جملة من الكتابات لبعض الفضلاء في مسألة الولاء والبراء، وتحرير حكم مظاهرة المشركين على المؤمنين، والتي بحثت في المناط المكفر في مسألة الموالاة والمعاداة، فوجدت بعضاً منها قد جعل ذلك راجعاً إلى محض الاعتقاد الباطن، فلا كُفرَ بموالاة الكفار مهما أظهر الموالي من صور الولاء ما لم يكن منه تصريحٌ بمحبة دين الكفار أو رضاً به، كما لا كُفرَ بمعاداة المسلمين مهما أظهر المعادي من صور العداء ما لم يكن منه تصريحٌ ببغض دين الإسلام وكرهٍ له، وأُدرج في هذا السياق مسألة مظاهرة المشركين ومناصرتهم على أهل الإيمان، فجعلوها صورة من صور الموالاة المحرمة وأجروا عليها قاعدتهم تلك، فقالوا بأن هذه المظاهرة لا تكون كفراً مهما تعاظمت ما لم يكن من صاحبها محبة لدين الكفار وتمن لنصرته، أما مجرد مظاهرتهم ومناصرتهم على أهل الإسلام لمصلحة دنيوية يجنيها المظاهر فإنها لا تكون كفراً بذاتها حتى يقوم بقلب صاحبها المعنى المذكور.(1/1)
وقد وقع أولئك الكتاب -غفر الله لهم- في بحوثهم تلك في جملة من الأخطاء العلمية والمنهجية، والتي أوجبت وصولهم لمثل هذه النتيجة والتي تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، بل وتخالف ما هم عليه في مسائل الإيمان كما سيأتي، ومن أهم تلك الأخطاء المنهجية:
* الاقتصار على إيراد ما يُعضد كلام الباحث من النقول والأقوال أو يوهم ذلك، مع الإعراض التام عن كل ما يعارضه، ومعلوم لمن قرأ في هذه المسألة أن ثمة إجماعات يتناقلها أهل العلم يحكون فيها كفر المظاهر على أهل الإسلام، ولهم عبارات محكمة في هذا الباب ما كان ينبغي لمن تعرض لبحث هذه المسألة أن يتجاوزها، وقد أدى صنيعهم هذا إلى تصوير القول بالتكفير في مسألة المظاهرة بصورة غير لائقة وكأنه قول شاذ دخيل لا قائل به، ولا يستحق أن يذكر أو يشار إليه، والأسوأ أن يصور هذا القول بأنه قول محدث، وأنه قول الغلاة، وأنه مما يجب مباعدته ومحاذرته.(1/2)
* الأخذ ببعض كلام العالم والإعراض عن بعض، فتجدهم ينقلون كلمة للعالم في تأييد ما ذهبوا إليه من عدم تكفير من ظاهر على أهل الإسلام، ويعرضون عن جملٍ صريحة له في التكفير، خذ مثلاً ما ينقله بعضهم من قول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وقوله سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وقوله عز وجل: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): (فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة) [الدرر السنية 1/474] فيتوهمون أنه يريد بالموالاة المطلقة العامة، محبته لدين الكفار وتمنيه لنصرته، معرضين عن عبارات له صريحة في خصوص مسألة المظاهرة تفصل الإجمال الواقع في هذه العبارة كقوله رحمه الله: (من أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم؟! فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الدرر السنية 8/326].(1/3)
* عدم الدقة في فهم كلام أهل العلم بل وتقويلهم ما لم يقولوه، والخلط بين المسائل، وإيراد النصوص والنقول الخارجة عن محل النزاع، فتجدهم مثلاً ينقلون كلام أحد العلماء في مسألة جزئية فيفهمون منها حكماً عاماً ثم ينسبون هذا الفهم إلى ذلك العالم وهكذا، كصنيعهم بكلام أهل العلم مثلاً في مسألة الجاسوس، وكيف يصورون القائل بعدم تكفير الجاسوس في صورة من لا يكفر بصورة من صور المظاهرة خلا ما كان عن اعتقاد الكفر، ومعلوم أن بين المسألتين فرقاً وأنه لا يلزم من رأى عدم التكفير بالمسألة الأولى أن لا يرى في المسألة الثانية كفراً، خذ مثلاً نقلهم لعبارة الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن في تعليقه على حديث حاطب رضي الله عنه حيث يقول: (مع أن في الآية الكريمة –( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ..) – ما يشعر: أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ إليهم بالمودة وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل لكن قوله: (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قال : خلوا سبيله. ولا يقال قوله صلى الله عليه وسلم :(ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره لأنا نقول : لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ) وقوله ( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا) [الدرر السنية 1/473]، فهل يصح أن يقال تعلقاً بهذه العبارة: الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن لا يرى كفر المظاهر من أجل الدنيا؟ أم الواجب ضم هذه العبارة إلى عباراته الصريحة في التكفير، والتفصيل والتفريق بين الصور التي كفر بها والتي لم يكفر، وسيأتي في ثنايا البحث أمثلة أخر على هذه المسألة.(1/4)
ومثل هذا الخلل في فهم كلام أهل العلم ثم تقويلهم ما لم يقولوه، تتبع بعضهم مثلاً لكلام أهل العلم في التكفير بمحبة الكفر أو التولي على الدين، وتصوير العالم في صورة القائل بأن هذه هي مناط التكفير في مسائل الموالاة والمعاداة، ومن المعلوم أن ثمة فرقاً معتبراً بين جعل هذه الصورة مناطاً للتكفير وبين جعلها صورة من صور الموالاة المكفرة.
ومن الأخطاء كذلك في هذا السياق عدم التفريق بين حكم الاستعانة بالمشركين في قتال المسلمين وبين حكم مظاهرة المشركين على المؤمنين، وكذا عدم التفريق بين إعانة مسلم لكافر في قتل مسلم من آحاد المسلمين وبين مظاهرة دولة الكفر على دولة الإسلام وعلى المسلمين.
* تصوير القول المخالف على غير وجهه، وإلباس القائلين به لبوساً ليس لهم، وذلك بخلط الكلام في بحث مسألة الموالاة بالمظاهرة، وتصوير القائل بتكفير المظاهر بصورة من يكفر بمطلق الموالاة، ولا شك أن بحث ما يتعلق بالمسألة العامة (الموالاة) شيء، والكلام في مسألة (المظاهرة) الخاصة شيء آخر، ووالله إني لا أعلم أحداً منتسباً للسنة يكفر بمطلق الموالاة -إلا أن يكون له اصطلاح خاص في معنى الموالاة أخص من مدلولها اللغوي فيحاسب بناءً على اصطلاحه -، بل الكل متفقون على أن موالاة الكفار على قسمين: قسم مكفر، وقسم غير مكفر، ولذا ترى بعضاً من أهل العلم قد اصطلحوا على جعل التولي كفراً والموالاة غير مكفرة، فليست المنازعة إذن في حكم مطلق الموالاة وإنما محل المنازعة في أي لوني الموالاة يجب إلحاق المظاهرة، فالقوم يرون فيها موالاةً غير مكفرة ومخالفوهم يرونها من التولي أو الموالاة المكفرة، وبهذا يتبين أن من يُلحق المظاهرة بالموالاة المكفرة لا يرتب الأمر على النحو الذي يصوره بعض الكتاب من أنهم يكفرون المظاهر لأنهم يكفرون كلّ موالٍ للكفار، بل هم يُفصِّلون كما يُفصِّل أولئك وإن خالفوهم في محل إلحاق هذه المسألة.(1/5)
والذي أظنه في أولئك الأفاضل أنه قد قام بقلوبهم معنى في هذه المسألة وترسخ حتى أضحوا أسرى له لا ينفكون عنه ولا يحيدون، فصاروا لا يقرؤون كلام أهل العلم إلا في ضوئه، ولا يفهمون عباراتهم إلا وفق ما وقع في قلوبهم، فآلت نتائج بحوثهم إلى ما آلت إليه، وصارت المظاهرة في كل أحوالها لوناً من ألوان الموالاة غير المكفرة، مادام قلب صاحبها (مطمئناً) بالإيمان!! بل صاروا يوردون استدلالات غريبة شاذة لينصروا قولهم هذا، كقول أحدهم: (بل إعانة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين هي في ذاتها من قبيل العداوة المباشرة من المؤمن للمؤمن) وأصرح منه قوله: (لا فرق بين أن يكون قتل المسلم للمسلم من غير إعانة للكفار على المسلمين، أو مع إعانتهم على قتال المسلمين، وليس مع من فرق بين الحالين من جهة اقتضاء الحكم بالكفر بينة)، فعجباً والله كيف أضحى قتال المسلم مع الكفار ضد أهل الإسلام، كقتال أهل الإسلام بعضهم لبعض، وكيف صار القتال الذي يحقق الرفعة للكفار وكفرهم، كقتالٍ لا يحققه ولا يحصله، وكيف صار ذاك القتال المتضمن موالاة جلية ظاهرة للكفار ومعاداة واضحة لأهل الإيمان، كقتال لا يتضمنه ولا يحويه، والفرق بين لوني المقاتلة أكبر من أن يُنبه عليه أو يحتاج إلى تدليل.
وأعجب منه استحسان بعض الفضلاء لتقسيم موالاة الكفار ومظاهرتهم إلى ثلاثة أقسام:
(1-مظاهرتهم وموالاتهم في الظاهر مع حبهم و مودتهم في الباطن، وهو النوع المخرج من الملة المكفر.
2-مظاهرتهم في الظاهر لمصلحة الشخص وخوفه على نفسه، أو ملكه وسلطته، وهذا النوع كبيرة من كبائر الذنوب ليس مخرجاً من الملة.(1/6)
3-موالاتهم ومظاهرتهم لمصلحة المسلمين، ودرء الشر والفتنة عنهم وهذا النوع جائز، والدليل على هذه التقسيمات حديث الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة –رضي الله عنه-)، ثم قال: (هذا التقسيم جيد، ويتوافق مع النصوص والقواعد الشرعية، وعليه عمل جمهور علماء السلف في تنزيل الأحكام على الأشخاص والأصناف في الجملة) فهل هو تقسيم جيد حقيقةً؟! وهل هو قولٌ لعالم من علماء السلف، دع عنك أن يكون قول جمهورهم؟! وهل حديث حاطب يدل عليه فعلاً؟! وليت شعري كيف تكون مظاهرة المشركين على المسلمين مصلحة للمسلمين؟!! وكيف يقاتل عبدٌ مسلم أهل الإسلام مناصراً أهل الكفر ليحقق للمسلمين مصلحة ويدرأ الشر والفتنة عنهم؟!! وإن كان كذلك -وهو ما لا يكون- فلم اقتصر هذا الفاضل على الحكم بالجواز، ألا نبه إلى أنه مشروع مستحب وقد يجب!! ثم هل يلتزم هذا الفاضل حقيقةً تكفير من اقترنت موالاته الظاهرة بحب (الكفار) في الباطن؟! أم أن الأمر اختلط عليه وما عاد يفرق بين محبة (الكفر) التي يريد جعلها مناطاً للتكفير ومحبة (الكفار) التي ليست محلاً عنده للتكفير!!(1/7)
ولعل مما رسخ هذه القناعة عندهم، ودفعهم لتبني هذا الرأي الغريب، والحرص على إذاعته ونشره، والاستدلال له على هذا النحو العجيب، ما رأوه في الواقع من تعجل البعض في إصدار أحكام التكفير في ضوء هذه المسألة، وترتيب أعمال عنفٍ بناءً عليها، وهذا التعجل والتوسع في التكفير وإن كان خطأً بلا شك، ولكن من الخطأ أن يعالج الخطأ بالخطأ، وذلك بتغيير أحكام الشريعة مراعاة للواقع وسداً لأبواب فساد، بل الواجب تصويب هذه الانحرافات في ضوء أحكام الشريعة ببيان ما يتعلق بتكفير المعين من أحكام وضوابط، وبيان شروط المتكلم في هذا الباب، أما إلغاء حكم الكفر عن فعل حكم الشرع بكونه كفراً لانحراف وخطأ في التنزيل فزيغ وضلال، وأخشى أن يأتي يوم يُضطر فيه أولئك الفضلاء ممن لا يكفرون بكل صور المظاهرة إلى أن يُكفِّروا بها إن ابتليت أوطانهم يوماً بهذه المسألة، فيجدوا أناساً ينتسبون في الظاهر إلى الإسلام يقاتلونهم وأهليهم مع الكفار ليقلبوا دار الإسلام التي يعيشون بها دار كفر معتقدين أنهم لم يقوموا إلا بذنب ومعصية لا تستوجب كفراً -نسأل الله أن يعافينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن-.
وأحسب أن من قال بعدم تكفير من ظاهر المشركين على المؤمنين مطلقاً -إلا ما كان ناشئاً عن محبة للكفر ورضاً به- لا يعدو أحد رجلين:
-إما رجلٌ لم يتصور المسألة تصوراً تاماً، ولم يعرف حقيقة المظاهرة وما يدخل فيها، وما يترتب عليها من آثار، وتستجلبه من لوازم، فحكم في ضوء هذا التصور الناقص فأخطأ، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.(1/8)
-وإما رجلٌ قد تصور المسألة تصوراً تاماً وعرف حقيقة المظاهرة وما يدخل فيها، وعرف مآل القول بتعليق التكفير بها على التصريح القولي بمحبة دين الكفار، ثم أصر –بعد ذلك- على القول بعدم التكفير. فمثل هذا هو الملوث بشبهة إرجاء ولا بد، فالواجب عليه والحال هذه أن يرفع عن نفسه هذه الشبه بتصحيح تصوره للإيمان وعلاقة الإيمان الباطن بالإيمان الظاهر وأثر الاعتقاد على العمل، وبغير هذا التصحيح يغدو البحث عبثاً، ويدخل الراد والمردود عليه في دائرة جدل لا يخرجون منها.
فمن أطلق القول بتعليق التكفير بالمظاهرة على المحبة القلبية التي لا يتوَصَّلُ إلى معرفتها إلا بالتصريح اللساني، وأهدر الفعل الظاهر، فإن مقتضى قوله أن من أعلن بلسانه بغض دين الكفار، ثم حملته الرغبات و الأطماع الدنيوية على أن يلتزم مع أهل الكفرِ قتال كلِّ مسلمٍ موحدٍ، و محو كلِّ حُكمٍ إسلامي، وتحويل دار الإسلام حيثما كانت إلى دار كفرٍ، والتزام معاضدة الكفار على سعيهم في تهديم مساجد المسلمين، وإطفاء شعائر دينهم، لترتفع محلها شعائر الكفر والشرك. فمثل هذا عند من أطلق القولَ بأن المظاهرةَ العملية كلها ذنبٌ وليست كفراً ينبغي أن يكون مؤمناً ناقصَ الإيمان، ما لم يعلن بلسانه حبه لدين الكفار. ولعمرو الله إن لم يكن هذا إرجاءً فما في الأرض إرجاء؟
على أني لا أحسب المخالف يلتزم هذا ويقوله، لكني أذكره للتنبيه إلى مآلات قوله، ولبيان خطورةِ مثل تلك الإطلاقات غير المحرَّرة، والتي يغفل قائلها عن مقتضياتها.(1/9)
وإني أذكر القارئ الكريم بأن هذا المقال لن يوفي المسألة حقها، ولن يُفَصِّل في بحثها، ولن يرد على كافة ما أثير حولها من شبهات، وإنما هي لمعٌ وإشارات لجملةٍ من المعاني التي ينبغي على من بحث المسألة أن يراعيها، لئلا يقع في مثل هذه المزالق و الإطلاقات الخطيرة، فقد رأيت كثيراً ممن بحث المسألة غفل عن مواقع قدميه، فلم يحقَّق قوله، ولم يعالج المسألةَ على النحو اللائق بها. ومن أحب أن يراجع تفاصيل هذه المسألة فثمة جملة من الكتب والكتابات النافعة في هذا الباب والتي لن يصعب على المهتم المعتني تحصيلها والإفادة منها، أما الكتابة المفصلة في هذه المسألة الجليلة على نحو يليق بمقامها وثقلها في ميزان الشريعة فمقام آخر أرجو أن يتيسر مستقبلاً -إن شاء الله-.
(حقيقة مظاهرة المشركين على المؤمنين)(1/10)
حقيقة المظاهرة: الإعانة والمناصرة والتأييد ليتحقق للطرف المظاهَر الظهور والعلو والغلبة على الطرف الآخر. وفي التنزيل : (وإن تظاهرا عليه) أي تعاونا. وفي لسان العرب (4/520) : "ظاهَرَ بعضهم بعضاً: أَعانه. والتَّظاهُرُ: التعاوُن. وظاهَرَ فلانٌ فلاناً: عاونه، والمظاهَرةُ: المعاونة... وظاهر: أَي نَصَر وأَعان والظَّهِيرُ العَوْنُ". فالأصل في معنى مظاهرة المشركين على المؤمنين في لسانِ أهل العلم: تأييدهم وإعانتهم بما يحقِّق لهم الظهورَ والغلبةَ، ويكون لهم العلو والتسلُّط على أهل الإيمان، فينحط ذكر أهل الإيمان ويخبوا أمرهم ويدبر سعدهم، وهذا العلو الحاصل للمشركين مستلزمٌ ولا بد علوَّ ما هم عليه من الشرك والكفر في مقابل ما يحصل من الحط من أمر الإيمان والإسلام، وهذه حقيقة لا بد من استحضارها وتفهمها والحكم على مسألة المظاهرة في ضوئها، فليس البحث في تسلط عصابة من الكفار على نفر من المسلمين لسلب أموالهم مثلاً فينخرط مسلم في سلكهم ليحصل شيئاً مما يحصلون، وإنما البحث في مناصرة تؤول بصاحبها شاء أم أبى علم أو لم يعلم إلى مناصرة الشرك والكفر والمظاهرة على الإسلام، والكلام في حقيقته في حكم مظاهرة الكفر والشرك على الإسلام، فهل يُتصور في هذا الصنيع أن يكون شيئاً غير الكفر، وهل يمكن أن يكون صاحبه قد جاء بأصل الولاء المنجي وتبرأ من الكفار البراءة المنجية، وهل من أعان الكفار بالقتال معهم فأعقب ذلك علو كفرهم وشركهم وانتشاره في الأرض رغبة في الدنيا لا محبة للكفر ولا للشرك يكون مؤمناً مسلماً؟! ولأقرب الأمر بالمثال علّ ذلك يفيد في تفهم حقيقة المسألة، ومحل البحث فأقول:(1/11)
لو قُدر أن بعضاً من أهل الشرك أرادوا أن يُغيروا على مكة -حرسها الله- ليهدموا الكعبة ويفسدوا في حرم الله ويحيلوا دار الإسلام دار كفر، فراودوا مسلماً طالبين منه أن يقود حملتهم هذه بأجرة جزيلة يأخذها وذلك لخبرته بشأن الحرب وطبيعة الأرض وطبائع الناس فهل يُتصور أن يكون هذا القائد مسلماً إن رضي بالأمر وظاهر الكفار وقادهم في غزوتهم هذه أم أنه كافر مرتد ولا بد، وهل يتصور فيه إن قبلَ أنه محب لله ولرسوله ولدينه معظم للكعبة عارف لقدرها موالٍ للمؤمنين متبرئ من الكفر وأهله أم أنه بالضد من ذلك كله، وأن قيامه بهذه المظاهرة مستلزم ولا بد خلوَّ قلبه من أصل الولاء والبراء المنجي والذي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا به، وأن محبة الدنيا وزخرفها وزينتها قد غلبت على قلبه، فأضحى حب الله ورسوله ودينه في خبر كان، وقل الأمر نفسه فيمن رضي أن يقاتل مع أهل الكفر أهل المدينة ليهدموا مسجده صلى الله عليه وسلم ويستخرجوا جثمانه الشريف وتكون المدينة النبوية مدينة كفر وفسوق، فهل يكون هذا المقاتل مع أولئك الكفار إلا كافراً، وإن ادعى أنه مبغض لدين الكفار بل ومبغض لهم وأنه ما قاتل معهم إلا استعجالاً لدنيا يصيبها أو متاعاً يحصله، فهل يصلح أن تكون الرغبة في الدنيا عذراً في درء حكم التكفير عن مثل هذا والحكم له بأنه من جملة المؤمنين، أم سيكون بقتاله هذا من جملة الكافرين ولا بد، ولو قدر أن مسلماً خرج مع الكفار مقاتلاً أهل الإسلام رغبة في الدنيا وطلباً لزينتها فأظهروا أمرهم، وأقاموا دولتهم، وحكمّوا شرعتهم، وقلبوا دار الإسلام دار كفر، ونشروا الشرك والكفر في الخافقين، أيكون من عاونهم على تحقيق قبائحهم هذه مسلماً محباً لله ورسوله وعباده الصالحين مع ما حصل بسببه من هذه القبائح والكفريات، وهل الصد عن سبيل الله والسعي في إطفاء نور الله وشرعته إلاً كفراً بغير شك ولا ارتياب، فليت شعري هل حرب المسلمين وقتالهم مع الكافرين إلا هذا(1/12)
حقيقة، أم أنه لا يكون كفراً حتى يريده ويقصده، فهو يريد ما يحققه ويوصل إليه، وهل ينفك هذا عن هذا، واعتبر في هذا بما جرى على دار الإسلام (الأندلس) حين قاتلَ النصارى أهلَها فأخرجوهم منها بعد التقتيل والتشريد، وأحالوها حتى يومنا هذا دار كفر يسوسها الكفار بشرعهم وقانونهم، أرأيت أولئك المظاهرين لهم على صنيعةِ السوء هذه يكونون بصنيعهم هذا مسلمين مؤمنين أم أنهم ولا شك ممن (اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) فأضحوا بجريمتهم هذه كافرين، وهذا المعنى ظاهر في كلام ابن تيمية رحمه الله لما ابتلي المسلمون في زمانه بأمر التتار، فقال مبيناً حكم مظاهرتهم على المسلمين منبهاً إلى ما تجره هذه المظاهرة من ويلات وبلايا: (كل من قفز إليهم –يعني التتار– من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام، وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين- مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين؟ مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه) [الفتاوى 28/530]، ويقول رحمه الله: (فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام وعزهم عز الإسلام وذلهم ذل الإسلام فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه، فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار فإن التتار فيهم المكره وغير المكره وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلى) [الفتاوى 28/534]، وتأمل كيف أمر الله تبارك وتعالى عباده الموحدين بقتال أعدائهم نصرة للدين(1/13)
ورفعاً للفتنة وإزالة للكفر، فقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله) فما حكم قتال يحقق الفتنة، ويرسخ الكفر، ويمنع أن يكون الدين كله لله!! وهل قتال المظاهر للكفار على المسلمين إلا مطرّقاً لهذه، ومذللاً لها. والذي لا أشك فيه أن من حكم لهذا بالإيمان وجعل نطقه بالشهادتين دليلاً على وجود أصل الولاء والبراء المنجي في قلبه، وأنه لم يرتكب بهذه الفظائع إلا ذنباً ومعصية لا تستوجب كفراً، وعلق حكم التكفير على اعتقاد القلب والذي لا يظهر إلا بالإعلان والتصريح اللساني أنه متعلق بشعبة من شعب الإرجاء المذموم.(1/14)
وذلك أن من أصول أهل السنة والجماعة في مسائل الإيمان القول بتلازم الظاهر والباطن، وأن المعيّن متى ما واقع كفراً وانتفت عنه موانع التكفير وتوافرت فيه شروطه فهو الكافر في الظاهر والباطن بيقين، ولا يصح والحال هذه أن يقال هو كافر في حكم الظاهر فقط ويمكن أن يكون مؤمناً في الباطن بل هذا قول مشهور من أقوال المرجئة، أو يقال في مسألتنا أن الكفر فيها من جنس كفر المنافقين الذي تشتمل عليه القلوب فيعاملون بحسب الظاهر لعدم إمكان الإطلاع على المعتقد الباطن ومعرفة الباعث على الفعل بغير تصريح اللسان، فالأمر إذن تخليط في أبواب التكفير وحصر له في قول القلب وعمله لا غير، وبالله عليكم لو أن مسلماً دُعي إلى إهانة المصحف مقابل مبلغ يُحصله فرفض، فزيد له في السعر فتردد ثم زيد فأقدم وفعل، فإنا لا نشك أنه إنما رفض أولاً لقيام معنى إيماني في قلبه منعه من الإقدام، وتردده بعد الزيادة مستلزم ولا بد ضعف هذا المعنى في باطنه، وإقدامه في النهاية مستلزم ولا بد انعدام أصل الإيمان المنجي، فيقال مثله فيمن قاتل في صف الكفار أهل الإيمان طوعاً باختياره ، أما ادعاء أنه يمكن أن يكون عنده أصل إيمان منجٍ يكون به مؤمناً في هذه الحال فقول لا يصح على أصول أهل السنة في باب الإيمان بل قائله متعلق بشعبة إرجاء وهذا أمر بيّن لمن تدبره، يقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: (والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متبعاً لهواه، داخلاً من الشرك في شعبٍ تهدم دينه وما بناه، تاركاً من التوحيد أصولاً وشعباً، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه، فلا يحب ويبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسوّاه، وكل هذا يؤخذ من شهادة : أن لا إله إلا الله) [الدرر السنية 8/396]، ومن تعقل المعنى السابق -من وجود التلازم بين انتصار الرجل للكفار بما يحقق(1/15)
رفعتهم ويعلي شأنهم وما يحققه ذلك من إعلاءٍ لشأن الكفر وارتفاع لرايته- استغنى به عن تتبع الدليل الخاص بالتكفير في خصوص مسألة المظاهرة -وهو موجود- وعلم أن حكمه كحكم جملة من المكفرات والتي لا يُشك في كونها كفراً ولو لم يَعلم المعيّن دليلاً خاصاً في التكفير بها، فخلو الذهن عن دليل المسألة الخاص لبعض صور الكفر لا يمنع من الحكم عليها بوصف الكفر، كونها مصادمةً بداهة لأصل الإيمان وذلك كسب الله أو السخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء بالدين، بل إن تطلب الدليل الخاص بالتكفير في هذا المسألة والتوقف حتى يُحصل مما يضعفها ويخفف من قبحها وشناعتها إذ معاني الشريعة قاطعة وحاكمة فيما سبق من صور أنها كفر وأن فاعلها كافر مرتد، وهذا ما يفسر صنيع جمهرة من العلماء في تفسير جملة من الآيات القرآنية والتي تدل ظواهرها على التكفير بتولي الكافرين بأنها في حق من ناصرهم وظاهرهم على المؤمنين، مع كون تلك الآيات أعم من صورة المظاهرة، لكن لما كانت ظواهر تلك النصوص تجعل التولي كفراً نظروا في صور التولي المكفر فرأوا في نصرة الكافرين على أهل الإيمان هذا المعنى ففسر بعضهم تلك النصوص بها، مع ملاحظة أن النصرة معنى داخل في حقيقة الولاء وضدها في قضية البراء، فكيف يتصور أن مؤمناً قد حقق هذا المعنى في قلبه على الوجه المقبول ثم تكون نصرته الظاهرة خالصة للكفار دون المؤمنين فيقاتلهم ويناصر أعداءهم عليهم طلباً لعلو هذا الفريق على ذاك ليحصل له شيء من خسيس دنيا، وأي الصنيعين أقبح وأبشع وأشنع مسلم أجير عند كافر طُلب منه أن يناول الكافر مصحفاً ليهينه ففعل خوفاً على وظيفته وأجرته، أم الآخر الذي خرج مقاتلاً لأهل الإسلام مع الكفار رغبة في تحصيل دنيا وليكن عاقبة هذا الصنيع قتل المسلمين وتهديم المساجد وتمزيق المصاحف وإزالة حكم الإسلام وتحكيم الطاغوت وقلب دار الإسلام دار كفر؟!
(محل البحث)(1/16)
وأود هنا تركيز البحث في هذه المسألة دون ما سواها أعني: حكم المقاتلة بحمل السلاح في صفوف الكافرين ضد المؤمنين لا عن حب للكفار أو دينهم وإنما لمحض متاع الدنيا؟ ذلك أني وجدت أن كثيراً ممن تكلم في هذه المسألة يأخذ برأي في مسألة فيجعلها حكماً لمسألة أخرى، ويستصحب معنى في باب لينزله على باب آخر، ويقيس صورة على أخرى مع وجود الفارق، كجعلهم حكم المقاتل كحكم الجاسوس، بل قد يغلو بعضهم ويجعل حكم المقاتل هنا دون حكم الجاسوس، لذا تراهم حين يعرضون كلام العالم في مسألة الجاسوس يحملونه فوق ما يحتمل، ويجعلون حكمه في هذه المسألة حكماً عاماً في مختلف صور المظاهرة ما عظم منها وما صغر -ولا صغير في هذا الباب- ولا شك أن هذا المسلك غير صحيح، بل الواجب جمع كلام أهل العلم وحمل كلٍّ على الوجه الذي أراده قائله، خذ مثلاً قول بعضهم وهو يسوق كلاماً للإمام القرطبي: (وممن نص على أن مظاهرة المشركين لمجرد غرض دنيوي ليست كفرًا استنادًا إلى قصة حاطب الإمام القرطبي، حيث قال: (من كثر تطلعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم، لم يكن بذلك كافرًا، إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليماً، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين))ا.هـ، فالقرطبي كما ترى إنما يتكلم هنا في خصوص مسألة الجاسوس لا في حكم كل مظاهر وسياق هذا الفاضل للكلام بهذا التقديم (وممن نص على أن مظاهرة المشركين لمجرد غرض دنيوي ليست كفراً...(1/17)
الإمام القرطبي) موهم نسبة هذا العموم إلى القرطبي وهو ما لا يقول به، وذلك أن للقرطبي رأياً في حكم من عاضد المشركين على المؤمنين وناصرهم عليهم قد لا يروق لهذا الناقل حيث قال الإمام القرطبي رحمه الله:(قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أي : يعضدهم على المسلمين، (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ): بيّن تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي، ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة) [تفسير القرطبي 6 /217].
ومثل هذا ما فعلوه بكلام الإمام الشافعي في تعليقه على حديث حاطب رضي الله عنه حيث حمّلوه ما لا يطيق ولا يحتمل، ونسبوا للشافعي قولاً يجب أن يُنزه الشافعي عن مثله، جاء في كتاب الأم 5/609 ما نصه:
(قيل للشافعي رحمة الله عليه: أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم، أو بالعورة من عوراتهم، هل يحل ذلك دمه، ويكون ذلك دلالة على ممالأة المشركين على المسلمين؟
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام إلا أن يقتل، أو يزني بعد إحصان، أو يكفر كفرًا بينًا بعد إيمان، ثم يثبت على الكفر، وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيّن.(1/18)
فقلت للشافعي رحمه الله: أقلت هذا خبرًا أم قياسًا؟ قال: قلته بما لا يسع مسلمًا علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة، بعد الاستدلال بالكتاب. فقيل للشافعي رحمة الله عليه: فاذكر السنة فيه) فذكر الشافعي حديث حاطب رضي الله عنه، ثم قال: ( في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون، لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال، من أنه لم يفعله شاكًا في الإسلام، وأنه فعله ليمنع أهله، ويحتمل أن يكون زلة، لا رغبة عن الإسلام، واحتمل المعنى الأقبح، كان القول قوله فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لم يقتله، ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا أعلم أحدًا أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه على ما عاب عليه من ذلك، غير مستعمل الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولًا، كان من بعده في أقل من حاله، وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه.
قيل للشافعي رحمه الله: أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قد صدق ) إنما تركه لمعرفته بصدقه، لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره.
فيقال له: قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر، فلو كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين بالعلم بكذبهم، ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر، وتولى الله عز وجل منهم السرائر، ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكمًا له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية، وكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عام حتى تأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصًا، أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجهلوا له سنة، أو يكون ذلك في كتاب الله جل وعزّ)ا.هـ.(1/19)
فهذا كلام الشافعي بتمامه كما نقلوه، فكيف فهم أولئك الفضلاء هذا النص وعلى ماذا حملوا كلامه وحمّلوه، قال بعضهم معلقاً عليه: (وقد سئل الإمام الشافعي عن أمرين يدخلان في عموم موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين، وهي مكاتبة المشركين من أهل الحرب بأن المسلمين يريدون غزوهم، أو دلالة المشركين على عورة المسلمين التي يتضرر المسلمون بكشفها لأعدائهم من الكفار، وهل يحل دم من حصل منه ذلك.
وكان جواب الإمام الشافعي بأن ما ذكر مما هو من مظاهرة المشركين، وما هو أبلغ منه في المظاهرة، وهو التقدم في نكاية المسلمين، بأن يقاتل المسلمين مع المشركين ليس من الكفر البين. وإنما قال الإمام الشافعي إن التقدم في نكاية المسلمين ليس بكفر بين، لأن مجرد قتل المسلم للمسلم ليس في ذاته كفرًا، لا فرق بين أن يكون قتل المسلم للمسلم من غير إعانة للكفار على المسلمين، أو مع إعانتهم على قتال المسلمين، وليس مع من فرق بين الحالين من جهة اقتضاء الحكم بالكفر بينة، وهذا يدل على أن كل ما يكون في الظاهر من موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين ليست لذاتها من الكفر البين؛ لأنه لم يدل نص على أن شيئًا منها يكون من الكفر، وإنما دل الدليل من الكتاب والسنة على أنها ليست لذاتها من الكفر، وهذا معنى قول الإمام الشافعي في بيان مستنده في الدلالة على ما قال: «قلته بما لا يسع مسلمًا علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة، بعد الاستدلال بالكتاب»)، ومثله قول فاضل آخر: (ذكر الشافعي هنا ثلاث صور من صور الإعانة للكفار، وبيّن أنها جميعاً ليست كفراً وهي:
1-الدلالة على عورة المسلمين.
2-تأييد الكفار بتحذيرهم من أن المسلمين يريدون غرتهم.
3-أن يتقدم المسلم إلى الكفار بما يؤدي إلى النكاية بالمسلمين.
وتنبه لهذا القسم الأخير وما فيه من العموم لكل صور النكاية دون تخصيص).(1/20)
فهل ما فُهم من كلام الشافعي صحيح؟ أم أن قائله توهم من النص معنىً فأوهم القارئ به وحمّل الكلام ما لا يحتمل، يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله: (وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيّن) فهذا من الشافعي تصريح برأيه في حكم الجاسوس لا غير، وما فهمه أولئك من أن الشافعي يحكم حكماً عاماً في سائر أنواع المظاهرة وأنه قد صرح بعدم كفر من قاتل مع المشركين غير صحيح البتة، وقد داخل الوهم أولئك حين ظنوا أن معنى: (أو يتقدم في نكاية المسلمين) أن المتقدم في النكاية هو هذا المظهر للإسلام، والصواب في فهم كلامه عليه رحمة الله أن المتقدم هنا في النكاية الكافر لا المسلم، فالكلام لا يخرج عن ذكر صور إضرار الجاسوس فهو قد يدل على عورة مسلم، أو يؤيد الكفار بقول شيء يحذره فيه من أن المسلمين يريدون منه (أي الكافر) غرة فيحذر (الكافر) منها، أو يؤيد المسلمُ الكافرَ بخبرٍ فيتقدم (الكافر) في نكاية المسلمين، وهذا بيّن بحمد الله، وإن أبوا إلا سوء الظن بالشافعي وأصروا على جعل ما قالوه احتمالاً في فهم كلامه فليكن تنزلاً، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، ودعوا الشافعي يتكلم في مسألة الجاسوس دون أن تحملوه تبعة ما فهمتموه فتقولوه ما لم يقل، وإني لأنزه الشافعي رحمه الله عن الذهاب إلى ذلك المعنى الفاسد الذي تريدون، ومن تأمل السؤال الذي طرح على الشافعي وجده يدور حول حكم الجاسوس لا غير.(1/21)
أما تعليق ذلك الفاضل على كلام الشافعي بذاك التعليق الفاسد ناسباً إليه أنه إنما ذهب إلى أن المظاهرة على المؤمنين لا يكفر فاعلها (لأن مجرد قتل المسلم للمسلم ليس في ذاته كفرًا، لا فرق بين أن يكون قتل المسلم للمسلم من غير إعانة للكفار على المسلمين، أو مع إعانتهم على قتال المسلمين، وليس مع من فرق بين الحالين من جهة اقتضاء الحكم بالكفر بينة) فإن هذا التعليق تقولٌ على الإمام ، ونسبةُ قول باطل إليه ما قاله وما ينبغي لمثله أن يقوله، وهل مثل هذا الكلام المتهافت الباطل جدير حقيقة بالمناقشة والاعتراض، أم أن سوقه حقيقٌ بإبطاله وكافٍ في رده –وقد تقدم شيء من التعليق عليه-.
ومما يحسن ملاحظته في لفظ السؤال والذي افتتح به الكلام قول السائل: (هل يحل ذلك دمه، ويكون ذلك دلالة على ممالأة المشركين على المسلمين) ففيه ما يشعر بأن الأصل في ممالأة المشركين على المسلمين أنه كفر، وأنه مما يبيح دم المسلم، وإنما وقع السؤال حول الجس على المسلمين أيكون في هذا الصنيع ما يدل على ممالأة فاعله على المسلمين.(1/22)
ومن العجيب حقاً أن يأتي هذا الفاضل بعد ذلك فيقول: (ومستند الإمام الشافعي في قصة حاطب رضي الله عنه على أن مظاهرة المشركين ليست من الكفر البين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بكفر حاطب بمجرد ما حصل منه من مظاهرة المشركين، مع أنه لا أحد يمكن أن يأتي في مظاهرة المشركين بأعظم مما فعل حاطب رضي الله عنه، لأن حاطبًا قد ظاهر المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد بعد حاطب يمكن أن تبلغ به المظاهرة إلى هذا الحد، لأن « أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين ») ويقول: (وإذا لم يكن ما فعله حاطب كفرًا لذاته، مع كونه أظهر ما يمكن أن يكون من مظاهرة المشركين عند الإمام الشافعي، فمن باب أولى ألا يكون ما دون ذلك من مظاهرة المشركين كفرًا لذاته)، ويقول آخر: (يرى الشافعي هنا أن فعل حاطب هذا من أعظم مظاهر الولاء للكفار، ثم ذكر سبب تعظيمه لهذا المظهر من حاطب رضي الله عنه). ولي مع هذا الكلام وقفات سريعة:
1-أن ما وقع فيه حاطب موالاة محرمة لا شك في ذلك ولا ارتياب فلو اقتصر أولئك على جعله دليلاً على عدم التكفير بمطلق الموالاة للكفار لكان كلاماً متوجهاً، لكنهم جعلوا النص دليلاً على عدم التكفير بكل صور الموالاة إلا في صورة واحدة ذكروها وأخرجوا المظاهرة -وهي صورة أخص من مطلق الموالاة- من أن تكون كفراً.
2-أما كون حاطبٍ قد وقع في مظاهرة المشركين على المؤمنين فمحل بحث ونظر، فإنهم يقولون: نعم فعله مظاهرة إذ قد أفشى سر النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلع الكفار على أمر فيه مصلحة لهم ونكاية بالمسلمين طلباً لمصلحة تعود عليه وأهله، ومع ذلك لم يكن كافراً بصنيعه هذا لأن الباعث له على هذا الفعل تحصيل مصلحة دنيوية ولم يكن الباعث تولي الكفار في دينهم. وهذا التصوير لما وقع فيه حاطب تصوير لا يخلو من أخذ ورد، فمما ينبغي مراعاته وملاحظته في قصة حاطب رضي الله عنه ما يلي:(1/23)
1-أن حاطباً قد ناصر النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه بنفسه وماله فيما سبق هذه الحادثة وهو لا زال على نصرته هذه، مظاهراً للنبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه طالباً رضا ربه بالخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، فله من نصرة المؤمنين على الكافرين نصيب وافر، بل هو الأصل في نصرته وجهاده، بخلاف من كانت نصرته خالصة لأهل الكفر على أهل الإيمان فكيف يجعل حكم من أبدى خبراً للكفار مع مناصرته لأهل الإسلام بنفسه وماله كحكم من ناصرهم بنفسه وماله ورأيه وما يملك!! يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة لله: (تأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ولم يثن ذلك عنان عزمه ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم) [زاد المعاد 3/436].
2-أن غاية ما بدر من حاطب من موالاة محرمة أن خابر قريشاً بخبر مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رغبَ بأن يظل أمر خروجه سراً، وإفشاؤه الحالة هذه لا شك أنه ذنب ومعصية، لكنه رضي الله عنه لم يتجاوز ذلك الإخبار بقول أو فعلٍ زائد يكون فيه مظاهرة لهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقاس عليه من تجاوزه رضي الله عنه بأن جمز إلى معسكر الكفار واصطف معهم لقتال أهل الإسلام.(1/24)
3-أن حاطباً قد فعل فعلاً ظن فيه مصلحة له وأنه لا ضير فيه على المسلمين، إذ إنه ما فعل ما فعل إلا وهو معتقد أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، مظهر لدينه، معل لكلمته، وهو ما صرح به رضي الله عنه حيث قال: (أما إني لم أفعله غشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال يونس غشا يا رسول الله- ولا نفاقا قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره غير أني كنت عزيزا بين ظهريهم وكانت والدتي منهم فأردت أن أتخذ هذا عندهم) [رواه الإمام أحمد في المسند 14360، قال الحافظ ابن كثير: (صحيح على شرط مسلم) البداية والنهاية 2/284، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الموارد 1867، وحسنه الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند 231]، ويقول ابن تيمية وقد ساق حديث حاطب رضي الله عنه ثم قال: (وفي لفظ -أي لحديث حاطب-: (وعلمت أن ذلك لا يضرك) ، يعني لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا) [الفتاوى 35/67]، فشتان شتان بين رجل يظاهر الكفار على المؤمنين، ويقف بسيفه في صفهم، ويسعى لغلبتهم، و لا يبالي بأن يؤدي فعله هذا إلى ظهور الكفار على المؤمنين، وعلو الكفر على الإيمان، وآخر يفعل فعلاً يعتقد أنه لا يُحقق ذلك الظهور، وإن كان هذا الفعل محل مؤاخذة، وذنباً ومعصية، وهو من الموالاة المحرمة.
4-وبالوجه السابق يتبين أن حاطباً ما قصد الفعل المكفر ولا واقعه -أعني مظاهرة المشركين على المؤمنين-، بل قصد فعلاً لا يكون فيه ظهور للمشركين على المؤمنين، فالمناط غير المناط، والبحث غير البحث.
5-ومن بقي لديه تردد في هذه المسألة، فليتأمل فقط في أنه لا خلاف بين أهل العلم، في حل دم من قاتل أهل الإسلام، مع ما اشتهر من قول أكثرهم بعدم قتل الجاسوس.
فإن قيل: فما بال عمر قد اتهمه بالكفر والنفاق إن لم يكن ما فعله كذلك؟(1/25)
فيقال: أن عمر رضي الله عنه قال ما قال بناء على ظنه أن حاطباً رضي الله عنه فد تلبس بالمناط المكفر ووقع في المظاهرة التي يكفر صاحبها، فلما استجلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر ظهر أن حاطباً ما أقدم على ما أقدم عليه إلا لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم منصور وأن إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عن غشٍّ أو نفاق أو شروعٍ في ظهور الكفر على الإسلام، بل كان فعله لأجل مصلحةٍ يجنيها توهَّم ألا ضير كبيراً فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على الإسلام والمسلمين، مع علمه بحرمة ما صنع كونه إفشاءً لسر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فيه إظهاراً لنوع موالاة للكافرين. فكان حكم عمر بناءً على ما علمه من حكم المظاهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم مقرٌ لعمر على هذا الحكم (حكم المظاهرة)، وحاطب يعرف صحة هذا الحكم لكنه يرى أنه ما واقع المناط المكفر لأنه فعل ما فعل مع علمه ويقينه أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم. فكيف يسوَّى بين من هذا حاله، وبين حالِ من يعلم –ولا يبالي- أنه بفعله سيبيد خضراء المسلمين وينصر الكفر والشرك وينشره في الأرض، كما هو مقتضى قول من يطلق القول بأن المظاهرة العملية كلها ذنبٌ دون الكفر؟!(1/26)
ولتقريب الأمر في هذه الجزئية أقول: لو أن شخصاً رأى آخر يشرب عصيراً من وعاء خمر، فقال رجل لولي الأمر: اجلده فإنه قد شرب الخمر، فسُئل الرجل عن ذلك فقال: والله ما شربت الخمر ولا قاربتها وإنما هو عصير، فتُرك، فهل يكون في تركه تعطيلاً للحد، أم أن المناط الموجب لإقامته ما وقع، وكذا لو أن رجلاً رأى رجلاً وامرأة في حال ريبة وشبهة، فقال آخر لولي الأمر: اجلده أو ارجمه فإنه قد زنى، فسئل هذا عن فعله فقال: والله ما زنيت ولكنني قبلت وضممت، فعزر ولم يحد، أكان في ترك الحد إبطالا له، أم أن المناط لم يتحقق، فكذلك هنا، والمقصود أن مناط الكفر الذي هو المظاهرة ما وقع من حاطب وهو الذي تبين بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وشتان شتان بين فعل لا يحتمل إلا وجهاً واحداً من صاحبه كالمقاتلة، وبين ما يعرض له الاحتمال والاشتباه كالمخابرة والجس، والله أعلم.
3-وبتقدير أن حاطباً وقع في المظاهرة المكفرة، وهو قول لبعض أهل العلم مستدلين بـ:
1-أن عمر حكم على حاطب بالكفر والنفاق لأنه رأى في فعله مظاهرة للمشركين ومناصرة لهم، فعُلم أن المستقر عنده كفر من ظاهر المشركين على المسلمين، يقول الإمام البيهقي في سننه 10/208: (ولم يُنكِر على عمرَ رضي الله عنه تسميته بذلك إذ كان ما فعل علامَةً ظاهرةً على النِّفاقِ وإِنما يكفرُ من كفَّرَ مسلماً بغير تأويل).
2-أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ردّ على عمر قوله وإنما سكت، فكان ذلك إقراراً له على أن حكم المظاهرة كذلك، لكنه استفسر من حاطب وسأله عن صنيعه هذا ليعلم حقيقة الأمر وجليته، والباعث لحاطب على ما أقدم عليه، وهل ثمة ما يمنع من تنزيل حكم الكفر والردة عليه، فلما تبين الأمر خطأ عمراً في التنزيل والحكم على المعين لا في حكم الفعل، وفرق بين من أخطأ في وصف فعل بأنه كفر، ومن أخطأ في تنزيل الوصف على معين.(1/27)
3-أن حاطباً دفع عن نفسه حكم الكفر والردة، ولو كان الفعل ليس كفراً بمجرده لم يلزمه أن يدفع الأمر عن نفسه بما ذكر، أرأيت لو أن مسلماً ركب كبيرة من الكبائر مثلاً فقيل له: ما حملك على ما صنعت، أيصلح أن يكون جوابه: والله ما فعلتها كفراً ولا رضا بالكفر، أم أن مثل هذا الجواب لا يرد أصلاً ولا يقال كون الفعل غير مكفر. وهذا الوجه من الاستدلال -إنصافاً- فيه ما فيه فإن الباعث لحاطب على تبرئة نفسه من الكفر أنه اتهم به، وظهر منه ما يوهم ذلك.(1/28)
قالوا: ويمكن أن يقال في فهم الحديث بناءً على هذا: أن حاطباً رضي الله عنه وإن وقع في الكفر فإنه منع من تنزيل حكم التكفير عليه مانع من موانع التكفير، ذلك أن الحكم بالكفر على المعين باب له أحكامه المغايرة لأحكام التكفير المطلق والحكم على الأفعال، فلا بد في تكفير المعين من توافر شروط وانتفاء موانع، وهو الواقع في مسألتنا هذه، إذ أن من موانع التكفير مانع التأول، وهو ما وقع من حاطب رضي الله عنه فإنه إنما أقدم على صنيعه هذا متأولاً أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم ومظهر أمره وأنه لا ضرر مما فعل وقال، فالتسوية بين حال حاطب وحال من يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيُهلك المسلمين وسيحقق النصر للكافرين قياس غير صحيح، يقول الحافظ ابن حجر: (وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولاً ألاّ ضرر فيه) [فتح الباري 8/634]، ويقول أبو العباس القرطبي: (لكن حاطباً لم ينافق في قلبه، ولا ارتد عن دينه، وإنما تأول فيما فعل من ذلك: أن إطلاع قريش على بعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخوف قريشاً، ويُحكى أنه كان في الكتاب تفخيم أمر جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا طاقة لهم به، يُخوفهم بذلك ليخرجوا عن مكة، ويفروا منها، وحسن له هذا التأويل تعلق خاطره بأهله وولده، إذ هم قطعة من كبده، ولقد أبلغ من قال: قلما يفلح من كان له عيال، لكن لطف الله به، ونجاه لما علم من صحة إيمانه، وصدقه، وغفر له بسابقة بدر، وسبقه) [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6/440]، ويقول ابن الجوزي: (قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم، وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند(1/29)
التقية، وإنما قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل) [زاد المسير 8/234]. ويقول ابن الجوزي أيضاً معلقاً على حديث حاطب رضي الله عنه: (فتقرب إلى القوم ليحفظوه في أهله بأن أطلعهم على بعض أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيدهم وقصد قتالهم، وعلم أن ذلك لا يضر رسول الله لنصر الله عز وجل إياه، وهذا الذي فعله أمر يحتمل التأويل، ولذلك استعمل رسول الله حسن الظن، وقال في بعض الألفاظ: (إنه قد صدقكم)، وقد دل هذا الحديث على أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل، ودل على أن من أتى محظورا أو ادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن بخلافه) [كشف المشكل 1/141].(1/30)
4-لو اقتصر أولئك الفضلاء على الاستدلال بهذا الحديث على حكم الجاسوس المسلم، وأنه لا يكفر لدلالة النص على عدم التكفير لكان في البحث والمناقشة سعةٌ، وللخلاف مجالٌ، وللرأي وجهٌ جديرٌ بالتأمل والتحرير، ولكن محل الإشكال أنهم يريدون تعميم دلالة النص -بحسب ما فهموا- على كافة صور المظاهرة ليجعلوا حكمهم في الجاسوس حكماً لكل صورة من صور المظاهرة ولو كانت بالمقاتلة مع الكفار وحمل السلاح على المؤمنين وبذل النفس في قتال أهل الإسلام، وهو لا شك أعظم وأبلغ في المظاهرة من الجس، والعجيب حقاً أنهم يبالغون ويهولون في استدلالهم بهذا النص فيقولون: إن ما وقع فيه حاطب من إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم هو أشنع ما يمكن أن يكون من مظاهرة، كونها -هكذا!- مظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم!! وهذا الكلام مع شناعته، بعيد عن التحقيق العلمي، وهو كلام خطير وله لوازم خطيرة، وتوضيح ذلك أن القائلين بهذا متى ما سئلوا عن حكم من ظاهر الكفار على المسلمين بالمقاتلة معهم، فسيقولون: هو مسلم مرتكب لكبيرة من الكبائر ولا يكفر حتى يكون الباعث له على هذا الفعل محبة دين الكفار ورضاه بكفرهم، فإن سألناهم عن كيفية الاطلاع على هذا المناط المكفر، فسيقولون: بتصريحه، فإن عُدم فمسلم حتى يصرح، ومتى سئلوا عن دليلهم في هذا، فيقولون: لأنه الأصل في مناقضة أصل الولاء والبراء، إذ أنه لا ينقض إلا بوقوع محبة دين الكفار في القلب، والمظاهرة بمجردها عمل لا يؤثر إلا في فرع الولاء والبراء وكماله، وهذا الأصل مؤكد بدلالة حديث حاطب رضي الله عنه فإن المظاهرة قد وقعت منه ولم يُكفره النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال: ما وقع من حاطب لم يكن مجرد مظاهرة لأهل الكفر على أهل الإيمان بل كانت مظاهرة للمشركين على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فسيقولون: هو كذلك، وهو دليل زائد، إذ ما وقع فيه حاطب أشنع ما يمكن أن يتصور من مظاهرة للمشركين كونها متعلقة بمقام(1/31)
النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، فكل مظاهرة تقع من بعده فهي دون المظاهرة عليه قطعاً، فيقال: فيلزم أن من ظاهر على النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمظاهرته هذه كافراً، فيلزمهم أن يقولوا: هو لازم لنا بل هو ما نقول، فيقال: فيلزم أن من قاتله صلى الله عليه وسلم مع الكفار رغبة في الدنيا مع إظهاره للإسلام لا يكون كافراً كون الجس عليه ومقاتلته كلها مظاهرة والمظاهرة لا يكفر صاحبها -عندكم- إلا إن كانت لرغبة في دين الكفار ومحبة للكفر، فبالله عليكم لو أن رجلاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه ونطق بالشهادتين والتزم أداء الفرائض لكنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني معك في دينك هذا مؤمن بك مصدق لما تقول، لكني رجل من قومي أقاتل من قاتلوا، وأحارب من حاربوا، فإن توجهوا تلقاءك وقاتلوك قاتلتك ومن معك! أيحكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام؟ أم أنها الأخرى بيقين. فلو قُدر أن ذات الرجل خرج فعلاً للمقاتلة مع قومه أكان ما أظهره من الإيمان مانعاً من تكفيره؟ أم هو كافر ولا بد.(1/32)
ولو وقف هذا مقابل النبي صلى الله عليه وسلم مقاتلاً له أيكون مع ذلك مسلماً غير خارج من دائرة المسلمين!! وأجزم أن أولئك الفضلاء يحكمون بكفر من أراد النبي صلى الله عليه وسلم بسوء أو حاول قتله ولو كان لمحض دنيا لا لتكذيب به أو جحود لنبوته ودعوته، فما بالهم لا يكفرون من يظاهر عليه صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه ويقاتله صلى الله عليه وسلم، ومالهم يصححون إسلام من ييسر قتل النبي صلى الله عليه وسلم ويسهله ويدنيه صلى الله عليه وسلم من الموت خطوة بقتال من حوله من أصحابه وأعوانه، وما لهم يحكمون بإسلام من يباشر قتل حراسه ومن يصونه ويحميه، أرأيتم لو أن هذا (المسلم) -بزعمهم- المظاهر للكفار عليه صلى الله عليه وسلم قد وقف على النبي في ساح المعركة وبجواره صحابي يحوطه ويحميه فانحرف عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أذاه وأهوى بسيفه على ذاك الصحابي فقتله، ثم تنحى عن المشهد وليأتي بعد ذلك مشركٌ ليكمل المهمة بقتل النبي صلى الله عليه وسلم أيكون بصنيعه السوء هذا مسلماً! وهل هذا منه إلا تيسيرٌ لقتله صلى الله عليه وسلم وإعانة عليه وخذلاناً له، أم أن هذه ليست مظاهرة عليه!! فما المظاهرة!! فأين يُذهب بكم!! وكيف استجزتم أن تقولوا مثل هذا القول الشنيع: المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بكفر!! ووسعتم الأمر حتى أدخلتم في ذلك مقاتلته!! فإن عدتم -وهو أولى بكم إن شاء الله- وقلتم: فحكم مقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كحكم الجس عليه، فيقال: فدعوا الاستدلال بحديث حاطب في الحكم على من ظاهر الكفار على المسلمين بقتالٍ، واجعلوا المسألة في الجاسوس دون ما فوقها، وليكن ثمة اختلاف في حكم الجاسوس لا ضير، لكن الضير كله في جعل هذا الخلاف خلافاً في حكم المقاتلة، أو الحكم لهذا المقاتل بحكم الإسلام، أو جعل هذا الحكم من محال الإجماع، أو القول بأن التكفير في هذه الحال قول محدث وقول الغلاة، دع عنك القول(1/33)
بأن المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست كفراً!! وإن كان عندك أدنى شك في حكم من حارب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه الكفر بل ارتياب، فاقرأ نقل القاضي عياض الإجماع على حكم هذه المسألة، يقول عليه رحمة الله في كتابه الشفاء (2/1069): (من أضافَ إلى نبينا صلى الله عليه وسلم تعمُّد الكذبِ فيما بلَّغه وأخبر به، أو شك في صدقهِ، أو سبهُ، أو قال : إنه لم يبلِّغْ، أو استخفَّ به، أو بأحدٍ من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتلَ نبياً، أو حاربه، فهو كافرٌ بإجماعٍ)، والمسألة لمن تأملها وتدبرها أظهر من أن يحتاج إلى أن يستدل لها بدليل خاص أو ينقل فيها إجماع، فإن حربه، ومقاتلته، و(المظاهرة عليه) صلى الله عليه وسلم، مضاد لأصل الإيمان والمتضمن تصديقه ومحبته والانقياد والتسليم والإذعان والتوقير والتعظيم الواجب له.
وإذا استحضرت أن الشافعي في النقل السابق إنما يتكلم عن حكم الجاسوس -كما تقدم- تبين لك أن ما فهمه هذا الفاضل وغيره بأن ما وقع من حاطب أشنع ما يُتصور من مظاهرة غير صحيح، وأن تحميل كلامه غير ما صرح به في حكم الجاسوس ظلمٌ، ذلك أن الشافعي يقول: (ولا أعلم أحدًا أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه على ما عاب عليه من ذلك، غير مستعمل الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولًا، كان من بعده في أقل من حاله، وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه)، فغاية الأمر حكم فيمن (خابر) لا فيمن (قاتل) فلا يصح أن يجعل ما وقع فيه حاطب أشنع صور المظاهرة على الإطلاق.(1/34)
وبهذا تعلم أن ما نسبه هذا الفاضل وغيره إلى ابن جرير في بيان مدلول حديث حاطب غير صحيح حين قال: (ولهذا ذكر الإمام ابن جرير في فقه قصة حاطب رضي الله عنه وما حصل منه من مظاهرة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيها الدلالة على أن من دل الكفار على عورات المسلمين ولم يتكرر منه، كالذي حصل من حاطب رضي الله عنه، فإنه لا يقتل، وإنما يقتل عنده من تكرر منه ذلك، دفعاً لشره، وهذا لا يقال فيما يكون به الكفر، وإنما يكون فيما هو معصية)، فهل فقه ابن جريرٍ حقاً من حديث حاطب أن المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست كفراً؟ أم أن هذا ما توهمه الناقل فأوهم أن ابن جرير يقوله؟ يقول ابن جرير رحمه الله: (إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنه قد كاتب عدواً من المشركين، ينذرهم مما أسرّه المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن معروفاً بالغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة، من غير أن يكون لها أخوات، يجوز العفو عنه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاطب، من عفوه على جرمه، بعدما اطلع عليه من فعله ) [شرح ابن بطال لصحيح البخاري 5/162] فكلام ابن جرير في الجاسوس لا غير، بل تأمل في دقة عباراته وكلماته حين ذكر في كلامه عين ما وقع من حاطب رضي الله عنه من غير زيادة أو تجاوز، فقال: (إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنه قد كاتب عدواً من المشركين، ينذرهم مما أسرّه المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن معروفاً بالغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة، من غير أن يكون لها أخوات، يجوز العفو عنه)، فما تحدث في كلامه هذا في حكم جميع صور المظاهرة بل ما تكلم في جميع صور التجسس، دع عنك أنه رحمه الله تكلم في حكم المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما قد يوهمه صنيع ذاك الفاضل، بل قال فاضل آخر مؤكداً أن حكم الجاسوس هو حكم كل مظاهر: (وأما كلام أئمة الإسلام في الجاسوس المسلم فقد دل دلالة قاطعة على أن(1/35)
المظاهرة العملية وحدها عندهم ليست كفراً، ودل عدم وجود مخالف معتبر لهم في ذلك أن التكفير بمجرد الإعانة الظاهرة قول محدث يخالف ما جرى عليه أئمة الإسلام كما هو حكمهم في الجاسوس المسلم!!!)، فتأمل كيف يُحمّل أولئك كلام الأئمة جميعاً في حكم الجاسوس فوق ما يحتمل بإعطاء حكم المظاهرة الأعلى حكم الأدنى، وإبطال حكم الأصل بفرع، والقياس مع وجود الفارق، وضرب المحكم بالمتشابه، ولتأكيد بطلان هذا المسلك في فهم كلام أهل العلم، وأنه ثمة فرقٌ بين قبح المقاتلة وقبح التجسس، أُذكّر بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُورا)، حيث صح في سبب نزول هذه الآيات: (أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) الآية) [رواه البخاري 4596] كما أخبر به عبدالله بن عباس رضي الله عنه، وأورد بعض أهل التفسير مثل هذا عن عكرمة في قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السَّلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين)، ومعلوم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول في عموم ما نصت عليه الآية، وأن حكم النص متناول لها على جهة القطع، فإذا كان الله قد توعد بجعل جهنم(1/36)
مأوى من خرج مع المشركين لمجرد تكثير سوادهم مع دعوى الاستضعاف، فكيف حال من باشر القتال معهم ضد أهل الإيمان باختياره من غير إكراه ولا استضعاف رغبة في تحصيل متاع دنيوي!!
فإن قيل -وقد قيل-: فالجاسوس أعظم جرماً بتجسسه من المقاتل، والمضرة التي يُدخلها على أهل الإسلام أكبر وأعظم ممن حمل سلاحاً وقاتل بنفسه، فإذا كانت المظاهرة بالجس ليست كفراً فما دونها -أعني المقاتلة- من باب أولى؟(1/37)
فيقال: أما ضرر مقاتلة المؤمنين مع المشركين على إيمان العبد فأعظم من مجرد كلمة يلقيها للكفار، ففي المقاتلة من التغرير بالنفس وتقحم المهالك ما لا يقع ممن جس وخابر، والذي لا شك فيه أن المرء قد يضعف إيمانه إلى مستوى يستسهل معه أن يجس على المسلمين فيلقي كلمة أو يشير لهم بإشارة تنفعهم، لكن أي إيمان في القلب يبقى إذا ترك صفوف المسلمين وانحاز لصفوف أهل الكفر؟! وأين هذا من ذاك؟! ولك أن تتصور مسلماً يطمع في دريهمات لمعلومة يدلي بها لكن كم من المال يمكن أن يكون دافعاً لإخراج هذا المسلم في جيش الكفار لحرب الإسلام والمسلمين؟ لا شك أنه سيكون أكثر وأوفر وأعظم، ذلك أن هذا إن لم يضن بدينه فسيضن بنفسه أن يعرضها لما يهلكها، فإن فعل وعرضها لذلك فإنما هو لطغيان حب الدينا على فؤاده ونفسه، فصارت أحب إليه من دينه، وأي إيمان يبقى لرجل -وإن أبداه- وهو بفعله حرب لله ورسوله وعباده المؤمنين!! واعتبر في هذا بما جرى من حاطب رضي الله عنه وأرضاه من إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم فإنك وإن تعقلت أنه مع فضله وإيمانه قد زل هذه الزلة فإنك لا تتصور منه -مع ذلك- أن يُقدم على مقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك لحفظ أهله وصيانتهم، وأن إيمانه مانع له من هذه المقاتلة وإن وقعت منه تلك الزلة والعثرة رضي الله عنه وأرضاه والتي غفرها الله له، فإذا فهمت هذا، وتعقلت حقيقة التلازم بين الظاهر والباطن، فإنك ولا بد قائل أن إيمان من قاتل مع الكفار -إن بقي له إيمان- دون إيمان من دلهم على عورة للمسلمين، وهذا المعنى الذي جرى التنبيه عليه في قبح المقاتلة مقارنة بقبح الجس نبه عليه أحد أولئك الفضلاء حيث قال في ضمن كلامه: (وكان جواب الإمام الشافعي بأن ما ذكر مما هو من مظاهرة المشركين، وما هو أبلغ منه في المظاهرة، وهو التقدم في نكاية المسلمين، بأن يقاتل المسلمين مع المشركين ليس من الكفر البين)، بل قال آخر بهذا المعنى مع كون(1/38)
مقصوده تعظيم خطورة التجسس والتنبيه على ما يدخله الجاسوس من الشر على أهل الإسلام حيث قال: (والتجسس مظاهرة وأي مظاهرة!! وإعانة للكفار لا يُشكك في كونه إعانة لهم إلا مكابر لا يستحي من المكابرة!! بل إن التجسس في العادة أشد نكاية بالمسلمين من أظهر أنواع المظاهرة والإعانة، فهو أشد ضرراً غالباً من أن يقاتل الرجل بنفسه مع الكفار قتالاً صريحاً ضد المسلمين)، فدعوا التهويل في مسألة الجاسوس محاولين تهوين حكم المقاتلة، والتزموا الفرق بين الصورتين، وإذا كنتم قد استدللتم بحديث حاطب في حكم الجاسوس وغيره، فاستدلوا بآية النساء في حكم المقاتل، واعتبروا كذلك بما يلزمكم من حديث حاطب متى ما استدللتم به في حكم المقاتلة، ولئن اختلف العلماء في حكم الجاسوس، فإني جازم أنهم لا يختلفون في حكم المقاتل، وإلا فابغوني تصريحاً يدل على خلافه، وهاتوا نقلاً يصرح قائله أن من قاتل أهل الإسلام لإعلاء شأن الكفار رغبة في الدنيا لا يكفر وأنه لا يعطى حكم الكافرين.(1/39)
وإياك والاغترار باستدلال بعضهم بحديث سهل –أو سهيل- بن بيضاء على عدم تكفير من قاتل المسلمين مع الكفار إذ لا دلالة في الحديث البتة، ولفظ الحديث: أنه لما كان يوم بدر، وجئ بالأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسارى . فذكر في الحديث قصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء، أو ضرب عنق). فقال عبد الله بن مسعود: فقلت : يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام . قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا سهيل بن البيضاء). قال : ونزل القرآن بقول عمر: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض..) إلى آخر الآيات [رواه الإمام أحمد في المسند 3625، والترمذي في سننه 3084، ونبه غير واحد من أهل العلم على أن القصة إنما هي في سهل بن بيضاء لا سهيل وأن من نسبها إلى سهيل فقد أخطأ ووهم، فإن سهيلاً رضي الله عنه تقدم إسلامه]، فالحديث:
1-مختلف في تصحيحه لأنه من رواية أبي عبيدة عامر بن عبدالله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، فمن أهل العلم من يقبل هذه الرواية لاختصاص عامر بحديث أبيه وعلمه به ما لم يأت بحديث منكر، ومنهم من لا يقبلها لعدم السماع.(1/40)
2-ثم يقال أن سهلاً كان مستخفياً بإيمانه -كما أشار إليه هذا الفاضل المستدل بالحديث على عدم التكفير بالمظاهرة-، وهو لم يخرج بطواعية منه واختيار كما يوهمه صنيع هذا المستدل، وإنما خرج مكرهاً، والبحث ليس فيمن خرج في للقتال مكرهاً، إنما البحث فيمن خرج باختياره وقَصْدِهِ طمعاً في دنيا من غير تأويل سائغ أيصح أن يكون مسلماً؟! وهذه ما لا يمكن أن يقام عليها الدليل! يقول ابن سعد رحمه الله موضحاً حقيقة حال سهل رضي الله عنه وما وقع منه: (أسلم بمكة، وكتم إسلامه، فأخرجته قريش معها في نفير بدر، فشهد بدرا مع المشركين، فأسر يومئذ، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة فخلي عنه) [طبقات ابن سعد 4/213]، فهذا ما وقع من سهل رضي الله عنه، فهل يصح أن يُظن فيه أنه إنما خرج مع أهل مكة لعرض من الدنيا؟! وهل يصح أن يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خلى سبيله لثبوت دعوى إسلام سابق؟! وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين بصنيعه هذا أن من خرج مقاتلاً له من المسلمين لا يكون بمجرد قتاله كافراً؟! لتصحح بعد ذلك تلك الدعوى -مقاتلة أهل الإسلام مع أهل الكفر لا تكون كفراً ما لم يكن ذلك القتال عن محبة لدين الكفار وتمن لنصرته؟!
واستحضر هنا ما رُوي في شأن العباس بن عبدالمطلب حين أسر ببدر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني كنت مسلما قبل ذلك، وإنما استكرهوني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بشأنك إن يك ما تدعي حقا، فالله يجزيك بذلك، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك) [رواه الإمام أحمد في المسند 3300 بسند فيه راو مبهم وبقية رجال ثقات، وله أسانيد أخر لا تخلو من مقال] فالحكم في مثل هذه الحال مع دعوى الإكراه وعدم البينة إنما هو للظاهر والله يتولى السرائر.(1/41)
وفي ضوء هذه المعاني ينبغي أن يفهم كلام أهل العلم فيمن ادعى إسلاماً ممن يأسره المسلمون من جيش الكفار، فلا يصح أن يقال أنهم بصنيعهم هذا لا يقولون بكفر من خرج مقاتلاً لأهل الإسلام طوعاً باختياره لعرض من الدنيا قليل، بل مقصودهم بكلامهم هذا الحكم في مثل هذه الصورة الواقعة في حديث سهل والتي هي محل الاستدلال، وإلا فهل يصح أن يطلق القول بأن مجرد ثبوت إسلام من قاتل أهل الإسلام مع الكفار يستوجب إخلاء سبيله وعصمة دمه وماله ولو كان مباشراً للقتال حقيقة برغبة منه واختيار لتحصيل شيء من الدنيا!! أم أن إخلاء سبيله وعصمة دمه وماله إنما هو لقيام معنى آخر في هذا الأسير استوجب مثل هذه الأحكام كصحة دعوى الإكراه مع ثبوت الإسلام! يؤكد هذا أن هذا المقاتل لأهل الإسلام باختياره وطوعه أسوأ حالاً ممن قطع سبيل الناس وأفسد عليهم أموالهم بالنهب والسلب، ومعلوم أن الشريعة أباحت دم هذا القاطع للطريق وجعلت لمثله حداً هو حد الحرابة فيباح قتله وصلبه وقطع يده ورجله من خلاف ونفيه من الأرض على تفاصيل يعرفها الناظر في كتب الفقهاء، فكيف يقال فيمن قاتل أهل الإسلام وادعى إسلاماً أنه يخلى سبيله بمجرد تصحيح هذه الدعوى وثبوتها.
3-ثم يقال للمستدل بحديث سهل هذا على عدم تكفير من التحق بجيش الكفار مقاتلاً أهلَ الإسلام ألست تُسلم بأن هذه المقاتلة -وفق مذهبك- فعلٌ يحتمل أن يكون كفراً، وأن الشأن فيه -عندك-كالشأن في حديث حاطب رضي الله عنه، وأن ما كان كذلك فالواجب فيه -عندك- استفصال من تلبس بهذا الفعل لمعرفة الباعث على الفعل، فلم أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستفصال الواجب؟ وما باله صلى الله عليه وسلم استفصل في مقام الشبهة فيه أضعف -كون الفعل تجسساً وكونه صادراً من بدري- وترك الاستفصال في مقام قوة الشبهة؟(1/42)
4-ثم كيف يستقيم هذا الاستدلال بحديث سهل هذا على عدم تكفير من حاربه، مع الإجماع الواقع على أنها كفر، كما سبق ذكره عن القاضي عياض عليه رحمة الله.
فظهر أن لا دلالة في الحديث على ما أرادوه، وتنبه إلى أن القوم يصرون على تأكيد ذلك المعنى الشنيع من الحكم بإسلام من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه!! فيستدلون له بحديث حاطب كما تقدم أخذاً من حكم الجاسوس وتوسيعاً لدلالته ليشمل كل مظاهر ولو كانت المظاهرة عليه صلى الله عليه وسلم! بل ويستدلون هنا لخصوص حكم المقاتلة بل مقاتلته صلى الله عليه وسلم!! مع ما لقولهم هذا من لوازم شنيعة لا ينفكون عنها.(1/43)
وكذلك لا ينبغي الاغترار باستدلالهم في مسألتنا هذه بحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق. قال: يا محمد! فأتاه، فقال: (ما شأنك؟) فقال: بم أخذتني؟ وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال -إعظاما لذلك-: (أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف)، ثم انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد! يا محمد! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا، فرجع إليه فقال: (ما شأنك؟) قال: إني مسلم، قال (لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح)،ثم انصرف. فناداه. فقال: يا محمد! يا محمد! فأتاه فقال: (ما شأنك؟)، قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني. قال: (هذه حاجتك) ففدى بالرجلين. [رواه الإمام مسلم 1641]، فهذا النص كما ترى ليس فيه ذكر شيء من أمر المقاتلة، بل غاية ما فيه أن هذا الرجل أُسر لكونه كافراً في دار حرب، فلو قُدر أنه كان مسلماً قبل أسره لم يجز أسره لمجرد كونه بدار الحرب وهذا بين، فلا صلة للحديث بمسألتنا ولا له علاقة في حكم المظاهر.(1/44)
ولنا أن نتساءل بعد هذا كله إذا كان الخروج مع الكفار لقتال أهل الإسلام ليس كفراً بذاته بل هو ذنب ومعصية لا تبلغ بصاحبها حد الكفر، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرص على معرفة من خرج مع الكفار من المسلمين، خصوصاً من قتل منهم في أرض المعركة ليقوم بواجب تغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم، ولا يخفاك أن بعضاً ممن استخفى بإسلامه وقع منه ذلك الخروج المذموم كما تقدم، وقد ذكر أهل السير والتواريخ بعضاً من أسمائهم، وإذا كان ابن مسعود قد تعرف على واحد من أولئك بعد الأسر -كما يراه ذلك الفاضل- فما الذي يمنع أن يُتعرف على غيره بعد القتل، ولما لم يفتش النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر ويأمر المؤمنين: من عرف مسلماً بين أولئك القتلى فليخبر به فإن له حقاً.
(بعض أقوال أهل العلم في حكم مقاتلة المسلم مع الكفار ضد أهل الإسلام)
ولا أخلي هذا المقام من ذكر شيء من كلام أهل العلم في حكم مقاتلة المسلم مع الكفار ضد أهل الإسلام على الخصوص، ممثلاً ببعضه، ومستغنياً ببعضه عن بعضه، فليس القصد استيعاب كلامهم وإنما التمثيل فقط، منبهاً على عدم ذكري لشيء من النقول في حكم مظاهرة المشركين على المؤمنين، وذلك أنها كثير وفيرة، والوقوف عليها ميسور مذلل لمن له أدنى عناية ببحث هذه المسألة:
-جاء في الفروع 10/185: (ونقل عنه الميموني -أي عن الإمام أحمد- أمر هذا الكافر بابك لعنه الله ليس كغيره، سبي النساء المؤمنات فوقعوا عليهن فحملن، فالولد تبع لأمه كذا حكم الإسلام، ثم خرج إلينا يحاربنا وهو مقيم في دار الشرك، أي شيء حكمه؟ إذا كان هكذا فحكمه حكم الارتداد).
-يقول الإمام ابن حزم رحمه الله:
((1/45)
فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين , فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها: من وجوب القتل عليه متى قدر عليه , ومن إباحة ماله , وانفساخ نكاحه , وغير ذلك , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم) [المحلى 12 / 126].
- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه، فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار فإن التتار فيهم المكره وغير المكره وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي) [الفتاوى 28/534].
ويقول رحمه الله:
(كل من قفز إليهم –يعني التتار– من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام، وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين- مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين، فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلاً للمسلمين؟ مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه) [الفتاوى 28/530].
-ويقول رحمه الله:
(من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله) [الدرر السنية 9/209، نقله عنه الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ محيلاً له على اختيارات الشيخ].
- ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله:
((1/46)
واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح: إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين – ولو لم يشرك – أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أهل العلم كلهم) [الدرر السنية 10 / 8].
-ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله:
(وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله) فلا يقال : إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافراً، بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين وأخرجوه معهم كرهاً فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال، لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً، أو أعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر). [الدرر السنية 8/ 456].
-سئل أحمد بن زكري الفقيه الأصولي البياني عليه رحمة الله [ت:899هـ] عن قبائل من العرب امتزجت أمورهم مع النصارى وصارت بينهم محبة، حتى أن المسلمين إذا أرادوا الغزو أخبر هؤلاء القبائل النصارى، فلا يجدهم المسلمون إلا متحذرين متهيبين، والفرض أن المسلمين لا يتوصلون إلى الجهاد إلا من بلاد هؤلاء القبائل وربما قاتلوا المسلمين مع النصارى، ما حكم الله في دمائهم وأموالهم؟ وهل ينفون عن البلاد؟ وكيف إن أبوا النفي إلا بالقتال؟
فأجاب رحمه الله بقوله:
(ما وصف به القوم المذكورون يوجب قتالهم كالكفار الذين يتولونهم، ومن يتول الكفار فهو منهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وأما: إن لم يميلوا إلى الكفار، ولا تعصبوا بهم، ولا كانوا يخبرونهم بأمور المسلمين، ولا أظهروا شيئاً من ذلك، وإنما وجد منهم الامتناع من النفير فإنهم يقاتلون قتال الباغية). [أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبدالقادر الجزائري 210].(1/47)
- وسئلت لجنة الفتوى في الأزهر عن مساعدة اليهود وإعانتهم في تحقيق مآربهم في فلسطين، فأجابت اللجنة برئاسة الشيخ عبد المجيد سليم في 14 شعبان 1366 إجابة طويلة، ومما قالوا:
(فالرجل الذي يحسب نفسه من جماعة المسلمين إذا أعان أعداءهم في شيء من هذه الآثام المنكرة وساعد عليها مباشرة أو بواسطة لا يعد من أهل الإيمان، ولا ينتظم في سلكهم، بل هو بصنيعه حرب عليهم، منخلع من دينهم، وهو بفعله الآثم أشد عداوة من المتظاهرين بالعداوة للإسلام والمسلمين).
إلى أن قالوا:
(ولا يشك مسلم أيضاً أن من يفعل شيئاً من ذلك فليس من الله ولا رسوله ولا المسلمين في شيء، والإسلام والمسلمون براء منه، وهو بفعله قد دل على أن قلبه لم يمسه شيء من الإيمان ولا محبة الأوطان، والذي يستبيح شيئاً من هذا بعد أن استبان له حكم الله فيه يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيفرق بينه وبين زوجه، ويحرم عليها الاتصال به، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وعلى المسلمين أن يقاطعوه، فلا يسلموا عليه، ولا يعودوه إذا مرض، ولا يشيعوا جنازته إذا مات حتى يفيء إلى أمر الله، ويتوب توبة يظهر أثرها في نفسه وأحواله وأقواله وأفعاله). [فتاوى خطيرة في وجوب الجهاد الديني المقدس 17].
- وسئل بعض علماء مصر عام 1376 عن حكم من يعين دولة أجنبية ضد دولة مسلمة، فأفتى المسئولون بأنه مرتد، وممن أجاب على هذا الاستفتاء : محمد أبو زهرة، وعبد العزيز عامر، ومصطفى زيد، ومحمد البنا. [مجلة لواء الإسلام - العدد العاشر – السنة العاشرة – جمادى الآخر 1376 – ص 619].(1/48)
فهذا شيء يسير من كلام أهل العلم في حكم من قاتل أهل الإيمان مع المشركين وكلامهم كثير وافر، وكلامهم فيمن ظاهر المشركين على المؤمنين أكثر وأوفر، ويمكن الوقوف عليه في مظانه لمن كان يريده، وظني أن حكم الجاسوس مما يحتاج إلى تأمل ومدارسة وتحرير، ولست في مقام تحرير المسألة الآن ولست قاصداً لذلك، إنما المقصود التأكيد على أنه مع تقدير عدم تكفير الجاسوس وأن ثمة خلافاً معتبراً فيه للاختلاف في فهم حديث حاطب، ولما يحتف بالجس من اشتباه واحتمال، فإنه لا يصح أن ينسحب هذا الحكم على كافة صور المظاهرة فتعطى أعلى وأجلى وأوضح صورها -أعني- المقاتلة حكم التجسس، وينقض حكم المحكم بالمتشابه، وأن القياس متى ما وقع كان قياساً مع الفارق، والله أعلم.
(الولاء والبراء أصل وفرع، وكيف ينقضان)
أختم هذه الورقة بالتنبيه على شبهة ذكرها بعضهم تدل على أصل المشكلة عندهم في تصور المسألة، ومكمن الداء، ومحل الخلل، وهي والجواب عليها مما يلم شعث ما تقدم جميعاً، ويكون كالمختصر لما ذكر جميعاً، حيث قالوا بأن الولاء والبراء أصل وفرع وأن ما يبطل الثاني لا يلزم ضرورة أن يبطل الأول، وأن ثمة فرقاً معتبراً بين ما يناقض أصل الولاء والبراء وما يناقض كماله، وأن الولاء والبراء كالإيمان فحكم الولاء والبراء المطلق مختلف عن حكم مطلق الولاء والبراء، فالكفر إنما يكون بخلو النفس من مطلق الولاء والبراء، لا بخلوها من الولاء والبراء المطلق، وهو لا يكون إلا في حال محبة الكفر وتمني انتصاره.(1/49)
فيقال: لا مشاحة في جعل الولاء والبراء أصلاً وفرعاً، ولا مؤاخذة في التفريق في هذا الباب بين ما ينافي أصل الولاء والبراء وما ينافي كماله، وأن الأمر كما ذُكر من أنه لا يلزم من مطلق معاداة المؤمن للمؤمن انتفاء أصل الموالاة بينهما، كما لا يلزم من مطلق موالاة المؤمن للكافر انتفاء أصل البراءة منه، لكن محل المؤاخذة حصر الصورة المنافية لأصل الولاء والبراء في هذه الحالة دون ما سواها، حالة كون عداوة المؤمن للمؤمن لأجل إيمانه، أو محبة المؤمن للكافر لأجل كفره، ثم تُحمل دلالة النصوص الشرعية الدالة على التكفير بتولي الكافرين على هذه الصورة لا غير، وإني لأعجب كيف يستقيم أن تحمل هذه النصوص الشرعية -وهي كثيرة جداً- على هذا المعنى البدهي من دين الإسلام، ولم كان ذلكم التحذير الشديد، وإبداء المسألة وإعادتها، وتكثير الأدلة وتنويعها؟! ألمجرد أن يخبرنا الله تبارك وتعالى أن محبة دين الكفار وبغض دين الإسلام كفر؟! وأن من أحب الكفر وأبغض الإسلام كافر؟! إن حمل نصوص الولاء والبراء على مثل هذا المعنى فقط وحصر دلالتها فيه نزول بمدلولها والمقصود منها، بل وتفريغ لمحتواها ومضمونها، إذ هذا الاعتقاد وهذا الصنيع كفر بدهي لا ينازع فيه مسلم، ثم هو كفر مستقل قائم بذاته سواء وقع المحذور من موالاة أو معاداة محرمة في الخارج أم لم يقع، ولذا فإن حصر دلالة قول الله تعالى مثلاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) على هذا المعنى المتقدم يفسد معناها، ويفرغ محتواها، ويحيلها مجرد آية جاءت ببدهية من شأن الشريعة لا تحتاج إلى هذا التأكيد، دون أن تكون الآية مؤسسة لمعنى جديد يحتاجه المسلم ويقع فيه اللبس والإشكال، وهل يستقيم حقيقةً -وعلى الإنصاف- أن(1/50)
يُقتصر في تفسير هذه الآية الكريمة فيقال: إن الله تبارك وتعالى قد أمر المؤمنين بأن لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء (فيتولونهم على دينهم ويحبون كفرهم)، ذلك أن بعضهم أولياء (في الدين لـ)ـبعض ومن يتولهم (في دينهم الفاسد فيحب كفرهم ويتمنى انتصاره) منكم فإنه منهم (في كفرهم) إن الله لا يهدي القوم الظالمين!! ومن تأمل في الآية التي تلي هذه الآية الكريمة وسياق الآيات علم أن التولي المذموم المذكور فيها واقع من أقوام كان غرضهم من تولي الكافرين تحقيق مصلحة دنيوية، لا أنهم كانوا محبين لكفر أولئك الكافرين وراغبين فيه، يقول الله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) فالتولي لهم والمسارعة فيهم بالنصرة والتأييد إنما وقع دفعاً لتلك الدائرة المرتقبة التي كانوا يخافون لا أنه كان تولياً على الدين ومحبة للكفر، ثم تأمل مثالاً ثانياً وذلك في تعليق أحد الفضلاء على هذا النص الإلهي الفخم، وكيف فرغه بتعليقه من معناه الجليل المهيب، بحمله على هذا المناط المكفر عنده، يقول الله تبارك وتعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)، قال ذلك الفاضل: (ولهذا التلازم بين أصل (الإيمان) و(الولاء والبراء)،(1/51)
جاء في كتاب الله تعالى خبر بنفي وجود مؤمن يحب الكافرين لكفرهم، فهذا لا يُمكن أن يكون موجوداً أصلاً، لأنه لا يجتمع حب النقيضين في قلب واحد) ، وقال: (نعم .. إن (الولاء والبراء) ليس أمراً تكليفياً منفصلاً عن الأمر بأصل الإيمان ؛ لأن الأمر بالدخول في الإسلام يقتضي حدوث معتقد (الولاء والبراء) في قلب المسلم من ساعة دخوله في الإسلام. ولذلك لم يأت في الآية السابقة نهي للمؤمنين عن محبة وموادة الكافرين لكفرهم، وإنما جاءت الآية بخبر عن واقع، وهو أنه لا وجود أصلاً لمؤمن يحب ويواد الكافرين لكفرهم)، فهل هذا المعنى جدير حقيقةً بأن يتوقف عنده وأن يحمل هذا النص الشريف عليه؟! وهل القصد في الآية تنبيه المسلمين إلى أن لا يوجد مؤمن يحب الكفر!! أم أن الآية فيها التحذير الشديد لأهل الإيمان أن يقع منهم موادة للكفار المحادين لله ورسوله، وأنه لا يتصور وجود مؤمن حق الإيمان مع وجود هذه الموادة المحرمة، وأننا في غنى عن طرد قاعدة (التكفير بمحبة كفر الكافرين) في نصوص الولاء والبراء، ذلك أن حمل كافة ما ورد فيهما عليها تكلفٌ، بل ومبطل لدلالة هذه النصوص أو يكاد، وصنيعهم هذا كصنيع من حمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) بأن الترك المكفر ما كان عن جحود فيقال هو كافر بالجحود ولو لم يترك، وكذا قول من قال في توجيه قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) أنه فيمن استحل، فيقال فالمستحل معاقب بمثل هذا قتل أو لم يقتل.(1/52)
ثم يقال أيضاً إن طرد هذا المعنى المذكور في جميع نصوص الولاء والبراء غير ممكن ألا ترى أن استدلالهم بمثل قوله تعالى: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) على أن موالاة الكفار المكفرة هي موالاتهم محبة لكفرهم ودينهم الباطل استدلال مدخول وقول باطل، ذلك أن ظاهر الآية دالٌ على صورة من الموالاة المكفرة وأن صاحبها (ليس من الله في شيء)، ثم استثنت من هذه الصورة المكفرة ما كان واقعاً في حال الإكراه، فلو كان المناط المكفر لهذه الموالاة الاعتقاد الباطن لما كان ثمة حاجة لاستثناء حال التقية، ذلك أنه لا يُكره شخص على اعتقاد الكفر في الباطن، وإنما يقع الإكراه على قولٍ يقوله المكره في الظاهر أو على فعل يفعله، وبهذين تتحقق منه التقية، فيقي بالقول أو الفعل الظاهر ما يضره ويضر باطنه، ويبقي اعتقاده مع التقية سليماً، ولو أن شخصاً اعتقد الكفر تحت الإكراه كفر إذ لا رخصة باعتقاد الكفر ومحبته بحال، فدل على أن المناط المكفر في هذه الآية الكريمة ليس أمراً باطنا يقع من قبل الموالي وإنما هو في أمر ظاهر يكون صاحبه كافراً بفعله، وهو ما لا يقول به أولئك الفضلاء ذلك أنهم أخرجوا العمل من أن يكون مكفراً بذاته في أبواب الولاء والبراء وحصروا الأمر في الكفر الباطن، ولا شك أن ظاهر هذه الآية الكريمة دال على خلاف ما قالوه وأن الكفر في أبواب الولاء والبراء قد يكون بالعمل الظاهر أيضاً ويكون هذا العمل الظاهر مناطاً للتكفير، وهذه الآية الكريمة الدالة على الرخصة بفعل موالاة مكفرة في حال الإكراه هي كقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ(1/53)
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فشرط الرخصة طمأنينة القلب بالإيمان لا أن ينشرح قبل المكره للكفر فيعتقده، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: (ومعلوم أنه لم يُرد الكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يُكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أُكره ولم يُرِد من قال واعتقد، لأنه استثني المكرَه وهو لا يُكره على العقد والقول، وإنما يُكره على القول فقط، فعُلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، وأنه كافر بذلك إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين فإنه كافر أيضاً، فصار من تكلم بالكفر كافرًا إلا من أُكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان) [الصارم المسلول 3/976]، والمقصود التأكيد على أن الآية المتقدمة دالة على أن من الموالاة المكفرة ما يكون من قبيل القول أو العمل الظاهر لا أن ذلك محصور في اعتقاد القلب، وأن حمل الصورة المكفرة للموالاة في الآية على اعتقاد الباطن قول باطل يفضي إلى تجويزه في حال الإكراه وهو كفر بالإجماع.(1/54)
ومما يجب ملاحظته أن صورة المظاهرة بالمقاتلة مع الكفار ضد أهل الإسلام منافية ولا بد لأصل الولاء للمؤمنين وأصل البراءة من المشركين، وذلك للتلازم بين الظاهر والباطن، وأنه لا يمكن أن يكون العبد مؤمناً بالله ورسوله الإيمان المنجي، محباً لأهل الإيمان ولما هم عليه، مبغضاً لأهل الكفر وما هم عليه، ثم هو يبذل كل طاقته وقوته وجهده بل ويغرر بنفسه وأهله وماله في مناصرة الكفار على المؤمنين طلباً لعلو شأنهم وغلبتهم ليُحصِّل منهم منفعة دنيوية مع ما علمه بما تستلزمه هذه النصرة من انتصار للشرك والكفر على الإيمان والإسلام، وأن هذا متى ما واقع هذه البلية العظيمة فإنما هو لطغيان محبة الدنيا على نفسه وقلبه حتى أخلته عن أصل الإيمان المنجي والمتضمن أصل الولاء والبراء المنجي فأضحى كافراً، ألا فليُعلم أن من جعل هذا مؤمناً ناجياً مع هذا كله، فقد منع التلازم بين الظاهر والباطن، ووقع في شعبة من شعب الإرجاء على ما هو مقرر مشهور في مسائل الإيمان، وليت شعري لو أن مسلماً قاتل مع أهل الكفر أهل الإيمان ووعده الكفار بالعطية الجزيلة بشرط أن يحصلها بعد انتصار الكفار هل يبقى في قلبه محبة لانتصار المسلمين وعلو شأن الإسلام أم أن حبه منصرف ولا بد لعلو شأن المشركين وانتصارهم طمعاً في تحصيل دنيا وليعلو شأن الكفر لا ضير!! فكيف لا يكون هذا المظاهر كافراً بصنيعه هذا؟! وهل ينفك علو شأن المشركين من علوٍ لشأن الشرك والكفر، وهل انخفاض أمر المسلمين إلا انخفاض لدين الإسلام في الواقع؟! وكيف يتصور أنه مع هذا الانتصار الظاهر للكفار وهذه العداوة الواضحة لأهل الإيمان -بأن يقف في صف الكفار مقاتلاً للمسلمين- تظل عنده محبةٌ ونصرةٌ باطنةٌ لأهل الإيمان وللإيمان، وهل هذا إلا قول المرجئة الذين يمنعون التلازم بين الظاهر والباطن في مسائل الإيمان، وإذا كان أولئك الفضلاء قد أخرجوا العمل عن أن يكون مكفراً في مسائل الولاء والبراء وقصروا الأمر(1/55)
على التكفير بالاعتقاد المكفر بناء على هذا التأصيل (أن ما ناقض أصل الولاء والبراء هو المكفر دون ما ناقض كماله، وأن أصل الولاء والبراء راجع إلى اعتقاد القلب وكمال الولاء والبراء في العمل الظاهر، فلا يكون الكفر إلا باعتقاد القلب المناقض لأصل الولاء والبراء دون العمل الظاهر) فكيف يمكنهم الجواب على من ادعى الحجة ذاتها في حقيقة الإيمان والكفر فقال: (أصل الإيمان راجع إلى اعتقاد القلب وكماله في العمل الظاهر، والكفر لا يكون إلا بما يناقض أصل الإيمان دون كماله، وإذا كان محل الأصل القلب فلا يكون الكفر إلا بالقلب دون العمل الظاهر، فلا يكون للعمل تأثير في كفر حتى يكون ناشئاً عن اعتقاد)، فبناء مثل هذه المسائل على مثل هذه الأصول ليست جارية على أصول أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن الظاهر والباطن متلازمان، وأن الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد، والعجب كله ينهال عليك مرة واحدة حين تسمع فاضلاً من أولئك يقول مقرراً: (مناط التكفير في (الولاء والبراء) هو عمل القلب، فحب الكافر لكفره، أو تمني نصرة دين الكفار على دين المسلمين، هذا هو الكفر في (الولاء والبراء). أما مجرد النصرة العملية للكفار على المسلمين، فهي وحدها، لا يمكن أن يكفر بها ؛ لاحتمال أن صاحبها ما زال يحب دين الإسلام ونصرته، لكن ضعف إيمانه جعله يقدم أمراً دنيوياً ومصلحة عاجلة على الآخرة. وما دام مناط التكفير في (الولاء والبراء) هو عمل القلب، وعمل القلب لا يعلمه إلا الله، فإنه لا يمكن أن يُكفر بدعوى انعدام هذا المعتقد في القلب. أما إذا صرح الشخص بحبه لدين الكفار، أو بتمنيه نصرة دينهم على دين المسلمين، فتصريحه هذا كفر يكفر به.(1/56)
وإن كان باطنه (مع ذلك) قد يخالف ظاهره، لكننا إنما نحكم بالظاهر، والله تعالى يتولى السرائر)!! فهل مثل هذا الكلام جارٍ حقيقةً على أصول أهل السنة في الإيمان، وأي فرق بين هذا القول وقول المرجئة أن من أهان المصحف أو شتم الرب أو سجد للصليب أنه كافر في الظاهر لكنه قد يكون مؤمناً في الباطن ناج عند الله!! ورحم الله ابن تيمية حيث قال: (فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدًا لها عالمًا بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهرًا وباطنا ولا يجوز أن يقال: أنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنًا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام) [الصارم المسلول 3/975]، وتحقيق هذه المسائل ودفع إشكالات الخصوم ورد الشبهات، لا يتسع له هذا المقام، وليس محله هاهنا خصوصاً أن بعض أولئك الفضلاء لا يقولون بمثل الأصول المخالفة لطريقة أهل السنة في الإيمان، فلم يعولون إذن على هذه الطريقة في تأصيل مسائل الولاء والبراء، وهل هي طريقة سنية سلفية في إخراج العمل عن حد الكفر في مسائل الولاء والبراء؟! أما من كان مخالفاً لأهل السنة والجماعة في هذه الأصول فالكلام معه في مسألة المظاهرة عديم الجدوى، قليل النفع، ذاهب الأثر، إذ الإشكال عند الخصم في أصل كلي لا في مسألة جزئية، والمخالفة إنما وقعت منه للمخالفة في هذا الأصل والله المستعان.(1/57)
هذا ما تيسر تسجيله في هذه المسألة ، والمقصود إنما هو الإشارة لبعض المعاني المهمة التي رأيت كثيراً ممن ناقش هذه المسألة قد صدف عنها وأغفلها، أما تحرير الكلام واستيعابه فله مقام غير هذا المقام، منبهاً على أن حصر الكلام في حكم من يقاتل في صفوف الكفار أهلَ الإسلام لا يعني انحصار صورة الكفر في باب الولاء والبراء فيها، لكنها أجلى صورها وأظهرها، ودونها مراتب قد يختلف فيها نظر الناظر، وإنما عمدت إليها دون ما سواها لأن التشاغل بتحرير أحكام هذه المراتب ليس بذي طائل مع من وقع معه الخلاف في أظهر صور المظاهرة وأجلاها، فإن سَلَّمَ المخالف بحكم هذه المسألة أمكن الانتقال لما بعدها، أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يهدينا للحق ويبصرنا به، اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
انتهى من تحريره: عبدالله بن صالح العجيري
وذلك في: 26/4/1429هـ(1/58)