تحذير أهل الإيمان
من إباحة العبيكان
الاستعانة بالجان
كتبه
بدر بن علي بن طامي العتيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد اطلعت على جريدة عكاظ في عددها الصادر يوم السبت الموافق للتاسع والعشرين من شهر رجب عام 1426هـ .
وما أجري من حوار مختصر مع الشيخ عبدالمحسن العبيكان عضو مجلس الشورى ، ورأيت فيه كلاما خطيراً للغاية فيه المساس بجناب التوحيد ، والخلط في بعض المسائل الفرعية تحت شعار " الاعتراف بالخلاف " و " حرية النظر والاستدلال " .
وقد رأيت في هذا الحوار العجب في أمرين :
[ 1 ] شذوذ آراء الشيخ العبيكان الأصلية والفرعية .
و [ 2 ] قسوته على مخالفه بأبشع العبارات بالوصف بالحمق والجهل .
مع التغرير بأن خصومه -على حد تعبيره- ما هم إلا أهل الشغب في شبكة الإنترنت .
ويحسب أن من موجبات صواب قوله عدم الرد عليه في الصحافة – ميدان السخافة – وأنه لا يزال يقرر فيها شواذ المسائل ولا منكر عليه ! ، فيقول : ( لم يرفضها كل الناس ، أما إذا كنت تقصد من يخرج !! في المنتديات فإن عددهم لا يتجاوز المائة !! ، فالناس بالملايين .... وعليك أن تنظر إلى الصحف فهل وجدت من ينكر عليّ هذا !! ، بالعكس الكل يؤيدون ويثنون وكذلك كل من حضر الندوة من أعضاء مجلس الشورى والمشايخ .. ) .
أقول : وهذا لعمري محض التخرص والتهويل ، فليس الكل يؤيدونه على رأيه ، بل الكل من أهل التوحيد ضد قوله في سالف الأزمان ولاحقها .
وهذا أيضاً محض الجهل والشطح ، فمتى كان انتشار المقال في الصحافة من غير ردٍ يعد علامة على إصابة القول ؟! .(1/1)
فها هم أهل الضلال والانحلال من العلمانيين ، والصوفية ، وأهل الفسق والمجون : يتبادلون معاول الهدم ضد عقيدة التوحيد في الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ، ولم يُلاحظ العبيكان يرد عليهم وهو الابن البار لأركان الصحف ، و زاويا القنوات الفضائية ! .
فهل يعد سكوته عن كل هذا الضلال والإلحاد موافقة منه لهم ؟! .
وكفاه دليلا على بطلان مقالته : حدوثها ، وانفراده بها بين الناس ، كيف وهو يقرر في هذا اللقاء وفي غيره أنه لا يهاب من الانفراد بالرأي ؟! .
والعالم العاقل يهاب من الإنفراد ، ويسلك مسلك الإتباع ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل : لا تتكلم في مسألة إلا ولك فيها إمام .
وقال ابن قدامة لما امتحن في بعض المسائل المحدثة : إني أهاب أن أسير في الطريق لوحدي .
يقصد : ليس معي أحد من العلماء أقتدي به .
وإن المتتبع لحال الشيخ العبيكان – هدانا الله وإياه - منذ زمن يجده غير مستقر القدم على قول ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
فقد حُفظ عن الرجل مذهب سوءٍ قبل عقدين من الزمان ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة ) رواه الطبراني في " الأوسط " بإسناد جيد .
فلما أظهر الرجوع ، والعودة إلى سبيل الهدى ، والانخلاع من خديعة لقب : سلطان العلماء ، فرح به أهل الخير كثيراً ، ولكن ما إن برح إلا وفتن بفتنة الإعلام ، والتصدر من خلال القنوات بغرائب الأقوال وشواذها ، فصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق بذلك فهم السلف الصالح .
قيل لأيوب السختياني : إن عمرو بن عبيد قد رجع عن مذهبه ، قال : لم يرجع !! ، فقيل له : بل رجع ، فقال : لم يرجع !! ، آخر الحديث أشد عليهم من أوله (( يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه مرة أخرى )) .(1/2)
وهذا حديث الخوارج المشهور – وهو وصف يشمل كل صاحب بدعة لأنه خرج عن سبيل الجماعة – قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه )) .
فعاد الشيخ العبيكان بعدة اجتهادات أقل ما يقال فيها أنها من الخروج عن المألوف الذي سكنت به القلوب ، ومن مصادرة القول السائد ، والفتوى التي يفتي بها كبار العلماء ، فأحدث بذلك البلبلة ، والشتات ، والشكوك والحيرة بين صفوف المسلمين في هذه البلاد ! ، بل لو قيل إنه حامل لواء التجاسر على الفتيا المباشرة ( عبر الهواء ) كما يسمونها لما كان في الوصف مبالغة ! .
فما بال عقول هؤلاء القوم ؟! .
أهان عليهم التوقيع عن رب العالمين ! ، والإفتاء بالحل والحرمة ، بغير علمٍ ولا بينة ونور ؟! .
ألم يكن خوفهم من مخالفة المرسوم الملكي ، أو النظام الحكومي ، أو رغبة (الشارع العربي وميوله ) كما يقولون - ألم يكن خوفهم ذلك - يدعوهم إلى الخوف من الله الجليل ، فلا يتكلمون في شرع الله تعالى إلا بالعلم والبينة .
قال الله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (يونس:59-60) .
فآلله أذن له ولهم أم على الله يفترون ؟ .
آلله أذن له أن يتكلم ويأتي بالعجائب ، ويعتلي سنام الفتيا فيأتي بالغرائب ، وقد كفاه الله بغيره فيها ؟! .
ألم يكن له في السلف الصالح أسوة حسنة في الخوف من التصدر للفتيا ، وجفاف أرياقهم بها ، ودفعها إلى الغير ؟ .(1/3)
ألم يكن له سلف في اتهام النفس ، والاعتراف بالقصور ، ويقول : إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين ، ويهرب من التكبر والتغطرس ودعوى صواب القول ، وجودة الاجتهاد ، دون غيره من الناس ؟! .
من الذي امتحنه واستنطقه في هذه المسائل حتى يظهر للأمة بأقوال تنكرها العجائز والصبيان قبل أهل العلم والبيان ؟ .
ومن الذي خوَّله أن يتكلم في عظائم الأمور ، وحوادث الأحوال ، وسياسة الدول ، وقوانين الجهاد ؟! .
ألم يكن تولَّي كبار العلماء المنصب ، والتصدر للإفتاء ، وجمع كلمة الناس على كلمة واحدة : مبرراً للعبيكان أن يهتم بما ينفعه وينفع المسلمين ، ويكف عن التصدر للفتيا وقد تولى غيره قارّها ، وعليه حارها .
فما باله يقحم نفسه في معضلات المسائل ، ودقائق الأحكام ، وكأنه حامل لواء الاجتهاد ، ورافع راية البحث والتحقيق بالإسناد ؟! .
قال الله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33) .
وقال تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116) .
قال ابن القيم : ( وقال بعض السلف : ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا ، وحرم كذا ، فيقول الله له : كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرم كذا ، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه : أحله الله وحرمه الله لمجرد التقليد أو بالتأويل ) .
فما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ؟! .
ولهذا كان السلف أشد الناس تخوفاً من الإفتاء والتصدر له :(1/4)
روى أيوب عن ابن أبي مليكة قال : سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية ، فقال : ( أي أرض تقلني ، وأي وسماء تظلني ، وأين أذهب ، وكيف أصنع إذا أنا قالت في كتاب الله بغير ما أريد الله بها ) .
وذكر البيهقي من حديث مسلم البطين عن عزرة التميمي قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( وا بردها على كبدي - ثلاث مرات - قالوا : يا أمير المؤنين وما ذاك ، قال : أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول الله أعلم ) .
وقال الزهري عن خالد بن أسلم - وهو أخو زيد بن أسلم - خرجنا مع ابن عمر رضي الله عنه نمشي فلحقنا أعرابي فقال : أنت عبد الله بن عمر ؟ قال : نعم ، قال : سألت عنك فدللت عليك فأخبرني أترث العمة ؟ ، قال : لا أدري ، فقال الأعرابي : لا تدري ؟! ، قال : نعم ، اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم ، فلما أدبر قبل يديه وقال : نعما ما قال أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقال لا أدري .
وفي لفظ : ونعم بابن عمر سئل عما لا يعلم فقال لا أعلم .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : من كان عنده علم فليقل به ومن لم يكن عنده علم فليقل : الله أعلم ، إن الله قال لنبيه ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص:86)
وصح عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون .
قلت : فما أكثر المجانين في عصرنا وتسابقهم على الفتيا في القنوات الفضائية وفي الإذاعات الصوتية ، والصحف اليومية ! ، ومن تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب ، بل من تكلم بغير مراقبة لله أتى بالمصائب !! .
وقال ابن شبرمة سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال : رُبَّ ذات وَبَرٍ لا تَنْقادُ ولا تنساق ، ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم .
وقال أبو حصين الأسدي : إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر .
وقال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.(1/5)
وقال القاسم : من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه .
وقال : يا أهل العراق ، والله لا نعلم كثيرا مما تسألوننا عنه ولأن يعيش الرجل جاهلا إلا أن يعلم ما فرض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم .
وقال مالك : من فقه العالم أن يقول : لا أعلم ، فإنه عسى أن يتهيأ له الخير.
وقال سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده ( لا أدري ) حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه .
وقال الشعبي : لا أدري نصف العلم .
وقال ابن جبير : ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم .
وقال الشافعي : سمعت مالكا يقول : سمعت ابن عجلان يقول : إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتلة .
وذكره ابن عجلان عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقال عبد الرحمن بن مهدي : جاء رجل إلى مالك فسأله عن شيء ، فمكث أياما ما يجيبه ، فقال : يا أبا عبد الله ، إني أريد الخروج ، فأطرق طويلا ، ورفع رأسه ، فقال : ما شاء الله يا هذا ، إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه .
وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول : العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق ، وقال : وكان يقال التأني من الله والعجلة من الشيطان
قلت : فما أكثر الجهلة والخرقى في زماننا ، وفتاويهم الصادرة على الهواء من غير نظرٍ ولا تأنٍ ، والله المستعان .
وقال محمد بن المنكدر : العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
وكان ابن المسيب لا يكاد يفتي إلا ويقول : اللهم سلمني وسلم مني .
قلت : فأسأل الله أن يسلمني ويسلِّم منّي .
وقال مالك حدثني ربيعة قال : قال لي أبو خلدة - وكان نعم القاضي - : يا ربيعة أراك تفتي الناس فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن همك أن تتخلص مما سألك عنه .
قلت : إنما يكون همّه أن يتأمل هل ما أفتى به هو حكم الله وشرعه أم لا ، ولهذا لا عليه لو أرجأ الجواب عن الفتيا بالأيام والأسابيع والشهور .(1/6)
وقصة عبدالله بن مسعود ، في مثل هذا مشهورة .
فصل
سوف أبني رسالتي هذه على مسألة واحدة من شذوذ مسائل العبيكان التي فتن بها الناس ، وهي مسألة " الاستعانة بالجن " لعظيم الشطح فيها ، وخطورة عاقبة هذا القول .
وله من المسائل مسائل أُخَر عسى الله أن ييسر الوقت للكتابة فيها كـ :
1- حل السحر عن المسحور بالسحر ، وجماهير أهل العلم على حرمته ، والقول بحلّه شاذ غائبٌ من قديم الزمان .
2- و تحية العلم التي أفتى كبار العلماء بحرمتها وعلى رأسهم شيخ الإسلام شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز أنزل الله الرحمة على ثراه ، وجعل الجنة مثواه .
3- وكذلك قوله في إباحة آلات اللهو للرجال ! ، وافترائه على الإمامين عبدالعزيز بن باز وابن عثيمين ، ومقالاتهم مشتهرة لا تخفى في التحريم والمنع .
4- وإباحة قيادة المرأة للسيارة ، وقد كان من قبل يقود الجمع الغفير في مسيرة شغبية تظاهرية من أجل إنكار قيادة المرأة للسيارة .
5- تصريحه بإباحة بعض التمثيليات المنكرة التي تدس السم في السمن ، ومخالفته للفتوى الصادرة من هيئة كبار العلماء في التحذير منها .
6- وبعض مسائل البيوع من التأمين وغيره .
مساوي لو جمعن على الغواني *** لما أُمهرن إلاّ بالطلاقِ
فكل هذه المسائل ونظائرها مجالها في غير هذا المقام ، وإنما كلامي هنا عن قوله بكل تجاسر : بأن الاستعانة بالجن جائزة ، فأسال الله تعالى أن يلهمني الرشد والصواب .
فصل
إن مسألة الاستعانة بالجن ليست وليدة الساعة من فيّ العبيكان ، فقد ظهر في الآونة الأخيرة جماعة من أهل الدجل والشعوذة يطببون الناس بالاستعانة بالجان في نجد والقصيم والحجاز والشام واندونيسيا ، وقد بلغني عنهم العجب العجاب من صنوف الشرك والشعوذة ، فينادونهم بمحضر من المريض ، ويسألونه عن مرضه ، وهل هو مسحور أم لا ، وهل به نفس أم لا ، وإن كان به نفس ، هل معها حارس من الجن أم لا ؟! .(1/7)
بل ومن العجب أن منهم من يستخدمهم في بعض الخدمات الشخصية وصور الإنقاذ !! ، فقد تكرر اشتعال بيتٍ في جنوب الرياض من عبث مردة الجان ، فاتصلوا هاتفياً بدجال الحجاز !! وحكوا له خبر البيت وما يتكرر فيه من توقد النار ، فقال : سوف أرسل إليكم اثنين من إخواننا الجن ينظرون في الوضع فما يبرحون إلا وتنطفئ النار ؟! .
بل يزيد الأمر شدة أن هناك من إخواننا من أنكر على هذا الدجال فعله ، فقال لما بلغه الخبر : قولوا لفلان لئن لم يكف عنّي و إلا أرسلتُ إليه ثلاثة من الجن يكسرون رجليه ؟! .
وهو ممن زعم أن جماعة من الجن عرضوا عليه الخدمة في علاج المرضى ؟! .
كما يزعمه العبيكان في حواره حيث يقول : ( وأما الصالحون منهم فقد يأتون لبعض الصالحين من البشر ويعينونهم فهم يعرضون خدماتهم عليهم ) .
فأين الجان وعلمها عن موت سليمان عليه السلام وهم عند أقدامه ، وأمام جسده عاماً كاملاً في كدٍّ ونصب وما علموا بموته ، قال تعالى : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ:14) .
فكيف يزعم أهل الكذب بأن الجان يعلم أمراض الناس ، وأنواع الأدواء ، بل ويجري العمليات الجراحية !! .
كما يقول العبيكان : ( وأنا أعلم أن هناك عمليات جراحية كبيرة يقوم بها الجن في بعض الدول واستفاد منها عدد كبير من الناس ) .
ومن أين علمَ هذا ؟ ، أمن كتاب لبيد بن الأعصم ؟! ، أم من قرآن مسيلمة الكذاب ؟! .
فأمثال هذه العمليات لا تجرى للإنسي إلا بكل كلفة ومشقة ، وفتقٍ ورتقٍ ، ونزيف دماء ، فأين آثار العمليات في أولئك المرضى ؟! .(1/8)
وإنما حقيقة الأمر أن الجان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم يجري من بني آدم مجرى الدم ، فإذا جاء هؤلاء الدجاجلة من به ضيق شرايين كلفوا من خدمهم من الجن من يسكن في الشريان ويوسّع مجراه مدة من الزمن ولو طالت ، وكذا من بإذنه سدد ، أو في عضلاته ترهل ، فما ذلك إلاّ من تكليف الدجال بعض مردته بأن ينشطوا العضلة ، ويحركوا القدم ، حتى يمشي بها ويظن بأنه عاد كما كان سليماً معافى ، وما هو إلا الشيطان الذي قام بهذه المهمة .
بل فوق هذا كله :
ما المبيح أصلاً لاستخدام الجن ولو في أمورٍ مباحة ؟! ، وهل تحقق هذه النتائج يدل على مشروعية الوسيلة ؟! ، فها هم كفار قريش يستغيثون بآلهتهم فتغيثهم الشياطين ، وتلبي لهم حاجاتهم ، فهل هذا يدل على جواز أمثال هذه الأعمال ؟! .
ولو أنهم عرضوا خدمتهم على الشخص ؟ .
فأين صلحاء الجن عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ؟! .
وأين هم عن طلب خبر الأحزاب تلك الليلة التي هاب الصحابة الامتثال له فثبت الأمر على حذيفة رضي الله عنه ؟ .
هلا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الجن تأتيهم بأخبار القوم ، وهذا أسهل وأقرب ؟! .
أين هم يوم حنين إذ بلغت القلوب الحناجر ؟! .
وأين هم عن سائر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وحاجاته ؟ .
ها هم يطيرون ، هلاّ طاروا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم هجرته فزاد أمنه من طلب قريش ؟! .
ها هم يأتون بأخبار المرضى : فهلاّ أسعفوا مصابي الصحابة ، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين ! فهم أشد خفاء من العيون والعسس .
كل هذا يدل على بطلان هذا الزعم ، كيف والأدلة الشرعية تصدق هذا ولا تكذبه ، وكذا كلام العلماء رحمهم الله .
فصل
يقول العبيكان بأن ( الصحابة يستعينون بالجن !! ) ، وقال : ( عملها عمر رضي الله عنه ، وأبي – هكذا ! – موسى الأشعري ) ..(1/9)
فأقول : ولا أدري من أين أخذ هذا الإطلاق والعموم ؟! ، هكذا ، يطلق العبيكان بأن الصحابة يستعينون بالجن ! .
وكَبُر ما يقول : فوالله ما استعان الصحابة بالجن ، ولا حصل ذلك منهم أبداً ، وغاية ما يستند عليه ما جاء عن عمر رضي الله عنه – وعمر ليس كل الصحابة - ، وخبر آخر عن أبي موسى الأشعري – وليس هو كل الصحابة - ، وكل ذلك لا يعد من الاستعانة بالجن على ما يراه العبيكان ، كما سيأتي في كشف الشبه .
بل العجب أن وراء سوء الفهم لكلام الصحابة : سوء الفهم لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية ! ، حيث زعم – بإطلاقه - أنه يجيز الاستعانة بالجن ! .
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول : ( وأما سؤال الجن ، وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به ، والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت في الصحيح عن معاوية بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : إن قوماً منّا يأتون الكهان ؟ ، فقال : (( فلا تأتوهم )) ، وفي " صحيح مسلم " عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( من أتى عرافاً فسأله عن شيٍ لم تقبل صلاته أربعين يوماً )) ..... ) إلى آخر كلامه رحمه الله من " الفتاوى" [ 19/62-64 ] .
وأين زعمه عن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأن التصرف الملكي في الجان لا يكون إلا لسليمان عليه السلام ، قال رحمه الله [ 19/51 ] : ( وأما الزيادة وهو ربطه بالسارية فهو من باب التصرف الملكي الذي تركه لسليمان ، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرف في الجن كما يتصرف في الإنس تصرف عبد رسول ، يأمرهم بعبادة الله وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكي .. ) .
فصل
في ذكر الأدلة على امتناع ذلك شرعاً
لا شك أن الجان خلق من خلق الله موجود ، له صورته وماهيته ، وله اتصال بالإنس في صورٍ شتى ، ومحل كلامنا هو الاستعانة بهم : أي طلب العون منهم .
وهذا لا يجوز لو كان بطريقة لا شرك فيها ولا وثنية .(1/10)
أما إن كانت عن طريق الشرك بالاستغاثة بهم ، وتقديم القرابين لهم ، فإن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة ، ولا شك في كفر من استعان بهم كذلك ، بل وكفر من لم يكفّره .
قال شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبدالوهاب – طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه - في رسالته " نواقض الإسلام " : ( الشرك في عبادة الله تعالى ، قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48) وقال : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72) ، ومنه الذبح لغير الله ، كمن يذبح للجن أو للقبر ) .
وكذلك الاستعانة بهم في أمر محرم من الصرف والعطف والسحر ونحوه ، فإنه من الكفر بالله تعالى ، قال تعالى : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102) .
ومحل الكلام هنا : عن الاستعانة بهم بغير طريقة محرمة ، وفي غير أمرٍ محرم .(1/11)
وهذا حرام لا يجوز ، ومن أباح ذلك مأبون في دينه ، مردود الشهادة ، لأدلة عدة ، ومنها :
الدليل الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه طلب العون من الجن وإن تبدوا له ، بل لم يثبت أنه استخدمهم في مهمة من المهمات ، مع كثرة ما يعرض له من ذلك ، ولم يكلفهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيٍ من الأعمال إلا ( النذارة ) و ( تبليغ الرسالة ) لمن ورائهم من الجن .
وأما غزواته وحروبه ، وسائر شؤونه من : التطبيب أو البحث عن المفقودات : فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبهم ، ولا يستخدمهم ، ولا يسألهم عن أمرٍ غائب ، أو علّة خفية ، وهذا واضح أشهر من أن يذكر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والنوع الثالث أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله ، كما يستعمل الإنس في مثل ذلك ، فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاهم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم ، وهذا حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق ، فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله ، وينهون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله ... ) [ الفتاوى : 13/88 ] .
وقال [ 13/89 ] : ( فلم يستخدم الجن أصلاً ، لكن دعاهم إلى الإيمان بالله ، وقرأ عليهم القرآن ، وبلغهم الرسالة ، وبايعهم كما فعل بالإنس ) .
الدليل الثاني : أن الله تعالى خصّ نبيه سليمان عليه السلام باستخدام الجن – آية ومعجزة – ومن زعم أنه يستخدم الجان فقد ضاهى سليمان في معجزته ، وأدعى لنفسه خصيصة النبوة من حيث لا يشعر ! .
قال الله تعالى : ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل:17) .
وقال تعالى : ( وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ)(سبأ: من الآية12) .(1/12)
وتأملوا أن خدمتهم له – عليه السلام – ما جاءت إلا بأمر من الله تعالى حيث قال سبحانه : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) .
فمن أين جاء الأمر لهؤلاء الدجاجلة حتى يستخدموا الجن ؟! .
وقال تعالى : ( وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ) (ص:37- 38) .
وقد كان – عليه السلام - دعا ربه عز وجل أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ بعده فقال : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (ص:35) .
فأجاب الله دعوته ، فكان من ملكه : خدمة الجن له ! ، ولو جاز لأحدٍ أن يستخدمهم ما كان لسليمان ميزة عليه ولا شرف ، وما كانت دعوته ماضية مقبولة ! .
وما أتم أدب النبي صلى الله عليه وسلم عندما ربط بعض الجان في سارية فقال : ( وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته ) .
فهلاّ تأدب هؤلاء الدجاجلة بأدب الأنبياء والمرسلين ، ويتركون سنة السحرة والمشعودين ؟! .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان ، لكن أعطي ملكا لا ينبغي لأحدٍ بعده ، وسخرت له الجن والإنس ، وهذا لم يحصل لغيره ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تفلت عليه العفريت ليقطع صلاته قال : ( فأخذته فذعته حتى سال لعابه على يدي ، وأردت أن أربطه إلى سارية من سوار المسجد ، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته ) فلم يستخدم الجن أصلاً ، لكن دعاهم إلى الإيمان بالله ، وقرأ عليهم القرآن ، وبلغهم الرسالة ، وبايعهم كما فعل بالإنس ) [ الفتاوى : 13/89 ] .(1/13)
الدليل الثالث : أن عالم الجن : عالم غيبي لا يجوز للمرء تعمد حضوره ولا قصد مشاهدته ، ولا أدلّ على ذلك أكثر مما ورد في أحداث ليلة الجن عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه حتى وصل إلى موطن فخط خطاً حول ابن مسعود ، وقال : ( لا تبرحن خطك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك ) ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد ، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال لهم الزُّطّ : أشعارهم وأجسامهم ، لا أرى عورة ، ولا أرى قشرا ، وينتهون إليّ ولا يجاوزون الخط ، ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي .
الدليل الرابع : أن عادة الجن جرت على أنها لا تخدم الإنسان إلا بمقابل من صرف شيٍ من أنواع العبادة لها ، أو امتهان ما له حرمة ، وبغير ذلك لا تحضر وتخدم الإنسان إلا باستثناء وأمرٍ إلهي ، كما حصل للجن مع سليمان عليه السلام ، وهذا خاص به دون غيره من الأنبياء فضلاً على سائر البشر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان ، فإن في الإنس من له غرض في هذا ، لما يحصل به من الرياسة والمال وغيره ، فإن كان القوم كفاراً كما كانت العرب لم تبال بأن يقال : إنه كاهن ، كما كان بعض العرب كهاناً ، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان ، وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان ، وكان أبو أبرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم ، وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن ، بل يجعل ذلك من باب الكرامات ، وهو من جنس الكهان ، فإنه يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي ، بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام ، وإما في قتل نفسٍ بغير حق ) .(1/14)
الدليل الخامس : أن الله تعالى كفر الذي يستعيذون بالجن من مردة الجن ! ، والاستعاذة طلب واستعانة ، ولم يكونوا يقولون هذا إلاّ إذا نزلوا في الأودية ! ، فلا يمتنع أن يكون كبير الجن يسمع كلامه ، ولم يطلبوا منه ما لا يستطيعونه ، ومع ذلك كفرهم الله عز وجل ، قال تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ) (الجن:6) .
وهؤلاء الذين يعرضون الخدمة عليهم يختفون عنه ولا يُعلم هم عنده أم لا ، فيطلبهم ويناديهم ، وبذلك حصلت المكيدة الجنيّة الشيطانية ، فيناديهم ويستنجد بهم ، حتى يحضروا هذه العملية ، أو يسألهم عن علة هذا المريض ! .
وقد أخبرني من لا أتهمه أنه لم زار الدجال الحجازي وسأله عن الجان أين هم : أخذ يناديهم بأسماء غريبة لا تفهم ! وهو يتمتم ويلتفت يميناً وشمالا .
أفلا يكون هذا من الشرك بالله تعالى ، ومن مكائد إبليس وجنده حتى صار من يدعي الديانة والعلم يستغيث بهم ويستنجد ؟! .
الدليل السادس : أن الله تعالى يقول : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ )(الأعراف: من الآية27) .
وهؤلاء الدجاجلة يزعمون أن الجن يظهرون لهم متى شاءوا ، ويشاركونهم في العمليات وتطبيب الناس ، وهذا من الكذب الصراح ، المصادم لحقيقة معنى ( الاجتنان ) وهو ( الاختفاء ) فسميت الجن جنا لاختفائها عن الأبصار ، والله تعالى يخبر بأننا لا نراهم – أي على صورتهم – أما صورة غيرهم من البشر أو الدواب والهوام ، فيصير ذلك ، والمرئي ليسوا هم ، وإنما ما تصوروا بصورته ، وعليه كيف يزعم هؤلاء الدجاجلة أنهم يرون الجن من حيث لا يراهم الناس ؟!.(1/15)
نقل ابن عساكر في كتاب " سبب الزهادة في الشهادة " بإسناده عن حرملة بن يحيى قال : سمعت الشافعي يقول : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته ، لقول الله تعالى : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ )(الأعراف: من الآية27) .
ونقل مثله عن الربيع بن سليمان عن الشافعي ، وزاد : إلاّ أن يكون نبياً .
قلت : فهؤلاء لا شهادة لهم حيث لا دين لهم ولا صدق .
الدليل السابع : قال الله تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:128) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( قال غير واحد من السلف : أي كثير من أغويتم من الإنس وأضللتموهم ، قال البغوي : قال بعضهم : استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون لهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، وتزيينهم لهم الأمور التي يهيؤنها ويسهل سبيلها عليهم ، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي ، قال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم لبعض ، وموافقة بعضهم بعضا ، وذكر ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت والإنس عملت ) [ الفتاوى : 13/80 ] .
قلت : وأي استمتاع أكمل وأتم من أن يستخدم أحد هؤلاء الدجاجلة الجان ، ويطببون له المرضى ، ويجرون له العمليات ، ويشخصون له الأمراض وأماكنها ، بل ويقضون له الحاجات البعيدة ؟! .
وقال الطبري : ( وأما استمتاع الجن بالإنس، فإنه كان فيما ذكر، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم، فيقولون : ( قد سدنا الجن والإنس) ) [ تفسير الطبري : 5 / 343 ] .(1/16)
قلت : وهؤلاء الدجاجلة يعظمون الجن ويرون بأنهم أعلم بالطب ، وحاجتهم إليهم كبيرة ، بل لم يكن لهم منزلة بين الناس ، ولم تزدحم الغوغاء عند أبواب منازلهم : حتى استعانوا بالجن واستخدموهم ! .
الدليل الثامن : الجن خلق من خلق الله يعتريهم الجهل والقصور ، ولا يعلمون ما غاب عنهم إلا بالطريقة الخلقية من خبرٍ أو نظر ، فكيف تستطيع الجن أن تعرف خبر علة خفية ، أو عينٍ نفسية ، وهي التي مكثت سنة كاملة بين يدي سليمان عليه السلام تخدمه بكل تعب عناء ، وما علمت بموته ؟! ، قال تعالى : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ:14) .
الدليل التاسع : أن الجن أضعف من أن تحلّ وكاءً أو ترفع عوداً عن فيّ الإناء ! ، فكيف لها أن تجري العمليات الجراحية ؟! .
فقد ثبت في " الصحيح " أنها لا تحل وكاء ذكر اسم الله عليه ، ولا ترفع عوداً وضع بسم الله .
بل هي تعجز عن تطبيب نفسها بما ليس طباً له في شرع الله وقدره ، فكيف يطلب منها أمثال هذه الأطباب ؟!
الدليل العاشر : أن مجرد إخبارهم لا يجوز أخذه على باب التصديق ، فالأصل فيهم الكذب والخديعة والمكر .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة عن الجان الذي جاءه في الليل ليسرق : (( صدقك وهو كذوب )) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس ، ولكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد ، أجهل وأكذب وأظلم وأغدر .. ) .(1/17)
وكذاب الحجاز - الذي يبرر العبيكان فعله وأشباهه – يسأل جنّه !! في كل حالات علاجه !! للمرضى ؟! ، والناس يسمعون كلامه ولا يسمعون كلامهم ، وإنما يرون حركات يده ! تنقبض وتنفرج علامة للموافقة والمخالفة ؟! ، وهو يسأل : ما به ؟ ، هل به عين نفسية ؟ ، وهل معها حارس من الجن ؟ ، وهل ، وهل .
ويزعم أن خدّامه من الجن يبلغون اثني عشر ألف جنّي ، بل يزيدون ؟! .
فهلاّ خدم المسلمين وإياهم ، وحرروا لنا فلسطين ، فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يغلب إثنا عشر ألف من قلة ) .
الدليل الحادي عشر : أن الصحابة رضوان الله تعالى ، والتابعين لهم بإحسان ، وأئمة الدين من أول التاريخ إلى اليوم ، وهم أهل الديانة والكرامة : لم ينقل عن واحدٍ منهم أنه استخدم الجن ، وبهداهم نقتدي ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) .
فلا يظن ظانٌ بأن ما يحصل لهؤلاء يعد من الكرامات ، بل هو من مكر الجن وتغريرهم بهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن انه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج أو ان يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله ، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به ) [ الفتاوى : 11/308 ] .
ولم يعرف استخدام الجن إلا عن أهل السحر والشعوذة والكهانة ، فقد قتل الحلاج حداً بعد أن ادعى أموراً عدة ومنها : استخدام الجن .
قال الخطيب البغدادي في " تاريخ بغداد " عن أسباب قتله : ( وأسبابه بأنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه ويحضرون ما يختاره ويشتهيه وأظهر أنه قد أحيى عدة من الطير ) .
ومثله في كتب الأخبار : عذرة اليهودي جاء في " ألف ليلة وليلة " : ( عذرة اليهودي : ساحر مكار غدار يستخدم الجن .. ) .(1/18)
ومثله : علوي الديري المنجم ، ذكر القفطي في " أخبار العلماء " أنه كان (يستخدم الجن ويبرئ المعتوه من المس !! ) .
وأمثال هذه العمليات المزعومة التي يدعو إليها العبيكان هي سنة أهل الكفر والضلال ، وهي ما تسمى اليوم بـ : الجراحة الغربية الغريبة ! ، و كان من أول من اشتهر بمثل هذا الدجل في القرون المتأخرة زمناً وحالا : البرازيلي أريغو ، فقد ذكر محمد سيد محمود في كتابه " البديل الإسلامي للشعوذة والدجل " أنه منذ عام 1950 م إلى عام 1971 م أجرى أريغو آلاف العمليات مستخدما سكاكين غيرة أو أمواس حلاقة عادية أو أي أداة أخرى تقع عليها يده ، كان أريغو يجرح مرضاه بهذه الأدوات الغريبة وينتزع أوراما كبيرة ثم يلتئم الجرح فقط بالضغط على حوافه ولم تظهر آثار للالتهابات بعد هذه العمليات العنيفة فلم تستخدم أي مطهرات وكان أريغو يشخص الأمراض عن بعد بدون أي فحص فعلي للمريض ، وبعد ذلك كان يكتب وصفة غريبة أيضا ) .
وقال : ( وفي الفلبين يعالج بعض الأطباء ( السحرة ) المرضى بأيديهم الخالية حيث ينتزعون أوراما من أجسامهم بدون ترك أي أثر للجراحة على أجسامهم ، ويعتقد كثير من الباحثين أيضا أن ذلك مجرد غش أو خداع ويبدأ للناظر بأن هؤلاء يدفعون أصابعهم إلى داخل أجسام المرضى ويخرجون كتلا كبيرة من هذه الأجسام فمن الممكن أن هؤلاء يثنون أصابعهم ولا تخترق هذه الأصابع أجسام المرضى ، ويخبئ هؤلاء هذه الكتل بعيدا عن أنظار المشاهدين ، وإن الدم كان أحيانا يخص دما إنسانيا وأحيانا دما حيوانيا وفي إحدى المرات أعطي الورم المنتزع من الطفل إلى المحلل لتحليله فوجد أن هذا الورم يحدث فقط في سرطان الثدي ولا يمكن أن يحدث في الأطفال ) [ ص : 24 ] .(1/19)
وقال : ( وفي اليوم الثالث والعشرون من عام 1981 م عرض التلفزيون الألماني الغربي فيلما وثائقيا بعنوان " الأيدي الشافية " والفيلم يعالج موضوع في غاية الأهمية معالجة الأمراض نفسيا وجسديا بواسطة الأنامل فقط وبالفعل فقد أحدث هذا الفيلم ضجة كبيرة على كافة المستويات ، ولقد تلقى العاملون في محطة البث التلفزيوني آلاف من المكالمات الهاتفية يسأل فيها عن أصحاب الأنامل السحرية وخلال يومين فقط استلم المدير العام لمديرية الإذاعة والتلفزيون حوالي خمسة عشرة ألف رسالة جميعها تريد تفسيرا كاملا عن موضوع الفيلم الوثائقي الذي وضع الجميع في حيرة ودهشة حيال هذا الأمر وفي 30 من تشرين الثاني أي بعد أسبوع على عرض الفيلم الوثائقي الجزء الأول عرض التلفزيون الألماني الجزء الثاني والأخير من الفيلم عن الموضوع نفسه يتضمن محتوى الفيلم وقائع العلاج بالأنامل السحرية .... وأما صاحب الأنامل السحرية فهو " توم جوهانسون " من الجنسية الإنجليزية ، يبلغ من العمر خمس وستون عاما ، وهو قادر على معالجة المرضى دون استخدام أي وسيلة من وسائل العلاج المألوفة في العيادات أو المستشفيات ويقول جوهانسون على أسلوب علاجه : أنه بدأ العلاج منذ 13 سنة وكان الذي يقف معي في هذا العمل الإنساني أناسا كثيرون عالجتهم من أمراض جسدية لا علاقة لها بالأمراض النفسية على الإطلاق ، ولقد اقنعتني تجربتي بالقدرة على معالجة أنواع من الأمراض النفسية والجسدية ، وعن كيفية العلاج كيف يتم ؟ يقول جوهانسون : لا استطيع الإجابة ، وهو نفسه يتسائل ، لو افترضت أن الحالات التي عالجتها منها معالجتي الرجل الذي كان مصاب بعدة كسور أثر اصطدامه بسيارة وأيضا كيف تمكنت من معالجة طفل كان مصاب بداء السكر
وهو في العاشرة من عمره لا رد عندي على ذلك سوى كلمة واحدة فقط إنه الإيمان الجازم والراسخ لدي ) .(1/20)
وقال : ( وأما في الاتحاد السوفيتي فقد شاعت الظاهرة الجديدة ، وكانت الشخصية صاحبة الأنامل السحرية ( دسثونا ) هذا في الاتحاد السوفيتي
أما في بريطانيا ففي عام 1982 تأسست في بريطانيا رابطة اطلق عليها اسم الاتحاد الوطني لمعالجة المرض بالطرق الروحية ، وبعد ذلك بفترة قصيرة تأسست أيضا الجمعية الروحية وبعد ذلك بفترة قصيرة تأسست أيضا الجمعية الروحية لبريطانيا العظمى ضمت حوالي 70 معالجا تحت رئاسة توم جوهانسون ولقد شكل ذلك الأمر أزمة حادة للطب الحديث وللأطباء الذين كان عليهم مواجهة هذه الأزمة فلقد أصبحوا أمام خيارين الاعتراف بفشلهم أمام هذه الظاهرة الخارقة أو محاولة فهم وإدراك طرق المعالجة السحرية التي تتنافى مع مأدبة علومهم ) [ ص : 25-27 ] وذكر صوراً عدة راجعها هناك ، أو راجعها في كتاب " القول المعين في مركزات معالجي الصرع والسحر والعين "(1) .
ويقول الأستاذ ماهر كوسا : ( كثيراً ما نسمع عن شخص ما يعالج الناس بعمليات دون جراحة ، وذلك مثل المرأة الروسية والتي كانت بارعة في هذا النوع من العلاج والواقع أن ذلك يكون بوجود جني أو جنية طبيبة في هذه المرأة فيقوم بهذه العمليات ) [ فيض القرآن في علاج المسحور – ص 12 ] .
فهذه عشرة أوجه تدل على المنع من استخدام الجن ، وتسخيرهم لخدمة الإنسي ، ولا يكون هذا لأحدٍ إلا بمعجزة ربانية ، وقد خص الله بها نبيه سليمان عليه السلام ، وما سوى ذلك ما هو إلاّ السحر والشعوذة ، نسأل الله العافية .
فصل
بعض كلام أهل العلم في استخدام الجن
__________
(1) والشكر موصول لصاحب هذا الكتاب فقد استفدت منه كثيراً في كتابي هذا .(1/21)
قال ابن مفلح في " الآداب الشرعية " [ 1/198 ] : ( قال أحمد رحمه الله في رواية البرواطي في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم ، أو يزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم ، ومنهم من يخدمه. قال: ما أحب لأحد أن يفعله ، تركه أحب إلي ) ، وهذا يراد به التحريم كما هو المعلوم من نصوص الإمام أحمد وألفاظه ، ومثله قوله : ( أكره ذبائح الجن ) ومراده التحريم .
وقد اتفق علماء المذهب على المنع منه ، وإنما اختلفوا في كفر فاعله وقتله ، قال المرداوي في " الإنصاف " : ( قوله " فأما الذي يعزم على الجن ويزعم أنه يجمعها فتطيعه فلا يكفر ولا يقتل ويعزَّر " وهذا المذهب جزم به في " الوجيز " وغيره وقدمه في الشرح وشرح ابن رزين وذكر ابن منجة أنه قول غير أبي الخطاب وذكره أبو الخطاب في السحرة الذين يقتلون ، وكذلك القاضي وجزم به في الهداية والمذهب والخلاصة وغيرهم ، وقدمه في الرعايتين وأطلقهما في المحرر والنظم والفروع ، فعلى المذهب يعزَّر تعزيراً بليغاً لا يبلغ به القتل على الصحيح من المذهب ، وقيل يبلغ بتعزيره القتل ) [ 27/189 ] .
وسئل شيخ مشايخنا محمد بن إبراهيم - رحمه الله - عن الاستعانة بالجن وقولهم : خذوه ، انفروا به الخ .
فقال : ( وهذه كلمات لا تجوز من ثلاثة أوجه ، مأخوذة من ظاهر هذه الألفاظ : ( إحداها ) محبة ضرر هذا المسلم المطلوب أخذه وشرب دمه .
( الثاني ) إنه طلب من الجن فيدخل في سؤال الغائبين الذي يشبه سؤال الأموات، وفيه رائحة من روائح الشرك .
( الثالث ) تخويف الحاضر المقول في حقه ذلك، ولولا تغلب جانب التخويف مضافا إلى أنه قد لا يحب إصابة هذا الحاضر معه لألحق بالشركيات الحقيقية ) [ فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم : 1 / 114- 115 - ( 51- 52 ) ] .
وسئل شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله تعالى - عن حكم استخدام الجن من المسلمين في العلاج إذا لزم الأمر ؟ .(1/22)
فأجاب – رحمه الله – : ( لا ينبغي للمريض استخدام الجن في العلاج ولا يسألهم ، بل يسأل الأطباء المعروفين، وأما اللجوء إلى الجن فلا ؛ لأنه وسيلة إلى عبادتهم وتصديقهم، لأن في الجن من هو كافر ومن هو مسلم ومن هو مبتدع ، ولا تعرف أحوالهم فلا ينبغي الاعتماد عليهم ولا يسألون ، ولو تمثلوا لك ، بل عليك أن تسأل أهل العلم والطب من الإنس . وقد ذم الله المشركين بقوله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا )، ( سورة الجن - الآية 6 ) ، ولأنه وسيلة للاعتقاد فيهم والشرك، وهو وسيلة لطلب النفع منهم والاستعانة بهم، وذلك كله من الشرك ) [ مجلة الدعوة - العدد 1602 ربيع الأول 1418 هـ – ص 34 ] .
و قال شيخنا العلامة صالح الفوزان -حفظه الله- في كتابه " السحر والشعوذة " : ( لا يستعان بالجان ، لا المسلم منهم ولا الذي يقول أنه مسلم ، لأنه قد يقول مسلم وهو كذاب من أجل أن يتدخل مع الإنس فيسد هذا الباب من أصله ، ولا يجوز الاستعانة بالجن ولو قالوا أنهم مسلمون ؛ لأن هذا يفتح الباب والاستعانة بالغائب لا تجوز سواء كان جنيا أو غير جني وسواء كان مسلما أو غير مسلم إنما يستعان بالحاضر الذي يقدر على الإعانة كما قال تعالى عن موسى : ( ... فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ... ) ( سورة القصص - الآية 15 ) 0 هذا حاضر ويقدر على الإغاثة فلا مانع من هذا في الأمور العادية ) [ السحر والشعوذة – ص 86 - 87 ] .(1/23)
وقال الشيخ الصالح معالي الوزير صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ - حفظه الله تعالى - : ( والاستعانة بالجن الأصل فيها المنع ، وقد أجاز بعض العلماء أنه إذا عرض الجني أحيانا وهذه نادرة للمسلم في إبداء إعانة له فإن له أن يفعل ذلك وهذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، وقد أدت الاستعانة بمن زعموا أنهم من مسلمي الجن من قبل بعض الراقين إلى فتن وشحناء ومشكلات بين الناس فيقول الراقي إن الجن يقول إن الحاسد أو العائن هو الزوجة الثانية أو السحر من قبل أهل الزوجة أو من فلان من الأقرباء وهكذا، مما يؤدي إلى القطيعة والشحناء والشرور ..... وهنا أمر نلفت إليه وهو أن عدالة الجن لا تعلم حتى لو كان قرينا للإنسان وهل الجن فيما يخبر به عدل أو غير عدل، ولهذا ذكر علماء الحديث في كتب المصطلح أن رواية مسلمي الجن ضعيفة لأن الرواية في صحتها موقوفة على معرفة العدالة والثقة في الراوي وهذا لا سبيل للوصول إليه بالنسبة للجن فكيف يقبل من يقولون بأنهم مسلمي الجن إما فلان مسحور على يد فلان أو أنه محسود بعين فلان ) [ مجلة الدعوة ـ صفحة ـ 23 ـ باختصار ـ العدد 1683 من ذي القعدة 1419 هـ ] .(1/24)
وقال الدكتور أحمد بن ناصر الحمد : ( إن المؤمنين من الجن كالمؤمنين من الإنس من حيث أنهم مأمونوا الجانب، فلا يدعون إلى غير عبادة الله تعالى، ولا يكونون عونا على الظلم والعدوان، وحصول الخير منهم غير مستنكر، بل هو مأمول، وعونهم لإخوانهم من الإنس ممكن، وقد يحصل من غير أن يراهم الإنس، أو يشعروا بمساعدتهم حسيا بحسب قدرتهم، كما يعين الإنس بعضهم بعضا، وكثيرا ما يعدم التعاون بين الإنس مع اتحاد جنسهم ! فعدمه حال اختلاف الجنس أقرب وأحرى، لكن أن تحصل السيطرة والتسخير من الإنسي للجني فهذا أمر ليس ممكنا للاختلاف في الخلقة ، من حيث أن الإنسي لا يرى الجن، ومن ثم لا يستطيع السيطرة والتحكم، وهذا الأمر ليس من متطلبات النفوس، فلا أحد تميل نفسه إلى أن يسخر ويكون عبدا إلا بالقوة والقهر، وعليه 00 فلن يرضى هذا الأمر أحد رغبة له ويحصل من الشياطين نتيجة سيطرة بعضهم على بعض فيكون المسخر للإنسي من الجن مستذلا من قبل أمثاله من ذوي السيطرة من الشياطين، وذلك مقابل تحقيق الإنسي لذلك المسيطر من الشياطين ما يريد منه، من الكفر والفسوق والعصيان، والخروج على تعليمات الدين، فيكون المستعبد في الحقيقة الإنسي للشيطان ) [ كتاب السحر بين الحقيقة والخيال – ص 211 ] .
وقال عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني : ( وليس ببعيد أن يوجد في الجن كذابون، وقد أثبت الله أن منهم العصاة والكافرين ، ومن جهة ثانية فإنه لا يصح الثقة بشيء من أخبارهم، لانعدام مقاييس تحديد الصادقين والكاذبين فيهم بالنسبة الينا ، ومن زعم أنه يستخدم الجن بالقرآن فقط - دون سواه - فهو كاذب مدلس مخادع ) [ العقيدة الإسلامية وأسسها – 290 ] .
فصل(1/25)
إن من يستخدم الجن اليوم لا يستحي من نسبة هذا الباطل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وليس هذا بغريب ولا عجيب من أهل الباطل ، فقد صنع أسلافهم السحرة مثل صنيعهم ، ونسبوا سحرهم إلى سليمان عليه السلام ، فأنزل الله تعالى : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102) .
فكذلك يصنع الدجاجلة اليوم مع متشابه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وتمسكوا بثلاثة مواطن في " فتاويه " رحمه الله تعالى .
بينما تركوا سائر المواطن التي فيها منع ذلك ، ونسبة هذا العمل إلى أهل الدجل والشعوذة .
أما الموطن الأول الذي يتمسكون به :
فيقول رحمه الله تعالى [ 13/87 ] : ( واستخدام الإنس لهم مثل استخدام الإنس للإنس بشيء : منهم من يستخدمهم في المحرمات من الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم وقد يظنون ذلك من كرامات الصالحين وإنما هو من أفعال الشياطين .
ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة إما إحضار ماله أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك .(1/26)
والنوع الثالث : أن يستعملهم في طاعة الله ورسوله كما يستعمل الإنس في مثل ذلك فيأمرهم بما أمر الله به ورسوله وينهاهم عما نهاهم الله عنه ورسوله كما يأمر الإنس وينهاهم وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله وينهون الانس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله ) .
قلت : فتمسكوا بقوله أعلاه : (ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة إما إحضار ماله أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك ) .
وليس فيه إباحة من شيخ الإسلام لهذا العمل ، بل سياق كلامه في النوع الثالث يدل على أن النوعين السابقين لا يجوزان لعموم الناس ، فقال رحمه الله تعالى : ( وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال من اتبعه واقتدى به من أمته وهم أفضل الخلق فإنهم يأمرون الإنس والجن بما أمرهم الله به ورسوله وينهون الإنس والجن عما نهاهم الله عنه ورسوله ) .
ومراده : النذارة فقط ، وتبليغ شرع الله تعالى .
وخص بالنوع الثاني : النبي سليمان عليه السلام فقال رحمه الله تعالى بعد ورقتين [ 13/89 ] : ( والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان ، ولكن أعطي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ بعده ، وسخرت له الجن والإنس ، وهذا لم يحصل لغيره ... ) .
فهذا هو مراد شيخ الإسلام بهذا الجنس الذي يستخدم الجن في الأمور المباحة ، وأنه لا يكون إلا لسليمان عليه السلام لا لأحدٍ غيره ، ويسميه شيخ الإسلام بالتصرف الملكي ، وقال بأنه من خصائصه عليه السلام انظر في ذلك الفتاوى [ 19/51 ] .(1/27)
وقبل هذا الموطن في مواضع عدة ينكر شيخ الإسلام ابن تيمية استمتاع الإنس بالجن ، كما سبق نقله في تفسير قول الله تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:128) .
وكذلك ما أورده - وسبق نقله - من قوله : (ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الأخبار بالأمور الغائبة كما يخبر الكهان ، فإن في الإنس من له غرض في هذا ، لما يحصل به من الرياسة والمال وغيره ، فإن كان القوم كفاراً كما كانت العرب لم تبال بأن يقال : إنه كاهن ، كما كان بعض العرب كهاناً ، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وفيها كهان ، وكان المنافقون يطلبون التحاكم إلى الكهان ، وكان أبو أبرق الأسلمي أحد الكهان قبل أن يسلم ، وإن كان القوم مسلمين لم يظهر أنه كاهن ، بل يجعل ذلك من باب الكرامات ، وهو من جنس الكهان ، فإنه يخدم الإنسي بهذه الأخبار إلا لما يستمتع به من الإنسي ، بأن يطيعه الإنسي في بعض ما يريده إما في شرك وإما في فاحشة وإما في أكل حرام ، وإما في قتل نفسٍ بغير حق ) [ 13/82 ] .
فأين هؤلاء عن صريح كلام هذا الإمام ، ألا يكون من عين الهوى الأخذ ببعض الكلام وتركه الآخر ، والأقبح من ذلك : إظهار الباطل ، وطمس الحق .
الموطن الثاني :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى [ 11/307 ] : (فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ، ويأمر الإنس بذلك ، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى ، وهو في ذلك من خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه .(1/28)
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له ، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له ، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له ، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك ، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله ، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول : كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك ، وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه و إنسائه العلم وغير ذلك من الظلم ، وإما في فاحشة كجلب من يطلب الفاحشة ، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر ، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص : إما فاسق وإما مذنب غير فاسق ) .
قلت : ومراد الشيخ في هذه الأقسام أن من يدعون استخدام الجن لا يخرجون من ثلاثة أنواع ، وبها يكون التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .
والنوع الأول هم أولياء الرحمن بل من أفضل أولياء الرحمن ، وسبق أن هذا سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعباد الله الموحدين وهو أمر الجن بعبادة الله تعالى بما أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ونهيهم عما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ولم يزل أهل العلم في عموم خطبهم أمر الجن والإنس بذلك ، وما أكثر ما سمعت شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يكرر قوله : ( فالواجب على المسلمين جنا وإنسا ، عرباً وعجما ، ذكوراً وإناثا : أن يتقوى الله ، أن يوحدوا الله .. ) .
والنوع الثالث ، وهم أولياء الشيطان : فشرك لا جدال فيه .(1/29)
و أما النوع الثاني : وهو استخدامها في المباحات ، فليس في كلام الشيخ ما يدل على الإباحة ، بل فيه ما يدل على عدم تقدير وقوع ذلك لقوله : ( وهذا إذا قدّر أنه من أولياء الله ) ثم بين وجه هذا الاستخدام إنما هو على في عموم أولياء الله فقال : ( فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك ... ) .
ثم أين أمانة العلم ، وصدق طلب الحق عن كلام شيخ الإسلام التابع له – وقد سبق نقله – من قوله : ( وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن انه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله ، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به ) [ الفتاوى : 11/308 ] .
علّق الأستاذ سعيد عبد العظيم على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – بكلام حسن فيقول : ( هذا الكلام القيم لشيخ الإسلام – يدلك على كثرة المغرورين ، الذين مكرت بهم الجن في زماننا ، نتيجة العلم وبسط الجهل ، ومن أمثلة ذلك هؤلاء الجهال الذين ينادون الجني ، وقد تعلقت قلوبهم بالجن – من دون الله – في جلب النفع ودفع الضر ، ولبست عليهم الشياطين أمر دينهم ؛ فاختلطوا بالنساء و واقعوا ما حرم الله ... وشغلوا أنفسهم والدنيا من حولهم بالمحاورات والخزعبلات عن واجب العبودية والقيام بإضاعة الوقت ، فأين هذا الانحراف مما ذكره ابن تيمية في حكم استخدام الجن ، لقد أساء البعض فهم نصوص الشريعة ، وبالتالي فلا غرابة في إساءة فهم كلام الأئمة ، يدلك على ذلك جحافل المعالجين ، الذين أهدروا معاني العقيدة والشريعة في علاجهم بزعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية أجاز استخدام الجن !! ) [ الرقية النافعة للأمراض الشائعة : ص 41 ] .
أما الموطن الثالث :(1/30)
فقوله رحمه الله تعالى : ( وأما سؤال الجن ، وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به ، والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت في الصحيح عن معاوية بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : إن قوماً منّا يأتون الكهان ؟ ، فقال : (( فلا تأتوهم )) ، وفي " صحيح مسلم " عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( من أتى عرافاً فسأله عن شيٍ لم تقبل صلاته أربعين يوماً
وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ، ويختبر باطن أمره ، وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز .... وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن ... ) [ 19/62-63 ] .
ثم ذكر شيخ الإسلام قصة أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين .
قلت : وكما هو ظاهر ليس في الكلام ما يدل على الاستعانة ولا الاستخدام ، وإنما ذم من قبل أخبارهم وأطلق استخدامهم ، وقال بأنه محرم ، والمخصوص من ذلك ليس الاستخدام وإنما : الامتحان والاختبار إذا تبدأ له الجان ، وكذلك تمييز خبره أو خبر من أخبر عنه كما قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر أبي الهيثم رسول الجن فيما يروى عنه ، ولم يطلبه عمر رضي الله عنه ، ولا جعله مراسلاً له ، وإنما ورده الخبر عن هذا الجان .
وكذلك حصل مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فيما يروى عندما سأل المرأة التي لها قرين من الجن عن عمر رضي الله عنه فقال : بأنه تركه عند إبل الصدقة .
فليس في ذلك ( استخدام ) ولا ( استعمال ) وإنما حصل ذلك عرضاً من غير استشراف لمثل هذا ولا تعمد له .(1/31)
وأختم بهذا النصح الصريح لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في نفي استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للجن فقال [ 13/ 89 ] : ( فلم يستخدم الجن أصلا لكن دعاهم إلى الإيمان بالله وقرأ عليهم القرآن وبلغهم الرسالة وبايعهم كما فعل بالإنس ، والذي أوتيه أعظم مما أوتيه سليمان فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته واختار أن يكون عبدا رسولا على أن يكون نبيا ملكا فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك و إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد فهو أفضل كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب اليمين ) .
تنبيه : اشتهر عند الكثير أن شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى يفتي بجواز استخدام الجن ، ويلبس دجال الحجاز بهذا في فتوى لشيخنا في ذلك ، ومن قرأ الفتوى يرى بأن الشيخ حكى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وقد أخبرني الشيخ الثقة طارق بن شيهان الغويري بأنه سأل الشيخ محمد بن عثيمين قبل ذهابه للعلاج خارج المملكة أي قبل وفاته بمدة يسيرة ، وقال له : يا شيخ هناك من يقول بأنك تجيز استخدام الجن ؟ ، فالتفت الشيخ إليه وقال بغضب : يكذبون علي ، يكذبون عليّ ، مرتين ، أنا مجرد ناقل لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
وهذا هو الظن بشيخنا – رحمه الله تعالى - .
وبهذا يتم المقصود ، وبيان قبح القول بجواز الإستعانة بالجان ، فضلاً على القول بجواز استخدامها ، فضلاً على إطلاق القول بتصديقها ، والله ولي التوفيق .
وكتب
بدر بن علي بن طامي العتيبي
الطائف – الحوية
الثامن من شهر شعبان سنة 1426هـ(1/32)