تجريدالتوحيد
من درن الشرك وشبه التنديد
رسالة مختصرة في الرد على أشهرالشبه في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين
تقديم
الشيخ/ عبد الله بن عبد العزيز العقيل
تأليف
فيصل بن قزار الجاسم
تقديم
الحمد لله وحده .
... وبعد : فإن المؤلفات في علوم التوحيد قد كثرت وتنوعت ما بين مختصر ومطول ، وبين يدي الآن كتاب مختصر مفيد ألفه الأستاذ فيصل بن قزار الجاسم وسماه (تجريد التوحيد من درن الشرك وشبه التنديد) ، وقد اطلعت عليه وقرأت فصولاً منه فوجدته مفيداً في بابه ، نافعاً لطلابه ، مستوعباً لما تضمنه من مسائل وأصول تتعلق بتحقيق التوحيد بأنواعه ، وبيان ما يضاده من الشرك والبدع ، كما استطرد بذكر أنواع الشفاعة والتوسل ، ثم أعقب ذلك بذكر شبه القبوريين والمتصوفة والرد عليها بأسلوب واضح وبأدلة شرعية مقنعة ، فجزاه الله خيراً وأكثر من أمثاله ، وقد أوصيته بطبعه ونشره لعل الله ينفع به ، وإني أوصي إخواني وأبنائي الطلبة وغيرهم باقتنائه والاستفادة منه ، وبالله التوفيق .
... وكتبه الفقير إلى الله / عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى سابقاً ، حامداً لله مصلياً على نبينا محمد وآله وصحبه
مقدمة
...
... الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد،،
... فهذه رسالة لطيفة في توضيح عقيدة توحيد الله جل وعلا ، وإفراده بالعبادة ، وبيان أنها حق لله عز وجل ، ولا لأحد من الخلق فيها نصيب ، وبيان أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله ، وما يضاد ذلك من الشرك به الذي هو أعظم الذنوب، ثم ذكرُ مسائل مهمة تتعلق بالشفاعة والتوسل والتبرك هي بمثابة أصول جامعة مفيدة تعين على فهم التوحيد وكشف شبه الشرك .(1/1)
ثم أعقبت هذه الأصول الجامعة بذكر أشهر شبه القبوريين والمتصوفين ، ولم أرِدْ استيعابها لأن أكثرها قصص وحكايات مكذوبة وأحاديث مختلقة ، وأقوال باطلة لا سلف لها ، والمقصود هو كشف زيف شبه مدعي التصوف القبوري المتوسلين بذوات الأنبياء والصالحين المستغيثين بغير الله . وقد نبتت منهم نابتة سيئة بدأت تنشر دعوتها القبورية في وسائل الإعلام لمّا فتر بعض أهل السنة عن الدعوة واشتغل بعضهم فيما غيره أولى منه .
... وأصل هذه الرسالة هي محاضرة بعنوان (مزاعم القبوريين ودعاوى المتصوفين) أقامتها جمعية الشريعة المباركة في جامعة الكويت -كلية الشريعة- ، ثم آثر الأخوة القائمون على هذه الجمعية السلفية المباركة أن تصدر بشكل رسالة صغيرة تكون زاداً لأهل السنة ، ونصيحةً لمن تأثر بالتصوف القبوري ، فقبلت مشورتهم مستعيناً بالله.
... وهذه الأصول الجامعة والشبه المكشوفة قد جمعت مادتها من نصوص الكتاب والسنة وكلام أئمة السنة المحققين ، ورتبتها وربما تصرفت فيها بالاختصار أحياناً ، وبتغيير العبارة أحياناً ، وألفت بين كلامهم حتى تخرج بصورة ميسرة سهلة ، وربما زدت عليها بعض المسائل والردود ولا أميز هذا من هذا.
... وهذه الرسالة التي بين يديك كانت في الأصل أطول مما هي عليه الآن ، إلا أني آثرت الاختصار فحذفت بعض الأصول والشبه واختصرت منها بناءاً على مشورة بعض أهل العلم ، لكي لا يستثقل القارئ قراءتها ، ولعلي أن ألحقها بها لاحقاً في طبعات قادمة إن شاء الله.
... ولم أذكر في هذه الرسالة في الأصول والردود إلا ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
... والله أسأل أن ينفع بها ويبارك فيها، وأن يوفق الأخوة القائمين على جمعية الشريعة لكل خير
... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الفصل الأول
أصول جامعة معينة على فهم التوحيد
الأصل الأول : لماذا خلق الله جل وعلا الإنس والجن؟(1/2)
... هذا هو أعظم سؤال ، وجوابه أعظم جواب ، وهو أن الله جل وعلا قد خلقنا وأوجدنا في هذه الدنيا لنعبده وحده لا شريك له، وننعم بذلك وتأنس نفوسنا، ثم نظفر بعده بجنة ربنا التي أعدها لعابديه المستجيبين لأمره.
... قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } الذاريات56 ، وهذا حصر للغاية من خلق الإنس والجن في عبادته سبحانه.
... ولأجل تحقيق هذه الغاية أرسل الله الرسل وأنزل الكتب محتوية على الشرائع وآمرةً بهذا الأمر العظيم.
... قال تعالى: {ّمّا أّرًسّلًنّا مٌن قّبًلٌكّ مٌن رَّسٍولُ إلاَّ نٍوحٌي إلّيًهٌ أّنَّهٍ لا إلّهّ إلاَّ أّنّا فّاعًبٍدٍون }
... وقال: { ولّقّدً بّعّثًنّا فٌي كٍلٌَ أٍمَّةُ رَّسٍولاْ أّنٌ عًبٍدٍوا اللَّهّ ّاجًتّنٌبٍوا پطَّاغٍوتّ} والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله من شجر أو حجر أو صنم ، أو بشرٍ راضٍ بذلك كنمرود وفرعون ، ومن كان لا يرضى بذلك من المعبودين من دون الله كالأنبياء والصالحين والملائكة فليسوا بطواغيت ، وإنما الطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم .
الأصل الثاني : لا تصح العبادة إلا بالتوحيد:
... لا تصح عبادة من صلاة وصيام وذبح وذكر إلا بأن تكون لله وحده لا شريك له فيها وهو التوحيد، أي أن يُوحّد الله ويُفرد بالعبادة دون غيره . فكما أن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة فإذا أحدث العبد ببول أو غيره أفسدها، فكذلك العبادة بأنواعها لا تصح إلا بتوحيد الله عز وجل فيها، فإذا خالطها شرك بأن صرف نوعاً منها - أي العبادة - لغير الله فسدت وبطلت، وليس وحدها فقط بل كل عمله وطاعاته.
... قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ }التوبة17(1/3)
... وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }الزمر65 ، وهذا هو الذي دعا الأنبياء أقوامهم إليه، وهو أن تكون العبادة كلها لله وحده، فتكون الصلاة له وحده والنذر له وحده والذبح له وحده والدعاء كله له وحده والتوكل عليه وحده والإنابة إليه وحده والالتجاء إليه وحده والخشية منه وحده وغير ذلك من أنواع العبادات.
... ولذلك قال : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء }البينة5 ، أي عابدين له وحده دون غيره.
... وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ }الزمر2 ، والخالص هو السالم من شوائب الشرك.
الأصل الثالث : ما معنى العبادة التي لا تصلح إلا لله؟
... العبادة هي التذلل لله بالطاعة بالامتثال لأوامره والخضوع والانقياد لشرعه مع الحب له ، وجماعها: طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وقال بعض العلماء في تعريف لطيف: (هي خلال وخصال من التعظيم، خصّها الله تعالى بذاته العلية).
الأصل الرابع : كيف أعرف أنواع العبادة حتى أجعلها لله وحده دون غيره ؟
... كل ما يحب ربنا أن نتقرب به إليه فهو عبادة . وما يحب ربنا أن نتقرب به إليه منه ما هو اعتقادات باطنة وأحوال قلبية، ومنه ما هو أقوال باللسان، ومنه ما هو عمل بالأركان. وما يحبه الله منا يُعرف إما بأمره به أو بمدح فاعله أو بذكر من فعله على سبيل الرضى أو بتعليق الثواب عليه والوعد بجزيل الأجر، وإليك أمثلة على كل نوع منها :
... (1) أمثلة ذلك من أعمال القلوب:
... قوله جل وعلا {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ }الزمر54 ، فأمْرُه بالإنابة إليه دليل على أنه عبادة له ، لأنه محبوب له.(1/4)
... قوله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }الملك12 ، فوعده لمن يخشاه بالمغفرة يدل على أن الخشية منه عبادة، لكونها محبوبة له.
... (2) أمثلة على العبادات القولية:
... قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً }الأحزاب41 ، فأمره بالذكر يدل على أنه محبوب له فهو عبادة.
... قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } آل عمران191 ، فمدحه للذاكرين يدل على أنه عبادة.
... قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } الإسراء111 ، يدل أمره بالتكبير على أنه محبوب له فهو عبادة.
(3) أمثلة على العبادات الفعلية:
... قوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ }البقرة43 ، يدل أمره بهما على أنهما عبادة.
... قوله : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }الكوثر2 ، أمره بالنحر له يدل على أنه محبوب له فهو عبادة.
... قوله : {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ }البقرة270 ، فمدحه للناذرين له وثناؤه عليهم ووعده لهم بالثواب يدل على أن النذر عبادة محبوبة له لا تصلح لغيره.
... وعلى هذا فإنَّ ما ثبت أنه عبادة لا يجوز صرفه لغير الله أبداً مهما علت درجته وسمت منزلته، لأنه محض حق الله.
... قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ }الزمر2 ، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }الفاتحة5 ، وهذا حصر للعبادة له وحده، أي لا نعبد إلا إياك.
الأصل الخامس : الدعاء ومنه الاستغاثة من أعظم أنواع العبادة:
... دعاء الله جل وعلا والاستغاثة به والاستعاذة به من أعظم أنواع العبادات. والدعاء نوعان :(1/5)
... دعاء بلسان الحال: وهو كل عبادة من صلاة وصوم ونحوهما.
... ودعاء بلسان المقال: وهو طلب الحاجة من الله بالسؤال والتضرع.
... قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }غافر60 ، فأمَرَ سبحانه بدعائه، وأخبر بأنه عبادة له، وتوعد المستكبرين عن ذلك بالعذاب.
... وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }غافر65 ، ودعاؤه هنا يشمل النوعين، فأمَرَ بالإخلاص فيه بأن لا يدعى إلا هو سبحانه فلا يعبد إلا هو ولا يطلب ويلتجأ ويستغاث إلا به.
... وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً }الجن18 ، و{أحداً} نكرة ، والنكرة في سياق النهي تفيد العموم أي لا يجوز أن يدعى معه أحد البتة.
... وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الأحقاف5 ، فلا أضل ممن دعا غير الله من الأموات والأحجار.
... و«من» كما هو معلوم للعاقل، مما يدل على أن هذه الآية نزلت في من يدعو الأنبياء والملائكة والصالحين.
... وجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك كله بقوله (الدعاء هو العبادة) رواه أحمد وأهل السنن(1).
... وقال أيضا لابن عباس - رضي الله عنه - (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) رواه الترمذي(2).
__________
(1) رواه أحمد (4/267) ، وأبو داود (2/76) ، والترمذي (5/211) وقال حسن صحيح ، وابن ماجه (2/1258) والنسائي في الكبرى (6/450)
(2) رواه أحمد (1/92) ، والترمذي (4/667) وقال : حديث حسن صحيح(1/6)
... وروى الطبراني(1) عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : قال أبو بكر - رضي الله عنه - : قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله عز وجل) وهذا كان في حياته فكيف بعد مماته.
... وعلى هذا فإن الدعاء والاستغاثة محض حق الله لا يجوز صرفه لغيره. فمن دعا غير الله أو استغاث به أو استعاذ به فقد عبد غير الله، إلا في حالة واحدة وهي الأصل السادس.
الأصل السادس : يجوز دعاء المخلوق والاستغاثة به بشرطين: أن يكون حياً حاضراً غير غائب وأن يكون قادراً:
... من دعا مخلوقًا أو استغاث به وهو حي حاضر قادر لم يكن بذلك عابداً لغير الله ، كمن يستنجد بصاحبه ليعينه إذا كان حاضراً ، وكما استغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام في قوله {ّفَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }القصص15 ، وكما في قول هاجر (أغث إن كان عندك خير)(2)
... وعلى هذا فيكون دعاء غير الله شركاً في أحوال ثلاث:
... (الأول) أن يسأله ما لا يقدر عليه إلا الله وحده، كهداية القلوب ومغفرة الذنوب وإنجاب الولد ونزول الغيث ونحو ذلك ، قال الله تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}الحجر21 ، وقال تعالى {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }يونس107
__________
(1) رواه أحمد (5/317) وذكره الهيثمي مجمع الزوائد (10/159) وقال : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث
(2) رواه البخاري (3365)(1/7)
... (الثاني) أن يدعو ميتاً ويسأله. قال تعالى : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ . إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } فاطر13 ، فسمى الله دعاء اّلأموات والأحجار شركاً . وقال تعالى : {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } الأحقاف5 ، و«من» كما ذكرنا للعاقل ، أي أن المعبودين من دون الله المقصودين في هذه الآية بشرٌ أو جنٌّ أو ملائكة .
... (الثالث) أن يدعو غائباً عنه . فإنه لا يحيط بالأصوات إلا الله، ولا يغيث المكروب في غيبة الخلق إلا هو ، فهو الذي قد وسع سمعه الأصوات قال تعالى : {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }الزخرف80 ، وقال مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }المجادلة7 ، وليس أحدٌ من البشر ولا من الخلق عموماً من يسمع أصوات العباد كلهم ، ولو سمع ما استطاع أن يجيب ويغيث ، ومن اعتقد مثل هذا في بشرٍ فقوله من جنس قول النصارى الذين قالوا أن المسيح ابن الله .
الأصل السابع : الشرك بالله أعظم الذنوب وأخطرها على الإطلاق:(1/8)
... الشرك يحبط جميع الأعمال إن مات عليه صاحبه ، ولا يغفره الله أبداً ما لم يتب منه قبل الموت. قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ }النساء48 ، فدل على أن كل الذنوب داخلة تحت مشيئة الله ، إن شاء غفرها وإن شاء عذب عليها ، إلا الشرك فإنه لا يغفره الله البتة .
وقال تعالى: ِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }المائدة72.
وقال أيضا : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }الزمر65 .
الأصل الثامن : ما هو الشرك الذي يجب الحذر منه أعظم الحذر:
... الشرك بالله هو اتخاذ شريك مع الله فيما اختص الله عز وجل به. والذي اختص الله به وحده دون خلقه أمور ثلاث:
... (الأول) الربوبية: وهو كونه رب كل شيء والمتفرد بالخلق والملك والتدبير والنفع والضر والإحياء والإماتة ونحو ذلك من أفعاله(1/9)
... قال تعالى {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54 فدل على تفرده بالخلق والأمر والنهي والتشريع ، وقال {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران189 فله الملك المطلق ، وقال تعالى في بيان أنه المدبر وحده لا شريك له { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }يونس3 ، وقال تعالى مبيناً تفرده بالإحياء والإماتة {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }غافر68 ، وقال جل وعلا في بيان ملكه للنفع والضر ، وأن ليس أحد من الخلق قط يملك أن ينفع أحد أو يضره من دون الله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }يونس107 .(1/10)
... (الثاني) الألوهية : وهو كونه الإله المعبود وحده. فلا يُعبد إلا هو سبحانه ، ولا يعبد أحد من خلقه ولا بشيء واحد من أنواع العبادة ، قال تعالى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }طه14 ، وقال {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }البقرة163 ، وقال {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }غافر65 ، وقال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }الفاتحة5 ، أي لا نعبد إلا إياك ، وقال جل وعلا {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ }الزمر66 ، وقال {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ }الزمر11 وقال {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}الزمر2 ، وقال {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }غافر14
... (الثالث) الأسماء والصفات : وهو كونه قد اتصف بصفات لا تشبه صفات المخلوقين وتسمى بأسماء لا تطلق إلا عليه ، قال تعالى {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأعراف180 ، وقال في بيان أن لا مثيل له وشبيه له فيما اتصف به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 ، فأثبت لنفسه سمعاً وبصراً وبيَّن بأنهما لا يماثلان سمع وبصر المخلوق ، وقال {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}مريم65 ، وقال أيضاً {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }الإخلاص4 ، أي ليس له كفؤ وند ومثيل وشبيه(1/11)
... فمن اتخذ مع الله شريكاً في ربوبيته كأن اعتقد أن هناك من يخلق مع الله أو ينفع مع الله أو يضر من دون الله فهو مشرك بالله ، لأنه ساوى بين الله وبين خلقه في الخلق والنفع والضر التي هي أفعال الله وحده ، كمن يعتقدون أن للعالم غوثاً يغيث الناس من الأولياء ، أو الذين يعتقدون أن لبعض الأئمة والصالحين تصرفاً في الكون ، ونحو ذلك من اعتقاد شريك مع الله فيما اختص به من الملك والخلق والتدبير والإحياء والإماتة والنفع والضر والإعطاء والمنع ونحو ذلك من أفعاله جل وعلا .
... ومن اتخذ شريكاً مع الله في ألوهيته، كمن عبد غير الله، بأن دعا الأموات أو استغاث بهم أو ذبح لغير الله أو نذر له أو أحب غير الله كحب الله أو خشي منه كخشية الله أو عظمه كتعظيم الله فقد أشرك لأنه اتخذ معه شريكاً في عبادته .
... ومن اتخذ مع الله شريكا في أسمائه وصفاته، كمن اعتقد في مخلوق أن له من القوة كقوة الله ، أو أنه يحيط بالأصوات سمعا كإحاطة الله، أو أن هناك من يستحق أن يسمى بالرحمن والقدوس ورب العالمين فقد أشرك بالله لأنه ساوى بين الله وبين خلقه في أسمائه وصفاته.
... ولا يكون العبد موحداً مؤمناً إلا إذا وحده في جميعها، فمن أشرك في شيء أو نوع منها بطل توحيده، فمن أقر بالربوبية ووحد الله فيها ولكنه عبد مع الله غيره في النذر كان مشركاً ولم يكن موحداً ناجياً، ومن عبد الله وحده ولكنه اعتقد في مخلوق أنه يدبر مع الله أمر الكون كان مشركاً غير موحد وهكذا.
الأصل التاسع : من صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله سواء اعتقد في المعبود النفع والضر أو عبده ليشفع له عند الله:(1/12)
... كل من عبد غير الله بأن استغاث بغير الله من الأموات والغائبين ، أو ذبح لغير الله ، أو نذر لغير الله فقد أشرك بالله جل وعلا، سواءٌ اعتقد تفرد الله بالنفع والضر أو لم يعتقد، لأن الشرك عبادة غير الله مطلقاً. فلا فرق بين من عبد غير الله بالاستغاثة ونحوها معتقداً في المعبود النفع والضر، وبين من عبد غير الله مستشفعاً به إلى الله متقرباً به إليه معتقداً أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، فكلاهما في الحكم سواء وهو الإشراك بالله جل وعلا.
... والدليل على ذلك أن الكفار الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار الذي يدبر جميع الأمور، وما أدخلهم ذلك في الإسلام.
... قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }يونس31
... وقال: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }المؤمنون88 ... فبماذا كانوا كافرين إذا؟
... الجواب: هو بعبادتهم غير الله طلباً للقربة والزلفى من الله، فإنهم كانوا يقولون: ما توجهنا إليهم ودعوناهم إلا لطلب القربة والشفاعة، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم والتقرب إليهم.
... ودليل القربة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }الزمر3 ، فسماهم الله كذبة وجعلهم كفاراً باتخاذهم وسائط بينهم وبينه في العبادة .(1/13)
... ودليل الشفاعة قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}يونس18 ، فجعلهم سبحانه مشركين باتخاذهم الشفعاء .
... فلا واسطة بين الله وبين عباده بالعبادة من الذبح والنذر والدعاء وغير ذلك.
... وكان المشركون يقولون في تلبيتهم : (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) رواه مسلم (1).
الأصل العاشر : لا فرق في عبادة غير الله بين أن يكون المعبود مَلَكاً أو إنسياً أو جنياً أو حجراً أو شجراً:
... كل من عبد غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فقد أشرك بالله، سواء كان المعبود إنسياً أو جنياً أو صنماً، فغير الله يشمل كل ما سوى الله من المخلوقين. يدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم : منهم من كان يعبد الشمس والقمر ومنهم من كان يعبد الصالحين ومنهم من كان يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الأنبياء ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار. وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فرق بينهم ، والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }الأنفال39 .
... ودليل من كان يعبد الشمس والقمر قوله تعالى : { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فصلت37 . ...
__________
(1) رواه مسلم (1185)(1/14)
... ودليل عبادة الصالحين قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا . ًأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }الإسراء57 ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : ( إنها نزلت فيمن كان يعبد عيسى وأمه وعزيز ) ، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( نزلت فيمن كان يعبد الملائكة ) رواهما الطبري في تفسيره.
... ودليل من كان يعبد الملائكة قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} سبأ 40- 41 وهكذا.
... وعلى هذا فنؤكد ونقول إن الشرك عبادة غير الله ، فعبادة النبي شرك ، وعبادة الولي شرك ، وعبادة الصنم شرك ، وعبادة من يُعتقد فيه النفع والضر شرك ، وعبادة من يُعتقد أنه واسطة فقط أو شفيع شرك أيضاً .
الأصل الحادي عشر : لا يصح إسلامٌ إلا بالبراءة من الكفر والشرك وأهله :
... كلمة التوحيد وهي ( لا إله إلا الله ) نفيٌ وإثبات ، نفيُ استحقاق العبادة عما سوى الله في قول (لا إله) لأن الإله في اللغة هو المعبود ، وإثبات استحقاقه وحده سبحانه للعبادة بقول (إلا الله) ، وهذا أصل دين الرسل من أولهم إلى آخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ دعوتهم وكلمتهم واحدة وهي :
... أولاً : البراءة من عبادة غير الله بأي نوع من أنواع العبادة سواء بالاستغاثة أو بالذبح ، أو النذر أو التعلق ، والبراءة أيضاً من المعبودين من دون الله الذين رضوا بعبادة الخلق لهم ودعوا إليها(1/15)
... وثانياً : اعتقاد أحقية الله سبحانه وحده دون غيره لهذه العبادة .
... قال تعالى { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا}البقرة256 ، وقال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ }النحل36 ، وقال أيضاً {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى }الزمر 17، ومعنى قوله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} أي ينكر عبادة الطاغوت ويتبرأ منها ، والطاغوت : اسم لكل ما عبد من دون الله ، فكل معبود من دون الله يُسمى طاغوتاً فالأصنام والأشجار والأحجار والكواكب المعبودة من دون الله كلها طواغيت ، وهكذا من عُبد وهو راضٍ كفرعون ونمرود والشياطين وأشباههم ، وأما من عُبد من دون الله ولم يرض بذلك كالأنبياء والصالحين والملائكة فهؤلاء ليسوا طواغيت ، وإنما الطاغوت الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم من جن وإنس . فقوله تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} يعني كما بينا أن ينكر عبادة غير الله كالاستغاثة بالأموات ودعائهم والالتجاء إليهم ، والذبح والنذر لهم ، ويتبرأ منها ويجحدها ، ويبيّن بأنها باطلة . وقوله {وَيُؤْمِن بِاللّهِ} يعني : يؤمن بأن الله هو المعبود بالحق ، وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فالدعاء له وحده ، والنذر له وحده ، والذبح له وحده ، والطواف ببيته وحده ، والالتجاء إليه وحده والتوكل عليه وحده .(1/16)
... فالإيمان إذاً لا يتم ولا يصح إلا بالبراءة من عبادة غير الله ، وإنكارها ، واعتقاد بطلانها ، والتصريح بذلك ، قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ }الحج62 ، وقال جل وعلا في تقرير هذا الأصل العظيم {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }الممتحنة4 ، فقوله { إِنَّا بُرَءاؤ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } فيه البراءة من العابدين لغير الله والمشركين به ، والبراءة من المعبودين من دون الله ، فبراءة من الشرك وأهله ، ثم لم يكتف إبراهيم عليه السلام بالبراءة من الكفر وأهله بالقلب فقط ، حتى أظهر ذلك وأعلنه كما في قوله {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً } أي ظهرت العداوة بيننا ، وهذه العداوة باقية ما بقي الكفر والشرك ، لا يرفعها قرابة ولا نسب ولا بلد كما في قوله { أَبَداً } .
... وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من قال لا إله إلا الله ، وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله )(1) ، فتأمل هداك الله للحق كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد التلفظ بـ ( لا إله إلا الله ) عاصماً للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك : الكفر بما يُعبد من دون الله ، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه .
__________
(1) رواه مسلم (23)(1/17)
... وعلى هذا فمن عبد الله وحده لا يعبد غيره ، ولكنه لا ينكر الشرك وعبادة غير الله ، ولا يتبرأ من المشركين ، فلا يتبرأ من دعاء الأموات والغائبين ، ولا يكفر بعبادتهم ، أو يرى أنه جائز ، أو يقول هو طريق إلى الله ، أو لا يعتقد بطلانه وكفر أهله ، فهذا ليس بمسلم معصوم الدم والمال ، ولم يحقق شطر كلمة التوحيد وهو ( لا إله ) الذي هو نفي استحقاق العبادة عما سوى الله . وهذه مسألة مهمة فتنبه !
الأصل الثاني عشر : صور من سد الشريعة الإسلامية للطرق الموصلة إلى الشرك فيما يتعلق بالقبور:
... لقد سدت الشريعة كل الطرق التي يُتوصل بها إلى الشرك بالله حماية لجناب التوحيد، ومنها ما يتعلق بالقبور وتعظيم أصحابها والغلو فيهم وفي قبورهم. فإن أول شرك وقع في الأرض كان سببه الغلو في الصالحين وفي قبورهم. وهو ما وقع من قوم نوح عليه السلام. فمن الأدلة على سد الشريعة لمثل هذه الذريعة :
(1) نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -عن اتخاذ القبور مساجد :
- عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال - صلى الله عليه وسلم - في مرضه التي تُوفى فيه: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياهم مساجد) قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أن خشي أن يُتخذ مسجداً . متفق عليه (1).
(2) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه(2) .
(3) وفي الصحيحين(3) أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنو على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله )
__________
(1) رواه البخاري (1330) ومسلم (529)
(2) رواه البخاري (437) ومسلم (530)
(3) رواه البخاري (427) ومسلم (528)(1/18)
... واتخاذ القبور مساجد على نوعين:
... الأول : أن يُبنى عليها مسجد.
... الثاني : أن تُتخذ مكاناً للعبادة من غير بناء. كما في الحديث المتفق عليه(1) من حديث جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فجَعْلُ الأرض كلها مسجد بمعنى أنها مكان للعبادة والصلاة.
(4) ما رواه مسلم(2) من حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن لا تدع قبرا مُشرفاً إلا سويته ولا صورة إلا طمستها) والقبر المشرف هو العالي عن سائر القبور.
(5) ما رواه مسلم(3) وغيره - رضي الله عنه - من حديث جابر - رضي الله عنه - قال : (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجصّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه ). وزاد الترمذي(4) (وأن يُكتب عليه).
(6) ما رواه مسلم(5) عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها).
(7) رواه ابن حبان(6) وصححه عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في المقبرة)
... فهذه الأحاديث وغيرها كثير تبين حرص الشريعة على عدم تعظيم القبور بالبناء عليها أو اتخاذها مساجد بالدعاء والصلاة فيها. وهذا النهي يشمل المقبرة الكبيرة والقبر الواحد.
__________
(1) رواه البخاري (335) ومسلم (521)
(2) رواه مسلم (969)
(3) رواه مسلم (970)، ورواه الترمذي (3/368) وقال: حديث حسن صحيح وزاد (وأن يكتب عليه) ، وابن حبان في صحيحه دون النهي عن الكتابة (5/66 بترتيب ابن بلبان) والحاكم في المستدرك (1/525)
(4) 3/368) وقال: حسن صحيح.
(5) رواه مسلم (972)
(6) رواه ابن حبان في صحيحه (4/33 بترتيب ابن بلبان)(1/19)
... ولم يكن في عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم شيء من المشاهد التي تُقصد وتُزار وتُعبد في كل بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا العراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب، ولم يكن أُحدث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا أحد من أهل البيت ولا صالح أصلا، بل عامة هذه المشاهد اليوم محدثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة في أواخر المائة الثالثة لما ظهرت القرامطة والباطنية والعبيديون، ولما سيطرت دولة بني بويه على الخلافة في بغداد في أوائل المائة الرابعة.
الأصل الثالث عشر: الشفاعة ملك لله وحده، ولا تُطلب إلا منه، فلا يملكها نبي ولا مَلَكٌ ولا وليُ، وليست من جنس الشفاعة المعهودة بين الخلق:
... من ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق تنفع عند الله فقد أخطأ وضل.
... فإن الشفاعة المعهودة عند الخلق يختلف عن الشفاعة عند الله في أمور:
... منها: أن صورة الشفاعة المعهودة عند الخلق: أن الشافع يشفع عند من يرجوه المشفوع إليه أو يخافه كما يشفع عند الملك ابنه أو أخوه أو أعوانه أو نظرائه الذين يخافهم أو يرجوهم ، فيجيب سؤالهم ويقبل شفاعتهم إما رجاءاً فيهم أو خوفاً منهم أو حاجة إليهم.
... ومنها: أن المشفوع إليه كالملك أو الأمير أو غيرهما قد يكون كارهاً للشفاعة فيمن شفعوا فيه، ولكنه يقبل الشفاعة منهم مع كراهيته لها، إما رغبة في رضاهم، وإمارهبة منهم.
... ومنها: أن الشافع يتقدم عند المشفوع إليه للشفاعة من غير إذن المشفوع إليه .
والله تبارك وتعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفع أحد في أحد إلا لمن أذن الله للشفيع أن يشفع فيه، فإذا أذن للشفيع شفع وإن لم يسأله الشفيع.(1/20)
... ولو سأل الشفيع الشفاعة ولم يأذن الله لم تنفع شفاعته كما لم تنفع شفاعة نوح في ابنه ، ولا إبراهيم في أبيه ، ولا مراجعة لوط في قومه، ولم تنفع صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنافقين ولا استغفاره لهم كما في قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ}التوبة80 ، وكما لم تنفع شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه في إخراجه من النار مع نفعه له. ولا في أمه كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }التوبة113 ، وإنما تنفع الشفاعة وتقع ويظهر جاه الشفيع ووجاهته عند المشفوع إليه إذا شفع فيمن أذن له أن يشفع فيه وفي إجابته سؤاله وقبول شفاعته.
... قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }الأنبياء28 ، وقال : {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ }البقرة255 ، وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }النجم26 ، أي يشاء للشافع أن يشفع ويرضى عن المشفوع فيه، فيرحم الله المشفوع بالشفاعة ويظهر جاه الشافع، والكل بأمره وقضاءه.
... فشروط الشفاعة النافعة عند الله ثلاثة:
... (1) إذنه للشافع في الشفاعة.
... (2) رضاه عن المشفوع فيه.
... (3) أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله أبو هريرة - رضي الله عنه -: من أسعد الناس بشفاعتك. قال: (من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه )(1) .
__________
(1) رواه البخاري (99).(1/21)
... فشرَطَ لقبول الشفاعة في المشفوع فيه التوحيد وإخلاص العبادة لله، ولذلك لم تنفع شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب في إخراجه من النار، مع قرب النسب وعظم النصرة لأنه لم يكن موحداً.
... فالشفاعة إذاً لا يملكها إلا الله، فلا تطلب إلا منه.
... قال تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ . قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }الزمر 43-44 ، فنفى الله أن يكون أحد دونه يملك الشفاعة، وبين أنها ملك له وحده، وذكر هذا بأسلوب يفيد الحصر وهو قوله {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ} وأكدها بقوله {جَمِيعاً} فلا تطلب إذاً إلا منه، فيقول الداعي : اللهم اجعلني ممن يشفع فيهم نبيك وعبادك الصالحون ونحو ذلك، لا أن تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والصالحين من الأموات.
الأصل الرابع عشر: اتخاذ الوسائط والشفعاء بين الخلق وبين الله في العبادة ليس من تعظيم الله بل من الشرك به:
... الملك في الدنيا كلما عظم ملكه احتاج الرعية في الوصول إليه وقضاء حاجاتهم منه إلى وسائط وشفعاء أكثر، وهذا من نقصه وضعفه ، لا من كماله وعظمته ، والله جل وعلا أعظم الملوك، وهو لكماله لا يحتاج إلى وسائط بينه وبين عباده في العبادة، بل يرفع العبد إليه يديه مباشرة ويسأله ويعبده من غير واسطة.
... وبذلك أمر الله تبارك وتعالى فقال: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} ثم توعّد المستكبرين عن دعائه وعبادته، المتخذين وسائط بينه وبينهم فقال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} غافر60.(1/22)
... وألغى النبي - صلى الله عليه وسلم - الواسطة بين الله وخلقه في الدعاء، والعبادة فقال وهو يوصي ابن عباس - رضي الله عنه -: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)(1).
... وبيّن الله عز وجل قربه من الخلق عند الدعاء فقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان}.
... فقياس الخالق العظيم في الشفاعة على المخلوق العاجز الفقير ، من أعظم السب والتنقص لمقام الملك الجبار لأنه تشبيه للخالق بالمخلوق.
... ذلك لأن الوسائط بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة :
... أولها: إما لإخبارهم من أحوال الناس ما لا يعلمونه ، فيأتي الشافع ويخبر الملك بما يجهله من حال المشفوع فيه ويحكي له قصة حاله ، ومن قال: أن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، لأن الله قد أحاط بكل شيء علما.
... الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائهم إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أعوان وأنصار لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل.
... قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ } سبأ22
... ولهذا لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما ، فإن من يشفع عند غيره بغير إذنه، فهو شريك في حصول المطلوب لأنه أثر فيه بشفاعته حتى جعله يفعل ما يطلبه منه، والله سبحانه لا شريك له بوجه من الوجوه.
__________
(1) رواه أحمد (1/92) ، والترمذي (4/667) وقال : حديث حسن صحيح(1/23)
... الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعطفه، أو من يُدِلّ عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت أداة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته. والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
الأصل الخامس عشر : فرق بين التوسل بالشخص وبين استغاثته أو السؤال به :
... الاستغاثة وهي طلب الغوث تتعدى بنفسها وبالباء ، فيقول القائل (استغثت فلاناً) ، أو (استغثت بفلان) ، ويكون المضاف بها مُستغاثاً به مدعواً مسئولاً مطلوباً منه. كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الأنفال9 ، وقوله:{ َفاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ } القصص15. وسبب تعدي الاستغاثة بالباء أحيانا هو تضمين معنى الاستعانة، والتضمين المعروف في اللغة هو ضم معنى لفظ معروف إلى آخر مع بقاء معنى اللفظ الأول ، فلما ضُمِّنت الاستغاثة معنى الاستعانة عُدِّيت بما تتعدى به الاستعانة وهي الباء ، لأنه يقال : (استعنت بكذا) .
... أما التوسل فإنه يتعدى بالباء فيقول القائل (توسلت بفلان) ويكون المضاف بالباء وسيلةً مطلوباً به لا مطلوباً منه.
... وأما السؤال فإنه يتعدى بنفسه وبالباء . فيقول القائل : (سألت فلاناً) ، إذا كان مسئولاً مطلوباً منه، ويقول (سألت بفلان) ويكون المضاف بالباء مسئولاً به لا مسئولاً مطلوباً منه.
... فـ (استغثت فلاناً) و (استغثت به) ، بمعنى طلبت منه لا بمعنى توسلت به، فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا استغاثة الأموات ، ولا الغائبين ، لما بيناه من كونه شركاً بالله عز وجل ، ومن عبَّر عن الاستغاثة بلفظ التوسل كأن يقول مثلاً ( يجوز التوسل بفلان ) بمعنى الاستغاثة به ، فقد كذب على اللغة والشرع .
الأصل السادس عشر: التوسل إلى الله بذات شخص والسؤال به ليس سبباً لقضاء الحاجة وإجابة السؤال :(1/24)
... التوسل إلى الله عز وجل بذات شخص يحبه الله كالأنبياء أو غيرهم من غير أن يكون هناك ما يحبه الله من التوسل إليه بالإيمان به والعمل الصالح باطل عقلاً وشرعاً:
... أما (عقلاً) فإنه ليس كون الشخص المعين محبوباً لله ما يوجب كون حاجة السائل تُقضي بالتوسل بذاته، إذا لم يكن من المُتوسَّل به ولا من السائل سبب تُقضى به الحاجة. فإن كان من المُتوسَّل به دعاء للسائل أو كان من السائل إيمان وطاعة له فهذه وسيلة صحيحة بلا ريب . وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة فيها إذا لم يحصل للسائل السبب الذي أمِرَ به فيها من الإيمان به وطاعته. ولهذا لو توسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - من هو كافر به مع محبته له لم تنفعه، والمؤمن به ينفعه الإيمان به لأنه أعظم الوسائل. كما في قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ }آل عمران193 ، فتوسلوا بإيمانهم وطاعتهم لرسل الله لا بذواتهم من غير عمل منهم.
... وخلاصة الكلام أن التوسل إلى الله بذات يحبها الله لا ينفع إلا بأمرين :
... (لأول) أن يكون من المُتوسَّل به عمل للسائل، وهو الدعاء له وهذا إنما يكون في حياة المُتوسَّل به، فيأتي السائل الى المُتوسَّل به، فيطلب منه الدعاء ثم يتوسل السائل بدعاء المُتوسَّل به الى الله في قبوله وقضاء حاجته فيقول : اللهم شفع فلاناً فيَّ - أي بدعائه-، وهذا الذي كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1/25)
... (الثاني) أن يكون من السائل عمل تجاه المتوسَّل به يحبه الله منه وهو طاعته فيما أمَرَ والإيمان به والذب عنه ونصرة دينه ، فيتوسل العبد إلى الله بمحبة رسوله والإيمان به ، فيقول ( اللهم إني أتوسل إليك بإيماني برسولك واتباعي له واستجابتي لأمره ) ونحو ذلك كما في الآية السابقة .
... فإن قال قائل أنا إذا توسلت بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الصالحين فإنما أتوسل بعملي المتعلق به وهو حبي له وتعظيمي إياه وهذا مما يحبه الله مني.
... فالجواب: أن حبك وتعظيمك له يدعوك إلى زيادة الإيمان به وطاعته وهو الذي يحبه الله منك، وأما حب وتعظيم لا يستلزم طاعة وانقياداً فلا فائدة منه، وإنما هو حب وتعظيم لقضاء حاجة دنيوية فقط، وهذا لا يحبه الله منك. كما أن حب أبي طالب للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مقصده تعظيم نسبه وإقامة حرمته فلم يقبله الله منه ولم ينفعه.
الأصل السابع عشر : لا يجوز التبرك إلا بما ثبت النص بكونه مبارك وبالطريقة الشرعية :
... الله جل وعلا هو المتبارك كما في قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }المؤمنون14 ، والبركة صفته وفعله، وهو سبحانه يجعل من شاء مباركاً وما شاء مباركاً، وليس هذا لأحد سواه سبحانه. فما جعله الله مباركاً فهو المبارك.
... والبركة كثرة الخير ودوامه، والله جل وعلا جعل أشياء مباركة ينتفع العباد بها ويكثر خيرها:
... منها أزمنة مباركة: مثل شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة.
... ومنها أماكن مباركة: مثل مكة المكرمة والمدينة النبوية.
... ومنها أعمال مباركة: كالأعمال الصالحة وبر الوالدين وقراءة القرآن الذي هو كلام الله غير مخلوق.
... ومنها أعيان مباركة: كالأنبياء والصالحين والعسل وحبة البركة والغنم.
... والقاعدة في هذا الباب أمران:
... (الأول) لا يثبت كون الشيء مباركاً إلا بدليل من الكتاب أو السنة.(1/26)
... (الثاني) لا يُتبرك بما ثبتت بركته إلا بالطريقة الشرعية.
... مثاله: مكة المكرمة، قال تعالى فيها: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }آل عمران96 ، فثبتت بركتها، وبركتها بمضاعفة الأجور فيها، فالتبرك بها يكون بالاستكثار من الأعمال الصالحة كالطواف والصلاة وغير ذلك. فمن تبرك بها بالتمسح بالكعبة أو كسوتها فإنه لم يتبرك بها بالطريقة الشرعية.
... ومثاله: الصالحون فإنهم مباركون بإيمانهم وصلاحهم، والتبرك بهم إنما يكون بالاقتداء بهم، والاستفادة من علمهم وعملهم ومنافستهم في الخيرات، فمن تمسح بهم على أنهم مباركون فقد خالف الشرع. ولا يستثنى من ذلك أحد إلا الأنبياء لثبوت النص بالتبرك بآثارهم كشعرهم وثيابهم دون غيرهم.
... ومثاله: القرآن قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ }ص29، والتبرك به بتلاوته والعمل بما فيه، فمن تبرك به بحمله، أو وضعه في السيارة، أو تحت الوسادة التماساً لبركته فقد خالف الشرع.
... ومثاله : التبرك بغار حراء أو بقبور الصالحين والأولياء ، فإنه لم يثبت في الشرع أنها مباركة ، بحيث تُلتمس منها البركة ، فمن تبرَّك بها متمسحاً ونحو ذلك ، فقد أشرك بالله حيث التمس البركة مما لم يجعل الله فيه بركة تُلتمس . وقد رواه الإمام أحمد وغيره(1) عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -: ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) .
__________
(1) رواه أحمد (5/217) والترمذي (4/475) وقال : حسن صحيح ، وابن حبان في صحيحه (8/248 بترتيب ابن بلبان)(1/27)
فتأمل كيف جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - طلبهم التبرك بالشجر من جنس قول صحاب موسى لموسى (اجعل لنا إله كما لهم آلهة ) مما يبين كون التبرك بالأشجار والأحجار وغير ذلك من الشرك بالله .
لا يعبد الله إلا بما شرعه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -
... إن الله عز وجل قد أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، ليُعبد الله وحده لا شريك له ، وليُعبد بما شرعه لهم وبينه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لا بما اخترعه الناس وابتدعوه
... قال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } الحشر7
... وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ }النساء64
... فالرسل إنما أرسلهم الله ليبينوا للناس ما يحب ربنا أن نتعبده به ، ونتقرب به إليه ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ليس من عملٍ يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به ، ولا عملٍ يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه)(1)
... وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أتم بيان ، فلم يتوفه الله حتى أكمل له الدين ، فيما لا مزيد عليه ، فأنزل الله عز وجل قوله : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}المائدة3
... فمن رام الهداية ، وطلب السعادة فعليه سلوك ما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العبادات ، من غير زيادة ولا نقصان ، وقد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الحذر من أن نستحدث أموراً جديدة نتعبد الله بها من غير أن يشرعها لنا
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2/5) وغيره وصححه الألباني في الصحيحة (2866)(1/28)
... فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد )(1) وفي لفظ : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )(2) أي مردود على صاحبه غير مقبول .
... وهذا صريح في رد كل عبادة لم يكن عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشرعها لأمته .
... وقال أيضاً - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وعضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وإن كل بدعة ضلالة )(3)
... ومحدثات الأمور : هي الأمور المحدثة التي يتعبد الناس بها ربهم ، من غير أن يشرعها لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فالبدعة مردودة غير مقبولة ولو أراد العبد بها رضا الله .
... قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الملك2 : ( أخلصه وأصوبه . فإنه – أي العمل - إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً ، والخالص إذا كان لله ، والصواب إذا كان على السنة )(4)
الأصل الثالث عشر : قاعدة مهمة: كل ما لم يكن عبادة في زمن الصحابة فلن يكون اليوم عبادة:
__________
(1) رواه البخاري (2550) ومسلم (1718)
(2) رواه مسلم (1719)
(3) رواه أحمد (4/126) وأبو داود (4/200) والترمذي (5/44) وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجه (1/18) وصححه الحاكم وابن حبان وغيرهم .
(4) رواه أبو نعيم في الحلية (8/95) وغيره(1/29)
... الصحابة رضي الله عنهم أعظم المؤمنين إيمانا وأسرعهم وأسبقهم إلى الخير، وقد بلّغهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين كله فأكمله، فلم يفُتْهمُ شيء مما يحبه الله ويرضاه، بل كل ما يحبه الله ويرضاه من عبادةٍ فقد عملوه وتعبدوا الله به. ولن يأتي أحد ممن بعدهم فيسبقهم، بل هم السابقون لكل خير ، المسارعون لكل طاعة. فكل ما يُظن أنه عبادة وقربة إذا لم يفعلوه، فإنه بدعة محدثة لأنه لو كان من الخير لما فاتهم.
والخيرية فيمن بعدهم والهدى مُعَلّق باتباعهم كما في قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }التوبة100
... فاشترط الله للرضى عمن يأتي بعدهم أن يكون متبعا لهم بإحسان أي موافقاً لما كانوا عليه لا يخالفهم ولا يخرج عن أقوالهم.
... وأعظم شيء يجب اتباعهم فيه هو عبادة الله جل وعلا والتقرب إليه بأنواع القربات، وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره، لأنهم كانوا أعظم حباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ممن بعدهم، وأعظم توقيراً له، وأعرف الناس بحقه وما يجب له.
... قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً }النساء115
... والصحابة - رضي الله عنهم - هم أول المؤمنين،وأعظم المؤمنين، فمشاقة طريقهم ضلال وخسران.
... قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }آل عمران110
... وهم أفضل الأمة، ولا يمكن أن يفوت خير الأمة وأفضل القرون شيء من الخير والعبادة المحبوبة لله.
... وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) متفق عليه(1) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -
__________
(1) رواه البخاري (2652) ومسلم (2533)(1/30)
... وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما رواه الدارمي(1) وغيره : (اتبعوا ولا تبتدعوا )
... وقال أيضاً : (ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق )(2)
... وروى الإمام أحمد(3) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير القلوب فبعثه نبياً، واصطفاه لنفسه، واستخلفه وابتعثه بالرسالة، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء لنبيه يقاتلون عن دينه، فما رآه المسلمون حسنا - أي الصحابة - فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء) والمراد بالمسلمين هنا الصحابة رضوان الله عليهم.
... وقال حذيفة - رضي الله عنه - فيما رُوي عنه: (كل عبادة لم تفعلها الصحابة فلا تفعلوها ).
... وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما رواه ابن عبد البر في الجامع(4): (من كان منكم متأسياً فيتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم )
... وقال ابن سيرين : (كانوا يرون أنه - أي الرجل - على الطريق ماكان على الأثر) رواه الدارمي(5)
... وقال الإمام مالك كما في العتبية: (ولن يأتي آخر هذه الأمه بأهدى مما كان عليه أولها )(6)
... والآثار في هذا الباب كثيرة جدا قد ذكرها أئمة السنة في كتبهم.
__________
(1) سنن الدارمي (1/80) وغيره
(2) رواه الدارمي (1/66) وغيره
(3) 1/379)
(4) باب ما تكره فيه المناظرة والمجادلة
(5) 1/66)
(6) التاج والإكليل (كتاب الصلاة/باب السجود/فصل في سجود التلاوة) والمدخل لابن الحاج (فصل زيارة سيد الأولين والآخرين)(1/31)
... وعلى هذا فكل من ادعى في أمر أنه عبادة يحبها الله، فانظر هل أمر به الله عز وجل أو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعله أحد من الصحابة، فإن لم يكن شيء من ذلك، فاعلم أنه بدعة محدثة. إذ لو كان من الخير المحبوب لله ما فات الصحابة رضي الله عنهم ولا يمكن أن يجهله خير القرون ويهتدي إليه من بعدهم.
فكل ما وجد مقتضاه والداعي إليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ولم يكن منه مانع ، ولم يفعلوه، فإنه بدعة محدثة منكرة.
... مثال ذلك : الاحتفال بالمولد النبوي ، فإن الدافع له والمقتضي هو إظهار حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ، وهذا المقتضي لا يزال مطلوباً في كل زمن ووقت ، في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي وقت الصحابة ، فلما وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه ، وكذلك صحابته - رضي الله عنهم - مع وجود سببه وعدم وجود مانع منه ، دل ذلك على أن تركه هو السنة ، وفعله بدعة.
... قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله كلمة عظيمة جامعة رائعة فيما رواه أبو داود في سننه(1) عنه أنه كتب إلى صاحب له يوصيه. فقال :
__________
(1) سنن أبي داود (4/203)(1/32)
... (أما بعد، اوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في امره، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكُفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة فإنها لك -باذن الله- عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كَفُّوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مَقْصَر، وما فوقهم من مَحْسَر، وقد قصر قوم دونهم فَجَفْوا، وطَمَحَ عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ).
... وقال صاحب مجالس الأبرار فيما يتعلق بالأفعال التعبدية التي لم تكن على عهد الصحابة فيما نقله عنه الألوسي في غاية الأماني(1) ما ملخصه: (لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول: إما لعدم الحاجة إليها، أو لوجود مانع، أو لعدم تنبه، أو لتكاسل، أو لكراهة، أو لعدم مشروعيته، والأولان منتفيان في العبادات البدنية المحضة لأن الحاجة إلى التقرب إلى الله لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يُظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عدم التنبه أو التكاسل، فذاك أسوأ الظن المؤدى إلى الكفر، فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة).
ليس في الدين بدعة حسنة بل كل البدع ضلالة
... قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( كل بدعة ضلالة )(2)، ويقول علماء اللغة أن "كل" نص في العموم، فيفيد الحديث أن كل البدع ضلالة ليس منها بدعة حسنة .
__________
(1) غاية الأماني (1/366)
(2) سبق تخريجه(1/33)
... وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة )(1).
... وقال الإمام مالك: ( من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله تعالى يقول {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المائدة3 فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً )(2).
... وقال الشافعي: ( من استحسن فقد شرّع )(3).
... وقال الحافظ ابن رجب: (فقوله - صلى الله عليه وسلم - "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".
فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يُرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية.
__________
(1) رواه البيهقي في المدخل (1/180) والمروزي في السنة (ص 29) واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1/92)
(2) رواه ابن حزم في الإحكام (6/225)
(3) ذكره الآمدي في الإحكام (4/162) وغيره(1/34)
فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: "نعمت البدعة هذه"، وروى عنه أنه قال: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة"، وروى عن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: "قد علمت ولكنه حسن"، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصلٌ في الشريعة يُرجع إليها فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحداناً وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يُكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به وهذا قد أُمِن بعده - صلى الله عليه وسلم - )(1).
... وتعريف البدعة هي (التعبد لله بما لم يشرعه الله في كتابه ولا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - )
__________
(1) جامع العلوم والحكم ؟؟؟(1/35)
... والمراد بالبدعة هنا: البدعة في الدين، أي الأمور المحدثة مما يراد بها التعبد إلى الله، ولا يدخل في ذلك البدع الدنيوية، أي الأمور الذي يستحدثها الناس في دنياهم مما ينتفعون بها في معايشهم، كالاختراعات الجديدة مثل وسائل النقل وغيرها، فهذه لا تدخل في البدع المذمومة المحرمة، لأنها أمور دنيوية لا دينية. وقد يُستعان بهذه الأمور الدنيوية في الأمور الدينية، كما يُستعان بمكبر الصوت ونحو ذلك في العبادات، فيكون فيها نفع في الدين، ولا يُخرجها ذلك عن كونها أموراً دنيوية لا دينية، والعبد إذا استعان بها في طاعة الله أثيب على ذلك لأجل النية، لا لكونها عبادة في نفسها، كما قال علي - رضي الله عنه -: ( إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي )، أي: ينام ليستعين بالنوم على القيام ويحتسب نومه عند الله، وهذا بلا ريب لا يجعل النوم عبادة، ولكن الله يثيب المسلم إذا استعان به على طاعته، وهذا أجر النية، وهو من أمور الوسائل ، وأما العبادات ذاتها فهي من المقاصد .
... ولذلك يقول العلماء: ( الأصل في العبادات التوقيف )، أي: الأصل في كل عبادة أن يُتوقّف فيها حتى يوجد عليها دليل من كتاب أو سنة، فإن لم يوجد دليل فلا يجوز التعبد بها.
... وأما ما كان من الأمور الدنيوية التي ينتفع بها الناس في معاشهم، وتقوم بها مصالحهم، فإذا لم يرد منع منها في الشرع فهي على الحل والإباحة، وهي التي يسميها بعض العلماء بالمصالح المرسلة.
... مثال البدعة في الدين: صلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة الرغائب، حيث لم يشرعهما النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدخل في البدع كذلك الاحتفالات المحدثة، كالاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بليلة الإسراء والمعراج ، أو بليلة النصف من شعبان.(1/36)
... ومثال البدع الدنيوية: الاختراعات الجديدة، ومنها ما يُستعان بها في الدين: كالمدارس، وتقسيم العلوم إلى فقه وعقيدة وحديث ونحو ذلك، فهذه وسائل معينة على العبادة، وليست عبادة مقصودة لذاتها .
الأصل الثامن عشر :لا يُفَسَّر القرآن إلا بما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، ولا يُستدل بحديث إلا بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينسب قول إلى الأئمة إلا بما ثبتت نسبته إليهم :
... القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فبلغه للناس لفظاً ومعناً، وبيّن لهم معانيه.
... قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }النحل44 ، وبَلّغ الصحابةُ رضي الله عنهم معانيه إلى من بعدهم ، فليس منه بحمد الله شيء يخفى معناه عن كل أحد.
فإذا اتفق الصحابة على تفسير آية لم يجز خلافهم فيها، وإذا اختلفوا على قولين فيها لم يجز أحداث قول ثالث.
... والسنة قرينة القرآن تفسره وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، ولا يصح الاستدلال بشيء من السنة المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير إلا بما صح عنه بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير قطع في السند ومن غير شذوذ ولا علة. أو بما نزل عن رتبة الصحيح إلى الحسن بأن يخف ضبط بعض رواته خفة لا تسقطه عن درجة الاحتجاج.
... وأما الأحاديث الضعيفة والمنكرة فضلاً عن الموضوعة والحكايات غير المسندة فلا يُستدل بها ولا يُحتج بها ولا تُروى إلا على سبيل بيان ضعفها ونكارتها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )(1)، وقوله (يُرى) أي يظن، وهذا يستلزم على العبد أن لا يحدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا ما يعلم ثبوته وصحته، وإلا كان أحد الكاذبين .
__________
(1) رواه مسلم في المقدمة(1/37)
... والأقوال المنسوبة إلى الأئمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم كأحمد وإسحاق والمروزي إذا لم تصح عنهم بالسند الصحيح إليهم أو بما نقله عنهم أصحابهم الذين عاصروهم، فلا يحل نسبتها إليهم، ومن نسب إليهم ما لم يثبت فقد كذب وافترى ، قال تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36 .
الأصل العشرون : لا يقدم قول أحد كائناً من كان على الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة :
... الأصل الواجب اتباعه عند التنازع هو الرد إلى الكتاب والسنة.
... قال تعالى : { َإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59
... فكل قول يخالف الكتاب أو السنة فهو مردود على قائله مهما كانت منزلته.
... قال - صلى الله عليه وسلم - : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه مسلم(1) .
وعلى هذا سار الصحابة - رضي الله عنهم - من تعظيم الدليل من الكتاب والسنة ، وردّ كل ما خالفها من الأقوال ، ولو كانت أقوال أكابر الصحابة. والأمثلة عنهم في هذا الباب كثيرة، إليك بعضها:
... كان ابن عباس - رضي الله عنه - يأمر الناس بالتمتع في الحج، فعارضه أحدهم بقوله: إن أبا بكر وعمر كانا ينهيان عن حج التمتع، فقال: (أراهم سيهلكون أقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقول : نهى أبو بكر وعمر)(2).
... وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يأمر الناس بحج التمتع، فأكثر بعض الناس معارضته بأمر عمر - رضي الله عنه - قال لهم: ( أفكتاب الله عز وجل أحق أن يتبع أم عمر )(3). ...
__________
(1) صحيح مسلم (1718)
(2) رواه أحمد (1/337) والضياء في المختارة (10/331) وغيرهما
(3) رواه البيهقي في السنن (5/21)(1/38)
... ولما كان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول في دية الأصابع : (في الأصابع عشرٌ عشرٌ)، أرسل مروان بن الحكم إليه فقال: أتفتي في الأصابع عشرٌ عشرٌ، وقد بلغك عن عمر - رضي الله عنه - في الأصابع – أي بخلاف قولك- فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: ( رحم الله عمر ، قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع من قول عمر - رضي الله عنه - )(1).
... وبهذا أوصى الأئمة المرضيون :
(1) قال أبو حنيفة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)(2) . وقال أيضاً : (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) . (3)
(2) قال مالك: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ذكره ابن عبد البر في الجامع(4) .
(3) قال الشافعي: (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد) ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين(5) .
... وقال أيضاً (إذا صح لكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به ودعوا قولي )(6)
(4) قال الإمام أحمد: (رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار) رواه ابن عبدالبر في الجامع(7) .
... وهكذا كل إمام من أئمة السلف يوصي باتباع الكتاب والسنة، وترك كل قول يخالفه، وهذا مما أجمعت عليه الأمة.
الأصل الحادي والعشرون : كل قول خالف الدليل لزم إنكاره
__________
(1) رواه البيهقي في السنن (8/93) وغيره
(2) ذكره ابن عابدين في حاشيته (1/63)
(3) ابن عابدين في حاشيته على البحر الرائق (6/293)
(4) باب معرفة أصول العلم وحقيقته
(5) 1/7)
(6) رواه ابن حبان في صحيحه (3/284 بترتيب ابن بلبان)
(7) باب ما جاء في ذم القول في دين الله تعالى بالرأي والظن والقياس على غير أصل وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار(1/39)
... كل قول مخالفٍ للدليل من الكتاب أو السنة أو عمل السلف فإنه منكرٌ يجب إنكاره وبيان خطأه ومخالفته للدليل مهما كانت منزلة قائله ومكانته، لئلا يغتر به من سمعه، وهذا الأمر من خصائص هذه الأمة التي فضلها الله عز وجل عن سائر الأمم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ }آل عمران110 .
وليس في الإنكار على من خالف الدليل تقليلٌ من شأن قائله أو ازدراءه أو احتقاره، ولا يُفهم منه عدم احترامه وتقديره، بل هذا من البرّ به ومن نصحه، ومن الإحسان به، ولذلك لم يزل الصحابة والعلماء يردّ بعضهم على بعض بالدليل من الكتاب والسنة مع التقدير والاحترام. والحقّ أحب إليهم من الرجال .
... ولا تصح مقولة (لا إنكار في مسائل الخلاف) فإن هذا قول باطلٌ لا يُعلم أحد من أئمة الإسلام ذكره ، بل هو مخالف لإجماع الأئمة ، وبيان ذلك أن الأقوال المخالفة على نوعين :
... (الأول) : ما كان عليه دليل من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف ، فهذا للاجتهاد فيه مجال فلا إنكار فيه فيقال إذاً (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) .
... (الثاني) : مالم يكن عليه دليلٌ من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف ، فهذا ينبغي إنكاره مهما كانت مكانة ومنزلة القائل به، وعلى هذا قول الأئمة وأمثلة ذلك كثيرة منها :
... (1) ما نص عليه الإمام أحمد من أن من تزوج من ابنته من الزنا يُقتل ، مع أن هذا القول قد قال به الشافعي رحمه الله .
... (2) عدم اعتبار الإمام مالك والشافعي وأحمد لخلاف أبي حنيفة لهم فيمن تزوج ابنته أو أمّه من أنه لا يُقام عليه حد الزنا بل يُدرأ بالشبهة ، فقال أحمد : يُقتل ، وقال الإمام مالك والشافعي : يُقام عليه حد الزنا.
... (3) ما اتفق عليه الأئمة من أن حكم القاضي إذا خالف كتاباً أو سنة فإنه يُنقض ، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء .(1/40)
... (4) قول فقهاء الحديث بإقامة الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه ، و هذا أكبر من مجرد إنكار اللسان .
... قال ابن القيم : ( قولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل ، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقاً ، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله ، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار... إلى إن قال : وإذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغٌ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً ، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد ، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم ، والصواب ماعليه الأئمة )(1) .
ومما يدخل في هذا الأصل مسألة السؤال بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتوسل به كما في قول الداعي (اسألك بحق محمد أو بجاه محمد)، فإن هذه الوسيلة مخالفة لظاهر الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة من التوسل إلى الله إما بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته كما كانوا يستسقون بدعائه، وإما بالإيمان به واتباعه. ولم يثبت هذا النوع من السؤال والتوسل لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من السلف بإسناد صحيح ثابت عنه، ولم يذكره أحد من الأئمة بل ورد عنهم النهي عنه كما ثبت عن أبي حنيفه وأبي يوسف فيما ذكره عنهم أصحابهم في كتبهم: (ولا يقال بحق نبيك ورسلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق )(2) .
__________
(1) إعلام الموقعين (3/300)
(2) تبيين الحقائق (كتب الكراهية/فصل في البيع) وفتح القدير (كتاب الكراهية/مسائل متفرقة) .(1/41)
... فالقول بجواز هذا الدعاء مع مخالفته لظاهر الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة خطأ وجهل، مع ما فيه من المخالفة العقلية حيث أن السؤال بذات الشخص من غير أن يكون منه عمل أو من السائل عمل تجاهه يحبه الله، لا يقتضي إجابة سؤاله كما سبق بيانه، فهل يسوغ أن يُقال أن هذه المسألة من مسائل الخلاف التي لا يجوز فيها الإنكار ؟ .
... الجواب : الصحيح أنها ليست كذلك بل هي من البدع المحدثه التي يجب إنكارها، وأن يُعلّم الناس بدلاً منها ما ثبت في الكتاب والسنة من التوسلات الصحيحة بالأعمال الصالحة ونحو ذلك، فكيف إذا انضاف إلى هذا أن القول بجوازها يفتح باب الإستغاثه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه من دون الله، وهو الحاصل فعلاً من كثير ممن ينادي بها.
الفصل الثاني
شبه القبوريين والرد عليها
شبه القبوريين أنواع
منها: ما هو قصص وحكايات. لا يصعب على كل من أراد باطلا أن يُحدِث مثلها.
ومنها: أحاديث موضوعة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومنها: أحاديث ضعيفة لا يصح الاحتجاج بها وغالبها يخالف نصوصاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع.
ومنها: أحاديث صحيحة وهي قليلة، إلا أنها لا تدل على باطلهم بل تدل على خلافه ، مثلها مثل ما يستدلون به من آيات ويفسرونها بما تهواه أنفسهم من غير سلف من الصحابة والتابعين.
ومنها: ما هو قول عالم متأخر لا يعتبر قوله حجة في دين الله لو سلم من المعارضة، فكيف إذا خالف الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة. ومعلوم أن أقوال العلماء وإن عظموا يحتج لها لا بها، فكل يؤخذ من قوله ويُرد.
( الشبهة الأولى )(1/42)
... قولهم بجواز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل ودعائه والاستغاثة به بعد موته مستدلين بما رواه الترمذي والنسائي وغيرهم بسند صحيح(1) من حديث عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - أنه قال: (أتى رجل ضرير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت وهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في).
قالوا: ففي هذا الحديث التوسل والنداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
... والجواب أن هذا ليس فيه حجة على جواز دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ولا التوسل به لأمور: ... (الأول) أنه ليس استغاثةً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو توجه به، فالمسئول هو الله لا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... (الثاني) أن الأعمى إنما توجه بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته لا بذاته، فإنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء، ولذلك قال (فشفعه فيّ)، فدل على أنه كانت شفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - له وهو دعاؤه، وإلا كان قوله (فشفعه في) لا معنى له إذا لم يكن دعاء وشفاعة سبقت.
... وهذا هو التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في عرف الصحابة - رضي الله عنهم - وهو أن يأتي الصحابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويطلب منه الدعاء له، ثم يسأل الله قبول دعاءه. يدل عليه ما ثبت في صحيح البخاري(2) أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب أي بدعائه - فقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) فيُسقون .
__________
(1) رواه الترمذي (5/569) وقال : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، والنسائي في الكبرى (6/168)
(2) 1010)(1/43)
... (الثالث) أن يُقال: لو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم جائزاً، لما احتاج الأعمى أن يذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكان بوسعه أن يدعو في بيته ، فلما لم يفعل ذلك، بل تكلف وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه الدعاء دل على أن التوسل المراد بالحديث هو التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بجاهه وذاته.
... (الرابع) أن التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان جائزا بعد موته، لفعله الصحابة - رضي الله عنهم -، فكونهم تركوه مع قدرتهم عليه ووجود المقتضى يدل على أنه بدعة محدثة. ولذلك استسقى الصحابة بالعباس بن عبدالمطلب واستسقى معاوية - رضي الله عنه - بيزيد بن الأسود الجرشي لما قحطوا - أي بدعائهم.
... فلو استدرك أحدهم وقال: لقد روى الطبراني في الكبير(1) وغيره هذا الحديث وفيه أن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - قد أمر رجلا في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - - أي بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -- بأن يقول هذا الدعاء مستدلاً بحديث الأعمى.
فالجواب أن يقال:
... (أولا) أن هذه الزيادة منكرة غير محفوظة، فقد تفرد بها رجل يسمى شبيب بن سعيد الحبطي وله منكرات، وأحسن حديثه ما رواه ابنه عنه من نسخة يونس عن الزهري وليس هذا منها، وأضعف حديثه ما رواه ابن وهب عنه وهذا منها.
... كما أنه خالف من هو أوثق منه وهما شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائي فإنهم لم يذكروا هذه الزيادة فتبين أنها من منكراته.
... (ثانيا) أن مثل هذا لو صحت القصة فلا تثبت به شريعة، كسائر ما يُنقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفه ولا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها.
( الشبهة الثانية )
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير (9/30)(1/44)
... استدلالهم على جواز الاستغاثة بالأموات بقوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }القصص15، وبحديث الشفاعة الطويل في يوم القيامة وأن الناس يستغيثون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليشفع لهم عند الله. وقول هاجر عليها السلام فيما رواه البخاري(1) من قصتها مع إبراهيم عليه السلام (إن كان عندك خير أو غواث)(2).
... فالجواب عليها من وجوه:
... (الأول) أن الآية إنما فيها الخبر عن هذا الإسرائيلي وليس هو ممن يحتج بأفعاله، وقد قال موسى عليه السلام له (إنك لغوي مبين). ومثله قول هاجر فإنه ليس بحجة في الشرع.
... (الثاني) أن هذه الاستغاثة إنما تكون في حال الحياة والحضور لا في حال الموت والغيبة، فإن استغاثة الإسرائيلي بموسى كانت عندما رآه. وكذلك هاجر عندما سمعت صوتا. وكذلك استغاثة الناس بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة في حضرته وقدرته على دعاء الله والشفاعة عنده. والتسوية بين حال الحياة والموت من أبطل الباطل.
( الشبهة الثالثة )
... استدلالهم بقوله تعالى:{ َلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }النساء64 ، على جواز الذهاب إلى قبره وطلب الاستغفار منه. وربما ذكروا معها ما ذكره العتبي من قصة أعرابي أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلا هذه الآية ثم قال:
... يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
... نفس الفداء بقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
... ثم رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فأخبرة بمغفرة الله له.
... فالجواب على هذا وبيان بطلانه من وجوه:
__________
(1) 3365)(1/45)
... (أولها) أن «إذ» في اللغة ظرف لما مضى كما أن «إذا» ظرف لما يستقبل، وقد ذكر هذا أهل اللغة كابن منظور في لسان العرب(1) وغيره، وعلى هذا فتكون الآية تتحدث عن واقعة معينة حدثت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}الأنفال30، وقوله : {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا }الأحزاب13.
... ولا تكون «إذ» ظرف لما يستقبل إلا إذا جاءت بعد ترى وكانت فيما يعلم أنه من أمور المستقبل كأحوال القيامة ومنها قوله : {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }الأنعام27.
... (الثاني) أن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا من هذه الآية أنها في حياته، ولذلك لما توفى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهتان وافترى على كل الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم خير القرون على الاطلاق حيث تركوا هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، وكيف أغفل هذا أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة فلم يدعوا إليه ولم يرشدوا إليه ولم يفعله أحد منهم البتة، ووُفِّق له من لا يُؤبه له من الناس ولا يُعد من أهل العلم.
__________
(1) باب "إذ"(1/46)
ويا لله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها حي بين أظهرها موجود، وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن هذا المجيء، فلما توفى النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له. وهذا يبين أن التأويل الذي ذكروه باطل.
... وأما ما ذكروه من قصة الأعرابي فهي من القصص الكثيرة المختلقة التي ليس لها إسناد معروف ولا يعرف أصحابها، فقد ذكرها العتبي بلا إسناد، ومنهم من ذكر لها إسناداً مظلماً باطلاً ولا يثبت بمثلها حكم شرعي البته.
... ولهم مثل هذه القصص والحكايات الشيء الكثير. فسبحان الله أتترك دلالة الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة لقصة أعرابي لا يعرف.
... (الثالث) أن استدلالهم بهذه الآية على المجيء إلى قبره يناقض ويصادم قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وأبو داود والطبراني في الأوسط(1) وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : (لا تجعلوا قبري عيداً) ، إذ لو كان المجيء للمذنبين مشروعا لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة لدينه ولما جاء به.
... والعيد هو مجتمع الناس وهو إما مكاني وإما زماني.
...
ومثل هذا وقريب منه:
( الشبهة الرابعة )
__________
(1) رواه أحمد (2/367) ، وأبو داود (2/218) والطبراني في الأوسط (8/81)(1/47)
... وهي ما ذُكِرَ عن الإمام مالك رحمه الله أنه ناظر أبا جعفر المنصور أمير المؤمنين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوما فقال: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }الحجرات2 ، ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }الحجرات3 ، وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }الحجرات4 . وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبدالله: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك قال الله تعالى:{ َلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }النساء64.
... والرد عليها من وجوه:
... (أولها) أنها قصة باطلة كسائر ما يستدلون به من قصص، إذ ليس لها إسناد صحيح ولا ضعيف. فإن هذه القصة قد ذكرها القاضي عياض في الشفا(1) عن محمد بن حميد الرازي بها، ومحمد بن حميد الرازي لم يدرك الإمام مالك، وهو معروف بسرقة الحديث وكذبه أبو زرعة وابن خراش وصالح جزرة.
... (الثاني) أنها كذب على الإمام مالك بلا ريب من وجوه:
__________
(1) فصل في وجوب مناصفته صلى الله عليه وسلم(1/48)
... منها: أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة، فإنهم متفقون على أن من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة، كما روى عن الصحابة فعلم بهذا أنه كذب عليه مخالف لمذهبه كما كذبوا عليه في أنه كان يأخذ طنبورا يضرب به ويغني لما كان في المدينة من يغني.
... ومنها: أن مالكا من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكره ابن القاسم عنه في المدونة(1) .
( الشبهة الخامسة )
... هي قولهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره ويَدَّعون الإجماع عليه، ويجعلون هذا دليلا على جواز سؤاله والاستغاثة به، واستدلوا على حياته في قبره بأمور:
(1) ما رواه أحمد وأبو داود(2) وغيرهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من رجل يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) . قالوا وهذا يدل على حياته.
(2) أن الشهيد حي في قبره كما في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }آل عمران169 ، والأنبياء أكمل منهم فيقتضي هذا حياتهم في قبورهم.
(3) أن نساءه لا يحل الزواج بهن بعد موته لقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً }الأحزاب53 ، وإنما منعن من الزواج لبقائهن في عصمته حيث أنه حي في قبره.
__________
(1) المدونة (كتاب الحج الأول / باب رفع اليدين عند استلام الحجر الأسود )
(2) أحمد (2/527) وأبو دود (2/218) وإسحاق في مسنده (1/453) والبيهقي في سننه (5/245) وغيرهم(1/49)
(4) ما رواه الإمام مسلم(1) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (أتيت ، وفي رواية هداب مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره ) ، وهذا دليل على حياته ورسولنا أكمل منه.
(5) ما رواه أبو يعلي والبزار وغيرهما(2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون )
...
... والجواب على هذه الشبهة وبيان زيفها يكون من طريقين:
... (الأول) إبطال الاستدلال بكل دليل على حدة.
... (الثاني) إبطال الاستدلال بجملة المسألة والشبهة وهي حياته في قبره على ما ذكروه من جواز دعائه.
... أما الطريق الأولى:
... (فأولا) الرد على استدلالهم بحديث رد السلام من وجوه:
... منها: أن حديث رد التسليم غاية ما فيه أن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - تُرَدُّ لرد التسليم لا أنها مستقرة باقية في جسده كل وقت وحين.
... ومنها: أن الأحاديث الصحيحة فرقت بين تسليم البعيد على النبي - صلى الله عليه وسلم -وبين تسليم القريب. وبينت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع سلام القريب ويُبَلغُ سلام البعيد. يدل عليه الأحاديث التالية :
... أولها: ما رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان(3) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)
__________
(1) 2375)
(2) أبو يعلى (6/147) وانظر المطالب العالية لابن حجر (3535)
(3) أحمد (1/387) والنسائي في الكبرى (1/380) والصغرى (3/43) وابن حبان في صحيحه (2/ 134 بترتيب ابن بلبان) ، والحكم في المستدرك (2456) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وغيرهم(1/50)
... ثانيها: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان(1) عن أوس بن أوس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر فضل يوم الجمعة ثم قال: (فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ(
... ثالثها: ما رواه أحمد وأبو داود(2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)
... فهذه الأحاديث وغيرها تبين أنه يُبلّغ سلام البعيد ولا يسمعه فيكون حديث رد السلام خاصاً بالقريب، وهذا الحديث هو الذي استند إليه الإمام أحمد وأبو داود على جواز زيارة قبره، إذ فهموا منه السلام من قريب جمعاً بين الأحاديث.
... ومنها: أن رد الروح على الميت ليرد السلام ليس خاصاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو لكل أحد ، لما رواه ابن عبد البر وصححه من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - والبيهقي في الشعب(3) من حديث أبي هريرة : - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) ، فهل يقتضي هذا حياة الناس كلهم في قبورهم، وجواز الاستغاثة بهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
... ومثله ما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال أصحابه إذا ولَّو عنه بعد دفنه كما في الصحيح.
... (ثانياً) الرد على استدلالهم بحياة الشهيد في قبره، من وجوه:
__________
(1) أبو داود (1/88،275) وابن ماجه (1/345،524) والنسائي في الكبرى (1/519) وابن حبان في صحيحه (2/132 بترتيب ابن بلبان) ، والحاكم في المستدرك (1/413) وقال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ، وغيرهم
(2) سبق تخريجه
(3) شعب الإيمان للبيهقي (7/17) وانظر تفسير ابن كثير (3/439) في تفسير آية (52) من سورة الروم(1/51)
... منها: أن حياة الشهيد منصوص عليها، ومع ذلك نهينا عن دعائهم والاستغاثة بهم، فيكون ما ذكروه من حياة الشهيد دليلاً لنا لا لهم.
ومنها: أن الآية التي بين الله فيها حياة الشهداء قد ذكر الله عز وجل فيها أن الشهداء في حياتهم هذه (يُرزقون) أي يرزقهم الله من خيرات الجنة، فكيف يطلب منهم الرزق ونحوه وهم لا يرزقون أنفسهم بل يرزقهم ربهم.
... ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن حقيقة حياة الشهداء بعد الموت فقال فيما رواه مسلم(1) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل)
... (ثالثاً) الرد على استدلالهم على حياته بحرمة نكاح نسائه من وجوه:
... منها: أن الأمة مجمعة على حل نكاح نساء الشهيد مع النص على حياته فدل على أن حياة الشهداء في قبورهم ليست كحياتهم في دنياهم.
... ومنها: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أتين بعدة شرعية بعد موته، وكذا نساء الشهداء، مما يدل على بطلان ما استدلوا به من كونه حياً كحياته الدنيوية.
... ومنها: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حرم عليهن النكاح بعده خصيصة لهن، لأنهن اخترن الله ورسوله لما خيرهن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الله ورسوله وبين زينة الحياة الدنيا، ولأنهن زوجاته في الآخرة فصانهن الله عن فراش ثان.
... (رابعاً) الرد على استدلالهم برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموسى وهو يصلي في قبره. من وجوه:
... منها: أن هذا ليس خاصاً بموسى عليه السلام، فقد روى ابن حبان في صحيحه(2) من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إذا دخل الميت القبر، مُثِّلت له الشمس عند غروبها فيقول دعوني أصلي) ، وهذا مع الموت المحقق له ومنه الحديث الذي سبق ذكره (أن الانبياء أحياء في قبورهم يصلون)
__________
(1) 1887)
(2) 5/47 بترتيب ابن بلبان)(1/52)
... ومنها: أن رواية رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لموسى وهو يصلي في قبره في المعراج قد أعلها بعض العلماء كالدارقطني(1) ، وإن كان مسلم قد رواها.
... وأما الطريق الثاني: فهو الجواب عن جملة المسألة وهي حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره كحياته الدنيوية وجواز الاستغاثة به لأجلها. فالرد عليها وبيان بطلانها من وجوه:
... (أولها) أن دعوى حياته في قبره الحياة المعهودة مناقض ومصادم لقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}الزمر30 ، ولقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }الأنبياء34 ، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }الأنبياء35
... (الثاني) أنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حياً في قبره كالحياة الدنيوية المعهودة التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس والنكاح وغير ذلك، بل حياته - صلى الله عليه وسلم - حياة برزخية وروحه في الرفيق الأعلى، وكذلك أرواح الأنبياء، والأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. ولا تقاس الحياة الدنيا بالحياة البرزخية. كما لا تقاس حياة الجنين في بطن أمه بالحياة الدنيوية وكذلك الحياة الاخروية، فقياس حياة على حياة من أبطل الباطل.
__________
(1) علل الدارقطني (7/262)(1/53)
... (الثالث) أنه لو كان حياً يسمع السائل ويجيب الداعي لأفتاهم في شرائع الإيمان، وأراح أمته من كثير من المسائل التي أعيت الصحابة، فكيف يشهد اختلافهم واقتتالهم ولا يجيب ولا يحل الإشكال، وكيف يحصل ما حصل من النزاع ولا يأتيه أحد إلى قبره يستغيثه ويسترشده لأنه حي كما يزعمون في قبره. وقد قال عمر - رضي الله عنه - فيما رواه البخاري(1) : ( وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا). وما بال الصحابة إذا قحطوا يستسقون بدعاء العباس - رضي الله عنه - والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي بجانبهم لا يأتونه ولا يستسقونه وهل هذا إلا دليل صريح على بطلان ما زعموه وادعوه.
( الشبهة السادسة )
... قولهم أن الأموات ينفعون الأحياء مستدلين بما رواه البزار(2) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت لكم) وهذا يدل على انتفاع الأحياء بدعائه بعد مماته، وعليه فيسوغ لنا دعاؤه والطلب منه، ويدل على ذلك أيضا ما رواه أحمد(3) عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: ( إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم ، فإن كان خيراً استبشروا ، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
... (أولها) أن حديث (حياتي خير لكم ) فهو مختلف في ثبوته وصحته ، فقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة(4) .
__________
(1) 5588)
(2) البحر الزخار (5/308) ، ونحوه عن بكر المزني مرسلاً روه ابن سعد في الطبقات (2/194) وزوائد مسند الحارث للهيثمي (2/884)
(3) أحمد (3/164) والطيالسي (284) نحوه من حديث جابر والطبراني في الكبير (4/129) والأوسط (1/54) من حديث أبي أيوب
(4) حديث رقم (975)(1/54)
... وأما حديث (إن أعمالكم تعرض على أقاربكم ) ففيه انقطاع ، وله شاهد ضعيف جداً من حديث أبي أيوب وفيه مسلمة بن الخشني ، وهو متّهم ، قال الحاكم : (روى عن الأوزاعي والزبيدى المناكير والموضوعات)
... وشاهد آخر من حديث جابر وهو ضعيف جداً أيضاً فقد تفرد به الصلت بن دينار وهو متروك ناصبي كما قال الحافظ في التقريب ، وفيه انقطاع أيضاً ، والحديث قد ضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد والألباني في السلسلة الضعيفة(1) .
... (الثاني) أنه على فرض ثبوت صحته فإنه لا يدل على جواز الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، إن كان ما يزعمون من دلالته حق لأنه عام لكل المؤمنين كما مر في الحديث السالف الذكر فهل يسوغ للمسلم أن يدعو كل مؤمن ويستغيث به!!
... (الثالث) أن هذا كله حاصل بأمر الله عز وجل، وأمره في غير دار التكليف أمر تكوين لا يُتصور مخالفة المأمور، كما أن أهل الجنة يُلهمون التسبيح كما يُلهمون النفس وليسوا مكلفين وكذلك استغفار الملائكة للمؤمنين ولمنتظري الصلاة وغيرهم كما في قوله عن الملائكة {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا }غافر7 ، وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} الشورى5
... وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه(2) : (لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ، تقول الملائكة اللهم اغفر له اللهم ارحمه). ومع هذا فلا يجوز أن يدعو الملائكة ولا يستغيث بهم ولا يطلب منهم ما أخبر الله أنهم يفعلونه، فصار بمنزلة أن يطلب من الشمس أن تصحبه ومن الريح أن تهب ونحو ذلك.
... والقاعدة في هذا أن كل ما يُؤمر بأمر تكوين لا يحتاج أن يُطلب منه، فإنه فاعله طُلب منه أو لم يُطلب، بخلاف الشفاعة يوم القيامة فإنهم يسألونه في العرصات وهو حاضر فيستجيب لهم ويشفع عند ربه بعد أن يأذن له.
__________
(1) مجمع الزوائد (2/327) والسلسلة الضعيفة (863)
(2) البخاري (465) ومسلم (649) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(1/55)
( الشبهة السابعة )
... استدلالهم على الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب الدعاء منه بما رواه وابن ابي شيبة والبيهقي في الدلائل(1) عن مالك الدار خازن عمر أنه قال: (أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: إئت عمر فأقرئه السلام وأخبره إنكم تسقون، وقل له: عليك الكيس ، عليك الكيس. فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه )
والرد عليها من وجوه:
... (أولها) أن القصة لا تثبت لجهالة حال مالك الدار خازن عمر، فإنه لا يعرف بالضبط في رواية الحديث ، أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال المنذري: (لا أعرفه )(2).
... (الثاني) أن الرجل الذي أتى القبر مجهول لا يعرف، فكيف يُعوّل في هذه القصة على روايته وقد خالفها الاجماع المنعقد على مقتضى النصوص الواردة فيما يشرع عند وجود القحط من استغفار الله والتوبة.
وما قيل: أن المجهول هو بلال بن الحارث الصحابي. فلا يصح لأنه من رواية سيف بن عمر ذكرها في الفتوح، وسيف بن عمر المتفرد بهذه الزيادة ضعيف باتفاق المحدثين(3) ، بل قيل إنه كان يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة ، قال ابن حبان (يروي الموضوعات عن الأثبات، وكان يضع الحديث).(4)
... (الثالث) أنه لو صح لم يكن دليلا على ما ذكروا، إذ ليس في الحديث أنه أخبر عمر - صلى الله عليه وسلم - بالاستسقاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) ابن أبي شيبة (6/356) ودلائل النبوة للبيهقي /باب ما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
(2) الترغيب والترهيب (باب الترغيب في الإنفاق في وجوه الخير كرما والترهيب من الإمساك والادخار شحا )
(3) ميزان الاعتدال (2/255)
(4) ????(1/56)
... (الرابع) أن هذه القصة حجة على المنازع لأن الرجل لما طلب الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته لم يقل له: أنا أدعو لكم، بل أمره بما شرعه وسنه لهم وهو أن يدعون الله ويستسقون.
... (الخامس) أن القصة مخالفة لفعل الصحابة فقد ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يستسقى بدعاء العباس كما مر سابقا مما يدل على نكارتها.
... (السادس) أن القصة منكرة المتن لمخالفتها ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء في مثل هذه الحالات.
( الشبهة الثامنة )
... وهي استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ }المائدة35 وقالوا: الوسيلة هو التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته والاستغاثة به.
والجواب عليها من وجوه:
... (أولها) أن هذا من أبين الباطل لمخالفته لما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين في تفسيرها. فقد فسرها الصحابة والتابعون بالقربة والطاعة، أي تقربوا إليه بفعل الطاعات. وهذا ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وأبي وائل، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وعبدالله بن كثير، والسدي، وابن زيد، وذلك فيما رواه الطبري بلا خلاف بينهم.
... (الثاني) أنه لو جاز لكل أحد أن يفسرها بما يشتهيه، ولو خالف مما ثبت عن الصحابة والتابعين في تفسيرها، لما عجز كل مبطل ومفسد أن يستدل بها على ما يريد ولو خالف تفسيره النصوص.(1/57)
... (الثالث) أن الوسيلة في هذه الآية هي نظير الوسيلة المذكورة في سورة الإسراء، فإنه لم تذكر الوسيلة في القرآن إلا مرتين. والوسيلة في الإسراء في قوله: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا . ًأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }الإسراء57 ، وهذه الآية قد مر معنا أنها نزلت فيمن كان يعبد الملائكة والأنبياء والأولياء ، فبين الله عز وجل أن هؤلاء المدعوين المعبودين من دون الله كالأنبياء والأولياء هم يتقربون إلى الله بالوسيلة أي القربة والطاعة ، فكيف يكونون هم الوسيلة وهم يبتغون إلى الله الوسيلة ، فبطل بهذا قولهم أن الوسيلة هي التوسل بالأنبياء والصالحين.
( الشبهة التاسعة )
... استدلالهم على جواز التوسل بكل عبد حياً كان أو ميتاً بما رواه أحمد وابن ماجه(1) في دعاء الخروج إلى المسجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك) إلى آخر الحديث.
... فالرد عليها وبيان بطلانها من وجوه:
... (أولها) أن هذا الحديث لا يصح لأن فيه عطية العوفي وهو ضعيف الحديث، قال عنه الذهبي في الكاشف (ضعفوه) ، وقال ابن حجر في التقريب: (صدوق يخطئ كثيراً وكان شيعياً مدلساً) ولم يصرح عطية العوفي بالتحديث في هذا الحديث.
__________
(1) أحمد (3/21) وابن ماجه (1/256) وغيرهم(1/58)
... وأما ما رواه ابن السني في أذكار اليوم والليلة(1) عن بلال رضي الله عنه بنحوه فهو أشد ضعفاً ونكارة ، ففيه الوازع بن نافع العقيلي وهو واهٍ جداً ، قال عنه البخاري: منكر الحديث ، وقد قال البخاري: (كل من قلت فيه منكر الحديث لا تحل الرواية عنه ) ، وقال النسائي عنه: متروك. (2)
... (الثاني) أن الحديث ليس فيه دليل على جواز التوسل بالمخلوق، وإنما فيه سؤال الله بحق السائلين وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه هو سبحانه على نفسه لا هم أوجبوه عليه، فليس للمخلوق أن يوجب على الخالق شيئا.
... (الثالث) إذا كان حق السائلين هو الإجابة وحق العابدين هو الإثابة، فالإجابة والإثابة فعل له جل وعلا. فهو إذاً سؤال له بأفعاله لا بذوات المخلوقين. كالاستعاذة ونحو ذلك. كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك)(3) فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله كالسؤال بإثابته التي هي فعله.
... (الرابع) أن أقل ما فيه على فرض صحة استدلالهم به أنه توسل لله بالذوات والمتُوَسُل به مطلوبٌ به لا منه. وهو بدعة، وليس فيه جواز الاستغاثة بالأموات والطلب منهم.
( الشبهة العاشرة )
... استدلالهم على التوسل بالأموات بما رواه الطبراني في الكبير(4) من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عندما توفيت أم علي - رضي الله عنه - وهي فاطمة بنت أسد: (اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ، ووسع عليها مدخلها ، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي)
... والجواب عليها من وجوه:
... (أولها) أنه حديث منكر تفرد به روح بن صلاح عن الثوري، وروح ضعيف الحديث، ضعفه الدارقطني وابن عدي، وقال ابن ماكولا: ضعفوه(5) .
__________
(1) باب ما يقول إذا خرج من الصلاة (84)
(2) انظر ميزان الاعتدال (4/327)
(3) رواه مسلم (486)
(4) 24/351) والأوسط (1/67)
(5) ميزان الاعتدال (2/465)(1/59)
... ومما يزيده نكارة، تفرده به عن الثوري، دون أصحاب الثوري المعروفين بالرواية عنه كوكيع وابن مهدي والفريابي وأبي نعيم والقطان.
... (الثاني) أنه لو كان مشروعا لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعمل به الصحابة وسارعوا إليه، وكل هذا لم يكن، ولم يأمر به أحد من العلماء المتقدمين ولا الأئمة، بل نهوا عنه. قال أبو حنيفة وأبو يوسف:(لا يقال اسألك بحق نبيك)(1) .
( الشبهة الحادية عشرة )
... استدلالهم بما رواه البخاري في صحيحه(2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة) على حياته وأنه يمكن أن يُرى ويروون بعض الحكايات المكذوبة عن أناس رأوه.
... والجواب على هذه الشبهة وبيان زيفها من وجوه:
... (الأول) أن هذا الحديث معناه على سبيل التشبيه والتمثيل، أي من رآني فى المنام فكأنما رآني في اليقظة أي بصورتي الحقيقية ، لأن الشيطان لا يتمثل به - صلى الله عليه وسلم - وقد رواه مسلم(3) وغيره بلفظ (فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة) على الشك ؟
__________
(1) انظر ص ؟
(2) 6993)
(3) 2266)(1/60)
... ودليل هذا أن حديث رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام قد رواه عنه أربعة عشر صحابياً: أبو قتادة(1) ، وابن مسعود(2) ، وأبو جحيفة(3) ، وأنس(4) ، وأبو سعيد(5) ، وأبو بكرة(6) ، وجابر(7) ، وابن عباس(8) ،وحذيفة(9) ، وطارق بن أشيم(10) ، وأبو هريرة(11) ، والبراء بن عازب(12) ، وعبد الله بن عمرو(13) ، ومالك بن عبد الله الغثمي(14) رضي الله عنهم.
... اتفقوا كلهم على لفظ (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي) أو قريباً منه مثل (فقد رأى الحق)
... واختُلف على أبي هريرة - رضي الله عنه - فرواه عنه خمسة من أصحابه : أربعة منهم رووه عنه بلفظ الجماعة (فقد رآني) وهم: محمد بن سيرين(15) وكليب الجرمي(16) وعبد الرحمن مولى الحرقة(17) وأبو صالح(18)
... واختُلف على أبي سلمة عنه ، فرواه عنه محمد بن عمرو(19) بلفظ (فقد رأى الحق) موافقاً للجماعة
... ورواه عنه الزهرى واختلف عليه ، فرواه عنه أربعة من أصحابه: يونس وعقيل والزبيدي وابن أخي الزهري :
... اتفقت رواية عقيل(20) والزبيدي(21) وابن أخي الزهري(22) عنه بلفظ (فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة).
__________
(1) البخاري (6996) ومسلم (2267)
(2) الترمذي (4/535) وابن ماجه (2/1284)
(3) ابن ماجه (2/1284) وغيره
(4) البخاري (6994)
(5) البخاري (6997)
(6) ابن عدي في الكامل (2/209)
(7) مسلم (2268)
(8) ابن ماجه (2/1285)
(9) تاريخ بغداد (8/333)
(10) أحمد (3/472) وغيره
(11) البخاري (110) ومسلم (2134)
(12) مسند الروياني (435)
(13) الطبراني في الأوسط (608) مجمع الزوائد (7/181)
(14) الطبراني في الكبير (19/297)
(15) مسلم (2266)
(16) أحمد (2/232)
(17) ابن ماجه (2/1284)
(18) البخاري (110)
(19) أحمد (2/261)
(20) معجم ابن المقرئ ( باب من اسمع عبد الله ) (982)
(21) مسند الشاميين (1712)
(22) مسلم (2267)(1/61)
... واختُلف على يونس ، فرواه عنه ابن وهب(1) بلفظ الجماعة عن الزهري (فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة).
... ورواه أنس بن عياض(2) عنه عن الزهري بلفظ (فقد رأى الحق).
... وخالفهما ابن المبارك(3) فرواه عنه بلفظ الجزم (فسيراني في اليقظة) ، وهذه هي الطريق الوحيد من بين كل الروايات والأحاديث السابقة التي جاءت بلفظ الجزم .
... فتبين بما لا يدعو مجالاً للشك أن لفظ (فسيراني في اليقظة) غير محفوظ، لأنه من رواية ابن المبارك عن يونس عن الزهري مخالفاً لأصحاب يونس عن الزهري ، ومخالفاً لأصحاب الزهري عن أبي سلمة ، ومخالفاً لأصحاب أبي سلمة عن أبي هريرة ، ومخالفاً لأصحاب أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومخالفاً لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه.
... (الثاني) أن العلماء مختلفون في تفسيره على أقوال :
... منها أنه على سبيل التمثيل والتشبيه.
... ومنها أن معناه سيرى في اليقظة تأويلها.
... ومنها أنه خاص بأهل عصره.
... ومنها أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية.
... ومنها أنه يراه في المرآة وهو أبعدها.
... (الثالث) أنه لو كان معناه الرؤية الحقيقية في الدنيا ومخاطبته، لاستلزم بقاء الصحبة له بعد موته وهذا من أبطل الباطل.
... (الرابع) أنه لو كان معناه ما ذكروا لكان أولى الناس به وأكثرهم رؤية له: الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام ولم يثبت عن أحد منهم قط أنه رآه في اليقظة، ولا أخبر بذلك، ولا فهمه من الحديث منهم أحد مما يدل على بطلان ما استدلوا به.
( الشبهة الثانية عشرة )
__________
(1) مسلم (2266)
(2) ابن حبان (7/617 بترتيب ابن بلبان)
(3) البخاري (6993)(1/62)
... استدلالهم على دعاء الأموات والغائبين بما رواه أبو يعلي والطبراني وابن السني(1) عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا ، يا عباد الله احبسوا، فإن لله في الأرض حاضراً سيحبسه عليكم ) .
... والجواب عليها من وجوه:
... (أولها) أن الحديث لا يصح لأن مداره على معروف بن حسان، وهو منكر الحديث كما قال ابن عدي ، وله شاهد ضعيف من حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه وفيه ثلاث علل : فيه راويان ضعيفان هما عبد الرحمن بن شريك ، قال عنه أبو حاتم (واهي الحديث ) ، ووالده شريك القاضي ، قال عنه ابن حجر في التقريب (صدوق يخطئ كثيراً ) ، والعلة الثالثة : الانقطاع . فالحديث لا يقوى بهذا الشاهد ، مع كونه في أصله منكر بتفرد الضعيف ، فلا يصلح أن يُطلب له شاهد يقويه .
... (الثاني) أنه ليس فيه دلالة على ما ذكروا، لأنه نداء حاضر، إما مسلمو الجن أو الملائكة الموكلون. ولذلك قال: (فإن لله في الأرض حاضراً) مما يدل على إنه نداء حاضر موجود يسمع النداء، لا نداء ميت ولا غائب.
... (الثالث) أن الحديث ليس فيه تسمية المنادى بل هو عام، فمن استدل به على نداء شخص معين باسمه فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
... (الرابع) أنه خاص بانفلات الدابة في الفلاة ، لا في كل وقت وحين ولكل من شاء ، ولذلك لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من الأئمة قط ، أنه يجوز الاستغاثة بالأموات والغائبين استدلالاً بهذا الحديث لو صح ، وهذا يستلزم بطلان ما استدلوا به عليه .
( الشبهة الثالثة عشرة )
__________
(1) أبو يعلى (9/177) والطبراني في الكبير (10/217) وابن السني في باب ما يقول إذا انفلتت الدابة (507)(1/63)
... استدلالهم بما رُوى (أن أهل المدينة شكوا إلى عائشة رضي الله عنها القحط، فأمرتهم أن يعملوا من قبره كوة إلى السقف حتى لا يكون بينه وبين السماء حائل ، ففعلوا ، فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل، وتفتقت شحما، وسميّ عام الفتيق)(1)
... والجواب عليها من وجوه:
... (أولها) أنه حديث ضعيف ، ففيه علتان أولهما : سعيد بن زيد ، وقد ضعفه الحفاظ ، فقال فيه يحيى بن سعيد : ضعيف ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، واختصر ابن حجر حاله فقال كما في التقريب : صدوق له أوهام ، وهذا فيما إذا لم يتفرد ، فإن تفرد من هذا حاله فلا يُقبل كما هو الحال في هذه القصة ، والثاني : أبو النعمان الملقب بعارم ، وهو ثقة قد اختلط في آخر عمره ، والحكم في المختلطين أنه لا يُقبل حديثهم إلا ممن روى عنهم قبل الاختلاط ، والراوي عنه في هذا الحديث الحافظ الدارمي ، وهو ممن لا يُعلم : هل روى عنه قبل الاختلاط أم بعده ، وعلى هذا فيتوقف في تصحيح روايته عنه .
... (الثاني) أن الثابت عن الصحابة أنهم إذا قحطوا واستسقوا، دعوا الله إما في المسجد أو في الصحراء.
... (الثالث) أن سقف عائشة رضي الله عنها منه ما كان مكشوفا غير مسقوف، كما في الحديث المتفق عليه(2) عنها (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد) ، وهذا يدل على أن بعض سقف بيتها كان مكشوفاً تدخل منه الشمس، وكان كذلك مدة حياة عائشة. فكيف يُحتاج إلى فتحة كوة إلى السماء، وهذا يدل على بطلان القصة.
... (الرابع) أن هذا الفعل ليس حجة في محل النزاع، سواء كان مشروعاً أو لم يكن، فإن هذا استنزال الغيث على قبره، والله تعالى ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين، وليس في هذا سؤالهم بعد موتهم ولا طلب ولا استغاثة.
( الشبهة الرابعة عشرة )
__________
(1) رواه الدارمي (1/56)
(2) البخاري (520) ومسلم (611)(1/64)
... استدلالهم على التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤال الله به بقصص ليس لها أسانيد وروايات إسرائيلية ونحوها فيها توسل الأنبياء بنبينا - صلى الله عليه وسلم -
... والجواب عليها أن يقال:
... (أولا) أن هذه القصص والحكايات ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وليس لها إسناد معروف، وإنما تذكر مرسلة كما تذكر الإسرائيليات، وغايتها أن ينقلها مسلمو أهل الكتاب عن كتب بلا أسانيد. فإنه إذا كانت مراسيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا تقبل مع قرب العهد، فلأن لا تقبل المراسيل عن غيره من الأنبياء مع تباعد العهد من باب أولى.
... (ثانيا) أنه قد ورد مثل هذه الحكايات عن الأنبياء بضد ما ذكروه.فقد روى البزار(1) بإسناده عن العباس - رضي الله عنه -عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (قال داود عليه السلام: أسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فقال: أما إبراهيم فألقي في النار فصبر من أجلي وتلك بلية لم تنلك، وأما إسحاق فبذل نفسه لذبح فصبر من أجلي وتلك بلية لم تنلك، وأما يعقوب فغاب يوسف عنه وتلك بلية لم تنلك)
... فلو كانت الإسرائيليات حجة فهذا فيه الدليل على بطلان السؤال بحق الأنبياء، وإن لم يكن حجة لم يصح الإحتجاج بها.
... (ثالثاً) أين هذا الفهم والاستدلال عن خير القرون الصحابة والتابعين وأتباعهم، وأين الأئمة عن هذا الفهم، فإنه لو كان مشروعا لأمروا به وأرشدوا إليه واستحبوه، إذ كل منهم يسأل الله ويجعل في دعائه ما يكون سبباً في إجابته، فما بالهم لم يهتدوا إلى ما اهتدى إليه هؤلاء القبوريون .
( الشبهة الخامسة عشرة )
... استدلالهم على جواز التبرك بآثار الأنبياء كغار حراء وثور ونحو هذه الأماكن والتمسح بالحجرة الشريفة ونحو ذلك بأمرين:
__________
(1) مسند البزار (4/133)(1/65)
... (الأول) ما ثبت في الصحيحين من أن ابن عمر رضي الله عنهما كان في سفره يتتبع الأماكن التي مر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وينتابها. وهذا يدل على جواز تتبع آثار الأنبياء والتبرك بها.
... (الثاني) ما رواه البخاري(1) من حديث عتبان بن مالك - رضي الله عنه - أنه أراد أن يتخذ في بيته مصلى لما كبر وضعف بصره، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه فيصلي فيه طلباً للبركة.
... والجواب على هذه الشبهة يكون بإبطال استدلالهم بالحديثين ثم بإبطال أصل المسألة :
... أما فعل ابن عمر رضي الله عنهما فبيان فساد استدلالهم به من وجوه :
... (الأول) أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يتخذ من تلك الأماكن التي كان يتتبعها مكاناً للعبادة والذكر ونحو ذلك، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فينزل في المكان الذي نزل فيه، وينام في المكان الذي نام فيه، ويبول في المكان الذي بال فيه، فيفعل مثل ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن يتخذ من تلك الآثار مكاناً للصلاة والعبادة. فإذا تتبع أحد هذه الآثار وفعل فيها ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كأن نام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في مكان فاتخذه المتبع مكاناً للعبادة والصلاة والتمسح لم يكن بذلك متبعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا مقتديا بابن عمر رضي الله عنهما، بل يكون مبتدعاًَ محدثاً.
... (الثاني) أن المتابعة هي أن نفعل كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على الوجه الذي فعل، فلا بد إذاً أن نشاركه في القصد والنية، فإنما الأعمال بالنيات، فإذا قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، العبادة بالعمل فقَصَدْنا العبادة كنا متبعين متأسين به، وأما إذا لم يقصد به العبادة، بل فعله على وجه الاتفاق لتيسره عليه، فإذا قصدنا العبادة له لم نكن متبعين له.
__________
(1) 1130)(1/66)
... (الثالث) أن ابن عمر - رضي الله عنه - أراد مشابهة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة الفعل، فيفعل مثل ما فعل وذلك لشدة محبته له، ولم يكن يعتقد أن هذا مما يستحب فعله لكل أحد ويتعبد لله به، فلم يأمر أحدا بهذا ولم يستحبه لأحد وإنما كان يفعله بنفسه اجتهاداً منه.
... (الرابع) أن هذا أمرٌ انفرد به ابن عمر - رضي الله عنه -. والخلفاء الراشدون والأكابر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك ، وهم أعلم من ابن عمر وأعظم اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كان مستحباً لفعله هؤلاء ، ولذلك لما بلغ الإمام مالكاً رحمه الله أن أناساً من أهل المدينة يقفون للدعاء عند قبر النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : هذه بدعة لم يفعلها الصحابة و التابعون ثم قال :(لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)(1)
... (الخامس) أنه قد ثبت عمن هو أكبر من ابن عمر وأجل وهو والده الفاروق عمر - رضي الله عنه - النهي عن مثل فعل ابن عمر.
... فروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق فى مصنفيهما والطحاوي في مشكل الآثار وابن وضاح في البدع(2) أن عمر - رضي الله عنه - لما رجع إلى المدينة بعد الحج رأى أناساً يذهبون مذهباً ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجداً ها هنا صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إنما أهلك من كان قبلكم بأشباه هذه ، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً ، من أدركته الصلاة في شئ من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليصل فيها ولا يتعمدنها)
__________
(1) التمهيد 23/10 ، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية (27/118)
(2) ابن أبي شيبة (2/151) وعبد الرزاق (2/118) والطحاوي في مشكل الآثار (4382) وابن وضاح في البدع (باب ما جاء في اتباع الآثار)(1/67)
هذا مع كونهم إنما صلوا حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف بمن صلى حيث جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نام أو بال ونحو ذلك، فلأن يُنهى عنه من باب أولى.
... قال الطحاوى في مشكل الآثار بعد روايته لأثر عمر - رضي الله عنه -: ( ففي هذا الحديث عن عمر- رضي الله عنه - ما قد وقفنا به على أن المساجد التي صلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه المواضع لم يجب على أمته إتيانها ولا الصلاة فيها لإتيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمثل ذلك أيضاً صلاته في بيت المقدس ما في أحاديث ابن مسعود وأنس وأبي هريرة لا يجب به إتيان الناس هناك ولا الصلاة فيه) إلى أن قال : (وفيما ذكرنا في هذا ما قد دل على رتبة عمر - رضي الله عنه -في العلم أنها فوق رتبة من سواه رضوان الله عليهم وعلى سائر أصحابه)
... وأما الإستدلال بحديث عتبان - رضي الله عنه - فالرد عليه من وجوه :
... (الأول) أن عتبان - رضي الله عنه -كان مقصوده بناء مسجد في بيته لحاجته إليه بسبب السيول التي تحول بينه وبين قومه بعد أن كبر وضعف بصره ، وتبرك بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه أولاً ، وهذا بخلاف من لم يكن مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر ، فنية بناء المسجد في حديث عتبان سابقة ، واختيار المكان سابق أيضاً لأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، أما المساجد التي بنيت على الآثار فإن الأثر سابقٌ للمسجد، والمسجد بني لأجل الأثر ، فشتان بين الصورتين.
... (الثاني) أن مقصود عتبان - رضي الله عنه - هو أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يستفتح الصلاة فيه دون غيره تيمّناً بذلك ، وهذه كانت عادة الصحابة رضي الله عنهم عند بنائهم لمسجد جديد من مساجد الأحياء والدور، وليس مقصوده التمسح والتبرك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم -
... وأما إبطال أصل المسألة فبوجوه :(1/68)
... (الأول) أن التبرك بهذه الآثار والتمسح بها واتخاذها مزاراً ومكاناً للعبادة أو بناء مسجد عليها ليس من فعل الصحابة - رضي الله عنهم - ولا من فعل السلف والأئمة ، ولم يثبت عن أحد منهم استحبابه ولا الأمر به ، ولا فعله على صورة ما ذكرنا من اتخاذها أماكن للعبادة وطلب البركة منهم أحد ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
... (الثاني) أن يقال أن مقام ابراهيم عليه السلام الذي قال الله فيه : {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }البقرة125 لم يستلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُقَبِّله ، واتفق العلماء على انه لا يُستلم ولا يًُقبل ، فإذا كان هذا مقام إبراهيم الذي أُمرنا أن نتخذه مصلى ، فمقامٌ لم نُؤمر أن نصلي فيه أولى أن لا نستلمه ولا نقبله مثل مقامات تنسب إلى إبراهيم وغيره بالشام وغير الشام وأشد منه القبور المنسوبة للأنبياء والصالحين.
... (الثالث) أن الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم منع مثل هذه الأفعال حسماً لمادة الغلو الموصل إلى الشرك وحماية لجناب التوحيد ، فقد روى محمد بن وضاح في كتابه البدع بإسناده : أن عمر - رضي الله عنه - لما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التى بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحتها أصحابه فى غزوة الحديبية ، أمر بقطعها سداً لطرق الشرك والغلو .(1/69)
... وقال ابن وضاح بعد روايته هذا الأثر عن عمر - رضي الله عنه - : (وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد والآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما عدا قباء وأحداً ، وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضاً ممن يُقتدى به ، وقدم وكيع أيضاً بيت المقدس فلم يَعْدُ فعل سفيان ، فعليكم بالإتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمرٍ هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى ، ومُتحبِّبٌ إليه بما يُبغِّضُه ، ومُتقربٌ إليه بما يُبعده منه ، وكل بدعة عليها زينة وبهجة)
( الشبهة السادسة عشرة )
... استدلالهم على جواز التبرك بآثار الصالحين والشيوخ بما ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من التمسح والتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كشعره وعرقه وثيابه.
... والجواب عليها من وجوه :
... (الأول) أن التبرك بآثار الأشخاص خاص ٌ بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فقط دون غيره من المؤمنين مهما بلغت منزلته ، وقياس غير النبي - صلى الله عليه وسلم - به من أفسد القياس ، فإن الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم التبرك بآثاره فقط ، فكان بعضهم يتبرك بما انفصل عنه كشعره وريقه وعرقه وثيابه ونحو ذلك .(1/70)
... (الثاني) أن التبرك بآثار الصالحين ليس من فعل الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعين ولا أتباعهم ولم يثبت عن أحد من الأئمة فعله ولا الأمر به ، وما ورد عن بعضهم في ذلك فهو باطل لا يثبت عنهم بسند صحيح كما ذكر عن الشافعي أنه تبرك بثياب الإمام أحمد ، فلو كان هذا أمراً سائغاً أو مستحباً لتمسح الصحابة رضي الله عنهم بما ثبت النص بفضله وإيمانه وأنه من أهل الجنة كأبي بكر والخلفاء وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من أكابر الصحابة ولفعله التابعون بهم، فإذ لم يثبت عن أحد منهم فعله إلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دل على أن فعله بغيره من البدع المحدثة المنكرة، فضلاً عن كونه وسيلة إلى الشرك وطريقاً له.
( الشبهة السابعة عشرة )
... استدلوا على جواز التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - والسؤال به ، مثل أن يقول أسألك بحق محمد أو بجاه محمد ونحو ذلك ، بأحاديث رويت في ذلك وهي كالتالي
... (1) ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لما اقترف آدم الخطيئة قال : يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال : يارب ، لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى إسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلى ، ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك)(1)
ورواه ابن ابي الدنيا في الإشراف عن ابن مسعود - رضي الله عنه -(2)
__________
(1) الحاكم في المستدرك (2/672) والبيهقي في الدلائل (2243) والآجري في الشريعة (كتاب الإيمان والتصديق بالجنة والنار مخلوقتان/باب في قول الله عز وجل لنبيه لما أذنب آدم) والطبراني في الأوسط (6/313) والصغير (2/182)
(2) الحاكم في المستدرك (2/289) والإشراف على منازل الأشراف (24)(1/71)
(2) ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان ، فكلما التقوا هُزمت يهود ، فعاذت اليهود بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه- إلى أن قال- فهزموا غطفان)(1)
(3) ما رواه الآجرى في الشريعة(2) بإسناده عن أبي الزناد قال : ( من الكلمات التي تاب الله بها على آدم عليه السلام قال : اللهم إني اسألك بحق محمد)
(4) ما رواه الخطيب في الجامع(3) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء حفظ القرآن وفيه ( أسألك بحق محمد نبيك ورسولك )
(5) ما رواه الطبراني في الدعاء(4) عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء حفظ القرآن وفيه (أسألك بحق محمد نبيك ورسولك)
... والجواب على هذا من وجوه :
... (أولاً) أنها أحاديث واهية ساقطة لا تصلح للإعتضاد والاعتبار فضلاً عن الاحتجاج ، بل لا يحل روايتها إلا على بيان ضعفها ونكارتها، و تفصيل القول فيها هو ما يلي:
... (1) أما الحديث الأول وهو حديث آدم عليه السلام فبيان بطلانه من وجوه:
... (الأول) أن مداره على أبي الحارث عبد الله بن مسلم رواه عن إسماعيل بن مسلمة عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر به. وأبو الحارث ساقط الرواية.
قال عنه الذهبي في الميزان: (روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلا فيه يا آدم لولا محمد ما خلقتك)(5).
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (2/289) والآجري في الشريعة (كتاب الإيمان والتصديق بالجنة والنار مخلوقتان/باب في قول الله عز وجل لنبيه لما أذنب آدم) والبيهقي في الدلائل (باب ما جاء في أخبار الأحبار والرهبان قبل أن يبعث الله (411) )
(2) كتاب الإيمان والتصديق بالجنة والنار مخلوقتان/باب في قول الله عز وجل لنبيه لما أذنب آدم
(3) 2/261
(4) باب الدعاء لحفظ القرآن وغيره ص (379)
(5) ميزان الاعتدال (2/504)(1/72)
... وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان بعد أن ذكر كلام الذهبي: ( قلت لا أستبعد أن يكون هو عبد الله بن مسلم بن رشيد فإنه من طبقته)، وعبد الله بن مسلم بن رشيد متهم بالوضع ذكره ابن حبان.
... كما أن في الحديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو معروف بالضعف، قال أحمد: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديث بشيء، وضعفه على بن المدني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف وأمثلهم عبد الله، وضعفه غيرهم أيضا، ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب(1)، فالحديث واه جداً إن لم يكون موضوعاً.
... وأما ما رواه ابن ابي الدنيا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - فإسناده مظلم لأن رواته مجاهيل ومبهمون فقد رواه عن محمد بن المغيرة المازني عن أبيه عن رجل من أهل الكوفة عن عبد الرحمن بن عبد ربه المازني عن شيخ من أهل البصرة عن ابن مسعود به.
... (الوجه الثاني) أنه منكر المتن، حيث أن فيه قول الله لآدم (لولا محمد ما خلقتك) وهذا يناقض ما ذكره الله في كتابه من أنه خلق الخلق لعبادته حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}الذاريات5.
... (الثالث) مما يبين كذب هذا أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة37 ، فأخبر أنه تاب عليه بالكلمات التي تلقاها منه وقد ذكرها الله عز وجل في قوله {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف23، فأخبر أنه أمرهم بالهبوط عقب هذه الكلمات، وأخبر أنه تاب عليه عقب الكلمات، وأمره بالهبوط عقب الكلمات التي تلقاها منه وهي قولهما {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ومن ذَكَر أن الكلمات التي تلقاها من ربه غير هذه الكلمات لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن.
__________
(1) ؟؟؟؟(1/73)
... (الرابع ) لو كان آدم عليه السلام قد قال هذا فغفر له، لكانت أمة محمد أحق به منه، بل كل الأنبياء من ذريته أحق به ، ومن له علم بالآثار علم يقيناً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته به ولا نُقل عن أحد من الصحابة الأخيار، ولا نقله أحد من الأئمة الأبرار الذين تذكر أقوالهم في الخلاف والإجماع، فعلم بذلك أنه من الأكاذيب التي يختلقها أهل الكذب والوضع.
(2) وأما حديث سؤال اليهود الله بحق محمد فمداره على عبد الملك بن هارون بن عنتره رواه عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - به، وعبد الملك بن هارون كذاب وضاع كذبه يحيى بن معين وابن حبان وقال أبو حاتم: متروك ذاهب الحديث، ذكر ذلك الذهبي في الميزان، فالحديث كذب بلا ريب .
... ومما يزيد هذا وضوحا تفرده به عن ابن عباس - رضي الله عنه - ولا يعرف عنه البته من طريق أصحابه بإسناد صحيح ولا حسن بل ولا ضعيف.
(3) أما ما رواه الآجري عن أبي الزناد فهو من طريق أبي مروان العثماني عن أبيه عثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه من قوله، ففيه عثمان بن خالد العثماني، قال البخاري: ضعيف عنده مناكير، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره، ذكر ذلك الذهبي في الميزان(1).
... وفيه أيضا عبدالرحمن بن أبي الزناد وهو إلى الضعف أقرب، قال أبو حاتم: لايحتج به(2).
... ثم إن الحديث من قول أبي الزناد فهو مرسل معضل لأن أبا الزناد لم يدرك أحدا من الصحابة، فمراسيله معضلات.
(4) أما ما رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الرواي فقد رواه من طريق محمد بن خلف بن عبد السلام عن موسى بن ابراهيم المروزي عن وكيع عن عبيده عن شقيق عن ابن مسعود به، وموسى بن ابراهيم المروزي قال الذهبي عنه في الميزان(3): (كذَّبه يحيى القطان، وقال الدراقطني وغيره: متروك، ومن بلاياه ـ ثم ذكر هذا الحديث في دعاء حفظ القرآن).
__________
(1) ؟؟؟؟
(2) ؟؟؟؟
(3) ؟؟؟؟(1/74)
(5) أما ما رواه الطبراني في الدعاء فقد رواه من طريق أبي محمد موسى بن عبد الرحمن الصنعاني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس به ، وموسى بن عبد الرحمن الصنعاني قال عنه ابن حبان دجال وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابا في التفسير.
... فتبين بهذا أن ما استدلوا به من أحاديث هي موضوعات وبواطيل.
... (الثاني) أن هذا التوسل لو كان مشروعاً مستحباً، لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعمل به الصحابه ونقلوه مع شدة حبهم واقتدائهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمهم له.
... (الثالث) أن الثابت عن الأئمة النهي عن مثل هذا ، فقد صح عن أبي حنيفة وأبي يوسف النهي عن قول الداعي:(اسألك بحق رسلك وأنبيائك ، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق)، نقله عنهما صاحب بدائع الصنائع وابن الهمام في فتح القدير وغيرهما(1).
... ولم يثبت عن أحد من السلف والأئمة بسند ثابت خلاف هذا القول والحكم، وأما ما يذكره المتأخرون من أصحاب الأئمة فلا ينسب للأئمة أنفسهم، وهو قول لا يتابعون عليه إذا لم يكن لهم سلف، وقد قال الإمام أحمد : (يا أبا الحسن ، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام )(2) وهو يقوله لأصحابه في ذلك الزمن فكيف بالمتأخرين.
( الشبهة الثامنة عشرة )
__________
(1) انظر ص ؟
(2) مناقب أحمد ص 231(1/75)
... استدلالهم بجواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومناداته بعد موته بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أنه خدرت رجله ، فقال رجل : اذكر أحب الناس إليك ، فقال : محمد )(1). وفي لفظ قال : (يا محمداه )، وروي مثله عن ابن عباس أنه أمر رجلاً خدرت رجله بذلك، فقال: محمد فذهب خدره (2).
... والجواب عليها من وجوه :
... (الأول) أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت، فأما أثر ابن عمر - رضي الله عنه - فإن مداره على أبي إسحاق السبيعي، وهو وإن كان من الثقات الأثبات إلا أنه مشهور بالتدليس وقد عنعنه ولم يصرح في أي من طرق الحديث بالتصريح وهذه علة، والعلة الأخرى أن أبا إسحاق قد اختلط في آخر عمره، وقد اضطرب في هذا الحديث على وجوه عدة ولعل هذا من اختلاطه:
... فمرة رواه عن الهيثم بن حنش - وهو مجهول - عن ابن عمر.
... ورواه مرة عن عبد الرحمن بن سعد القرشي العدوي عن ابن عمر.
... ورواه مرة عن أبي سعيد – ولا يعرف – عن ابن عمر.
... ورواه مرة عمّن سمع ابن عمر به ولم يسمّه.
... ولا سبيل لترجيح أحد الروايات لأن رواة هذه الطرق المختلفة عنه من ثقات أصحابه مثل شعبة وسفيان وإسرائيل وزهير بن معاوية، مما يجعل الأثر مضطرباً. كما أن ألفاظه مختلفة فتارة يقول فيه (محمد) وتارة (يا محمد).
... وأما أثر ابن عباس - رضي الله عنه - فهو ضعيف جداً، بل موضوع على ابن عباس - رضي الله عنه -، إذ فيه غياث بن إبراهيم وهو كذاب، قال أبو داود: كذاب، وقال ابن معين: كذاب خبيث(3).
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد /باب ما يقول إذا خدرت رجله (964) والحربي في غريب الحديث ( 2/673-674) وابن السني في عمل اليوم والليلة 1/141 والمزي مسنداً في تهذيب الكمال في ترجمة (عبد الرحمن بن سعد القرشي العدوي)
(2) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة 1/141
(3) لسان الميزان (4/422)(1/76)
... (الثاني) أنه على التنزّل بصحة الأثر فليس فيه دليل على جواز الاستغاثة ومناداة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ غاية ما فيه هو ذكر محبوب تسكن إليه النفس، وتتحرك فتنشط لذكره وذكر اسمه فيذهب خدرها.
... قال المحدث فضل الله الجيلاني: (وعلى كل حال فصورة النداء في بعض الروايات ليس على حقيقته، ولا يتوهم أنه للاستعانة أو الاستغاثة، وإنما المقصود إظهار الشوق وإضرام نار المحبة، وذكر المحبوب يسخن القلب وينشطه فيذهب انجماد الدم فيجري في العروق، وهذا هو الفرح، والخطاب قد يكون لا على إرادة الإسماع)(1).
... (الثالث) أن الأثر عام بذكر أحب الناس لمن خدرت رجله، فهو عام في الأشخاص، وخاص بخدر الرِّجل، وعلى هذا فقد يذكر الإنسان من يحب ولو كان فاسقاً، أو كافراً كزوجته أو ابنه، فهل يقول المستدلون به بجواز أن يستغيث العبد بكل من يحب؟ فإن قالوا: لا، فيقال لهم: فما وجه تخصيصه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع كون الأثر لو صح فيه ذكر المحبوب وليس خصوص النبي- صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك ورد عن بعض السلف والشعراء ذكر هذا الأمر في بيان حبهم للمحبوب كما روي عن ابن سيرين أنه قال:
... إذا خدرت رجلي تذكرت قولها ... ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
... دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... ... لألقيت نفسي نحوها فقضيت
... وقال الخليفة يزيد بن عبد الملك في حياته:
... أثيبي مغرماً كلفاً محباً ... ... إذا خدرت له رجل دعاك
... وهذا يبين أن هذا الباب ليس من باب الاستغاثة والدعاء، وإنما من باب تنشيط النفس بذكر المحبوب .
... ثم إنه خاص في ذكر المحبوب عند خدر الرِّجل خاصة، فكيف يقال بعمومه في كل الأحوال، وهل هذا إلا مروق من دين الإسلام عياذاً بالله.
( الشبهة التاسعة عشرة )
__________
(1) فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2/429(1/77)
... استدلالهم على جواز البناء على القبور ، وعمل المقامات والمشاهد بقوله تعالى في قصة أصحاب الكهف: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} الكهف21، قالوا: ولو كان البنيان على القبر محرماً لبين بطلانه وإنكاره بعد ذكره، قالوا: وهذا يدل على إقراره.
... والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
... (الأول) أنه ليس في الآية أن الذين قالوا ذلك مؤمنون، ولذلك اختلف المفسرون فيها على قولين كما ذكر ذلك الطبري، أهم المسلمون أم الكفار؟ وعلى التسليم بأنهم كانوا مؤمنين فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين متمسكين بشريعة نبي مرسل بل الظاهر خلاف ذلك.
... (الثاني) أنه ليس في الآية إقرار بهذا الفعل من بنيان المسجد على قبور أصحاب الكهف، وإنما فيها ذكر ما حصل من التنازع بينهم، وقد قال الحافظ ابن رجب في شرح البخاري(1): (وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }الكهف : 12، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور ، وذلك يشعر بأن مستند القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى).
__________
(1) كتاب الصلاة / باب هل تنبش قبور المشركين ويتخذ مكانها مسجد(1/78)
... (الثالث) أن هؤلاء قيل أنهم من النصارى، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لعن الله لهم بسبب هذا الفعل من بنيان المساجد على قبور الأنبياء والصالحين كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه التي تُوفى فيه: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياهم مساجد) قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أن خشي أن يُتخذ مسجداً متفق عليه(1).
... وقالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه الشيخان أيضاً: (إن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله )(2)، فيكون هذا الفعل مما لعنوا بسببه.
... (الرابع) أن أقصى ما في الآية أن يكون هذا مشروعاً عندهم، والمعلوم أن شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاءت ناسخة لجميع الشرائع، وقد اختلف الأصوليون في شريعة من قبلنا هل هي شريعة لنا؟ وهذا فيما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، فإما إذا ورد في شرعنا ما يخالفه فالأمة مجمعة على أن الحجة ما شرعه النيي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - البنيان على القبور، واتخاذها مساجد، بل ولعن فاعل ذلك، وقد سبق ذكر بعض ما يدل على ذلك، فكيف يسوغ لمسلم أن يستدل بشريعة منسوخة وقد ورد شرعنا بضدها، وهل هذا إلا محادة لله ولرسوله .
( الشبهة التاسعة عشرة )
... استدلالهم على جواز البناء على القبور بكون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده الشريف، ولو كان محرماً لما دفنوه فيه.
... والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
__________
(1) رواه البخاري (1330) ومسلم (529)
(2) رواه البخاري (427) ومسلم (528)(1/79)
... (الأول) أن هذا المشاهد اليوم من كون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، لم يكن كذلك في عهد الصحابة - رضي الله عنه -، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دفن في بيته في حجرة عائشة، وحجرة عائشة رضي الله عنها لم تكن ضمن المسجد، وإنما كان يفصل بينهما جدار، وهذا أمر لا يختلف فيه العلماء، وإنما أدخلت الحجرة في أواخر عهد الصحابة في سنة 88 للهجرة في عهد الوليد بن عبد الملك.
... قال الحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي(1): ( ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتاً جابر بن عبد الله وتوفي في خلافة عبد الملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري في " كتاب أخبار المدينة " مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أشياخه عمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدخل القبر فيه).
... فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة - رضي الله عنهم - لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه، وهو مخالف أيضا لصنيع عمر وعثمان حين وسّعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه.
... (الثاني) أن إدخال القبر في المسجد قد أنكره العلماء آنذاك منهم سعيد بن المسيب.
... قال ابن كثير في البداية والنهاية(2) لما ذكر إدخال الغرفة في المسجد: (ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد - كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً).
__________
(1) ص 151
(2) 9/74(1/80)
... (الثالث) أنه مع المخالفة بإدخال الحجرة المسجد فإنهم عندما أرادوا إدخالها احتاطوا لذلك بغية تقليل المخالفة ، فبنوا حيطاناً طويلة مرتفعة لئلا يظهر القبر في المسجد.
... قال النووي(1) : (ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام، ويؤدي المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا والله تعالى أعلم بالصواب).
... (الرابع) أن الغرفة مع إدخالها إلى المسجد من جوانبها الثلاث من قبل الوليد بن عبد الملك، فليست هي حقيقة منه، إذ أنها عند إدخالها كانت مغلقة لا ينفذ أحد إليها، ثم زيد في جدرانها حتى صار لها ثلاثة جدران كما سبق ذكره، فصارت صورتها أنها ملصقة بالمسجد بعد توسعته، لا يخلص إليها أحد، وهذا كما لو جاء رجل في مزرعته فبنى في وسط المزرعة مقبرة لأهله، ومن المعلوم أن هذا لا يجعل المزرعة مقبرة، وإنما المقبرة هي ما اقتطعه من المزرعة دون سائر المزرعة، فلذا فله الصلاة في كل المزرعة، عدا ما اقتطعه منها للمقبرة لورود النهي عن الصلاة في المقبرة.
__________
(1) شرح مسلم 5/13 ( باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها )(1/81)
... وكانت حجرة عائشة بعد إدخالها هي حد المسجد من الشرق، فليست كلها في وسط المسجد كما هو الحال عليه اليوم، قال ابن كثير(1): (فأدخل فيه الحجرة النبوية - حجرة عائشة - فدخل القبر في المسجد، وكانت حده من الشرق وسائر حجر أمهات المؤمنين كما أمر الوليد)، وأما ما هو مشاهد اليوم من إدخال الحجرة المسجد من جميع جوانبها، فهذا إنما أحدثه العثمانيون، لمَّا آلت إليهم أمور الحجاز.
...
خاتمة
... يتبين مما سبق ضعف ما لدى المتصوفة القبوريين من الحجة، حيث أنهم أُلجئوا في تقرير ما يعتقدونه مما يخالف الكتاب والسنة وعمل السلف إلى روايات منكرة، أو لا أصل لها، لا عن الصحابة والسلف، ولا عن الأئمة، وعجزوا أن يأتوا بما صح عن أحد من السلف ما يؤيد دعواهم، فضلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... فأي عقيدة هذه التي لا نجد لتقريرها -بعد طول البحث والتنقيب- إلا المنكرات والبواطيل؟!!
... وصدق الدارمي إذ يقول في أمثال هؤلاء: (فقلت: إن أفلس الناس من الحديث وأفقرهم فيه الذي لا يجد من الحديث ما يدفع به تلك الأحاديث الصحيحة المشهورة في تلك الأبواب إلا هذا الحديث –لحديث باطل استدل به الجهمية على إنكار نزوله تعالى-، وهو أيضاً من الحديث أفلس، لأن هذا الحديث لو صح كان عليه لا له، فالحمد لله إذ ألجأتهم الضرورة إلى هذا وما أشبهه، لأنهم لو وجدوا حديثا منصوصاً في دعواهم لاحتجوا به لا بهذا، ولكن حين أيسوا من ذلك وأعياهم طلبه تعلقوا بهذا الحديث المشتبه على جهال الناس ليروجوا بسببه عليهم أغلوطة)(2) اهـ
... هذا ما اقتضى المقام بيانه وتوضيحه في هذه الرسالة على سبيل الإيجاز والاختصار والتي جمعت مادتها من كلام أهل العلم فجزاهم الله خيراً وأقول كما قال العلامة السعدي رحمه الله
... فهذه فوائد جمعتها ... كتب أهل العلم قد حصلتها
__________
(1) البداية والنهاية (9/74)
(2) الرد على الجهمية (ص99).(1/82)
... جزاهم المولى عظيم الأجر ... ... والعفو مع غفرانه والبر
والله أسال أن يبارك فيها وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم إنه خير مسؤول وأعظم مأمول والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(1/83)