|
المؤلف : عبد الجبار بن أحمد الهمذانى
كتاب (تثبيت دلائل النبوة ) للقاضي عبد الجبار الهمذاني هو أقدم ما صُنِّف من كتب متخصصة في إثبات نبوة نبينا محمد ، وقد كُتب سنة 385 هجرية وهو يقع في مجلدين، ومن ميزات هذا الكتاب أنه لم يختص بإثبات النبوة فقط بل امتد إلى الرد على أبرز المخالفين والطاعنين من الدهريين والنصارى واليهود والثنيوة والملاحدة والرافضة والباطنية وأرسطو.
قال فيه ابن كثير: (من أجَلِّ مصنفاته وأعظمها، وقد أبان فيه عن علم وبصيرة جيدة) لسان الميزان 3\286، وقال فيه الذهبي: (إنه أجاد فيه وبرَّز) شذرات الذهب 3\203. وقد اطلع عليه العلامة المرحوم الشيخ زاهد الكوثري وقال أنه من أفضل ما صُنِّف في الدفاع عن الإسلام إزاء الدهريين، ومنكري النبوة، والثنوية، والنصارى، واليهود، والصابئة، وأصناف الملاحدة، والرافضة والباطنية، وقال: (ولم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي، في قوة الاحتجاج وحسن الصياغة، في دفع شكوك المتشككين) "مقدمة الشيخ زاهد لكتاب تبيين كذب المفتري ص 18". وقد كان محل ثناء كبير من علماء المسلمين كما في العقد المذهب لابن الملقن ورقة33 ظ، وابن حجر في اللسان 3: 386، وابن شهبه في طبقاته 16 ط، وابن تيمية في منهاج السنة ص 9، ويعتبر الكتاب الأول حتى الآن من الكتب التي أُلِّفت في هذا الموضوع.
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:1
المقدّمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إن الإيمان بالنبوة أو قيام صلة بين اللّه و الانسان بواسطة احد عباده الذي نسميه نبيا او رسولا من أهم ما يميز الأديان السماوية عن غيرها من الديانات، إذ أن هناك أديانا كالبرهمية تؤمن بوجود اللّه لكنها تنكر النبوات و لا ترى حاجة لوجود هذه الصلة بين اللّه و الانسان، و حجتهم في ذلك، أن ما أتى به الانبياء إما موافق للعقل ففي العقل غنى عنه أو مخالف له فلا حاجة لنا به، لأن العقل هو المصدر الوحيد الذي نستدل به على حقائق الأمور.
و الحق أن من المستحيل ان نؤمن بفكرة وجود الخالق المدبر و لا نتبعها بالايمان برعايته لخلقه و تدبيره المستمر للكون. إذ ما الفائدة من الخلق اذا لم يعن الخالق بشؤون خلقه، أما أن العقل قد يعارض ما تأتي به النبوة فليس هذا ضروريا، لأن جميع الأمور التي نزلت بها الرسالات السماوية يقرها العقل الذي يعتمد على تفكير علمي منظم، هذا بالاضافة الى ان لكل من العقل و الوحي ميدانه الخاص في كثير من المسائل، و اذا امكن لنا ان نتوصل بالمنطق التجريبي و الرياضي الى حقائق علوم الكون و الحياة فإننا لا نستطيع بغير الوحي ان نتوصل الى حقائق ما وراء المادة.
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:2
و الصلة بين اللّه و الرسل تتم بوسائل متعددة لن نبحث في تفصيلها و انما سنلقي نظرة سريعة على أهم هذه الوسائل لنأخذ فكرة عنها.
إن الوحي غالبا ما ييدأ بالرؤى الصادقة، و في قصص الأنبياء كثير من حوادث هذه الرؤى. و قد قص علينا القرآن كيف انها طريقة من طرق الوحي عند ما حدثنا عن ابراهيم و اسماعيل عليهما السلام، و كيف أمر ابراهيم بذبح ابنه «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ، قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» «1».
(1/1)
و قد تكون وسيلة الاتصال الالهام في حالة اليقظة كما حدث للرسول محمد عليه الصلاة و السلام اذ أتاه هذا الالهام و هو جالس بين المسلمين و عبر عنه بقوله «هذا رسول رب العالمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها ..».
و قد يكون الاتصال بأن يكلم اللّه الرسول مباشرة كما حصل لموسى عليه السلام مما قص علينا القرآن قصته «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ...» «2».
و الطريقة المعتادة في حصول الاتصال بين اللّه و الرسل هي الوحي بواسطة جبريل عليه السلام «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «3»، و كان جبريل أحيانا ينزل مجسدا و يراه المسلمون كما حصل
__________________________________________________
(1) الصافات 102
(2) القصص من 30- 31
(3) الشعراء من 193- 195
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:3
في حديث أركان الايمان و الإحسان و أشراط الساعة الذي روي عن عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه.
و من الطبيعي حين يدعي انسان ما انه يتصل باللّه و يحمل منه الى الناس رسالة ترتب عليهم تكاليف و واجبات ان يطالبه الناس بالدليل على صدقه، و لم ير القرآن في هذا ما يخرج على المعقول و المنطق حتى انه قصّ علينا ان ذلك حصل من بعض الانبياء «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» «1».
(1/2)
و من هنا ظهرت الحاجة الى وجود ما يثبت النبوة، و تعد المعجزات من أهم الوسائل التي أنزلها اللّه على رسله ليقتنع الناس انهم لا يمثلون أنفسهم و إنما يمثلون اللّه تعالى، و لا شك ان الايمان بالرسل مرتبط ارتباطا وثيقا بالايمان باللّه و بالغيب الذي يعتبر من اهم صفات المسلم التقي «الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» «2».
و القرآن يتحدث عن مجموعة من المعجزات المادية منها و المعنوية. و المعجزة في حقيقتها هي الحادث الخارق للعادة و القوانين التي يلاحظها الناس و تسير عليها حوادث الكون يجريه اللّه تأييدا للأنبياء. و قد حاول البعض ان يعطي المعجزة صورة الأمر العادي الذي يحصل في الطبيعة بطريق الصدقة أو العلم، و لكن المعجزة في الواقع تفقد معناها و كونها دلالة على صدق النبي اذا فقدت الصفة الخارقة.
فاذا قال مدعي النبوة إن دلالة صدقي أن تطلع الشمس من المغرب و هي تطلع عادة من المشرق كان ذلك دلالة و تأييدا له، أما اذا أخبر قومه ان الشمس تطلع من المشرق فليس في طلوعها ما يثبت أي إعجاز.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة 260
(2) سورة البقرة 1 و 2
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:4
و من المعجزات المادية: ناقة صالح، و قد قص القرآن خبرها بقوله:
«
(1/3)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «1». و منها معجزة عصا موسى التي حدثنا القرآن خبرها بقوله: «قال لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين، قال او لو جئتك بشي ء مبين، قال: فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين، و نزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين». و منها معجزات عيسى عليه السلام، التي عناها القرآن بقوله: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
و الملاحظ ان معظم الأمم التي أتتها المعجزات اصرت على كفرها و إلحادها و لم تؤمن، و قد بين القرآن ان الهداية بيد اللّه، و أنه مهما تكن قيمة المعجزة فان نفوسا كثيرة لن ترتدع أو مؤمن «وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «2»».
هل هناك أبلغ من هذه المعجزة؟ إن البعض سيقول انه السحر او خداع البصر، لذلك فإنه تعالى يخبر الرسول بهذا المعنى بقوله: «وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها، وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً «3»».
__________________________________________________
(1) الشعراء 153- 156
(2) الحجر 14
(3) الاسراء 59
(1/4)
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:5
أما المعجزات المعنوية و العقلية فأهمها: القرآن الكريم الذي نزل على محمد عليه الصلاة و السلام. و نستطيع ان نلاحظ بهذه المناسبة ان هذه المعجزة ترتبط ارتباطا وثيقا بالرسالة. و المعجزات إما ذاتية تتعلق بنقل ماهية الرسالة او انها خارجة عن جوهرها، و معجزة القرآن من النوع الاول لأنها عقلية تخاطب الفكر البشري و تعتمد على الاقناع العقلي اكثر مما تعتمد على القناعة الحسية التي هي اساس المعجزات المادية. و لا شك ان البشرية- حتى بعثة الرسول- كانت قطعت شوطا كبيرا من الرقي العقلي، فأمكن ان تخاطب عقولهم مباشرة، و خطاب العقل أكثر شمولا و دواما و استقرارا، لذلك كان القرآن الكريم معجزة الرسول حتى أبد الدهر.
اختلف العلماء و الباحثون في حقيقة الاعجاز في القرآن، و يمكن ان نحدد آراء هؤلاء العلماء في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
1- اتجاه يرى ان المعجز في القرآن هو صياغته اللفظية الخارقة للعادة و بلاغته الواضحة التي اعجزت العرب ان يأتوا بمثله.
2- و اتجاه يرى الاعجاز فيما ورد في القرآن من الإعلام عن الغيوب و عن حوادث الامم السابقة و تاريخها و عقائدها، فقد أشار القرآن الى حوادث ستقع في المستقبل ثم وقعت كما حدّث، مثال ذلك قوله تعالى: «ألم، غلبت الروم في أدنى الارض و هم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين».
فقد حصل ان الفرس غلبت الروم، فأخبر القرآن عن هذه الواقعة، و أنبأ ان الروم سينتصفون من خصومهم في بضع سنين، و تم ذلك فعلا؛ و بما ان الانسان لا يقدر على علم الغيب فان القرآن منزل من قبل اللّه و فيه من الاعجاز ما فيه. ثم إن القرآن تحدث عن تاريخ الأمم السابقة و أديانها
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:6
(1/5)
حديث العليم بكل صغيرة و كبيرة من احداثها و شؤونها، و لما كان الرسول عليه السلام أميا لم يطلع على كتب الأقدمين- التي لا تشير هي ايضا بدقة الى تلك الامور- فلا بد انه تعالى هو الذي اخبر نبيه بهذه الاشياء.
3- و أخيرا فقد اتجه كثير من العلماء الى ان الاعجاز في القرآن هو فيما ورد فيه من انظمة انسانية بالغة الرقي لم يشهد الخلق لها مثيلا في ضمان مصلحة بني الانسان و تأمين حياته الخيرة، فقد ورد في القرآن انظمة لحياة الانسان في شتى الوان النشاط البشري السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الاخلاقي و الروحي، و لما كانت هذه الانظمة يستحيل ان يقدر عليها اي انسان فلا بد ان يكون القرآن منزلا من اللّه مثبتا لرسالة الرسول.
و الواقع إن الاعجاز القرآني يشمل هذه النواحي جميعا: فهو فى اللفظ العجيب و التركيب البلاغي البديع، و هو في اخباره عن الغيوب و انباء الامم السابقة، و هو في انظمته الرائعة السامية؛ و لا نستطيع ان نقول بحصر الاعجاز في جانب واحد، لأن القرآن معجزة الرسول الى الناس جميعا في مختلف ازمانهم و امكنتهم، لذا كان لا بد ان يحوي هذه الوجوه المتعددة، فاذا آمن العربي به لإعجازه البلاغي فقد يؤمن به الرومي لإخباره عن الامم السابقة كما قد يؤمن به الفارسي للأنظمة التي فيه، فالقرآن معجز كله، لفظا و معنى و نظاما.
و بعد فإن الكتاب الذي بين ايدينا يبحث في النبوة و إثباتها، و قد عرض له القاضي «1» في أكثر من موضع من كتبه، إلا انه تكلم عنه بالتفصيل في كتابين:
__________________________________________________
(1) ضربنا صفحا عن التعريف بحياة القاضي و ثقافته و مؤلفاته لأننا عرضنا لذلك في مقدمتنا لكتابه «شرح الاصول الخمسة» و سيصدر لنا قريبا كتاب خاص عن القاضي عبد الجبار، بالاضافة الى رسالة الدكتوراه التي كانت بعنوان «القاضي عبد الجبار و آراؤه الكلامية».
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:7
(1/6)
1- الجزء الخامس عشر من موسوعته الكبيرة «المفني في اصول الدين» و قد أسماه «النبوات».
2- الكتاب الذي بين ايدينا «تثبيت دلائل نبوة لسيدنا محمد».
أما في الكتاب الاول فإنه يعنى بالحديث عن اساس نظرية النبوة و فكرة المعجزة بصورة عامة، ثم يفصل الحديث عن عدد من المعجزات الحسية و يبين اختلافها عن السحر و الشعوذة و الصدفة و خفة اليد.
لكنه في كتابنا هذا يتحدث عن اثبات نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم بصورة خاصة، و يلح على جانب الإخبار عن الغيوب سواء جاء في القرآن الكريم او في احاديث الرسول، فيتتبع هذه الاخبار مبينا الى اي حد يصدقها الواقع و التاريخ.
إن القاضي يؤمن بالمعجزات الحسية التي وردت في القرآن و السنة الصحيحة يستنكر موقف البعض كالنظّام من إنكارها، و يرى الإعلام عن الغيوب من اهم دلائل النبوة، كما ان القرآن في رأيه حجة من نواح ثلاثة: فهو حجة «من طريق الفصاحة و البلاغة، و هو حجة لما فيه من الاخبار بالغيوب، و هو حجة لما فيه من التنبيه على دلائل العقول» «1».
و حين تفصيل كلامه عن دلائل النبوة لا يلتزم القاضي البقاء في نطاق الحوادت او الدلائل بل يعرج- كعادة القدماء- على كل ما يجد الحديث عنه ضروريا بالمناسبة.
__________________________________________________
(1) التثبيت 40
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:8
لذا فاننا نستطيع من خلال هذا الكتاب ان نتعرف على موقف القاضي من الاديان المختلفة: السماوية منها و غير السماوي، و موقفه من الفلسفة اليونانية، و من اخذ بها ممن يسمون بفلاسفة الاسلام، و اخيرا موقفه من الاتجاهات العقائدية الاسلامية المختلفة و خاصة الاتجاه الباطني. و للقاضي مع هذه الاتجاهات جولات و مناقشات طويلة متشعبة.
(1/7)
حمل القاضي عبد الجبار على الفلسفة اليونانية عموما و بين ان كتبهم التي وصلت الينا فيها الشي ء الكثير من النقص و التحوير و التعديل اجراه أصحاب الاغراض و الاتجاهات العقائدية المختلفة لتأييد عقائدهم و آرائهم، و أفرد ارسطو بحملة عنيفة و خاصة في كتابه «الآثار العلوية» و انتقد نظريته في الكون و الكواكب و ما يراه من انها غير قابلة للقسمة او الزيادة او النقصان و انها حية عالمة سميعة بصيرة تخلق و ترزق و تحيي و تميت «1».
و من الغريب انه ينتقد نظرية الرازي في اللذة و الألم، و قوله ان اللّه لا يستطيع ان يخلق الانسان إلا بالطريق الطبيعي، و يتهمه بالإلحاد، و لكنه يتجاوز عن رأيه في النبوة مع انه يخالف الاتجاه الاسلامي العام فيه «2».
أما الكندي فانه- برأي القاضي- احد الملاحدة الذين تظاهروا بالاسلام لكنهم ما فتئوا يكيدون له و يمكرون به، و قد عرض لرأيه في المد و الجزر و أن القمر سبب لحصولهما فشدد النكير عليه.
و يظهر انه ينتقد فكرة القانون بصورة عامة لما كان يظنه من انها تحد من
__________________________________________________
(1) التثبيت 196
(2) التثبيت 293 ظ، 294
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:9
قدرة الخلق المطلق من قبل اللّه و كونه خالق للاشياء جميعا على الاستمرار و أنه يخلقها من لا شي ء «1». و يبدو هذا واضحا من بيانه لفعل الاحراق بالنار «2»، و حقيقة الشفاء بالدواء، و قد نبه الاطباء بهذه المناسبة الى ان مهمتهم يجب ان تنحصر في معرفة العادات و التجارب فلا تتعدى ذلك الى الاهتمام بمعرفة اصول الأشياء «3».
(1/8)
أما موقف القاضي من اصحاب النجوم و سائر من يدعي معرفة الغيب و المستقبل فقد كان شديد العنف عليهم، و لفت النظر الى حقيقة بديهية و لكنها لبداهتها قد تغيب على المرء، و هي ان المنجم «يكذب في ألف شي ء و يخطى ء في ألف شي ء فلا يحفظ عليه لأن ذلك غير منكر منه، فاذا اتفق له الصواب في شي ء واحد تعجبوا و حفظ لقلته من مثله و لأنه اتى من غير معدنه «4».
و لا ينسى القاضي ان ينكر على رجال الباطنية موقفهم في التفرقة بين الصحابة و قولهم انهم ظلموا عليا رضي اللّه عنه، و بيّن بهذه المناسبة الصلة الوثيقة التي كانت تقوم بين الصحابة «5». كما اتهم الباطنية بأنها كانت مستغلة من الملحدين و الذين لم تطمئن قلوبهم بالايمان، اذ تستر هؤلاء بالباطنية و تظاهروا بالتشيع لعليّ لخدمة اغراضهم في تحطيم الاسلام عن طريق تفريق المسلمين و إظهار الصحابة بمظهر المعتدين الخارجين على حدود الاسلام، و عدد القاضي منهم
__________________________________________________
(1) التثبيت 297 ظ، 298 و
(2) التثبيت 302 و
(3) التثبيت 299 ظ
(4) التثبيت 188
(5) التثبيت 116
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:10
عددا من الفلاسفة و الكتّاب، كالحداد و الوراق و الحصري و ابن الراوندي و جابر و ابن العميد.
و لم ينس القاضي ان يعرج على الديانات سواء منها غير السماوي كالديانات الفارسية و الهندية القديمة «1»، او السماوي في اصوله كالنصرانية، و خص هذه الاخيرة بتفصيل طويل طريف و نظر اليها على انها امتداد للحضارة الرومانية و الفلسفة اليونانية، فالروم- في رأي القاضي- لم ينتصروا و لكن النصرانية تروّمت فأخذت أخلاق الرومان و تقاليدهم و آراء الفلسفة اليونانية و عقائدها بما فيها عقيدة التثليث، «و هذا التثليث الذي للنصارى قد كانت فلاسفة الروم تنحو نحوه في أن العقل و العاقل و المعقول تصير شيئا واحدا، و يقولون هرمس المثلث «2»».
(1/9)
و لأهمية كتاب القاضي و طرافة الموضوعات التي تطرق لها، و الأسلوب الذي تناولها فيه، كان موضع ثناء العلماء و الكتاب متقدميهم و محدثيهم، و قد اثنى عليه ابن العماد و ابن شهبه و ابن تيمة، و كتب عنه الشيخ الكوثري في مقدمة «تبيين كذب المفتري»: «و لم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار في قوة الحجاج و حسن الصياغة في دفع شكوك المتشككين «3»».
و الحق اننا نستطيع ان نعد هذا الكتاب الاول من نوعه في موضوعه، و لا نعلم بين ما وقع في ايدينا ما يفوقه او يصل الى مرتبته.
__________________________________________________
(1) التثبيت 87، 80، 88
(2) التثبيت 80 و
(3) مقدمة كذب المفتري ص 28
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:11
ورد هذا الكتاب لدى المؤلفين بأسماء متعددة، فابن الملقن في طبقات الشافعية و ابن العماد في شذرات الذهب و ابن حجر في اللسان يذكرونه باسم «دلائل النبوة». أما ابن شهبة في طبقاته فقد ذكر انه «تثبيت دلائل النبوة»، أما العنوان الذي كتب على الورقة الأولى من المخطوط الذين بين أيدينا فقد كان «تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد».
و من الثابت لدينا ان «التثبيت» كتب بعد «المغني»، يدل على ذلك ما ذكره القاضي نفسه في اكثر من موضع من الكتاب من انه كتبه سنة 385 ه «1» و من المعلوم لدينا انه انتهى من كتابة المغني سنة 380 ه.
أما المخطوطة التي اعتمدنا عليها في النشر فهي مخطوطة شهيد علي باستانبول و هي النسخة الوحيدة في العالم المعروفة حتى الآن.
و قد جهدنا- قدر استطاعتنا- ان نقدم النص الصحيح لهذا الكتاب القيم، عازفين عن التعليق إلا في الحالات التي لا بد فيها منه كالتعريف بعلم من الأعلام او فكرة من الأفكار، تاركين للقارى ء الكريم ان يتتبع فكر القاضي كما أراد ان يعرضه و بحرية كاملة. و حرصنا أن نثبت في هامش الكتاب ارقام اوراق المخطوط ليسهل للباحث الرجوع اليه.
(1/10)
و اذا كان لنا ما نرجوه فهو ان نكون قد اسهمنا- بنشرنا لهذا الكتاب- بإضافة لبنة جديدة الى صرح الثقافة الاسلامية، غير طامعين إلا بثواب اللّه و رضاه.
عبد الكريم عثمان بيروت- 30 جمادى الاولى 1386 ه 15 ايلول 1966 م
__________________________________________________
(1) انظر التثبيت 19 ظ، 80 و
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:3
الجزء الاوّل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله، الحمد للّه الذي منّ على عباده بإرسال رسله، و ختمهم بسيدهم محمد صلى اللّه و عليهم اجمعين، فأرسله بالهدى و دين الحق، «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «1»».
هذا كتاب «تثبيت دلائل نبوة نبينا محمد» رسول اللّه صلوات اللّه عليه و سلامه، و الادلة على معجزاته و ظهور آياته، و الرد على من انكر ذلك.
باب [البدء بما في القرآن من إكفار الرسول للامم و البراءة منهم و هو وحيد ضعيف ]
فنبدأ من ذلك بما في القرآن، و بما يجرى مجراه مما يعلمه من سمع اخباره، كالعلم بالقرآن، فقد علم كلّ من اخباره صلّى اللّه عليه و سلم انه ظهر بمكة، فأكفر اليهود و برى ء منهم، و النصارى و الروم و برى ء منهم، و الفرس و المجوس و برى ء منهم، و الهند و برى ء منهم، و قومه من قريش و العرب و برى ء منهم، و عاب آلهتهم، و أكفر اسلافهم، و ضلل اديانهم، و فرق
__________________________________________________
(1) التوبة 33
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:6
آلافهم، و قال لهم: اللّه ارسلني و اصطفاني من العالمين، و جعلني حجة على كل من بلغته دعوتي من الاولين و الآخرين، و جعلني خاتم النبيين و آخر المرسلين، و إن ديني يظهر على الاديان كلها، و ان كلمتي و كلمة اتباعي تعلو، و إنهم هم الغالبون القاهرون المالكون.
(1/11)
و هو اذ ذاك فقير وحيد، اجير معيل، قد اغضبهم و غاظهم بهذه/ الدعوة، و ألبسهم الذل مع وحدته، و بالغ في إسخاطهم، فنهوه و زجروه، بعد ان عاتبوه و عذلوه؛ ثم توعدوه بالاستئصال و البوار، بعد ان رغبوه. فغلبهم على امره، و قال: إني قد قلت لربي حين ارسلني: إني ان قلت هذا لقريش رضخوا رأسي، فقال لي: قل، و بلغهم، فسيغضبهم ذلك، و سيبعثون مكروههم عليك، و سيتحزبون و يجلبون «1» في عداوتك، و يجمعون العساكر لحربك، فأعصمك منهم، و أبعث جنودا لك منهم و من غيرهم، فتكون العقبى لك، فقال هذا و ما هو اشد منه.
يعلم ذلك كل من سمع اخباره ممن صدقه او كذّبه، و هو لا يعتصم بمخلوق، و لا يصوب ملكا من ملوك عصره، و لا يلوذ بأحد من البشر.
بل قد رماهم كلهم عن قوس واحدة بالعداوة، و أسخطهم اجمعين، و بعثهم بهذا الصنيع على عداوته. ثم ما رضي ان يجعل ذلك قولا ثم صفحا، بل خلده و دوّنه، و جعله كتابا يقرأ، و قرآنا يتلى، يسمعه عدوه و قال: ربي قال لي، و ربي و ربكم اوحى به اليّ، فقال: «وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ «2»» و قال: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
__________________________________________________
(1) جلب، توعد بالشر
(2) الاسراء 60
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:7
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1»».
(1/12)
فانهم «2» زادوا غيظا عليه، و صاروا هم و اليهود و النصارى و الفرس و المجوس يدا واحدة في عداوته، و طلب نفسه، و الحرص على قتله، و هم اشد الناس حقدا و أنفة و جبرية «3» و طلبا بطائله، لا يقارّون من عاب/ خيولهم و جمالهم فكيف بمن عاب آلهتهم و آباءهم و عقولهم و ضلل اديانهم، فعصمه اللّه منهم و هو رجل فريد بينهم، و هو في مثوبة الموت، و خندق الخوف، و ذل اليتم، و وحشة الوحدة، لا يعتصم منهم بمخلوق، فصرفهم اللّه عنه و هذه حاله، فلو لم يكن من آياته و دلائل نبوته الا هذا لكفى و أغنى و زاد على الكفاية، لأنه إخبار بغيوب كثيرة، لأنه قال لجميع قريش و لجميع العرب و لجميع اليهود و لجميع النصارى و لكل واحد منهم: لا تقتلونني، مع ما قد جاءهم به مما قد غاظهم و أغضبهم، و هو في هذا القول كالباعث لهم على نفسه، و كالحامل لهم على مكروهه و هو يذكرهم بذلك، فسلم منهم مع هذه الأحوال، فهذا باب كاف شاف.
باب آخر [سلامته صلّى اللّه عليه و سلم مع حرصهم على إيذائه ]
و هذا مقام لا يقومه عاقل إلا ان يكون على غاية الثقة باللّه عزّ و جل و السكون الى وعد اللّه لأنه لو لم يكن كذلك لم تلبث ان تغضب أمم
__________________________________________________
(1) المائدة 67
(2) في الاصل، فإن
(3) الجبرية و الجبرية: التكبر، انظر القاموس، مادة: جبر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:8
(1/13)
العرب و العجم لأديانهم، و يأنفوا لأنفسهم و آلهتهم، فيستأصلونه و يصطلمونه «1» و يقتلونه و يمحون أثره. فلما سلم مع الحرص على قتله، و آلت الامور الى ما قال، علمت و تيقنت أنه من قبل اللّه، لأن مثله في هذا مثل من قال اني أخوض هذه النار المضرمة فلا تحرقني، او كمن قال: أتردّى من شاهق على/ الأسنّة و انا عريان فلا تنفذ فيّ، او كمن قال: أدخل من هذه السباع الضارية الجائعة التي قد أغضبتها و قتلت اولادها و هي حريصة على افتراسي و محتاجة الى قتلي و الراحة مني فأسلم منها و لا تقتلني، فهذا باب شاف.
و باب آخر [وعده و هو في وحدته اته سيكون في جماعات كثيرة]
و هو ما كان وعد و قال و هو في وحدته، إني سأصير في جماعات و عساكر فكان كما قال و أخبر، لأنه حين دعاهم أنكروا قوله و أكفروه و تلقوه بالردّ و التكذيب، ثم ما زال و النفر بعد النفر يجيبونه، حتى صار في عساكر، فاعتقدوا بصدقه و نبوته، و صاررا له جندا مطيعين، و حزبا متفقين، ينفقون أموالهم و يسفكون دماءهم في طاعته، و يفرّون من آبائهم و يقتلون أبناءهم و يفارقون أوطانهم لأجله و امتثالا لأوامره، و أزكى الأعمال عندهم ما أرضاه بلا دنيا بسطها فيهم، و لا اموال دفعها اليهم، و لا لرئاسة كانت له عليهم، بل كان يتيما فقيرا وحيدا معيلا محتاجا.
ثم جاءهم مجيئا ما جاء نبي قبله في مثل حاله، فان موسى صلّى اللّه عليه و سلم أتى قومه من بني إسرائيل، و هم أولاد الأنبياء، قد اعتقدوا الربوبية و عرفوا
__________________________________________________
(1) اصطلم الشي ء: استأصله. انظر القاموس، مادة: صلم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:9
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:9
(1/14)
قدرة الخلق المطلق من قبل اللّه و كونه خالق للاشياء جميعا على الاستمرار و أنه يخلقها من لا شي ء «1». و يبدو هذا واضحا من بيانه لفعل الاحراق بالنار «2»، و حقيقة الشفاء بالدواء، و قد نبه الاطباء بهذه المناسبة الى ان مهمتهم يجب ان تنحصر في معرفة العادات و التجارب فلا تتعدى ذلك الى الاهتمام بمعرفة اصول الأشياء «3».
أما موقف القاضي من اصحاب النجوم و سائر من يدعي معرفة الغيب و المستقبل فقد كان شديد العنف عليهم، و لفت النظر الى حقيقة بديهية و لكنها لبداهتها قد تغيب على المرء، و هي ان المنجم «يكذب في ألف شي ء و يخطى ء في ألف شي ء فلا يحفظ عليه لأن ذلك غير منكر منه، فاذا اتفق له الصواب في شي ء واحد تعجبوا و حفظ لقلته من مثله و لأنه اتى من غير معدنه «4».
و لا ينسى القاضي ان ينكر على رجال الباطنية موقفهم في التفرقة بين الصحابة و قولهم انهم ظلموا عليا رضي اللّه عنه، و بيّن بهذه المناسبة الصلة الوثيقة التي كانت تقوم بين الصحابة «5». كما اتهم الباطنية بأنها كانت مستغلة من الملحدين و الذين لم تطمئن قلوبهم بالايمان، اذ تستر هؤلاء بالباطنية و تظاهروا بالتشيع لعليّ لخدمة اغراضهم في تحطيم الاسلام عن طريق تفريق المسلمين و إظهار الصحابة بمظهر المعتدين الخارجين على حدود الاسلام، و عدد القاضي منهم
__________________________________________________
(1) التثبيت 297 ظ، 298 و
(2) التثبيت 302 و
(3) التثبيت 299 ظ
(4) التثبيت 188
(5) التثبيت 116
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:10
عددا من الفلاسفة و الكتّاب، كالحداد و الوراق و الحصري و ابن الراوندي و جابر و ابن العميد.
(1/15)
و لم ينس القاضي ان يعرج على الديانات سواء منها غير السماوي كالديانات الفارسية و الهندية القديمة «1»، او السماوي في اصوله كالنصرانية، و خص هذه الاخيرة بتفصيل طويل طريف و نظر اليها على انها امتداد للحضارة الرومانية و الفلسفة اليونانية، فالروم- في رأي القاضي- لم ينتصروا و لكن النصرانية تروّمت فأخذت أخلاق الرومان و تقاليدهم و آراء الفلسفة اليونانية و عقائدها بما فيها عقيدة التثليث، «و هذا التثليث الذي للنصارى قد كانت فلاسفة الروم تنحو نحوه في أن العقل و العاقل و المعقول تصير شيئا واحدا، و يقولون هرمس المثلث «2»».
و لأهمية كتاب القاضي و طرافة الموضوعات التي تطرق لها، و الأسلوب الذي تناولها فيه، كان موضع ثناء العلماء و الكتاب متقدميهم و محدثيهم، و قد اثنى عليه ابن العماد و ابن شهبه و ابن تيمة، و كتب عنه الشيخ الكوثري في مقدمة «تبيين كذب المفتري»: «و لم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار في قوة الحجاج و حسن الصياغة في دفع شكوك المتشككين «3»».
و الحق اننا نستطيع ان نعد هذا الكتاب الاول من نوعه في موضوعه، و لا نعلم بين ما وقع في ايدينا ما يفوقه او يصل الى مرتبته.
__________________________________________________
(1) التثبيت 87، 80، 88
(2) التثبيت 80 و
(3) مقدمة كذب المفتري ص 28
تثبيت دلائل النبوة ،المقدمة،ص:11
ورد هذا الكتاب لدى المؤلفين بأسماء متعددة، فابن الملقن في طبقات الشافعية و ابن العماد في شذرات الذهب و ابن حجر في اللسان يذكرونه باسم «دلائل النبوة». أما ابن شهبة في طبقاته فقد ذكر انه «تثبيت دلائل النبوة»، أما العنوان الذي كتب على الورقة الأولى من المخطوط الذين بين أيدينا فقد كان «تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد».
(1/16)
و من الثابت لدينا ان «التثبيت» كتب بعد «المغني»، يدل على ذلك ما ذكره القاضي نفسه في اكثر من موضع من الكتاب من انه كتبه سنة 385 ه «1» و من المعلوم لدينا انه انتهى من كتابة المغني سنة 380 ه.
أما المخطوطة التي اعتمدنا عليها في النشر فهي مخطوطة شهيد علي باستانبول و هي النسخة الوحيدة في العالم المعروفة حتى الآن.
و قد جهدنا- قدر استطاعتنا- ان نقدم النص الصحيح لهذا الكتاب القيم، عازفين عن التعليق إلا في الحالات التي لا بد فيها منه كالتعريف بعلم من الأعلام او فكرة من الأفكار، تاركين للقارى ء الكريم ان يتتبع فكر القاضي كما أراد ان يعرضه و بحرية كاملة. و حرصنا أن نثبت في هامش الكتاب ارقام اوراق المخطوط ليسهل للباحث الرجوع اليه.
و اذا كان لنا ما نرجوه فهو ان نكون قد اسهمنا- بنشرنا لهذا الكتاب- بإضافة لبنة جديدة الى صرح الثقافة الاسلامية، غير طامعين إلا بثواب اللّه و رضاه.
عبد الكريم عثمان بيروت- 30 جمادى الاولى 1386 ه 15 ايلول 1966 م
__________________________________________________
(1) انظر التثبيت 19 ظ، 80 و
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:3
الجزء الاوّل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله، الحمد للّه الذي منّ على عباده بإرسال رسله، و ختمهم بسيدهم محمد صلى اللّه و عليهم اجمعين، فأرسله بالهدى و دين الحق، «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «1»».
هذا كتاب «تثبيت دلائل نبوة نبينا محمد» رسول اللّه صلوات اللّه عليه و سلامه، و الادلة على معجزاته و ظهور آياته، و الرد على من انكر ذلك.
باب [البدء بما في القرآن من إكفار الرسول للامم و البراءة منهم و هو وحيد ضعيف ]
(1/17)
فنبدأ من ذلك بما في القرآن، و بما يجرى مجراه مما يعلمه من سمع اخباره، كالعلم بالقرآن، فقد علم كلّ من اخباره صلّى اللّه عليه و سلم انه ظهر بمكة، فأكفر اليهود و برى ء منهم، و النصارى و الروم و برى ء منهم، و الفرس و المجوس و برى ء منهم، و الهند و برى ء منهم، و قومه من قريش و العرب و برى ء منهم، و عاب آلهتهم، و أكفر اسلافهم، و ضلل اديانهم، و فرق
__________________________________________________
(1) التوبة 33
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:6
آلافهم، و قال لهم: اللّه ارسلني و اصطفاني من العالمين، و جعلني حجة على كل من بلغته دعوتي من الاولين و الآخرين، و جعلني خاتم النبيين و آخر المرسلين، و إن ديني يظهر على الاديان كلها، و ان كلمتي و كلمة اتباعي تعلو، و إنهم هم الغالبون القاهرون المالكون.
و هو اذ ذاك فقير وحيد، اجير معيل، قد اغضبهم و غاظهم بهذه/ الدعوة، و ألبسهم الذل مع وحدته، و بالغ في إسخاطهم، فنهوه و زجروه، بعد ان عاتبوه و عذلوه؛ ثم توعدوه بالاستئصال و البوار، بعد ان رغبوه. فغلبهم على امره، و قال: إني قد قلت لربي حين ارسلني: إني ان قلت هذا لقريش رضخوا رأسي، فقال لي: قل، و بلغهم، فسيغضبهم ذلك، و سيبعثون مكروههم عليك، و سيتحزبون و يجلبون «1» في عداوتك، و يجمعون العساكر لحربك، فأعصمك منهم، و أبعث جنودا لك منهم و من غيرهم، فتكون العقبى لك، فقال هذا و ما هو اشد منه.
يعلم ذلك كل من سمع اخباره ممن صدقه او كذّبه، و هو لا يعتصم بمخلوق، و لا يصوب ملكا من ملوك عصره، و لا يلوذ بأحد من البشر.
(1/18)
بل قد رماهم كلهم عن قوس واحدة بالعداوة، و أسخطهم اجمعين، و بعثهم بهذا الصنيع على عداوته. ثم ما رضي ان يجعل ذلك قولا ثم صفحا، بل خلده و دوّنه، و جعله كتابا يقرأ، و قرآنا يتلى، يسمعه عدوه و قال: ربي قال لي، و ربي و ربكم اوحى به اليّ، فقال: «وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ «2»» و قال: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
__________________________________________________
(1) جلب، توعد بالشر
(2) الاسراء 60
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:7
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1»».
فانهم «2» زادوا غيظا عليه، و صاروا هم و اليهود و النصارى و الفرس و المجوس يدا واحدة في عداوته، و طلب نفسه، و الحرص على قتله، و هم اشد الناس حقدا و أنفة و جبرية «3» و طلبا بطائله، لا يقارّون من عاب/ خيولهم و جمالهم فكيف بمن عاب آلهتهم و آباءهم و عقولهم و ضلل اديانهم، فعصمه اللّه منهم و هو رجل فريد بينهم، و هو في مثوبة الموت، و خندق الخوف، و ذل اليتم، و وحشة الوحدة، لا يعتصم منهم بمخلوق، فصرفهم اللّه عنه و هذه حاله، فلو لم يكن من آياته و دلائل نبوته الا هذا لكفى و أغنى و زاد على الكفاية، لأنه إخبار بغيوب كثيرة، لأنه قال لجميع قريش و لجميع العرب و لجميع اليهود و لجميع النصارى و لكل واحد منهم: لا تقتلونني، مع ما قد جاءهم به مما قد غاظهم و أغضبهم، و هو في هذا القول كالباعث لهم على نفسه، و كالحامل لهم على مكروهه و هو يذكرهم بذلك، فسلم منهم مع هذه الأحوال، فهذا باب كاف شاف.
باب آخر [سلامته صلّى اللّه عليه و سلم مع حرصهم على إيذائه ]
و هذا مقام لا يقومه عاقل إلا ان يكون على غاية الثقة باللّه عزّ و جل و السكون الى وعد اللّه لأنه لو لم يكن كذلك لم تلبث ان تغضب أمم
__________________________________________________
(
(1/19)
1) المائدة 67
(2) في الاصل، فإن
(3) الجبرية و الجبرية: التكبر، انظر القاموس، مادة: جبر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:8
العرب و العجم لأديانهم، و يأنفوا لأنفسهم و آلهتهم، فيستأصلونه و يصطلمونه «1» و يقتلونه و يمحون أثره. فلما سلم مع الحرص على قتله، و آلت الامور الى ما قال، علمت و تيقنت أنه من قبل اللّه، لأن مثله في هذا مثل من قال اني أخوض هذه النار المضرمة فلا تحرقني، او كمن قال: أتردّى من شاهق على/ الأسنّة و انا عريان فلا تنفذ فيّ، او كمن قال: أدخل من هذه السباع الضارية الجائعة التي قد أغضبتها و قتلت اولادها و هي حريصة على افتراسي و محتاجة الى قتلي و الراحة مني فأسلم منها و لا تقتلني، فهذا باب شاف.
و باب آخر [وعده و هو في وحدته اته سيكون في جماعات كثيرة]
و هو ما كان وعد و قال و هو في وحدته، إني سأصير في جماعات و عساكر فكان كما قال و أخبر، لأنه حين دعاهم أنكروا قوله و أكفروه و تلقوه بالردّ و التكذيب، ثم ما زال و النفر بعد النفر يجيبونه، حتى صار في عساكر، فاعتقدوا بصدقه و نبوته، و صاررا له جندا مطيعين، و حزبا متفقين، ينفقون أموالهم و يسفكون دماءهم في طاعته، و يفرّون من آبائهم و يقتلون أبناءهم و يفارقون أوطانهم لأجله و امتثالا لأوامره، و أزكى الأعمال عندهم ما أرضاه بلا دنيا بسطها فيهم، و لا اموال دفعها اليهم، و لا لرئاسة كانت له عليهم، بل كان يتيما فقيرا وحيدا معيلا محتاجا.
ثم جاءهم مجيئا ما جاء نبي قبله في مثل حاله، فان موسى صلّى اللّه عليه و سلم أتى قومه من بني إسرائيل، و هم أولاد الأنبياء، قد اعتقدوا الربوبية و عرفوا
__________________________________________________
(1) اصطلم الشي ء: استأصله. انظر القاموس، مادة: صلم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:9
(1/20)
الطريق اليها و اعتقدوا النبوة و عرفوا الأنبياء قبل موسى، كادم و نوح، ثم الى ابراهيم و اسحق و يعقوب و الأسباط، و ألفوا عبادة/ اللّه، و اعتقدوا المعاد و عرفوه. ثم جاءهم في ذل و أسر و قهر في أيدي الجبابرة من القبط و الفراعنة، يقتلون أبناءهم، و يستحيون نساءهم، و يمنعونهم الصنائع الشريفة و الاحتراف، و يقصرونهم على ضرب اللبن و قطع الأحطاب و الاعمال الشاقة المؤلمة، فجاءهم موسى بما يعتقدون من الربوبية و النبوة، ثم أخرجهم من الذلّ الى العزّ، و من الشقاء الى الرفاهية و الدعة، و من الفقر الى الغنى.
ثم جاءهم من بعد موسى من الأنبياء بما جاءهم به موسى، الى أن انتهت النبوة الى المسيح عيسى بن مريم صلّى اللّه عليه و سلم، فأتى بني اسرائيل بسنن موسى، و شرائع التوراة.
فقدم هو و الأنبياء قبله على أمر ممهد مألوف معروف، و على قوم قد ألفوا و عرفوا، و جاء محمد صلّى اللّه عليه و سلم قوما لا يعرفون الربوبية، و يعبدون الأصنام، و ينكرون البعث و المعاد أشد الإنكار، لا يعرفون نبوة و لا طهارة و لا صلاة و لا صياما و لا زكاة، أشد الناس نخوة و جبرية و أنفة، قاة جفاة، معاشهم من شن الغارات، يسفكون دماءهم و يئدون ذريتهم فرارا من العار.
و دعاهم صلّى اللّه عليه و سلم الى الربوبية، و الى الاقرار بالنبوة و البعث و القيامة، و أخذهم بالصدق و الوفاء و أداء الأمانة و الخضوع للحق، و بالطهارة و الصلاة و الصيام و الاعتكاف و الزكاة، و صلات الأرحام، و قطع السارق، و جلد/ القاذف و الزاني و شارب الخمر، و مساواة الموالي و الفقراء و الأعاجم و الضعفاء في الدماء، و أخذهم بالبراءة من آلهتهم التي يعبدونها من دون اللّه، و من
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:10
(1/21)
آبائهم و من أديانهم، و بالإقرار بضلالهم، و التدين بالبراءة منهم، و ببذل دمائهم و أموالهم في طاعته، و بمجاهدة الأمم و معاداة الجبابرة و الملوك في طاعته «1»، فأخذهم بكل شدة، و أخرجهم من الراحة الى الكدّ و من المسالمة الى العداوة، و ألزمهم ما لم يكونوا ألفوا و لا عاهدوا، و ألزمهم الكلف و المؤن، فأجابوه بهذه الشرائط، فكان مجيئه على الوجوه التي قدمنا ذكرها من آياته و دلائل نبوته صلى اللّه عليه، و لم نجعل طاعة اصحابه له و تصديق القوم له و مصيره في عساكر و جماعات من دلائل نبوتة إلا لأنه اخبر قبل ذلك ان هذا سيكون فكان كما اخبر و كما قال على تلك الوجوه التي شرحناها و بيّناها. لأنه دعاهم الى امور و شرائط ظاهر التدبير و موجب الرأي و اقتضاء الحزم ألا يجيبوه و لا يتبعوه إلا ان يكون من قبل اللّه، و واثقا بوعد اللّه، فان سبيله في ذلك سبيل من قال: هذه النملة الضعيفة تهزم هذه العساكر المعدة، او هذه الزجاجة الرقيقة ترض هذه الجبال الصلبة الشديدة، لأنه قد كان في الضعف
__________________________________________________
(
(1/22)
1) كانت الصبغة الغالبة على أديان العرب في الجاهلية هي الصبغة الوثنية، أي عبادة الاوثان، الا ان هذا لم يمنع وجود عدد من الاديان الاخرى. فقد كان بين العرب صابئة يعظمون الكواكب و النجوم و يعبدونها، و دان بعضهم و خاصة في البحرين بالمجوسية الثنوية، كما وجدت مراكز صغيرة لليهودية و النصرانية. و وجد بعض الافراد ممن اعتقد بتوحيد اللّه، و معظم هؤلاء كان متأثرا بالاديان السماوية السابقة، و منهم زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، و ورقة بن نوفل بن أسد، و عبد اللّه بن جحش، و عثمان بن الحويرث بن اسد. و ليس غرضنا هنا تفصيل أديان العرب في الجاهلية، فان ذلك يعرف في مواضع من كتب العقائد و الديانات و خاصة كتاب الآراء و الديانات للنوبختي، و الملل و النحل للشهرستاني، و الفصل في الملل و النحل لابن حزم. الا اننا نحب ان نشير الى ان القاضي عبد الجبار تعرض لهذا الموضوع بالتفصيل في الجزء الرابع من موسوعته الكبيرة المغنى.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:11
و الوحدة على ما قد علمه الناس، ثم دعاهم الى ما يكرهون، و أخذهم بكل شدة، و فرض عليهم الامور الغليظة الصعبة على ما تقدم من شرح ذلك، فعلمت و تيقنت/ أنه نور اللّه و من قبل اللّه.
(1/23)
فإن قيل: أو ليس قد اباحهم الغنائم، فما تنكرون ان تكون اجابتهم له لهذه العلة؟ قيل له: هذا لا يسأل عنه من يعقل و لا من يفكر لأن القوم قد اعتقدوا صدقه و نبوته فكانت إجابتهم له لهذا و على هذا القربى الى اللّه عن رضى بذلك، فمن ادعى غير هذا فقد أنكر المعلوم، او يكون لم يسمع الاخبار. فهم إنما أجابوه على ان ينفقوا أموالهم و يسفكوا دماءهم و يقتلوا آباءهم و أبناءهم في طاعته و لأجله، فكيف يسوغ لعاقل فكّر و تدبّر ان يقول إنما اجابوه طلبا للدنيا و رغبة في الراحة و الدعة و الأمر بالضد من ذلك. و بعد فان لم يكن تبعوه «1» إلا للغارة و للغنائم لكانوا يقولون له: حاجتنا اليك في الغارة و الغنائم و نحن أعلم بها منك، و هي صناعتنا نحن و عادتنا، و ما الذي يدعونا الى اتباعك و ما معك و ما تبعك إلا ان تبعثنا على الغارة و الغنائم؟ أمن أجل سعة أموالك و كثرة كنوزك و مروج خيولك و اصطبلات دولك؟ أم لخزائن سلاحك. و من أخذنا بأن نكفر آباءنا و نشهد بضلالهم و نسخف أجلاءهم، و نسوء اختيارهم، و نعادي الأمم و جبابرة الملوك، و نسفك دماءنا في طاعتك، و نقتل كل من عاداك و خالفك و إن كانوا آباءنا و أبناءنا أو إخواننا، و نفارق اوطاننا و أزواجنا، و نهجر اللذات من شرب الخمور و لبس الحرير و شفاء الغيظ بقتل/ من سبّنا أو عاب آباءنا كعاداتنا في ذلك، ثم لا نحصل إلا على شي ء اذا غنمناه بقوتنا و غلبنا عليه بأسيافنا بعد المخاطرة بدمائنا
__________________________________________________
(1) في الأصل، تبعه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:12
أن نسلمه إليك فتعطينا بعضه، هذا لا يختاره بله النساء فكيف بالمهاجرين و الانصار الذين أجابوه فصار بهم في عز و منعة، و صبروا على تلك الشرائط التي شرطها.
(1/24)
و بعد فإن لم يكن نبيّا فهم لا يدرون هل يصل الى غنيمة؟ و لعله لا يتم له شي ء مما يعدّ، فما كانوا ليتبعوه لما يظنه الخصم، و لو لا أن هذا قد كان في أهل الذمة و طبقات الزنادقة، و تعدوا الى قوم زعموا أنهم من المسلمين لما ذكرناه، و لكنه شي ء يستزلون به المسلمين الذين لا ينظرون فيما هذا سبيله، و يغترون بالظاهر.
هؤلاء الذين ادعوا أنهم من المسلمين، و أنهم من خاصة الخاصة «1»، و ممن قد عرف ما لا يعرفه غيره، و أن للأمور غوامض و بواطن قد عرفها، فيعتقد من يسمعه في المهاجرين و الأنصار الغافلة و البله و قلة العقل، و من تدبّر، يعلم أنهم أوفر عالم اللّه عقولا، و أحسنهم تحصيلا، و أسرعهم استدراكا لخفيات الامور و غوامضها، لا فرق بين من رمى المهاجرين و الأنصار بذلك، و بين من رمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بذلك. فإن آثار عقول المهاجرين و الانصار معروفة في أفعالهم، و تدبيرهم الدنيا، و سياسة أهلها، و ترتيب خواصهم و عوامهم، و أخذها من أيدي دهاة الملوك و عقلاء الناس، و تفصيل ذلك يطول.
فإن قيل: و من سلم لكم عقل صاحبكم حتى تقولوا إن من دفعنا عن عقول المهاجرين و الانصار كمن دفعنا عن عقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؟
__________________________________________________
(1) يقصد بهؤلاء الباطنية، فقد وقعوا بأكثر الصحابة و هاجموهم، فادعوا أن اسلامهم انما كان لمال او جاه، و لم يستخلصوا من الصحابة الا عددا محدودا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:13
قيل له: إن أعداءه لا يدفعونه عن ذلك، فإنهم قالوا: ما جمع المهاجرين و الانصار و هو فقير وحيد أجير معيل و قد دعاهم الى ما قدمنا و على الشرائط التي ذكرنا إلا بعقل وافر، و حلم واسع، و بلطف في التدبير، و حسن تأتّ و علم بالعواقب، و سعة في الفطن، و هذا قول عدوّه فيه.
(1/25)
فأما وليّه فيقول: هذا لا يبلغه عاقل بعقله، و لو كان أتم الناس عقلا، و أوسعهم علما و حلما، و أكثرهم مالا، و لا يكون هذا على تلك الشرائط إلا بتدبير اللّه عزّ و جلّ، الذي يملك العقول، و يقلّب القلوب، و بوحي منه عز و جل.
فإن زعم الأعداء أن الذي تم له كان مع قلة العقل و بالعجز فيه و الخبط فقد خرجوا من كل معقول، و تبرؤوا من كل تمييز و محصول، و جعلوا أنفسهم ضحكة و أحلوا بها المكاره، و أعطوا خصمهم اكثر مما طلب، و شهدوا بأن اللّه قد نقض له العادات اكثر مما نقضها لأحد من الناس كلهم ممن ادعى النبوة و الحكمة و غيرهم لأنهم زعموا أنه تم له ما تم بتلك الشرائط و على تلك بعقل ضعيف و خلق سخيف و بالذهاب عن الحزم و الحلم و مع طول الغافلة، فاذا تبيّن عقله لمن تفكر من/ عدوّه، علم أن عقول المهاجرين و الانصار مثل عقله أو قريب منه، و كذا عقول قريش ثم العرب؛ فإن العقلاء و الحكماء يقولون: الأمم العاقلة هم:
العرب و الفرس و الهند و الروم، ثم قالوا: أعقل الاربع العرب و الفرس، ثم اختلفوا أيهما أعقل و أحكم و أفطن، الفرس أم العرب؟ و خاضوا في ذلك، و ذكروا ما لكل أمة من وصية و حكمة، و تدبير و سياسة، و هذا ما لا يدفعه العاقل المتفكر المتدبر.
فإذا كان عقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد عرفه عدوه و وليّه، فمن هذا عقله
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:14
لا يأتي تلك الامم و يستقبلها بتلك المكاره التي فصلنا و حاله في الوحدة ما ذكرنا ثم يقول: لا تقتلونني مع حرصهم على قتله، و يقول:
ستصيرون أنصاري مع شدة ما دعوتكم إليه و هو غير واثق بما قال، و لا ساكن الى ما أخبر، ثم لا يرضى او يجعل ذلك كتابا يقرأ، و قرآنا يتلى، و يجعله في يد عدوه فيقول: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» «1».
(1/26)
يريد بالآفاق: ظهور الاسلام عليها، و بلوغ دعوته إليها، لأنه قد كان وعد بذلك و هو بمكة، و حين ادّعى النبوة، فكانوا يقولون: أيطمع محمد أن يظهر على الآفاق؟ لا، و لا على مكة، و لا على دار من دور مكة؛ «و في أنفسهم» يريد: في اسلام من يسلم منهم بعد الردّ و التكذيب/ و من يقيم على تكذيبه و يموت على شركه على ما لعلّه ان يرد تفصيله عليك.
و في هذا المعنى قوله عز و جل: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» «2» لأنه صلّى اللّه عليه و سلم كان اذا ذكر ظهور دينه، و غلبة اصحابه، و قتلهم لأعدائه، استبعدوا هذا بل أحالوه، و قطعوا الشهادة بأن هذا لا يكون أبدا، فيقول في جواب ذلك: «خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون».
و في هذا المعنى قوله عز و جل: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» «3» يعني هؤلاء: مثل أبي جهل، و أبي لهب،
__________________________________________________
(1) فصلت 53
(2) الأنبياء 37
(3) الانعام 89
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:15
و عقبة بن أبي معيط، و الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل و أشباههم و أمثالهم من اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فعزّى اللّه نبيه، و بشّره بقوم يطيعونه و يتبعونه، فيسّر له المهاجرين و الأنصار كما وعده.
و قد أذكره بإنجاز هذا الوعد و وقوع الوفاء به، فقال عز و جل:
«
(1/27)
وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «1» لأن اجتماع المهاجرين و الأنصار له، و اعتقادهم نبوته، و إخلاصهم في طاعته على تلك الشرائط التي تقدم ذكرها، و على الوجوه التي/ قرر دعوته عليها لا يكون و لا يتم باتفاق جميع ما في الارض، و لا يكون ذلك إلا بتدبير اللّه و صنعه، و هو من آياته التي نقض العادات بها.
و مثله قوله: وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «2»» و هم قد كانوا عقلاء قد عرفوا هذا «3»، و لا يجوز في العقل ان يقول رئيس قوم لأتباعه: قد كنتم اعداء يعادي بعضكم بعضا ثم صرتم اخوانا يخلص بعضكم لبعض المودة و بي هداكم اللّه و جمعكم
__________________________________________________
(1) الانفال 62 و 63.
(2) آل عمران 103 و 104.
(3) يشير القاضي الى الدعوة العباسية التي حمل العب ء الأكبر في تأسيسها ابراهيم بن محمد ابن علي بن عبيد اللّه بن العباس، و قد بويع بعده لأخيه أبي العباس عبد اللّه بن محمد و ذلك في سنة 132 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:16
(1/28)
و هو يعلم انهم يعلمون انه قد كذبهم؛ هذا في رئيس لا يدعي النبوة فكيف بمن يدعي الصدق و النبوة؟ و هذا قول قد سمعه عدو النبي صلّى اللّه عليه و سلم من اليهود و النصارى و قريش و العرب، و أخرسهم صدقه، و بهر عقولهم تمامه و الوفاء به، لأنهم اجتمعوا له بتلك الشرائط التي قد تقدمت، و هو بخلاف اجتماع الاتباع لخطّاب الملك و طلاب الدنيا.
فان قيل: أفليس عليّ بن عبد اللّه ابن العباس ابن عبد المطلب عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ابنه محمد و بنو محمد، كإبراهيم الامام و إخوته، كأبي العباس، و أبي جعفر، و غيرهما، قد كانوا مقهورين و مغلوبين ببني امية، فدعوا الى انفسهم بخراسان فأجيبوا، و صاروا في عساكر و جماعات، فغلبوا بني امية على الملك، و قتلوهم و أخذوا كل ما في ايديهم الا بلاد الاندلس من ارض المغرب، فلم لا يكون سبيل نبيكم و غلبته هذه السبيل؟ و إلا فقد لزمكم ان تقولوا بنبوة بني العباس كما قلتم بنبوة صاحبكم.
قيل له: قد فرغنا من هذا مرة و تبيّنا الجواب فيه، و هو أنا لم نقل بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم لأنه صارت له رئاسة و صار متبوعا و صارت له عساكر، و لكن لأنه أخبر بالأمور قبل كونها على غير مجرى العادة، بل على ما هو نقض للعادات، لأنه أتى الناس و هو وحيد فقير أجير، فأغضبهم و غاظهم و جادلهم و عادوه، و أخبر أنهم سيغلبون، و أنه يغلبهم و يقهرهم، و قالوا: بل نحن نغلبك و ندبرك، و كان موجب التدبير و مقتضى الحزم أن تكون الغلبة لهم لا له، إلا أن يكون من قبل اللّه و رسولا للّه، لأنهم و اليهود و النصارى و الفرس و المجوس يد واحدة في عداوته و القصد
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:17
لقتله و إطفاء نوره و لمنع اتباعه، و الرجال و الكراع «1» و السلاح مع عدوه لا معه، فالت الأمور الى ما قاله، و كما أخبر، و على ما فسر.
(1/29)
و لم تكن هذه سبيل بني العباس؛ فإنهم ما ادعوا نبوة و لا رسالة، و لا أتوا مثل ما أتى من الإخبار بالغيوب.
و أخرى ان بني العباس قصدوا، المسلمين من اهل خراسان، الذين قد اعتقدوا نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فتدينوا باقامة شريعته وحد حدوده، بانكار ما أنكره و باكرام من اكرمه، و إجلال من اجله، و باهانة من ارتكب الكبائر فشكوا اليهم ما نزل ببني هاشم خاصة ثم بالمسلمين عامة من بني أمية. و بنو هاشم اذ ذاك كلمة واحدة، ما اختلفوا و لا تباينوا. فكان ولد العباس و ولد علي و ولد جعفر و ولد عقيل «2» و سائر بني هاشم متفقين، و انما اختلفوا بعد مصير الدولة و الملك الى بني العباس أيام أبي جعفر المنصور، فجرى بينه و بين بني عمه من ولد الحسن ما هو معروف، فحينئذ اختلفوا، فذكر بنو هاشم لأهل خراسان ما صنعه بسر بن أرطاة بعبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، و انه قصده و هو عامل امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه، فهرب من يده، و وجد له ابنين طفلين فقتلهما و قتل جماعة من اصحابه «3». و أذكروهم بقتل حجر بن عدي
__________________________________________________
(1) الكراع من الدابة: ما دون الساق، يريد القاضي ان يشير الى الخيل و غير ذلك من الحيوانات التي يتقوى بها على القتال. انظر لسان العرب، مارد كرع
(2) يقصد: العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى اللّه عليه و سلم، و علي بن ابي طالب، و جعفر بن ابي طالب، و عقيل بن أبي طالب رضي اللّه عنهم جميعا.
(3) انظر لتفصيل هذه الحادثة الطبري 1: 3451 و 3452
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:18
(1/30)
و أصحابه «1»، و بكربلاء و من قتل من بني هاشم بها، و بقتل مسلم بن عقيل «2»، و بالحرة «3»، و بعسكر التوابين «4» من اهل عين الوردة، و بما أنزلوه بالكعبة في قتال آل الزبير «5»، ثم بمن قتلوه من القراء او الفقهاء الذين ثاروا مع عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث «6» في الانكار على الحجاج و عبد الملك بن مروان، و بقتل زيد بن علي و يحيى بن زيد «7»، و بصنيع
__________________________________________________
(1) لتفصيل حادثة مقتل حجر بن عدي من قبل بسر بن أبي أرطأة عامل معاوية انظر الطبري 2: 111.
(2) قتل مع الحسين رضي اللّه عنه سنة 61 ه هو و اخوه و ابنه الطبري 2: 388
(3) الحرة في الأصل هي الارض ذات الحجارة السوداء النخرة كأنها أحرقت بالنار، و هناك أماكن كثيرة أطلق عليها هذا الاسم. و المقصود هنا حرة المدينة حين وردها مسلم بن عقبة من قبل يزيد بن معاوية و كانت فيها وقعة الحرة سنة 63 ه حيث استبيحت المدينة بعدها ثلاثة ايام. انظر معجم البلدان 2: 247 و الطبري 2: 412 و ما بعدها.
(4) المقصود بهم من خرج من اهل العراق يطلبون دم الحسين رضي اللّه عنه سنة 65 ه و قالوا: أخرجتنا التوبة من ذنبنا و الطلب بدم ابنة نبينا صلى اللّه عليه و سلم. انظر تفصيل ذلك في الطبري 2: 538- 576.
(5) كان رمي الكعبة بالمنجنيق بأمر من الحجاج سنة 73 ه و قيل 74، و كان اميرا لجيوش بني امية المحاصرة لعبد اللّه بن الزبير في مكة، و قد قتل عبد اللّه بن الزبير في تلك السنة. ابو الفداء 1: 197.
(6) خرج عبد الرحمن بن الاشعث على الحجاج سنة 75 و استولى على خراسان و غلب على الكوفة، لكن الحجاج قضى على حركته في نفس السنة، و كان قد خرج مع الأشعث مجموعة من القراء و الفقهاء. ابو الفداء 1: 197.
(
(1/31)
7) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب 79- 122 ه كان فقيها، و قرأ على واصل بن عطاء و اقتبس منه بعض آراء المعتزلة. خرج على الامويين سنة 120 في العراق و كان عامل الامويين فيه يوسف بن عمر الثقفي، و قد قاتله والي الكوفة الحكم بن الصلت، و استشهد سنة 122 ه. الطبري 8: 260، 271، فوات الوفيات 1: 164.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:19
الوليد بن يزيد/ بن عبد الملك «1» و ما اتى من شرب الخمور و المجاهرة بذلك.
فأثار بنو العباس و دعاتهم اهل خراسان بذلك، فقدم بنو العباس على امر ممهد و جند مجند، و على قوم مسلمين قد صدّقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و رضوا بما رضي رسول اللّه، و غضبوا مما يغضب منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فبنو العباس الى رسول اللّه نحوا، و بأمته و المصدقين به استجاروا، فالذي تم لهم فبرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تم، و بظله تفيئوا، و به تستروا، و هذه سبيل كل من ادعى بعده صلّى اللّه عليه و سلم الامامة من بني هاشم و من جميع قريش او ادعى انه من قريش.
و كلهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تشبثوا، و به تستروا و استعاذوا و لاذوا، و لأجله تم لهم ما تم. و أنت تجد ذلك في واحد واحد منهم في مشارق الارض و مغاربها، و تعرف الحق منهم من المبطل، و الدّعيّ من الصريح، فأين هذا من دعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سبيلها ما قدمنا و شرحنا.
فإن قيل: أو ليس مع ادعائه النبوة قد حمل السيف على من خالفه، و حارب بمن أطاعه من عصاه، فما تنكرون ان يكون الذي تم له من اوله الى آخره انما تم بالسيف و بالمكابرة، لا بالآيات و المعجزات؟
(1/32)
قيل له: ما انكرنا انه حمل السيف، و انما كلامنا في الذين صاروا سيوفا له و عساكر/ و بهم استطال على عدوه، فإن هؤلاء قد أجابوه بلا دنيا و لا سيف كما قد قدّمنا و بينا، و بمصيرهم الى طاعته صحت نبوته فظهرت دلائل رسالته، لأنه ما خلق قوما حملوا السلاح معه، و انما أجابه المهاجرون
__________________________________________________
(1) الوليد بن يزيد هو الخليفة الحادي عشر من خلفاء بني امية، تولى امرة المسلمين سنة 125 ه و عكف على شرب الخمر و سماع الغناء و معاشرة النساء، و قد ثقل امره على الرعية و الجند فثاروا عليه سنة 126 ه بعد ان دعا يزيد بن الوليد بن عبد الملك الى نفسه، و قد قتل الوليد في نفس السنة. تاريخ ابي الفداء 205- 206.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:20
و الأنصار الذين هم من قريش و غيرهم من العرب و قد أتاهم بإكفارهم و إكفار آبائهم على ما شرحنا و بينا، و هو من الوحدة و الفقر على ما ذكرنا، فمكث بمكة بعد ادعائه النبوة خمسة عشر سنة يدعو الى دينه، فيجيبه النفر بعد النفر على خوف شديد، و قد تجردت قريش و غيرهم من اعدائه له صلّى اللّه عليه و سلم و لمن اتبعه و أطاعه، فيقصدونهم بالضرب و التعذيب الشديد، و يمنعونهم الأقوات، و يتعاهدون على ان لا يبايعوهم و لا يشاروهم و لا يناكحوهم، و قد كتبوا في ذلك الصحف «1»، و قد قتلوا منهم قبل الهجرة رجالا و نساء و كانوا يرصدون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لدعاته إذا خرج الى الموسم لدعاء الناس و إظهار ما معه و تلاوة القرآن، فيقولون للعرب: هذا منا و قد صبأ و هو ساحر كذاب، فلا تطيعوه و لا تسمعوا لما معه، فنحن اعلم به، و قد سفه احلامنا، و ضلل ادياننا، و اكفر آباءنا، و فرق آلافنا، و أفسد أحداثنا و عبيدنا و نساءنا.
(1/33)
ثم كان هو صلّى اللّه عليه و سلم يرجم و يضرب الضرب المبرح، و يداس و يطرح على رأسه الفرث و التراب/ و يلقى من المكاره هو و من اتبعه ما يطول شرحه «2». فلم يكن لأصحابه مع شرفهم و شرف أهلهم قرار، و لا أمكنهم المقام للشدائد التي تنالهم، حتى فروا بأديانهم في الأمصار و البلدان حتى عبروا البحار و صاروا الى ارض الحبشة «3»، فتعرف قريش أخبارهم
__________________________________________________
(1) لما رأت قريش ان امر النبي صلى اللّه عليه و سلم في ازدياد و ان عمه ابا طالب يحميه منهم ائتمرت بينها ان يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه على ان لا ينكحوا الى بني هاشم و بني المطلب و لا ينكحوهم و لا يبيعونهم شيئا و لا يبتاعوا منهم، و قد انحازت بنو هاشم و بنو المطلب الى ابي طالب فدخلوا معه في شعبه إلا عمه ابو لهب فانه ظاهر قريشا. و قد اقام المسلمون على ذلك سنتين او ثلاثا حتى جهدوا. الطبري 1: 1190
(2) انظر الطبري 1: 1198- 1199
(3) كانت الهجرة الاولى الى الحبشة في السنة الخامسة من بعثة النبي صلى اللّه عليه و سلم، و قال بعض المؤرخين ان عدد المسلمين المهاجرون منها كانوا احد عشر رجلا و أربع نسوة. الطبري 1: 1181، و قال بعضهم بل كانوا اثنين و ثمانين رجلا. الطبري 1183.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:21
و الى أين توجهوا، فترسل في طلبهم و تغري بهم و تنفر عنهم و تنفق في ذلك الاموال. فأرسلوا الى النجاشي ملك الحبشة و هو اذ ذاك نصرانيّ بمن ينفّره عن المسلمين الذين فرّوا بأديانهم الى ارض الحبشة، و حملت اليه قريش هدايا و لاطفوه، و قالوا له: إن هؤلاء قوم منا، و قد اتبعوا رجلا منا فأفسدهم، و هو عدونا و عدو النصارى، و هو يقول في المسيح: أنه عبد مخلوق، فسلموهم الينا.
(1/34)
و كان هناك عثمان بن عفان و معه امرأته رقية بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و جعفر بن أبي طالب و معه أسماء ابنة عميس، و خالد بن سعيد بن أبي أحيمة، و الزبير بن العوام «1»، و عمار بن ياسر «2»، و أبو حذيفة بن عتبة «3»، و نحو مائة من وجوه المهاجرين، و كانت لهم مع رسول قريش الى النجاشي مجالس و خصومات طويلة، فصارت العقبى للمسلمين، و قامت حجتهم، و عرفها النجاشي ملك الحبشة فأسلم و استبصر «4».
و ما زال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعرض نفسه على اهل المواسم اذا اجتمعت/ قبائل العرب، و خرج الى الطائف «5» يدعو الى اللّه و يقول: أنا رسول اللّه
__________________________________________________
(1) الزبير بن العوام الصحابي المشهور المتوفي سنة 36 ه، و لمعرفة خالد بن سعيد بن ابي أحيمة (العاص) انظر الاصابة 1: 91، و لبنت عميس و جعفر الاصابة 1: 11، و أسماء هي زوجة خالد بن سعيد.
(2) عمار بن ياسر الصحابي الجليل المتوفي سنة 37 ه، و قد شهد بدرا و أحدا و الخندق و ليلة الرضوان، انظر الاستيعاب بهامش الاصابة 2: 469.
(3) هو ابو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، هاجر الى الحبشة و معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو.
(4) كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يذكر النجاشي بالخير دائما، و قد نعاه بنفسه للمسلمين سنة تسع من الهجرة.
(5) كان ذلك بعد وفاة ابي طالب عم الرسول صلى اللّه عليه و سلم، فقد خرج الى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف فرده سادتها: عبد يا ليل بن عمرو، و مسعود بن عمرو، و حبيب بن عمرو ردا قبيحا، و أغروا به سفهاءهم و عبيدهم يسبونه و يصيحون به، حتى التجأ الى حائط لعتبة ابن ربيعة و شبيبة بن ربيعة. الطبري 1: 1200.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:22
(1/35)
فمن يجيرني حتى أبلغ رسالة ربي؟ و قريش تتبعه و تمنع من اتباعه. و قد عرض نفسه على القبائل «1»، و معه ابو بكر الصديق و عليّ بن ابي طالب، و عمه ابو لهب يقول لتلك القبائل: نحن أهله و أعلم به فلا تسمعوا منه و لا تقبلوا قوله، فتلقى تلك القبائل رسول اللّه بالجفاء، و يقولون له: قومك أعلم بك، و لو كان عندك خير لا تبعوك، فأمسك عنا، الى ان انتهى الى ربيعة و الى ذهل بن شيبان، فكلمهم و تلا عليهم القرآن، فقالوا: إنا على هذا الماء من ذي قار، و قد اخذ علينا كسرى ألا نحدث حدثا، و لا نؤوي محدثا، و هذا الذي أتيت به و دعوت اليه تكرهه الملوك، فإن شئت ان نجيرك إلا من الملوك فعلنا، فقال صلّى اللّه عليه و سلم: ما أسأتم بالرد إذ أفصحتم بالصدق، إن هذا الدين لا يكون من اهله إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن أظهركم اللّه عليهم، و أورثكم ارضهم و ديارهم و اموالهم و أفرشكم نساءهم أتطيعونه و تعبدونه حق عبادته؟ فتعجبوا من قوله و من إقدامه على ان ملك كسرى يزول بدعوته و يصير ملكه لأصحابه، استبعادا لذلك، و استعظاما لملك كسرى ان يزول بجبابرة الملوك الأقوياء الاغنياء، فكيف يزول بهذا الوحيد الفقير؟ ثم/ يقولون هذا عاقل، و لم يكن ليقول هذا و يعرّض نفسه للملوك إلا و هو على ثقة، ثم انصرف عنهم و ما اجابوه.
و ما زال يدعو و يعرض نفسه في المواسم اذا اجتمعت العرب، الى ان لقيته الانصار «2»، فسمعت منه و أجابوه و اسلموا، و خرجوا الى المدينة
__________________________________________________
(1) انظر تفاصيل عرض النبي نفسه على القبائل في الطبري 1: 1200- 1209.
(
(1/36)
2) كان اول من تلقى الرسول من اهل المدينة ستة نفر من الخزرج قدموا مكة في موسم الحج، و عادوا الى المدينة بعد ان أسلموا، فدعوا قومهم الى الاسلام، و توالت الوفود من المدينة الى مكة في مواسم الحج اللاحقة، و كانت بيعة العقبة الاولى التي حضرها اثنا عشر رجلا من الانصار، ثم كانت العقبة الثانية التي شهدها سبعون رجلا و معهم امرأتان من نسائهم. انظر تفاصيل ذلك في الطبري 1: 1208- 1222.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:23
و دعوا الى الاسلام، ثم عاد قوم آخرون في سنة اخرى و بايعوه و هو مقيم بمكة، ثم عادوا في سنة ثالثة مع آخرين فبايعوه و رجعوا الى المدينة، و ظهر الاسلام بها.
و الانصار رضي اللّه عنهم انما هم قبيلتان عظيمتان من قبائل اليمن، ذو بأس و شدة و أموال، و ذو شوكة «1» شديدة و عدد و عدة، قد ترددوا اليه، و سمعوا دعوته و احتجاجه، فأجابوه على البراءة من اديانهم التي كانوا عليها، و من آبائهم، و على ان يبذلوا اموالهم و دماءهم، و على معاداة ملوك العرب و العجم في طاعته و له و لأجله.
و كم قد اسلم و أجاب على هذه السبيل من قبائل العرب، كقبيلة اسلم، و كقبيلة غفار، و هما من قبائل خزاعة و كنانة «2»، و كالذين اسلموا من عبد القيس «3» و هم من فرسان ربيعة و رجالهم، و من قبائل فزارة «4»، و من قبائل جهينة، على هذه السبيل. و كم اسلم من اهل اليمن من ملوكها من حمير و غيرهم، الى من اسلم من ملوك عمان من ولد الجلندي بن كركر «5»
__________________________________________________
(1) كذا في الاصل
(2) انظر اسلام قبيلة أسلم و قبيلة غفار و فزارة و جهينة و فضائل هذه القبائل في البخاري و مسلم باب المناقب.
(3) و كان قدوم وفد عبد القيس في السنة العاشرة للهجرة.
(
(1/37)
4) كان اسلام فزارة و كثير من قبائل العرب في العام التاسع للهجرة، و كان على رأس وفدهم الى النبي خارجة بن حصن، الطبري 1: 1720. و قد سمي العام التاسع بعام الوفود لكثرة ما ورد المدينة من قبائل العرب معلنة اسلامها.
(5) انظر لفضل عمان و الجلندي صحيح مسلم في المناقب. و كان عمرو بن العاص رسولا من الرسول صلى اللّه عليه و سلم الى ملكي عمان جيفر و عبد بن الجلندي. السيرة الحلبية 3: 252.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:24
و كم قد اسلم من العجم و الانباط بصنعاء الذين كانوا جنود كسرى، و اخرجهم مع سيف بن ذي يزن لينتصروا له من ملوك الحبشة الذين قتلوا اباه. و لعل قصتهم ان ترد عليك بأكثر من هذا الشرح.
فالذين اجابوه صلّى اللّه عليه و سلم و بهذه الشرائط و بلا حرب خلق كثير، و امم عظيمة هي مذكورة، يعرفها اهل العلم، و من اراد ان يعرف/ ذلك حتى يصير في مثل حالهم قدر على ذلك و وجد السبيل اليه. فهؤلاء الذين اسلموا للّه و من خوف و تقربا الى اللّه، و هم عساكره.
و لما نشأت بدعة الخارجية «1» و هي اول بدعة نشأت في الاسلام، ثم بعدها و بعد دهر طويل نشأت بدعة الارجاء «2»، ثم بعدها بدهر طويل نشأت بدعة القدر «3»، و بعد بدعة القدر بدهر طويل نشأت بدعة الرفض «4». فكان العلماء يقولون: لا تسبّوا اصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم فانهم اسلموا من خوف اللّه و أسلم الناس من خوف اسيافهم.
__________________________________________________
(1) طائفة من المسلمين كانوا من اصحاب علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه ثم خرجوا عليه بعد قبوله للتحكيم و اتهموه بالكفر لذلك و طلبوا منه ان يتوب و يجدد اسلامه، و قالوا ان مرتكب الكبيرة كافر. و قد حاول علي ان يقنعهم فلم يستطع فحاربهم، ثم حاربهم خلفاء بني امية. لم يبق منهم الآن إلا عدد قليل في عمان و ليبيا و الجزائر.
(
(1/38)
2) المرجئة على النقيض من الخوارج، فقد قالوا ان مرتكب الكبيرة مؤمن و انه لا يضر مع الايمان كفر، و هم على درجات في عقيدتهم هذه.
(3) يقصد من يقول ان العبد لا يقدر على فعله و ان افعال العباد مخلوقة من اللّه فيهم.
(4) الرافضة طائفة من الشيعة، و يسميهم القاضي احيانا بالباطنية، و اصح الاقوال في سبب تلقيبهم بذلك انهم طلبوا من زيد بن علي بن الحسين (و تنسب اليه الزيدية) ان يسب ابا بكر و عمر فرفض ذلك فرفضوه، و لم نجد ضرورة لتفصيل القول في هذه الطوائف لأنه ليس من مجال حديثنا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:25
و فاض الاسلام بالمدينة و في هذه القبائل، و أقيمت فيها الصلاة، و أديت الزكاة، و أقيمت الجماعات و الجمعة، و أقرى ء القرآن، و صارت المدينة دار الهجرة؛ و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مقيم بمكة محصور في الشعب يؤذى و يقصد بأنواع المكاره هو و من اتبعه، الى ان هاجر الى المدينة و معه ابو بكر الصديق الهجرة المعروفة.
فهؤلاء الذين اجابوا بلا حرب، و قبل الحرب احتججنا، و هو موضع دلالتنا في هذه الآية التي اخبر و هو في تلك الحال انكم ستجيبونني، و إن كانت لنا في الحروب و المحاربين دلائل اخرى لعلنا نذكرها لك في كتابك هذا ان شاء اللّه.
فإن قيل: أو ليس قد كان يدافع عنه عمه ابو طالب و إن كان على غير دينه، و يشفع الى قريش فيه، و يعاتبهم في بابه، و يذكرهم بصدقه و أمانته و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم معروفا فيهم قبل الرسالة بمحمد الامين، و يسألهم الكف عنه و عن اذيته. و قد نصره ابو بكر الصديق و صدّقه و كاشف «1» في بابه، و أنفق ماله في/ نوائب الاسلام و في عتق المعذبين في اللّه و اتبعه من اهل مكة جماعة. و أسلم عمر قبل الهجرة و كاشف، و قال: لا نعبد اللّه سرا، فكيف ادعيتم له الوحدة و عليه الغلبة و هو بمكة؟
(1/39)
قيل له: قد علمنا انه حين دعا كان وحده و الناس كلهم على خلافه، و ليس في اجابة هؤلاء و مدافعة ابي طالب طعن «2» فيما استدللنا، بل هو من الدلائل على ما قال صلى اللّه عليه قبل ان يجاب انه يستجاب و ينصر، ثم مع
__________________________________________________
(1) كاشفه بالعداوة: بادأه بها. انظر القاموس: مادة كشف
(2) و قد كتب فوقها في الاصل: به، و هي زائدة من الناسخ او المعلق.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:26
نصرة هؤلاء و إجابتهم له صلّى اللّه عليه و سلم و مدافعة ابي طالب، ما خرجوا و لا هو خرج من ان يكون و يكونوا بمكة مقهورين مغلوبين، حتى فروا من عدوهم بأديانهم.
فإن قيل: فاذا كان اللّه قد وعد هؤلاء الانبياء بزعمك بالنصر و الظهور فلم يفرّون من اعدائهم؟ فقد فرّ موسى من فرعون ببني اسرائيل ليلا و خفية و منع من إبقاد النيران لئلا يراها فرعون و جنوده فيستدلوا بها عليهم و معه الآيات و المعجزات، و فرّ عيسى من مكان الى مكان بزعمكم و زعم النصارى، فانها تقول في اخبارها و أناجيلها ان يوسف النجار فرّ بعيسى و أمه الى مصر من بيت المقدس خوفا من هيريدس «1» ملك بني اسرائيل، فأقاموا بها اثني عشر سنة و معه بزعمكم و زعم النصارى الآيات و المعجزات، و فرّ صاحبكم من قريش و أقام بالغار و معه ابو بكر ثلاثة ايام و معه كما زعمتم الآيات و المعجزات.
قلنا: ليس في فرارهم طعن في اعلامهم، و ما قالوا لا يفرّ و لا يتوقى فيكون في فرارهم تكذيب، فإن كل شي ء و عدوا به و قالوه قبل ان يكون قد كان و تم على ما قالوه و شرطوه/ قبل ان يكون، و ليس في فرارهم ايضا مقاربة لعدوهم و لا مداهنة، بل انما احتاجوا الى الفرار لترك المداهنة و المقاربة، و لشدة المكاشفة لعدوهم، و المبالغة في اسخاطه و إرغامه، و لو قاربوا العدوّ و اتقوه لما احتاجوا الى الفرار.
(1/40)
فاحفظ هذا فانك محتاج اليه، فإن قوما زعموا انهم اتباع الانبياء من المسلمين، اجازوا على انبياء اللّه و على من هو حجة اللّه على خلقه المداهنة__________________________________________________
(1) هيرودس او هيرودوس هو حاكم فلسطين الروماني آنذاك. و انظر لقصة هرب يوسف النجار و عيسى عليه السلام و امه مريم: الاصحاح الثاني 13 متى
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:27
و المقاربة للمشركين و لأعداء الدين، و أن الانبياء يمدحون المشركين و يزكون اعداء الدين و يظهرون ذلك، و يذمون المؤمنين و يتبرؤون من الأنبياء و المرسلين خوفا من المشركين، و يزعمون ان حجتهم في ذلك فرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و استتاره في الغار ثلاثة ايام «1». و قد بيّنا انه لا حجة لهم في ذلك، بل هو الحجة عليهم، و أن الذي اخرج الانبياء الى الفرار شدة المكاشفة، و ترك المقاربة، و قائل هذا لا يثق بأفعال الأنبياء و أقوالهم، و لا بتزكية من زكوه، و لا بلعن من لعنوه، لأنهم قد قالوا انه قد يجوز ان يكون ظاهر الانبياء بخلاف اسرارهم و ضمائرهم، و أيضا فان الأنبياء لا يجوز ان يكون ظاهرهم بخلاف باطنهم و إن خافوا و إن قتلوا، و هذا اصل كبير فاعرفه.
فإن قيل: ادعيتم ان اعداء نبيكم من قريش و العرب و اليهود و النصارى حرضوا على قتله و هو بمكة، و هو في تلك الحال من الوحدة و الذلة و ضعف الاتباع، فمن اعطاكم هذا، و من سلمه لكم؟
قيل له: ان من سمع اخباره و اخبار القوم معه يعلم ذلك، علما لا يرتاب به، كما يعلم انهم قد كذبوه و عادوه و اغضبهم ما اتاه و شرعه و دعا اليه، و لا فرق/ بين من قال: انهم ما حرضوا على قتله، و بين من قال: و لا كذبوه و لا عابوه و لا برئوا منه، و لا انكروا شيئا اتى، و لا خالفوه، و ادعى انه هو ايضا ما خالفهم، و لا عاب اديانهم و آلهتهم، و لا ادعى النبوة، و لا خالفهم في البعث و النشر.
(1/41)
و قد حرضوا ايضا على ذلك و هو بالمدينة، و اعداؤه فيها معه من العرب
__________________________________________________
(1) يقصد بهؤلاء الباطنية.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:28
و اليهود و النصارى و هم كثير و نزول بالمدينة و حولها في آطامهم و حصونهم محدقون بها كالإكليل، و قد غدروا به، و ارسلت قريش اليهم في ذلك، و دست غير واحد، و كان من عامر بن الطفيل و أزيد في الاحوال التي كان يكون فيها وحده فيصرفهم اللّه عنه بألوان الصرف، كما صرف ابا جهل و عقبة بن ابي معيط و الذين كانوا بمكة، كما هو مذكور. و كم دسوا له السم في الطعام فصرفه اللّه عنه، و قد راموه منه في طول حياته، و قد كان معهم و هو بالمدينة في التبذل و التفرد و التطرح اكثر زمانه، على مثل حاله و هو بمكة. و انما كان يكون في جماعة في اسفاره و في حروبه، فأما بيوته و حجرات نسائه فمن جريد النخل، و قد علم اهل العقل و التحصيل الفتك بجبابرة الملوك في حصونهم و قصورهم و هم وراء الابواب الحديد، و قد تحرزوا بصنائعهم المشاركين لهم في نعمهم بعبيدهم، كصنيع شيرويه بكسرى ابرويز «1»، و قبله من ملوك فارس من كانت هذه سبيله. و كما جرى على المتوكل من المنتصر، ثم على ولده، الى ما جرى من الفتك بمحمد بن المعتضد/ المسمى بالقاهر باللّه، الى المتقي، و الى المستكفي، و الى ما جرى بالإحساء على ذكيره الاصفهاني من جنوده و اعوانه سنيّ نيف و خمسين و ثلثمائة للهجرة في جوف داره و احصن قصوره، و حوله و في حجرته و معه ممن له نوبة في حراسته و حفظه من الرجال المتسلحين اكثر من الفين، فقتل وحده من بينهم، و رفع رأسه.
__________________________________________________
(
(1/42)
1) يقصد الاشارة الى ما صنعه شيرويه في سبيل الحصول على الملك، اذ شارك في قتل ابيه كسرى أبرويز و كان من اعظم ملوك فارس، و قد عاصر الرسول كليهما و كانت هجرته عليه الصلاة و السلام ايام كسرى ابرويز. انظر الطبري. ثم ما كان يفعله الخلفاء العباسيون في سبيل الوصول الى الحكم من قتل آبائهم او اخوانهم او اقاربهم. و كذلك ما فعله خادم ذكيره (ذكرويه) الاصفهاني القرمطي من قتله.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:29
و ليس في هؤلاء من أغضب الناس إغضاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لا من ادعى دعواه، و لا من أذكر عدوّه بعداوته و أيقظه و بعثه على قتله و خرج إليه بذات نفسه و ما يريد ان يعمله، مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فانه أتاهم على الوجه الذي ذكرنا في الوحدة و الفقر و رماهم بتلك العداوة، ثم قال:
و لا تقتلوني، بل أنا أقتلكم و أسبيكم و أستبيح حصونكم، فكان كما قال.
فإن قيل: و من سلم لكم أن المهاجرين و الانصار كانوا يعتقدون نبوته و صدقه، سيما و في اهل ملتكم اليوم من طوائف الشيعة من يقول: إن أبا بكر و عمر و عثمان و تلك الجماعات و المهاجرين و الانصار ما آمنوا به قط، و لا اعتقدوا صدقه و لا تعظيمه و لا إجلاله و لا توقيره، و ما كانوا إلا زائرين «1» عليه، معتقدين تكذيبه و افتعاله و احتياله، و انما كان اتباعهم له هزآ به، و اغتيالا له، و سخرية منه، و إرصادا لزلالنه و إفساد امره، و لإبطال تدبيره، و لمغالبته على الرئاسة، و أنهم ما أقاموا له وزنا قط. و انما كان الذين يعتقدون ما ادعيتم فيه نفرا يسيرا، كانوا مغلوبين مقهورين بهذه الجماعات من المهاجرين و الأنصار، و أنهم خرجوا من/ الدنيا على حال القهر و الغلبة من هؤلاء المهاجرين و الأنصار، و معهم بذلك روايات و أقوال و نصوص يدعون انها من صاحبكم، و تصنيفات قد ملأت الدنيا.
(1/43)
قيل له: إنا ما قلنا في أبي بكر و عمر و عثمان و تلك الجلة و الوجوه من المهاجرين و الانصار انهم قد اعتقدوا تبرئته و صدقه، لمجامعة من ادعيت من الشيعة لنا، و انما قلنا ذلك بالتأمل لأحوالهم و بالاستنباط الذي قد ذكرنا
__________________________________________________
(1) هذه الكلمة في الاصل تختلط مع زارين، و الزئير صوت الأسد من صدره، و الزائر اسم الفاعل. يعني القاضي هنا بيان شدة موقف الصحابة بزعم الباطنية من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:30
(1/44)
لك، فلن يقدح ذلك في علومنا، و لن يوحشنا خلاف من خالفنا كائنا من كان من خلق اللّه، و قد شرحنا كيف كانت دعوته و على اي شرط كان إجابة القوم له؛ و قد علمنا قبل العلم بنبوته و صدقه انه صلّى اللّه عليه و سلم قد كان يحب أبا بكر و عمر و عثمان، و تلك الجماعة من المهاجرين و الانصار يحبونه، و يواليهم و يوالونه، و أنهم كانوا ثقاته و بطانته و أمناءه على نفسه و دينة و أهله، و أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان أحب اليهم من اهلهم و آبائهم و أنفسهم؛ كما قد علمنا ان أبا جهل و أبا لهب، و الوليد بن المغيرة، و عقبة بن ابي معيط، و النضر بن الحارث بن كلدة، و العاص بن وائل، و ابن العيطلة، و أمية بن خلف، و أبيّ بن خلف، و عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و أولئك الملأ من قريش، كانوا اعداءه، و كذلك الملأ من اليهود، و كبني قريظة، و النضير، و كبني القعقاع، و كخيبر، و تلك القبائل من ثقيف، و غيرها من العرب، كانوا اعداءه و كان عدوا لهم يبغضهم و يبغضونه، و يعتقدون كذبه، و أنه مبطل، و لا فرق/ بين من ادعى في ابي بكر و عمر و عثمان و تلك الجماعات من المهاجرين و الانصار انهم ما اعتقدوا نبوته، و بين من ادّعى فيمن ذكرنا من قريش و العرب و اليهود و النصارى انهم ما اعتقدوا بغضاءه و لا كذبه؛ و من انتهى الى هذا فقد بلغ الغاية في الجهل، و لا فرق بين ادّعى هذا على هؤلاء من المهاجرين و الانصار، و من ادّعى ان الروم و الفرس و الهند الذين كانوا في زمانه و زمان نبوته ما اعتقدوا تكذيبه و إن كان قد ظهر منهم ما قد ظهر.
فإن قيل: فكيف صدت طوائف الشيع عن هذا؟
قيل له: هذا إنما يعرف بالتأمل و التدبر و إن كان يسيرا، فمن لم يتأمل و لم يتدبر و لم يستنبط يذهب ذلك عليه؛ و مما يزيدك علما بذلك، و أن باطن هذه الجماعة من المهاجرين و الانصار كظاهرهم، و سريرتهم كعلانيتهم،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:31
(1/45)
و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان أحب إليهم من أبنائهم و أنفسهم، أنهم قد بقوا بعده و ملكوا الأمر و استولوا عليه، و امتدت أيديهم الى ملوك الدنيا و ممالكها، فجازوها و أنفقوها في إعزاز دينه و تأكيد شريعته، و زهد وافي المباح المطلق، و حموا نفوسهم و أبناءهم منه، و أدخلوا الأمم من الفرس و الروم و الهند و غيرهم في دينه، و فرضوا عليهم تصديقه و إجلاله، و من أبى القبول جعلوا دمه له، و أوطئوا أعداءه و شانئيه الذلّ و السيف في مشارق الارض و مغاربها.
و قدم رحمك اللّه زهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقد كان أزهد الناس فيما تناحر الناس عليه و تطاعنوا فيه و تفانوا لأجله. فقد كان صلّى اللّه عليه و سلم ملك من أقصى اليمن الى بحر عمان الى أقصى/ الحجاز الى عرار العراق، و استولى على جزيرة العرب و كانت مقسومة بين خمسة ملوك، لكل واحد منهم شأن عظيم.
هاداه غير واحد من الملوك، و جبى ذلك كله فبذله، و حمى نفسه منه و أهله، و خيّر أزواجه على ارادة اللّه و رسوله و الدار الآخرة، و على أن من أراد الحياة الدنيا و زينتها متعه و سرحه سراحا جميلا «1».
و كان صلّى اللّه عليه و سلم مع هذا الملك العظيم أيبس الناس عيشا، و أخشنهم لباسا.
و اعتبر من ذلك ببرده الذي يلبسه خلفاؤنا من بعده و قيمته مقدار دانقين، و بقدحه و خاتمه، و جميع ما صار عند خاصة أهله و عامة أنصاره. ثم توفى و لم يترك عينا و لا دينارا و لا شيّد قصرا و لا غرس شجرا و لا شقّ لنفسه نهرا و لا استنبط لنفسه عينا و رغب لأهله و أصحابه في مثل ذلك.
__________________________________________________
(
(1/46)
1) نزلت آيات التخيير في سورة الأحزاب «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» الأحزاب 28 و 29.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:32
و ملك بعده أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه جميع ذلك، و نفذ فيه أمره، و امتدت يده الى بني حنيفة و قوم مسيلمة، و غزا فارس، و افتتح الحيرة و القادسية و عين التمر «1» و صاروا ذمة له، و جباهم الأموال العظيمة. و افتح الشام و أوائلها و نفذ أمره فيها، فكان حاله في الزهد تلك الحال التي كان عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.
و قام بعده عمر رضي اللّه عنه فحوى ذلك كله، و افتتح الى اقصى الشام و أخرج ملوك الروم منها و اعتصموا منه بالخلجان و الجبال، و افتتح مصر و الصعيد الأعلى، و افتتح الجزيرة و العراق و السّواد و فارس و كرمان و سجستان و كورة الاهواز، و ما سقته دجلة، و ما سقته الفرات/ و ما سقاه النيل، و حملت اليه خزائن الملوك و ذخائرهم، و مكث على ذلك عشر سنين ثم قبض و حاله في الزهد تلك الحال.
ثم قام بعده عثمان رضي اللّه عنه، فحوى تلك الممالك كلها، و افتتح خراسان عن اقصاها، و أخذ ملوكها و أصفهان من الجبال، و في زمانه قتل المسلمون يزدجرد بن شهريار ملك فارس، و افتتح اذربيجان، و افتتح ارمينية، و جرجان و طبرستان و غير ذلك، و استولى على ملوكها و ممالكها، و فتح المغرب و هي مسيرة سنين برا و بحرا و طولا و عرضا، و افتتح من جزائر البحر عدة جزائر عظيمة تكون مسيرة شهر طولا و عرضا، وجبى ذلك كله، و مكث على ذلك اثني عشر سنة، و كانت مدته اطول، و امتدت يده،
__________________________________________________
(
(1/47)
1) بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة سميت كذلك لكترة التمر فيها، افتتحها المسلمون في ايام ابي بكر على يد خالد بن الوليد في سنة 12 للهجرة. معجم البلدان 3: 759، ارسل اليها معاوية النعمان بن بشير فأخذها من عامل علي سنة 39. الطبري 1: 3445
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:33
و ملك و حوى اكثر مما ملكه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبو بكر و عمر رضي اللّه عنهما، ثم نفض يده من جميع ذلك و زهد فيه مع قدرته عليه و تمكنه منه و نفوذ أمره فيه، و صار عند قوم عمر أزهد منه، لأنه رحمة اللّه عليه برّ أقاربه من مال و ولّاهم، و لم يفعل ذلك عمر، فكان زهده يصغر في جنب زهد عمر.
ثم قام بعده عليّ رضي اللّه عنه، فحوى جميع ما حواه الخلفاء قبله و جباه و نفذ أمره فيه، إلا الشام، و مكث على ذلك نحو ست سنين، فنفض يده من جميعه و زهد فيه.
ثم اعتبر بزهد عمال ابي بكر و عمر و الخاصة من أعوانهما، كعتبة بن غزوان «1» و أبي عبيدة «2» و معاذ بن جبل «3» و شرحبيل بن حسنة «4» و سعد بن ابي وقاص «5» و عمار بن ياسر «6»/ و بلال «7» و النعمان بن
__________________________________________________
(1) هو عتبة بن غزوان بن جابر، يكنى أبا عبد اللّه و أبا غزوان، من حلفاء بني نوفل بن عبد مناف، قديم الاسلام، هاجر الى الحبشة الهجرة الثانية، و هو الذي مصر البصرة و اختطها، توفي في خلافة عمر و روى عن الرسول. الاصابة 4: 215، الطبري 3: 2376.
(2) ابو عبيدة عامر بن عبد اللّه بن الجراح، قديم الاسلام، هاجر الهجرتين و شهد بدرا و بشر بالجنة، مات في طاعون عمواس بالشام سنة 18 ه. الاصابة 4: 11.
(3) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عدي، شهد المشاهد مع النبي و كان احد الذين أرسلهم رسول اللّه (ص) الى اليمن لدعوة اهلها الى الاسلام، روى عن النبي (ص) و مات بطاعون الشام سنة تسع عشرة او بعدها. الاصابة 6: 107.
(
(1/48)
4) هو شرحبيل بن حسنة نسبة الى أمه على الأغلب، كان ممن سيره أبو بكر في فتوح الشام، توفي بطاعون عمواس في الشام سنة 17 ه. الاصابة 3: 199.
(5) هو سعد بن مالك بن أهيب، احد العشرة و آخرهم موتا، كان اول من رمى بسهم في سبيل اللّه واحد الستة اهل الشورى و قائد فتوح العراق، توفي بعد الخمسين من هجرة الرسول. الاصابة 1: 30.
(6) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك حليف بني مخزوم و أمه سمية مولاة لهم، كان من السابقين الاولين و ممن عذب في اللّه، شهد المشاهد كلها مع النبي، استعمله عمر على الكوفة، قتل مع علي بصفين سنة سبع و ثلاثين. الاصابة 4: 273- 274.
(7) هو بلال بن رباح مؤذن الرسول (ص). الاصابة 1: 189.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:34
مقرن «1» و اخوته، و غيرهم ممن يطول الكتاب بذكرهم و شرح أحوالهم، و هو مذكور في مواضعه، و لا يشك في زهد هؤلاء إلا من شك في زهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لا يبلغ ذلك إلا الجاهل القليل النظر البطي ء التأمل.
فأما من نظر و اعتبر و كان قصده التعرف و التبين، فان ذلك يفضي به الى العلم بأنه ما صحب نبيا قط قوم أزهد و لا أردع و لا أعلم من هؤلاء قبل ان يرجع الى قوله عز و جل: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2»». فلو كان غرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه الدنيا و الملك لكانوا و إن ابتدأوا بذكر الزهد في اول أمرهم إذا ملكوا و قدروا عليها قد ساروا فيها سيرة طلاب الدنيا و ملوكها و خطّابها، و ما لبثوا ان تظهر سرائرهم و ضمائرهم عند القدرة. بهذا جرت العادة، و هكذا أخرجت العبرة، فان من تخلّق للناس و تصبّر خوفا منهم و اتقاء لهم و مداراة لهم، اذا قدر و تمكن تغير و زال عما كان، و ظهر مكنونه، فلما دام أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هؤلاء و اتصل على طريقة واحدة، علم العامل المتأمل ان سريرتهم كعلانيتهم، و ظاهرهم كباطنهم.
(1/49)
و قد رغب قوم منهم في المباح و فيما أحله اللّه لهم، و لا لوم عليهم و لا تعنيف، و انما كان كلامنا فيمن زهد في المباح المطلق منهم، و قد ملك هؤلاء ما لم يملك ابراهيم و إسحق و يعقوب و الأسباط و موسى و هرون و داود و متى و عيسى، و إن كان الأنبياء خيرا منهم.
__________________________________________________
(1) هو النعمان بن مقرن بن عائذ المزني، أخو سويد و اخوته، له ذكر كثير في فتوح العراق و فارس. توفي سنة احدى و عشرين هجرية.
(2) آل عمران: 110
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:35
و انما ذكرنا هذا لأن اليهود و النصارى و المجوس و أعداء رسول اللّه/ صلّى اللّه عليه و سلم يقولون جهارا، بحضرة المسلمين و في دواوين السلاطين، و في المحافل بحضرة الأمراء الأشراف: أما الاسلام فقد كفيناه و دفع بعضه بعضا، و قد كنا نقول سرا بيننا في أصحاب محمد و نفسه أشياء تقولها اليوم الشيعة جهارا و تزيد علينا فيه، من ان اصحاب هذا الرجل و أتباعه و أنصاره ما كانت لهم بصيرة في أمره و لا يقين مع الصحبة و طول المشاهدة و لا أقاموا له وزنا، و انما طلبوا الدنيا و النهب و الفارة، و قد بيّنا فساد ذلك، و فيه من البيان اكثر من هذا، و فيما ذكرناه كفاية.
فإن قيل: أفتستدلون على صحة دينكم بأن هؤلاء قد اعتقدوا بنبوّة صاحبكم و صدقه، و ان ظاهرهم فيه كباطنهم، و هاهنا قوم من اليهود و النصارى و المجوس و المنانية «1» و الهند هذه سبيلهم في أديانهم.
قيل له: ما ندفع هذا و لا نمنع منه، و لا نستدل على صحة الاسلام باعتقاد المهاجرين و الأنصار بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و سلم و صدقه و نبوّته و زهده و زهدهم في الدنيا، و انما نعرف صحة الاسلام و انه دين اللّه بغير هذا. و انما كان كلامنا على من ادّعى ان هؤلاء ما اعتقدوا صدقه و لا نبوته، فبيّنا فساد قولهم و بطلان اعتقادهم و انه جهل، ثم صرنا الى ذكر الدلائل و الأعلام.
(1/50)
__________________________________________________
(1) المنانية و المانية نسبة الى ماني بن بابك بن ابي رزام، يقال انه كان اسقفا ثم اتاه الوحي بتغيير ديانته. و من اهم مبادئه أن العالم كونين: احدهما نور و الآخر ظلمة، و كل واحد منهما منفصل عن الآخر. و قد فصل كتاب العقائد و الفرق و أصحاب المقالات من الاسلاميين الحديث عن هذه النحلة. انظر الملل و النحل للشهرستاني، و الفهرست لابن النديم، و الآراء و الديانات للنوبختى، و المغني للقاضي عبد الجبار الجزء الرابع، و غيرهم. و مجمل مذهب المنانية مستخرج من المجوسية و النصرانية.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:36
فمن ذلك أشياء نزل القرآن بها قبل كونها.
(1/51)
فمن ذلك قصة ابي لهب، و قد كان من المؤذين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و المجردين/ في مكروهه و طلب نفسه، و في الصدّ عن اتباعه، فبشره اللّه بأن ذلك لا يضره صلّى اللّه عليه و سلم، و لا يغني عن ابي لهب فيما قصد ما كسب من جاه و مال و أهل و ولد و صداقة و اخوان، و انه يخسر ذلك كله، و انه و امرأته يموتان على الكفر به و يصيران الى النار. نزل ذلك بمكة و هما حيّان سليمان، فكان ذلك كله على ما قال و على ما أخبر و كما فصّل و فسّر. و هذه غيوب كثيرة لا يكون مثلها بالاتفاق و لا بالحدس و لا بالزرق «1»، و لا يتفق لحذّاق المنجمين أقل القليل من هذا. و من عجيب الأمور انها نزلت بمكة، و تلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و سمعها ابو لهب و جميع أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من قريش و العرب و غيرهم و هم أعوان ابي لهب، فهاجهم هذا القول في عداوته، و زاد في غيظهم و حنقهم، و أذكرهم بنفسه و هو معهم و في أيديهم و في قبضتهم، فما ضره، و لا تمّ لهم أمر في الظفر بقتله، و لا على زلة يتبين فيها كذبه و سقوط قوله، و هذا لا يقدم عليه العاقل إلا و هو على غاية الثقة بما يقول، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ممن لا يدفع عدوّه عقله. و منذ نزلت هذه السورة و الى هذه الغاية يحرص أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ان يجدوا في ذلك مطعنا فما وجدوا. و قد رجع بعضهم الى بعض في ذلك و تشاوروا فيه، و تعاضدوا و تعاونوا، فكان عليه ما انتهى اليه كيدهم أن قالوا: لما رأى عمه و امرأته قد صمما في تكذيبه و عداوته قال ذلك فيهما.
__________________________________________________
(1) الزرق: الخداع، و في اللسان: رجل زراق اي خداع.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:37
قيل لهم: قبل كل/ شي ء قد تم ما قال على ما فسر و شرح، و حصل ذلك على وجه انتقضت العادة به، و ظنونكم هذه لن تقدح في هذا العلم، و هذا كاف في جوابكم.
(1/52)
ثم قيل لهم: قد صنع مثل صنيع ابي لهب خلق كثير فما قال هذا فيه، و منهم من أسلم. و ايضا فلو قال في ابي لهب انه يسلم قبل اسلامه و أسلم لأمكن الخصم ان يقول: ما في هذا دلالة، لأن الرجل عمّه، و قد رأى اخوته حمزة و العباس و قد أسلما، و قد أسلم ولد أخيه ابي طالب جعفر و علي، فكيف لا يسلم هو ايضا؟ فهذا كان أقرب و أظهر في الرأي و التدبير، فلم يقل ذلك و قال غيره و خلافه، لتعلم ان هذا قول علّام الغيوب و كلامه عز و جل.
و قالوا لو أسلم لكان له ان يقول: انما قلت انه سيصلى النار إن لم يسلم، و إن أقام على الكفر، كما قال: «إنه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنة».
قيل له: قبل كل شي ء قد تمّ ما قال و ما وجد له خلف، و حصل على وجه انتقضت العادة به كما بيّنا و قدّمنا، و أخذت انت ايها الخصم تقول لو لم يكن هذا و يتم بأي «1» شي ء كان يعتذر، و حصلت على تدبير ما لم يكن، و جهلت ايضا اللغة و موضع العربية لأن قوله عز و جل:
«انه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنة» انما هو جزاء، و ليس بخبر عن احد انه سيفعل ذلك، و هذا كقول القائل: من سرق
__________________________________________________
(1) في الأصل: بأن، و القراءة اجتهادية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:38
مالي قطعته، ليس بإخبار عن احد أنه سيسرق ما له، و يجوز ان لا يسرق ماله أحد البتة مع هذا القول.
و قوله تبارك و تعالى في أبي لهب و امرأته انه: «ما أغنى عنه ماله و ما كسب» من تلك/ الأمور، و انه سيصلى و امرأته نارا ذات لهب، إخبار عن أمور ستكون فكانت كما قال، كقوله عز و جل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ» «1»، و كقوله:
«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «2»». و كقوله عز و جل فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ» «3». فهذا باب.
و باب آخر [استرواح المشركين لأدنى غم يصيب الرسول ]
(1/53)
و هو أن قريشا و العرب لما أعيتهم الحيل في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، كانوا يستروحون الى أدنى غمّ يناله صلّى اللّه عليه و سلم، فمات ابنه ابراهيم و هو أكبر ولده و به كان يكنى، و مات ابنه عبد اللّه، فسرت قريش بذلك، و قال بعضهم لبعض: ابشروا فقد انبتر محمد، فأنزل اللّه عز و جل: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» «4».
فانبترت ديانات قريش و العرب كلها و بطلت عن آخرها، و لم يبق على ذلك الدين عين تطرف، و تم أمره صلّى اللّه عليه و سلم و سطع نوره و علا و قهر.
__________________________________________________
(1) آل عمران 12
(2) القمر 45
(3) الاسراء 51
(4) الكوثر 1 و 2 و 3
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:39
و في هذا غيوب كثيرة أخبر بها قبل ان تكون؛ ثم وردت على وجه يغيظ و يغضب و يبعث على الوثوب به و على قتله و على إطفاء نوره، و قد حرضوا على ذلك فما تمّ. و هذا قول لا يورده العاقل على الوجه الذي أورده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلا و هو على غاية الثقة باللّه و السكون الى ما يوحيه اليه عز و جل، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ممن لا يدفع عدوّه عقله، و كانت قريش تقول فيه لمامات بنوه: محمد صنبور «1»، أي منقطع الأصل منبتر الذكر.
و قيل لأعرابي: كيف نخلك؟/ فقال: صنبر أسفله و عشش أعلاه، أي ضعف أصله و عشش أعلاه فبطل كله و زال الانتفاع به.
و الكوثر هو على وزن فوعل، كنوفل و حوقل، و هو الكثير من الجميّز خاصة. فيريد عز و جل: إنا أعطيناك الكثير من التأييد و النصرة و الحجة و العزّ و الثواب و الأجر، و فيه دلالة على بطلان قول من قال:
(1/54)
إن أبا بكر و عمر و عثمان و تلك الجماعات من المهاجرين و الأنصار كانوا أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و شانئيه، و أنهم قصدوا تغيير القرآن، و تبديل دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و إماتة نصوصه، و دفع وصيته و خليفته، ففعلوا ذلك و قهروا و غلبوا و كانت الغلبة لهم، و خليفة رسول اللّه هو المغلوب المقهور، و هم الغالبون القاهرون، و ان خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وصيّه ما تمكن الى ان خرج من الدنيا.
قلنا: فلو كان الأمر كما قلتم لكان هذا قد كذب و كان يكون: إن
__________________________________________________
(1) جاء في لسان العرب: الصنبور: النخلة المنفردة من جماعة النخل، و رجل صنبور: فرد ضعيف ذليل لا اهل له و لا عقب و لا ناصر. لسان العرب مادة صنبر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:40
شانئك هو الأقهر و الأغلب و الأظهر، و أنت الأبتر، فلو أنصفوا و تدبروا القرآن لما قالوا في المهاجرين و الأنصار هذا القول.
و باب آخر [عرض المشركين على الرسول ان يعبد آلهتهم و يعبدوا إلهه ]
(1/55)
و هو ان قريشا لما حرضوا على قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و إبادته و إطفاء نوره، و على التنفير منه و الصدّ عنه و اللّه تعالى يصرفهم بألطافه عنه مشوا اليه، و هم: الوليد بن المغيرة، و عقبة بن ابي معيط، و النضر بن الحارث بن كلدة، و أمية بن خلف، و عتبة بن خلف، و الجماعة من قريش، قالوا: يا محمد، انك قد سفهت أحلامنا، و كفّرت أسلافنا، و عبت آلهتنا و أدياننا/، و شتّتّ كلمتنا، و قطّعت أرحامنا، فهلمّ الى أمر يكون بيننا و بينك، فتعبد أنت آلهتنا التي نعبدها و نعبد إلهك، و تعبد آلهتنا التي كنا عبدناها و نعبد إلهك، ثم تعبد ما عبدنا و نعبد ما عبدت؛ فإن كان معنا خير كنت قد أصبت منه، و ان كان معك خير كنا قد أصبنا منه، و تكون كلمتنا سواء، و تسالمنا و نسالمك، و تكون لنا و نكون لك؛ فأنزل اللّه تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» فأخبر انه لا يصير و لا يجيب الى ما قالوا، و لا يقبلهم بهذا الشرط، و لا يكونون على هذا الوجه عابدين للّه على الوجه الذي عبده، فكان كما قال.
و في هذا غيوب كثيرة مفصلة جاءت كما أخبر، و هذا لا يكون إلا من علّام الغيوب، و لو لم يكن من آياته إلا هذا لكفى و أغنى. فهذا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:41
يدلّك على خضوع قريش و اليهود و النصارى و جميع اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و انقطاعهم في يده، و انه لا مطعن في آياته. و لهذا المعنى قال اللّه:
«فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» «1»، أي لو قاربتهم و أجبتهم الى ما دعوك لأجابوك، و لو داهنتهم لداهنوك. فتأمل قوله:
«
(1/56)
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» كيف يجبههم بالإكفار و التجهيل و التضليل، و هم أشد عالم اللّه أنفة و نخوة و جبرية، و دفاعا عن انفسهم، و مواثبة لعدوهم، و هو بمكة معهم و في ايديهم و في قبضتهم، و العزّة و الغلبة و الكثرة لهم لا له، فهيجهم على نفسه بهذا القول، و بعثهم على مكروهه، فنجاه اللّه منهم.
و هذا قول/ لا يقوله عاقل و حاله ما وصفنا إلا و هو على غاية الثقة باللّه، بدفعه عنه، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ممن لا يدفع عدوّه عقله، فمن أي شي ء تعجب رحمك اللّه؟ أمن إقدامه، أم من مصير الأمر الى قوله و حكمه.
فاعرف هذه القصة و احفظها فانها عظيمة جليلة، و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ سورة «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فكأنما قرأ ثلث القرآن». و كان يقال في صدر الاسلام ل (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) المقشقشتان «2»، اي هما براء من الشرك، يقال للجرح اذا برأ و اندمل: تشقشش الجرح.
__________________________________________________
(1) القلم 9
(2) قشقش: في اللسان يقال تقشقش الجرح: تعرض قرحه للبرء، و القشقشة: تهيؤ البرء، و المقشقشتان: قل هو اللّه احد و قل اعوذ برب الناس لأنهما كانا يبرأ بهما من النفاق، و قيل: هما قل يا ايها الكافرون و قل هو اللّه احد. اللسان مادة قشش.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:42
(1/57)
و قوم من الكتاب و عمال السلطان يعرفون ببني ابي البغل «1»، يدعون انهم من المسلمين و من الشيعة و هم يميلون ميل القرامطة، و يلزمون صنعة النجوم، و بقاياهم بالبصرة في سكة قريش، و منهم ابو محمد بن ابي البغل، و هذا خلقه و صنعته، و هو حيّ الى هذه الغاية و هي سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة، يقولون في «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ»: هي من البوارد و من الأشياء التي لا معنى لها، و يتحدثون بذلك في دواوينهم و محافلهم، و يضربون في ذلك الأمثال؛ و هذا لجهلهم بالأسباب، و لو كان لهم تحصيل و تدبير و قصدوا الانصاف و طلبوا العلم من موارده لعلموا ان هذا من معجزاته، و لكن العجب قد شغلهم، و هم يعدون انفسهم من الخاصة و هم أسقط من سقاط الغوغاء، و لو لا ان هذا شي ء قد شاع في الكتاب و أشباههم في جميع البلاد لما ذكرته لك، و لكنه شي ء قد دار و صار اهل الذمة مع القرامطة يلقون/ به العامة و الضعفاء من المسلمين، و ليس للاسلام قيّم و لا ناصر بل كل السيوف عليه، فاللّه المستعان.
و أخرى تبين لك جهل هؤلاء و نقضهم و نقض كل طاعن في القرآن، ان الذي جاء بهذا القرآن ادّعى انه كلام اللّه و قوله، و ان الجن و الإنس لا يأتون بمثله و لا بمثل سورة منه و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و انه حجة اللّه على خلقه الى يوم القيامة؛ و قد سمعه الناس كلهم منه، و قد
__________________________________________________
(1) ورد في الفهرست تحت عنوان ابن ابي البغل: اسمه محمد بن يحيى بن ابي البغل و يكنى ابا الحسين، استدعى من اصفهان، و كان يلي الوزارة في ايام المقتدر، و كان بليغا مترسلا فصيحا من اهل المروآت، و كان شاعرا ايضا مجودا مطبوعا، فله ديوان رسائل كتاب رسائله في فتح البصرة. الفهرست 197.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:43
(1/58)
طالبهم ان يأتوا بمثل سورة منه فلم يأتوا مع شدة الحاجة الى ذلك، و قد بذلوا ما هو أعزّ و أعظم في دفعه و إبطال أمره من الأموال و الأنفس و الأولاد. و اذا كان هذا شأنه من السخف و الركاكة، و فيه الكذب و التناقض على ما يدّعي هؤلاء، أعداء الاسلام، فكيف يحتج عاقل بما هذا سبيله؟ و كيف لم يقل أعداؤه له: تتحدّانا بشي ء ركيك بارد غثّ متناقض؟ و كيف لم يقل أعداؤه له ذلك؟ و كيف يتبع و يطاع من هذا سبيله؟ و كيف لم يقل أعداؤه لأتباعه: يا ويحكم فارقتم دينكم، و أنفقتم أموالكم، و سفكتم دماءكم، و عاديتم الأمم، و اتبعتم رجلا حجته هذا القرآن و فيها الكذب و التناقض؟ و مثل هذا لا يطاع و لا يتبع، بل يكون في سقوط المنزلة بمحل من يركب قصبة و يركض في الاسواق و يقول: انا الملك، و انا الأمير، و يشتم الملوك و الأمم و الرؤساء، و يتعادى خلفه الصبيان؛ و مثل هذا لا يعاديه أحد و لا يضربه و لا يسبه فضلا ان يقتله/، لأنه لا يضرّ احدا و لا يغضب عاقل من فعله و قوله و إن شتمه و تواعده. فلم غضب أولئك العقلاء من قريش و العقلاء من العرب و الدهاة من اليهود و النصارى و طبقات الأمم و الملوك منه و من أفعاله، و بذلوا أموالهم و أولادهم و دماءهم في عداوته و في الصدّ عنه و المنع من اتّباعه، و رحلوا الى الملوك يشكونه و يضجّون منه، و يبعثونهم على قتله، و يخوفونهم سطواته و غلبته على ممالكهم؟ فقد رحلت قريش الى النجاشي ملك الحبشة في هذا، و رحلت نصارى العرب الى قيصر ملك الروم في هذا، و قد صار النضر بن الحارث بن كلدة الى الفرس في هذا، و كان من كسرى أبرويز في هذا ما هو مذكور و لعله ان يرد عليك، و هذا مع «1» انه جواب لكل عدو لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فهو كاف.
__________________________________________________
(1) في الاصل: مع ما
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:44
و باب آخر [وعد الرسول اصحابه في حال ضعفهم ان اللّه سينصرهم ]
(1/59)
و هو ما وعد أصحابه من المهاجرين و الأنصار و المكيين في حال ضعفهم ان اللّه سينصرهم و يمكنهم و يقوّيهم و يظهرهم، فيقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و تكون العقبى لهم؛ و تلا بذلك القرآن و خلّده و أسمعه عدوّه و وليّه، فقال عز و جل:
«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ... «1»» الى قوله: وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ»؛ فتمكن أصحابه و خلفاؤه، فأقاموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و أمروا بالمعروف، و نهوا عن المنكر، و كانت العقبى لهم/».
و في هذا غيوب كثيرة أخبر بها قبل ان تكون فكانت كما فصّل و كما أخبر و فسر، لتعلم ان هذا قول اللّه و كلامه، و ان محمدا رسوله.
و هذا في سورة الحج و هي مكية، و لو كانت مدنية لكان فيها من الدلائل مثل ذلك، و لكنها اذا كانت مكية كانت آكد في الحجة لأن ضعفهم إذ ذاك أشد، «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» «2»، و لقولهم: «رَبُّنَا اللَّهُ»، و لكفرهم بديانات قريش و العرب هم المهاجرون
__________________________________________________
(1) الحج 39 و ما بعدها
(
(1/60)
2) الحج 40، و الآيات هي: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» 25
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:45
خاصة. و في هذه الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر و عثمان و عليّ رضي اللّه عنهم، و شهادة بأنهم أئمة هدى، و أن طاعتهم طاعة اللّه، لأنهم من المهاجرين و المكيين و التابعين و من الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ لقولهم: «رَبُّنَا اللَّهُ»، و هم الذين تمكنوا و تولوا الأمر و دعوا الى اللّه و فعلوا ما قال اللّه، كما هو مذكور في الآية.
و لو كانوا منافقين أو مشركين أو مرتدين كما تدعى ذلك عليهم طوائف الرافضة لكان هذا الخبر قد أخلف و كذب، و لكان الذي أتى به و تلاه ليس بنبي بل كذاب، لأن هؤلاء الذين تملكوا و تمكنوا و كان الأمر و السلطان و القهر و الغلبة لهم؛ فزعمت الرافضة انهم بدّلوا القرآن و أحرقوه، و غيروا النصوص، و عطلوا الدين، و غيروا الطهارة و الأذان و المواقيت و الصلاة و الصيام و المناكح و الطلاق، و أماتوا السنن، و أحيوا البدع؛ و كان خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وصيه «1» مغلوبا مقهورا يظهر ما يظهرون من الشرك، و يجوّز أحكامهم عليهم، فأين صدق هذه الآيات.
و قد كان ينبغي أن يكون/ على ما يدعيه الرافضة أن تكون التلاوة:
«
(1/61)
و الذين إن مكناهم في الأرض عطّلوا الصلاة و الزكاة و أماتوا النصوص و قهروا الوصي المنصوص عليه، و أمروا بالمنكر و نهوا عن المعروف» فتعلم أن هؤلاء قد ذهبوا عن القرآن و فارقوا الدين، و تعلم ان هؤلاء السلف على الحق، و ان اللّه تولى نصرهم كما وعدهم، و اللّه لا ينصر إلا أولياءه و أحباءه و أهل طاعته. و قد كان المهاجرون يحتجون بهذا.
قال صعصعة بن صوحان «2»- و قد كان رحل الى عثمان في شأن قوم كانوا
__________________________________________________
(1) يقصدون عليا رضي اللّه عنه.
(2) انظر الطبري حوادث سنة 33، ففيه تفصيل حادثة النفر الذين اخرجهم سعيد بن العاص-
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:46
قد أساؤا فسيّرهم و حالهم معروفة-: ما رأيت أسرع جوابا من امير المؤمنين عثمان، قلنا له: أخرجنا من ديارنا أن قلنا ربنا اللّه، فقال:
كذبت ليست لك و لأصحابك و لكنها نزلت فينا معشر المهاجرين، أخرجنا من ديارنا ان قلنا ربنا اللّه، فمنا من مات بأرض الحبشة، و منا من مات بالمدينة، فنصرنا اللّه و مكننا، و أقمنا الصلاة و آتينا الزكاة، و أمرنا بالمعروف و نهينا عن المنكر، و كانت العقبى لنا. و هذا لا يذهب على متأمل و إنما ذهب على اهل الغافلة.
باب آخر [اسراء الرسول من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ]
(1/62)
و هو انه صلّى اللّه عليه و سلم أسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ثم عاد من ليلته الى مكة، و مدة السفر في ذلك مقدار شهرين اي ذهابا و إيابا، و هذا لا يفعله اللّه إلا للأنبياء في زمن الأنبياء. و لما عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تحدث بذلك في أهله، فقالت له ام هانى ء بنت ابي طالب: لا تتحدث بهذا، فو اللّه لا صدّقك الناس، و ليكفرنّ بك من/ آمن بك، و ليكذبنّك من صدّقك. فقال صلّى اللّه عليه و سلم: ان ربي أمرني ان أخبر الناس بذلك و ان ابا بكر يصدقني و يشهد لي. فخرج و أخبر قريشا بذلك فسرّهم هذا، و قالوا: الآن يظهر كذبه و ينقطع الناس عنه، قوموا بنا الى صاحبه ابن ابي قحافة لنخبره بما قال صاحبه. و كان ابو بكر
__________________________________________________
- من الكوفة بعد ان اتهموا بالشغب فيها، و كان فيهم: مالك بن الاشتر، و ثابت بن قيس، و كميل ابن زياد النخعي، و صعصعة بن صوحان.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:47
ثقيل الوطأة على قريش و أعداء رسول اللّه، فانه كان يدعو الى نبوته، و يخطب باياته، و كان وجيها في الناس، عالما بقريش، باين الفضل فيهم، فكانوا يقصدونه بالمكاره لهذه الخصال التي كانت تضرهم. و قد استدعى خيارهم و وجوههم الى الاسلام، و أنفق ماله في نوائب الاسلام و نصرته، و كانوا يطلبون شيئا يصدّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يمنعه من اتباعه. فأتوه و قالوا له: يا ابا بكر، ما زال صاحبك حتى أتى بكذبة خرج بها من أقطارها. قال ابو بكر: حاشاه، و ما هو؟ قالوا: زعم انه أسري به في ليلة الى بيت المقدس. فقال ابو بكر: إن كان قال ذلك فقد صدق.
(1/63)
قالوا: يا ابا بكر، أتصدقه في هذا و العير تطرد في ذهابها شهرا و في رجوعها شهرا، أيبلغه في ليلة واحدة؟ قال ابو بكر: انه ليخبرني ان الخبر يأتيه من السماء الى الارض في ساعة واحدة فأصدقه، و بعد السماء عن الارض اكثر من بعد بيت المقدس من مكة؛ قوموا بنا اليه نسأله عن ذلك. فأتوه، فقال له ابو بكر: ما شي ء بلغني عنك يا رسول اللّه انك أتيت بيت المقدس في ليلتك؟ فقال: نعم يا ابا بكر، صلّيت بكم في هذا الوادي، فأتاني آت، فأيقظني و أخرجني و جاء بدابته فقال: اركب فأرفصت «1»، فقال لها جبريل: اسكني، فما حملت خيرا منه. فسارت بي، و اذا حوافرها تقع مدى/ بصرها، و كنت اذا أتيت صعودا قصرت قوائمها، و اذا أتيت حدورا طالت قوائمها، فأتيت بيت المقدس؛ و ذكر صلاته و دخوله اليه و رجوعه. فقال له ابو بكر: يا رسول اللّه، هل تستطيع ان تصف لنا بيت المقدس؟ فقال: نعم. فوصف مدخله و المسجد
__________________________________________________
(1) ارفصت الناقة اذا رعت وحدها و الراعي ينظر اليها، و تعنى هنا النفور و الترك. انظر القاموس. مادة: رفص.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:48
و سقوفه و ما فيه شيئا شيئا، و كان إذ ذاك في أيدي الروم، و كان ملك الشام لهم و بعضه في أيدي اليهود، فقال ابو بكر: أ تسمعون؟ و كان فعل ابو بكر ذلك ليعرف الناس صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيما ادّعى. فقالت قريش: فان لنا عيرا بالشام عرفت خبرها؟ فقال: نعم، مررت بهم في ذهابي، و هم في موضع كذا، و قد ندّ لهم بعير من حسّ دابتي فدللتهم عليه، و رجعت عليهم و هم نيام و قدح فيه ماء و قد خمروه، فنزلت و كشفته و شربت و خمرته.
ثم قال: و آية اخرى أنهم يردون عليكم يوم كذا وقت طلوع الشمس، و تقدم عيرهم من ثنية كذا، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان، إحداهما برقاء و الآخرى سوداء. فأرصدت قريش لذلك اليوم، فقال قائلهم:
(1/64)
هذه الشمس قد طلعت، و قال آخر: و هذه العير قد أقبلت و أمامها الجمل الأورق و عليه الغرارتان كما وصف. و سألوهم عن البعير الذي ندّ و عن القدح الذي كان فيه الماء فأخبروهم بذلك كما وصف، و أنهم وجدوا القدح فارغا بعد ان كان فيه ماء.
فتأمل ما في هذا من الآيات و المعجزات و العلامات الواضحات البينات التي لو لم تكن إلا هذه لكفت و أغنت في الدلالة على نبوته.
فمنها مصيره و رجوعه في ليلة واحدة، و منها إخباره بالوقت التي ترد فيه عير قريش على أي سبيل ترد/، فكم في هذا من الغيوب.
فإن قيل: و من سلّم لكم أن هذا قد كان على ما وصفتم لنا، و كيف علمتم هذا، و ما طريق العلم به؟
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:49
قيل له: قبل كل شي ء قد علمنا انه صلّى اللّه عليه و سلم قد احتج بالإسراء و جعله قرآنا يتلى «1»، و قد سمع هذا جميع اعدائه من قريش و اليهود و النصارى و هم معه و جيرانه و أشد الناس عليه و أحرصهم على عثرة تكون له او عيب يكون فيه، و هنالك اصحابه و من قد اعتقد صدقه و نبوته و لم يتبعه إلا لأنه نبي صادق و عاقل لا يحتج على عدوه و وليه بما لا يقوم برهانه، ثم لا يرضى أو يأتي في ذلك بقرآن يتلى و يضيفه الى ربه و يستطيل بذلك على عدوه و وليه، و ليس معه في ذلك إلا الدعوى الخالية من كل الحجج؟ هذا لا يفعله عاقل، و عقل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عند عدوه فضلا عن وليّه فوق العقول.
و أخرى أن من فعل هذا على ما يدعيه الخصم لا يتبعه احد و لا يصدقه احد بل يرجع عنه من قد اتبعه، إذ ليس معه إلا الدعوى على ما يدعيه الخصم، و كل احد يمكنه ان يدّعي انه قد أسري به في ليلة واحدة من البصرة الى بيت المقدس او من العراق الى بلاد الهند و ما تبينت بما هذه سبيله، فتعلم ان الحجة بذلك قد قامت و اتضحت.
(1/65)
و أخرى ما جرى بين قريش و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و بين قريش و أبي بكر الصديق، و ما كان في ذلك من طول المراجعة، و من عني بذلك يعلم ان الأمر كما حكينا و وصفنا علما يقينا لا يرتاب به، كما يعلم فرار المهاجرين الى ارض الحبشة، و إخراج قريش عمرو بن العاص و عمارة ابن الوليد بن المغيرة في طلبهم، و ما كان لهم معهما مع النجاشي من
__________________________________________________
(1) تناولت سورة الاسراء قصة الاسراء بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:50
المخاطبات/ و المراجعات، الى ان صارت العقبى للمسلمين. و كما يعلم خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الى المواسم و عرضه نفسه على القبائل، و ما كان له معهم من المحاورات و المراجعات و المخاطبات. و كما يعلم خروجه الى الطائف و عرضه نفسه، و ما كان له معهم من المراجعات و المخاطبات.
و كما كان له مع قريش بمكة في حفل بعد حفل و مرة بعد مرة، و في مشيهم الى ابي طالب ليكفه عن مخالفتهم و تجهيلهم و ذكر آلهتهم، و ما تعاهدوا عليه من عداوته و عداوات اصحابه، و من التجريد في قصدهم بالمكاره، و ما كتبوه في ذلك. و في ترك مبايعتهم و مناكحتهم و معاملتهم، و ما أشبه ذلك من الخطوب التي كانت منهم. فمن رسخ فيما هذا سبيله، عرف قصة الاسراء و ما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في ذلك مما تقدم ذكره، و من لم يكن هذه سبيله لم يعلم، و لكل احد سبيل الى ان يعلم ذلك.
(1/66)
فتأمل رحمك اللّه ما في ذلك، و قول أم هانى ء، و احتجاج قريش في ان المسير في ذلك يكون في شهرين فكيف تم في ليلة واحدة، و مطالبتهم بالحجة في ذلك، ثم مسألتهم عن عيرهم التي بالشام، ثم مصيرهم الى المكان في الوقت الذي ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن العير ترد فيه و تفقدهم صورتها و ما تقدمها، ثم مسألتهم اهل العير عن القدح لتعرف عقول قريش و شدة فطنتها و عنايتها بأمر النبي و التفقد لأحواله.
و انظر كيف قد سألوا عن ذلك مما يمكن العاقل ان يسأل عنه و يتكلم فيه.
و انظر الى فطنة ام هانى ء بنت ابي طالب و خوفها مما يخاف مثله، و أن هذا الأمر إن لم يقم على الدعوى به حجة لم يصدقه احد، بل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:51
يكذبه/ من صدّق به و يكفره من آمن به، لتعلم كذب الحداد، و أبي عيسى الوراق «1»، و الحصريّ، و ابن الراوندي «2»، و هؤلاء علماء الإمامية و رؤساؤهم، و عليهم يعولون، و الى كتبهم يرجعون.
و لكل هؤلاء كتب يطعنون فيها على الانبياء، و يدّعون على قريش و العرب الجهل و البلادة و الغباء و ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خدعهم و سخر منهم.
و هذه الكتب منقوضة قد نقضها غير واحد من المعتزلة، و المطاعن على الانبياء، كلهم انما هي من جهة هؤلاء الشيع، و الإمامية تواليهم و ترجع الى اقوالهم، فاعرف هذا فإنه من العجائب و بك الى معرفته أشد الحاجة.
فمن كتب الحداد في هذا الشأن كتابه «الجاروف» و كتابه «الاركان»، و كتاب الحصري «في تسوية اصحاب الكلام بالعوام»، و كتاب «الزمردة» و كتاب «غريب المشرقي» و كتاب ابي عيسى الوراق، و كتاب حنين «البهائم»، و كتاب «التاج» في القدم لابن الراوندي، و «الزمردة» و «الفريد» و «التصفح» و كتاب «نعت الحكمة» في الطعن في حكمة اللّه، و كتاب «الدامغ» يطعن فيه في القرآن و غير ذلك من كتبهم.
__________________________________________________
(
(1/67)
1) ابو عيسى محمد بن هارون الوراق المتوفي سنة 247 ه. منهج المقال 328
(2) هو احمد بن يحيى بن اسحاق الراوندي، ذكره القاضي في الطبعة الثامنة من رجال الاعتزال، و ذكر انه ألحد و خرج عن الدين كما ذكر انه يقال بأنه تاب آخر عمره. من كتبه التاج في الرد على الموحدين، و الدافع في الرد على القرآن، و الفريد في الرد على الانبياء. المنية و الأصل 92.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:52
و فضيحتهم في هذه الكتب واضحة، و ليس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم اعداء مثلهم، و الشيع تتوالاهم لأنهم عملوا كتبا لهم في الطعن في المهاجرين و الأنصار.
فمن هذا العجب، ان قوما يدّعون انهم من المسلمين يوالون هؤلاء و يرجعون الى كتبهم، فتبين رحمك اللّه الحال في ذلك، لتعلم انه لا يطعن على المهاجرين و الأنصار إلا من يطعن على الأنبياء صلوات اللّه عليهم، و إنما تستّر هؤلاء الملحدة و الزنادقة بالتشيع و الإمامة ليستوي لهم الطعن على الانبياء و تشكيك المسلمين في الدين فاعلم ذلك/.
و باب آخر [ما نزل بمكة في رجال بأعيانهم انهم يصرون على شركهم الى ان يموتوا]
و هو ما نزل بمكة في رجال بأعيانهم انهم يصرون على شركهم الى ان يموتوا، و ان اللّه سيذيقهم من عاجل الخزي في الدنيا، و قد صنع مثل صنيعهم قوم علم اللّه انهم يدخلون في الاسلام فلم يأت من عند اللّه فيهم ما أتى في اولئك.
فمن ذلك ما نزل في أبي جهل: «فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى » «1». فقال أبو جهل:
لم يهددني رب محمد و أنا أعز اهل البطحاء و أكرمهم؟ فأنزل اللّه في استهزائه بالزقوم و قوله: انه التمر بالزبد فقال: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
__________________________________________________
(
(1/68)
1) القيامة 31 و ما بعدها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:53
الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» «1» أي بزعمك.
نزل هذا كله فيه و هو يومئذ حيّ سليم، فأذاقه اللّه حرّ الحديد ببدر، و مات على الكفر كما قال و كما أخبر.
و نزل في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة من قريش:
«وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «2». الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ» فمات على كفره.
و منهم النضر بن الحارث بن كلدة أخو بني عبد الدار، و كان شديد الرد على اللّه و على رسوله، شديد العداوة و الإرصاد. و قد كان رحل في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الى فارس، و طلب ما يكيد به الاسلام و المسلمين، فوجد احاديث رستم و أسفنديار و الفرس «3»، فاشتراها و قدم بها مكة فجعل يتحدث بها. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم اذا قام من مقعده خلفه فيهالنضر/ و حدثهم بتلك الأحاديث و قال: حديث محمد عن عاد و ثمود و الأمم من هذا، بل هذا احسن. فأنزل اللّه فيه: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها
__________________________________________________
(1) الدخان 43 و ما بعدها
(2) ذكر الطبري في تفسير سورة «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ» ان بعض المفسرين قالوا: عني بالآية رجلا من اهل الشرك بعينه، فقال بعضهم هو جميل بن عامر الجمعي و قال آخرون هو الاخنس ابن شريق. الطبري 30: 162.
(3) ذكر ابن النديم كتاب رستم و اسفنديار بين اسماء الكتب التي ألفها الفرس. الفهرست لابن النديم 424.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:54
(1/69)
هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» «1»، و نزل فيه غيرها ايضا. و قيل: يوم بدر أصابته جراحة ذهبت بقحف رأسه، و حصل مع المسلمين في جملة المأسورين و قال: لا أذوق لهم طعاما و لا شرابا ما دمت في ايديهم، فمات من الضربة و صار الى النار بعد ان أذاقه اللّه العذاب المهين في الدنيا كما قال و كما اخبر.
و منهم الوليد بن المغيرة المخزومي، و كان من الأشداء على المسلمين، فقال لقريش حين حضر الموسم: ان الناس قادمون عليكم و سائلوكم عن صاحبكم، يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فماذا تقولون؟ قالوا: نقول مجنون، قال:
يكلمونه فلا يجدونه مجنونا، قالوا: نقول شاعر، قال: فهم اصحاب الشعر يقولونه و يروون بسيطه و هزجه فلا يجدونه شاعرا. قالوا: فنقول كاهن، قال: فقد رأوا الكهنة و تكلّفهم و كذبهم. قالوا: فما نقول يا ابا عبد شمس؟ ففكر و قدّر و نظر و عبس و بسر «2» كما وصفه اللّه تعالى في سورة المدّثر، ثم قال: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ». و كان له عدة بنين، و كان ذا مال واسع، فكان بنوه يحضرون و يشهدون عقلاء، فأنزل اللّه فيه:
«ذرني و من/ خلقت وحيدا. و جعلت له مالا ممدودا. و بنين شهودا.
و مهّدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد. كلا انه كان لآياتنا عنيدا».
الى قوله: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» «3» فلم يزده اللّه مالا و لا ولدا بعد هذا كما أخبر، ثم مات كافرا كما قال اللّه. و قد كان عند نزول ذلك حيا سليما.
__________________________________________________
(1) لقمان 6
(2) قد تشتبه الكلمة في الاصل ب: و بصر، و الصحيح ما اثبتناه
(3) الآيات من سورة المدثر، و أكثرها حول الوليد بن المغيرة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:55
(1/70)
فانظر كم في ذلك من الآيات من الإخبار بالغيوب، و من عجزهم عن القرآن ان يأتوا بمثله في الفصاحة و البلاغة و الجزالة، فلم يتأتّ لهم ذلك مع حاجتهم اليه و اجتهادهم فيه. و فصاحة القرآن و جزالته و بلاغته دلالة اخرى غير دلالة الإخبار بالغيوب.
باب آخر [ما كان بمكة من انشقاق القمر]
و هو ما كان بمكة من انشقاق القمر؛ فان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مرّ بمكة في ليلة قمراء و معه نفر من اصحابه، فاجتاز بنفر من المشركين، فقالوا له: يا محمد، إن كنت رسول اللّه كما تزعم فاسأل ربك ان يشقّ هذا القمر، فسأل اللّه ذلك فشقّه، فقال المشركون: ساحروا بصاحبكم من شئتم فقد سرى سحره من الارض الى السماء. فنزلت القصة في ذلك «1».
و هذا من الآيات العظام و البراهين الكرام على صدقه و نبوته صلّى اللّه عليه و سلم.
فإن قيل: و من أين لكم ان القمر قد انشقّ له كما ادّعيتم؟ أتعلمون ذلك ضرورة ام بدلالة؟ أو ليس النظام «2» قد شك في هذا و قال: لو كان قد انشقّ لعلم بذلك اهل الغرب و الشرق لمشاهدتهم له؟ و هذا شي ء سيكون عند قيام الساعة و من أشراط/ القيامة، فبأي شي ء تردّون
__________________________________________________
(1) انزل اللّه في انشقاق القمر سورة القمر و أولها: اقتربت الساعة و انشق القمر. و ان يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر.
(2) هو ابراهيم بن سيار ابو اسحق النظام، احد أئمة المعتزلة المشهورين، انفرد باراء خاصة تابعه فيها فرقة من المعتزلة سميت النظامية. توفي سنة 232 ه. الاعلام 1: 36.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:56
قوله و تبيّنون غلطه إن كان قد غلط؟ قيل له: ما نعلم ذلك ضرورة و لكن نعلمه بدلالة، فمن استدلّ عرف، و من لم يستدلّ لم يعرف، و من قصر عن الاستدلال و النظر غلط كما غلط ابراهيم النظّام.
(1/71)
فوجه الدلالة على ذلك ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد احتج بذلك على المسلمين و المشركين و تلا هذا القول عليهم من سورة القمر: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ».
و لم يكن ليقدم و يحتج على العدو و الوليّ بما لا حاجة فيه، و يشير الى أمر ظاهر يشار اليه و يشاهده الناس، فلو أراد ان يكذّب و يردّ قوله ما زاد على هذا؛ هذا لا يقع من عاقل و لا يختاره محصل كائنا من كان، فكيف يقع ممن يدّعي النبوة و الصدق و هو أشد حرصا بالناس كلهم على تصديقه و اتباعه؟ فلو أراد ان يكذبوه و يردوا قوله ما زاد على هذا، و هذا لا يذهب على متأمل.
فإن قيل: فما تنكرون على من قال انه صلى اللّه عليه و سلم، ما احتج بهذا على نبوته؟ قيل له: لا فرق [بين ] «1» من ادّعى ذلك او ادّعى في جميع ما أتى به من القرآن و غيره انه ما احتج بشي ء من ذلك على صدقه و نبوته.
و مما يزيدك علما بذلك و يبين لك غلط النظّام و جهل كل من ذبّ عن ذلك قوله تبارك و تعالى: «اقتربت الساعة و انشق القمر. و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر» فانظر كيف قال: اقتربت الساعة، و أخبر عن امر قد كان و مضى، ثم قال على نسق الكلام:
__________________________________________________
(1) ما بين القوسين اضافة من عندي ليتصل الكلام.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:57
«و انشق القمر»، فجاء بأمر قد كان و انقضى و مضى فنسق على الماضي بالماضي، و لو كان على ما ظنّ النظّام لقال: اقتربت الساعة و انشقاق القمر، او كان/ يقول و سينشق القمر، فلما لم يقل ذلك و قال:
و انشقّ القمر، علمت انه اخبر عن شيئين واقعين قد وقعا و كانا و حصلا.
(1/72)
ثم قال على نسق الكلام: «و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر» فأخبر انها آية مرئية و حجة ثابتة. ثم قال على نسق الكلام: «و لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر. حكمة بالغة فما تغني النّذر»، و هذا لا يقال فيما لم يقع و لم يكن. فتأمل هذا التقريع و التعنيف لتعلم انه امر قد كان، و لا يسوغ ان يقال في امر لم يكن، و لم يقع هذا القول.
و أيضا فإن ما يقع في القيامة و عند قيام الساعة لا يكون حجة على المكلفين، و لا يعنّفون في ترك النظر و التأمل له، فإن التكليف حينئذ زائل مرتفع.
فأما قول النظّام: فلم لا يشاهد هذه الآية كل الناس، فليس هذا بلازم، لأن الناس لم يكونوا من هذا على ميعاد و إنما هو شي ء حدث ليلا و ما كان عندهم خبر بأنه سيحدث و سيكون في وقت كذا فينظرونه، و اذا كان كذلك فقد بطل ما ظنه. يزيدك بيانا ان القمر قد ينكسف كله فلا يرى ذلك من الناس إلا الواحد بعد الواحد و النفر اليسير لنومهم»
، فكيف بانشقاق القمر الذي انشق ثم التأم من ساعته بعد ان رآه اولئك القوم الذين طلبوه.
__________________________________________________
(1) و قد تقرأ: لتوهم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:58
و أيضا فقد يجوز ان يحجبه اللّه عز و جل لمصالح العباد إلا عن أولئك القوم، لأنه قد يجوز ان يكون في بعض البلاد من المكذبين و المحتالين في تلك الساعة من لو رأى ذلك لقال: انما انشق شهادة لي على صدقي، و لا يكون ما ذكره النظّام قد جاء في ذلك من هذا الوجه ايضا، و بطل ما توهمه.
و مدار/ الأمر ان يكون هذا أمرا قد كان، و قد ذكرنا الدلالة على كونه فلا عذر لمن شك فيه.
و من الدلالة ايضا ان ذلك قد كان، ان الصحابة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد تذاكروه فما فيهم من شك و لا ارتاب و لا توقف، بل وقع إجماع منهم على كونه و وقوعه، فلا معتبر بمن جاء بعدهم ممن خالفهم.
(1/73)
و قد ذكر انشقاق القمر علي بن ابي طالب، و عبد اللّه بن مسعود، و جبير بن مطعم، و ابن عمر، و ابن عباس، و أنس بن مالك، و خطب الناس مدينة بن مالك بالمدائن و ذكر فيه انشقاق القمر. و كانوا يقولون:
خمس قد مضين: الروم و القمر و الدخان و البطشة و اللزام «1»، يتذاكرون هذا بينهم رحمة اللّه عليهم. و قد ذكرنا ما في العقل من الحجة في ذلك، و هي تلزم كل عاقل بلغته الدعوة، سواء كان من المسلمين او من غيرهم،
__________________________________________________
(1) يقصد بالروم غلبة الفرس على الروم و ما تنبأ به القرآن من غلبة الروم بعد ذلك في سورة الروم، و القمر حادثة انشقاق القمر الذي ورد في القرآن في سورة القمر، اما الدخان فما ورد حوله في سورة الدخان، و أما البطشة فيقصد بها وقعة بدر لقوله تعالى: «يوم نبطش البطشة الكبرى»، و أما اللزام فقد قيل ان المقصود بها بدر ايضا، و قد ذكر ذلك ابن الاثير في النهاية 4: 56.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:59
و في ذلك أتم كفاية. ثم ذكرنا تذاكر الصحابة بذلك و هي دلالة اخرى، إذ لا يجوز ان يقول عاقل بحضرة جماعة، و قد أقبل على من يحدثه:
قد كنا في وقت كذا حتى حدث كذا و كذا- و هو يستشهد بالذي حدث بحضرتهم و يدعى عليهم و ما عندهم علم- فيمسكون عن تكذيبه و الردّ عليه. ثم ذكرنا الاجماع السابق من الصحابة ليتأكد ذلك على كل من كان من اهل الصلاة.
باب آخر [ما كان بمكة من غلبة الفرس على ارض الجزيرة ادنى ارض الروم ]
(1/74)
مما كان بمكة. و هو ان الفرس غلبت الروم على أرض الجزيرة و هي أدنى ارض الروم و ممالكها من سلطان فارس، فسرّ ذلك مشركي قريش لشدة فارس على الاسلام و المسلمين، و كانت الروم ألين كتفا على المسلمين لأنهم اهل كتاب، و كانوا يصغون/ الى ما يرد عليهم من أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ما يدعو اليه و ما يأمر به و ما ينهى عنه و كيف سيرته، و يتعجبون من ذلك و يستحسنونه، و يكون من ملكهم ما لعله يرد عليك. و ساء المسلمين ظهور فارس عليهم، فأخبر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و سلم ان الروم ستظهر على فارس بعد سبع سنين، و ان غمّ المسلمين سيعود فرحا، و أنزل بذلك قرآنا يتلى، فقال عز و جل: «ألم. غلبت الروم في أدنى الارض و هم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين. للّه الأمر من قبل و من بعد و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه ينصر «1» من يشاء و هو
__________________________________________________
(1) في الاصل: ينصر اللّه، و هو خطأ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:60
العزيز الرحيم. وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده و لكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون».
فلما نزلت هذه الآية تلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على ابي بكر الصديق، و بشره و بشر المسلمين؛ فخرج ابو بكر الى المشركين و أخبرهم بذلك و توعدهم و جادلهم و أغضبهم و أغاظهم. فقال أبيّ بن خلف: و اللّه لا تغلب الروم اهل فارس و لا تخرجنهم من أرضهم. فقال ابو بكر: بل تغلبهم و تخرجهم، فإن شئت بايعتك، فبايعه على تسع من الإبل الى ثلاث سنين. ثم دخل ابو بكر على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأخبره الخبر، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: انها سبع سنين فزده في الخطر «1» و مدّ في الأجل.
(1/75)
فرجع ابو بكر الى أبيّ بن خلف فاستقاله فأقاله، و قال: ان الذي يجي ء به صاحبك باطل. فعاوده ابو بكر المبايعة و زاد في الأجل اربع سنين، و زاد في الخطر/ ثلاثا من الإبل، و أخذ أبي ابا بكر بكفيل، لأن ابا بكر على الهجرة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد كان يذكر هذا و قد بدأ في فرار المسلمين بأديانهم، فأقام له ابو بكر عبد اللّه ابنه كفيلا، و أخذ ابو بكر أبي بن خلف بذلك فأقام له ابنا كفيلا، فأخرجت الروم فارس من أرضها يوم الحديبية، فأخذ عبد اللّه بن ابي بكر من أبي بن خلف و كان الخطر إذ ذاك مباحا طلقا.
فانظر كم في هذا من دلالة و آية بينة، و أنه اخبر ان الروم ستغلب فارس، و أن ذلك سيكون بعد سبع سنين، فكان كما اخبر و على ما فصل
__________________________________________________
(1) تخاطر: تراهن، و الخطر: السبق يتراهن عليه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:61
و بيّن، و البضع فوق الثلاث و دون العشر، و انظر الى هذا الإقدام و هذه الثقة من رسول اللّه، و انظر الى قوله: «و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه»، يريد بهذا النصر ظهور حجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ما أقدم عليه أبو بكر و جاهد المشركين و بايع، فهذا المراد بالنصر لا بظهور الروم على فارس لأن ذلك معصية، و فارس و الروم كفار و اللّه لا ينصر الكفار بعضهم على بعض. و انظر الى هذا التقريع و التوبيخ و تأكيده الوعد بقوله:
«و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه ينصر من يشاء و هو العزيز الرحيم.
(1/76)
وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده و لكن أكثر الناس لا يعلمون» و انظر كيف يستخف بهم و يستجهلهم و هم يسمعون و هو معهم و في قبضتهم و في أيديهم و الغلبة لهم، و انظر كيف يقول له في آخر السورة: «فاصبر إن وعد اللّه حق و لا يستخفنّك الذين لا يوقنون»، فتأمل هذا البيان/ و هذا الافصاح و هذه المكاشفة و الاستظهار و العلوّ و الاستطالة بالحجة و العلم بهذا، و انه قد كان على ما ذكرنا و بيّنا يجري مجرى العلم بقصة المهاجرين الى ارض الحبشة و نظائرها مما قدمنا في قصة الاسراء و غيرها، فاحفظه و ارجع اليه.
و تأمل حال أبي بكر الصديق في الاسلام و إسلامه في اول الاسلام و في حال ضعفه و قلة اهله و غلبة الشرك و المشركين عليهم، و في الحال التي قد كان المستبصر فيها لا يظهر دينه و يخفي ما في نفسه، و انظر الى بصيرة هذا الرجل و مكاشفته و استبداله بالمسالمة عداوة و بالراحة شقوة و بالغنى فقرا و بالكرامة هوانا، كل ذلك للإسلام. ثم كان لسان المسلمين و أكبر داعية للرسول و أجلّ أعضاده و أنبه أعوانه، لم يقم مقامه احد من المسلمين و لا سدّ مسدّه و لا حلّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم محله. و انظر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:62
(1/77)
الى مقامه في شأن الاسراء، و في شأن الروم، و في غير ذلك مما يطول شرحه. و انما احتجنا الى ذكر هذا و التنبيه عليه لأننا في زمان يقول الكثير من اهله انه ما أسلم قطّ و ما زال عدوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و للمسلمين، و أن عداوته كانت أشد و أضر من عداوة ابي جهل و عقبة ابن ابي معيط و أمثالهم، و أن القرآن كان ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بإكفار أبي بكر و عمر و عثمان و سعد و سعيد و أبي عبيدة و عبد الرحمن «1» و الجماعة من المهاجرين و الأنصار، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتلوه في المحاريب و يسمعه الناس/ كلهم و يحفظهم إياه، و أنه مكث نيفا و عشرين سنة يفعل ذلك. و عند العلماء و الفقهاء و أهل التحصيل و الانصاف، انه كان يتقدم المسلمين في الاسلام، و أنه كان أشدهم غنى، و أن امير المؤمنين عليّ بن ابي طالب رضي اللّه عنه كان يقدمه و يقدم عمر على نفسه و يفضلهما على منابره و هما من الأموات، حتى يقول ابو القاسم البلخي «2»:
و من يفضل أمير المؤمنين لا يمكننا ان ندفع قوله، ألا ان خير هذه الأمة بعد نبيّها ابو بكر و عمر، و لا يدفع هذا من له بالعلم بصيرة أوله فيه نصيب و لكنه عندنا ما أراد نفسه، و قد كانت الشيعة الاولى تفضل
__________________________________________________
(1) سعد بن ابي وقاص الصحابي الجليل المتوفي سنة 55 ه. و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، احد العشرة المبشرين بالجنة توفي بعد الخمسين من الهجرة، و أبو عبيدة عامر بن عبد اللّه الجراح، احد المبشرين بالجنة و فاتح الشام و امين توفي سنة 18 ه. و عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري احد العشرة المبشرين بالجنة، لعب دورا كبيرا مع رجال الشورى بعد وفاة عمر حتى بايع لعثمان رضي اللّه عنه بالخلافة توفي سنة 32 ه.
(
(1/78)
2) هو عبد اللّه بن احمد بن محمود، ابو القاسم البلخي او الكعبي، احد أئمة المعتزلة، له فرقة تنتسب اليه، و كان يفضل عليا رضي اللّه عنه. انظر تاريخ بغداد 9: 384، و وفيات الاعيان 1: 252، و الاعلام 4: 189.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:63
أبا بكر و عمر عليه. قال: و قال قائل لشريك بن عبد اللّه «1»: أيهما أفضل؟ ابو بكر أم علي؟ فقال: ابو بكر، فقال له السائل: أتقول هذا و انت من الشيعة؟ فقال: نعم، إنما الشاعي من قال مثل هذا، و اللّه لقد رقى امير المؤمنين هذه الأعواد فقال: ألا ان خير هذه الأمة بعد نبيّها ابو بكر و عمر، أفكنا نردّ قوله؟ أفكنا نكذبه؟ و اللّه ما كان كذابا.
ذكر هذا ابو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي إغراضه على ابي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في كتابه «في نظم القرآن و سلامته من الزيادة و النقصان». و ينبغي ان تعلم ان الذين وضعوا هذا انما قصدوا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته لشدة عداوتهم له و تستروا بالتشيع، و كان غيظهم على ابي بكر و عمر و عثمان و تلك الجماعة لأنهم هم الذين اشتملوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في حياته و نصروه، ثم كانوا بعد وفاته أشد نصرة في دينه منهم في حياته، و أحدقوا بأبي بكر/ فغزاهم، و قتل مسيلمة، و أسر طليحة، ورد الردة، و غزا فارس و الروم، و أذلّ أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بكل مكان. و استخلف عمر، فأزال ملك فارس و هو أشد الملوك و أدخل ملكه في الاسلام، و ألحق ملوك الروم بجبال الروم و خلجانها و أخرجهم من الشام و مصر و من الجزيرة و أدخل هذه الممالك في الاسلام، و قتل الشرك و أماته و أحيا الاسلام و بثّه و نشره و بسطه و بناه و شيّده و جعله عاليا على الأديان كلها و ظاهرا على أمم الشرك جميعها. فغاظهم ذلك أشدّ الغيظ، و لم يمكنهم المكاشفة بشتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فاشتفوا
(1/79)
__________________________________________________
(1) شريك بن عبد اللّه: هو شريك بن عبد اللّه بن الحارث النخعي، عالم بالحديث وفقية ولي القضاء للمنصور العباسي في الكوفة سنة 153 توفي سنة 177 ه. تذكرة الحفاظ 1: 214، وفيات الاعيان 1: 225.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:64
منه بشتم هؤلاء و غرّوا من لا يعرفهم و قالوا لهم: ما هذا القرآن بشي ء، و هو مغيّر لا تقوم به حجة، و الاسلام مبدّل، و الفقهاء جهّال كفار، الى غير ذلك مما هذا سبيله و شرحه يطول، فاغترّوا بهم و قبلوا منهم و صدّوهم عن الاسلام فأوردوهم ما أصدروهم. و انت تجد كثيرا من ذلك في التفسير لأبي علي «1»، و في نقضه الإمامة على ابن الراوندي، و في غيرهما من كتبه، و في كتب غيره من المعتزلة و اللّه أعلم.
باب آخر [من اعلامه صلّى اللّه عليه و سلم انقضاض الكواكب بمكة]
فمن أعلامه التي حدثت و هو صلى اللّه عليه و سلم بمكة، انقضاض الكواكب و امتلاء السماء بها من كل جانب على وجه انتقضت به العادة و خرج عن المعتاد. و هذه آية عظيمة، و بيّنة جليلة، و واضحة جسيمة.
و قد نطق القرآن بها فقال حاكيا عن الجن: «وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ/ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً. وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» «2».
فان قيل و من أين لكم هذا و قد سبقكم زمانه و نحن لا نؤمن بكتابكم و لا نقرّ بنبيّكم؟ و خبرونا عن طريق معرفتكم بذلك هل هو ضرورة
__________________________________________________
(1) هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي (235- 303 ه) شيخ المعتزلة في عصره و إليه تنسب الجبائية. نسبته الى جبي من قرى البصرة، و تفسيره المذكور من اهم مؤلفاته، استفاد منه من بعده القاضي عبد الجبار و الحاكم ابو السعد و الزمخشري. وفيات الاعيان 1: 480. دائرة المعارف الاسلامية 6: 270.
(
(1/80)
2) الجن 8 و ما بعدها.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:65
أم اكتساب؟ قيل له: العلم بذلك طريقه الاستدلال و الاكتساب، و يتهيأ لكل عاقل من كافر و مؤمن ان يعرف ذلك و يجب عليه ان يعرف، و سبيله سهلة قريبة، فمن نظر و استدل عرف، و من لم يستدل لم يعرف.
و الدليل على ان ذلك قد كان، ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد تلا هذه السورة و احتج بذلك على العدوّ و الوليّ، فعلمنا انه أمر قد كان و وقع، فإن الحجة به قد قامت و ظهرت و قهرت، لأنه لا يجوز ان يقصد عاقل الى قوم يدعوهم الى صدقه و نبوته و يحرص في أجابتهم الى طاعته و الانقياد له و يريد منهم ذلك ثم يقول: من علامة نبوتي و دلائل رسالتي ان النجوم لم تكن تنقض و انها الآن قد انتقضت، و هو يعلم انهم يعلمون ان هذا أمر لا اصل له و أنه قد كذب فيما ادعى. هذا لا يقع من عاقل كائنا من كان، فكيف بمن يدعي النبوة، و عقله العقل المعروف الراجح الموصوف، ثم يقصد الى امر ظاهر مكشوف في السماء البارزة للخلق أجمعين المشاهدة للأولين و الآخرين، سيما و العرب أعلم الناس بالكواكب و الأنواء و مطالعها و سيرها، و الثابت الراكد الذي/ لا يغيب منها. و قد كتب الناس عنهم علمهم بذلك، و دونوا منه شيئا كثيرا، و أكثرهم مأواه تحت السماء، هي تسقفهم، و رؤيتهم لها و لكواكبها امر دائم متصل لا يفتر، و قد سبقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في السن و الزمان و العلم بالكواكب، فكيف يقدم على قوم هذه سبيلهم فيدعي هذه الدعوى و هم من العداوة له و الطلب لعثراته و زلاته، و لأمر ينفرون به اصحابه عنه على حال لا مزيد عليها؟ فأين كانوا عن هذا الكذب الظاهر الذي لا ينفع معه صدق يقدمه و لا صدق يكون بعده؟ و من هذه سبيله لا يكون لها رئاسة، و لا يتبعه احد، و لا يكون له قدر. و قد يتبعه قوم عقلاء ألبّاء «1» فضلاء لأنه
__________________________________________________
(
(1/81)
1) ألباء: جمع لبيب. انظر القاموس المحيط.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:66
نبي و لأنه صادق، و طاعة للّه و تقربا الى اللّه، و استبدلوا باتباعه بالعز ذلا و بالراحة كدا ابتغاء مرضات اللّه، و تكلفوا في اجابته بتلك الشدائد التي قد قدمنا شرحها، فكيف اقاموا عليه و هو يكذب هذا الكذب الظاهر.
و هناك من اعدائه قريش و العرب و اليهود و النصارى و كيدهم عظيم، كيف لم يوافقوا على هذا و يجمعوا الناس عليه؟ و كيف لم يقولوا لأصحابه و هم إخوانهم و اولادهم و منهم: يا هؤلاء، فارقتم أديانكم، و جهلتم اسلافكم، و اكفرتم آباءكم و شهدتم عليهم بالفضيحة، طاعة لرجل فرض عليكم مجاهدة الأمم، و بذل دمائكم و اموالكم في ذلك، و ألزمكم التكاليف الشديدة من شريعته، و هو يكذب هذا الكذب الظاهر البارز للعقول/ و الأبصار؟ و في تركهم لذلك دليل على صحة هذه المعجزة.
و أعجب الامور انه يتلو عليهم قول اللّه جل و عز: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «1»» اي لا يجدوا بك كذابا، و لا يجدون في قولك كذبا و إن حرصوا على ذلك و استفرغوا وسعهم، و لو قدروا ان يجدوا له عثرة او ذلة او ادنى شبهة لما و اثبه قبل الناس كلهم إلا اصحابه، و لا قبله إلا خاصته و ثقاته و بطانته.
فإن قيل: فلعلهم لم يفعلوا هذا به و إن وقفوا على كذبه لئلا يفضحوا أنفسهم و يشمتوا عدوهم، و لئلا يقول الناس لهم خدعتم فامسكوا لهذا.
قيل له: هذا لا يسأل عنه مميز، لأنه إن كان قد كذب فأقاموا عليه و قد عرفوا كذبه، فقد تعجلوا الفضيحة بإقامتهم عليه و أشمتوا بنفوسهم
__________________________________________________
(1) الانعام 33
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:67
الاعداء، [و خسروا الدنيا و الآخرة «1»].
و جواب آخر:
(1/82)
و هو ان هؤلاء الذين اتبعوا الاعلام التي كانت معه من القرآن و غيره و قد شهدوا على انفسهم و آبائهم بأنهم كانوا في ضلال و باطل و فضائح و ما استنكفوا من الرجوع عن ذلك، فلو حسوا «2» بأدنى شبهة فضلا عن كذب لبادروا و رجعوا و كان ذلك اروح لهم، و أخف عليهم، و أبين في عذرهم و قيام حجتهم، فان مراجعة الحق اولى من التمادي في الباطل.
و جواب آخر:
و هو انهم لو وقفوا على امر يرتاب به لسألوه عنه، و عنف بعضهم بعضا في الاقامة عليه و في ترك قتله و البراءة منه،/ و لأذاعوه و أظهروه و إن ضرهم و غمهم و ساءهم، فان الجماعة الكبيرة لا يجوز ان تكتم ما قد عرفت و إن ساءهم و إن ضرّهم و إن ذهب برئاستهم و حطّ من اقدارهم. فأعرف هذا فانه اصل كبير. هذا فيما يقفون عليه خاصة، فكيف بأمر الشهب و هو شي ء يعرفه الناس عامة من وليّ و عدوّ، فتعلم انها آية عظيمة و حجة ظاهرة.
و انظر كيف اوردها و أدلّ على العدوّ و الولي و استطال بها فقال: «قل أوحي اليّ انه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي الى الرشد فامنا به و لن نشرك بربنا احدا. و أنه تعالى جدّ ربنا ما اتخذ صاحبة و لا ولدا. و أنه كان يقول سفيهنا على اللّه شططا، و أنا ظننا ان لن
__________________________________________________
(1) ما بين القوسين كتب قريبا من حاشية الورقة، فيحتمل ان تكون من الاصل او ان تكون من المعلق على الكتاب.
(2) حسست الشي ء: احسسته، و حسست به ايقنت به. انظر القاموس المحيط.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:68
تقول الانس و الجن على اللّه كذبا. و أنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا. و أنهم ظنوّا كما ظننتم ان لن يبعث اللّه احدا.
(1/83)
و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا. و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. و أنا لا ندري اشرّ اريد بمن في الارض ام اراد بهم ربهم رشدا» فانظر كيف ذكر هولها و عظمتها و ارتياع الجن و الانس لحدوثها، و انهم لا يدرون لأي شي ء حدثت و هل حدوث ذلك لعذاب اهل الارض بذنوبهم، ام لموعظتهم و إرشادهم.
و قد جاء مع هذا ايضا ان «1» الكواكب لما انتقضت اخذ الناس في الخروج من/ اموالهم، و قالوا: ما حدث هذا إلا لفناء الدنيا و انقضاء مدتها، فقال عبد نائلة بن عمر و الثقفي «2» لأهل ثقيف: أمهلوا فإن افادة المال بعد اتلافه تشق و تصعب، فانظروا الى الكوكب المنقضة، فإن كانت من الكواكب المعروفة المتقدمة فهو لفناء الدنيا، و إن كانت كواكب الآن حدثت و الآن خلقت فهو لأمر. فحدثت إحدى الليالي، فنظروا فإذا هي كواكب الآن حدثت، فأمسكوا عن اموالهم و ترقبوا ما يأتيهم من الاخبار، فاذا قد اتاهم ان رجلا من قريش بمكة قد زعم ان اللّه ارسله الى خلقه لينذرهم، فقالوا: لعل هذا الانقضاض شاهد لهذا المنذر، و تبركوا برأي هذا الرجل المشير و صار مفخرا له و لولده من بعده، حتى يقولوا لثقيف ابونا الذي حبس عليكم اموالكم.
__________________________________________________
(1) في الاصل: من، و لعل الصحيح ما اثبتناه.
(2) انظر ما اورده ابن كثير في تفسير سورة الجن عن هذه الحادثة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:69
فإن قيل: او ليس قد ذكر ان في شعر الشراء الأولين ذكرا لانقضاض الكواكب، و في كتب العجم ذكر لذلك.
(1/84)
قيل له: إن ابا علي و ابنه ابا هاشم «1» و اصحابهما قالوا: ما ننكر ان يكون قد كان قبل مبعث النبي شي ء من انقضاض الكواكب، و لكنا قد علمنا بالدليل الذي قدمنا انه قد حدث عند مبعث النبي شي ء انتقضت به العادة، و امتلأت السماء به، فتلك الزيادة على الامر المعتاد هي الحجة؛ فصار ذلك بمنزلة الطوفان، فإن الماء قد كان قبل نوح عليه السلام يزيد زيادات كثيرة معروفة معتادة، فلما جاء نوح صلى اللّه عليه زاد/ الماء زيادة انتقضت به العادة و خرج عن الأمر المعتاد، فكانت تلك الزيادة هي الآية و هي الحجة. فليس في شعر الشعراء و لا فيما وجد في كتب القدماء مطعن في هذه الدلالة، و لا تكذيب لهذا الخبر، و هذا جواب سديد شاف كاف، لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلم انما احتج بامتلاء السماء بالشهب لا بالأمر المعتاد، هذا لا يفعله عاقل و لا يقع منه كائنا من كان، فكيف بمن يدعى الصدق و النبوة و يريد من الناس كلهم تصديقه و اتباعه، فلا يجوز ان يحتج عليهم بأمر قد عرفوه قبل ان يخلق و يخلق آباؤه فيقول: هذا من آياتي و من اجلي حدث و بسبب تصديقي خلق، فيكون بمنزلة من قال: من الدلالة على نبوتي ان الشمس ما كانت تطلع عليكم و انها الآن قد صارت تطلع.
فأما ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ رحمه اللّه، فانه يذكر في كتاب «الحيوان» انقضاض الكواكب، و ذكر ما فيه من الآية و الحجة في النبوة،
__________________________________________________
(1) ابو هاشم الجبائي هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي «247- 321 ه» من كبار رجال المعتزلة له طائفة تنتسب اليه تسمى بالبهشمية، و يعتبر القاضي عبد الجبار من تلاميذه و رجال مدرسته. وفيات الاعيان 1: 292 و تاريخ بغداد 11: 55.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:70
(1/85)
و ذكر الشعر الذي ذكر في هذا المعنى لهؤلاء الشعراء، فقال هو و ابراهيم النظّام و غيرهما: إنه ليس في هذا الشعر امر بيّن قد اراد به صاحبه انقضاض الكواكب و لكنه امر محتمل. و ذكروا في بعض هذا الشعر أنه مولد و قد قيل في الاسلام، قاله بعض الزنادقة و نسبه الى الأوائل، و ذكروا في بعضه ان قائله و ان كان كافرا جاهليا فقد ادرك المبعث و أوائل المبعث؛ فأبطلوا ان يكون في هذا متعلق/ او يحتاج فيه الى جواب.
و استبعد ابو عثمان ان يكون هذا امر قد كان ظاهرا قبل الاسلام، قال:
و إلا فأين كان القدماء من الشعراء، كامرى ء القيس و من تقدمه، و كنانة و زهير «1» و شعراء القبائل القديمة، كيف لم يذكروا هذا في اشعارهم و هو أمر بارز لأبصارهم؟ و هم قد شهوا بالحيات و العقارب و الجعلان و الخنافس و البراغيث و بالقمل و بكل شخص و بكل ما دب و درج؟ و ليس ببعيد ما قاله. فأما جواب أبي علي و اصحابه: فما نبالي و لو كان الشعر مل ء الدنيا للأوائل، فما له في هذا تأثير.
قال ابو عثمان: و أما ما يدّعى من ذكر الشهب في كتب العجم الاوائل فهو امر لا سبيل الى العلم به لأنها منقولة في الاسلام، و انما نقلها الواحد بعد الواحد من أعداء الاسلام، و من هو اشد الناس حرصا على تكذيب النبي صلّى اللّه عليه و سلم و تشكيك المسلمين، فهو لو كان عدلا مسلما ما علم ذلك بخبره، فكيف و حاله ما وصفنا؟.
و بعد فمن اين لنا انه عليم باللغتين و يقصد واضعي الكتب حتى يوثق بنقله و بأخباره؟ و هو كما قال ابو عثمان، فإن هذه الكتب التي وضعت في الاسلام،
__________________________________________________
(1) يقصد زهير بن ابي سلمى.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:71
(1/86)
و نسب بعضها الى الهند، و بعضها الى الروم، و بعضها الى اليونانية، و بعضها الى القبط، و بعضها الى النبط، و بعضها الى الفرس، فانما وضعها الواحد بعد الواحد، و زعم انه وجده لأهل تلك اللغة، و زعم انه عالم بتلك اللغة فنقله، فهو امر لا يقع به علم و ليس معنا اكثر من دعوى هذا الواضع، فبمقدار ما يكتبه و يترجمه و يلقيه الى الورّقين فيدور/ في ايدي الناس فيقول من لا علم له و لا عادة له بمجالسة المعتزلة و من اخذ عنهم و من لا سبيل له الى طرق اهل العلم: هذا من كتب الأوائل؛ فاعرف هذا، فانه باب كبير و كل احد أمس الحاجة اليه فان الجهل و ترك التأمل غالب على الناس، و أعداء الاسلام كثير، و هم بينهم، يكيدونهم بأنواع الكيد من حيث لا يشعرون.
فمن ذلك خطب و رسائل و وصايا و حكم وضعت في ايام بني العباس و نسبت الى أمم العجم، لا سبيل الى العلم بما ادعوا و اضعوها من أنهم وجدوها للأوائل، و انما كان غرضه شغل الناس عن القرآن و عن عهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وصايا السلف بعده، و لعله انما اخذ ذلك و حصّل معانيه من القرآن و من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و غيّر اللفظ و نسبه الى أمم العجم و العلماء. و أهل التحصيل يتهمون عبد اللّه بن المقفع فيما وضعه من «كليلة و دمنة» و كتاب «اليتيمة»، و ما زعم انه وجده للفرس، فقالوا: ما معنا في هذا اكثر من الدعوى، و هو رجل بليغ اللسان بليغ العلم، فارسي الأصل، قد جرى من المجوسية على عرق، فقد كان فيها طويلا، و هو كثير الرواية لآداب العرب و علومها، متعصب لقومه، قد أسلم بعد الكبر، و كان متهما في دينه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:72
(1/87)
و هكذا قالوا في أبان بن عبد الحميد اللاحقي «1». و قد وضع سهل بن هارون بن رهبونة «2» الكاتب الفارسي صاحب المأمون، كتاب «ثغرة و ثعلة»، يعارضه به كتاب «كليلة و دمنة»، و جعله على ألسن الطير و البهائم، و ذكر فيه حكم العرب كما صنع ابن المقفع «3» في كليلة و دمنة عن هذا/ الذي سماه برزوي الطبيب، فقدمه في صدر الكتاب كأنه ما أراد إلا تشكيك أهل الديانات و أتباع الأنبياء صلى اللّه عليهم في اديانهم. و قد دار في أيدى قوم من المنجمين كتاب زعموا انهم وجدوه لجابان منجّم كسرى ملك فارس، و قد أخبر فيه بزعمهم أن نبوّة تحدث في العرب يكون مدة صاحبها كذا و كذا سنة. فذكر ايام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ثم ايام ابي بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي اللّه عنهم، و لم يذكر اسماءهم، و فصل من أحوالهم و سيرهم و أعمالهم شيئا كثيرا. فافتتن به المنجمون حتى ظنوا ان «4» صنعتهم حق، و أنها تؤدي الى علم، و فتنوا بذلك خلقا كثيرا مما لا يدري من الامراء و الوزراء و طبقات الكتاب، و جعلوا ذلك شاهدا لصنعة النجوم و نفقوها، فجرى ذلك بحضرة رجل من علماء المعتزلة فقال للمنجم الذي احتج بذلك في صحة صنعة النجوم و هو إسحق بن فليت اليهودي احد
__________________________________________________
(1) هو ابان بن عبد الحميد بن لاحق، شاعر مكة، اتصل بالبرامكة و مدحهم و نظم لهم كليلة و دمنة شعرا و كتبا اخرى فارسية، توفي سنة 200 ه. دائرة المعارف الاسلامية 1: 16 و الاعلام 1: 20.
(2) كاتب بليغ فارسي الاصل، و من واضعي القصص، ولاه المأمون رئاسة خزانة الحكمة، و كان شعوبيا يتعصب للعرب على العجم. معجم الأدباء 4: 258، فوات الوفيات 1: 181.
(3) كتب المعلق في حاشية الكتاب العبارة التالية: «في نسه ذلك الى المفيد و قد قال الناس ان الذي حكاه عن هذا الرجل الذي سماه».
(4) في الاصل: انهم، و لعل الصواب ما اثبتناه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:73
(1/88)
رؤساء المنجمين في زمانه ببغداد، و كان يتقدم عند كثير منهم على رؤساء منجمي زمانه و من كان في عصره كابن زكريا «1» النوبختي، و كابن فرخان شاه النصراني «2» و غلام زحل «3»: من اين لك يا أبا الطيب ان هذا الكتاب وضعه جانان لكسرى؟ فقال هذا مشهور دائر بين المنجمين لا يشكون فيه، فقال له: عن هذا و صحته سألتك، هل هو اكثر من انك وجدت كتابا مكتوبا منسوبا الى جانان منجم كسرى؟ من اين ان هذا كما كتبه هذا الكاتب و أخبر به هذا المخبر و ما معنا و ما معكم اكثر من الدعوى؟ و انما هذا رجل وجد كتابه في الاسلام/ و في ايام بني العباس و في زمان الديلم منها، و ادعى فيه انه قديم وجده فارسيا فنقله، و انما وضعه بعد ان مضت ايام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أيام خلفائه و ايام بني امية و الصدر الكبير من بني العباس و عرف ذلك و تيقّنه، فوضع الكتاب بعد ذلك، و حذف اسماء القوم ليظن انه قد وضعه قبل ان يخلقهم اللّه، فيدعي من يقرأ كتابه ممن لا علم له له الصدق و الحذق، و لصنعة النجوم الصحة. و إلا فأرنا إن كان قد اخبر فيه عمّن يأتي من الخلفاء او غيرهم، او ذكر ايامهم و اعمارهم على التحقيق كما ذكرها عمن تقدم، حتى يكون لك في ذلك شبهة، فتحير ابن فليت من هذا بعد الخطاب الطويل، و لان بعد شدته، و سكن بعد نزوته، و قال: لعل الأمر ان يكون كما قلت، فقال له المعتزلي: ما اسرع ما رجعت عن تلك الدعاوى، فقال: انا اخبرك، قد قرأت اربع نسخ من
__________________________________________________
(1) في الاصل ابن كريا، و لعله ابن زكريا النوبختي.
(2) ابن فرخان شاه النصراني: هو ابن نضير بن فرخانشاه المنجم الاعجمي المتوفي سنة 367. القفطي 356.
(3) هو عبيد اللّه بن الحسين ابو القاسم المعروف بغلام زحل، قال القفطي من افاضل الحساب و المنجمين، توفي سنة 376. تاريخ الحكماء 225، الفهرست 395.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:74
(1/89)
هذا الكتاب المنسوب الى هذا الرجل، و كلها مختلفة، و قد ذكر فيها ان البيت يسقط حجّه و تعظيمه، و انا اتوقع كل سنة و اسأل عن الحاجّ فاذا هو لا ينقطع حجّه. و لم يكن بنا قول ابن فليت و لا استدلاله فانه ليس بشي ء قوي، و يمكن الخصم ان يدّعي ان ذا سيكون، او يشغب بغير هذا، و لكن الذي ذكره واضع الكتاب ليس في صنعة النجوم شي ء منه و من الاصابة على طريق التفصيل، و انما تتفق لهم الإصابات عن غير علم كما تتفق للعّابين الخاتم و الزوج و الفرد، و للمتفائلين/ برؤية الثعلب، و للمتطيرين بالغراب و البوم، و ما يتفق لهؤلاء من الاصابة اكثر و احسن و اسرع لحذاق منجمي الملوك، و هذا يكفيك في بطلان صنعة النجوم، و لم نكن في الرد عليهم، و لكن عرض هذا فذكرناه، و ستجد في الرد عليهم اكثر من هذا.
و لكن ذكر الكتاب المنسوب الى جانان و امثاله، يضعه أعداء الأنبياء ليشكوا في اخبارهم، و ليجعلوا صوابهم جاريا مجرى إصابة المنجمين، و لينفقوا صنعة النجوم، و ليرغبوا الناس في الفزع اليهم و في التعويل عليهم و يستأكلوهم، و لتتم حيلتهم عليهم و هذا الجنس يسميه المنجمون الهاذور، و انت تجد هذا كثيرا، فيقولون: قال ما شاء اللّه ابن أبري اليهودي «1» في القرانات كذا و كذا و قد صح، و قال الحسن بن سهل و الفضل للمأمون «2»: كذا و كذا قبل
__________________________________________________
(1) و اسمه ميشا بن ابري المنجم اليهودي المشهور، عاش زمن المنصور و بقي حتى ايام المأمون. قال القفطي: و كان فاضلا اوحد زمانه في الاخبار بأمور الحدثان و كان له خطر قوي في سهم الغيب و من مؤلفاته كتاب القرانات. تاريخ الحكماء للقفطي 327
(2) هما اخوان من اصل مجوسي، اسلما و اشتهرا بالذكاء و الادب و الفصاحة، و وزرا للخليفة المأمون العباسي، و كان الفضل يلقب بذي الرياستين.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:75
أن يكون فكان كذلك.
(1/90)
و ربما وقع لبعض المؤرخين و الاخباريين ممن لا علم له بصنعة الكلام مثل هذه الكتب و الاخبار فيذكرها و يضمنها كتبه، فيقرؤها من لا علم له و لا سأل العلماء عنها فيتحير و يضل. و قد صنع الناس في الاسلام مثل هذا، فقصدوا الى امور قد كانت و وقعت فعملوا فيها اشعارا و نسبوها الى قوم قد تقدموا و ادعوا انهم قد عرفوها قبل ان تكون، كما صنعوا في قصيدة نسبوها الى رجل يقال له ابن ابي العقب ذكر فيها دولة بني العباس و كيف ابتداؤها، و ذكر جماعة من خلفائهم و اين ماتوا و اين قبورهم، و ادعوا انه اخذ هذا عن الأئمة و عن الاوصياء، و هو امر لا اصل له و كذب لا يشك/ فيه، و انما سبيله ما ذكرنا، فاعرف ذلك فانه باب كبير، و المخرق به و المشاكل به كثير، و للجهل به ضلت طوائف من هذه الأمة ممن خالف المعتزلة من طوائف الشيع و غيرهم.
و هذه سبيل الكتب المنسوبة الى اليونانية كأفلاطن و أرسطاطالس و غيرهم، فانها نقلت في الاسلام، و ناقلوها و مدرسوها انما هم الواحد بعد الواحد الذين لا يعلم بأخبار جماعتهم شي ء، و هم مع هذا أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أشد الناس حرصا على التشكيك في الاسلام و صدّ اهله عنه، و هم يتسترون بالنصرانية و النصارى لا يرضونهم، و يشهدون عليهم بالالحاد و تعطيل الشرائع و الطعن في الربوبية و في جميع النبوات، و قد حرموهم و نهوا عنهم، كقسطا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:76
ابن اقا «1»، و حنين بن اسحق و ابنه اسحق «2»، و قويرى «3»، و متى بن يونس «4»، و يحيى بن عدي «5»، و هؤلاء مع قلتهم ما جمعهم زمان واحد.
و كان يوحنا القس «6» مدرس أقليدس و المجسطي و غيره يقول: قد حذف الذين نقلوا كتب هؤلاء كثيرا من ضلالهم و فاحش غلطهم عصبية لهم و ابقاء عليهم، و اعاروهم و اعطوهم ما ليس لهم من معاني الاسلاميين و بيانهم، و العدو اذا كان متدينا لم يؤمن حنقه، فكيف بمن لا يعتقد معادا، و لا يرجو حسابا، و لا يخاف عقابا.
(1/91)
ثم عدت الى ما كتب عليه من ذكر الشهب.
و قد تصفح العلماء الكتاب المعروف بالعلوي»
المنسوب الى ارسطالس
__________________________________________________
(1) هو فيلسوف شامي نصراني، اشتهر بالترجمة من اليونانية الى العربية، و برع في علوم كثيرة. عاصر يعقوب بن اسحق الكندي. انظر تفصيل كتبه في الفهرست 411، و القفطي 262.
(2) انظر ترجمة حنين بن اسحق و ابن اسحق في هامش ص 53.
(3) و اسمه ابراهيم قويري و يكنى ابا اسحق، ممن اخذ عنه علم المنطق، و عليه قرأ ابو بشر متى بن يونس. الفهرست 367، و طبقات الأطباء 77.
(4) ابو بشر متى بن يونس النصراني المنطقي. قال القفطي: و كان ببغداد في خلافة الراضى بعد سنة عشرين و ثلاثمائة و قبل سنة ثلاثين و له مناظرة جرت بينه و بين ابن سعيد السيرافي النحوي. القفطي 323.
(5) هو ابو زكريا يحيى بن عدي بن حميد بن زكريا المنطقي، قال ابن النديم: و اليه انتهت رياسة اصحابه في زماننا. قرأ على ابي بشر متى و على ابي نصر الفارابي و على جماعة مذهبه من مذاهب النصارى اليعقوبية. الفهرست 369.
(6) يقصد يوحنا بن ماسويه، كان نصرانيا شماسا سريانيا في ايام الخليفة هرون الرشيد، و قد ولاه ترجمة الكتب الطبية القديمة، و له في تاريخ الحكماء للقفطي ترجمة طويلة. انظر القفطي 380.
(7) يقصد كتاب الآثار العلوية لأرسطو، نقله الى العربية ابو بشر متى. الفهرست لابن النديم 351
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:77
فإنه نقله بعض هؤلاء لبعض الخلفاء من بني العباس ليتحفه به، فما وجدوا فيه ذكرا مصرحا لانقضاض الكواكب، و إنما هو قول محتمل يتأوله بعضهم و يدعى انه أراد به ذلك، و هو بأنه شي ء يثور من الارض و يرقى الى الجو/ أشبه.
(1/92)
و قد كان هرون الرشيد ضغط الروم و حاصرهم في بلادهم و اذلهم الى ان اجابوا الى اداء الجزية و اتقوه بها فأخذها منهم، و كتب اليهم كتابا بيّن لهم توحيد اللّه و انفراده بالقدم و صدق نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ذكر فيه قطعة كافية حسنة من اعلام النبوة و أنفذه الى ملك الروم مع رجل من المعتزلة إما معمّر او غيره، و الكتاب إنشاء ابي الربيع محمد بن الليث الكاتب القرشي «1»، و هو موجود في رسائل تاج الاصفهاني «2» لا اشك، و قد حدثني بعض اهل العلم انه مذكور في «المنثور و المنظوم» لابن ابي طاهر «3». و قد ذكر في هذا الكتاب آية الشهب و انقضاض الكواكب و استوفى الحجة فيها، و لم ينفذ هذا الكتاب الى ملك الروم إلا بعد تصفح كتب الاعاجم و استقصاء كل ما يمكن
__________________________________________________
(1) هذا ابو الربيع محمد بن الليث الخطيب، كتب ليحيى بن خالد، و له ولاء ببني امية، و كان بليغا مترسلا كاتبا فقيها متكلما، ذكر له صاحب الفهرست كتاب «جواب قسطنطين عن الرشيد» و لعله هو المقصود هنا. إلا ان صاحب الفهرست يضيف رواية تشير الى ان نسبه يتصل بدارا، احد ملوك الفرس، بعد ان ذكر انه كان شديد الميل على العجم و أن البرامكة كانوا يكرهونه لذلك. ابن النديم 175.
(2) هو محمد بن بحر ابو مسلم الاصفهاني، معتزلي و من كتاب الكتاب. كان عالما بالتفسير و غيره من صفوف العلم توفي سنة 322. ذكر له ياقوت في معجم الادباء كتابا باسم «مجموعة الرسائل» لعله هو المقصود هنا. «280 ه.» معجم الادباء 6: 420
(3) هو احمد بن طيفور الخراساني مؤرخ و أديب، له كتاب تاريخ بغداد، و أما كتاب المنثور و المنظوم فيقع في اربعة عشر جزآ. ياقوت 1: 156.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:78
ان يقال، لتعلم صحة هذه الآية و خوض العلماء فيها قديما.
(1/93)
و قد قال ابو علي رحمه اللّه و اصحابه كما قد ذكرنا عنهم ما لا يضرنا و لو ذكر الاوائل كلهم الحجة في الزيادة الناقضة للعادة و امتلأ السماء به عند مبعثه.
و قد جاء في الاثر ان كوكبا انقض فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: ما كنتم تقولون في هذا في الجاهلية «1»؟ فقال اصحاب ابي علي لأصحاب ابي عثمان «2»: هذا يدل على انه قد كان لانقضاض الكواكب اثر ثم زاد في المبعث زيادة انتقضت العادة به، فقال اصحاب ابي عثمان: إنما اراد النبي صلّى اللّه عليه و سلم بقوله لهم: ما كنتم تقولون في ذلك في الجاهلية، يريد قبل اسلامهم و قبل تصديقهم له. و على كلا القولين فالآية ثابتة و الحجة قائمة، و ليس/ في هذا خلاف في كونها و وقوعها.
و أما ارسطالس هذا فلا معول على ما يقوله، و إن كان اصحابه قد صدقوا عليه فهو غير كامل العقل، لأنهم حكوا عنه ان هذه الاجسام العلوية من الشمس و القمر و الكواكب لا يجوز ان تنقسم و لا تتجزأ و لا تتبعض، و ان الشمس ليست حارة و محال ان تكون حارة، و ان هذه الاجسام محال ان تكون حارة او باردة، او رطبة او يابسة، او ثقيلة او خفيفة، او لينة او خشنة، و محال ان تكون هذه الكواكب اكثر مما هي بكوكب واحد، او ينقص منها كوكب واحد، و محال ان تكون الشمس اكثر مما هي او اقل، و محال ان يكون لها لون او ريح او طعم.
__________________________________________________
(1) انظر لما ورد في انقضاض الكواكب من آثار تفسير ابن كثير 4: 192 و 429.
(2) يقصد اصحاب ابي علي الجبائي و أبي عثمان الجاحظ.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:79
(1/94)
و هذا الذي احاله هذا الرجل جوازه قائم في العقل، يعلمه كل عاقل من عالم و جاهل، و نظار و غير نظار، فإن كان عاقلا و بلغ به المحل و اللجاج الى أن ركب هذه المجاحدة و المكابرة فيما هو في فطر العقول كلها و في اوائلها، فمن يعده او يعتد بقوله او يذكره فيمن يرد عليه و يتتبع عوراته و هو عورة كله من اوله الى آخره؟ و لو لم يكن له من الجهل و الخروج من العقل إلا هذا لكفاه و أغناه، بل لو قسمت هذه الجهالة على جميع اهل الارض، من اولهم الى آخرهم لحطت منازلهم، و اسقطت اقدارهم، حتى لا يعدوا فيمن ينقض عليه و يرد قوله. كيف، و له من الجهالات المستخفة المسقطة غير هذا مما إن طلبته وجدته و وقفت عليه.
و من جهله انه اعتقد ان السماء و الشمس و القمر و الكواكب، عاقله مميزة سميعة بصيرة ضارة نافعة تحيي و تميت/، و ان كل حادثة في هذا العالم من فعلها و تأثيرها. و العلم بأن السماء و الشمس و القمر و النجوم جمادات و موات كالعلم بأن شعاع الشمس و شعاع القمر وضوء الكواكب و البرق و الغيم و الريح و المطر و البحر و الماء و الهواء و الارض و النار جماد موات، و لا فرق بين من ادعى في الارض و النار و الماء و الهواء و النبات ذلك او ادعاه في الكواكب، بل كانت دعواه في الطعام و الشراب و الهواء و اشباه ذلك انها حية قادرة نافعة ضارة تحيي و تميت اجدر و أدخل في الشغب ممن ادعى ذلك في الشمس و القمر و السماء و الكواكب، فيقول: وجدت الهواء حيث كان جاز ان يكون معه الحيوان، و حيث لا يكون لا يكاد يوجد حيوان، و إذا ركد مرض الأصحاء و نهك المرضى و تعفن عنده الثمار و الطعام و النبات، فعلمت انه حيّ سميع بصير قادر يحيي و يميت.
ثم يصير الى الماء فيقول: عند وجوده يوجد الحيوان و النبات و عند عدمه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:80
يتلف الحيوان و النبات، فعلمت انه حي ناطق سميع بصير نافع ضارّ.
(1/95)
ثم يصير الى الارض و مرافقها فيذكر منها مثل ذلك، لما فيها من النبات و المعادن.
و كذلك في النار قال: ألا ترى انها تعقد شيئا كالبيض و ما أشبهه، و تحل شيئا كالنحاس و الرصاص و الذهب و الفضة و ما أشبه ذلك، و تبيض شيئا و تسود شيئا، فعلمت ان هذه الأشياء كلها حية ناطقة سميعة بصيرة فعالة.
و هذا قول ماني، حتى قال في اجسام العالم كلها و في كل جزء منها، حتى قال ذلك في الحديد و الحجارة و الحطب. و المنانية تقول في الاصوات التي تسمع عند قلي السمسم و الباذنجان و اصوات/ غليان القدور و اصوات الحطب عند التشقيق، هذا كله صراخ و ضجيج منها، لما تجره من الآلام.
و المنانية تزعم ان الفلاسفة عنها اخذت هذه المذاهب، و انما ذكرت لك بهذا المكان لتعرف مقدار عقول الزنادقة و الملحدة، و لو لا فتنة قوم من الرؤساء و الكتاب و الوزراء بهم لما ذكرناهم، و لكن هؤلاء لغافلتهم و سوء تمييزهم قد اغتروا بهم لما ذكرناهم. و صارت هذه الباطنية تدعو اليهم، و تضع الروايات الكاذبة عن اهل البيت فيهم، فوجب ان نذكرهم بما فيهم و يصدق عليهم، ليعرفهم الناس.
و باب آخر [دعوة رسول اللّه على مضر و إمساك القطر عنهم ]
و من آياته صلّى اللّه عليه و سلم، انهم لما كذبوه و آذوه في نفسه و اصحابه دعا عليهم فقال: اللهم اشدد و طأتك على مضر، و ابعث عليهم سنيّ كسنيّ يوسف صلّى اللّه عليه و سلم،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:81
(1/96)
فأمسك عنهم القطر حتى جفّ النبات و الشجر و ماتت الماشية، و حتى اشتووا القد «1» و أكلوا العلهر «2»، و تفرقوا في البلاد لشدة الحال. فوفد حاجب ابن زرّارة الى كسرى فشكا اليه ما نالهم، و سأله ان يأذن له في الرعي بالسواد و رهنه قوسه، و هي قصة معروفة نزل بها القرآن و جرى فيها الخوض، و هو قوله عز و جل: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ «3»». و الدخان الجدب «4»، ثم سمي دخانا لأن الغبار يرتفع في عام الجدب فيكون كأنه دخان، و لذلك سميت سنة الجدب غبراء لارتفاع الغبار فيها، و هذا شي ء قد كان و مضى، و لا يجوز ان يكون هذا مما لم يأت، لأنه عز و جل يقول: «يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ «5»». ثم ورد على نسق/ «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» يعني يوم بدر، و هذا كله يدل على ان الدخان قد انقضى و مضى، و انه بدعائه، لأن العذاب في الآخرة لا يجوز ان ينكشف و لا يخف. و قد قال في هذا: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ» و العود الى المعاصي في الآخرة لا يقع ايضا. و كان انكشاف العذاب عنهم بدعائه ايضا، فأتاهم الغيث و كثر، ثم عادوا الى طغيانهم.
__________________________________________________
(1) القدّ في الاصل هو القطع المستأصل او المستطيل او الشق طولا، و يطلق على جلد النحلة. انظر القاموس المحيط.
(2) في حاشية الكتاب ان العلهر هو الدم يخلط بالوبر.
(3) الدخان 15 و ما بعدها
(4) في الحاشية: الدخان، الجدب
(5) الدخان 15 و ما بعدها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:82
(1/97)
قال اصحاب عبد اللّه بن مسعود «1»: كنا عند عبد اللّه جلوسا و هو مضطجع بيننا، فأتى رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن إن قاصّا عند ابواب كندة- يعني الكوفة- يقصّ، يزعم ان آية الدخان تجي ء فتأخذ بأنفاس الكفار، و يأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام. فقال عبد اللّه:- و جلس و هو غضبان- ايها الناس اتقوا اللّه، و من علم شيئا فليقل بما يعلم، و من لا يعلم فليقل اللّه أعلم، فإن اللّه قال لنبيه صلّى اللّه عليه و سلم: (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) «2». إن النبي صلّى اللّه عليه و سلم لما رأى من الناس إدبارا قال:
اللهم سبعا كسنيّ يوسف صلى اللّه عليه، فأخذتهم سنة حصدت كل شي ء حتى اكلوا الجلود المنتنة و الجيف، و ينظر احدهم الى السماء فيرى دخانا من الجوع؛ فأثاه ابو سفيان بن حرب، فقال: يا محمد إنك حيث تأمر بالطاعة و بصلة الرحم، و إن قومك قد هلكوا فادع اللّه لهم. قال ابن مسعود:
فكانت الدخان سنين كسنيّ يوسف عليه السلام فكشف عنهم، اما ترونه قال: (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ) بعد ان قال له: فارتقب فارتقب صلّى اللّه عليه و سلم و وقع، ثم دعا فكشف. و البطشة/ الكبرى يوم بدر. و قد مضت آية الروم و آية الدخان و البطشة و اللزام.
باب
و من آياته بمكة، أنه صلّى اللّه عليه و سلم لما جمعهم و وعظهم و دعاهم الى اتباعه و مفارقة ما هم عليه من ديانات آبائهم ردّوا قوله، و مشى بعضهم الى بعض و قالوا:
__________________________________________________
(1) اسلم بن مسعود قديما و هاجر الهجرتين و شهد بدرا و المشاهد كلها، و لازم النبي صلى اللّه عليه و سلم. و حدث عنه الكثير، ثم شهد فتوح الشام، عينه عثمان على الكوفة ثم عزله، توفي سنة 32 ه. الاصابة 2: 360
(2) سورة ص 86
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:83
(
(1/98)
امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟) «1» و توعدوه بكثرتهم و عزهم و أموالهم، و وثقوا بذلك، و غرهم ما رأوا من ضعف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وحدته و توعدهم رسول اللّه و هو في تلك الحال، فأنزل اللّه (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) فكان كما أخبر و كانت العقبى له.
فتأمل الامر في ذلك تجده عظيما لأنه توعدهم بالحرب قبل الحرب و قبل الجماعة و في حال الضعف، و هو معهم و في أسرهم و في قبضتهم، فبعثهم على قتله و استئصاله، و هيّجهم على بذل المجهود و استفراغ الوسع في مكارهه، و هذا لا يقع من عاقل إلا ان يكون واثقا باللّه، ساكنا الى تنزيله و وحيه.
و اذا وفّيت النظر حقه لم تجد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في اخوانه من النبّيين و المرسلين صلوات اللّه عليهم اجمعين نظيرا في الضعف و الوحدة، و من خالف قومه تلك المخالفة و هاجهم و أسخطهم ذلك الاسخاط، و اخبرهم بما سيكون من قوته و غلبة الجبابرة من الأمم قبل ان يكون ذلك او يكون له امارة تقتضى، فصارت الامور في القوة و الظهور الى ما قال، فابتدأ ابتداء الشمس و امتدّ امتداد النهار.
باب [ما كان بمكة حين بكى الرسول عليهم قوله تعالى: اقتربت الساعة]
مما كان بمكة، حين تلا عليهم سورة «اقتربت الساعة» و قص عليهم أمة أمة من الذين كذبوا الرسل، و ما نزل بهم من النكال و البوار، الى ان انتهى الى قوله: (أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ
__________________________________________________
(1) سورة ص 6
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:84
(1/99)
جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» فكان إدلالهم بكثرتهم و كثرة من يساعدهم على عداوته و محاربته، و انه ان صارت له جماعة فجموعهم أكثر، و الأموال و السلاح و الكراع و العدة معهم لا معه، فكان ظاهر الرأي و مقتضى الحزم ان يكون لهم لا له، إلا ان يكون من اللّه عز و جل مالك القلوب و ناقض العادات لأنبيائه، فكان كما قال، و كانت العقبى له.
باب آخر [ما نزل بمكة من قوله تعالى «فاستمسك الذي اوحى اليك ...»]
مما نزل بمكة قوله: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» «2» أي شرف و نبل و جلالة، فهو عز و معجز. ثم قال: «و سوف تسألون» أي عن شكر هذه النعمة، فكان كما أخبر و كما فسر فان القرآن بانت آياته، و ظهرت بيناته، و قامت حجته، و كملت النعمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و على صحابته به، فشرفوا و عزوا بمكانه، و ذلك من الأمور البينة الواضحة؛ فانك تجد الفقهاء و العلماء قد أجلّوا القرآن و من قرأ القرآن و من عرف علوم القرآن، و لهذا قال عز و جل لقريش في ابتداء المبعث: «قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ» «3» يريد القرآن، و انه عز و نبل و شرف، و ستشرف به امم ممن/ تمسك به و دعا اليه، و قد فاتكم ذلك لإعراضكم، فكان ذلك كما أخبر.
__________________________________________________
(1) سورة ص 11
(2) الزخرف 43
(3) القمر 43
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:85
(1/100)
و في هذا المعنى قوله عز و جل «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى » «1» فتأمل ما في هذا، فإنه صلّى اللّه عليه و سلم ما عرف العزّ بالأبوين كما يعرف من رباه أبواه؛ فان أباه مات و هو حمل، و ماتت أمه و هو رضيع، فاواه اللّه اكرم إيواء، فلما كمل، آتاه النبوة و عصمه و صانه، و أخبره ان الآخرة خير له من الأولى، فإنّ آخر أمره في عاجل الدنيا في النصرة و العزّ، و ثواب الآخرة خير من الأولى؛ «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى »، أي ذاهبا عن النبوة لا تدري ما هي و لا تعرف القرآن.
و في مثل هذا المعنى قوله عز و جل: (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.
وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) فإن ذكره ارتفع بالصدق و الوفاء و قيام الحجة، فما وجد له اعداؤه كذبة و لا ذلة و لا هفوة مع حرصهم على ذلك، و ما بارت له حجة، و لا زلّت له قدم، و لا أسكته خصم، مع كثرة الخصوم له، و طلب العلل و طول المجادلة.
باب آخر [من اعلامه قوله عز و جل «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ»]
من أعلامه، و هو قوله عز و جل «قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» «2» و في هذا إخبار عن غيوب كثيرة، لأنه قال لكل واحد من الإنس و الجن:
إنك لا تأتي بمثل هذا القرآن و لا أحد يأتي بمثله في كل حال منفردين و لا مجتمعين، فما أتوا به مع حاجتهم الى ذلك و شدة حرصهم عليه، أفمن هذا تعجب؟ أم من إقدامه على الإخبار بذلك و هو لا يعرف العرب كلها و لا
__________________________________________________
(1) الضحى 6
(2) الاسراء 88
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:86
(1/101)
يحصى قبائلها/ و رجالها و نساءها، و الفصاحة و البلاغة مثبوتة في رجالها و نسائها و عبيدها و إمائها و عقلائها و مجانينها، و قد علم صلّى اللّه عليه و سلم أنهم في اللغة و البلاغة قبله، و هو منهم تعلم، و هو عاقل، فلو لا أنه قد تيقن أنهم لا يأتون بذلك لما أقدم على الإخبار بذلك، سيما و الذي ادّعاه امر عظيم و خطب جسيم، و هو النبوة و الصدق و العصمة و نفاذ امره في النفوس و الأموال و وجوب طاعته على كل احد الى ان تقوم الساعة، و حجته في ذلك كله هذا القرآن؛ و هذه من الآيات التي نزلت بمكة، و لو نزلت بالمدينة او أين نزلت لكانت الحجة بذلك قائمة لا تأثير للأماكن في ذلك و لا للأزمنة، و إنما نذكر الأماكن لأن الأعداء لما أفلسوا و افتضحوا، أخذوا في تشكيك الملوك و المترفين و من يحب الرّخص و من لم ينظر و يتأمل و يسمع من العلماء، أن هذا القول إنما قاله في آخر امره و في آخر عمره.
و اعلم أن القرآن حجة من ثلاثة أوجه: فكل سورة منه حجة من طريق الفصاحة و البلاغة، و هو حجة لما فيه من الاخبار بالغيوب، و هو حجة لما فيه من التنبيه على دلائل العقول، فإن ذلك جاء على طريقة انتقضت به العادة، و قد مرّ بك طرف منه في المصباح «1»، و لعل اكثر منه ان يرد عليك، فانما انت في ذكر الإخبار بالغيوب و ما يجري مجراها، ثم نصير الى البابين الآخرين و الى مسائل الخصوم في ذلك و الأجوبة عنه إن شاء اللّه.
من دلائله و إعلامه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو إخباره عما في الكتب المنزلة و ما تضمنته من/ خلق آدم صلى اللّه عليه، و ما كان له مع الملائكة صلوات اللّه عليهم،
__________________________________________________
(1) لعل القاضي يقصد بالمصباح اسم كتاب له، الا اننا لم نعثر لهذا الكتاب على اثر في كتب القاضي التي اطلعنا عليها و لا في الكتب التي نقلت عن القاضي او ذكرته.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:87
(1/102)
و مع ولده، و مع ابليس، و ما كان لنوح مع قومه، ثم ابراهيم، و إسحق، و يعقوب، و الاسباط، و عيسى، و أيوب، و موسى، و هرون، و غيرهم من النبيين صلوات اللّه عليهم اجمعين، و هو ما قرأ تلك الكتب و لا عرف ما فيها و لا اختلف الى اهلها و لا اختلفوا اليه، فتعلم انه ما علم ذلك إلا بوحي اللّه اليه و اطلاعه عليه، و هي اخبار كثيره لا يقع الصدق فيها إلا بالوحي من اللّه عز و جل.
فإن قيل: أين لكم انه ما قرأ الكتب، و لا كان يختلف الى اهلها و لا اختلفوا اليه و أنتم ما أدركتم زمانه، و قد قال له عدوه: «وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا «1»» و قالوا: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ «2»»؟
قلنا: ما ادّعينا ان خصومه ما ادّعوا ذلك عليه، و ليس دعواهم حجة عليه، بل لما انقطعوا و قامت حجته ادّعوا هذا عليه، و نحن و إن لم نكن في زمانه صلّى اللّه عليه و سلم، فقد علمنا انه ما قرأ هذه الكتب و لا اكتتبها و لا اختلف الى اهلها، و لا اختلفوا اليه، و لا تلقى ذلك عن احد من الناس، لأنه ما من أحد يطلب فنا من الفنون إلا و له في ذلك تارات و طبقات؛ فأول ذلك ان يكون طالبا و سائلا عمن عنده هذا الادب و هذا الفن من العلم و الادب، ثم يختلف الى اهله و يصحبهم، فيكون تارة مبتدئا، ثم متوسطا ثم ماهرا متقدما. و كل هذه الاحوال معروفة معلومة لأهل زمانه، لا يجوز ان يذهب عليهم، و لا يجوز ان يخفى و لا يكتم عن احد كائنا من كان. فلو كان قد
__________________________________________________
(1) الفرقان 5.
(2) الفرقان 4.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:88
(1/103)
تعاطاه صلّى اللّه عليه و سلم/ ثم اكتتم عليه، لكان ذلك من اكبر آياته و أعظم معجزاته، فاذا العادة قد انتقضت به، فقد اعطاه الخصم اكثر مما ادّعى، و لو جاز ان يخفى ذلك و يتستر على احد من الناس، لما استتر ذلك على محمد صلّى اللّه عليه و سلم لأن عدوّه و طالبه و المتتبع لأمره و المفتش عن احواله من قريش و الأقربين من أهله و من دهاة اليهود و النصارى و غيرهم كثير، و الطلب منهم شديد و دعواه النفسية عظيمة، و قد ادّعى عليم الفرية و الكذب و لنفسه الصدق، و حجته عليم ألا يكذب في شي ء و لا يناقض، ثم إن الذين اتبعوه لأنه نبي و صادق.
و قد عرف عدوه و وليّه منشأه و متقلبه و مثواه، و معهم سافر، و بينهم تربى و نشأ، و أزواجه إنما هنّ بنات اعدائه و أوليائه الذين اعتقدوا صدق نبوته، و هن ممن يعتقد صدقه و نبوته، فمن هذه سبيله، يتعلم الكتابة بالقلم الواحد او بالأقلام المختلفة، و يكتب و يقرأ، و يختلف الى اهل هذه اللغات و يصحبهم و يأخذ عنهم، و يتستر ذلك على اهله و نسائه و عدوه و وليه؟ هذا لا يعتقده من تأمل الامور و تدبرها. بل لو كان ذلك له صلّى اللّه عليه و سلم يوما واحدا او ساعة واحدة، لعلم به الأولون و الآخرون للاحوال التي اختص بها مما قدمنا ذكره. و لا فرق بين من ادّعى هذا عليه، او ادعى انه قد كان مرة تهوّد و أظهر اليهوديّة، و خرج فأقام مرة ببابك، و مرة ببيت المقدس، و أنه كان مرة تنصّر و لبس المسوح و أقام في البيع، و خرج مرة و أقام ببلاد الروم و صام صوم النصارى و أفام أعيادهم و كان يحلق وسط رأسه كصنع الرهبان، و أن ذلك/ كله تم له و خفي على اهله و نسائه و عدوه و وليه.
فتأمل رحمك اللّه هذه الآية فإنها عظيمة جليلة، و لو لم يكن له الا هي لكفت و أغنت. و انظر كيف يقول، قد اقتص قصة نوح عليه السلام ثم قال في آخرها: (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ. ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا
(1/104)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:89
قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا. فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ «1») و انظر كيف يقول له:
إن هذا ليس من علمك و لا من علم قومك، و العدوّ و الوليّ يسمع ذلك.
و تأمل قوله عز و جل في قصة يوسف عليه السلام (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ) «2» ثم عزاه و قال له: آياتك بيّنة و حجتك قائمة و إن عصوك، فما هاهنا شبهة في مخالفتك، و لا أمر يصدّ عن اتباعك، و لست اول من قامت حجته فلم يتبع، فقال له: «وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» «3».
و انظر كيف يدل و يستطيل و يصول على العدو و الولي بأن هذا إنما ناله بالوحي، و انه ما قرأ كتابا و لا خط، و أنه قد كان في غفلة من هذا فقال:
«وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» «4».
و قال له في أول سورة يوسف: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» «5». ثم يقول في آخر السورة: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ
__________________________________________________
(1) هود 49 و ما بعدها
(2) يوسف 102
(3) يوسف 104 و ما بعدها
(4) العنكبوت 48
(5) يوسف 3
(1/105)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:90
يُؤْمِنُونَ» «1».
و تأمل قوله عز و جل في سورة القصص: «وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ «2»» الى قوله: «وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» و انظر الى هذا الاحتجاج بأنه ما نال هذا و لا عرفه إلا بوحي من اللّه.
و انظر الى قوله في سورة طه: «وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى «3»». فتأمل هذا الاستعلاء على العدو و الولي بأن من آياته و علاماته ما في الصحف الأولى.
و كان مما طعن به ابن الراوندي في هذه الآية ان قال: إن كان معرفته بهذا دلالة على نبوته فمعرفة اليهود بذلك دلالة على نبوتهم، و هذا جهل من هذا الأحمق، لأن اليهود قد قرؤوا ذلك و كتبوه و اخذوه عن آبائهم و شاهدوه فلا يكون حجة لهم، و هذا ما قرأه و لا كتبه و لا اخذه عنهم و لا عن احد من الناس كما دلت عليه العقول، فهو حجة عليهم و على غيرهم، و لو ان إنسانا ادعى النبوة، و جعل دلالته بأن اخبرك عن كتاب معك ما قرأه و لا وقف عليه و إنما وقفت انت عليه فيما لا يقع بالاتفاق و لا بالحدس، لكان ذلك دلالة في نبوته و لم يكن دلالة لك، و كذلك إذا اخبرك عما اكلت و شربت و ادخرت، و لكن اشتبه على هذا الملحد لفرط جهله و بعده من التحصيل، و لو لا ان الاشعرية و الرافضة و النصارى و الزنادقة يرون هذا الرجل بعين المحصلين لما ذكرنا اسئلته لركاكتها، و لكنه صنف شيئا للمشبهة،
__________________________________________________
(1) يوسف 111
(2) القصص، الآيات 44 و 45 و 46
(3) طه 133
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:91
(1/106)
و شيئا/ للمجبرة، و شيئا للرافضة، فسروا به لنقصهم، و شهدوا له بالحذق لفرط غباوتهم و انهم لا يعرفون الاسلام و أهله، فمن اظهر لهم التصويب قبلوه لضعفهم و سوء احوالهم، و قبله اليهود و النصارى و حذقوه، لأنه شتم محمدا رسول اللّه و أظهر تكذيبه، و هو فقد شتم ابراهيم و اسحق و يعقوب و موسى و هارون و يحيى و عيسى و جميع النبيين صلوات اللّه عليهم اجمعين و كذبهم، و لكن اليهود و النصارى بلا حجة و لا بصيرة في مخالفتهم المسلمين، فمن عادى محمدا صلّى اللّه عليه و سلم تولوه و إن كان عدوا لأنبيائهم، كما لا بصيرة لأهل بدع الاسلام من المشبهة و المجبرة و الرافضة. و هذه السور مثل القصص و هود و يوسف من المكيات فاعلم ذلك.
باب آخر [من اعلامه اخباره عن النصرانية و مذاهبها]
من آياته و أعلامه، و هو إخباره عن النصرانية و مذاهب النصارى من هذه الطوائف الثلاث منهم، و هي الباقية القائمة الراهنة في قولهم ان المسيح عيسى ابن مريم هو اللّه، و ان اللّه ثالث ثلاثة؛ فان هذه الطوائف الثلاث من الملكية و اليعقوبية و النسطورية «1»، لا يختلفون في ان المسيح عيسى بن مريم ليس بعبد صالح و لا بنبي و لا برسول، و انه إله في الحقيقة، و اللّه في الحقيقة، و انه هو خلق السموات و الارض و الملائكة و النبيين، و انه هو الذي أرسل الرسل و أظهر على ايديهم المعجزات، و ان للعالم إلها هو آب والد لم يزل، غير مولود، و انه قديم خالق رازق، و إله هو ابن مولود، و انه ليس باب و لا والد، و انه قديم حيّ خالق رازق، و إله هو روح قدس ليس باب والد
__________________________________________________
(1) سيأتي تفصيل هذه الطوائف فيما بعد.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:92
(1/107)
و لا ابن مولود/ و انه قديم حيّ خالق رازق، و ان الذي هو ابن نزل من السماء، و تجسم من روح القدس و من مريم البتول، و صار هو ابنها إلها واحدا و مسمى واحدا و خالقا واحدا و رازقا واحدا، و حبلت به مريم و ولدته، و أخذ و صلب و ألم «1»، و مات و دفن، و قام بعد ثلاثة ايام و صعد الى السماء و جلس عن يمين ابيه. فحكى قولهم في ان المسيح هو اللّه و ان اللّه ثالث ثلاثة.
و هكذا مذهبهم في الحقيقة و لا يكادون يفصحون به، بل يدافعون عن حقيقته ما امكنهم، حتى ان ارباب المقالات و اهل العناية به من المصنفين لا يكادون يحصلون مذهبهم، و إنك لتجد النظّارين منهم و المجادلين عنهم اذا سألتهم عن قولهم في المسيح، قالوا: قولنا فيه انه روح اللّه و كلمته مثل قول المسلمين سواء، او يقول: إن اللّه واحد. و تجده صلّى اللّه عليه و سلم و قد حكى حقيقة مذهبهم، و لم يكن من المجادلين و لا من المتنبئين، و لا ممن يقرأ الكتب و يلقى اهلها، و لا من المتكلفين، و لا كانت مكة و الحجاز اذ ذاك بلاد فيها شي ء من هذا، فانتشر هذا عنه صلّى اللّه عليه و سلم، و فتش الناس عنه بعد ذلك فوجدوا الأمر كما قال و كما فصل، بعد الجهد و طول الاستقصاء في الطلب و التفتيش. و ما اكثر ما تلقى منهم فيقول: ما قلنا في المسيح انه اللّه، و لا قلنا: إن اللّه ثالث ثلاثة، و من حكى هذا عنا فقد أخطأ و كذب، ليعلم ان وقوف محمد صلّى اللّه عليه و سلم هذا انما هو من قبل اللّه عز و جل، و ان ذلك من آياته.
فإن قيل: فإن قولهم في هذا و أن اللّه ثلاثة أقانيم جوهر واحد، كقول المسلمين بسم اللّه الرحمن الرحيم، و كقولهم في اللّه أنه حيّ قادر عالم.
قيل له: هذا غلط على النصارى، و ليس قولهم في التوحيد من قول
__________________________________________________
(1) ألم الرجل يألم ألما، فهو ألم. اللسان 14: 287
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:93
(1/108)
المسلمين بسبيل، و إنما يقول هذا من يروم المغالطة و الفرار من فحش المقالة،/ لأن اللّه عند المسلمين هو الرحمن و هو الرحيم و هكذا العالم القادر، و هي ذات واحدة لها صفات كثيرة، و أسماء كثيرة. و عند النصارى، أن اللّه الوالد ليس هو الابن المولود، و لا يجوز ان يكون الأب الوالد ابنا مولودا، و لا الابن المولود أبا والدا، و كذا روح القدس، و من قال غير هذا فليس من النصارى؛ فان بليت منهم بمن هذه سبيله أعني الجحود لهذه المقالة الفاحشة فقل: إن كنت تريد أن هذا قولك و كذا تختار فما يدفعك عن هذا؟ فأما ان يكون هذا قولا للنصارى فهذا كذب و بهت، و لو أسلم نصارى عصرنا كلهم لما خرج هذا من ان يكون قولا لمن سبق و تقدم من هذه الطوائف الثلاث، فاعلم ان هذا هو مذهبهم في التثليث، قد حصل العلم به و لهم فيه ضرب أمثال، و ذلك في تسابيحهم و أقاويلهم في عباداتهم، ألا ترى انهم يقولون في تسبيحة القربان في الساعة التي يكونون فيها خاضعين يتوقعون بزعمهم نزول روح القدس لقبول فاتور القربان: ليتم علينا و عليكم نعمة الرب يسوع المسيح بن مريم و محبة اللّه الآب و مشاركة روح القدس أبدا الى دهر الداهرين.
و يقولون في تسبيحتهم التي يسمونها تسبيحة الإيمان التي وضعت بنيقية»
من بلاد الروم، و هذا كان بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة، حين جمعهم قسطنطانوس ابن فيلاطس «2» ملك الروم، الذي امه هيلانة الحرّانية
__________________________________________________
(1) عقد مجمع نيقية سنة 325 م بدعوة من الامبراطور قسطنطين، و كان يضم 318 اسقفا، ابرز اعضائه آريوس الكاهن الاسكندري الذي تبنى رفض تساوي عناصر الثالوث النصراني، و قال بأن جوهر الابن غير مساو لجوهر الآب و انه مخلوق.
(
(1/109)
2) هو قسطنطين الكبير، ابن قسطنطين خلور، و والدته هيلانة و كانا ميالين للمسيحية. بقي وثنيا حتى سنة 308 ثم بدأ يفكر في جعل المسيحية دينا للدولة و خاصة بعد رؤيا الصليب-
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:94
الفندقية، جمعهم ليعملوا تقريرا في ايمانهم يحملون الناس عليه و يأخذونهم به فمن أبى قتلوه، و اجتمع عنده نحو ألفي رجل، فقرروا تقريرا ثم رفضوه، ثم اجتمع ثلثمائة رجل و ثمانية عشر رجلا و هم يسمونهم الآباء، فقرروا هذا التقرير، و هم يسمونه سنهودس/، فكان تقريرهم لهذه التسية و هي أصل الأصول عند جميع هذه الطوائف لا يتم لأحد منهم عندهم إيمان إلا بها و هي:
«نؤمن باللّه الأب الواحد، خالق ما يرى و ما لا يرى، و بالرب الواحد يسوع المسيح بن اللّه بكر أبيه و ليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده اتقنت العوالم و خلق كل شي ء، الذي من أجلنا معشر الناس و من أجل خلاصنا نزل من السماء، و تجسد من روح القدس و من مريم البتول، و صار انسانا، و حبلت به مريم البتول و ولدته، و أخذ و صلب و قتل امام فيلاطس الرومي، و مات و دفن و قام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، و صعد الى السماء و جلس عن يمين ابيه، و هو مستعد للمجي ء تارة اخرى للقضاء بين الأموات و الأحياء.
و نؤمن بالرب الواحد روح القدس، روح الحق الذي يخرج من ابيه، روح محييه، و بمعمودية واحدة لغفران الخطايا، و بجماعة واحدة قديسيّة سليحيّة «1» جاثلقية، و بقيام أبداننا، و بالحياة الدائمة الى أبد الآبدين».
فتأمل هذا الشرح و هذا التفصيل و الكشف في التثليث و التشبيه، و كيف
__________________________________________________
- العجيب- في زعمه- سنة 312 قبل المعركة مع مكسنتي. و قد اصدر منشورا بحرية التحول للديانة المسيحية سنة 313 م. انظر تاريخ الكنيسة المسيحية، الكسندروس مطران حمص ص 220 و ما بعدها. و لقبت هيلانة بالفندقية لأنها كانت تعمل في فندق بحران.
(
(1/110)
1) سليحية: نسبة لكتاب السليح لبولص، و هو يتألف من 24 رسالة. انظر الفهرست لابن النديم 41. و قد ورد في الكتاب احيانا باسم السليح و احيانا باسم السليحين.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:95
يعتقدون في اللّه حقيقة المدبرين المصنوعين من النزول و الصعود و الولادة و غير ذلك.
فان قالوا: فانا لا نقول انها ثلاثة آلهة، فكيف يحكون عنا التثليث؟
قلنا لهم: انكم قد أعطيتمونا معنى التثليث و أشعتموه و استوفيتم حقائقه، و منعتم/ بعض العبارة عنه، ألا ترون انكم تقولون إله هو أب والد حيّ قادر قديم عالم خالق رازق، و إله هو ابن مولود كلمة حي قديم خالق رازق ليس باب و لا والد و لا يجوز ان يكون والدا و لا أبا، و إله روح قدس حي عالم قديم خالق رازق. ثم قلتم هي ثلاثة أقانيم، فقلتم في كل واحد منها انه إله و رب و قديم، و امتنعتم من الاقرار بالجملة و قد أعطيتم التفصيل، و ما مثال ذلك إلا كمن قال: عبد اللّه العربي «1» رجل و انسان و جسم و شخص، و خالد الفارسي «2» رجل و انسان و جسم و شخص، و زيد الرومي رجل و انسان و جسم و شخص، قلنا: فهولاء ثلاثة رجال، و ثلاثة أناس، و ثلاثة اشخاص، و ثلاثة اجسام. فقلتم: لا، بل هم رجل واحد. قلنا: لا يؤثر امتناعكم من اطلاق هذه العبارة في شي ء قد أشيعت حقيقته. و فيهم من يمتنع من ان يقول في كل واحد من هذه الثلاثة انه غير صاحبه، ثم يقولون:
ما شبهنا و لا مثلنا، فكانوا كالمشبهة الذين يقولون: إله يصعد و ينزل و يقعد على العرش، ثم يقولون: ليس كمثله شي ء.
و الذي يمنع النصارى من اطلاق القول بأنها ثلاثة آلهة متغايرة مختلفة و ان كانوا قد اعطوا معنى ذلك، إلا لأنهم صدقوا بكتاب اللّه عز و جل التي صدق
__________________________________________________
(1)- بحط مخالف، و فوق السطر.
(2)- بحط مخالف، و فوق السطر.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:96
(1/111)
بها المسيح عليه السلام، و هي مملوءة بتوحيد اللّه و تفرده بالقدم، و انه لا يشبه الأشياء، و انما هذه البدع ابتدعوها بعد المسيح، فأرادوا حمل بدعتهم في الشرك على ما في كتب اللّه فلم يتم ذلك و حصلوا على محض الشرك و التشبيه/.
فإن قيل: قد لعمري صدقتم فيما حكيتم من التثليث، فإن الملكية تقول فيه: إنه إله حق من إله حق من جوهر ابيه، و ان القتل و الصلب و الولادة وقعت عليه بكماله؛ و اليعقوبية تقول: حبلت مريم بالإله، و ولدت الإله، و قتل الإله، و مات الإله، فما عندكم في النسطورية؟ فإنهم قد قالوا في المسيح انه مركب من نوعين و أقنومين «1» و طبعين، من إله و من انسان، و ان الولادة و القتل إنما وقعتا بالانسان و هو الذي يسمونه الناسوت.
قيل له: لو كانت النسطورية تقول في المسيح كما يقول المسلمون لما قدح ذلك في الخبر و لا اثر في العلم لأن التثليث قد وقع، كيف و النسطورية ترجع الى القول في المسيح الى قول اخوانهم من الملكية و اليعقوبية، فيقال للنسطورية قد قلتم إنه إله حق من إله حق من جوهر ابيه، و قلتم إنه إله تام من إله تام، ثم قلتم إن لاهوته مولود من قبل الأب و ناسوته مولود من قبل الأم، و الولادة قد احاطت به من كل وجه و من كل جهة؛ و ايضا فإنكم تمدحون الإله بالولادة كما يمدحه المسلمون بتنزيهه عن الولادة، و تقولون لو لم يكن والدا لكان عقيما، و كل حى لا يكون والدا فإنما ذاك لنقص و آفة و عاهة.
فلا ينبغي ان تغالطوا عن حقيقة قولكم.
ثم يقال لهم: اخبرونا عن مريم هل حبلت بالمسيح في الحقيقة، و ولدت
__________________________________________________
(1) في الاصل: أقنيمين
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:97
(1/112)
المسيح في الحقيقة، و ربت المسيح و اطعمت المسيح في الحقيقة، و هي/ ام المسيح في الحقيقة؟ فإن قالوا: ولدت ناسوت المسيح او حبلت ناسوت المسيح قلنا: لم نسألكم عن هذا، فإن ناسوت المسيح عندكم ليس هو المسيح و إنما المسيح هو اللاهوت، و لاهوت المسيح عندكم ليس هو المسيح إنما هما مجموعهما المسيح، اجيبونا، فان كانت مريم قد ولدت المسيح في الحقيقة و حبلت بالمسيح في الحقيقة، فقد حبلت بالإله و الانسان و ولدت الإله و الانسان، و هي ام الإله و الانسان، و قد قتل الإله و الانسان، و ألم الإله و الانسان، و مات الاله و الانسان؛ فقد تبين ان قولكم و قول الملكية و اليعقوبية في ذلك سواء. و إن قالوا ما ولدت المسيح في الحقيقة، و لا هي ام المسيح في الحقيقة قلنا لهم: فليس هذا قول احد من النصارى و لا قول المسلمين ايضا بل هو قول اليهود، فانهم قالوا: إن مريم ما حبلت به.
و إن قالوا: نقول هي أم المسيح على المجاز، و مات المسيح في المجاز، قلنا لهم: لم نسألكم عن المجاز، إنما سألنا عن الحقيقة، فانه على هذا التقدير ربما ايضا يكون حمل مريم من غير ذكر مجاز، و إحياؤه المؤتى مجاز، و جميع ما يدعونه له مجاز، و هذا لا سبيل اليه، لأنهم إن قسموا أفعاله من من لاهوته و ناسوته وجب ذلك كله، لأنه اذا احيا الموتى و أظهر الآيات فانما ذلك فعل اللاهوت و اللاهوت وحده ليس بمسيح، و اللاهوت ما رآه الناس فلا يجوز ان يقال رأى المسيح، و إذا أكل و شرب و نام و استيقظ فذلك فعل الناسوت و الناسوت وحده ليس بالمسيح، فقد وجب/ جميع ما قدمناه
و هم لا يصيرون اليه و لا يلتزمونه، و من صار اليه خرج عن النصرانية و عن جميع اقوال المثلاثة. و قد علمت ان حقيقة قولهم ما في تسبيحة ايمانهم و هي اصل الاصول، و ليس لأحد من طوائفهم عنها و لا عن شي ء منها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:98
(1/113)
معدل، و إنما وضعت حين صار الملك الى هذا القول، و حين خالفهم آريوس «1» الافصاح بالمذهب و لرفع التأويل و الأوهام في المقالة.
و عندهذه الطوائف الثلاثة، ان المسيح صار مسيحيا و إلها خالقا رازقا معبودا حين بشّر الملك امه و ساعة الحمل به، فاتحد به الإله فصار جميعا مذ ذاك مسيحا واحدا و إلها واحدا، و أن الاتحاد ما انتفض عندهم و لا بطل، و لا خرج عن المسيحية و الإلاهية لا في حال الحبل و لا في حال الولادة و لا في حال النوم و لا في حال الأكل و لا في حال البول و التغوّط و لا في حال المرض و لا في حال القتل و لا في حال الموت، و أنه في جميع هذه الأحوال مسيح و إله و رب معبود و خالق و رازق و مدبّر.
و يقولون: هو احيا نفسه بعد الموت لأنه محال عندهم ان يحيي الموتى غير المسيح، و قد علمت تسبيحة الايمان و تفصيلها فارجع اليه، ففيه أتم كفاية لتعلم مغالطة النسطورية و جميع من يجادل عن النصرانية. و قد قال فولوص «2»- و هم عندهم فوق الانبياء و قد ذكر صنيع اليهود بالمسيح-:
__________________________________________________
(1) في الاصل ايريوس، و هو آريوس الكاهن الاسكندري، و قد كان احد الذين وجدوا ان في القول بأن أقانيم الثالوث المقدس لها جوهر إلهي واحد مساو اي: ثلاثة آلهة إله واحد، فيه تناقض كبير، فنادى بأن اللّه الآب وحده هو الإله الحقيقي بالمعنى الخاص الصارم، و ابن اللّه- بزعم النصارى- و الروح القدس كائنات إلهية بالدرجة الثانية، لها طبيعة تختلف عن طبيعة الآب و مخلوقة. و قد عقدت عدة مجامع كنسية فازت في بعضها آراء آريوس و خذلت في بعضها الآخر. المرجع السابق 220 و ما بعدها.
(2) يقصد بولص الذي يلقبه النصارى بالرسول، فقد كان من عادة العرب ان يقلبوا الباء فاء حين الترجمة عن اللغة اليونانية، فقالوا: افلاطون و فيلاطس. و لبولص مجموعة من الرسائل ملحقة بالعهد الجديد تحت اسم اعمال الرسل.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:99
(1/114)
لو علموا لما صلبوا رب المجد الذي له الحمد و البركات ابد الدهر. و قال/ ايضا:
الذي ليس بمعاين عوين، و الذي ليس بمحسوس حس، و العالي على الزمان أبتدى ء، و ابن اللّه صار ابن الانسان، و ألم الذي لم يكن يألم و والده اللّه، فتأمل ما في هذا فانه يفصح بأن اللّه لم يكن يعاين فصار يعاين، و لم يكن يحسّ فصار يحسّ و يدرك، و أنه كان قبل الزمان فابتدى ء و صار في الزمان، و ألم الذي لم يكن يألم، و ابن اللّه صار ابن الانسان، و صار ابن الانسان ابن اللّه و والده اللّه، و هذه صفات المسيح الذي هو عندهم اللّه و ابن اللّه. قالوا:
و قد قال الآباء- و قد ذكروا ما صنع فيلاطس الرومي و اليهود-: انهم لما صلبوا رب المجد عرفوه.
قالت النصارى هذه كلها اقاويلنا و فيها حقيقة مذهبنا.
قالوا و قد قال الفاضل ياوانس: المساوى للأب جاء الى العالم في الرحم البتول، و كان قبل ان يكون آباؤه ابراهيم و إسرائيل و داود، و هو ابن اللّه قبل ان يدعى ابن ابراهيم و داود. و قالوا: فهذه حقيقة ديننا، فان جاء فيه ان اللّه انسان او من جنس الناس، او أنه يتقلب في الصور و الهيئات و ينتقل و يتشكل لم ننفر من ذلك، و لم ندع ما اسسه الأباء و القدوة لما يوجب الجدل و يلزم في النظر. فتأمل هذا، و قولهم: المساوي للآب جاء الى العالم في الرحم البتول و كان قبل ان يكون آباؤه ابراهيم و إسرائيل و داود و هو ابن اللّه قبل ان يدعي ابن ابراهيم و داود، لتعلم ان اعتقادهم و قولهم ان هذا الذي ولدته مريم هو ابن اللّه و هو اللّه، و أنه مثل الأب الذي في/ السماء على العرش عندهم، و أن هذا هو الذي لم يزل، و أن الذي حدث و تجدد ولادة مريم له، و أن ابراهيم و إسرائيل و داود انما صاروا آباءه من قبل امه لأنها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:100
من بني اسرائيل، و أنه كان ابن اللّه قبل ان يكون ابن ابراهيم و إسرائيل و داود.
(1/115)
قالوا: و قد قال علماؤنا و من هو القدرة عند جميع طوائفنا: يسوع في البدء لم يزل كلمة، و الكلمة لم تزل لدى اللّه، و اللّه هو الكلمة، و يسوع هو عيسى بالسريانية «1». قالوا: فذاك الذي ولدته مريم و عاينه الناس و كان بينهم هو اللّه و ابن اللّه و هو كلمة اللّه.
قالوا: و قد قال يوحنا السليح «2»: إنا نبشركم بالذي لم يزل من قبل، و أنا رأيناه بأعيننا، و حسسناه بأيدينا. قالوا: فما فيمن هو الحجة لجماعتنا الا من يكشف الامر كشفا لا يتعرض لتأويله الا من يكابر عقله.
فعندهم ان القديم الأزلي خالق السماوات و الأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم، و لمسوه بأيديهم. قالوا و قد قال أرميا النبي و قد ذكر المسيح و البشارة به: هذا الهنا و لا نعوذ معه غيره، و انه في آخر الزمان تراءى على الأرض و تردد مع الناس، فتأمل هذا الكشف.
قالوا: و قد قال بطرس «3» و هو بكر ايماننا و اصل بيعتنا لما سئل عن ابن اللّه لا عن ابن الناس، و عن كلمة اللّه لا عن كلمة الناس فقال: هو الذي كان بين الناس و تردد معهم، و أبرأ الذين نكأهم الشرير.
قالوا: و قد خاطب الناس/ من بطن أمه مريم، فقال للأعمى: أنت
__________________________________________________
(1) يثبت القاضي كلمة يسوع بالالف قبلها و احيانا دونها، و قد اثبتناها بحذف الالف.
(2) احد الذين يطلق عليهم النصارى اسم الرسل، و له مجموعة من الرسائل ملحقة بالعهد الجديد، مات سنة 44 م. تاريخ الكنيسة 34.
(3) احد الذين يطلق عليهم النصارى اسم الرسل، و له مجموعة من الرسائل ملحقة بالعهد الجديد، مات سنة 66 او 67. تاريخ الكنيسة 33.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:101
مؤمن بابن اللّه، قال الاعمى: و من هو حتى أؤمن به؟ قال: قد رأيته و هو المخاطب لك، قال: آمنت يا سيدي، و خر ساجدا. قالوا: فما الذي بقي من الافصاح بأن الذي حبلت به مريم و كان في بطنها هو اللّه و ابن اللّه و كلمة اللّه.
(1/116)
قالوا: و قد قالت ام يحيى بن زكريا- و قد دخلت على مريم و هي حبلى بالمسيح، و ام يحيى حبلى به- ان هذا الذي في بطني قد سجد للذي في بطنك. قالوا: فما الذي يبقى في البيان في ان الإله المعبود الذي هو اللّه و ابن اللّه و كلمة اللّه هو الذي حبلت به مريم و ولدته.
قالوا: و لما عمّده يوحنا في الأردن تفتحت ابواب السماء و نادى الأب:
هذا ابني و حبيبي الذي سررت به نفسي. و نزل روح القدس في صورة حمامة و رفرفت على رأس المسيح، قالوا: فالمتعمد هو اللّه الابن، و المنادي هو الأب، و النازل هو روح القدس، و انظر كيف يفردون كل واحد منهم بصنع غير صنع صاحبه.
قالوا: و في البشارة به حين قال جبريل لمريم: ها انت تحبلين و تلدين، قالت له: كيف يكون هذا و ما مسني رجل؟ فقال لها: ربنا معك، و الهنا معك، و أيدي العلي تحلّ عليك، و روح القدس تأتيك، و الذي يولد منك قدوس و ابن اللّه يدعى، قالوا: فقد خبّرها بأنها تحبل بابن اللّه لا بابن الناس، و انها تلد ابن اللّه لا ابن الناس، و ان اللّه معها. قالوا و لا نريد بقولنا معها و مع ابنها بمعنى التأييد و النصر و المعونه كما يكون اللّه/ مع الأنبياء و الصالحين و المؤمنين، لأن المسيح عند طوائفنا الثلاث ليس بنبي و لا بعبد صالح، بل هو رب الأنبياء و خالقهم و باعثهم و مرسلهم و ناصرهم و مؤيدهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:102
(1/117)
و رب الملائكة؛ و لا هو معها و مع ابنها بمعنى الخلق و التدبير و التقدير كما يكون مع سائر إناث الحيوان من الناس و الكلاب و الحمير و الخنازير بالخلق و الصنع و التقدير، و لكنه معها لحبلها به و لاحتواء بطنها عليه، فلهذا فارقت جميع اناث الحيوان، و فارق ابنها جميع النبيين، فصار اللّه و ابن اللّه الذي نزل من السماء و حبلت به مريم و ولدته و المولود منها الها واحدا و مسيحا واحدا و ربا واحدا و خالقا واحدا مذ وقت بشارة جبريل عليه السلام لها، لا يقع بينهما فرق، و لا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، و لا في الحبل، و لا في الولادة، و لا في حال نوم، و لا مرض، و لا صلب، و لا موت، و لا دفن، بل هو متحد به في حال الحبل، فهو على تلك «1» الحال: مسيح واحد، و خالق واحد و اله واحد، و في حال الولادة كذلك، و في حال الموت و الصلب كذلك.
قالوا: فمنا من يطلق في لفظه و عبارته حقيقة هذا المعنى، فيقول: مريم حبلت بالإله، و ولدت الإله، و مات الاله؛ و منا من يمنع هذه العبارة و يعطي معناها و حقيقتها، فيقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، و ولدت المسيح في الحقيقة، و هي ام المسيح في الحقيقة، و المسيح إله في الحقيقة، و رب في الحقيقة، و ابن اللّه في الحقيقة، و كلمة اللّه في الحقيقة، لا ابن للّه في الحقيقة إلا هو، و لا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو، و لا أم للمسيح إلا مريم. قالوا: فؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال/ فيها: إنها حبلت بالإله، و ولدت الإله، و قتل الاله و ألم الاله، و مات الاله، و انما يمنعون اللفظ و العبارة فقط.
__________________________________________________
(1) في الاصل: فهو تلك
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:103
(1/118)
قالوا: و انما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا لئلا يتوهم علينا إذا قلنا: حبلت بالاله، و ولدت الاله، و مات الاله، و ألم الاله، إن هذا كله حلّ و نزل بالاله الذي هو أب، و لكنا نقول: حلّ هذا كله و نزل هذا كله بالمسيح، و المسيح عندنا و عند طوائفنا إله تام، و إله حق من إله حق، من جوهر أبيه.
قالوا: لا نريد بأنه معنا على معنى النصر و التأييد و لا معنى الخلق و التدبير، لأنه مع جميع الانبياء و الصالحين كذلك، و مع جميع المخلوقات بالخلق و التدبير، و كأن يكون قولنا و قول المسلمين و اليهود واحدا في التوحيد.
قالوا: و الآباء و القدوة منا يقولون: ابن اللّه يدعى ابن الانسان، و ابن الانسان يدعى ابن اللّه، و آدم الجديد هو الاله الألم الذي قتل و مات.
قالوا: و عندنا ان المسيح قال: ابن البشر هو رب السبت «1». و قال ايضا: أنا بأبي و أبي بي، و لا يعرف احد الات إلا الابن، و الابن لا يعرفه إلا الاب، و انك إله بي و أنا بك «2». و قال: انا في ابي، و ابي فيّ. و قال:
انا قبل ابراهيم، و قد رأيت ابراهيم و ما رآني، فقال له اليهود: كذبت، كيف تكون قبل ابراهيم و أنت من ابناء ثلاثين سنة، فقال: انا عجنت طينة آدم و بحضرتي خلق، و انا اجي ء و اذهب و اذهب و اجي ء «3». قالوا: و هذا القول عندنا للمسيح في الحقيقة، و لو كان قولا للإله الذي ليس هو المسيح
__________________________________________________
(1) «ابن الانسان هو رب السبت». انظر انجيل لوقا الاصحاح السادس.
(2) الاصحاح العاشر من انجيل لوقا
(3) انجيل يوحنا الاصحاح 8
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:104
لما كان له معنى. و عندنا ان المسيح بن آدم و ربه و خالقه و رازقه و ابن/ ابراهيم و ربه و خالقه و رازقه، و ابن اسرائيل و ربه و خالقه و رازقه، و ابن مريم و ربها و خالقها و رازقها.
(1/119)
قالوا: و قد اعتل لنا من يناظر عنا بأن اللّه والد في الحقيقة و ان تولد ابنه منه كتولد ضياء الشمس من الشمس و كتولد الكلمة من العقل، و نحن فما قلنا: إنه والد و له ولد في الحقيقة بهذا الاعتلال، بل لما قدمنا من قول الآباء و القدوة. و على ان هؤلاء قروا بهذا القول من التشبيه للّه بالمتناسلين المتناكحين من المخلوقين، فشبهوه بالموات و الجماد، فوقعوا في شر ما هربوا منه و دفعوا الضرورة، لأن مريم قد ولدت المسيح إله الكل ولادة صحيحة في الحقيقة معقولة، ولادة الاحياء الناطقين بغير تناكح و لا تناسل، و من قال إن مريم ما حبلت بالمسيح في الحقيقة، و لا ولدت المسيح في الحقيقة، و لا هي ام المسيح في الحقيقة، فليس من طوائف النصارى. و كذا من قال ليس المسيح إلها في الحقيقة، و لا ربا للخلائق في الحقيقة، فليس من الملكية و لا من اليعقوبية و لا من النسطورية.
قالوا: و قد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمّرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم و خلقته، و هي اليد التي شبرت السماء، و هي اليد التي كتبت التوراة لموسى.
و قالوا: و قد وصفوا صنيع اليهود بالمسيح: إنهم لطموا الإله و ضربوه على رأسه، و عجب لإله يضرب على رأسه. و تعالوا فانظروا الى الإله يلطم و يضرب على/ رأسه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:105
قالوا: و في بشارة الأنبياء، ان الاله يجي ء، و تحبل/ به امرأة عذراء و تلده، و يؤخذ و يصلب و يقتل.
قالوا و لنا سنهودس قد اجتمع عليه نحو سبعمائة من الآباء و القدوة، فيه ان مريم حبلت بالاله و ولدته و ارضعته و سقته و اطعمته، و هذا دون ما في تسبيحة الايمان من الولادة و القتل و الألم و الصلب و الموت و الدفن.
قالوا: و أقاويلنا كلها من اولها الى آخرها التي ذكرناها لكم من اصل ديننا و حقيقة مفصحة بذلك، فهذه حقيقة ديننا و ايماننا و لنا من هذا المعنى من السرياني و العربي اكثر مما ذكرناه.
(1/120)
فهذا يرحمك اللّه كما ترى و تسمع، فلو لا ان رأينا قوما عقلاء يقولون هذا، و سمعناه منهم حين فتشنا عمّا قاله اللّه و حكاه عنهم فنطقوا به بعد الجهد و اخرجوه من غوامض اسرارهم، لما صدق الناس ان في الدنيا من قال هذا او نطق به.
و إذا تأمل العاقل الأمور و فتش و طال بحثه و جهد، رأى الجهل في الأمم و الاقاويل المشتملة على الحمق كانت في الامم قبل الاسلام.
فالفلاسفة تدعى في هذه الاجسام الجماد و الموات من الشمس و القمر و الكواكب و السماء أنها حية عاقلة مميزة تخلق و ترزق و كانوا لها عابدين، و النصارى كما قد علمت، و المجوس «1» عندها ان الاله غالبه الشيطان و نزل الى الارض «2»، و كانت الحرب بينهما ألف سنة، و ان الشيطان غلبه و حاصره
__________________________________________________
(1) المجوس احدى فرق الثنوية الفارسية و هي: المانوية و المزدكية و المرقيونية و الماهانية و المجوس و القلاصية. و هي تتفق في امور و تختلف في امور، و اهم ما تتفق فيه القول بأصلين للوجود هما: الخير و الشر او النور و الظلمة.
(2) كتب في الحاشية: في اعتقاد المجوس.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:106
في جنته مع ملائكته و ان الملائكة عند ذلك سعوا بينهما في الصلح و وقعت المهادنة بينهما/ على شرائط معروفة مذكورة عند من حكى المقالات، و شرحها يطول «1»، ثم رجع عندهم بملائكته الى سمائه غير انهم ما قالوا قتل كما قالت النصارى، و لا بلغوا الى هذا و ان كانوا قد فحشوا في القول.
و قد كانت القبط تقول بإلاهية فرعون صاحب مصر، و المنانية من الزنادقة فقولها في نحو من قول المجوس، و أقاويل الهند في البدّ معروفة.
(1/121)
فلما جاء الاسلام بتلك الانوار، و بأن من كان جسما و محتاجا لا يكون إلها و لا يفعل جسما كما قدمت لك في «المصباح»، و هو ايضا مذكور في غيره. و كان من رحمه اللّه بخلقه ان سلطان الاسلام ظهر على الاديان كلها، و كان حملة السلاح هم الأتقياء و الأولياء العلماء الفقهاء، فاستحيا اهل البدع منهم فانقبضوا و كانت لهم هيبة التقوى. فمات اولئك رضي اللّه عنهم و طال العهد، و صار بعدهم ملوك جبابرة غير انهم كانوا حملة الاسلام.
ثم لم يزل الأمر يتناقص، فصارت السيوف كلها على الاسلام، و مات أهله، و صار في الزندقة و الإلحاد السيف و الملك فعادوا الى ما كانوا عليه من الجاهلية.
أ لا ترى ان من بالإحساء من القرامطة و الباطنية «2» لما غلبوا شتموا الانبياء، و عطلوا الشرائع، و قتلوا الحجاج و المسلمين حتى أفنوهم، و استنجوا بالمصاحف
__________________________________________________
(1) كتب في الحاشية: في اعتقاد القبط.
(2) كان ابتداء ظهور القرامطة في الربع الرابع من القرن الثالث الهجري، و كانت دعوة سرية تسترت بستار التشيع و نكب العالم الاسلامي ببلائها مدة طويلة، و كان من اهم زعمائها زكيرة الاصفهاني او زكرويه بن مهرويه الذي قتل سنة 294. انظر تاريخ الطبري.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:107
و التوراة و الإنجيل، و جاؤوا بزكيره الاصفهاني المجوسي «1» و قالوا هذا هو الإله في الحقيقة و عبدوه، و كان لهم معه ما هو مذكور معروف.
و مثل هذا/ صنع ابو القاسم الحسن بن حوشب بن زاذان الكوفي النجار «2» حين ظهر بجبال لاعة من ارض اليمن، و كذا صنع من كان منهم بالجند «3» و عدن من ارض اليمن، و سبوا العلويات، و كل هؤلاء كانوا في اول امرهم يخدعون الناس بأنهم شيعة، و أن المهدي ارسلهم.
(1/122)
و كذا صنع من كان منهم برقّاده و القيروان من ارض المغرب، الى ان قام ابو يزيد مخلد بن كدّاد «4» بمن معه و حاربهم خمس سنين و ضيق عليهم كما صنع الأصفر بأهل الإحساء «5»، فلما انكشف أمر أبي يزيد عمن بالمغرب كفوا عن المكاشفة للعامة بشتم الأنبياء و تعطيل الشرائع، و صاروا يخدعون الناس سرا و ينقلونهم عن الاسلام بالحيل و الأيمان من حيث لا يشعرون شيئا شيئا، و انبثوا و انبسطوا، و بثوا ذلك في ممالكهم، و يقصدون بدعوتهم الديلم و الأعراب و كل من يقل بحثه و نظره و له رغبة في الدنيا و شغل بها.
__________________________________________________
(1) كتب في الحاشية: «جاء القرامطة بزكيرة الاصفهاني المجوسي و قالوا: هذا هو الإله».
(2) الحسن بن زاذان المتوفي سنة 302 ه من اتباع ميمون القداح ارسله الى اليمن فخرج فيها و استولى على قسم كبير منها.
(3) موضع في اليمن، و رسمها في الاصل: الجبد.
(4) ورد هذا الاسم في تاريخ ابن خالدون غير مرة «كراد»، و في عقد الجمان «كندار» و في العبر للذهبي «كيداد»، و لعل الأصح ما اثبتناه هنا «كدّاد». و هو من الخوارج الصفوية. انظر ابن خالدون 4: 140، و عقد الجمان حوادث سنة 334، و العبر للذهبي 2: 240، 242، 257.
(5) يقصد ابا الفضل بن زكريا المجوسي الاصبهاني، كان قدم من اصبهان و موه على القرامطة ابي سعيد الجنابي و اخيه ابي طاهر و اصحابهما فاتخذوه كاله. و سبب تلقيبه بذلك انه كان يلبس عمامة صفراء و ثوبا اصفر، قتله القرامطة بعد ذلك في أوائل الربع الثاني من القرن الرابع الهجري. انظر تجارب الأمم لمسكويه 52- 55 و ما بعدها.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:108
(1/123)
ثم يقطعونهم عن البحث و النظر بالعهود و الايمان المغلظة، و من دخل بلدانهم و شاهد عساكرهم و تأمل سيرتهم يعرف ذلك من قصدهم، بل من سأل و استبحث يعلم ذلك و إن لم يصر اليهم. و قد صاروا حرما للملحدة و الزنادقة و الفلاسفة و الدهرية و جميع اعداء الاسلام، فمن هاجر اليهم أمن في إلحاده و قال ما شاء كيف شاء، فيا لها مصيبة بذهاب الاسلام و موت اهله و قلة العارفين به و بحقوقه، فان من بقي ممن يظن انه من اهله فمنهم من يشبّه اللّه بخلقه، و منهم/ من يجوّره في حكمه و إلى غير ذلك.
و باب آخر [ما اشار إليه من اختلاف النصارى حول المسيح عليه السلام ]
و هو ان هذه الطوائف الثلاث من النصارى أشد عالم اللّه تعظيما للمسيح و تحققا به و حبا له، يدّعون انهم شيعته و اتباعه، و انهم اطوع الناس له، و ان ما هم عليه عنه اخذوه، و به اقتدوا فيه، و على وصاياه عملوا. و قال صلّى اللّه عليه و سلم: ان المسيح عبد اللّه و رسوله أتى الناس بما جاءهم الأنبياء قبله، من آدم و نوح و ابراهيم و اسماعيل و اسحق و يعقوب و الأسباط و موسى و هرون و غيرهم من الأنبياء صلوات اللّه عليهم اجمعين، من الدعاء الى عبادة اللّه و توحيده وحده، و الاخلاص له وحده بالعبادة و القدم و الربوبية؛ و ان النصارى قد كذبوا عليه، و بدّلوا دينه، و عطلوا وصاياه، و انهم ضاهوا بقولهم قول الذين كفروا من قبل، الذين اتخذوا المخلوقات آلهة و أربابا و دعوها و تضرعوا لها، كالفلاسفة و الصابئين من اهل حرّان «1»، فانهم
__________________________________________________
(1) سمى صابئة حران بذلك لأنهم كانوا يسكنون مدينة حران من ارض الجزيرة، و قد عرفوا بعبادة الاجرام السماوية السبعة، و هذه العبادة بقية من الديانة الاشورية و البابلية.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:109
(1/124)
اعتقدوا في الشمس و القمر و الكواكب و السماء ما قدمنا ذكره، كالقبط الذين قالوا في فرعون ما ذكرنا، و كغيرهم؛ فقد قال بربوبية المخلوقات و المخلوقين خلق كثير، و شرح احوالهم يطول؛ و ان المسيح صلّى اللّه عليه و سلم عدوّ لهؤلاء النصارى و بري ء منهم فوجد الناس الأمر كما قال، و على ما شرح و فصّل، فكم في هذا من عجب، انه رجل عربي أمي يخبر عن رجل قد سبقه بنحو الف سنة، و لسانه غير لسانه،/ و بلده غير بلده، و قومه غير قومه، يخبر عنه بأمور كان عليها.
و قد وجد صلّى اللّه عليه و سلم أمما ممن كانوا قبله يدعون التحقيق بهذا الرجل و هم على منهاجه و طرائقه، فلو كان منقولا لتهيب الاقدام على ذلك، و كان لا يأمن ان يكون القوم الذين سبقوه في الزمان و تحققوا بهذا الرجل قد صدقوا عليه، و انهم أتباعه كما ادعوا فلا يأمن ان يظهر كذبه، سيما و قد ادعى الصدق و النبوة و الرسالة على اهل الارض كلهم و عقله الذي لا يدفع. فانظر كيف يتعرض لعظيمات الأمور، و جسيمات الخطوب.
و حكى عن ربه عز و جل ان النصارى ليسوا على شي ء مما «1» جاء به احد من الانبياء، فقال: «وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» «2» فأقدم على أشياء قد تدبر بها العقلاء و جبابرة الملوك قبله و فيه فضائحهم و هتكهم، فيؤخذ الامر كما قال، فلو لم يكن إلا هذا من أعلامه لكفى و شفى و أغنى.
__________________________________________________
(1) في الاصل: ما
(2) الزخرف 45
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:110
فإن قيل لكم و من اعطاكم ان دين المسيح خلاف دين النصارى، و أنهم قد خالفوه؟
(1/125)
قلنا: من تأمل الامر وجدهم اشد الناس خلافا عليه و اطّراحا لوصاياه في الاصول و الفروع جميعا. فأما في الاصول فقد آمنوا و عبدوا ثلاثة آلهة و ثلاثة أرباب كما قدمنا و تبيّنا، و لا يختلفون في ان المسيح عيسى بن مريم ليس بنبيّ و لا عبد صالح، و أنه إله حق من اله حق من جوهر ابيه، و أنه اله تام من اله تام، و انه خالق السماوات و الارض و الاولين و الآخرين و رازقهم و محييهم و مميتهم و باعثهم و حاشرهم و محاسبهم و مثيبهم و معاقبهم. و قد ذكرنا ما يقوله النسطورية من انه إله مركب من نوعين/ و طبيعتين، و بيّنا ما يرومونه من المغالطة. فإن قالوا: فإنا لا نفرد واحدا «1» من هذه الآلهة بالعبادة بل نعبدها كلها بعبادة واحدة، قيل له: ان هذا لا يخرجكم من ان تكونوا قد اشركتم في القدم و اشركتم في العبادة، و لا يقدح فيما حكيناه عنكم، لأنه يصح ان نعبد مائة الف معبود بعبادة واحدة. و على انا نجدكم تفردونها و كل واحد منها بالانعام و الايمان كما هو مذكور في تسبيحة الايمان و تسبيحة القربان، و تفردونها ايضا بالصنع و الأفعال و الخلق و التدبير، كما قلتم فيما كان منها من الافعال حين عمّده يحيى مما تقدم ذكره، و تقولون ان النازل من السماء حتى صار في بطن المرأة و صار هو و ابنها بالاتحاد الذي فعله إلها واحدا و مسيحا واحدا، و انه هو الذي اظهر الآيات في الارض، و هو المقتول المصلوب، و هو الذي احيا نفسه بعد الموت، و صعد الى السماء، و جلس عن يمين ابيه. فهذه الافعال كلها الابن فعلها لا الأب.
__________________________________________________
(1) في الاصل: واحد
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:111
فإن قالوا: كل فعل من هذه الافعال قد فعله الآلهة الثلاثة.
(1/126)
قيل لهم: هذا خلاف النصرانية و هو بيّن فيما قدمنا و ذكرنا عنهم؛ و ايضا فان فعلا واحدا لا يصح ان يفعله اكثر من حي واحد، و مقدورا واحدا لا يصح ان يقدر عليه اكثر من قادر واحد، و هو مبين في كتب العلماء، و النصارى لا تفهم ذلك و لا تحوجك إليه.
و اعلم ان النصارى تعتقد ان الأب قد اختلع من ملكه كله و جعله لابنه، فهو يخلق و يرزق و يحيي و يميت، و قد سمعنا هذا ممن يحتج لهم و يخبر عنهم، و هو ايضا بين في تسبيحة/ ايمانهم. ألا تسمعهم يقولون: و نؤمن بالرب الواحد يسوع المسيح، ابن اللّه بكر ابيه، و ليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر ابيه، الذي بيده اتقنت العوالم و خلق كل شي ء، الى قولهم:
و هو مستعد للمجي ء تارة اخرى للقضاء بين الاموات و الاحياء. و يقولون في عباداتهم و صلواتهم و مناجاتهم: انت ايها المسيح يسوع تحيينا، و ترزقنا، و تخلق اولادنا، و تقيم اجسادنا، الى غير ذلك مما هذا سبيله و يطول ذكره، فبيناهم يفردون كل واحد منها بفعل، و بيناهم يقولون: ان الامر كله قد رجع الى الابن و كله شرك.
فان قيل: فما الذي عندكم عن المسيح مما يخالف هذا و ما حكيتموه عن النصارى؟
قلنا: أما في الاصول فانه قال لهم: اللّه ربي و ربكم، و إلهي و إلهكم، فيشهد على نفسه انه عبد اللّه مربوب مدبر مصنوع، كما شهد عليهم انهم كذلك، و انه مثلهم في العبودية و الضعف و الحاجة، و ذكر انه رسول اللّه الى خلقه، و ان اللّه ارسله كما ارسل الانبياء قبله.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:112
(1/127)
فذكر يوحنا في انجيله ان يسوع المسيح قال في دعائه: ان الحياة الدائمة انما تجب للناس بأن يشهدوا انك انت اللّه الواحد الحق، و انك ارسلت يسوع المسيح «1»، فانظر كيف يخلص التوحيد و يدعى النبوة. و ذكر يوحنا انه قال لبني اسرائيل: تريدون قتلي و انا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت اللّه يقوله «2». و ذكر ايضا انه قال: اني لم اجى ء لأعمل بمشيئة نفسي و لكن بمشيئة من ارسلني «3».
و قال عليه السلام: إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس هو لي و لكن من الذي أرسلني و الويل لي إن قلت شيئا من تلقاء نفسي «4». و كان عليه السلام يواصل العبادة في الصلاة و الصوم و يتنفل و يقول: ما جئت/ لأخدم و إنما جئت لأخدم، و قال: إني انا لست ادين العباد و لا احاسبهم بأعمالهم و لكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم «5». هذا في انجيل يوحنا.
و فيه ايضا ان المسيح قال: انهم يا رب قد علموا انك أرسلتني و قد ذكرت لهم اسمك «6»، و قال المسيح: ان اللّه الواحد رب كل شي ء أرسل ابن
__________________________________________________
(1) انظر انجيل يوحنا الاصحاح 12 فقرة 44 و ما بعدها، و الاصحاح 17 فقرة 2: «و هذه هي الحياة الابدية ان يعرفوك انت الاله الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الذي ارسلته». و في الاصحاح 3، 36: «الذي يؤمن بالابن له حياة ابدية».
(2) انجيل يوحنا الاصحاح 18 فقرة 37
(3) المرجع السابق.
(4) انجيل يوحنا الاصحاح 14 فقرة 24
(5) انجيل يوحنا الاصحاح 13 فقرة 47 و 48
(6) انجيل يوحنا الاصحاح 17 فقرة 25 و ما بعدها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:113
البشر الى جميع العالم لينقلوا الى الحق «1». و قال ايضا: ان الاعمال التي أعملهن هن الشاهدات لي بأن اللّه أرسلني الى هذا العالم. و قال ايضا: ما أبعدني ان احدثت شيئا من قبل نفسي، و لكنني اتكلم و اجيب مما علمني ربي.
و قال ايضا: ان اللّه مسحني و ارسلني و انما اعبد اللّه الواحد ليوم الخلاص.
(1/128)
و سألوه عن الساعة متى هي فقال أنا لا اعلم متى ذلك و لا احد من البشر، و لا يعلم ذلك إلا اللّه وحده. و قال: ان اللّه عز و جل ما أكل و لا يأكل، و ما شرب و لا يشرب، و لم ينم و لا ينام، و ما ولد و لا يلد و لا يولد، و لا رآه احد، و لا يراه احد الا مات. و قال له رجل: يا ايها الخيّر علمني، فقال له المسيح: لا تقل لي هذا، فانه لا خيّر الا اللّه. و قال له رجل: مر أخي يقاسمني تركة ابي، فقال: و من جعلني عليكم قاسما. و قال في دعائه لما سأل ربه ان يحيي الرجل الميت الذي يقال له إيلا عازر، يا إيل «2»: انا اشكرك و احمدك، انك تجيب دعائي في هذا الوقت و في كل وقت، فأسألك ان تحيي هذا الميت ليعلم بنو اسرائيل انك ارسلتني و انك تجيب دعائي «3». و قال في دعائه و قد خاف الموت و لم يزل/ يواصل الصلاة و التضرع و الدعاء و البكاء، يا إيل: ان كان من مسرتك ان تصرف هذه الكأس المرأة عن احد فاصرفها
__________________________________________________
(1) ورد حول هذا المعنى في انجيل يوحنا عدد من العبارات منها: «انا لا اقدر ان افعل من نفسي شيئا، كما اسمع أو من، و دينونتي عادلة لأنني لا اطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي ارسلني». يوحنا، الاصحاح 5/ 30. و منها: «لأن الاعمال التي اعطاني الآب لأكملها، هذه الاعمال بعينها التي اعملها هي تشهد لي ان الآب قد ارسلني، و الآب نفسه الذي ارسلني يشهد لي. يوحنا 5، 36 و 37.
(2) إيل لفظة آرامية تعني البطل، ثم اصبح يعنى بها بطل الابطال، ثم اصبحت تطلق بمعنى اللّه.
(3) انظر تفصيل ذلك في انجيل متى، الاصحاح 8، و انجيل يوحنا، الاصحاح 4
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:114
(1/129)
عني، و ليس كما أريد انا بل كما تريد انت. و كان يرمي من فمه كعلق الدم جزعا من الموت، و يعرق و يقلق «1». و كان اذا ذكر البعث و القيامة و الحساب يكون منه البكاء و القلق و الجزع ما لا يكون من احد، و يكون من صلاته و صيامه و عبادته و خشوعه ما لا يكون من احد من زمانه.
و مثل هذا من أقواله و افعاله اكثر من ان يحصى، و هو معهم و في أناجيلهم، حتى لقد احصى اهل المعرفة و العلم، فوجدوا المسيح عليه السلام له من الاقرار على نفسه بالعبودية و الضعف و الحاجة و الفقر و الفاقة، و للّه عز و جل بالغنى و الربوبية، ما لم يكادوا يجدونه لأحد من الانبياء و الصالحين، ثم تقول فيه النصارى ما قد سمعت.
فإن قالوا: فقد حكى متى عنه في انجيله انه قال لتلامذته: سيروا في الارض و عمّدوا العباد باسم الآب و الابن [و] «2» روح القدس. و حكوا عنه انه قال: انا كنت قبل ابراهيم، و ما اشبه ذلك.
قيل له: ليس المسيح اول من كذب عليه و انتم تعلمون ان مانيّ القس يدّعي التحقيق بالمسيح، و انه من اتباعه، و انه ليس احد على شريعته و وصاياه الا هو و اتباعه، و ان الانجيل الذي معه هو انجيله. و هو يذكر عنه انه كان يحرم على الناس كلهم و على نفسه النساء و ذبائح الحيوان و اكل اللحمان، و ان هذا ما حلّ قط و لا يحل، و يلعن كل من احلّه. و انه كان تبرأ/ من ابراهيم و موسى و هرون و يوشع و داود، و من كان يرى ذبح الحيوان و أذيته و اكل اللحمان و غير ذلك. و يستشهد على ذلك بمواضع من الاناجيل
__________________________________________________
(1) انظر تفصيل ذلك في انجيل متى، الاصحاح 27، و انجيل لوقا، الاصحاح 23، و انجيل يوحنا، الاصحاح 19، و انجيل مرقس، الاصحاح 15.
(2) الواو إضافة على الاصل يقتضيها السياق.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:115
(1/130)
التي معكم، و عندكم انه قد كذب على المسيح و افترى و اخطأ فيما تأول، و ان تزكية المسيح لهؤلاء الانبياء امر ظاهر لا ينصرف عنه التأويل.
قلنا: فهذه سبيلكم في دعاويكم على المسيح و انتم في هذا اشد فضيحة من المنانية، لأن تصديق المسيح للأنبياء و شهادته بما شهدوا به من توحيد اللّه و إفراده بالقدم و الربوبية و الحكمة أبين من كل بيّن و أوضح من كل واضح.
و العقلاء يردّون المجهول بالمعلوم، و ما التبس بما اتضح، و ما يحتمل بما لا يحتمل. و قد بلغ الجهل بالنصارى في بدعهم هذه أنهم يقصدون الى ألفاظ في التوراة و في كتب الانبياء متحملة، يحملونها على ظنونهم السيئة و بدعهم هذه الفاحشة، فيقولون: انما اراد ابراهيم و موسى و هارون و سائر الانبياء و هو ما أردناه من ان اللّه ثالث ثلاثة، و أن الأرباب جماعة، و أن اللّه يصعد و ينزل و يولد و يقتل. فيقصدون الى ما في التوراة من أن اللّه قال نريد ان نخلق بشرا على صورتنا و مثلنا «1». فيقولون: هذا خطاب من جماعة، أما تسمعونه يقول: نريد، و لم يقل: أريد ان أخلق بشرا مثلي، لتعلموا أن الآلهة جماعة، و أنهم على صور و هيئات كهيئات الناس، و ما أشبه هذا من الألفاظ المحتملة.
حتى تعدّوا الى القرآن فقالوا: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قالوا:
فهذا خطاب من جماعة لا من واحد. و قالوا في قوله عز و جل «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ» «2» قالوا فهذا أحد الآلهة و الأرباب يقسم بالأرباب.
__________________________________________________
(1) جاء في التوراة في سفر التكوين، الاصحاح الاول: «و قال اللّه نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا».
(2) المعارج 40
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:116
(1/131)
و قالوا في قوله عز و جل: «وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ»/ «1» قالوا: فإنما الإله يقسم بنفسه و ولده. فيقولون: محمد قد جاء بالنصرانية و بمذهبنا، و لكن اصحابه لم يفهموا عنه. و يقولون في قوله عز و جل: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ» «2».
قالوا فهذا الذي نقوله نحن: أنه من جوهر أبيه، و لا نريد بقولنا منه أنه بعضه و لكنه من جنسه و مثله. فيقصدون الى أقوام كإبراهيم و الأنبياء صلوات اللّه عليهم و أمثالهم قد عرفت مذاهبهم و مقاصدهم فينصرفون عنها بالتأويلات و محتمل الألفاظ. و مذاهبهم قد تحصلت حصلا لا يحتمل التأويل، لأن العلم بأن المسيح كان في توحيده على منهاج ابراهيم و موسى و هارون و داود و محمد صلى اللّه عليهم لا يرتاب به من عرف أخبارهم و سيرهم و دعوتهم قبل العلم بنبوّتهم. فاعرف هذا فانه اصل كبير يعرفه من تأمل و أراد التبيّن و قد اعتفل في مثله خلق كثير من العقلاء.
ثم هناك من الكذب على الانبياء فضلا من التأول لما في كتبهم، كقولهم ان الانبياء قالوا قبل مجي ء المسيح: ان اللّه سيجي ء و تحبل به امرأة عذراء، و يؤخذ و يصلب و يقتل و يموت و يدفن. هذا مما هو اكثر من ان يحصى.
و يقال للنصارى لا فرق بين من ادّعى على المسيح انه ادّعى الربوبية و أن اللّه ولده و أنه ابنه على ما تعتقدون و تدّعون، و بين من ادّعى انه هو وضع تسبيحة الايمان و تسبيحة القربان، و أنه اتخذ البيعة، و جعل عيده يوم الاحد، و أخذ الناس في زمانه بأن يقولوا: يسوع المسيح إله حق من إله حق من جوهر ابيه، و أنه كان يأخذهم بأن يقسموا بعبد يسوع و عبد المسيح، و أنه
__________________________________________________
(1) البلد 3
(2) النساء 171
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:117
(1/132)
أحلّ الخنزير و أكله، و صلى الى المشرق، و عطّل الختان/ و الوضوء و الطهارة و غسل الجنابة، و أخذ اصحابه بصيام الخمسين، و شرع ذلك و دعا اليه، و من بلغ هذا فقد تناهى في المكابرة و المجاحدة، اللهم إلا ان لا يكون يعرف اخبار المسيح و النصارى في زمانه، و النصارى بعد موته و مضيه، و لا عني بذلك. فسبيل من ادعى عليه ما يدعي عليه هذه النصارى و ما تحكيه عنه و تتأوله عليه، كسبيل من ادّعى عليه الامور التي قدمنا ذكرها.
و في النصارى قوم استبصروا و أسلموا و تتبعوا المواضع و الألفاظ التي تدّعيها النصارى على المسيح، و قالوا لهم: ما نعلم المسيح قال ذلك، و لو قاله لما ضاق مجازة و تأويله، كقولهم انه قال: ابن البشر رب السبت، و أني قبل ابراهيم و أنّى بأبي و أبى بي، و ما اشبه ذلك. فقالوا لهم: في التوراة ان موسى إله فرعون و إله هرون، و أن هرون رسول موسى الى فرعون، و أن يوسف قال للمصريين: ان العزيز ربهم. و ذكروا لهم عن ابراهيم و لوط و داود و سليمان و عن غيرهم من الانبياء شيئا كثيرا، و لا حاجة بك الى ذكره و معرفته، و لو عرفته لم يكن به بأس، ولكن ارجع ابدا الى اصل الدعوة و النحلة، و المعروف من قول النبي، ورد المجهول بالمعلوم، و قد استغنيت عن التأويل كما تقدم لك.
و مثل هذا ما يدعيه المنجمون على على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم انه كان يذهب الى ما يذهبون، لأنه قال في كتابه: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ: إِنِّي سَقِيمٌ «1»» و أنه قال: «فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ «2»» و «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «3»»
__________________________________________________
(1) الصافات 88
(2) القمر 19
(3) فصلت 16
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:118
(1/133)
و غير ذلك. فقال لهم اهل العلم: قبل كل شي ء قد عرفنا من/ دعوة هذا الرجل و قصده قبل المعرفة بنبوته أن ما يكون في غد لا يعلمه ملك معرّب و لا نبيّ مرسل، و لا يعلمه إلا الواحد المنفرد بالقدم، فلا وجه للتعليق عليه بظواهر الألفاظ و بالتأويل، هذا لا يفعله عاقل و لا يذهب الغلط فيه على محصّل، و إنما يخادع بهذا اهل الغافلة.
و كذا قالوا الباطنية و من سلك سبيلهم: في ان باطن الصلوات أشخاص و كذا العبادات، و ان لكل ظاهر باطنا، غير ما عليه الفقهاء و العامة.
فقالوا لهم: ادّعيتم أنكم من المسلمين و قد علمنا من دعوة هذا النبي صلّى اللّه عليه و سلم قبل العلم بنبوته ان ما حرّمه من الزنى و اللّواط و الربا و الخمر و الخنزير و الامهات و البنات و الأخوات و غير ذلك محرم على كل عاقل بلغته دعوته كائنا من كان، و انه على ما عليه الفقهاء و العامة، و انه لا تأويل لذلك و لا باطن، و أن جميع ما اوجبه من الطهارات و الصلوات و الصيام و العبادات لا تسقط عن عاقل كائنا من كان على ما عليه الفقهاء و العامة لا تأويل لذلك و لا باطن، و ان من قال: لهذه الأشياء باطن او تأويل، فقد كفر و أشرك و خرج من الاسلام خروجا ظاهرا.
و لا حاجة بنا الى ان نبيّن لكم تأويل الآيات التي سألتم عنها، فقد علمنا من قصده صلّى اللّه عليه و سلم ان مراده في ذلك غير مرادكم، و قصده غير قصدكم. مثل هذا قالوا لمن قال من هشام بن الحكم «1» و اتباعه حين قالوا: إن اللّه لا يعلم ما يكون قبل ان يكون، لأنه قال: «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ
__________________________________________________
(1) هشام بن الحكم (190 ه) كان شيخ الامامية في عصره، ولد بالكوفة و سكن بغداد و انقطع الى يحيى بن خالد البرمكي. له مؤلفات كثيرة. انظر: منهج المقال 359، لسان الميزان 6: 194.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:119
(1/134)
وَ الصَّابِرِينَ «1»» و أنه/ يفعل الجور و الظلم. و لمن قالوا: يأمر بالفسق لقوله:
«أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها
«2»فاعرف هذا فانه اصل كبير.
ثم رجعنا الى قولنا في النصارى.
فان قيل: كل هذا [الذي ] «3» حكيتموه عن المسيح موجود في الكتب التي مع النصارى، فكيف جعلتم ما حكاه نبيكم عن المسيح و عنهم من معجزاته و آياته؟ قلنا: قد فرغنا من هذا غير مرة و بيّنا ان هذا النبي صلّى اللّه عليه و سلم ما قرأ الكتب و لا قرئت عليه، و لا اختلف الى اهلها و لا اختلفوا اليه، و لا عرف ذلك إلا بوحي، و ان كان موجود في كتبهم. كما انه لم يعرف قصة نوح و ابراهيم و يوسف و موسى و هرون إلا بالوحي، و ان كانت مذكورة في كتبهم.
فإن قيل: لعمرى إن من عرف دعوة المسيح يعلم ان دعوته الى توحيد اللّه كدعوة موسى و هرون و محمد و أمثالهم من الأنبياء صلوات اللّه عليهم اجمعين، و أنه بري ء من دعوة هذه الطوائف من النصارى كبراءته من دعوة المنانية، و كبراءة محمد و موسى و هرون من ذلك اجمع. و لكن قد جاء عنه انه كان يقول في اللّه [أنه ] «4» ابوه، فيقول: ارسلني ابي، و قال لي ابي، و مثل هذا كثير، فما عندكم فيه؟
قيل له: إن كان قد قال هذا فلا حجة للنصارى فيه، لأنهم قد قالوا إنه قال لنا: أنا أذهب الى ابي و أبيكم، و ربي و ربكم فلم يجعل لنفسه مزية عليهم، فإن وجب ان يكون هذا القول إلها و ربا و معبودا، وجب ان
__________________________________________________
(1) محمد 31
(2) الاسراء 16
(3) إضافة على الاصل يقتضيها السياق.
(4) إضافة على الاصل يقتضيها السياق.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:120
(1/135)
يكونوا هم كذلك، و قد قال بعض الناس: إن/ الابن في اللغة العبرانية التي هي لغة المسيح تقع على العبد الصالح المطيع الوليّ المخلص، و ان الأب قد تقع على السيد المالك المدبر؟ قالوا: و قد قال في التوراة: إن اسرائيل ابني و بكري و أولاده ابنائي؛ و على دعوى النصارى تجب لهم الإلهية و قد قال ايشيعيا النبي عليه السلام في كتابه: إن اللّه ابو جميع العالم، و انتم معشر النصارى تذكرون ان متى حكى في انجيله عن المسيح انه قال: طوبى لكم معشر المصلحين بين الناس فإنكم تسمون ابناء اللّه. و قال متى في انجيله: ان المسيح قال للناس: ان اباكم السماوي واحد فرد. و قالوا: ان المسيح كان يقول في صلاته التي كان يصليها و يعلمها الناس: قولوا يا ابانا الذي في السماء انت قدوس اسمك، عزيز سلطانك، نافد امرك في السماوات و الأرض، لا يعجزك ما طلبت، و لا يمتنع منك ما أردت، فاغفر لنا ذنوبنا و خطايانا و لا تعذبنا بالنار «1». فينبغي على قول النصارى ان تكون هؤلاء كلها آلهة و أربابا، لتعلم ان اسم الأب يقع في تلك اللغة على السيد و المالك.
و قال المسيح لبني اسرائيل: لو كنتم ابناء ابراهيم لأجبتموني فاني ابن ابراهيم. و قد علمنا ان بني اسرائيل كلهم اولاد ابراهيم، و إنما اراد انكم لو كنتم اولياء ابراهيم.
و ايضا فان النصارى تذكر عن بولص انه ذكر في الرسالة فقال بأن الروح نفسها تشهد لأرواحنا انا ابناء اللّه. و هم يقولون في الاشرار: انهم/ ابناء الشياطين و مثل هذا كثير في لغتهم، و استعمالهم في الابن بمعنى الوليّ المخلص، و في الأب بمعنى السيد المالك الرفيع، و لهذا تقول النصارى في الجاثليق ابونا،
__________________________________________________
(1) انظر نص الصلاة في انجيل متى، الاصحاح 6، الفقرات من 9- 14.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:121
(1/136)
فهذا كله في استعمالهم. و لكنهم لما اعتقدوا في اللّه عز و جل انه رجل و انسان و شخص و ما هذه سبيله لم يرضوا «1» ان يجعلوا له ابناء إلا بالحقيقة من طريق الولادة «2» و التناسل كما تقدم بيان ذلك لك. و هم يقولون: ان اللّه الأب قال لابنه يسوع المسيح اني ولدتك قبل ان اخلق كوكب الصبح.
و ليس في هذه الطوائف الثلاث من النصاري من يقول: إن المسيح ابن اللّه على طريق التشريف و المجاز، بل هو إله تام من إله بام، و اله حق من اله حق، من جوهر ابيه. فاعرف هذا.
باب آخر [ما جاء به الرسول حول الزعم بصلب المسيح، و اختلاف النصارى حول الاناجيل، و تأثر المجتمعات النصرانية بعقائد الروم و اخلاقهم ]
من هذا الجنس، و هو ان هذه النصارى و اليهود جميعا يدعون فيلاطس الرومي ملك الروم اخذ المسيح يتظلم اليهود منه و سلمه اليهم، فحملوه على حمار و جعلوا وجهه الى عجز الحمار و جعلوا على رأسه اكليل شوك، و طوفوا به تنكيلا. و انهم كانوا يقفدونه «3» من ورائه و يأتونه من تلقاء وجهه فيقولون له: يا ملك بني اسرائيل من صنع هذا بك؟ سخرية منه «4». و انه لما ناله من الكدّ و الشقاء عطش و استجدى و قال لهم: اسقوني ماء، فأخذوا الشجر المر و اعتصروه و جعلوا الخل في ذلك العصير و أعطوه، فأخذه/ و هو
__________________________________________________
(1) عبارة لم يرضوا مكررة في الاصل.
(2) في الاصل: الولاد.
(3) قفده: صفعه على قفاه بباطن كفه. انظر القاموس المحيط.
(4) جاء في انجيل متى، الاصحاح 27: «فأخذ عسكر الوالي يسوع الى دار الولاية و جمعوا عليه كل الكتيبة و فروه و ألبسوه رداء قرمزيا و صنعوا اكليلا من شوك و وضعوه على رأسه و قصبته في يمينه و كانوا يجثون قدامه و يستهزئون به قائلين: السلام يا ملك اليهود و بصقوا عليه و أخذوا القصبة و ضربوه على رأسه». و انظر ما يماثل هذا الصدد في انجيل مرقس الاصحاح 15 و انجيل يوحنا الاصحاح 19.
(1/137)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:122
يظنه ماء فغبّ فيه فلما وجد مرارته مجه فسعطوه به و عذبوه يومه و ليلته «1».
فلما كان من الغد و هو يوم الجمعة الذي يسمونه جمعة جشا سألوا فيلاطس ضربه بالسوط فضربه، ثم اخذوه و صلبوه و طعنوه بالرماح و ما زال يصيح و هو مصلوب على خشبة يا إلهي لم خذلتني يا الهي لم تركتني، الى ان مات و نزلوا به و دفنوه «2». و ادعى اليهود و النصارى العلم بذلك و المعاينة و المشاهدة، و انهم قد تلقوا ذلك الجمهور «3» عن الجمهور، و الامم عن الامم، و صار النصارى خاصة يسخرون من المسلمين اذا قالوا ما كان هذا من شي ء، و يقولون: أي فائدة لصاحبكم في مكابرة الأمم المجمعة على ذلك، و قد سبقوه و كانوا قبله، و هم اهل هذا الرجل و اصحابه، و بينهم ولد، و معهم نشأ، و قد أجمع على ذلك عدوه من اليهود و وليه من النصارى، فأنكر نبيكم.
و هل هذا إلا كما قيل: رضي الخصمان و أبى القاضي. فنظر اهل العلم في قوله صلّى اللّه عليه و سلم، فاذا هو قد اخبر انهم قد قالوا ذلك و هم لا يعلمونه، و ما معهم علم به و لكنه ظن يظنونه، فاذا الامر كما قال و كما اخبر، و العلم بأن الاعتقاد هو علم او جهل او ظن لا يعلمه إلا من قد صحب المتكلمين و النظارين و انقطع الى صنعة الكلام و مهر فيها و كدّ، و هذا رجل متكلف، فيعلم انه ما علم هذا إلا بالوحي من قبل اللّه و هذا من آياته العجيبة.
__________________________________________________
(1) جاء في انجيل يوحنا الاصحاح 19: «فلكي يتم الكتاب قال: انا عطشان، و كان اناء مملوآ خلا فجاؤا بسفنجة من الخل و وضعوها على زوفا و قدموها الى فمه».
(2) جاء في انجيل متى، الاصحاح 27: «نحو التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: ايلي ايلي لما شبقتني، اي الهي الهي لماذا تركتني». و في انجيل مرقس الاصحاح 15: «صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: الوي الوي لما شبقتني، الذي تفسيره الهي الهي لماذا تركتني».
(
(1/138)
3) في الاصل: عن الجمهور
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:123
و تأمل الى إقدامه/ على أمتين عظيمتين من اهل التحصيل و العقل، قد أجمعوا على امر و سبقوه في الزمان، و هو اشد الناس حرصا على تالفهم و إجابتهم و استمالتهم، فأكذبهم و ردهم، و لو كان متقوّلا لتهيّب و لم يقدم على ذلك خوفا من ان يكون الامر كما قالوا و كما ادّعوا فيبين كذبه و يرجع عنه من قد تبعه، لأن الانبياء يجوز ان يقتلوا و يصلبوا، بل قد قتل قوم منهم.
و أيضا، فليس في قتل المسيح طعن عليه و لا قدح في امره، و ما به حاجة الى مخالفتهم في ذلك، بل قد كان ينبغي ان يكون الى تصديقهم في ذلك أحوج، ليكون تشنيعه على النصارى اقوى، لأنهم قد اعتقدوا فيه انه إله و رب و قد رأوه أسيرا مقهورا في يد عدوه و مصلوبا و مقتولا، و يزيد شناعته على اليهود لأنهم قد قتلوا نبيا آخر مضافا الى غيره من الانبياء الذين قد قتلوهم قبل المسيح. فتجنب صلّى اللّه عليه و سلم هذا كله مع الحاجة اليه، و قال: قد ادعوا أنهم قد علموا ذلك و ليسوا به عالمين و لا متفقين، و ما معهم فيه الا الظن فقال:
«وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ. وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ. وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً» «1» أي ليس ثمّ يقين و لا سكون نفس، تقول العرب في الخبر المتيقن قتلته علما و قتلته يقينا. ثم قال: «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» أي صانه و عظمه ان تناله يد عدوه بالقتل و الصلب، لأن الظن قد يصدق تارة، و قد تجتمع الجماعة الكبيرة فتصدق المخبر الواحد من طريق حسن الظن بخبره، و يكون قد صدق فيما أخبر، فيكونوا صادقين و إن لم يعلموا صدقه، و ان ظنوا ان اعتقادهم لذلك علم. فانظر الى ذلك كيف بيّنه من كل وجه.
(1/139)
__________________________________________________
(1) النساء 157
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:124
فإن قيل: و من ابن لكم ان الجماعات من اسلافهم ما شاهدوا ذلك و لا عاينوه كما ادّعوا؟ قيل له: من تأمل علم بعقله ان الامر كما قال صلّى اللّه عليه و سلم لا كما قالوا، لأن تلك الجماعات لو قد كانت شاهدت ذلك و علمته لكان من لقيهم و سمع منهم في مثل حالهم في العلم بذلك، فكان يكون كل من لقي النصارى و اليهود و سمع ذلك منهم عالما بذلك، فكنا نكون في مثل حالهم في العلم بذلك. ألا ترى أنا لما اخبرناهم بقتل حمزة و جعفر و عمر و عثمان و عليّ رضي اللّه عنهم شاركونا في العلم بذلك و صارت حالهم في ذلك مثل حالنا، فلما رجعنا الى انفسنا فلم نجدنا عالمين مع مخالطتنا لهم و كثرة سماعنا منهم، علمنا انهم ليسوا بذلك عالمين، و أن اعتقادهم لذلك ليس بعلم. فبهذا الدليل علمنا صحة دعواه صلّى اللّه عليه و سلم و كذب دعواهم في انهم بذلك عالمين.
و بهذا الاعتبار تعلم رحمك اللّه بطلان دعوى من ادّعى من اليهود ان موسى صلى اللّه عليه شافه اسلافه الذين كانوا معه و هم ستمائة ألف رجل شاب سوى/ المشيخة و النساء بأن شريعته مؤيدة الى أن تقوم الساعة، و أنه لا يحل تغير شي ء منها البتة و أن من ادّعى خلاف ذلك فقد كذب و كفر. و ادعت اليهود انهم بذلك عالمون، فقلنا: لو كنتم بذلك عالمين، و كان اعتقادكم لذلك علما، و قد حجكم من لقيتم من اسلافكم لكنتم حجة على اهل زمانكم، و كان يعلم ذلك بقولكم و أخباركم كل من شرح ذلك منكم، فلما كنا بذلك غير عالمين فإن اعتقادكم لذلك ليس بعلم. ألا ترى أنّا و كل من يسمع منكم يعلم ان موسى عليه السلام كان يدّعي انه رسول اللّه، و أن اللّه اصطفاه و أرسله، و أنه صلى اللّه عليه كان يحرم الأمهات و البنات و الأخوات و الميتة و الخنزير و ذبائح الوثنيين، الى غير ذلك مما حرمه، و أنه كان يقيم السبت.
(1/140)
فلو كان ما ادّعيتم من تأييد شريعته لكان علمنا به كعلمنا بما قدمنا، بل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:125
كان يكون اقوى من العلم بذلك، فلما لم يكن كذلك علمنا و تيقنا ان موسى عليه السلام ما قال ذلك و لا دعا اليه و لا فرضه و أن الامر لم يجر المجرى الذي ادّعيتموه.
يزيدك وضوحا لذلك ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما عهد ان شريعته مزيدة علم ذلك كل من سمع الاخبار ممن صدقه او كذبه، فلو كان الامر كما ادّعوا لعلمنا ذلك بأخبارهم كما علموا ذلك من شأن نبينا بإخبارنا اياهم و بسماعهم ذلك منا.
و هذا اصل كبير سبيلك ان تعنى به و تكبر مراعاتك له، فبه تعلم/ ايضا بطلان دعاوى النصارى في ادّعائهم قيام المسيح من قبره، و أنه عليه السلام أقام معهم بعد قيامه من قبره اربعين يوما ثم صعد الى السماء و هم يرونه.
و هم يؤكدون هذا الكذب بأن يجعلوا له عيدا في يوم بعينه.
و بمثل ذلك تعلم بطلان دعواهم ان الخشبة التي صلب عليها المسيح وضعت على ميت فاذا هو حيّ يسعى، و أن هذا كان ببيت المقدس جهارا في يوم شهدته النصارى و اليهود و الروم و أمم لم يحصها إلا اللّه لكثرتها. و لهذا نظائر من دعواهم.
و به تعرف بطلان دعاوى المجوس لزرادشت المعجزات.
و بمثل هذا تعلم بطلان دعاوى الرافضة ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم استخلف امير المؤمنين عليا على امته، و فرض طاعته عليهم أجمعين من الأحرار و العبيد و الرجال و النساء و جعله حجة عليهم. و ادّعوا انهم قد علموا ذلك بإخبار جماعات اخبروهم بذلك، و أن اعتقادهم بذلك علم. فقلنا: لو كنتم بذلك عالمين و كان اعتقادكم لذلك علما، لساويناكم في العلم بذلك لكثرة سماعنا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:126
منكم و الخوض معكم فيه، فلما لم يكن كذلك، علمنا و تيقنا ان ذلك امر لا أصل له.
(1/141)
و العلم ببطلان دعاوى الرافضة في ذلك أقوى و اظهر و الادلة عليه أكثر، لقرب عهده و كثرة الخوض فيه، و لأن الذي ادعى ذلك لم يكن يدعيه و لا يذهب اليه، و لأمور كثيرة. و الأدلة على ذلك اكثر من الأدلة على/ غيره.
و الرافضة تسأل في ذلك عما تسأل عنه اليهود و النصارى و المجوس في الطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و في نبوته. فيقولون لما اعتقدتم صدق محمد و نبوته فقال لكم: ان المسيح لم يصلب و ان موسى لم يقل ان شريعته مؤبدة و صار إقراركم بذلك ناقضا لقولكم و مفسدا لدينكم، و مبطلا لأصولكم [ذهبتم عنه «1»] و لم تعترفوا به.
قيل لهم: قد عرفناكم انا انما عرفنا بطلان هذه الدعاوى بذلك الاستدلال و الاعتبار الذي قدمنا و شرحنا قبل العلم بنبوته صلّى اللّه عليه و سلم و قبل المصير الى قوله و قول اصحابه، حتى لو استدلت الملحدة كما استدللنا لعلمت من ذلك ما علمنا، و حتى لو لم يبعثه اللّه تبارك و تعالى حتى يعتبر معتبر و يستدل مستدل لعلم بطلان هذه الدعاوى كلها لأنا وجدنا أمما امثالنا و في زماننا يدعون امورا و عهودا قد كانت في العصور الخالية التي قد سبقتنا ادعوا العلم بها، فرجعنا الى عقولنا و اختبرنا فدلت العقول على ان اعتقادهم لذلك ليس بعلم، و ان خبرهم بذلك ليس بصدق، و انه لم يكن هناك شي ء مما ادعوه ينقل اليهم، و انما هم قوم شبّه لهم فاعتقدوا امورا تموهت عليهم فسموا اعتقادهم علما و خبرهم نقلا.
__________________________________________________
(1) الكلمتان مكررتان في الاصل.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:127
و ايضا، فلو كنا انما نعترف بذلك خوف الفضيحة في بطلان ديننا فقد كان ينبغي ان نكون بذلك عالمين و ان لم نعترف، كما يعلم اللص انه سرق و ان لم يعترف خوف الفضيحة/.
(1/142)
و ايضا فان كان الناس قد علموا أنّا قد علمنا فجحدنا و كابرنا فقد تعجلنا الفضيحة و علم الناس جميعا ببهتنا و مكابرتنا فما سلمنا من الفضيحة المعجّلة، و هذا لا يذهب فساده على عاقل نظر و تدبر.
فان قالوا: فأنتم بذلك عالمون و ان لم تعترفوا، قيل لهم: إنا إذا رجعنا الى انفسنا علمنا كذبكم على ضمائرنا، و كفى بذلك علما لنا بكذبكم علينا و بهتكم لنا، فانا لا نعلم ذلك بل لا نعتقده، فضلا ان نعلمه. بل نعتقد و نعلم بطلان ذلك، كما نعلم ان للعالم صانعا و انه واحد و ان محمدا صلّى اللّه عليه و سلم رسوله الى خلقه.
و ايضا، فان الجماعات الكبيرة لا تجوز ان تكتم ما قد رأته و سمعته و ان ضرها ذلك و ان ساءها، كما لم تجوز ان تفتعل ما لم يكن فتقول: قد كان و رأينا و سمعنا و ان كان ما رأت و لا سمعت و ان سرها ذلك و نفعها، و هذا في الكتمان اقوى و اظهر و ابين، لأن الكتمان اثقل، و الصبر عليه اشد، و الحفظ له اصعب، و الناس الى القول اسرع، و هم عليه اخف، و لهم فيه فرح و استرواح، و علتهم في الكتمان كالكرب و الألم، فيستروحون باذاعته و ينفرجون بالقائه، حتى انهم ليتحدثون بما فيه زوال نعمهم و سفك دمائهم، و حتى لقد ادعينا «1» ان ينكتم ما بين السلطان و وزيره و امثال ذلك ممن يجوز عليهم الكتمان، فان الكتمان قد يجوز على الواحد و الاثنين و النفر
__________________________________________________
(1) كلمة مطموسة بالمداد، و القراءة اجتهادية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:128
اليسير. و كذا الافتعال و ان كان الافتعال امكن من الكتمان. و لهذا/ يتواصى العقلاء بالصمت و الكتمان ما لا يتواصون بالقول، و يحذرون منه ما لا يحذرون من القول، حتى ان الصمت و الكتمان لا يجوز إلا في عقلاء الرجال و في افراد الناس، و هو فيهم أقل من القليل.
(1/143)
فاعرف هذا فان هؤلاء الملحدة كأبي عيسى الوراق، و الحداد، و ابن الراوندي، لما لم يجدوا في رسوله اللّه مطعنا ادعوا انه قد كانت له فضائح و اكاذيب و حيل وقف عليها اصحابه و اهله و كتموا ذلك لحبهم له و لئلا يفتضحوا باتباع كذاب. و انما يجوز ان ينكتم ما يكون بين اثنين من النفر اليسير مدة ما ثم يظهر، فأما ما يكون بين الجماعة فانه لا ينكتم، و لا يطمع العاقل في كتمانه و لا يحدث نفسه به و ان ضره و ان ساءه. ألا ترى ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم، جاء باكفار اليهود و النصارى و المجوس، و بالبراءة منهم، و سفك دمائهم، و سبي ذريتهم، و استباحة اموالهم، و يأخذ الجزية من اهل عهدهم، الى غير ذلك مما شرعه من مكارههم، و كل ذلك قد ضرهم و ساءهم و ذهب برئاستهم و اسقط من اقدارهم، و قد ودوا أن ذلك لم يكن قط، و ان اللّه قد رفعه من قلوبهم و من قلوب الخلق اجمعين، و هذا علموه حين نطق به النبي صلّى اللّه عليه و سلم و قاله و شرعه و هو وحيد ضعيف فقير، و هم قد نقلوا ذلك و أذاعوه و نشروه و تحدثوا به مع ما عليهم فيه، و الدولة و العزّ و الغلبة إذ ذاك لهم لا له.
و هذا حال امير المؤمنين مع معاوية و بني امية فإنهم قد كرهوا عقد أهل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:129
(1/144)
المدينة له بعد عثمان، و كرهوا ما دعا إليه من تضليلهم، و ما/ فرضه من مجاهدتهم و قتالهم و ما بيّنه من نقضهم و تسفيههم، و ودّوا ان ذلك لم يكن، و ما طمعوا في كتمان شي ء من ذلك و لا فيما كان له من الفضائل، و انه صلى اللّه عليه من البدريين و السابقيين، و من الفقهاء و الزهاد و الاولياء، و من العشرة و من اهل الشجرة و من اهل الشورى، و قد ساءهم كل هذا فما أمكنهم مع الملك و الدولة ان يدفعوه عن شي ء منه مع محبتهم لدفعه عنهم و مع كراهتهم لكونه، و لا ان يدخلوا معاوية و هو سيدهم و رئيسهم في المهاجرين و لا في الانصار، و قد ودوا ان ذلك قد كان، و لا امكنهم ان يخرجوه من ان يكون من الطلقاء و أبناء الطلقاء.
و انظر الى الشعراء الذين هجوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من قريش و من غيرهم، و من الكتب التي وضعها الملحدة و طبقات الزنادقة، كالحدّاد، و أبي عيسى الوراق، و ابن الراوندي، و الحصري، و آمالهم في الطعن في الربوبية و شتم الانبياء صلوات اللّه عليهم و تكذيبهم، فإنهم وضعوها في ايام بني العباس و في وسط الاسلام و سلطانه و المسلمون اكثر مما كانوا إذ ذاك و أشد ما كانوا و لهم القهر و الغلبة و العز، و الذين وضعوا هذه الكتب أذلّ ما كانوا، و انما كان الواحد بعد الواحد من هؤلاء يضع كتابه خفيا و هو خائف يترقب، و يخفي ذلك عن اهله و ولده، و لا يطلع عليه الا الواحد بعد الواحد ممن هو في مثل حاله في الخوف و الذل و القهر، ثم ينتشر ذلك في ادنى مدة و يظهر حتى يباع في اسواق المسلمين، و يعرفه خاصتهم و عامتهم، و يتحدثون به و يتقولونه و يذكرونه و قد غمّهم ذلك و ساءهم، و ودوا ان ذلك لم يكن.
و كذا ما كان/ بالبحرين من ابي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي «1» و ولده،
__________________________________________________
(1) كبير القرامطة و معلن مذهبهم، كان دقاقا من اهل جنابة بفارس ثم انتقل الى البحرين-
(1/145)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:130
و ما كان من ابي القاسم الحسن بن الفرح بن حوشب بن زاذان النجار الكوفي بجبال لاعة و عدن لاعة من ارض اليمن، و ما كان من ابي الحسين محمد بن الفضل «1» بجيشان و الجند و المذيخرة من ارض اليمن، و ما كان لعبيد المتسمي بعبيد اللّه المهدي «2» بأرض المغرب، و ما كان بمن بعده من هذه الطوائف فإنهم كلهم لما تمكنوا و قد كانوا في اول امرهم يتسترون بالتشيع، فلما ظهروا و صاروا في جماعات و عساكر أغاروا على من جاورهم و قرب منهم، فشتموا الانبياء و استنجوا بالمصاحف، و سبوا المسلمات و العلويات، و غزوا مكة. و كان غزو مكة لقرامطة البحرين خاصة من ولد ابي سعيد، و غدروا بالحجاج بعد ان امنوهم، و لهم في قصد الاسلام و مكاره المسلمين ما هو معلوم و مكتوب. و كل ذلك مما قد ضرّ المسلمين و كرهوه، و ودوا ان ذلك لم يكن، ثم هم يذكرون ذلك و يتقوّلونه و يدونونه، فتعلم ان الدول و الممالك و القهر و الغلبة لا تغطّي على الامور التي قد كانت و وقعت، و أن العقلاء لا يحدثون انفسهم بكتمان معايبهم التي قد كانت و تحصلت و علم بها الناس مرة واحدة، و لا يحدثون انفسهم بكتمان مناقب اعدائهم و إن ساءهم و غمهم.
__________________________________________________
- تاجرا، و جعل يدعو الى نحلته، ظفر على عدة جيوش للخلفاء العباسيين ثم صالحه المقتدر. استولى على هجر و الاحساء و القطيف و سائر بلاد البحرين. قتله خادم له صقلبي سنة 301 ه. مرآن الجنان 2: 238 و الاعلام 2: 199.
(1) انظر كيفية اتصال احمد بن عبد اللّه القداح بمحمد بن الفضل هذا و تأثيره عليه و جلبه لصفه في الكامل لابن الاثير حوادث سنة 296.
(
(1/146)
2) هو عبيد اللّه بن محمد الملقب بالمهدي، مؤسس دولة العلويين في المغرب و جدّ الفاطميين في مصر، في نسبه خلاف كثير. ولد بسلمية، و كانت دعاة ابيه قد مهدوا له الامر بالمغرب، بويع بالقيروان سنة 297 و توفي سنة 322 ه. ابن الاثير الجزء الثامن حوادث سنة 296 و ما بعدها.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:131
يزيدك علما بذلك ان للفرس و الروم و الهند محاسن و مناقب لا يسترها أعداؤهم من المسلمين و لا يكتمونها و إن ساءتهم، و كذا ما للمسلمين و العرب من المحاسن و المناقب لا يدفعها أعداؤهم من هذه الامم، و لملوك بني امية مساوى ء و هفوات كانت مذكورة متداولة في ايامهم و في سلطانهم، و كذا لملوك/ بني العباس، و لملوك بني امية محاسن لا يدفعها اعداؤهم من ملوك بني العباس.
(1/147)
فاعرف هذا الباب و أطل فكرك فيه لتعرف غلط الملحدة، و تعرف بطلان دعاوى الشيع ان الصدر الاول من المسلمين غيروا النصوص و القرآن، فبدّلوا و وضعوا ما لم يكن، و نسبوه الى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و أخذه عنهم التابعون، و صار فيمن بعدهم من العلماء و طبقات المتكلمين و الفقهاء فظنوه دينا و ليس كذلك. و أن هذه الحيلة قد تمت على المعتزلة و الفقهاء و على اصحاب الحديث و المرجئة و الخوارج، و خفي عليهم موضع الحيلة في ذلك، و أن سلطان ابي بكر و عمر و عثمان رضي اللّه عنهم غطّى ذلك و منع من ذكره، و أن عليّ ابن ابي طالب رضي اللّه عنه لما ملك سلك سبيل الخلفاء و قبله و ما امكنه إظهار تضليلهم الى ان خرج من الدنيا، لأن اعوانه و جنده كانوا شيعة ابي بكر و عمر و عثمان رضي اللّه عنهم فلو أومى الى تضليلهم لقتلوه و أبادوه، فالحجة في بطلان دعاويهم هذه كالحجة على الملحدة و جميع اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. على ان هذا الطعن على السلف انما وضعه لهم الملحدة الذين قدمنا ذكرهم فلكلهم كتب في نصرة دعاوى الرافضة على المهاجرين و الانصار، و هم خدعوهم و لقنوهم هذه المطاعن لفرط عداوتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فتمت حيلتهم عليهم و هم لا يشعرون. على انهم لا ينفصلون عن مطاعن الملحدة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما أقاموا على بدعهم هذه، و الحجة عليهم اكثر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:132
منها على كل مبتدع، كما ان الحجة على الشيع اكثر من هذا.
(1/148)
ثم عدت الى اليهود و النصارى فيما ادعوه من الصلب و غيره مما [قدمنا] «1»/ فقيل لهم: إذا كان العلم بذلك قد شاع في الامم و علمه العقلاء الذين سمعوا به [لكان ] «2» محمد صلّى اللّه عليه و سلم و من كان في زمانه من الامم [الذين ] «3» صدّقوه و اعتقدوا نبوته قد علموا ذلك لا محالة فكيف ادعى ان ذلك لم يكن، و هل يفعل هذا عاقل كائنا من كان، فكيف بعاقل يدعى النبوة و الصدق و يريد من الامم كلها تصديقه و اتباعه و هو اشد الناس حرصا على اجابتهم. و كيف اتبعته تلك الجماعات من قريش و الأوس و الخزرج و اليهود و النصارى مع كثرتهم في جزيرة العرب، و هم يسمعونه يكذب و يبهت و هو يعلم انهم يعلمون انه قد كذب في ذلك، و هذا لا يكون مثله و لا يقع من العقلاء. و من تدبر الأمور يعلم جهل من ادعى علم اليهود و النصارى بما قدمنا بأدنى تأمل، و كيف لم يجر في هذا قول معه فيقول له اعداؤه من قريش و غيرهم: ادعيت الصدق و النبوة ثم كذبت الكذب الظاهر و بهتّ الأمم البهت المكسوف، فقلت:
المسيح لم يقتل و لم يصلب، و هذه الامم كلها تعلم ذلك علما لا يرتاب به كما تعلم ان موسى و عيسى كانا في الدنيا، و من كانت هذه سبيله لم يصدقه عاقل و لم يكن له رئاسة، و كيف لم يقولوا لمن اتبعه: يا هؤلاء، اكفرتم آباءكم، و ضللتم اسلافكم، و انفقتم اموالكم، و عاديتم ملوك الارض و جبابرتها و جميع الامم، و سفكتم دماءكم في طاعة كذاب قد عرفتم كذبه و بهته.
و قد قيل لبعض مجادلي اليهود و نظارهم ممن قد قرأ الكتب، و اكثر الاختلاف الى العلماء و كتب كتبهم، و ادعى انه يتقدم على/ علمائهم من اهل
__________________________________________________
(1) زيادة مني يقتضيها السياق و إلا كانت العبارة ملتوية
(2) زيادة مني يقتضيها السياق و إلا كانت العبارة ملتوية
(3) زيادة مني يقتضيها السياق و إلا كانت العبارة ملتوية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:133
(1/149)
عصره: أ ليس انما يعرف الاخبار من تأخر عمن تقدم؟ فقال: بلى، قالوا له: أ ليس اليهود الذين كانوا مع محمد صلّى اللّه عليه و سلم و في زمانه قد علموا ان موسى قد قال إن شريعته مؤبدة؟ فقال بلى: فقيل له: فلم لم يقولوا لمحمد انت قد زكيت موسى و صدقته و وثقته و هو قد قال و وصى بأن شريعته مؤبدة؟
و في هذا كفاية في كذبك و بطلان قولك، و هذا امر ظاهر بيّن يستدركه رعن النساء فضلا عن عقلاء الرجال، فأين كانوا عنه و قد خرجوا معه و في عداوته الى شدائد الامور، من شتمه و هجوه و الغدر به و مساعدة قريش في محاربته و بذل الاموال و المهج في مكارهه؟ فقال: قد قالوا ذلك له و أقاموا الحجة به عليه، فقيل له: من اين لك العلم بهذه الدعوى؟ فقال: قد علمت ذلك، فقيل له: فلم لم يعلمه خصومك كما علمته؟ فقال: مجّته الاسماع، فقيل له: ما تزيد على الدعاوى: فإنك ادعيت ان ذلك قد كان، فقيل لك من اين لك العلم به و لم لا علمه خصومك؟ فادعيت ان الاسماع مجّته، فانتقلت من الدعوى الى دعوى، و قرنت الدعوى بدعوى، و لا فرق بين دعواك هذه و بين دعوى من ادعى ان اليهود حين قالوا هذا له أحيا اللّه موسى و هرون و أظهر على ايديهما الآيات و المعجزات فكاشفا محمدا و شافهاه و أقاما الحجة عليه بمشهد من اليهود و من اصحابه، و ان ذلك قد كان و علم و لكن مجّته الاسماع، فما اتى بشي ء.
و اعلم ان اقوى حجج اليهود هو دعواهم ان موسى نص على ذلك و وصى به و قد مر/ لك الكلام عليه من غير وجه فما يحتاج في الرد على اليهود اكثر منه.
فإن قيل: فأنتم قد طالبتم هذه الطوائف التي ادعت هذه الدعاوى و ادعت العلم بها، فقلتم لليهود و النصارى: لو كان علمكم بالصلب لهذا الشخص
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:134
(1/150)
قد حصل لكم بإخبار جماعات كثيرة شاهدت ذلك لعلمنا ذلك بخبركم و بسماعنا منكم كما علمتم بإخبارنا لكم قتل جعفر و حمزة و عمر و عثمان و علي رضي اللّه عنهم، و قلتم: لو نصّ موسى النص الذي تدعونه و كنتم قد علمتم ذلك بإخبار الجماعات لكم لعلمنا ذلك بخبركم كما علمتم بإخبارنا اياكم عن نبينا ان شريعته مؤبدة. و قلتم للامامية و طبقات الرافضة: لو كان النبي نص على ما تدعون و وصى امته بذلك و فرضه عليهم، و كان اعتقادكم لذلك علما حصل لكم من قبل الجماعات التي اخبرتكم بذلك، لعلمنا ذلك باخباركم إيانا و سماعنا منكم كما علمتم و علمنا نص عمر على اهل الشورى، و كما علمتم و علمنا نص اهل المدينة على الامام علي رضى اللّه عنه بالخلافة بعد عثمان، و كما علمتم و علمنا نص ابي بكر على عمر، و نصّ معاوية على يزيد، و نص عبد الملك على الوليد، و نص المنصور على المهدي، فلم لا علم اليهود و النصارى و الرافضة ان هذه الامور لم تكن كما علمتم.
قيل له: لو كانت، لجاءت مجي ء امثالها مما ذكرناه و تحصّل العلم بها لنا كحصوله في تلك الأمور، و إنما يعلم ان ذلك لم يكن بما يستدل به كما استدللنا، و من لم يستدل جاز ان يعتقد ان ذلك قد كان و إن لم يكن لتركه النظر و الاستدلال، و يكون اعتقاده لذلك ليس بعلم و خبره ليس بصدق و إن ظنه علما و صدقا.
و لسنا ندّعي على هذه الطوائف انها كلها/ قد علمت و كابرت، و هذا يكون الاصل فيه ان يخبر به الواحد و الاثنان او النفر القليل، فيقولون:
أخذنا هذا عن جماعات كثيرة فيصدقهم من سمعهم و بحسن الظن بهم، و يأتي «1» من بعد هؤلاء فيصدقهم، و يكثر من يعتقد ذلك، و يقول: من
__________________________________________________
(1) في الاصل: و يأت
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:135
قبلي قد اخذ هذا عن جماعات، فتكثر اهل هذه الدعاوى بعد ذلك و يغترون بكثرتهم.
(1/151)
و ربما كان اصل المقالة تأويل آية من كتاب او من قول من يقتدى به فيعتقد التالي له انه نص فيقول: قد نص موسى او عيسى او محمد صلى اللّه عليهم على كذا في آية كذا في يوم كذا و يذكر ذلك القول. و ذاك القائل ما اراد بقوله ما أراده هذا المتأول و لا قصد قصده. مثل ما اولت القرامطة في قوله تبارك و تعالى «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1»» قالوا: فقد أخبر أن من دخل مكة يأمن من القتل و الخوف و نحن نرى الناس فيه يخافون و يقتلون، فقد ظهر كذبه، فإنا قد قتلنا المسلمين فيه، و لكن اتباع محمد صلّى اللّه عليه و سلم حمير لا يعقلون «2». و اللّه تبارك و تعالى ما اراد ما ظنوا، و لا هذا خبر و إن كان لفظه لفظ الخبر، و إنما هو امر بأن من دخله فينبغي ان يؤمن و لا يخاف و لا يحل لأحد ان يخيفه. و هذا مثل قوله «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ «3»» و ما اشبهه، فإن ظاهر هذا الخبر و معناه الامر، أي يجب على المطلقة ان تتربص، و على الوالدة ان ترضع. و لكن الباطنية يقصدون البوادي و العجم و من لم يشتغل بالعلم فيخدعونه بأنواع الخدائع، و يحلفونهم على كتمان ما يسمعون، فيغترون بهم. و هم افسدوا من بالبحرين، و كان ابتداء امرهم معهم التشيع، ثم رقوهم درجات الى ان جاؤوهم و جاهروهم/ بتكذيب الانبياء، فصار بتلك النواحي عداوة الاسلام مناكدة الى هذه الغاية.
و لإفراط جهل هؤلاء ما تم عليهم، و إلا ففي نصّ القرآن جواز القتل
__________________________________________________
(1) آل عمران 97
(2) ان القاضي كعادته يستعرض أقوال الخصوم و افتراآتهم مهما كان فيها من إيذاء للمسلمين ليردّ عليها بعد ذلك.
(3) البقرة 228
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:136
(1/152)
في المسجد الحرام. أما تسمع قوله عزّ و جل «وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» «1» فأي شأن أبين من هذا.
و مثله قوله عز و جل: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» «2» و قد قتل قوم ممن آمن بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم قبل الهجرة و قتل فيه منهم قبل الفتح، و قد قتل هو صلّى اللّه عليه و سلم يوم الفتح فيه قوما، و الأمر في ذلك ظاهر، و لا يذهب مثل هذا إلا على الغاية في الغافلة. فإن كان الامر على ما ظنه هؤلاء الجهال، فكيف لم تقل قريش و العرب و اليهود و النصارى و أعداء رسول اللّه الذين كانوا معه و هم في طلب عثرة تكون له مثل ما قاله هؤلاء الجهال و أنكروا عليه ذلك.
و مما قاله هؤلاء الزنادقة ايضا: أن محمدا قد رجع عما كان يدّعيه من اليقين في امره و أظهر الشك بقوله في كتابه: «وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ» «3» و قال: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» «4».
فقيل لهم: إن كان أفاد بهذا الذي ظننتم، فلم لا كان أعداؤه من قريش و الأعراب و اليهود و النصارى انكروا ما انكرتم؟.
و كذا نقول لمن قال: إن اصحاب محمد صلى اللّه عليهم و سلم ارتد و ابعده، فقيل له: من أين لك هذا؟ قال من نصّ القرآن لأنه قال: «أَ فَإِنْ ماتَ
__________________________________________________
(1) البقرة 191
(2) البقرة 217
(3) الاحقاف 9
(4) يونس 94
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:137
أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» «1»، فيقال له: انت اسوأ حالا في هذا من اولئك، لأن هذا ليس بخبر و لا ظاهره الخبر، و انما ظاهره الاستفهام، و اللّه لا يستفهم لأنه بكل شي ء عليم، و انما المراد به التثبيت و التنبيه كما قال:
«
(1/153)
وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» «2» اي لا يخالدون و لا ينبغي/ لهم الخلود، و كذلك اولئك لا يرتدون و لا ينبغي لهم ان يرتدوا. و لما قال بعض المبتدعة بالتشبيه، و تأولوا النصوص قلنا لهم هذا.
و قد كثرت البدع و الكذب على الانبياء بما لم يقولوه و لا أرادوه، و يدعون المبتدعة أن لهم سلفا امثالهم حتى يتصلوا بالانبياء فتغرهم كثرتهم و تغرهم زعماؤهم.
على ان النصارى لو رجعت الى أخبارها و الى ما في أناجيلها الأربعة لعلمت أن المقتول المصلوب غير المسح، اذا كانت هذه الأناجيل معولهم.
لأنهم لما انتهوا الى ذكر المقتول المصلوب و الصلبوت قالوا: إن اليهود «3» قصدوا في خميس الفسح الى هيريدس صاحب فيلاطس ملك الروم، و قالوا:
هاهنا رجل منا قد أفسد أحداثنا و غرّهم و لنا عليك في الشرط ان تمكننا ممن هذه سبيله لننفذ حكمنا فيه؛ فقال لأعوانه: اذهبوا مع هؤلاء فهاتوا خصمهم، فخرج الاعوان مع اليهود فصاروا بباب هذا السلطان، فأقبل اليهود على الأعوان فقالوا لهم: هل تعرفون خصمنا فقالوا: لا، فقال اليهود
__________________________________________________
(1) آل عمران 144
(2) الانبياء 34
(3) جاء في الحاشية: «في كيفية صلب اليهود رجلا على انه المسيح»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:138
و لا نحن نعرفه، و لكن امشوا معنا فإنا لا نعدم من يدلنا عليه.
فمشوا، فلقيهم يهوذا سرخوطا و كان احد خواص المسيح و ثقاته و كبار اصحابه واحد الإثني عشر، فقال لهم: أتطلبون يسوع الناصري قالوا:
نعم، قال: فمالي عليكم إن انا دللتكم عليه؟ فحلّ بعض اليهود عن دراهم كانت معه فعد ثلاثين درهما و سلمها اليه و قال: هذه لك. فقال لهم: هو كما قد علمتم صديقي و أستحي ان اقول هذا هو، و لكن كونوا معي و انظروا الى الذي اصافحه و أقبّل رأسه، فاذا أرسلت يدي من يده فخذوه.
(1/154)
فساروا معه و قد كثر الناس ببيت المقدس و اجتمعوا اليه لإقامة هذا العيد من كل مكان فصافح يهوذا سرخوطا رجلا و قبّل رأسه/ و أرسل يده من يده و غاص في الناس، فأخذه اليهود و الاعوان، فقال المأخوذ: ما لكم ولي؟
و جزع جزعا شديدا؛ فقالوا له: السلطان يريدك، فقال: مالي و للسلطان؟
فجاؤا به فأدخلوه على هيريدس و قد طار عقله خوفا و جزعا و هو يبكي فما يملك نفسه، فرجمه هيريدس لما رأى به من الخوف، فقال لهم: خلوا عنه، و استدناه و اقعده و بسطه و سكّن منه و قال له: ما تقول فيما يدّعي هؤلاء عليك من انك المسيح ملك بني اسرائيل، هل قلت هذا او دعوت اليه؟
فأنكر ان يكون قال هذا او ادعاه و مع هذا فما يسكن قلقه، و هيريدس يسكّنه و يقول له: اذكر ما عندك [من حجة «1»] إن كان لك، فلا يزيد على إنكاره و انه لا يقول ذلك، و انهم هم الذين يقولون ذلك لا هو، و انهم قد ظلموه بهذه الدعوى و تقوّلوا عليه، فقال هيريدس لليهود: ما أراه
__________________________________________________
(1) في الاصل: و حجة، و لعل الصواب ما اثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:139
يوافقكم و لا يقول ما تدعونه و ما أراكم إلا متقولين عليه ظالمين له، هاتم الطست و الماء لأغسل يدي من دم هذا الرجل.
(1/155)
و وجه فيلاطس ملك الروم الكبير الى هيريدس يقول له: بلغني ان اليهود رفعوا اليك خصما لهم فيه أرب و معرفة فأنفذه الي لأفاتحه و أنظر ما عنده، فأنفذه اليه؛ فأدخل على فيلاطس و هو في حالة من الجزع و الخوف و الفلق، فسكّنه الملك و سأله عما ادعاه عليه اليهود من انه المسيح، فأنكر ان يكون فال ذلك و لم يزل يسائله و يباسطه ليذكر ما عنده و ما معه و ليسمع منه حكمة او يستفيد منه أدبا او وصية فما وجد عنده شيئا، و لا زاده على القلق و الخوف و الجزع و البكاء و الانتحاب فرده الى هيريدس و قال له: ما وجدت في هذا الرجل ما قيل فيه و ما عنده خير، و نسبه الى النقص/ و الغباء، فقال هيريدس: الآن هو الليل فاذهبوا به الى الحبس، فذهبوا به.
فلما كان من الغد بكر اليهود و أخذوه و شهروه تلك الشهرة، و عذّبوه و نالوه بأنواع العذاب، ثم ضربوه في آخر النهار بالسوط، و جاؤوا به الى مبطخة و مبقلة «1» و صلبوه و طعنوه بالرماح ليموت بسرعة، و ما زال يصيح بأعلى صوته و هو مصلوب على خشبة: يا إلهي اخذلتني؟ يا إلهي لم تركتني؟
الى ان مات. و ان يهوذا سرخوطا لقي اليهود و قال لهم: ماذا صنعتم بالرجل الذي اخذتموه امس؟ قالوا: صلبناه، فتعجب من هذا و استبعده، فقالوا له:
قد فعلنا، و إن اردت ان تعلم ذلك فصر الى المبطخة الفلانية، فصار الى هناك، فلما رآه قال: هذا دم بري ء، هذا دم زكيّ، و شتم اليهود، و أخرج الثلاثين درهما الذي اعطوه دلالة فرمى بها في وجوههم و صار الى بيته
__________________________________________________
(1) المبطخة مكان البطيخ، و المبقلة مكان البقل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:140
فخنق نفسه «1».
__________________________________________________
(
(1/156)
1) نثبت هنا ما جاء في الاناجيل حول ما عرضه القاضي من تسليم يهوذا للمسيح، و الاشارة التي اعطاها لهم ليتعرفوا عليه، و ما جرى بعد ذلك من اخذه الى هيرودس و بيلاطس، و ما دار بين السيد المسيح و هؤلاء من حديث، و لا نريد ان نعلق على ما نورده و انما سنكتفي بوضع هذا كله امام القارى ء ليقارن و يتدبر. ما ورد حول تسليم يهوذا للمسيح: «حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر (اصحاب المسيح) الذي يدعى يهوذا الاسخريوطي الى رؤساء الكهنة و قال: ما تريدون ان تعطوني و أنا اسلمه اليكم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة، و من ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه». متى، الاصحاح 26، الفقرات 14 و 15 و 16. «ثم ان يهوذا الاسخريوطي واحدا من الاثني عشر مضى الى رؤساء الكهنة ليسلمه اليهم، و لما سمعوا فرحوا و وعدوه ان يعطوه فضة» مرقس، الاصحاح 14 الفقرات 10 و 11. و مثل ذلك في انجيل لوقا، الاصحاح 22 فقرات 3 و 65: «و كان يهوذا مسلمه يعرف الموضع لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه. فأخذ يهوذا الجند و خداما من عند رؤساء الكهنة و الفريسين و جاء الى هناك بمشاعل و مصابيح و سلاح. فخرج يسوع و هو عالم بكل ما يأتي عليه و قال لهم: من تطلبون؟ اجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: انا هو، و كان يهوذا مسلمه ايضا واقفا معهم. فلما قال لهم اني انا هو رجعوا الى الوراء و سقطوا على الارض. فسألهم ايضا من تطلبون فقالوا: يسوع الناصري، فأجاب يسوع: قد قلت لكم اني انا هو فان كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون» يوحنا، 18: 1- 8. و أورد انجيل لوقا حادثة القبض على المسيح على النحو التالي: «و بينما هو يتكلم اذا جمع و الذي يدعى يهوذا واحد من الاثني عشر يتقدمهم فدنا من يسوع ليقبله فقال له يسوع: يا يهوذا بقبلة تسلم ابن الانسان. ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة و قواد جند الهيكل و الشيوخ المقبلين عليه كأنه على لص: خرجتم بسيوف و عصي.
(1/157)
اذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا علي الايادي و لكن هذه ساعتكم و سلطان الظلمة». لوقا، الاصحاح 22: 47- 53. مع بيلاطس و هيرودوس: «فقام كل جمهورهم و جاؤا به الى بيلاطس. و ابتدؤوا يشتكون عليه قائلين: انا وجدنا هذا يفسد الامة و يمنع ان تعطى جزية لقيصر قائلا انه هو مسيح ملك، فسأله بيلاطس: انت ملك اليهود؟ فأجابه و قال: انت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة و الجموع: اني لا أجد علة في هذا الانسان، فكانوا يشددون قائلين: انه يهيج الشعب و هو يعلم في كل اليهودية مبتدئا من الجليل الى هنا. فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي؟ و حين علم انه من سلطنة هيرودوس ارسله الى هيرودوس اذ كان هو ايضا ملك الايام في اورشليم. و أما هيرودوس لما رأى يسوع فرح جدا لأنه كان يريد من زمان طويل ان يراه لسماعه عنه اشياء كثيرة و ترجى ان يرى آية تصنع منه و سأله بكلام كثير فلم يجبه بشي ء، و وقف رؤساء الكهنة و الكتبة يشتكون عليه باشتداد فاحتقره هيرودوس مع عسكره و استهزأ به و ألبسه لباسا لامعا ورده الى بيلاطس ... فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة و العظماء و الشعب-
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:141
فانظر كم في هذا من عجب:
منها إقرار اليهود و الروم انهم ما عرفوه، و اخرى ان الذي دلّ عليه لو كان ظاهر العدالة لما عرف بخبره و لا بشهادته شي ء، و اخرى جزعه و قلقه و إنكاره، و لو كان هو المسيح لأخبر بذلك و لقال: انا هو الذي بشّر بي الانبياء، و انني كذا و كذا، سيما و الحاكم بينه و بين اليهود ملك الروم و هم اعداء اليهود، و كان قد اقام الحجة عليهم، هذا لو كان نبيا «1»، فكيف و هو عند النصارى إله، فإن الانبياء يبدؤون الدعوى و الحجة عند من لم يسأل ذلك فكيف بمن يسأل و يرغب اليهم.
و أخرى ان يهوذا سرخوطا قال: هذا دم بري ء، و برى ء منهم ورد الدراهم و رجع الى بيته و قتل نفسه ندما على ما كان منه. فقلنا للنصارى:
(1/158)
فكم في هذا من دلالة على ان المقتول المصلوب غير المسيح، فأنتم لا الى/ حجج العقول ترجعون، و لا الى ما كتبتم و سطرتم تتدبرون، و لا على ما نعلم تعولون، و لكنكم تمشون مكبّين على وجوهكم.
و في الانجيل معهم ان المسيح اخذ صندوقا يخزن فيه الذهب و الفضة و كان خازنه يهوذا سرخوطا الساعي به، و ان امرأة زانية اهدت اليه طيبا
__________________________________________________
- و قال لهم: قد قدمتم الي هذا الانسان كمن يفسد الشعب و ها انا قد فحصت قدامكم و لم أجد في هذا الانسان علة مما تشتكون به عليه و لا هيرودوس ايضا. لوقا، الاصحاح 23: 1- 15. «و في الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا ألوي ألوي (و في انجيل متى ايلي ايلي: اي الهي الهي) لم سبقتني، الذي تفسيره الهي الهي لماذا تركتني. فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا: هو ذا ينادي ايليا (و في انجيل يوحنا: انا عطشان) فركض واحد و ملأ اسفنجة خلا و جعلها على قصبة و سقاه» .. مرقس، 15: 33- 35.
(1) في الاصل: نبي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:142
قيمته ثلثمائة دينار، و جعلت تمسح به قدميه و تمسح شعرها بأسفل قدميه، و ان شمعن جاء و أنكر ذلك عليه، و قال: هذا سرف و فساد، و كان ينبغي ان تتصدق بثمن هذا على الفقراء «1».
و لهذا ما قالت طائفة من اليهود ان يسوع «2» بن مريم هذا الذي يعتقد المسلمون و النصارى ربوبيته الذي صلب و قتل هو ابن يوسف النجار، و هو رجل من اليهود برّ تقيّ صارت له رئاسة في اليهود، فحسده بعضهم للرئاسة و سعى به و أذلّه الى ان قتل مصلوبا. و هو ما ادّعى ما يقوله النصارى و لا ما يقوله المسلمون من انه المسيح و انه نبي. قالوا ألا ترون انه قد سئل عن ذلك عند هيريدس و عند فيلاطس و أنكر ذلك كله، و لو كان نبيا لاحتج بحجة و آيات، و البشارات به و أنه مولود من غير ذكر.
(1/159)
قالوا: و مما يؤكد هذا، ان النصارى قد كتبت في اناجيلهم ان يسوع هذا قال لأصحابه: ما يقول الناس فيّ؟ قالوا: منهم من يقول: إنك إليّا و منهم من يقول: انك يوحنا الصائغ، قال: فأنتم اصحابي ما تقولون فيّ و من انا عندكم؟ قالوا: الذي عندنا انك المسيح، قال: لا تقولوا هذا.
قالت هذه الطائفة من اليهود: أما ترونه قد نهاهم ان يقولوا «3» انه المسيح، فما الذي يبقي بعد هذا من البيان. قالوا: و قد خاصمه اليهود ثلاث سنين، و رفعوه الى الملوك فما حصل عليه إقرار انه ادّعى انه المسيح
__________________________________________________
(1) انجيل متى الاصحاح السادس و العشرون.
(2) ورد اسم المسيح عليه السلام على اشكال متعددة، فقد رسم اسمه احيانا: ايسوع، و احيانا يشوع و احيانا اخرى ليسوع، و قد اثبتناها جميعا يسوع لشهرة هذا اللفظ.
(3) في الاصل: يقولون
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:143
و لا انه نبيّ، و لا شهد عليه بذلك وليّه/ و لا عدوّه. و الآيات و المعجزات التي تدعيها النصارى له لا أصل لها ما ادعاها هو و لا احد من اصحابه في زمانه و لا في الفرق الذين يلونهم، و إنما ادعي له ذلك بعد مضيه و مضيّ أصحابه بالأزمان و الأحقاب، كما ادعت النصارى ذلك لبولص اليهودي «1» و هو معروف الحال و الحيل و الكذب و السقوط، و كما ادّعوا ذلك لجورجس «2» و الابامرقس «3»، و كما يدّعونه في كل زمان لرهبانهم و رواهبهم و كله لا أصل له. فاحفظ رحمك اللّه هذا فانه يؤكد الحال في ان المسيح لم يصلب، و أن المصلوب غيره صلى اللّه عليه، و هو شديد على النصارى من كل وجه.
و في الانجيل ان المسيح كان قائما في ناحية في موضع الصلب، و أن مريم ام المسيح جاءت الى الموضع فنظر اليها المصلوب فقال لها و هو على الخشبة:
هذا ابنك، و قال للمسيح: و هذه امك، و أن مريم اخذت بيده و مضت من بين الجماعة «4».
(1/160)
و في الانجيل ايضا ان المسيح مات من غير ان يمسه شي ء، و فيه ان امرأة سامرية قالت للمسيح: انت رجل يهودي و نحن لا نسقي اليهود الماء، فقال
__________________________________________________
(1) يقصد بولس، الشهير بالرسول في تاريخ النصرانية و قد مر سابقا.
(2) يقصد مار جرجس، الذي تنسب له النصرانية عددا من الخوارق، و تعتبره كنيسة انكلتره حاميا لها و كذلك تفعل كنيسة روسيا. و يظن انه ولد في الرملة من فلسطين في النصف الاخير من القرن الثالث للميلاد و يقال انه مات سنة 303 م. دائرة معارف البستاني 6: 427
(3) اسمه العبراني يوحنا، و اسمه اليوناني مأخوذ عن الروماني مرقس، يقال انه ابن اخت برنابا اللاوي القبرصي، و تقول كتابات الآباء المسيحيين انه كان مترجما لبطرس. انظر القول الصريح في سيرة يسوع المسيح، ص 13 جورج فورد.
(4) جاء في انجيل يوحنا الاصحاح 19- 26: «فلما رأى يسوع امه و التلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه: يا امرأة، هو ذا ابنك، ثم قال للتلميذ: هو ذا امك».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:144
لها: صدقت ايها المرأة في جميع ما قلت.
و فيه أن المسيح قال لأصحابه: إن الكهنة و الربانيين جلسوا على كرسي موسى و هم يفتونكم فاقبلوا منهم فتياهم و لا تعملوا مثل أعمالهم، فإنهم يقولون و ما يعملون.
و فيه ان مريم المجدلانية و مريم الاخرى إنما امتنعتا من بعثة الطيب لسيدنا المسيح يوم السبت للسّنة في حفظ السبت.
و فيه ان المسيح قال: شبهت جلوس هذه القبيلة السوء بصبيان جلوس في السوق يناديهم اصحابهم: غنينا لكم فلم ترقصوا و نحنا لكم فلم تبكوا، اتاكم يحيى لا يأكل و لا يشرب/ فقلتم: لا يأكل و لا يشرب، و أتاكم من البشر اكول شروب فقلتم: اكول شروب يدخل بيوت الزناة و يجالس الخطائين.
و فيه انه مرّ «1» على شمعون الصفا فقال له: يا شيطان.
(1/161)
و فيه أنه قال لبني إسرائيل: يا حيّات، اولاد الافاعي، تقرؤون الكتاب و لا تعقلون، تغسلون خارج الإناء و داخله مملوءة قذرا، تطلبون البر و البحر و السهل و الجبل صاحبا لكم، فلو أوجدتموه علّمتموه طرائقكم حتى يصير شرا منكم، فلا أنتم دخلتم ملكوت السماء، و لا تركتم الناس يدخلون ملكوت السماء اذ لم تدخلوا.
فإن قال قائل: لعمري قد تبيّن ان النصارى قد قالت في عيسى بن مريم عليه السلام: انه ليس بنبي و لا رسول للّه و لا بعبد صالح، و انه إله
__________________________________________________
(1) في الاصل مرة، و لعل الاصح ما اثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:145
و رب و خالق و رازق، و ان اللّه ثالث ثلاثة، و انه قتل و صلب. و قد قال صاحبكم في كتابكم: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» «1» فقالت النصارى: فهذا كذب، فانا و إن قلنا فيه انه إله فما قلنا في امه انها إله.
(1/162)
قيل له: ما خبر عنهم انهم قالوا ذلك، و ما هاهنا خبر فيقع فيه صدق او كذب، و إنما قال «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» و ليس هذا خبرا، و لا من لا يعرف من العربية قليلا و لا كثيرا، و إنما ظاهر هذا القول الاستفهام و الاستعلام، و اللّه جل ثناؤه لا يجوز عليه ذلك، لأنه إنما يستعلم و يستفهم من لا يعلم ما استفهم و سأل عنه، و إنما معناه التقرير لاستخراج الجواب من المسؤول. و هذا كقوله لموسى صلى اللّه عليه: «وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى » «2» و هو عز و جل اعلم بذلك من موسى. و لقوله لإبليس: «ما مَنَعَكَ/ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «3» و اذ أمرك، و هو عز و جل اعلم من إبليس بالمانع له فقال للمسيح: هل قلت هذا في نفسك او في امك الوالدة لك و هي اخص الناس بك و أوجبهم حقا عليك و أجلهم عندك، لتتبين براءة ساحته عليه السلام من كل وجه. فقد بطل ما ظنه السائل من ان هذا خبر و هذا جواب شاف كاف.
و أيضا ففي النصارى من قد قال بمعنى هذا و ان لم يصرح بلفظه، لأنهم قالوا إن مريم صفت حين قبلت الجوهر الإلهي و ولدته، و كل جوهر لا يقبل
__________________________________________________
(1) المائدة 116
(2) طه 17
(3) الاعراف 12، و قد اثبتت القراءتين: اذ امرتك و اذ امرك
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:146
إلا ما في جوهره و سنخه «1» و لا يلد إلا ما في جوهره، و هذا جواب ثان بين نيران فيهم من قد صرح بذلك. و هذا بين في كتب البيعة الموجودة بكور الاهواز و غيرها من كور العراق بالقلم السرياني، و قد ترجم منه في رسالة كتبها عبد يسوع بن بهرين اسقف حران و الرقة و المصيّر بعد ذلك مطرانا على الموصل و الجزيرة الى قس يعقوبي يقال له بادوس: انت لا تنكر ان البتول الطاهرة إله كما تراه انت، بل إنسان كما نراه نحن».
(1/163)
و هذا تصريح من هؤلاء بأن مريم إله و النسطورية تخالفهم في ذلك و تجادلهم، و هذا بيّن و انما ينكره من لا يعرف أقاويل النصارى و حقيقة النصرانية.
و على ان هذه الطوائف الثلاث منهم من يقول في مريم انها ام المسيح بن اللّه في الحقيقة و والدته في الحقيقة، لا ام لابن اللّه الالهي، و لا والدة لابن اللّه غيرها، و لا أب لابنها إلا اللّه، و لا والد لابنها إلا اللّه، و ان اللّه اختارها لنفسه و لولادة ولده و ابنه من سائر النساء، و لو كانت كسائر النساء/ لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، و انما اختصت بهذا لأنها حبلت بابن اللّه و ولدت ابن اللّه الذي لا ابن له في الحقيقة إلا هو و لا ولد له إلا هو، و أنها على العرش جالسة عن يسار الرب والد ابنها، و ابنها عن يمينه. و هم يدعونها و يسألونها سعة الرزق و صحة البدن و طول العمر و غفران الذنوب، و ان تكون لهم عند ابنها و والد ابنها سورا و سندا و ذخرا و شفيعا و ركنا. فلو ان انسانا عظّم انسانا عشر هذا التعظيم و قال فيه عشر هذا القول لجاز في
__________________________________________________
(1) السنخ: الاصل، و من السن منبته، و من الحمى سورتها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:147
لغة العرب بل في كل لغة ان يقال قد اتخذه إلها. ألا ترى الى قول اللّه تعالى «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1»» و هم ما صاموا لهم و لا صلوا و لكن قلدوهم، فحرموا عليهم الحلال فحرموه، و أحلوا لهم الحرام فاستحلوه، و هذا دون ما قالوه في مريم.
(1/164)
و في هذا المعنى قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «تعس عبد الدنيا و تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة «2»» لما غلب عليه حب ذلك و شغفه به صار كالعبد له، فلو لم يكن معنا تلك النصوص فيمن قال منهم إنها إله فكان معنا خبر و نص أنهم ما قالوا انها إله لجاز مع هذا التعظم ان يطلق، فكيف و ما اخبر انهم ما قالوا انها إله، و لقد عظموها و رفعوها على الملائكة و الأنبياء و قالوا فيها ما يقال في الإله، و سألوها ما يسأل الإله من العافية و الكفاية في الدنيا و الآخرة كما قد تقدم لك ذلك حتى ان اليعقوبية لتقول في مناجاتها لمريم عليه السلام:
يا مريم يا والدة المسيح كوني لنا سورا و سندا و ذخرا و ركنا، و النسطورية تقول: يا والدة المسيح كوني لنا كذلك، و يأنون مسألة اليعقوبية و يقولون لليعقوبية: لا تقولوا/ يا والدة اللّه و قولوا يا والدة المسيح، فتقول اليعقوبية لهم: فالمسيح عندنا و عندكم إله في الحقيقة فأي فرق بيننا و بينكم في معنى هذا، و لكنكم أردتم ان تمخرقوا عند من لا يعرف هذا من قولنا و قولكم فتوهمونه انكم تتنزهون عن هذا و أنكم تقاربون المسلمين في التوحيد.
و اعلم ان أفجاج النصارى يعتقدون ان اللّه اختار مريم لنفسه و لولده
__________________________________________________
(1) التوبة 31
(2) حديث تعس عبد الدينار، هداية الباري الى ترتيب احاديث البخاري 1: 314 في كتاب الجهاد باب الحراسة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:148
(1/165)
و تحظّاها كما يختار الرجل المرأة و يتحظاها لشهوته لها، و قد حكاه النظّام و الجاحظ، و قال: إنما يفصحون بهذا عند من يثقون به. و قد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في «المعونة» و قال: اليه يشيرون، ألا ترى انهم يقولون لو لم يكن والدا لكان عقيما و العقم آفة، و هذا قول جميعهم و الى البضاع يشيرون. و انت تجد ذلك في كتاب «المعونة» «1» و في كتاب الجاحظ على النصارى، و أظن ابا جعفر الإسكافي قد ذكر هذا في كتابه على النصارى، و كل من خالط الرهبان و أرباب البيع و طاولهم و أنسهم عرف ذلك منهم.
فإن قال قائل: ادعيتم ان هذه الطوائف قد خالفت المسيح في الأصول و الفروع و قد عرفنا بما ذكرتم مخالفتهم له في الاصول فمن اين لكم انهم قد خالفوه في الفروع؟ قيل له: كان المسيح يتدين بالطهارة، و بغسل الجنابة، و بوجوب غسل الحائض، و هذه الطوائف لا تختلف بأن ذلك ليس بواجب، و ان للانسان ان يصلي و هو غير مطهر و غير مستنج، و يصلي و هو جنب، و لا يختلفون في ان الجنابة و البول و الغائط و غير ذلك لا يقطع الصلاة، و ان المصلي له ان يصلي و هو يبول و هو يتغوط و هو يجامع و ان كان الجماع في زنى، فما هذا شي ء يقطع الصلاة و لا يفسدها/ بل الافضل عندهم ان يصلي و هو جنب و هو يتغوط و يبول و يضرط، لأن ذلك ابعد من صلاة المسلمين و اليهود، و كل هذا خلاف صلاة المسيح.
و كان المسيح يقرأ في صلاته ما كان الانبياء و بنو اسرائيل قبله و في زمانه، و في زمانه يقرؤون من كلام اللّه و من قول اللّه من التوراة و من زبور داود،
__________________________________________________
(1) المعونة: اسم كتاب لأبي الاخشيد و هو: احمد بن علي، يتكلم على مذهب المعتزلة، و له آراء خاصة يخالف بها الكثيرين منهم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:149
(1/166)
و هذه الطوائف من النصارى انما تقول في صلاتها كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون و يصلون بهم، فجرى مجرى النوح و الأغاني فيقولون: هذا قداس فلان، ينسبونه الى الذين وضعوه.
و هم يصلّون الى المشرق و ما صلى المسيح الى ان توفاه اللّه إلا الى المغرب و بيت المقدس، و قبله داود و الانبياء «1» بنو اسرائيل، و قد اختتن المسيح و اوجب الختان كما اوجبه من قبله موسى و هارون و الانبياء، و ما صام هو و اصحابه الى ان خرج من الدنيا الا اليوم الذي صامه بنو اسرائيل.
فأما هذه الخمسون يوما التي تصومها النصارى، و صوم نينوي، و صوم العذارى، فما صام شيئا منها قط، و لا اكل في الصوم ما يأكلونه، و لا حرّم فيه ما يحرمونه، و لا اتخذ يوم الاحد عيدا قط، و لا بنى بيعة قط، و لا عطل يوم السبت ساعة واحدة، و لا اكل خنزيرا قط بل حرمه و لعن أكلته كما فعل الانبياء قبله.
و النصارى تزعم انه رقى مريم المجدلانية فأخرج منها سبع شياطين، و ان الشياطين قالت له: اين نأوي؟ فقال لها: اسلكي هذه الدابة النجسة، يعني الخنازير. و حرّم ذبائح من ليس من اهل الكتاب و حرم مناكحتهم، و سار في المناكح و الطلاق و المواريث و الحدود سيرة الانبياء قبله، و ليس عند هؤلاء النصارى على من زنى او لاط او افترى او سكر حدّ البتة و لا عذاب في الدنيا و لا في الآخرة/.
و في الجملة إن المسيح جاء لإحياء التوراة و إقامتها، و قال: إنما جئتكم
__________________________________________________
(1) في الاصل: و بني
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:150
(1/167)
لأعمل بالتوراة و بوصايا الانبياء قبلي، و ما جئت ناقضا بل متمما، و لأن تقع السماء على الارض ايسر عند اللّه من ان تنقض شيئا من شريعة موسى، و من نقض شيئا من ذلك يدعى ناقصا في ملكوت السماء. و ما زال هو و أصحابه كذلك الى ان خرج من الدنيا و قال لأصحابه اعملوا كما رأيتموني اعمل و وصوا الناس بما وصيتكم به، و كونوا معهم كما كنت معكم، و كونوا لهم كما كنت لكم. و ما زال اصحابه بعده على ذلك و كذلك، ثم الذين بعد القرن الاول من اصحابه، ثم من بعدهم بالدهر الطويل. ثم اخذوا في التغيير و التبديل، و البدع في الدين، و طلب الرئاسة، و التقرب الى الناس بما يهوون، و مكايدة اليهود و شفاء الغيظ منهم و إن كان فيه ترك الدين. و هذا بين في الاناجيل التي معهم و إليها يرجعون، و في كتابهم المعروف بكتاب افراسكس «1»، فان فيه ان قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس و أتوا انطاكية و غيرها من الشام؛ فدعوا الناس الى سنة التوراة، و الى تحريم ذبائح من ليس من أهلها، و الى الختان، و الى اقامة السبت، و الى تحريم الخنزير، و الى ما حرمته التوراة. و ان ذلك شق على الامم و استثقلوه، فاجتمع النصارى ببيت المقدس، و تشاوروا فيما يحتالون به على الامم ليجيبونهم و يطيعونهم، فأوجب رأيهم مداخلة الامم و الترخص لهم و الانحطاط في اهوائهم، و ترك مخالفتهم، و الاختلاط بهم، و الأكل من ذبائحهم، و التخلق بأخلاقهم، و تصويبهم فيما هم عليه. و انشؤوا في ذلك كتابا. و قد قال بولس في الكتاب الذي يسمونه السليح: انا قلت لهم الى كم تهودون الناس؟
و قال في السليحين: كنت مع اليهودي يهوديا و مع الرومي روميا،
__________________________________________________
(1) اي كتاب الحواريين، انظر الفهرست ص 41
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:151
(1/168)
و مع الارمائي ارمائيا «1». و بولس هذا عندهم اجلّ من موسى و هارون و داود و جميع الانبياء، و إذا قرئت رسائله و كلامه في البيعة قاموا قياما اعظاما و اجلالا له و لكلامه؛ و لا يفعلون ذلك بالتوراة التي هي عندهم كلام المسيح و هو كتبها لموسى و أرسله الى خلقه و خلق له البحر و قلب له العصا حية، و لا في الاناجيل و فيها كلام المسيح. و هو يقول لليهود: التوراة سنة حسنة لمن عمل بها، و يقول للروم و غيرهم من اعداء موسى و الأنبياء:
التوراة مهبجة للبشر، و إذا وضع عن الناس شرائع التوراة فقد كمل بر اللّه و تمّ فضله، هذا كله مع النصارى و أعظم منه و أفحش. و قد عملوا عمل المسيح بالتوراة و وصيته الناس بالعمل بها.
انظر كيف ينسلخ الناس من العمل بشرائع الانبياء الذين يدعون انهم عليها و يخرجون منها، و اعتبر و كن على حذر، فقد بدت هذه السيرة في هذه الأمة، فكم فيهم ممن قد عطل وصايا النبي صلّى اللّه عليه و سلم و نبذ سنته و هجر كتابه لأنه زعم انه مغير مبدل، و آخر يقول له باطن غير ما عليه الفقهاء و العلماء، الى غير ذلك من انواع البدع التي قد نشأت في الاسلام و غلب اهلها بالكثرة اهل الحق فيبدعونهم و يسبونهم و ينفروا عنهم، و هكذا تتغيّر ملل الانبياء عليهم السلام و يموت العلم، كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إن اللّه لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال، و لكن يموت العلم بموت العلماء، فاذا ماتوا اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا» «2»./ ثم
__________________________________________________
(1) على هامش الصفحة كتب: «الأرمائي من يعبد الكواكب و الأوثان» بخط مختلف عن خط الاصل، و يظهر انه خط ناسخه، او المعلق عليه.
(
(1/169)
2) كتب الناسخ على هامش الصفحة: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: ان اللّه لا ينتزع العلم انتزاعا من صدور الرجال الى آخره» و الحديث في الجامع الصغير (شرح المناوي) 3: 272 رواه الامام احمد في سنده و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن باجه عن ابن عمرو باسناد صحيح.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:152
المستأكلة و من تكسب بالدين، و قد قال اللّه عز و جل: «يا ايها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل اللّه» فهؤلاء العباد و هؤلاء العلماء و قد عرفك اللّه حال كثير منهم، فكيف بمن ليس بعالم و لا عابد. فاحذر كما حذرك اللّه، و اقبل وصية رسول اللّه عليه السلام.
و اعلم ان دين المسيح و ديانات الرسل عليهم السلام لم تتغير و لم تتبدل جملة واحدة و لكن شيئا بعد شي ء، و في كل عصر و في كل حين حتى تكامل تغيرها، و ما زال اهل الحق فيها يقلون و أهل الباطل يكثرون حتى غلبوا و مات بهم الحق. فكان اصحاب المسيح بعده مع اليهود و بني اسرائيل في كنائسهم يقيمون صلاتهم و أعيادهم في مكان واحد و بينهم الخلاف في شأن المسيح، و كانت الروم تملكهم، و كانت النصارى تشكو اليهود الى ملوك الروم، و تبدي لهم الضعف الذي فيهم و تسترحمهم فيرحمونهم، و كثر هذا فكانت الروم تقول لهم:
بيننا و بين اليهود عهد ان لا نغير اديانهم، فلو خرجتم من أديانهم و فارقتموهم و صليتم الى المشرق كما نصلي و أكلتم ما نأكل و استبحتم مما نبيح نصرناكم و أعززناكم، و لم يكن لليهود عليكم سبيل بل صرتم اعز منهم.
(1/170)
قالوا: نفعل. قالوا فاذهبوا فهاتوا اصحابكم و هاتوا كتابكم. فجاؤا بأصحابهم فأخبروهم بما كان بينهم و بين الروم، و قالوا لهم هاتوا الانجيل و قوموا حتى نصير اليهم، فقال اولئك لهم: بئس ما صنعتم و لا يحل لنا ان نمكن الروم الانجاس من الانجيل و قد خرجتم انتم من الدين/ بإجايتكم الروم، و لا يحل لنا مخالطتكم، بل وجبت البراءة منكم و منعكم من الانجيل و الوصول اليه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:153
(1/171)
فوقع بينهم الخلاف الشديد. و عادوا اولئك الى الروم و قالوا لهم: أعدونا «1» على اصحابنا هؤلاء قبل اليهود، و خذوا لنا منهم كتابنا، فاستتر اولئك من الروم و فروا في البلاد. فكتب الروم فيهم الى عمالهم بنواحي الموصل و بجزيرة العرب. فطلبوا، فوقع منهم قوم فأحرقوا و قوم فقتلوا، و اجتمع الذين أجابوا الروم و تشاوروا فيما يعتاضون عن الانجيل إذ قد فاتهم، فتقرر رأيهم على أن ينشئو انجيلا. و قالوا إنما التوراة موالد الانبياء و تواريخ اعمارهم فنبني الانجيل على ذلك، و يذكر كل واحد منا ما حفظه من ألفاظ الانجيل و مما تحدث به النصارى عن المسيح. فكتب قوم انجيلا. ثم أتى من بعدهم قوم و كتبوا انجيلا، و كتبوا عدة أناجيل، و سقط عنهم الكثير مما في الأصل. و كان فيهم الواحد بعد الواحد ممن يعرف امورا كثيرة في الانجيل الصحيح فأمسكوا عنها لتتم رئاستهم، و لم يكن في ذاك ذكر الصليب و لا الصلبوت، و هم يزعمون انها كانت ثمانين انجيلا، فلم تزل تقل و تختصر حتى بقي منها اربعة اناجيل لأربعة نفر عمل كل واحد في عصره انجيلا، و جاء من بعده فرآه مقصرا فعمل انجيلا هو عنده أصح من انجيل غيره و اقرب الى الصحة. ثم ليس فيها انجيل بلغة المسيح التي كان يتكلم بها هو و أصحابه و هي العبرانية لغة ابراهيم الخليل و سائر الأنبياء، بها تكلموا و بها نزلت كتب اللّه على هؤلاء و غيرهم من بني اسرائيل، و بها خاطبهم اللّه، فتركها هؤلاء. و قد قالت العلماء لهم: عدو لكم معشر النصارى عن اللغة العبرانية و هي لغة المسيح و الأنبياء قبله عليهم السلام/ الى صائر اللغات حتى
__________________________________________________
(1) هكذا في الاصل، لعلها: ساعدونا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:154
(1/172)
ما من نصراني يتلو هذه الأناجيل في فرض من فروضه بلغة العبراني حيلة و مكيدة و فرارا من الفضيحة. فقال الناس لهم: انما وقع العدول عنها لما قصده أصحابكم الأولون من الادّغال في المقالات، و احتيالا في تدليس ما وضعوه من الأكاذيب و سترا لما احتالوا طلبا للرئاسة، و ذلك ان العبرانية هم كانوا اهل الكتاب و اهل العلم في ذلك الزمان، فغيّر هؤلاء النفر اللغة بل عدلوا عنها كلها لئلا يفهم اهل العلم مذهبهم و قصدهم لسترها فيفتضحوا قبل تمكن مذهبهم و لا يتم لهم. فعدلوا الى لغات كثيرة ما تكلم المسيح و أصحابه بها، و ليس اهلها من اهل الكتاب، و لا لهم علم بكتب اللّه و شرائعه، كالروم و السريانيين و الفرس و الهند و الارمن و غيرهم من الأعاجم، و تلبيسا و احتيالا لستر العورة و تمام البغية في طلب الرئاسة من اولئك القوم القليل الذين طلبوها بالدين. و لو لا دلك للزموا لغة ابراهيم و ولده و المسيح الذين بهم قامت البيّنة، و عليهم أنزلت الكتب، و كان ذلك أولى بإثبات الحجة على بني اسرائيل و كفرة اليهود اذا ادعوا بلسانهم، و نوظروا بلغتهم التي لا يمكنهم دفعها. فاعرف هذا فانه اصل كبير.
و اعلم رحمك اللّه، ان هذه الطوائف الثلاث من النصارى لا تعتقد ان اللّه أنزل على المسيح انجيلا و لا كتابا بوجه من الوجوه، بل عندهم ان المسيح خلق الأنبياء و أنزل عليهم الكتب، و ارسل اليهم الملائكة. و انما معهم اربعة أناجيل لأربعة نفر، كتب كل واحد منهم انجيله في زمانه، و جاء من بعده فما رضي انجيل غيره، و كان انجيله أولى. و هم يتفقون في مواضع و يختلفون/ في مواضع، و في بعضها ما ليس في بعض، و هي حكايات قوم رجال و نساء من اليهود و الروم و غيرهم انهم قالوا كذا، و فعلوا كذا، و فيها من المحال و الباطل و السخف و الكذب الظاهر و التناقض البيّن شي ء كثير. و قد تتبعه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:155
(1/173)
الناس و أفردوه، و اذا قرأه المتأمل عرف ذلك. و فيها شي ء من كلام المسيح و وصاياه و أخباره قليل. فإنجيل منها عمله يوحنا، و انجيل منها عمله متى، ثم جاء بعدهما مرقس فما رضي بانجيليهما، ثم جاء بعدهم لوقا فما رضي بتلك الاناجيل فعمل انجيلا آخر، و كان عند كل واحد من هؤلاء ان صاحبه الذي تقدم و عمل انجيلا أنه قد ضبط أشياء و أخل بأشياء، و غيره اعرف و اضبط.
و لو كان من قبله قد ضبط و اصاب لما احتاج ان يعمل هو انجيلا آخر غير انجيل صاحبه، و ليس احد هذه الاناجيل شرحا للآخر، كما يشرح من تأخر كتاب من تقدم فيحكي كلامه على وجهه ثم يشرحه. فاعرف هذا و انما وضعه لأن غيره قد قصر.
و عند هؤلاء الطوائف من النصارى ان هؤلاء الاربعة اصحاب المسيح و تلاميذه، و هم لا يعلمون و لا يدرون من هم و لا معهم في ذلك إلا الدعوى فقط، بل قد ذكر لوقا في انجيله انه ما رأى المسيح، فقال لوقا مخاطبا للذي عمل له انجيله و هو آخر من عمل من الاربعة: «عرفت رغبتك في الخير و العلم و الأدب فعملت هذا الانجيل لمعرفتي و لأني كنت قريبا الى الذين خدموا الكلمة و رأوها» «1». فهو قبل كل شي ء قد أفصح بأنه ما رأى الكلمة- يعنون بالكلمة المسيح- ثم ادعى انه رأى من رأى المسيح، و ليس هاهنا إلا دعوى بأنه رآهم و لو كان ثقة لما علم بخبره شي ء، و مع هذا فقد ذكر ان انجيله أولى من انجيل غيره/. فلو تأمل النصارى لعلموا انهم ليسوا على شي ء من هذه الأناجيل التي معهم، و لا معهم علم مما يدعيه اربابها
__________________________________________________
(1) كتب الناسخ في الهامش: الاناجيل الاربعة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:156
و الواضعون لها، و ان الامر في ذلك على ما ذكرنا. و هو معلوم مذكور في انصرافهم عن ملة المسيح الى مذاهب الروم و تغريرهم و تعجلهم المنافع بسلطانهم و اموالهم.
(1/174)
و قد كان بولص هذا يهوديا خبيثا شريرا، ساعيا في الشر، و معينا للأشرار، و ثائرا في الفتن، طالبا للرئاسة و الدولة، محتالا فيها بكل وجه، و كان يقال له و هو يهودي: شاؤول، و كان يعين على النصارى. ثم خرج عن بيت المقدس و غاب غيبة طويلة، و عاد الى بيت المقدس و أخذ يعين النصارى على اليهود و يقول لهم: قولوا كذا، و اصنعوا كذا، و فارقوهم و قاربوا الامم التي تعادي اليهود. فقال له اليهود: كيف صرت نصرانيا و ما الذي دعاك الى هنا؟ فقال: اللّه تبارك و تعالى دعاني الى ذلك، و كان من قصتي اني خرجت من بيت المقدس أريد دمشق، فأدركني الليل بظلمته رهبّت ريح عظيمة و ذهب بصري، و ناداني الرب و قال لي: يا شاؤول أتلاطم الأشقاء تؤذي اصحاب ابني؟ فقلت: يا رب قد تبت، فقال لي:
ان كان كما تقول فاذهب الى حاييم اليهودي الكاهن ليرد اليك بصرك، فذهبت اليه و خبرته، فمسح يده على بصري فسقط منه مثل قشور البيض و فلوس السمك، و أبصرت كما كنت، و ان اللّه استدعاني اليه الى السماء، فأقمت عنده في السماء اربعة عشر يوما، و وصاني بأشياء كثيرة، و قال لي: فيكم أمورا قبيحة لا اقولها لكم «1».
فسخر منه اليهود و تعجبوا من حمقه و قحته، و صاروا به الى صاحب
__________________________________________________
(1) جاء في انجيل لوقا: «اذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصة في الامور المتبقية عندنا كما سلمها الينا الذين كانوا منذ البدء معاينين و خداما للكلمة، رأيت انا ايضا اذ قد تتبعت كل شي ء من الاول بتدقيق، ان اكتب على التوالي اليك ايها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به» الاصحاح الاول 1- 5
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:157
قيصر ملك الروم عليهم، و كانوا إذ ذاك/ مغلوبين مع الروم. فقالوا له:
(1/175)
أما تعرف شاؤول هذا؟ فقال: بلى، اعرفه بالشر و هو يجيئنا في السعايات بالناس. فقالوا له: انه قد ادعى كذا و كذا، و ذكروا له ما قال. فاغتاظ الرومي منه و أمر به فبطح ليضرب، فقال له: اتضرب روميّا؟ فقال:
أو رومي انت؟ قال: نعم، انا على دين قيصر ملك الروم و برى ء من اليهودية، فكف عنه لدخوله في دين الملك، و قال له: هاهنا مركب يأخذ الى القسطنطينية و أنت رومي و على دين الروم، فكن هناك ان كنت كما تقول، فقال: افعل، أنفذني الى بلاد الروم. فصار الى القسطنطينية، و تردد الى الروم، و لزم باب الملك و أغرى الروم باليهود، و ذكرهم عداوتهم لهم، و ما صنع بنو اسرائيل بهم، و من قتلوا منهم، و خوّفهم شر اليهود، و انهم لا يأمنون دولتهم و الكرّة عليهم، و ذكر لهم كثرة اموالهم.
و من عادة الروم لا تحتجب نساؤهم عن الرجال، و تركب امرأة الملك في موكب الملك مكشوفة الوجه، و تخاطب الناس، و تأمر و تنهي، فتقرب بولس هذا اليها و خاطبها في شأن اليهود. و من عادة الروم أن لا يحل للرجل ان يتزوج بأكثر من امرأة واحدة ثم لا يفرق بينهما طلاق و لا هرم و لا عيب من العيوب بوجه و لا سبب، و لا يحل له غيرها الى ان تموت.
و نساء الروم تبغضن ديانات الانبياء من بني اسرائيل لما فيها من إباحة الطلاق و أن للرجل ان يتزوج ما أطاق المؤونة.
فقيل الشاؤول: انت من امة هذا سبيلها، فقال: لا، و ما يحل للرجل اكثر من امرأة واحدة على احكام الروم، فنفق على النساء بهذا. و قرب من امرأة الملك فخاطبت الملك في غزو بين اسرائيل، و ذكرت له ما يقول شاؤول، و سألته ان يسمع منه ففعل. و تقرب اليهم/ بأن تسمي بولص و هو
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:158
من اسماء الروم، و الروم تكره الختان شديدا في الرجال و النساء، و تبعض الامم الذي تفعله. فقالوا لبولص في ذلك، فقال: نعم، هو ما ترون، و ما يجب عليكم ختان، و إنما يجب على بني اسرائيل فانها امة قلفتها في قلوبها.
(1/176)
و الروم تأكل الخنزير، فقال: ما هو حرام و ما يحرم على الانسانشي ء يدخل جوفه و إنما يحرم عليه الكذب الذي يخرج منه، و بنو اسرائيل لا تأكل ذبائح الوثنيين و من ليس من اهل الكتاب و الروم ليس كذلك، فصوّبهم بولص في هذا و نفق عندهم بكل شي ء و ما خالفهم في شي ء، و كانت ديانات الروم اذ ذاك مننشرة أكثرهم يعظم الكواكب و يعتقد فيها انها تحيي و تميت و تنفع و تضر و لهم عندها هياكل و قرابين، و منهم من كان على دين اليونانين من ان هذه الكواكب حية ناطقة رازقة و هي الأرباب، و يعتقدون صحة السحر، بالجملة إن دياناتهم كلها باطلة ضعيفة فاسدة. و كان بولص يذكر لهم فضل المسيح و زهده و انه كان مجاب الدعوة و كان يحيي الموتى، فكانوا يجتمعون اليه و يستمعون منه، و كان محتالا لا خبيثا، و كان الروم تصلي الى مشرق الشمس و لا ترى وجوب الوضوء و لا غسل الجنابة و لا الحائض و لا التوقي من البول و الغائط و الدم و لا تراه فحشا، و ان الروم تزوج الوننيين و سائر الامم و بنو اسرائيل لا تفعل ذلك، فقالت الروم لبولص في ذلك، فقال: تزوج المؤمنة بالكافر فانها تطهره و لا ينجسها و الولد بينهما طاهر. و قال: هذا انما تحرمه التوراة، و التوراة شر كلها و اذا وضع عن الناس شرائع التوراة فقد كمل برّ اللّه و تم فضله. فاختلع بولص من ديانات المسيح/ و صار الى ديانات الروم. فاذا تبينت الامر وجدت النصارى تروموا و رجعوا الى ديانات الروم و لم تجد الروم تنصروا.
ثم قبل الملوك سعايات بولص باليهود و اخذ برأيه فيهم، فصار اليهم و قتل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:159
(1/177)
منهم القتل العظيم و اخذ اموالهم و استصفاهم و عاد من عندهم بالرغائب، فقامت سوق بولص فيهم و ازدادوا له حبا، و هذا الملك الذي غزا بني اسرائيل يقال له ططّس «1». و قد كان للروم ملك يقال له بيلاطس خرج الى الشام بعد المسيح عليه السلام و بعد اصحابه بالمدد الطويلة، و كانت له امرأة ببلاد الروم فماتت، فأراد ان يتزوج امرأة مكانها، و من عادة الروم ان يعترض الرجل المرأة اذا اراد التزويج و يقلبها و يستقصي تفتيشها فإن صلحت له تزوجها، و ان لم تصلح تركها. فوصف لبيلاطس امرأة بحران يقال لها هيلانة «2» تكون في فندق بحرّان- و الفندق هو الخان- فأشخصها و قلبها و ارتضاها و تزوجها- و كانت نصرانية- فحظيت عنده، و سألته إعزاز النصارى و الاحسان اليهم، فقال لها: إن اليهود يزعمون ان اصحابك هؤلاء اصحاب حيل و طلاب دنيا و رئاسة، فقالت: كذبوا، و انما اجيئك بهم لتراهم. فأنته بجماعة من الرهبان و قالت له: انظر اليهم و الى مسكنتهم و ضعفهم لتعلم كذب اليهود عليهم. فرحمهم و رقّ لهم و ظن الجميل بهم، فأعزهم و صانهم و مكّن لهم في ممالكه بالشام و بلاد الروم، و احسن اليهم، فانبسطوا و كثروا و استطالوا على اليهود/. و كان لهذا الملك اولاد من المرأة التي كانت قبل هيلانة، و ولد له من هيلانة هذه ابن يقال له قسطنطينوس.
و قد كان امر بولص عظم ببلاد الروم مع العامة و الغوغاء و استهواهم بما يجري مجرى الرقى و الطب و الشعبذة و السحر، و الروم الارمن تصدق بهذا كله و هي امة مفرطة الجهل بعيدة مما يستدرك بالفكر و النظر، يغلب عليها
__________________________________________________
(1) و قد ارسل بولس الى تيطس رسالته المشهورة حوالي سنة 65 م
(2) في الاصل: هيلانية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:160
(1/178)
الفدامة و البلادة سيما في العامة فهي لا تعرف إلا المهن و الصنائع، و ان كانت ملوكها تتقدم في ظاهر الحياة الدنيا و تدبير الملك. ففطن بعض ملوكهم لبولص و تصفج احواله و حصّله و علم انه محتال ممخرق طالب دنيا و رئاسة، فأحضره و سأله عن الختان فذمه و ذم اهله و من يفعله فسأله عن المسيح هل اختتن؟ و هل كان مختونا؟ و هل كان اصحابه من الحواريين كذلك؟ قال:
نعم ثم كشف عنه فإذا هو مختون، و وجده قد ساعد الروم في دياناتها و هي خلاف ديانات المسيح و اصحابه و انها كفر و ضلال عند المسيح و اصحابه، و قد كان اصحاب بولص في رجله داء الفيل و هو يدعي انه يطبّ و يبرى ء فأمر الملك به فصفع و حلقت لحيته و صلب. فقال لهم: لا تصلبوني طولا كما صلب ربنا المسيح، و لكن اصلبوني عرضا. و الملك الذي صنع هذا ببولص يقال له بيرن، ففترت النصرانية ببلاد الروم و انكسروا. و ملك اولاد بيلاطس بعده، و انتهى الملك الى ابنه قسطنطينوس، و كان ظاهره على ديانات الروم غير ان والدته هيلانة هذه قد/ غذته بحب الصليب، و عودته عادة النصارى و ما يقولونه في المسيح، و ظهر في جسمه برص و كانت الروم لا تملّك عليها من به برص، بل كان محرما عندها تمليك البرص. فغمّه ذلك و أهمه و كتمه و انطوى على قمع الروم و صرفها عن هذا الرأي في كراهة تمليك البرص، و كانت تغزوهم امم فاتفق غزو السرجان و البربر إياهم فعبّا عساكره على هياكل الكواكب، و قصد الى مشيخة الروم و الراسخين في ديانات الروم و انفذهم الى العدو، و لم يستظهر لهم على عدوهم بالمكائد و الجواسيس كما يفعل الملوك و من يدبر العساكر فتم عليهم ما يكرهون من القتل و انهزام من بقي فكان يظهر الحزن و الكابة و يقول: قد استظهرنا و عبّأنا على هياكل الكواكب التي تعظمها و قد عظمتها آباؤنا قبلنا، و قربنا لها القرابين، و ما نراها تنفعنا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:161
(1/179)
و لا تغني عنا، و ما زال يدبرهم بهذا التدبير و يقول هذا القول، و انه ما ينبغي ان يعبد احد ما لا ينفعه، و هذا وقت الحاجة و اوان الشدة فما تدفع هذه الكواكب عنا، فينبغي ان يستبصر الانسان و يعبد ما ينفعه و يدفع عنه. ثم قال: هاهنا امرأة رأت في منامها قائلا يقول لها استنصروا بهذا، و اخرج اليهم صليبا. و اتفق موت امير الجند الذي غزاهم فانصرفوا عنهم، فقال هو و من كان على رأيه و هواه هذا ببركة الصليب. و كانت عادة الروم ان تجعل على راياتها الأهلة و ما هو على صورة الهلال تبركا بالقمر و النجوم و لأن القمر/ اخف الكواكب سيرا، فحطوها و جعلوا مكانها الصلبان فهم على هذا الى هذه الغاية.
ثم ابتدأ في التدبير في نقل الروم عن تعظيم الكواكب الى تعظيم الصلبان، و كان الفلاسفة في بلدهم كثيرين، و كانوا يعظمون الكواكب، و يدعون انها حية ناطقة، و يستطيلون على الناس، و يدلون على الملوك، و يدعون انهم أخص الخاصة، و لا يتكسبون، و يعتادون البطالة، و يعولون على اموال الناس، و يفسدون الأحداث و من يصغي اليهم من ملك او سوقة، و يدعون العزائم و الطلسمات و انهم ينفعون بها و يضرون، و انهم يدركون علم المغيبات بصنعة النجوم، و يهولون بالهندسة و الأشكال. و كان قسطنطينوس هذا خبيثا مفكرا صبورا متصفحا امر هؤلاء الفلاسفة و ما يدعونه في النجوم و الطلسمات فوجده باطلا كله، وجد القوم محتالين ممخرقين و مفسدين، فابتدأ في قتلهم على طبقاتهم، و في احراق كتبهم و ابطال هياكلهم. فمكث على ذلك حتى خلت أبنيته منهم، و كانت مدينة الفلاسفة فما بقي منها إلا حرّاث و دبّاغ و صبّاغ، و جعل الهياكل التي كانت للكواكب بيعا، و أسكنها الرهبان و قال: هؤلاء المساكين أرجى من اولئك الجهال الممخرقين الكذابين، و سلط
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:162
(1/180)
الرهبان و العامة عليهم في كل مكان، لا يظهرون بكتاب طب و لا هندسة إلا أحرق و بادر على من كان على رأي الفلاسفة فتبرأ منهم، و أعان عليهم، و انبسطت أمه هيلانة في ذلك، و بسطت الرهبان و النصارى/ و استعدتهم «1» من كل مكان فجعلتهم اصحاب اخبار لابنها و أعوانا، و استظهرت بهم، و اظهر هو تعظيم المسيح و الصليب، و أقام ديانات الروم على حالها كما كانت من الصلاة الى المشرق و غيرها مما تقدم ذكره، فما أزال إلا عبادة الكواكب و ما زاد إلا تعظيم المسيح و القول بربوبيته، و تعظيم الصليب. و لم يكن هذا بالبعيد عن الروم لأن من اعتقد في الكواكب و هي جماد موات أنها أرباب و تنفع و تضر لم يبعد عنهم ان يقولوا في انسان حي عاقل مميز قد قيل لهم انه كان يحيي الموتى، و انه إله، و انه و ابوه و زوجته خلقوا الكواكب. و كان هذا سهلا على اهل المغرب، ألا ترى ان القبط و من بمصر كانوا يعتقدون إلهية فرعون و انه لا إله لهم غيره. و سار قسطنطينوس هذا الى الجزيرة فقصد حرّان و أعمالها و كانوا في تعظيم الكواكب أشدّ مما كان بأثينية و بلاد الروم، فوضع فيهم السيف حتى أبادهم، و هرب من هرب منهم في الجبال فطلبهم بنفسه، و كانوا يعيبون البرص فكان له فيهم فضل حرص، فقال له قواده: لا تبعث في طلبهم فان الثلج الذي في هذه الجبال سيهلكهم، فان بقيت منهم بقية جعلناهم حجامين للروم و جميع النصارى و اصحاب الصوامع و الرهبان ليعرف منهم حقيقة النصرانية و ما ينبغي ان يقرر مما يؤخذ الناس به فلا يتجاوزونهم، و ان من تجاوزه قتل. فاجتمع عنده نحو ألفين من رؤسائهم و قرّر أشياء
__________________________________________________
(1) استعداه: استغاثه. انظر القاموس المحيط.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:163
(1/181)
من تسبيحة الإيمان، و كان فيهم من يخالف اولئك و يقول: كلمة اللّه/ مخلوقة و ان المسيح كلمة اللّه و كان هناك إيرلس و مقدنيوس، و أونامس، و أولو فريانوس و اصحابهم، ممن يقول: الكلمة مخلوقة و كلام اللّه و قوله خلق من خلقه، فشغبوا عليهم و وقف الأمر و بطل ذلك التقرير.
ثم اجتمع بعد ذلك ثلثمائة و ثمانية عشر رجلا بنيقية من بلاد الروم و عملوا تسبيحة ايمانهم التي قد ذكرت، فأتوا بها قسطنطينوس فأخذها و عمل عليها و أخذ الناس بها فمن لم يقبلها قتله. فاحتاج اولئك ان يظهروا قبولها خوف السيف، و أبطل ما سواها عن التقرير، و حصل من كان على دين المسيح في كل مكروه، و اخذوا بتعظيم الصليب و أكل الخنزير و ديانات الروم، و كان من لا يأكله يقتل.
و كان في الصابئين من اهل حران من لا يأكل الباقلاء و يزعم انه عدو للفلك لأنه مكعّب و الفلك كروي، فكان يطبخ الباقلاء في ابواب البيع و يجمع الناس إليها و يقال لهم: اخرجوا و لا يبقى منكم احد إلا اكل الباقلاء و من لم يأكله قتل و رمى برأسه، و هناك سيّافة قد جردوا سيوفهم فمن لم يأكله قتلوه.
و لم يزل قسطنطينوس في الملك خمسين سنة مشغولا بقتل من لم يعظم الصليب و لم يقل بربوبية المسيح حتى تأكد ذلك و تمكن، و اوصى الملوك بعده بذلك و أكد عليهم و عهد فيه اليهم و قال: هو أولى من تعظيم الكواكب و آراء الفلاسفة، و أوثق هذا العهد على اولاده و قواده و اوليائه و جعل الملك في اولاده. و الروم يصفونه بالحزم و الشهامة/ و انه فيهم كأردشير بن بابل «1»
__________________________________________________
(1) ذكر الطبري ملكين من ملوك فارس بهذا الاسم، احدهما: اردشير بن بابك بن ساسان-
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:164
(1/182)
ملك فارس في الفرس. و قام اولاده بعده في الملك فأكدوا عهوده و قرروا في كل حين شيئا بعد شي ء في النصرانية الى ان جاء ملك منهم فرأى ان يجعل يوم الأحد عيدا لهم يجتمعون فيه كما لليهود يوم السبت، و كان هذا بعد قسطنطينوس بالدهر الطويل. و عملوا لذلك سنهودس، و كان للروم و اليونان عيدا يسمونه ميلاد الزمان و هو عند رجوع الشمس في كانون، فجعلوه ميلاد المسيح و زادوا و نقصوا، و هو عيد لهم عظيم و هو الذي يقيمه النصارى و يسمونه الميلاد و ليلة الميلاد و هذا سببه و أصله، و ما كانت النصارى في زمن المسيح و اصحابه من بعده يعرفون هذا العيد و لا يقيمونه. و كان للروم و الصابئين ايام يصومونها تجرى مجرى التقرب الى الكواكب يمسكون فيها عن اكل اللحم، فلما صاروا الى القول بإلهية المسيح أقاموها ثم زادوا فيها من اشياء و نقصوا، و هم اليوم يصومونها خمسين يوما الى زوال الشمس ثم يفطرون في بعض الأيام، هكذا يصومون ببلاد الروم.
و الروم هم الأصل في هذه الطوائف الثلاثة من النصارى، ثم تفرعت منهم اليعقوبية أصحاب يعقوب، ثم من بعد اليعوبية النسطورية و هم اصحاب نسطورس و هم يختلفون في الصيام، فإن هؤلاء الذين بالعراق لا يصومون في كل يوم نصفه كما تصوم الروم، و لهم ايام، أعني الذين ببلاد الاسلام، ينظرون فيها بعد صلاة العصر يتحسون الخمر في البيعة و هو القربان عندهم، و قد قال بولص: إن دم هذا الشراب هو دم الربّ و هذا/ البرشان هو لحم الرب فمن
__________________________________________________
- ابن عم دارا بن دارا و المطالب بدمه و هو من ملوك فارس الاوائل و الموصوفين بالشدة و الشجاعة. و ثانيهما اردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن ساسوبو بن اردشير بن بابك و هو احد احفاد اردشير الاول، و قد وصف بالبطش و الشجاعة ايضا. و الاول اكثر شدة و لعله هو المقصود هنا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:165
(1/183)
ارتاب في ان هذا لحم الرب و دمه فلا يأخذه و لا يذقه و ان ذلك لا يحلّ له.
و البرشان «1» هي اقراص تخبز و تحمل الى البيعة و تثرد في الخمر و تؤكل تقربا.
و المسيح عليه السلام ما صام هو و أصحابه إلا الصوم الذي صامه بنو اسرائيل.
قالت هذه الطوائف من النصارى: إن كان المسيح ما صام هذه الايام الخمسين فقد صام حين اسره الشيطان اربعين يوما بلياليها فجعلناها نحن خمسين يوما، قلنا: هبنا صدقناكم في ذلك فمن اين وجب عليكم مثل ذلك و انتم تقولون ان موسى صام ثمانين يوما بلياليها فلم يطعم فيها شيئا البتة و كان ذلك في دفعتين، و زعمتم ان ايليا «2» صام اربعين يوما بلياليها فما وجب على قوم موسى الصيام الذي صامه موسى و لا عليكم صيام ذلك. و بعد، فقد عاد المسيح اليكم حين اطلقه الشيطان و بقي معكم فما صام صومكم هذا و لا امركم به و لا صام هو و اصحابه إلا صوم بني اسرائيل، فعطلتم الصوم الذي تعلمونه يقينا و صمتم صوما ما صامه و لا امركم به.
و في انجيلهم ان الشيطان اسر المسيح و حصره اربعين يوما ليمتحنه، و ان المسيح امسك عن الأكل و الشرب خوفا من ان تتم عليه حيلة الشيطان، و انه قال له و هو معه و في يده: إن كنت ابن اللّه فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا: أن مكتوب أنّ حياة الانسان لا تكون بالخبز بل بكل كلمة تخرج من اللّه. ثم ساقه الشيطان الى مدينة بيت المقدس فأقامه
__________________________________________________
(1) كتب في الاصل في الحاشية: البرشان
(2) في الاصل: اليا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:166
على قرنة الهيكل و قال له: إن كنت ابن اللّه فارم نفسك/ من هاهنا فانه مكتوب ان الملائكة توكل بك فلا تعثر رجلك بالحجر، قال المسيح:
(1/184)
و مكتوب لا تجرب اللّه إلهك. ثم ساقه الى جبل عال فأراه جميع ممالك الدنيا و زخرفتها و قال له: إن خررت على وجهك لي ساجدا جعلت هذه الدنيا كلها لك كما جعلتها لمن قبلك، فقال له المسيح: اغرب ايها الشيطان فانه مكتوب اسجد للرب إلهك. ثم بعث اللّه ملكا اقتلع الشيطان من مكانه و رماه الى البحر و أطلق السبيل للمسيح «1». فهذا من الجهل الذي خبرتك انه مكتوب في اناجيلهم و هو زعموا حجتهم في صومهم، فهل سمعت بشيطان يأسر إلهه و يحصره و ينقله من مكان الى مكان و يطمع في إلهه ان يستعبده و الشيطان لا يقدر ان يأخذ حمار اليهودي، و عند النصارى انه قد اخذ ربه الى ان جاء الملك فخلصه و فك اسره. و عند النصارى ان المسيح لما ظهر ربط الشيطان عن الخلق و أطفأ ثائرته و أزال اذاه و شرّه، و هاهنا يقولون اشد ما كان قوة عليه و تسلطا عليه و هو ربه و إلهه، ففكر و اعجب.
و كان للروم و الصابئين دخن و بخورات في الهياكل للكواكب و الأصنام،
__________________________________________________
(1) جاء في انجيل متى: «ثم اصعد يسوع الى البرية من الروح ليجرب من ابليس، فبعد ما صام اربعين نهارا و اربعين ليلة جاع اخيرا. فتقدم اليه المجرب و قال له: ان كنت ابن اللّه فقل ان تصير هذه الحجارة خبزا، فأجاب و قال: مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم اللّه. ثم اخذه ابليس الى المدينة المقدسة و اوقفه على جناح الهيكل و قال له: ان كنت ابن اللّه فاطرح نفسك الى اسفل لأنه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فعلى اياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب ايضا لا تجرب الرب الهك. ثم اخذه ايضا ابليس الى جبل عال جدا و أراه جميع ممالك العالم و مجدها و قال له: اعطيك هذه جميعها ان خررت و سجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب الهك تسجد و اياه وحده تعبد» الاصحاح الرابع من انجيل متى.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:167
(1/185)
و هي قائمة عند النصارى ما عطلوها، و هي في البيع يسمونها دخنة مريم و بخور مريم، و ما عرفته مريم و لا المسيح ساعة قط و لا اصحابه، و لا استعملوا ذلك، فجعلوا هذا بخور مريم كما جعلوا صومهم للمسيح، و كما جعلوا الخمر و القربان لحمه و دمه.
و كانت الروم مع عبادتها الكواكب تعظم الأصنام و تصورها في الهياكل، فبقيت على ذلك/ بعد اجابتها الى تعظيم الصليب، و ما كان منهم في ذلك قصور، و المسيح و أمه و أصحابه عوضا من تلك الأصنام. ثم تركوها شيئاشيئا على الايام و الدهور.
و هم كانوا يستبيحون الزنا و لا يمتنعون منه فبقوا على ذلك بعد تعظيم المسيح فهو مبثوث بينهم و في مدنهم و أسواقهم منتشر، يقولون: المرأة اذا لم يكن لها زوج و لم تختر الزواج و آثرت الزنى فهي املك بنفسها و لها ان تفعل ذلك، و الملك يسعر ذلك، و يقيم له الحكام و الولاة فلكل إنزالة تكون من الرجل فلس واحد، و كل اربعة افلس قيمتها دانق فضة. و للقحاب في بلدانهم اسواق كثيرة، و لهن دكاكين، تفتح حانوتها و تتزين و تجلس على بابه بارزة مكشوفة. و ليس عندهم في كشف السوءة و العورة من الرجال و النساء تحريم و لا خطر، بل المرأة الحرة منهم تزف الى زوجها راكبة فتمر بالناس في الاسواق مكشوفة الوجه و الرأس، و قد ارسلت ضفائرها و تجدلت بها، و أبدت محاسنها كلها لينظر كل احد اليها، و يقال ان الغالب على ذوات الازواج العفاف، فأما من ليست بزوج فحالها كما وصفنا، و ربما كانت تزني في بيت ابويها، و من جاء من هؤلاء الزواني بولد حملته الى البيعة ان شاءت و سلمته الى البطرك و المطران و القس، و قالت: قد وهبت هذا للمسيح ليكون خادما له و قيّما في البيعة، فيجزونها خيرا و يقولون لها: قديسة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:168
طاهرة مباركة، هنيئا لك رضى المسيح و ثوابه و يدعو الناس لها و يهنئوها بالثواب، و هناك من المرضعات و الكاملات لمثل اولاد «1» الزنا هؤلاء جماعة.
(1/186)
و هم يأبون الختان،/ و يخصون الاطفال، و إذا سبوا المسلمين نظروا الى اطفالهم فخصوا منهم القطعان الكبيرة و ألقوهم، فيموت منهم الكثير. و هم يدعون الرأفة و الرحمة و كانوا في اول الاسلام يحترزون على الاسارى لقوة الاسلام و ضعفهم ليفادوا بهم، فلما ساءت سيرة ملوك الاسلام و قلت مبالاتهم به، و صار يغزوهم مثل علي بن حمدان «2» سيف الدولة، و من بمصر اعداء المسلمين يقبضون اوقاف الثغور، هان المسلمون على الروم، و هم يقولون دولة الاسلام قد زالت منذ نحو ثمانين سنة، و أنت اليوم في نحو سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة.
ثم عدت الى ذكر سيرة النصارى، و ليس الخصاء من شريعة التوراة و لا إباحة الزنا لتعلم ان الروم ما تنصرت و لا اجابت المسيح، بل النصارى ترومت و ارتدّت عن دين المسيح و عطلت اصوله و فروعه و صارت الى ديانات اعدائه و هو ما عليه هذه الطوائف الثلاث من النصارى، فعلوا هذا طلبا للرئاسة و عاجل الدنيا كما قد وجدته في كتبهم و في إقرارهم مما تقدم ذكره لك.
__________________________________________________
(1) في الاصل: هؤلاء اولاد
(2) علي بن حمدان سيف الدولة: يقصد علي بن عبد اللّه بن حمدان التغلبي، ابو الحسن، سيف الدولة الحمداني، كان شجاعا مهذبا عالي الهمة، اجتمع على بابه عدد كبير من شيوخ العلم و الادب و كان له مع الروم وقائع كثيرة. و يظهر ان حملة القاضي عليه لأنه كان على خلاف مع البويهيين الذين كانوا يحكمون مقر الخلافة العباسية و المشرق الاسلامي و كانت له معهم وقائع و حروب ايضا، فالقاضي هنا ينتصر لحكومته و سلطانه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:169
(1/187)
و هذا التثليث الذي للنصارى قد كانت فلاسفة الروم تنحو نحوه من ان العقل و العاقل و المعقول تصير شيئا واحدا، و يقولون: هو من المثلث، و هو من فيلسوف قديم «1». و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة «2»» و قال كعب بن مالك الانصاري سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول:
«ما ذئبان جائعان ارسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه» و قال ابن عمر: قال/ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: ما ذئبان ضاريان في خظيرة وثيقة يأكلان و يفريان «3» بأسرع هلاكا من حب الشرف و المال في دين المرء المسلم «4»».
و مثل صنيع بولص مع الروم في مساعدتهم على دينهم و مفارقة دين المسيح صنع ماني القس، و هو رئيس المنانية «5»، و هذا كان بعد بولص بالدهر الطويل، و كانت له الرئاسة، و صار مطرانا على النصارى بالعراق في مملكة الفرس بعد ان كان قسّا، و اختلط بالفرس، و مدح الانوار و ذم الظلام على ما يذهب اليه المجوس، و مدح زرادشت نبيّ المجوس، و قال: النور اختاره و أرسله
__________________________________________________
(1) يقصد هرمس المثلث، و كان كتاب الطبقات المسلمون يذكرون ثلاثة اشخاص بهذا الاسم: اولهم هرمس الذي كان قبل الطوفان، و هو اول من تكلم في الاشياء العلوية من الحركات النجومية و ينسبون له امورا كثيرة، ثم هرمس الثاني: من اهل بابل و كان بارعا في علم الطب و الفلسفة و طبائع الاعداد و تلميذ فيثاغورس الارتماطيقي. و أخيرا هرمس الثالث و يسمى ايضا هرمس المثلث الحكمة، و كان فيلسوفا طبيبا و يظهر ان هذا هو المقصود هنا. انظر طبقات الاطباء لابن جلجل 5- 10، و طبقات الحكماء لابن القفطي 346- 349، و الفهرست لابن النديم 508 تجارية.
(2) من حديث انس رضي اللّه عنه، اخرجه رزين. انظر تيسير الوصول 110
(3) يفري: يهلك
(
(1/188)
4) رواه الامام احمد بن مسند و الترمذي عن كعب بن مالك باسناد صحيح. المنادي على الجامع الصغير 5: 445
(5) سبق التعريف بماني و المنانية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:170
الى المشرق، و أرسل المسيح الى الغرب. و ذم ابراهيم و إسماعيل و الانبياء الذين صدقهم المسيح، و كانت الفرس تبرأ منهم، فساعدهم ماني و تقرب اليهم بذمهم و قال: الشيطان ارسلهم، و كان من يكتب: من ماني عبد اليسوع كما كان بولص يكتب، و كان يتشبه به و يقفو اثره. و أخذ الآبستاق و هو كتاب زرادشت نبيّ المجوس «1»، و هو كتاب ليس بلغة الفرس و لا بلغة من اللغات البتة، و لا يدري احد ما هو و هو الزمرمة، و إنما يحكون لفظه و إن كانوا لا يدرون ما هو. فادعى ماني القس انه قد وقف عليه و علم ما هو، و ادعى ماني انه رسول النور، فوضع لهم جهالات، و قال: هذا تفسير الآبستاق، و استهووا العامة و قامت سوقه فيهم و أطاعوه، و ادعوا له بالمعجزات و الآيات.
فأخذه بعض ملوك الفرس ليمتحنه، و فتش عن احواله، فاذا هو كذاب و ممرق طالب رئاسة يتقرب الى الفرس/ و المجوس بما يهوونه لينفق عليهم مما ليس هو من دين المسيح، فقتله كما فعل ذلك الملك ببولص. و بقي اصحاب ماني بعده يدّعون نبوته و يقررون رسائله و إنجيله، و لعل رسائله تزيد على السليحين و رسائل بولص، و كثير من هذه الطوائف الثلاث يعتقد مذهبه و ما يكاد يظهره خوفا من النصارى و من المسلمين ممن منهم في بلاد الاسلام، لأنه لا ذمة المنانية عند المسلمين «2».
و من سيرتهم ان النساء الديرانيات العابدات و من انقطع الي البيع و العبادة،
__________________________________________________
(1) في الاصل على هامش الصفحة كتب احد قراء التثبيت «الآبستاق كتاب زرادشت»، و قد سبق التعريف بالمجوس و عقيدتهم.
(2) في الاصل على هامش الصفحة كتب احد قراء التثبيت «لا ذمة للمنانية عند المسلمين»، و قد سبق التعريف بهذه النحلة.
(1/189)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:171
يطفن على العزّاب و الرهبان، و يخرجن الى الحصون التي فيها الرجال العزاب يبيحون لهن انفسهن ابتغاء وجه اللّه و الدار الآخرة و الرحمة بالعزاب، و من فعل هذا منهن كان عندهن مشكورا محمودا على هذا الفعل و يدعا له، و يقال لها: لا ينسى لك المسيح هذه الرأفة و الرحمة.
و عندهم انه لا يحل للرجل اكثر من امرأة واحدة، و لا يحل له أن يتسرى و لا بطأ بملك اليمين، فإن صادق امرأة أو خادمة لم يكن بذلك بأس و لا عار، و هذا مشهور ببلاد الروم كشهرة الزنى.
و لقد تحدث مصبح الطائي، و أبو عبد اللّه الحسين بن الصقر، و عبد الرحمن صاحب ابن الزيات و غيرهم من الغزاة، و ممن اقام بالقسطنطينية السنين الكثيرة في الأسر و غير الأسر، فإنهم لطول الشقاء و عدم من بعثت المسلمين في فداء او غزو، اظهروا النصرانية تقية، و انتشروا بينهم، و اختلطوا بهم.
فحدث من حدث منهم بعض من تنصر من الشجعان بعد الشدة و طول الشقاء، قال: فأعطاني الملك و أجزل و قال لخدمه و أعوانه:/ انظروا لهؤلاء المتنصرة نساء من ذوي اليسار يتزوجون بهن لتحسن احوالهم، فقال رجل منهم:
فلانة قد مات ابوها، و لها ضيعة و مواش و أموال كثيرة نزوجها بهذا، و أشار اليّ، فزوجوني بها. فاذا هناك جمال و مال كثير فأقمت معها مسرورا ثم ضرب الملك بعثا على جماعة انا منهم ليخرج الى مكان فيه زرع مستحصد يخاف عليه العدو أن يمنعهم منه، و يكون مقامنا اربعين يوما، ثم يأتي بعدنا عسكر يقوم مقامنا و نرجع الى اهلنا. فخرجنا، و أقمنا هذه المدة، ثم جاء العسكر فسألت بعض الواردين عن اهلي و منزلي، فقال لي: قد تزوجت امرأتك بعد خروجك، فاستثبتّ ذلك جيدا ممن ورد فأخبرت بهذا،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:172
(1/190)
فأخذني ما اقامني و أقعدني؛ فلما رجعت الى البلد عدلت عن منزلي و نزلت سوق الدواب، فسأل اهلي عن الواردين من اهل عسكرنا فأخبروهم بسلامتي و ورودى، فتعرفوا مكاني فإذا ام امرأتي قد جاءتني و معها موكب عظيم من نساء الجيران عليهن البزة الفاخرة و الحلي، فقالت لي حماتي: ما لك عدلت عن منزلك و أهلك و نزلت هاهنا و نحن نتعرف أخبارك و نشتاقك، فقلت:
و ما اصنع بامرأة غبت عنها فتزوجت بعدي، أنا عليّ أن ادخل على الملك و اكسر بحضرته سيفي و أقطع زناري و أعرفه ما جرى عليّ. فقالت «1» لي اخطأ من قال هذا، ما تزوجت امرأتك و كيف تتزوج رومية بزوجين، إنما ذلك صديقها، لما غبت جاء و نزل عندها. فلما علمنا بقدومك حمل فراشه و انصرف، و استشهدت بأولئك النسوة و الجيران، فشهدن انه ليس بزوج و إنما هو صديقها، و إذا ليس/ عندهم ان بهذا بأسا و لا عارا. ثم اقبلت حماتي تقول: لي قم الى بيتك فانظر الى المكنوز و النبيذ و ما خلفته تجده لم ينقص بل هو محفوظ موفر، و إذا هي تبشرني [فيما إذا] «2» أن صديق امرأتي قد كفاني مؤونتها في غيبتي و تسرني بهذا أوتمن به عليّ. و قال اولئك النساء و هن حليلات و أزواج كبار الناس، قم عافاك اللّه الى بيتك، فما ها هنا شي ء يكره و لا ينكر، فقمت و حملت اثقالي و صرت الى منزلي و أنا مقيم على امرأتي، و ما اجد شيئا، و زالت الغيرة. ثم قال يا ابا الفتح: ما يدخل احد بلاد الروم إلا و قد طابت نفسه باتخاذ امرأته الأصدقاء، و زال عما كان عليه و امحت الغيرة من قلبه، و زال عن الحمية و ما كان عليه و هو مسلم.
__________________________________________________
(1) في الاصل: فقال لي
(2) هكذا وردت العبارة في الاصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:173
(1/191)
فإن قالوا: مبتدع في دين النصرانية كما مثل ذلك مبتدع في الاسلام، قيل له: إن الروم قد كانت قبل التنصر تأكل الخنزير، و تستعمل الخصاء، و تغزو الامم، و تسبي و تقتل و تسترقّ، و ترى في الزنا ما قد ذكرنا، و تسير السيرة التي وصفنا. و لما تنصرت دامت على تلك السيرة فما زايلتها و لا زالت عنها، فمتى كان هذا الابتداع. و لا فرق بين من ادّعى هذا، و ادعى ان الروم كانت على خلافه و رجعت اليه لما تنصرت، و من انتهى الى هذا فقد جحد و كابر و ليس مع المكابرة مناظرة.
و مما يحتج به النصارى و هو اكبر شبههم في دينهم، و أجل ما يلجئون اليه، و هو عمدة الخواص و العوام منهم، ان يقولوا: النصرانية دين صعب ضيق، قد أجابت اليه الأمم الكبيرة و الملوك بلا إكراه و لا سيف و لا قهر و لا غلبة، و ما كانوا ليجيبوا الى ذلك إلا بالآيات و المعجزات التي ظهرت على أيدي/ الدعاة اليها من الرهبان و الرواهب.
قيل له: قد بيّنا و عرف تبديل النصارى لدين المسيح و ميلهم الى ملوك الروم، و قد شرحنا ذلك و عرفناه، فلا نجد إلا النصارى ترومت و لم تتنصر الروم. و أصل طوائفكم هم الروم، فهذا شاف كاف. و لو لم نعلم هذا و كيف الحيلة فيه من اوله الى آخره لما كان يشكل علينا ايضا بطلان هذا الاحتجاج و فساده، و أن اهل هذا الدين لا يظهر اللّه على ايديهم معجزة، و لا ينقض على يد احد منهم عادة؛ كيف و المعجزات لا تكون إلا للأنبياء عليهم السلام و في زمانهم.
ثم يقال للنصارى: إنكم ادّعيتم الصحة لدينكم بالكثرة و الملوك الذين تدينوا بدينكم، و الكثرة لا تكون دلالة في صحة الديانة، و إنما يدل على
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:174
صحة الديانة الحجة و البرهان لا غير ذلك، سواء كان اهل ذلك الدين قليلا او كثيرا. و قد كان المسيح و من اتبعه قليلا و الروم و اليهود هم الاكثر و أصحاب الملك، فيدل هذا على قياسكم انه لم يكن له معجزة. ثم يقال لهم:
(1/192)
انتم تدّعون المعجزات و الآيات لرهبانكم و رواهبكم و رؤسائكم في كل زمان و أنها لا تنقطع و لا ترتفع، و ها انتم قد أجبتم الى هذه الديانة و لم تروا معجزة و لا آية، فكذا من قبلكم قد أجاب على هذه الصفة و في هذا أتم كفاية لمن أراد الحق.
و هم في كل حين يجتمعون اذا ارادوا امر تحليل شي ء او تحريمه، و يكون لهم فيه سنهودس «1»، و تفسيره الاجتماع للتقرير، فيفعلون ذلك، فاذا تقادم عهده، قالوا: هذا ما حرّمته تلك الجماعة إلا بظهور آية او معجزة/، ألا ترى ان الجثلقة و المطرنة «2» قد كانت جائزة عندهم فيمن له الأهل و الولد، فصار الجثالقة و الرؤساء يجعلون الرئاسة في اولادهم و يوصون بها في ذريتهم، فاجتمع النصارى و عقدوا تحريمها فيمن له اهل و ولد و عرف التزويج، فصار ذلك دينا لهم فاجتمعوا عليه و عملوا به من غير آية و لا معجزة.
و قد كان تزويج الأختين بالأخوين مباحا عندهم، فجرى من أختين كانتا عند اخوين عداوة ادت الى معاداة بين الأخوين، فاجتمعوا و حرموا ذلك، و صار لهم دينا يعملون به و ان لم يروا فيه آية و لا معجزة. و قد كان تزويج بنت الأخ عندهم مباحا فجرى فيه نسب استنصر به بعضهم، فاجتمعوا
__________________________________________________
(1) كتب في الحاشية: تفسير سنهودس
(2) الجاثليق بفتح الفاء: رئيس النصارى يكون تحت يد بطريق انطاكية، ثم المطران تحت يده، ثم الاسقف، ثم القسيس، ثم الشماس.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:175
و حرموا ذلك، فصار لهم دينا بغير آية و لا معجزة. و هذا منه ما فعلوه قريبا و في الاسلام في دولة بني العباس. و مثل ما فعل مطران سمرقند فانه حرم على اهلها الفراخ و زعم ان روح القدس تنزل في هذه الحمامة، فقبلوا ذلك منه و صيروه دينا.
(1/193)
و اذا اختلطت بهم و فتشتهم و دخلت بينهم و لا بست الجثالقة و الرهبان وجدت هناك من الكذب و الجهل و الحرص على الدنيا و طلب الرئاسة و الجمع و المنع أمورا كثيرة، فان الواحد منهم يترهب و ما معه شي ء و يصير كلا على غيره، و ما تمر الأيام حتى صار ذا مال كثير حتى ربما مات عن عشرات الوف، ثم يقال لهم: انتم طوائف كثيرة و بينكم خلاف كبير في اصل الديانة، تضلل فيه الملكية اليعقوبية، و كذا النسطورية لا ترضى مذاهب الملكية و اليعقوبية، و كل هذه الطوائف تدعى لرهبانها/ و رواهبها و رؤسائها المعجزات و الآيات، و كذا المنانبة، فعلى قياسهم الحق في طائفة واحدة و الباقية كذبت فيما تدعيه لهم.
و قد قال بعض الحكماء ها هنا ديانات و مقالات تعرف كذب اهلها بأدنى تأمل:
منها: النصرانية، فانهم يدعون الآيات لكبرائهم، و انها لا تنقطع في زمان من الأزمنة، و ان الذين اجابوا الى النصرانية انما اجابوا بالمعجزات، فيقال لهم: أنتم اجبتم اليها و لم تروا آية و لا معجزة.
و منها، اصحاب النجوم، فانهم يمخرقون و يدعون بالاصابات لأوائلهم، فيقولون: حكم جانان لكسرى بالدول و انتقالها، و للملوك في مواليدها، فما أخطأ في حرف واحد، و كذا كنكه منجم الهند لملوك الهند، و كذا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:176
(1/194)
ذوروثيوس لملوك الروم، و بطليموس لملوك القبط «1». و ربما عملوا بذلك كتبا، و قصدوا الى دول و ممالك قد كانت، و وجدت، و عرفت الحوادث فيها و أعمار ملوكها الخاصة و العامة، فيذكرون الجمل منها و لا يفصحون بأسماءملوكها، لئلا يعرف فيه كذبهم. فيقرأ هذه الكتب و الدفاتر الغرّ الغافل عن احتيال المحتالين او تقرأ عليه، فيظن ان هذا قد ذكره المنجمون في سالف العصر قبل ان ان يكون، فيعتقد في أحكام النجوم الصدق، و ان اهلها قد تكلموا بعلم. فيقال لهم: إن الكواكب و السماء ما ارتفعت و لا زالت و لا انتقضت، و هي كما كانت، فهاتوا و اخبرونا عما سيكون، او عما قد كان و وجد مما تشاهدونه بعيونكم، و تلمسونه بأيديكم، فإنا نعمد الى دفتر ضخم مكتوب فيه فنقول لحذاقكم: خذوا طوالعكم و أخبرونا/ كم ورقة هو، و كم سطر في كل ورقة فإنا نجد كذبكم فيه عيانا و حسا، و ما تحتاجون الى الإخبار عن نجم يطلع بعد سنة او عشرين سنة، و تخبرونا عن تلك الحوادث، فإنا قد قربنا الأمر عليكم لتعلموا ان هذه الدعاوى كذب و مخاريق و حيل على الناس، و لتعلموا بكذب أولكم و آخركم.
فإن قالوا: لم تقتصرون منا على العلم بورق هذا الدفتر دون الأسطر و الحروف التي فيه؟ قلنا: إن مثل هذا و أكبر منه قد يصيب فيه الصبيان و الجهال الذين يلعبون بالخاتم و الزوج و الفرد بالاتفاق، فهاتوا ما يتجاوز اصابات الصبيان و الجهال و المجانين ان كنتم صادقين، و ان كان صنعتكم حقا؛ و هذا ما لا سبيل لكم اليه، و فضيحتكم فيه كفضيحة النصارى.
فان قالوا: قد يكون لنا اصابات في مواليد و مسائل؟ قلنا: قد يكون
__________________________________________________
(1) انظر ترجمة كنكه الهندي في الفهرست لابن النديم ص 392، و ترجمة ذوروثيوس (في الاصل ذروسيس) في الفهرست ص 389، و كذا ترجمة بطليموس ص 388
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:177
(1/195)
ذلك في قليل من كثير تخطئون فيه، و في جمل دون تفصيل، و الذي يأتي به الأنبياء فلا يخطئون في شي ء منه مع كثرته، و الذي يتفق لكم من ذلك كما يتفق للّعّاب الذين ذكرنا، و كما يتفق لأصحاب الفأل و لمن يضرب بالحصا و البعير بالنظر في الكفّ و بزجر الطائر، و ما يتفق لهؤلاء من الإصابة أكثر من الذي يتفق لكم، و هم فيه أسرع، و أحوالهم فيه أكشف، و كما يتفق لبعض من يلقى الثعلب من السعادة، و لمن يلقى البوم من المحنة، و كما يتفق في رقى الهند و النصارى و المعزّمين من العافية و الإفاقة، فيدعي اولئك ان هذا انما كان عن رقاهم و عزائمهم، و ان ما هم عليه حقّ، و انهم قد نطقوا/ بعلم.
و منها، اصحاب الطلسمات «1»، فانهم يمخرقون و يقولون: إن الاسكندر شكا الى أرسطوطاليس بعد الماء عنه و عن عسكره عند لقاء عدوه، فعمل له طلسما سار الماء بمسيره و وقف بوقوفه، و انه قال له و قد ورد على بحر إن تشاغل بعبوره أبطأ عليه وفاته إدراك عدوه، فقال له: أيما احب اليك ايها الملك، ان اعمل طلسما تسير بعسكرك على وجه الماء كما تسير على وجه الارض، او اجمع بين الشيطين لتعبره، فقال: تجمع بين الشطين فانه أقرب في المسافة، فجمع له بين الشطين فعبر.
و أن غير واحد قد عمل طلسما للقطعان من البقر و الغنم و أمثالها من الحيوان، فتبعته و سارت بمسيره. و أنهم يعملون الطلسمات للبق و العقارب
__________________________________________________
(1) الطلسم و الطلسم في علم السحر: خطوط و اعداد يزعم كاتبها انه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية لجلب محبوب او دفع أذى، و هو لفظ يوناني، و قد يقصد به الغامض المبهم من الامر.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:178
و الجراد و غير ذلك، فيصرفونها عن بلد بلد؛ و أن من عرف صنعة النجوم تأتى له ذلك.
(1/196)
فقيل لهم: هذه كلها مخاريق، و إذا اردتم ان تعرفوا كذب اوائلكم فاعرفوه بكذبكم في زمانكم، فإن الكواكب ما بقيت و لا زالت، فهانوا شيئا من هذا، و في تعذره عليكم دلالة على كذبكم و كذب اوائلكم.
فإن قالوا: بلاد حمص لا يكون بها عقرب، و إن دخلت إليها عقرب ماتت و انما هذا طلسم عمل لها، قلنا: قد بيّنا كذبكم حسا كما بيّنا كذب النصارى و المنجمين، فإن كانت حمص لا يعيش بها عقرب فان هذا من فعل اللّه تبارك و تعالى، قد يميت بعض الحيوان إذا صار في بعض الأماكن لتدبير له عز و جل هو اعلم به، و لمصلحة فيه. ألا ترى ان بلاد الروم لا تكاد تبقى بها الجمال مع حرصهم في بقائها، حتى قال من لا يعلم: ان هذا لشدة البرد، فقيل له: فبلاد الترك/ أشدّ بردا و بها الجمال، و الأتراك بالري»
إذا قطنوا بها فما يكادون يبقون بل يتماوتون، و الاصفهاني إذا أراد السفر الى الري اوصى. و ما هذا الطلسم، و أرض مصر و غيرها من مواضع شتى لا يكاد يكون بها مطر. و ما ذاك الطلسم، و أرض العراق مع كرمها و طيب مائها لا ينبت بها الفلفل، و لا الدار فلفل، و لا العود و لا الزنجيل و لا الدارصيني، و لا الزعفران، و لا سنبل الطيب، و لا يكون في انهارهم العنبر.
__________________________________________________
(1) الري: بلدة عظيمة في ذلك الوقت، فتحها المسلمون في خلافة عمر رضي اللّه عنه، و اصبحت حاضرة اسلامية في القرن الرابع الهجري حتى لقد فاقت بغداد نفسها في كثير من الاحيان. انظر: ابن الاثير الكامل 9: 235، السمعاني الانساب 232، احسن التقاسيم للمقدسي 385- 390
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:179
(1/197)
او ترى هذه الطلسمات وضعت بالعراق و أناث البغال لا تكاد تحمل بل لا تكاد تهيج. أفترى هذا الطلسم و أودية العراق لا يكون فيها التمساح، و هو بمصر كثير. أفترى هذا الطلسم وضع بالعراق لئلا يكون فيه هذا، او وضع بمصر حتى لا يفارقها. و هذا التمساح في نيل مصر، و هو في بعض المواضع بها دون بعض، و بأرض الكوفة و البصرة و واسط و بغداد و سر من رأى و مصر و القيروان، و هذه كلها أمصار اسلامية، و وضعت في الاسلام، و خطت في الاسلام، فحدثت امور كثيرة في احوال الحيوان ابدع مما يدعونه لحمص و غيرها بلا طلسم.
و المجوس تدّعي ان لهم منتظرا حيا باقيا مهديا من ولد بشتاسف بن بهراسف يقال له أبشاوثن «1»، و انه في حصن عظيم من خراسان و الصين، و معه كثير، كلهم ثقات امناء اخيار، لا يكذبون و لا يعصون اللّه، و لا يقع منهم خطيئة صغيرة و لا كبيرة، و أن دعوتهم مجابة «2»، و لهم دلالات و آيات و معجزات، و انهم صاروا الى ذلك المكان عند زمن زرادشت الذي تدعي نبوته، و انهم انوار ساطعة، و انهم من الجمال و الحسن و النظارة على امر عظيم، و أنهم لا يبكون و لا/ يهرمون و لا يموتون، و أن أبشاوثن لا يحتاج الى اكل و لا الى شرب، و لا يكون منه بول و لا غائط و لا شي ء من الأذى. هذا الذي أتيقنه مما قد ذكره أذرباذ بن أميذ الموبذ في وصفه أبشاوثن، انه لا يأكل و لا يشرب و لا يبول و لا يتغوط، فأما اصحابه
__________________________________________________
(1) في الهامش كتب الناسخ ما يلي: «المجوس ينتظرون رجلا من ولد بشتاسف يقال له أبشاوثن.
(2) نشأت في ايران فكرة كان لها اثرها في كثير من الديانات هي فكرة المخلص او المهدي الذي سيعود يوما الى العالم ليزيل الشرور و يحل العدل محل الجور و ينقذ البشر.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:180
(1/198)
فلست اتيقن انه وصفهم بأنهم لا يأكلون و لا يشربون، و يغلب على ظني انه قد وصفهم بذلك، فأما العصمة و ان اصحابه بمثابته، فما اشك فيه.
فقيل للمجوس: اذا شئتم ان تعرفوا اول امركم فاعتبروه باخره تجدون بطلانه واضحا بينا، كما يجدونه النصارى و المنجمون «1» و أصحاب الطلسمات.
فإنكم تدّعون ان قوما في زماننا هذه صفاتهم و أحكامهم، و عليكم في هذا فضل مزية في الباطل، فإنكم امم كبيرة قديمة تخبرون بكون هؤلاء في الدنيا معنا و في زماننا، و انهم يخرجون مع ابشاوثن هذا فيكلمون الارض كلها، و يعيدون المجوسية و ديانات الفرس و ملكها الذي أزاله الاسلام كما كانت. فقد كان ينبغي إن كان هذا في الدنيا هاهنا قوم يدعونه ان نعلمه بخبركم، و في عدم العلم بذلك دليل على انه امر لا اصل له، و ما في الدنيا انسان يدعي هذا، و لكنه شي ء وضعه لكم الواحد و الاثنان و النفر اليسير، فصدقتموه و احسنتم الظن بهم، و انتشر فيكم، و هو كذب و انتم لا تعلمون انه كذب، كما اصاب النصارى و غيرهم ممن كانت هذه سبيله.
و كذا لمن ادعى ان معنا و في زماننا إماما معصوما قد أقيم لنا و هو الحجة علينا و على اهل الارض بأسرهم، قيل لهم: انتم امم كثيرة عظيمة بالعراق و بالشام و بفارس و بمصر و المغرب و الحجاز و اليمن و البحرين و كور الأهواز/ و بالجبال و الديلم و خراسان و كلكم يخبرنا بأن في الدنيا رجل هذه سبيله، و يدعو الى نفسه، و كلكم اصحابه و ينتظره و يدعو اليه. و تصنيف الكتب في ذلك قد ملأت الدنيا، و نخاصم في ذلك، فلو كان في الدنيا انسان هذه
__________________________________________________
(1) في الاصل: المنجمين
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:181
(1/199)
سبيله لعلمنا ذلك بخبركم و بما نسمعه منكم و ان لم نصدقه فيما ادعى، و لم نقبل قوله و لم نر شخصه، و ان لم نسمع كلامه. ألا ترى ان نبينا محمدا «1» صلّى اللّه عليه و سلم لما ادعى انه رسول اللّه الى الخلق اجمعين و انه الحجة عليهم علم ذلك من دعواه كل من بلغه خبره ممن صدقه او كذبه، و من رآه و من لم يره، و كذا العلم بمسيلمة و ما ادعاه و ان كذبه الناس كلهم. بل لو اخبر جماعة عن امرأة من وراء حجاب بصلاح او طلاح لعلم الناس ذلك بخبرهم اذا كانوا عالمين بما أخبروا، فكيف و انتم امم كثيرة عظيمة قد «2» طبقت الارض و البر و البحر و السهل و الجبل، تعتقدون ذلك، و تخبرون به، و تدعون اليه، و تزعمون انكم اصحاب هذا الرجل و اتباعه، فلا يزداد من تأمل و نظرو اعتبر إلا علما بأن ليس في الدنيا انسان يدعي ذلك و لا يدعو اليه. فلو نظرتم و انصفتم لعلمتم ان اول امركم مثل آخره في الباطل، و ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم ما تدين بما تدعون و لا دعا اليه. لا هو و لا احد من اصحابه.
فإن قيل: فلو قال لكم قائل و أنتم ايضا اول امركم مثل آخره، إذ ليس في زمانكم من معه معجزة و لا آية، فأولكم هذه سبيله ما كان يكون جوابكم؟
قيل له: لا سؤال علينا في هذا، لأنا نمنع ان يكون مع احد بعد نبينا آية او معجزة، و ما ندعي انه آية و معجزة فهو ما علمه كل من سمع الاخبار، و هو هذا القرآن و ما جاء مجي ء القرآن، و نقول:/ لا حجة على الخلق إلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وحده، فعرفت الفصل بيننا و بين من ذكرنا.
__________________________________________________
(1) في الاصل: محمد
(2) في الاصل: فقد
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:182
(1/200)
و جواب آخر، و هو ان كل من سمع اخبار النبي عليه السلام فمن صدقه او كذبه يعلم باضطرار انه كان يدعي النبوة، و يدّعي ان معه آيات و دلالات و معجزات. فان قالت النصارى: نحن اولنا المسيح و هو سلفنا، و أنتم تقرون ان معه آيات و معجزات، فكيف قلتم ان اولنا مثل آخرنا؟
قيل لهم: و من سلم لكم ان المسيح عليه السلام سلفكم، و نحن فقد دفعناكم عن هذا، و بيّنا انكم قد خالفتم المسيح عليه السلام في أصوله و فروعه، و نقضتم عهوده، و عطلتم وصاياه بيانا لا يمكنكم دفعه، و نحن فما علمنا ان المسيح نبيّ و انه قد كان معه آيات و معجزات بقولكم، و لا بنقلكم، و لا بدعواكم، و انما علمنا ذلك بقول نبينا صلى اللّه عليه، و لكن ادعيتم ان هذه الأمم ما اجابت الى النصرانية إلا بالآيات و المعجزات التي ظهرت على بولص و جورجس و أبا مرقس و أمثالهم، و دونتم ذلك في كتبكم كما دونته المنانية و المجوس و غيرهم، و ادّعيتم ذلك في كل زمان، و الناس معكم و يشاهدونكم فلا يرون لذلك اصلا و لا اثرا، و لا يرون إلا السيف و القهر و العسف و ان اول هذا الامر ما كان إلا بالسيف و القهر كما قد بيّنا، و هو قائم باق ما زال و لا حال بل زاد، و نحن فقد وجدناكم نزلتم على اهل المصيّصة، و عين ذربة، و جزيرة اقريطش، و جزيرة قبرس «1»، و جزيرة أرواد، و الثغور
__________________________________________________
(
(1/201)
1) في الاصل: قفرس، اما عين ذربه فقد اثبتها ياقوت بالالف المقصورة ذربى و قال: بلد بالثغر من نواحي المصصية، و المصصية و طرسوس من ثغور الشام بين انطاكية و بلاد الروم. اما أقريطش (كريت) فهي جزيرة بالبحر المتوسط، اول من غزاها من المسلمين معاوية ثم فتح قسما منها الوليد بن عبد الملك و تم فتحها بأمر المأمون الخليفة العباسي. و ارواد جزيرة صغيرة في البحر المتوسط مقابل طرطوس من سوريا. و سميطاط او سميساط مدينة على شاطى ء الفرات في طرف بلاد الروم على غربي الفرات. و حصن منصور من اعمال ديار مضر غربي الفرات قرب سميساط. و سيمون او سيمان نهر كبير بالثغر من نواحي المصصية قرب انطاكية.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:183
الشامية، و الثغور الجزيرية، و ثغور ارمينية، و أذربيجان، و ما يكثر احصاؤه/، و ما قد قدره اهل الخبرة الى هذه الغاية، و مقداره الف فرسخ منائر، و عمارته متصلة و مقدار السبي و الأسر نحو عشرين الف الف انسان، لا يقرون على الاسلام، بل يدخلون في النصرانية كرها، بالرهبة و الرغبة، و كذا من دخل في ذلك من البرغر و البرجان كله بالإكراه و السيف، و إن طالت مدته، و تناسى الناس كيف جرى ذلك.
(1/202)
و ادّعيتم أن هؤلاء انما دخلوا في النصرانية بالآيات و المعجزات، و أن البطرك وافى من بلاد الروم، فنزل و جنده و عليه الجوذبا و الكتين و الودار و على رأسه القبع و في يده الكرار، فأقام موتاهم من المقابر، فقاموا بأسرهم من تلقاء انفسهم و صاروا الى بلاد الروم. و وافى ميخائيل الراهب الى اهل المصيصة فقلب سيحون زيتا، و جعل اغنامهم كلها خيلا، فقاموا كلهم من تلقاء انفسهم فقبّلوا الصليب، و صاروا الى بلاد الروم. و كذا اهل سميصاط و حصن منصور، فليس عندهم في الكذب و البهت شي ء، و هم قوم يكذب لهم رؤساؤهم فيقبلون ذلك الكذب عنهم، و قلّ مصر من هذه الأمصار و ثغر من هذه الثغور إلا و قد ترددت اليه ملوك الروم السنين الكثيرة، و نزلوا عليه الأعوام المتوالية، و رعوا زروعهم و حصروهم و منعوهم الأقوات، حتى اكلوا الكلاب و السنانير و الميتة، و قتلوهم جوعا و عطشا، و قتلوا مقاتلتهم، و سبوا ذريتهم، و قادوهم بالسلاسل و الحبال، و أنزلوا بهم من المكاره ما يطول شرحه، و كذا امرهم من اوله الى آخره. و ليس/ سيف حمل بباطل في جميع الأزمان مثل سيف النصرانية كما قد بيّنا ذلك، و حيث لا يكون لهم ملك و لا سيف فإن من أسلم منهم يمنعونه اهله، و يبطلون ديونه، و يذمونه بكل فاحشة، و يسعون في كل ما يقدرون عليه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:184
من مكارهه و اضراره، و هذا ايضا ضرب من الاكراه.
(1/203)
ثم يقال لهم: هذه المنانية قد غلبت على المشرق، و ليس معهم سيف و لا مال، و يدّعون ان دينهم اضيق الاديان و أصعبها، و أنهم لا يأكلون اللحوم و لا يؤذون شيئا من الحيوان، و لا يأكلون إلا ما انبتته الارض. و عبادتهم من الصوم و الصلاة كثيرة عظيمة، و لا يدخرون الأموال، و يدّعون ان المعجزات اضطرتهم الى هذا الدين، و هم يدّعون ان المستبصرين من رهبانكم و رؤوسائكم منهم، و يدعون هرابذة المجوس «1». قالوا: و لكن ليس لنا عند المسلمين ذمة كما لليهود و النصارى و المجوس، و متى أظهرنا لهؤلاء ديننا قتلونا، قالوا: و كذا يصنع بنا ملوك الروم. و يذكرون من آيات ماني و معجزاته انه كان نورا خالصا كله و أنه لم يكن له في الشمس ظل، و أن الملائكة كانت تأتيه و تحتمله حتى تصعد به الى الشمس فيصير فيها، و أصحابه يشاهدونه، و أنهم نقلوا ذلك الجمهور عن الجمهور، و الجماعات عن الجماعات، و يدّعون لأتباعه المعجزات، و يدّعون مع ذلك انهم اصحاب المسيح و على دين المسيح، و أن الانجيل الذي معهم هو الحق دون ما معكم، فينبغي ان يكونوا على قياسكم محقين، و أن ذلك انما تم لهم بايات و معجزات كما ادّعيتم ذلك، و لهم كتب مدونة في آياته و معجزاته، و لعلها/ اكثر من السليحين الذي لكم، و من الآيات التي تضيفونها الى جميع من دعا الى النصرانية، مذ كانت النصرانية.
و هذه الهند، و هي امم عظيمة لعلها تزيد على امم النصارى «2»، و لهم
__________________________________________________
(1) كتب المعلق على هامش الكتاب: هرابذة المجوس.
(2) في الاصل: للنصارى
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:185
(1/204)
العقول و الحكم التي لا تكاد تدانيها عقول الارمن و الروم، يعبدون البددة قبل تنصر الروم بالدهور الكثيرة، و ليس يدعون الناس باتباعهم لا بسيف و لا برغبة و لا بالرهبة، و من دخل فيه لم يمنعوه، و هم يدّعون ان اصنامهم تكلمهم و تأمرهم و تنهاهم، و تبدرهم بالأمور قبل كونها، و تأتيهم بالأمطار و ما يسألونها من الرخاء و النعم، و تدفع عنهم السوء، و تشفي مرضاهم، و يحملون زمناهم على الجنائز الى سوق الاصنام فينقهون و يرجعون على اقدامهم، و يدّعون انها تحيي الموتي، و لهم رقى يدعون انها تشفي و تحيي، فينبغي ان يكون هؤلاء محقين صادقين.
و المجوس تدعي لزرادشت من المعجزات و الآيات اكثر مما يدعيه النصارى لمن دعاهم الى النصرانية، و يقولون: نحن لا نكره احدا على الدخول في ديننا و لا نرغبه فيه، و هو دين خصنا اللّه به، فمن دخل فيه لم نمنعه، و إنما نقاتل و نحمل السيف على الامم لتأدية الخراج و الدخول في الطاعة فقط، فأما لأجل الدين فلا نحارب. و عقول الفرس و حكمتها و تحصيلها قد عرفه الناس، و كثرة وسع ممالكها فوق ممالك الروم بطبقات، فينبغي على قياسكم ان يكونوا محقين و صادقين.
فان قلتم لهم: لكم ملوك عتاة جبابرة هم ادخلوكم بالقهر و السيف و الرغبة و الرهبة في هذا الدين، قالوا لكم: أما الدين فما تعرضوا لإدخال الناس فيه و لا/ اشتغلوا به، و إنما كان أخذهم للناس بالسمع و الطاعة و الخضوع للملك، و هذا معروف.
و العيان و الموجود من دين النصرانية و ما عليه هذه الطوائف لهم القهر و الغلبة و السيف مذ كانت الى هذه الغاية، و ما هاهنا سيف حمل بباطل إلا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:186
سيف النصرانية من اول امرها الى هذه الغاية.
(1/205)
و قد دعا واحد من اليهود الخزر و هم امم كثيرة فأجابوه و دخلوا في دينه عن قرب، و في ايام بني العباس و دولتهم، و لو أراد مريد ان يدعي انهم إنما اجابوا إلا بالآيات و المعجزات كما يدعي النصارى لمن تنصر لأمكنه ذلك و كان اولى بالشغب من النصارى، فإن هذا رجل واحد قصد الى ملك عظيم الشأن، و الى قوم اولى بأس شديد، فأجابوه بلا غلبة و لا سيف، و تحملوا ما في شريعة التوراة من الشدة بالختان و الوضوء و غسل الجنابة و تحريم الأعمال في السبت و الأعياد، و تحريم ما في هذه الشريعة من الحيوان، الى غير ذلك.
و لعل اليهود تدعى لهذا الداعي الآيات و المعجزات، فمنهم من يجيزها للصالحين منهم و هذا اولى بالشبه مما تدعيه النصارى، و لكن النصارى اكذب و أشد جرأة على ادعاء ما لم يكن.
ثم يقال للنصارى: ادعيتم لدينكم الضيق و الصعوبة، و قلتم: هذا أحد الادلة على صحته و على ان الامم لم تقبله و لم تدخل فيه إلا بالآيات، فقد عرفنا من قولهم في الآيات، و لو كان ضيقا صعبا شديدا لما دل ذلك على صحته فإن دعواهم هذه كدعواهم المعجزات./ و ليس يدل على صحة الدين ضيقه و صعوبته، بل ربما احتال الممخرق و المبطل على صحة ما يدعو إليه بالتصوف و التقشف و كثرة العبادة و المضايقة فيما يدعو إليه الى ان يتمكن، ثم يظهر مساوئه، و يكون ذلك له شبهة على من يرى ذلك و يسمعه، و النفوس ترحم المتصوف و المتقشف المواصل الصلاة و الصيام و إن كان مبطلا، و يحسن ظنهم فيه، و يسرعون الى القبول منه قبل النظر في حاله، و يكتفون بما يظهر منه عن البحث عن حاله، و في النظر و البحث شدة و مشقة، و تنفر نفوسهم عن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:187
حامل السيف و إن كان محقا.
(1/206)
و على ان ديانات المنانيّة اضيق من ديانات النصرانية لأنهم يحرمون اكل جميع الحيوان و ركوبه و أذيته بكل وجه، حتى انهم يحرمون قتل السباع و الحيات و العقارب و يصبرون على أذيتها و يحرمون ادخار الاموال، و يوجبون من الصوم و الصلاة اكثر مما توجبه النصارى، و يحرمون المناكح كلها و لذات النفوس، فينبغي ان يكون دين هؤلاء هو اصح من النصرانية بألف طبقة.
و الهند لها عبادات كثيرة و زهد عظيم، لا يدانيه ما يفعله أزهد رهبان النصارى. [و الهند لها عبادات كثيرة] «1» و توجب في دينها قتل انفسها، و تحرق انفسها بالنيران و هم احياء، و اذا مات رئيسهم احرقوه و احرقوا معه احبابه و اصدقاءه و خاصته و زوجته، يفعل ذلك بها ابوها و امها و اهلها، و ليس في دين النصرانية شي ء من هذا، فينبغي ان يكون دين المنانية هذا «2» اصح من مذاهب هذه الطوائف النصرانية/.
على انا لا نعرف دينا اوسع و لا ارخص و لا اسهل من دين النصارى، إذ ليس فيه زاجر مخوف كالحدود المكتوبة، و لا النار، و لا عذاب الآخرة، و ان اشد العذاب في الآخرة ان المعاند الذي قد عرف الحق و تركه، يلحقه غمّ مدة ثم ينجلي و ينقضي، فأما من لم يعاند، و ان اخطأ، و ان كان مع اعتقاده مخالفا لدين النصارى فليس عليه خوف و لا عقاب، اذا كانت نيته سليمة و اعتقد الشي ء على انه حق و ان كان باطلا. و اما النصارى فليس
__________________________________________________
(1) لعل العبارة مكررة من الناسخ
(2) في الاصل: و هذا، و لعل السياق يقتضي حذف الواو.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:188
(1/207)
عليهم خوف، و لا يؤخذون بذنب من الذنوب، و قألوا لأن الرب الذي هو الأب «1» انما ارسل ابنه ليصلب و يقتل ليحمل خطايانا و يغفر ذنوبنا. فليس دين يغري بالقبيح، و يبعث على ارتكاب الفواحش، و يهيج على الفساد اكثر من دين النصرانية، و هم يدعون فيه الضيق قحة منهم و مباهتة، و هو كما ترى، و انما يدّعون لأهله و لمن دعا اليه المعجزات لأنه ليس فيه حجة و لا على صحته دلالة.
ثم نقول للنصارى: اعندكم ان من حمل السيف كان مبطلا؟ فإن قالوا: نعم، قلنا: فالمسيح اول المبطلين، لأنه «2» عندكم ارسل موسى عليه السلام و غيره من الانبياء بالسيف و قتل الرجال و النساء المخالفين له، و احلّ له في بعض الحروب قتل الرجال و كل امرأة ضاجعت رجلا و استبقاء الأبكار، و احل له الغنائم و اخذ الاموال و دفعها الى بني اسرائيل، و كذا سائر الانبياء الذين تتولونهم و تقولون إنهم على الحق، الى ان جاء المسيح و ظهر للناس/، و قال: ما جئت مخالفا لموسى و لا للتوراة و انما جئت متمما، و لأن تسقط السماء على الارض ايسر عند اللّه من ان يحلّ شي ء مما عقده موسى، و من حل و لوالدي هو، و اخذ من ناموس موسى يدعى ناقصا في ملكوت السماء «3».
ثم ليس عند هؤلاء اخذ الجزية ممن ملكوه و قدروا عليه و لا إقراره على
__________________________________________________
(1) في الاصل: الابن
(2) في الاصل: لأنهم
(3) جاء في انجيل متى الاصحاح الخامس فقرة 17 و ما بعدها: «لا تظنوا اني جئت لأنقض الناموس او الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل. فاني الحق أقول لكم الى ان تزول السماء و الارض لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى و علم الناس هكذا يدعى اصغر في ملكوت السماء».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:189
دينه، و ليس إلا الإجابة الى الدين او القتل، و هذا اعظم و أشد و أغلظ من دين الاسلام و شريعته.
(1/208)
و نراكم تدعون للمسيح الرأفة و الرحمة، و تنزيهه عن فعل الألم و الشدائد و المضار و الهموم، و هو عندكم قد شرع التوراة و احكامها و حدودها، و غرق اهل الارض في طوفان نوح، و عندكم ان هذا الموت و الجذام و البرص و العمى و الصمم و إنزال الجرب و الاسقام و انواع الألم بالبهائم التي ما عصت من فعله، ثم اباح ذبحها و اكل لحومها و إيلامها بالكد و الركوب و الحمل عليها الى غير ذلك مما قد فعلوه، فأين الرأفة و الرحمة، و أين هذا ما أباحه نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلم من قتل من كفر باللّه و افسد في الارض، هذا و لو «1» كنتم ترون المسيح نبيا مرسلا لما وجب ان تعيبوا حمله السيف لأنه قد جاء وصوب حمل الانبياء قبله للسيف، و اباحة الحيوان، و ان الامراض و الاسقام من اللّه و من قبل اللّه، فكيف و انتم [تدعون ان الفاعل لذلك جميعه هو المسيح ] «2» فما سمع بقوم هم اجهل و أوقح و أبهت من النصارى، إذ هذا قولهم و هم يعيبون حمل محمد صلّى اللّه عليه و سلم السيف على من كفر باللّه و عبد الاوثان و الكواكب و النيران من دون اللّه و كذب بهم/ و بهتهم اكثر من هذا. فإن قالوا: إن هؤلاء الانبياء حملوا السيف بأمر اللّه، قيل لهم: فقد بطل ان يكون حمل السيف باطلا من كل وجه على ما ذهبتم إليه، و وجب ان يراعي حامله، فإن كان قد حمله بحجة كان محقا. فينبغي ان ينظروا في اعلام محمد صلّى اللّه عليه و سلم و معجزاته و آياته،
__________________________________________________
(1) في الاصل: لو، و قد أضفنا الواو لما يتطلبه سياق الكلام.
(2) وردت هذه العبارة في الاصل على النحو التالي: «تدعون انه هو الفاعل لذلك جميعه المسيح له».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:190
و يعلموا «1» انه مثل من تقدمه من الانبياء.
(1/209)
و تدعون التصوف و التقشف و طول الصيام و الصلاة، و النهي عن حمل السيف. و ليس في دين النصارى و المنانية و الديصانية و اشباههم حجة، فهم يخدعون الناس بلبس الصوف و إظهار الزهد.
و مثل هذا من جهلهم و مخاريقهم انهم يعيبون محمدا صلّى اللّه عليه و سلم باتخاذه النساء، و هم يعلمون ان آدم و نوحا و ابراهيم و لوطا و اسحق و يعقوب و الأسباط و موسى و هرون و داود و يوشع و غيرهم ممن يقولون بنبوته و يشهدون بصواب مذهبه، قد اتخذوا من الازواج و السراري مثل ما اتخذ هؤلاء، بل فيهم من قد اتخذ في ذلك اضعافا مضاعفة كما كان لداود و أمثاله. و الروم هم اصل النصرانية و لكنهم لم يجدوا في رسول صلّى اللّه عليه و سلم مغمزا فعابوه بحمل السيف و اتخاذ الأزواج، و هم يعيبون هذا منه صلى اللّه عليه و يدعون ان اللّه قد اتخذ مريم اما لولده و اتخذ الولد لنفسه و ان لم يسموا «2» مريم زوجة.
و من عجيب ديانتهم، ان المذنب منهم يقول للقس و الراهب: اعمل لي مغفرة و توبة و تحمل ذنوبي، و يجعل له على ذلك جعالة على مقداره في الغنى و الفقر، فيبسط القس كساءه و يأخذ الجعالة ثم يقول للمذنب: هات الآن و اذكر لي ذنوبك/ ذنبا ذنبا حتى اعرفها و أتحملها. فيبتدى ء ذلك المذنب رجلا كان او امرأة ملكا او سوقة فيذكر ما قد فعله شيئا شيئا، حتى يقول: هذه هي كلها، فيقول له القس: انها عظيمة و لكن قد تحملتها
__________________________________________________
(1) في الاصل: و يعلمون
(2) في الاصل: يسمون
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:191
و غفرت لك، فأبشر. و ربما جمع الكساء من اطرافه و وضعه على ظهره و قال: ما اثقل ما في هذا الكساء من الذنوب.
(1/210)
و من المأثور عنهم و الشائع عليهم ان المرأة تقرّ عند القس بذنوبها، فتقول: أصابني رجل في يوم كذا فيستفهمها كم مرة فتقول: كذا و كذا، فيقول لها: اخبريني هذا الرجل نصراني او مسلم، فربما قالت: مسلم، فيستعظم هذا، و يستزيدها في الجعالة، فان زادته، و إلا غضب و انطلق و هو يقول: قد زنى بها المسلمون و تريد ان اغفر لها و إنما اعطتني كذا و كذا، فتردّه و تزيده و ترضيه.
هذا من دينهم الذي الذي يدعون ضيقه، و يدعون انه على دين المسيح، و هذا لا يجوز ان يكون دينا له صلى اللّه عليه.
و قد قيل لبعض قسوسهم ما هذا من التوبة؟ فقال: و ما وجه تركنا لهم لا نسألهم عن ذنوبهم و نطعمهم في غفرانها، فإنا لو لم نفعل ذلك و نأخذ المال منهم لافتقرت البيع.
و قلّ ما تجد منهم من يخاف عذاب الآخرة، لأنهم يعتقدون ان المسيح إنما قتل نفسه ليقيهم من الذنوب و العذاب، و أنه جالس على يمين ابيه، و أمه جالسة مما يلي يساره فهي تتلقى الذنوب اذا طلعت و تقول لابنها: سل يا بنيّ أباك الرب غفرانها، فهو عندهم يغفرها و يسأل أباه غفرانها.
و الملوك بمصر و الشام و العراق و الجزيرة و فارس و ما والى ذلك يعوّلون على النصارى في الكتابة و الوزارة و الجهبذة. فلهم الرئاسة على المسلمين، يجبون اموالهم و يأخذونها منهم بالضرائب/ الموضوعة على كل شي ء مما لم ينزل اللّه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:192
به سلطانا، فيذلون بها الاسلام، و ينفقونها في مكاره المسلمين.
(1/211)
و للفرس ايضا مثل هذه الفضائح التي تقدمت للنصارى، و هو ان زرادشت قد شرع لهم تطهير الحائض و النفساء و التي قد مات جنينها في بطنها ببول البقر «1» يتولى ذلك منها الهربذ بعد ان يجردها و يعريها، و يباشر ذلك منها بيده و رأي عينيه، فيبركها و يغسل ذلك المكان بيده، و ربما جزعها منه جزعا و اخذ على ذلك الجعالة على مقدارها. و اول ما يأخذ الخلعة التي عليها اذا جردها للتطهير، و اقل ما يأخذ على افقر فقير اربعة مثاقل فضة. و زعم الفرس و المجوس انه كان يرتفع لموبذان موبذ في ايام ملكهم من هذا الوجه اربعة ألف ألف دينار ينفقها على الهرابذة، و شرع لهم بالإنجاب على زوج المرأة اذا غاب عن امرأته او عجز عن بضاعها، ان يوكل في نيكها من يختاره من أصدقائه و ثقاته و رفقائه.
و لم نكن في الرد على المجوس و لا النصارى، إنما قصدنا البيان انهم مخالفون للمسيح و دينه في الأصول و الفروع.
فهذا يرحمك اللّه اصل مذهب النصرانية، و مذهب القراء و الزهاد منهم.
فأما اهل الجدل و النظر و من يتجرد في نصرة النصرانية و يضيف الكتب في ذلك فكلهم ملحدة و زنادقة، و يكذبون المسيح و جميع الأنبياء عليهم السلام، و يستجهل الشرائع و من يعمل بها فلا تكاد تجد فيهم إلا من هذه سبيله، مثل: قسطا بن لوقا، و حنين بن إسحق، و ابنه إسحق، و قويرى، و متى الجرمقاني و هو المكنى ابو بشر بن يونس الذي فسر كتب الملحدة،
__________________________________________________
(1) كتب المعلق في الهامش: «تطهير الحائض و النفساء ببول البقر في شرع المجوس».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:193
و هلك في سنيّ نيف و عشرين و ثلثمائة، و بعده يحيى بن عدي، و عنه اخذ هؤلاء الملحدة «1»/ الذين في زمانك، و مذهبهم لا يقوم بالجدل.
(1/212)
و اذا قيل لهم: قالوا: حجتنا في ذلك على لسان أرسطاطالس و من قوله و من أصوله، و أرسطالس لا يؤمن بكتاب و لا نبي و لا شريعة، و ينكر فلق البحار، و انقلاب العصا حية، و إحياء الموتى، و ولادة مريم من غير ذكر.
و يرى ان التصديق بذلك جهل و حمق و قلة عقل. فانظر من أولى بقلة العقل، هو او من يجعله حجه لدينه و يأخذ عنه، فما بعد هذا في فضيحتهم شي ء.
فاعرف هذا من طريقتهم، فقد تبين لك ان ديانات هؤلاء النصارى خلاف ديانات المسيح و وصاياه و عهوده، و علمت علم محمد صلّى اللّه عليه و سلم بذلك، و ان علمه به من قبل اللّه، و انه من معجزاته.
و النصارى تقول: لعمري إن المسيح ما عمل طول حياته بشي ء مما نحن عليه، و كذا تلاميذه من بعده فما لزموا شريعة التوراة و لكن من أتى بعدهم نقلونا و قالوا لنا قد قال المسيح: اعملوا بعدي بما ترون، قلنا: قد صدقتموهم في دعاويهم و هم قد جاؤوا بالرئاسة عليكم و التحكم فيكم و في أموالكم.
فإن قالوا: إننا لم نقبل منهم إلا بالمعجزات، فقد فرغنا منها و بيّنا كيف كان الأصل من قسطنطينوس بين هيلانة «2» و بيّنا ان المسيح و صاهم بشريعة
__________________________________________________
(1) كتب المعلق في الحاشية: «الذين يكذبون المسيح و جميع الانبياء عليهم السلام، و يستجهلون الشرائع مثل قسطا بن لوقا».
(2) في الاصل رسمت هيلانية، اما قسطنطينوس فقد رسمت في الاصل على النحو التالي: قسطنيطوس.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:194
موسى عليه السلام، و ان يعملوا بما رأوه يعمل طول حياته بما قدمناه؛ من تجريد التوحيد، و تنزيه اللّه عز و جل، و بإقامة الشريعة كما بينا.
(1/213)
و حديث انتقالهم في كتابهم المعروف بأفراسكس و في السنهودس الذي لهم، و انما هم ينهون من لا يعرف، و يقولون: نحن على شريعة المسيح، فإذا وافقهم العارف بذلك، قالوا: قد انتقلنا بالآيات و المعجزات، فإذا/ عرفهم حال قسطنطينوس بن هيلانة و ما فعله و جميع هذا الذي بيناه، قالوا:
نهينا عن الجدل و البحث و التفتيش.
و من عجيب أمورهم ان معهم و فيما حفظوه عن المسيح انه عليه السلام قال لهم: انكم تأتوني يوم القيامة، و ليحشرنّ اليّ سكان الارض فيقومون عن يميني و شمالي، فأقول لأبناء الشمال: لقد كنت جائعا فما أطعمتموني، و عريانا فما كسوتموني، و مريضا فما عدتموني و لا داويتموني، و محبوسا فما زرتموني، فيكون من جوابهم ان يقولوا لي: متى كنت يا سيدنا مريضا او عريانا او جائعا او محبوسا؟ ألم نكن باسمك نتنبأ، و باسمك نشفي المرضى و نقيم الزمنى، و باسمك نطعم الجياع، و نكسو العراة، و نداوي المرضى، و باسمك نأكل و نشرب؟ فأقول لهم: قد كنتم تذكرون اسمي و لا تشهدون عليّ بالحق، ابعدوا عني يا عاملي الإثم. ثم اقول لأبناء اليمين: هلمّ ايها الصالحون الى رحمة اللّه و الى الحياة الدائمة، و ليس هاهنا من يطعم و يكسو او يداوي المرضى و يأكل و يشرب باسم المسيح و يفعل ذلك للمسيح إلا هؤلاء الطوائف من النصارى. فهذا نصّ واضح ببراءته منهم، و عداوته لهم.
و الروم تأكل الخنزير و جميع الحيوان و ذبائح الناس كلهم، فتبعوا الروم في هذا كما تبعوهم في غيره. فاذا قيل لهم في ذلك، قالوا: إن شمعون الصفا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:195
(1/214)
رأى في المنام، و اذا ثوب مربوط بأربعة اطرافه و هو ينزل من السماء الى الارض، فيه كل الدواب ذوات الاربع القوائم و زخارف الارض، و طير السماء، و حيوان الماء. و سمع صوتا يقول: قم يا شمعون، قم اذبح و كل، فقال شمعون: حاشا لي يا رب، فإني منذ قط لم آكل شيئا نجسا، فعاد الصوت/ المرة الثانية يقول له: لا تنجس ما طهره اللّه. و هذا عندهم رآه شمعون بعد موت المسيح و رفعه.
قلنا: فقد شهد شمعون ان هذا مما حرمه المسيح و نجسه، فقد اكد فضيحتكم اذ هو ما جاء الا بالتمام لا بالتغيير و النسخ.
و العجب ان معهم في أشعيا النبي «1»، أن شر الأمم و أنجس الأمم و أخبث الأمم، هذه الأمة ذات القلفة، الآكلة للخنزير، و كل البهائم. و هذا هو صفتهم.
و في النصارى من يزيد في الكذب و المخرقة و يقول: انما قتل اليهود المسيح لأنه أحيا الموتى و أقام الزمنى «2» في يوم السبت، و هذا دليل على انه أحل السبت، و نسخ ما في التوراة.
قلنا: قد بينا ما في الأناجيل و في أفراسكس من وصايا المسيح بالتوراة، و ما عمله، مما فيه بطلان هذه الدعاوي.
__________________________________________________
(1) في الاصل: شعيا بدون ألف
(2) جمع زمين: و هو المريض الميئوس من شفائه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:196
و مما يزيد في البيان عن كذبهم قول متى في انجيله: «ان المسيح كان يتمشى بين الزروع يوم السبت، و كان تلامذته قد جاعوا، فجعلوا يفركون السنبل و يأكلون، فلما رأى الأحبار ذلك قالوا له: إن تلاميذك هوذا يفعلون ما لا يحل لهم فعله في السبت، فقال المسيح: فما قرأتم ما صنع داود إذ جاع، كيف دخل بيت اللّه و أكل من خبز مائدة الرب الذي لم يكن يحل له أكله، ما خلا الكهنة فقط.
(1/215)
و قال لهم ايضا: «و ما قرأتم في التوراة ان الكهنة في الهيكل يحلّون الهيكل و ليس عليهم لوم». فانظر كيف بيّن ان هؤلاء ما حلّوا «1» السبت و لا ما في التوراة، و أنهم انما عملوا بما يحل في التوراة، و لكنكم انتم جهلتم، فلو كان قد نسخها لقال/ لهم: انما فركوا السنبل في السبت لأن اللّه قد نسخ ذلك على يدي، و لم يحتج الى تبيين حال الاضطرار.
و ذكر متى في انجيله ان المسيح لما أبرأ الرجل الأمثال قالت له اليهود:
هل يحل الإبراء في السبت؟ فقال لهم: اذا وقع لأحدكم كبش في البئر أما تستخرجونه، فالانسان أفضل من الكبش، و أنه قد يجوز أن يفعل الفعل الجميل في السبت، فلو كان حل السبت لقال ذلك و أظهره و لم يحتج، و قد قال لوقا في انجيله: ان المسيح كان يعلّم في يوم السبت في بعض الكنائس، و كان هناك امرأة بها مرض منذ ثمانية عشر سنة، و كانت منحنية، و لم تك تستطيع ان تبسط قامتها، فلما رآها المسيح قال لها: ايتها المرأة قد أطلقت من مرضك، فعوفيت من ساعتها. فقال رئيس اليهود: إن الايام التي يجوز فيها العمل ستة ايام ففيها تعالجون لا في السبت، فقال له المسيح: أما يطلق
__________________________________________________
(1) هكذا في الاصل، و لعلها أحلوا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:197
احدكم ثوره او حماره عن المعلف في يوم السبت و يذهب به و يسقيه الماء، فهذه التي هي بنت ابراهيم عليه السلام، و قد ربطها للشيطان منذ ثمانية عشر سنة لا يجب ان تطلق عن الأسر. فلو كان كما قال هذا الكذاب، لقال:
السبت منسوخ، و كل الاعمال فيه جائزة مباحة.
(1/216)
و ذكر متى في انجيله: ان المسيح خبّر ببلاء ينزل بأصحابه و جلاء، ثم قال لهم: صلّوا للّه و ارغبوا اليه ان لا يكون هربكم و جلاؤكم في يوم السبت و لا في الشتاء. و هذا قاله لهم عند فراقه إياهم و وداعه لهم، لتعلم تأكيده لإقامة السبت من بعده و التمسك بشرائع التوراة، و انما امرهم مسألة/ اللّه ألا يكون هربهم في يوم السبت، لأنه لا يحل لهم ان يحملوا في يوم السبت شيئا من امتعتهم و أموالهم، و انما يحل النجاة بالنفس لا غير. و كل هذا بيّن رفض النصارى لدين المسيح.
و اذا قيل لهم: لم تصلّون الى المشرق و قد علمتم ان المسيح لم يزل يصلي الى بيت المقدس الى ان خرج من الدنيا، و انما المشرق قبلة الروم؟ قالوا:
لأن اللّه خاطب الانبياء من قبل المشرق، و بعضهم يقول: ان المسيح لما صلب أمال وجهه الى المشرق فلهذا صلينا الى المشرق، فقيل لهم: فمن أعلم بالمصالح أنتم أم المسيح، و قد علمتم و تيقنتم انه ما صلى الى المشرق، و لكنكم صرتم الى ديانات الروم و فارقتم دين المسيح.
و في الانجيل سألته السامرية: ارى انك نبيّ انت، آباؤنا انما سجدوا في هذا الجبل، و أنتم تقولون: إن الموضع الذي يجب السجود فيه انما هو اورشليم قال لها يسوع: ايتها المرأة «1» صدقت «2»، أما [إن ] «3» بين اتباعه [من ] «4» لا
__________________________________________________
(1) في الاصل: الامرأة
(2) في الاصل: صدقتي
(3) زيادة على الاصل يقتضيها السياق
(4) زيادة على الاصل يقتضيها السياق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:198
يسجدون للرب لا في هذا الجبل و لا في اورشليم.
فانظر الى الافصاح و البيان في هذا، ان المسيح إنما كان يصلّي الى اورشليم و هو بيت المقدس، ليعلم انهم خالفوا ما كان عليه.
(1/217)
و قد ذكرت لك انه ما قصدنا بيان فساد النصرانية، إنما قصدنا البيان عن مفارقتهم لدين المسيح و مخالفتهم له في الاصول و الفروع جميعا مع شدة تحققهم به، و أن علم محمد صلّى اللّه عليه و سلم بذلك انما هو من قبل اللّه عز و جل، و أن ذلك من معجزاته و آياته و إن كان قد اتفق من حكايات اقوالهم و الرد عليهم ما لا يكاد يوجد في كتاب، سيما حكاية تسابيحهم و أقاويل رؤسائهم.
فاحتفظ بذلك فانك لا تكاد تجده/ في كتاب، و بك الى حفظه امس الحاجة.
فأما المسألة لهم و الرد عليهم فكثير.
فمن ذلك، كتاب الجاحظ، و كتاب آخر له يعرف بالرسالة العسلية، و لأبي جعفر الاسكافي، و لأبي بكر احمد بن علي بن الأخشيد قطعة حسنة في كتاب المعونة. و لأبي عيسى الوراق كتاب عليهم، و لأبي علي كتاب عليهم، و لأبي هاشم مسألة في البغداديات، و في أصول ابن خلاد و في شرحه، و في الايضاح لأبي عبد اللّه البصري، رحمة اللّه عليهم اجمعين، كلام عليهم «1».
__________________________________________________
(1) ابو بكر الاخشيد احد رجال الفكر الذين أيدوا المعتزلة في بعض أقوالهم و خالفوهم في بعضها توفي سنة 320 ه. اما ابو علي و ابو هاشم فهما من كبار رجال الاعتزال و قد سبق التعريف بهما، اما ابو عبد اللّه البصري فهو الحسين بن علي اكبر أساتذة القاضي عبد الجبار و من كبار رجال المعتزلة توفي سنة 367 ه او 369. و اما ابو علي بن خلاد فهو ايضا احد كبار رجال الاعتزال و هو صاحب كتاب الاصول و الشرح في علم الكلام و هو احد أساتذة القاضي و قد عده في الطبقة العاشرة، اما ابو جعفر محمد بن عبد اللّه الاسكافي فقد كان احد أئمة الاعتزال، خلف حوالي سبعين كتابا في الكلام، توفي سنة 240 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:199
(1/218)
و ليس عندهم ان المسيح تكلم في المهد، و لا اتى ببراءة ساحة امه، و أكثر ما عندهم ان مريم عليها السلام كانت مملكة بابن عم لها يقال له يوسف و يعقوب النجار، و أنها كانت عنده، و أن الناس كانوا يرون ان المسيح ابن يوسف، الى ان عمّده يوحنا في الاردن، و جاء الصوت من السماء: هذا ابني الذي سررت به نفسي. قالوا: فعلمنا انه ابن اللّه تعالى اللّه لا ابن يوسف النجار. قالوا: و كان هذا بعد ان اتى على المسيح ثلاثون سنة، و كان الناس لا يشكون انه ابن النجار الى ان جاء هذا الصوت بزعم النصارى، فأي سخف وضعة و طعن في حكمة اللّه اعظم من هذا، و هو عندهم رب العالمين، و قد خلّى عباده يقذفون امه.
و فريق منهم و هم الخاصة يذهبون الى ان ربهم يهودي بن يهودي، مولود من يهودية، و ان امه امرأة يهودية، و قال متى في انجيله: لما ظهر الحمل بالمسيح بمريم البتول هم يوسف النجار بطلاقها، فأتاه الملك في المنام فقال له:
يا يوسف النجار لا ترتب بحليلتك مريم فإن الحالّ فيها من روح القدس، فأمسك عن طلاقها.
فانظر كيف يشهد بأنها حليلة يوسف النجار و زوجته،/ و انه هم بطلاقها و اتهمها بالزنى و أراد طلاقها فرارا من العار.
و بعضهم يذكر في ترجمة انجيله: هذا ميلاد يسوع «1» بن يوسف النجار، و متىّ يقول في انجيله: هذا ميلاد يسوع «2» المسيح. و قال: يعقوب والد يوسف رجل مريم التي منها ولد يسوع المسمى مسيحا، فانظر كيف يحققون ان يوسف زوجها.
__________________________________________________
(1) في الاصل: ياشوع.
(2) في الاصل: ياشوع.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:200
و في الانجيل ان المسيح لما ولد ختن بعد ثمانية ايام، و ان يوسف النجار اخذه مع امه و خرج بهما الى مصر فأقام اثني عشر سنة، ثم اخذهما وردهما الى بيت المقدس.
(1/219)
و فيه ان يوسف دخل بيته فقال لمريم: اين الصبي، يعني عيسى المسيح، فقالت له: ظننته معك، فقال: و أنا ظننته في البيت عندك و معك، فقلقا لذلك و خافا عليه الضياع، فخرجا جميعا في طلبه، فقال يوسف النجار:
لمريم خذي انت طريقا و آخذ انا طريقا آخر، فلعل واحدا منا يجده.
فمشيا متحرقين، فلقيته مريم امه فقالت: يا بني، اين تكون؟ ظننتك مع ابيك و ظنك ابوك عندي فلما لم يرك قلقنا فأخذ ابوك في طريق و أخذت انا هذا الطريق، فأين كنت، و مع من كنت و ابوك متحرق عليك؟
فقال: كنت في بيت المقدس اتعلم.
و ذكر متى في انجيله: ان المسيح اجتمع مع اليهود و ضرب لهم الامثال، فلما فرغ المسيح من هذه الامثال تحول فدخل مدينته، و كان يعلم في كنائسهم فكانوا يتعجبون و يقولون: من اين لهذا هذه الحكمة، أ ليس هذا ابن يوسف النجار، أ ليس امه التي تسمى مريم و اخوته يعقوب و شمعون و يهوذا و اخواته كلهن أ ليس هن عندنا، من اين لهذا هذا كله، و جعلوا يحتقرونه و يأثمون فيه/ و يقذفونه، و المسيح يقول لهم: ليس من نبيّ إلا و يحتقر في مدينته.
و النصارى توافق المسلمين في ان المسيح ولد من غير ذكر، ثم يقولون في اناجيلهم: إن يوسف النجار زوج مريم ام المسيح، و رجل مريم، و ابو المسيح، و انه كان يدعي بذلك و يعرف به غير متناكر بينهم، و أنه كان له إخوة و أخوات.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:201
و في أناجيلهم و أخبارهم انه لما طلب جاءته أمه مريم و معها أولادها يعقوب و شمعون و يهوذا، فوقفوا حذاءه، فقال لها و هو على الخشبة: خذي أولادك و انصرفي، فما الذي بعد هذا في البيان ان مريم ولدت بعد المسيح من يوسف النجار هؤلاء الجماعة و كانوا إخوة المسيح من أمه، فأي فضيحة تكون أبشع من هذا.
(1/220)
و من عجيب امر النصارى، ان اصحاب الأناجيل الاربعة قد قصدوا الى ذكر نسب يوسف النجار خاصة، و ليس في ذلك نسب للمسيح اذ كان مولودا من غير ذكر، و انما يتصل نسبه الى سليمان بن داود عليهما السلام من قبل أمه لا من قبل احد من الرجال، و هذا تخليط بيّن و جهل ظاهر، و لذلك وجد اليهود السبيل الى الطعن في المسيح.
و لتعلم رحمك اللّه، ان هذه الطوائف من النصارى أجهل عالم اللّه بالمسيح و اخباره و أخبار أمه، و ان كل واحد من اصحاب هذه الأناجيل إنما تلفظ ما كتبه بعد المسيح بالدهر الطويل، و بعد مضي اصحابه عمن لا يعرف و لا يحصل، و فيها من الاختلاف و التناقض لما هم عليه ما يطول شرحه.
و في أناجيلهم ان المسيح أتاه قوم من اليهود يسألونه آية فقذفهم و قال مجيبا لهم: إن القبيلة الخبيثة الفاجرة تطلب آية و لن تعطى آية خلا آية يونان النبي، هذا على قولهم يدل انه ما معه آية بهذا الإفصاح، و أنه ما ادعى ذلك عند/ الحاجة اليه.
و النصارى لا تعرف الربوبية و لا تفرق بينهما و بين الانسانية و لا يقوم على احد حجة بنقلهم و ادعائهم إلا بايات للمسيح، و لو لا شهادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للمسيح عليه السلام بالنبوة لما عرف احد ذلك.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:202
و من أكبر كيد رؤساء النصارى، ادعاء المعجزات لأنفسهم و لأمثالهم ممن سلف من رؤسائهم، و النصارى تقبل ذلك منهم بغير برهان و لا حجة، فاذا مات ذلك الرئيس من راهب او قس او مطران او جاثليق قعد راهب و قال:
أنا كنت أخدمه فرأيت منه العجائب، فترحموا عليه معشر النصارى، و توسلوا الى اللّه به فانه شاهد، فاشهدوا قبره و أكثروا زيارته. فيقول النصارى له:
(1/221)
يا رباني «1» حدثنا بما رأيت منه فيمتنع و يقول: أعفوني من الشرح، و كلما تمنع لجّوا في مطالبته، فيقيم على الامتناع فيزدادون حرصا في استخباره، فيقول: إنه في حياته ما تحدث به فما أحبّ أنا ان أتحدث به بعده، و إنما ذكرت لكم فضله لتتوسلوا الى اللّه به، فان صدقتموني فافعلوا و إلا فدعوا فما يضرني و ليس هي أعجوبة و آية لي و انما هي له، فيزدادون حرصا، فيقول:
قد كان انقطع بنا الزيت في البيعة، و كان لا يطلب الزيت من احد و لا يدعني أطلبه، فاذا كان الليل أشعل القنديل و قام الى جرة له فيها خل فيصبه في القنديل فيصير من ساعته زيتا فيصطبح به كذا و كذا شهرا و قد كان في الجرة أكثر من خمسين رطلا خلا و هو في الجرة نأكله عند الافطار، و في الليل/ اذا قلبه في القنديل صار زيتا.
و يتحدث آخر عن راهب صحبه، يقال له أبا مرقس، و انه كان كثير العبادة، و أنه توكل على اللّه و ألقى نفسه في البحر، و قال: يفعل اللّه بي ما شاء، إن شاء غرقني و ان شاء نجاني و القاني حيث شاء من ارضه. قال: فما جسرت ان افعل مثل ما فعله، و أقمت بمكاني بعده على ما فيّ من وحشة فراقه مدة طويلة، ثم دعاني ما فيّ من الوحشة له ان افعل مثل فعله، فإما
__________________________________________________
(1) في الاصل: يا ربن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:203
ان أغرق فأستريح من الوحدة»
.
(1/222)
ففعلت و بقيت في البحر مدة، ثم ألقاني اللّه الى ارض لا اعرفها و لا بها ينبوتة يأكل منها حيوان؛ فأقبلت امشي فيها فوقعت عيني على شخص قائم يصلي فقصدت نحوه فاذا هو «أبّا مرقس» صاحبي، فقلت له: ربّاني «2»، مذ كم انت هاهنا؟ قال: مذ فارقتك ألقاني اللّه الى هذه الارض، فقلت له: من اين تعيش و ليس هنا ينبوتة يأكلها حيوان؟ فقال: اذا كان العشاء التفت من صلاتي فأجد سمكة مشوية حارّة في طبق رغيفين و سكرجة عسل، فأفطر على ذلك و يرتفع الطبق و لا ارى من يرفعه و لا من يضعه. فقلت له: هذا المقدار هو قوتك انت و ان شاركتك فيه ضيقت عليك، فكيف اعمل انا و هذه ارض قفر، ما بها نبات و لا بها يبس «3»، فقال: ما ادري و ان شئت ان تقيم و تشاركني فيما يجيئني فافعل.
فأقمت، فلما كان العشاء اذ بطبقين و سمكتين و رغيفين و سكرجتين، أحدهما لي، و الاخرى له. فقال لي: قد جاءك من الرزق مثل ما جاءني، فأقمت معه كذا و كذا/ سنة، فمرض و وصاني بدفنه و أمرني انصرف بعد دفنه اليكم لأعرفكم خبره لتزدادوا بصيرة في دينكم، و لو لا وصيته لما فارقت المكان.
و يقول آخر من الرهبان لهم: أبشروا معشر النصارى، فإن دينكم الحق، فقد رأيت من العجب ما عرفت صحته، فيقولون له: مثل اي شي ء رأيت فيقول: ليس هو شي ء لي و إنما هو لغيري، و هو اني كنت في جملة الجاثليق فلان، فقال لي: يا اخي بلغني عن مطران خراسان انه يأكل اللحم، فامض اليه و قل له: اما علمت ان المطران لا ينبغي له ان يأكل اللحم؟ فمضيت
__________________________________________________
(1) لعل في العبارة نقصا
(2) في الاصل: ربن
(3) في الاصل: أيبس
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:204
(1/223)
اليه فاتفق دخولي عليه و بين يديه مقلى مملوء عصافير قد قليت و هي حارة، و هو يأكل، فقال لي: كل، فقلت له: ابونا الجاثليق ارسلني اليك يقول لك: أما علمت ان المطران لا ينبغي له ان يأكل اللحم، فقال لي: هكذا قال لك ابونا؟ فقلت: نعم، فرفع يده و قال لي: نعمل ما قال ابونا، و قال لتلك العصافير التي في المقلى: كش، فتطايرت كلها، و رفع المقلى، فيصدقونه و يدونون ذلك، و يكتبونه. و يطرأ على من بالعراق منهم و ما و الى العراق راهب لا يعرفونه، فيقولون له: و قد دخل البيعة: رباني، من انت، و من اين جئت؟ فيقول: دعوني و أعفوني فيراجعونه فيقول:
ذنبي عظيم و فضيحتي فاحشة فلا تسألوني عن شي ء، فيلحون في سؤاله فيقول:
بشرط انكم تسترون عليّ، فيقول: انا كنت رجلا يهوديا شديد البغض للنصارى و المسيح، و سمعتهم يقولون في الانجيل ان المسيح قال: من كان نصرانيا خالصا و قال للشجرة قفي على أمواج البحر/ و لا تبرحي، فانها تقف. و كنت لا اصدق بهذا فجئت الى الملك و قلت له: أنا رجل يهودي، و قد قلتم ان المسيح قال لكم كيت و كيت، فإن صح هذا و رأيته بعيني تنصرت من ساعتي. فوجه الملك الى السواد فجاؤوه بشيخ ضعيف البنية و عليه المسوح، فقال له: هذا رجل يهودي، و قد قال كذا و كذا، فهات ما عندك في هذا، فأقبل الشيخ عليّ و قال: يا هذا اتق اللّه، إن كنت متعنتا فامض بسلام و لا تؤذنا، و إن كان ما تقوله حقا و عن نية صادقة فعرفني، فحلفت له على صدق نيتي، فقال لي: اذهب الى الصحراء فانطر اي شجرة شئت فعلّم عليها و ارجع اليّ فعرفني العلامة، فذهبت و أعلمت على شجرة عظيمة و رجعت اليه فعرفته، فقال لي: تجيئني في غد حتى اريك شجرتك على موج البحر كما اقترحت. فجئته من غد و أخذ بيدي و جاء بي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:205
(1/224)
الى البحر فأراني الشجرة التي اعلمت عليها قائمة منتصبة على موج البحر فتنصرت، فأنا اسيح في الارض و أبكي على ذنوبي و ذهاب ايامي. فيصدقونه، و يكتبون ما قاله، و يكون مما يدرس في البيعة و يسمعه الرجال و النساء.
و يجيئهم آخر من الرهبان فيبكي، فيقولون له: من انت، و ما يبكيك؟
فيقول: دعوني فإن مصيبتي عظيمة، فيقال له: اذكرها يا بني، فيقول:
ما اعقل امري، و ما ادري ما اقول، فيقولون له: على كل حال اذكر مصيبتك و عرفنا حالك، فيقول: او ليس قد مات ابونا جورجس؟ فيقال له: و من جورجس؟ فيقول صاحب البلا الفلاني و الصومعة الفلانية، فيقولون:
ما نعرفه، و ربما فيهم واحد يقول: قد سمعت به فيقول: فهل بلغتكم آياته و معجزاته، فيقولون: حذ ثنابها، و اذكرها لنا. فيقول: ما «1» لي اذكرها لكم، ما انتم نصارى بل انتم خلاف النصارى، و لو كنتم نصارى لعرفتموه و عرفتم آياته و دلالاته. فيسألونه ذكرها فيأبى و يتمنع، فلا يزالون يراجعونه/ فيخبرهم ان الملك الفلاني ارسل فأشخصه، و قال له:
ارجع عن هذا الدين و أنا اعطيك و أكرمك و أشاركك في ملكي، فأبى، فحبسه في محبس وثيق ضيق، ثم طلبه من السجان فما وجده في السجن، فلحق السجان من الملك كل ما يكره، و قال له: انت اطلقته، و بث الرسل في طلبه فوجدوه في صومعته فأتوا به الملك فقال له: اخبرني عن السجان، اهو الذي اطلقك؟ فيقول: لا، المسيح اخرجني، و فتح الابواب لي، و حجب الأبصار عني، فقال له الملك: انا الآن احبسك في محبس، فقل للمسيح يطلقك. فحبسه في حبس وثيق من وراء ابواب حديد مقفلة،
__________________________________________________
(1) في الاصل: لما، و لعل الصحيح ما اثبتناه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:206
ثم طلبه فما وجده. فأرسل الى صومعته فإذا هو فيها، فجاء به، و قال له:
(1/225)
من اطلقك فقال له المسيح: فرده الى الحبس و قيده و ثقله بالحديد و زاد في التوثق، ثم طلبه فما وجده في الحبس، و الأبواب و الأقفال كما كانت، و وجد القيود؛ فأرسل في طلبه فوجده في صومعته فجاؤوا به و قد اغتاظ الملك مما يتم له، و من تخجيله له مرة بعد اخرى، فأمر فضربت عنقه و دفن فلما كان من غد يوم دفنه و جدوه في صومعته، و قيل ذلك للملك، فبعث و أحضره و قطعه إربا «1» و حمل و دفن فلما كان من غد وجده في صومعته، و قيل ذلك للملك، فأرسل و جاء به و قطعه إربا «2»، و دعا بنار فأحرقه و أمر برماده فألقي في البحر، فلما كان من الغد و جدوه في صومعته، فأرسل الملك و جاء به و اعتذر إليه و تنصر.
فيقول الراهب: و كل هذا كان منه و أنا معه و أشاهده منه و ما فعله الملك به، فمثل هذا لا ابكي عليه و لا تعظم مصيبتي به. و أشد من هذا، جهلكم و غفلتكم حتى كأنكم ما انتم نصارى و لا سمعتم/ بالنصرانية، و يبكي، فيصدقونه و يعتذرون إليه من غفلتهم و جهلهم بهذا الرجل و بما كان معه، و يجتمعون:
رجالهم و نساؤهم و صبيانهم، و يسألونه ذكر ذلك لهم، فيعيده على فوج بعد فوج، فينصرفون عنه و قد صدقوه. و ينبثون و يتحدثون بذلك سرورا به، و يخالدون ذلك، و يجعلون لمثل هذا اعيادا، و يجعلون له أياما معلومة يقيمون هذه الاعياد فيها، و يعيدون حديثهم ليتطرّا ذكرها و ليسمعها من يشاء من ذراريهم، و يسمون ذلك ذكران؛ فيقولون: هذا ذكران جورجس
__________________________________________________
(1) في الاصل: ارابا
(2) في الاصل: ارابا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:207
و هذا ذكران ابا مرقس، و هذا ذكران فلان «1».
(1/226)
و يجيبهم آخر، فيقول: تدرون معشر النصارى لم صار في العرب و القبط و الحبشة و الفلانيين «2» نصارى؟ فيقولون: لا، [فيقول «3»] و لكنني أدري و لو كنتم نصارى لدريتم، فيسألونه فيخبرهم. فيقول ان الآباء الأوائل باتوا ليلة لسانهم واحد، فأصبحوا و قد نطق كل واحد منهم بلسان امة من الأمم، فانطلق كل واحد منهم الى تلك الأمة التي نطق بلسانها، فدعاهم بلسانهم، و أظهر لهم الآيات و المعجزات، و إلا فقولوا لنا: لم تنصرت الارمن و العرب و القبط و الحبشة؟ فيقولون له: صدقت، هذا برهان نيّر فيكتبون هذا و يدونونه و يجعلون له عيدا و ذكرانا، و هذا اصله و مخرجه و أوله. فإذا تخلد و انبثّ و مرّت عليه الدهور و أتت عليه الأعصار، ادعوا انه شي ء كان أصله بمشاهدة الأمم لأن الكذب فيما تقادم عهده أمكن. و انما يجعلون له ذكرانا و عيدا و يوما بعينه لتتم الحيلة فيه، و ليظن من يسمع انه ما جعل له عيد و يوم معلوم و تاريخ مؤقت محدود إلا و هو حق و له اصل ليتأكد/ الكذب و يتم التمويه، و ليتصل البر و الصدقات على الرهبان في هذه الاعياد. و الفطناء من النصارى يقولون: هذه الآيات و المعجزات انما هي من احتيالات الجثالقة و الرهبان و من يبغض العمل و يفر من الكد، و يسمونهم بلغتهم السريانية «عازق معناثا «4»» معناه انه ترهّب و لزم الدين ليأكل من غير ماله و يستريح من الكد، و الرهبان اذا ما تشاحنوا على ما يأخذون يقول احدهم لصاحبه:
النصارى يفضلونك علينا، و يعطونك أكثر مما يعطونا، و مالك من فضل
__________________________________________________
(1) كتب المعلق في الهامش: في سبب ذكران النصارى.
(2) هكذا في الاصل
(3) في الاصل لا توجد كلمة فيقول، و هي اضافة مني ليستقيم الكلام.
(4) كتب المعلق في الهامش: عازق معناثا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:208
(1/227)
علينا، كلنا قد فر من العمل، و انما نحن نصلي للنصارى. و لهم من المكاشفات ما يطول شرحه، و لكن ليس متأمل و لا متخرق على الاسلام و لا متفقد «1».
و ربما ورد الراهب على النصارى بمثل ما قدمنا، فيقبل الرهبان بعضهم على بعض بالقول فيما بينهم: تأملوا هذا الفار من العمل بأي شي ء قد جاء يخدع النصارى، و انظروا هل يكون له بخت. و ربما جاء الراهب الى الجاثليق بمثل هذ لينفق عنده، فيقول له الجاثليق: عزمت على الهرب من العمل، انت عازق معناثا، فربما بكى، و قال له: أبونا ما يحل لك ان تقول لي هذا، فيقول الجاثليق: يا أخي ما ينبغي ان تعمل معي هذا فأنا أعرف بالصنعة، هبنا خدعنا غيرنا، بعضنا يعرف بعضا و الصنعة واحدة، و أنا عازق معناثا مثلك، فلا تبك.
و مثل هذا رحمك اللّه تجد كثيرا من القسيسين و الرهبان، اذا رأوا راهبا او جاثليقا او قسا او مطرانا قد ادّعيت له المعجزات و نفق على النصارى، يقول بعضهم لبعض: انظروا بأي شي ء نفق هذا على النصارى الجهال و نفذت حيلته فيهم و استوت له عليهم/ الرئاسة.
و كان متى بن يونس القس صاحب المنطق «2» يقول عند مثل هذا: هذا بخت النغول «3». و علماء النصارى يسرعون الى الإلحاد كما تقدم ذكره لك، و مما يدنيهم من هذا الامر، ان موضوع النصرانية ان الآيات و المعجزات
__________________________________________________
(1) هكذا وردت العبارة في الاصل
(2) متى بن يونس النصراني (ابو بشر)، حكيم منطقي توفي ببغداد سنة 328 ه. ترجم عدة كتب في الفلسفة و المنطق الى اللغة العربية. انظر الفهرست 1: 263، ابن ابي اصيبعة 1: 235، القفطي 323.
(3) نغل الاديم فهو نغل اي فسد فهو فاسد، و النغل ايضا ولد الزانية. انظر القاموس المحيط
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:209
(1/228)
تكون في عبادتهم في كل عصر لا تنقطع، تدعي ذلك الملكية لعبادها، كما يدعيه باقي طوائفهم، و يدّعون المشاهدة في كل زمان و أوان، مع إكفار بعضهم لبعض. و ليس فيهم احد رأى شيئا من ذلك، و ليس إلا الدعاوى التي تقدم ذكرها و الذكران و الاعياد، فيلحدون و يظنون بما يدّعى لموسى و هارون و عيسى عليهم السلام بمثل ما يدّعى للرهبان.
و مما يؤثر ان النصارى جلسوا في ذكران جورجس، و ما جرى عليه من القتل مرة بعد مرة و هو يعود و يقوم من قبره الى الصومعة. فيقول قائل منهم: لو صدقنا انفسنا لعلمنا ان هذا كذاب لا اصل له، المسيح صاحب جورجس ذاق مرّ الحديد مرة واحدة فما عاد و لا تعرض لمثلها، فكيف بتعرض لها جورجس و هو دونه في الصبر و البصيرة، فأضحكهم.
و أكثر ما عند اهل البصائر منهم ان يقولوا: سبيلنا ان نسلم للرؤساء و نقنع في الدين بالتقليد و لا نطلب فيه البرهان، فليس امر الشريعة و البيعة من امر الطبيعة في شي ء. و هذا شي ء ألقاه لهم هؤلاء الرؤساء الذين يستأكلونهم و يسخرون منهم، و أكثرهم ملحدة كما قدمنا. و هم يريدون بالطبيعة ما يقوله أرسطاطاليس و أمثالهم من الملحدة: في ان الشمس و القمر و سائر أجساد السماء لا يجوز ان تتصدع و لا تتفرق، و لا ان تكون حارة و لا باردة و لا رطبة و لا يابسة و لا حلوة و لا حامضة/ و لا ثقيلة و لا خفيفة، و ما اشبه ذلك من جهالاتهم التي تزيد على جهالات النصارى أضعافا مضاعفة.
و يدعون انهم قالوا ذلك ببرهان. و ان الربوبية و النبوات و الشرائع لا يقوم عليها برهان فخاصة النصارى و رؤساؤهم أجهل من عامتهم بطبقات.
و القبط تبغض بني اسرائيل لما جرى عليهم و على فرعون من موسى.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:210
(1/229)
فلما غلبت الروم على بني اسرائيل و ملكت مصر و الشام و الجزيرة، و أخذت الناس بهذا الدين بالرغبة و الرهبة كما بيّنا و كما ترى و تشاهد، اسرعت القبط الى ذلك، و خالطت الروم قبائل العرب من غسان و غيرها بالشام فدعتها الى النصرانية، و بذلت لها الملك، و ذكروا لهم دين المسيح و ما يذهبون اليه من المعجزات التي ذكرناها، فسهل ذلك عليهم و هم كانوا عبّاد أصنام، فلم يبعد عليهم ذلك.
و قد صار في هذه الامة من يسلك هذا السبيل، و يؤكد دعواه بادّعاء الآيات و المعجزات و التواريخ و الايام، كادّعاء الحنبلية ان المعتصم بن الرشيد لما ضرب احمد بن حنبل انحل عنه مئزره فخرجت كف فشدت مئزره، و ان المعتصم و تلك الجماعة من القضاة و الفقهاء و المحدثين لما رأوا ذلك راعهم و خلى المعتصم ضربه و خضع له و سأله بعد أن اعتذر اليه ان يحله فأجابه احمد الى ذلك، فخلع عليه و كرمه، و سأله ان يدعو له، و صرفه الى منزله.
و يدّعون لمعروف الكرخي و غيره ما قد علمت «1».
و ادّعى آخرون ان رسول اللّه «2» صلّى اللّه عليه و سلم استخلف على أمته رجلا بعينه، و ان امته اجابته الى ذلك و أظهرت السمع و الطاعة، فلما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
__________________________________________________
(1) كانت محنة الامام احمد بن حنبل (توفي سنة 241) بسبب موقفه الصلب الذي اتخذه في مشكلة القرآن هل هو مخلوق ام قديم، فقد كان من رأي المعتزلة اصحاب السلطة آنذاك ان كلام اللّه فعله فهو مخلوق، و قد حاولوا ان يأخذوا الناس و العلماء بعقيدتهم و اضطر الكثيرون الى مجاراتهم بسبب ضغط خلفاء بني العباس: المأمون و المعتصم و الواثق و بتأثير كبير و زرائهم احمد ابن ابي دؤاد، الا ان الامام ابن حنبل رغم التعذيب على رأيه من انه لا يطلق على القرآن لفظا يرد فيه نص. و قد أحيطت محنته بمبالغات كثيرة، اما معروف الكرخي فينسب له الصوفية كثيرا من الكرامات، توفي سنة 200 ه
(
(1/230)
2) عبارة «ان رسول اللّه» مكررة في الاصل.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:211
عطلوا ذلك كلهم، و ارتدوا/ بأسرهم. و هذا قول الكاملية، و رئيس هذه المقالة ابو كامل معاذ بن الحصين النبهاني الكوفي. و قال هشام بن الحكم «1»:
قد ارتدوا كلهم إلا ننفرا يسيرا، فانهم أقاموا على اعتقاد هذا النص بضمائرهم و قلوبهم دون الإظهار بألسنتهم. قالوا: و هذا اليوم هو يوم الغدير «2»، و حين ظهروا هذه الطائفة في سني نيف و خمسين و ثلثمائة للهجرة عيّدوا في ذلك اليوم ليؤكدوا كذبهم في المهاجرين و الانصار في انهم ارتدوا، فاعرف ذلك.
و الحنبلية و الإمامية يحتجون بكثرتهم و ان مقالتهم قد غلبت على البلدان، و قد تقدم لك القول: ان الكثرة لا تدل على صحة النحلة و انما يدل عليها قيام الحجة، و ان قلّ عدد العاملين. بل لو كان القائل بالحق رجلا واحدا، و قامت له الحجة، لكان اولى بالحق و لو خالفه جميع اهل الارض. و قد قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه: إن الحق لا يعرف بالرجال، و لكن اعرف الحق تعرف اهله، و اعرف الباطل تعرف اهله.
و قد كانت الحنبلية تحتج على خصومهم من الرافضة بالكثرة و تقرع الرافضة بالقلة، و الرافضة تحتج بأن اللّه قد ذم الكثرة و مدح القلة و تتلو ما في من القرآن، فلما اتفقت لهم منذ سني و نيف و خمسين و ثلثمائة للهجرة احتجوا بالكثرة،
__________________________________________________
(1) هشام بن الحكم الشيباني: من كبار مفكري الشيعة و متكلميهم توفي سنة 199 ه. منتهى المقال 322- 323
(
(1/231)
2) يقصد غدير خم، و هي بئر على ثلاثة اميال من مكة، و قد روي ان الرسول عليه الصلاة و السلام خطب المسلمين فكان من جملة قوله: «ألست أولى بكم من انفسكم؟ فقالوا اللهم نعم، فقال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم و ال من والاه و عاد من عاداه ...» و هذا الحديث مشهور، و قد استدل به الشيعة على ان الرسول عليه الصلاة و السلام قد نصّ على الخلافة من بعده لعلي رضي اللّه عنه، و لم يجد باقي المسلمين فيه اكثر من الدلالة على فضله.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:212
و كتب رؤسائهم القدماء مملوءة بذكر ذم الكثير و مدح القليل، فاعرف ذلك.
ثم يقال للامامية: إن النص الذي ادعيتموه من النصوص التي تلزم الكافة من الرجال و النساء و الأحرار و العبيد و المسافرين و المقيمين و الخاصة و العامة، لو كان له أصل لكان العلم به عند كل عاقل سمع الأخبار كالعلم بأمثاله من نصوص الكافة و إن لم يعرف اليوم الذي كان فيه و لا المكان و لا عين اللفظ به، لأن قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم: فلان خليفتي عليكم/ و حجة اللّه بعدي عليكم، كقوله: أنا رسول اللّه اليكم، و حجة اللّه عليكم، و قد عرف هذا من نصوصه عليه السلام كل عاقل سمع الاخبار ممن صدقه او كذبه، و إن لم يعرف الوقت الذي قال هذا فيه و لا المكان، فإن عرفه كان من الفضل.
(1/232)
و هذا بيّن كاف، بل نصوص الإمامة و الرئاسة الصحيحة منها و الفاسدة إذا وقعت حصل العلم بها عند كل من سمع ذلك الخبر، ألا ترى ان نص عمر على عليّ ابن ابي طالب رضي اللّه عنهما بالإمامة و الخلافة في الشورى قد عرفه كل من سمع الأخبار، و كذا نص اهل المدينة عليه بعد عثمان، و نص ابي بكر على عمر، و نص الصحابة على ابي بكر، و نص معاوية على يزيد، و نص مروان على عبد الملك، و نص عبد الملك على ابنه الوليد، و نص المنصور على المهدي. فلو كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد نص على رجل من اصحابه بأي لفظ كان لكان العلم به اقوى من العلم بهؤلاء، لأنه ليس في هؤلاء احد يعتقد في نصه و فرضه ما يعتقده المسلمون في نصوص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أوامره، و في فقد العلم بذلك دليل على انه امر لا اصل له بوجه من الوجوه. و بمثل هذا يعلم ان أمير المؤمنين ما نص على ابنه الحسن رضي اللّه عنهما، و بمثل هذا نستدل على فساد قول أهل التناسخ و ما يدعونه على العقلاء من الاكوار و الادوار، و بمثله يعرف بطلان قول الملحدة في دعواهم في النفس، و نزولها من عالم العقل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:213
الى عالم الحس.
فإن قيل: إن هذا قد حسد الناس صاحبه، و نافسوه عنه، و دفعوه و منعوه من استعماله و ذكره.
قيل له: انك لم تطعن في الدلالة، بل تركت ذلك و ادّعيت دعوى اخرى، فدعواك الحسد و المنافسة كدعواك/ النص، و هذا فيه أتم كفاية على بطلان قولك.
ثم يقال له: إن هذا الدليل قد دل على ان ليس هناك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نص على رجل بعينه ينافس فيه او يحسد لأجله، فلو اراد اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يعصوا اللّه بتعطيل نصه على امير المؤمنين لما قدروا على ذلك، و لا وجدوا سبيلا اليه، لأنه شي ء ما كان قط و لا وجد.
(1/233)
ثم يقال له: لو كان هناك نص حتى ينافس صاحبه او يحسد لما قدح ذلك في العلم به، و لما زادته المنافسة إلا قوة. ألا ترى ان اهل المدينة لما نصوا عليه بعد عثمان قد نافسه معاوية و دفعه عن الخلافة فما اثر ذلك في العلم بعقد أهل المدينة عليه، بل زاده قوة و نشره و بسطه. و قد عقد اهل الكوفة للحسن بعد أبيه رضي اللّه عنهما، فدفعه معاوية و نافسه و زاحمه و غالبه و غلبه، فما اثر ذلك في العلم بالعقد له بل زاده قوة. و قد ترشح سعد ابن عبادة الأنصاري للخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و رأى نفسه أهلا لذلك، فدفعه أبو بكر الصديق عن ذلك و منعه منه.
و قد ادعى مسيلمة النبوة فدفعه أبو بكر الصديق عن ذلك و منعه و قتله، و ادعى طليحة ذلك فمنعه ابو بكر و دفعه و أسره، فما أثر ذلك في العلم بما
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:214
ادعى هؤلاء و دعوا اليه بل زاده قوة و عرف الناس الدعوى و المدعى، و الرافع و المرفوع، و المانع و الممنوع، هذا و ليس لسعد احد يقول بامامته و لا يخاصم فيها، و لا يضع فيها الكتب، و لا يسير فيها الاشعار، و لا يقيم فيها المناحات، و كذا ما ادعاه مسيلمة و طليحة، فعلمت ان هذا شي ء ما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لا ادعاه، و لا ادعاه امير المؤمنين و لا دعا اليه، و لا كان احد من الصحابة يتديّن بذلك، و لا يذهب اليه حرّ و لا عبد، و لا ذكر و لا أنثى. يزيدك وضوحا بذلك، ان امير المؤمنين لما عقد له اهل المدينة كان قوم معه و قعد قوم عنه فلم يكونوا معه و لا عليه و كانوا في المدينة معه، كأسامة بن زيد، و محمد بن مسلمة، و سعد بن مالك، و غيرهم. ثم رجع قوم ممن كانوا معه فصاروا عليه، و هناك قوم لم يكونوا معه بل كانوا في جميع الاحوال عليه، و يعلم بذلك كل عاقل سمع الأخبار.
(1/234)
و هؤلاء زعموا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قام بهذا النص الشامل العام، و عرف الناس هذا الفرض و قدره عندهم، و أداه اليهم بحسب عمومه و شمولاه، و أعلمهم انه شي ء يلزم كل واحد منهم، من حر و عبد و ذكر و أنثى و مسافر و مقيم و عليل و صحيح، و انهم أظهروا له القبول و الرضا، فلما مات ارتدوا كلهم و رجعوا عن هذا النص.
و قال هشام: ارتدوا كلهم إلا ستة نفر منهم، قلنا: فقد كان ينبغي ان يكون العلم بهذا عند كل من سمع الاخبار، و ان يكون أقوى و أقهر و اغلب من العلم بالذين قعدوا عن امير المؤمنين فلم يكونوا معه و لا عليه، و من العلم بالخوارج الذين كانوا معه ثم صاروا عليه، و من العلم بما كان بينه و بين معاوية، و من العلم بالتحكيم، و إلا فكنا نكون كمن قال: ترون الحصاة و هي على ابي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:215
(1/235)
قبيس «1»، و لا ترون أبا قبيس، و هو مكان الحصاة لأن ذاك العقد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم اعظم، و فرضه أعم و أشمل من النص على القبلة، و على صيام شهر رمضان، و على/ الجمعة و غسل الجنابة. ألا ترى ان فرض القبلة يسقط عمن خفيت عليه الدلالة و عن المتأنف «2» و عن المسافر في التطوع و لا يسقط عنه اعتقاد الإمامة و طاعة الإمام، و قد تسقط الجمعة عن المسافرين و المرضى و النساء و العبيد و لا يسقط عن احد منهم اعتقاد الإمامة و طاعة الامام، و قد يسقط الصوم عن المسافرين و المرضى و الحيض و لا يسقط عن أحد منهم اعتقاد الامامة و طاعة الامام، فلو كان كما ادعوا لكان العلم بذلك عند كل عاقل سمع الأخبار أقوى و أقهر و أغلب من العلم بالقبلة و بصيام شهر رمضان، و بالجمعة و بغسل الجنابة. و مثله في النصوص، نص النبي صلّى اللّه عليه و سلم على انه رسول اللّه الى الناس جمعا، ألا ترى أن العلم بذلك حاصل عند كل عاقل سمع الأخبار، ممن صدقه او كذبه، فلو كان لهذا النص أصل لكان يعلمه كل عاقل سمع الأخبار و إن لم يقبله و إن لم يتدين به. كما علم اليهود و النصارى و المجوس انه عليه السلام نص على انه رسول اللّه اليهم، و أن طاعته عليه السلام تلزمهم و تجب عليهم، و في عدم العلم بذلك دليل على أن هذا شي ء ما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ساعة قط، و لا كان منه فيه إشارة و لا إيماء بوجه من الوجوه.
و لسنا نقول: إنه لو فعله لقبلوه و عملوا به، بل نقول: كان العلم يحصل
__________________________________________________
(1) ابو قبيس: جبل بمكة سمي برجل من مذحج حداد لأنه اول من بنى فيه. القاموس 2: 238
(2) المتأنف: المبتدى ء، و الائتناف: الابتداء.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:216
به عند كل من سمع الأخبار و إن لم يعملوا به، و إن اجمعوا على تعطيله كما اجمعوا على تعطيل إمامة سعد بن عبادة، و نبوة مسيلمة و طليحة.
فاعرف ذلك.
(1/236)
و مما يزيدك بيانا، ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد نصّ على اشياء، فلما قبض ارتدت العرب عن ذلك بألوان الردة،/ فادعى مسيلمة النبوة في ربيعة بأرض اليمامة و ادعى مثل ذلك طليحة في بني اسد، و رجعت قبائل كثيرة من فزارة و قضاعة و غيرهم ممن هو معلوم عن الشريعة كلها، و استثقلوا ما حرّم عليهم من الخمر و الزنا و الربا و السرقة و الغارة و غير ذلك، و ارتد من بالبحرين و بنو يربوع و غيرهم لمنع الزكاة، و قالوا لأبي بكر: نشهد الشهادتين، و نقيم الصلاة، و نجاهد معك العدو؛ فإن ابيت ذلك لحقنا بالعدو و حاربناك.
و أقام ابو بكر و المهاجرون و الانصار على الاسلام، و جاهدوا المرتدين كلهم، فحصل العلم بذلك عند كل من سمع الاخبار. فلو كان لما ادعاه هؤلاء القوم ادنى إشارة، لكان العلم بذلك مثل العلم بهذه الامور، بل قد كان ينبغي ان يكون اقوى و اقهر، و إنما هذا شي ء ادعاه ابو كامل و هشام «1» بعد انقراض الصحابة، و التابعين و تابعي التابعين، و تابعي تابعي التابعين.
و على ان قوله عليه السلام: «انت مني بمنزلة هرون من موسى»، «و من كنت مولاه فعلي مولاه»، و ما اشبه ذلك مما يجعلونه حجة في دعاويهم، ليس من ألفاظ النصوص و الاستخلاف و الوصايا في لغة و لا في عقل و لا في شريعة، و انما هي فضائل ادخلها هؤلاء في هذه الدعاوي، و انه امر
__________________________________________________
(1) سبق ان مر التعريف بأبي كامل و هشام بن الحكم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:217
لا تقوم به حجة، و لا يجدون فيه حيلة، فلجئوا الى التعلق بهذه الفضائل، و قالوا: هي نصوص، فلو لم يدلك على فساد قولهم إلا تعلقهم بهذه الاشياء لكفاك و أغناك.
(1/237)
و قد رفع اللّه قدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ان تكون نصوصه و وصاياه بمثل هذه الالفاظ؛ يزيدك بيانا انه عليه السلام قد نص على خلق كثير بالولاية و الإمارة، فقال/ في غزاة مؤتة للجيش الذي أنفذه: اميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن ابي طالب، فان هلك فعبد اللّه بن رواحة. و مثل ذلك في الامراء و لعلهم نحو ألف امير، ما فيه نص بهذه الالفاظ التي يدعونها هؤلاء.
و قد استخلف ابو بكر عمر بن الخطاب، و عمر اهل الشورى، فليس فيهم من قال من كنت مولاه ففلان مولاه، و كذا سائر من عهد الى احد لم يذكر هذا اللفظ، و هم عرب و فصحاء، و في دعوة الاسلام، و ينتمون الى رسول اللّه و يؤكدون عقودهم بكل ما يقدرون عليه مما هو مستعمل في اللغة و الشريعة؛ و هم لا يعرفون هذا اللفظ في العقود، و انما هذه فضائل لا مدخل لها في النصوص و الوصايا و العقود. و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في رجال كثير ما هو آكد و أشف من هذا و أوضح؛ ألا ترى انه قال:
«اقتدوا بالذين من بعدي: ابو بكر و عمر «1»»، و قال عليه السلام: «هما كالملائكة و الأنبياء» في قصة أسارى بدر، لما أشار عليه ابو بكر بالعفو عنهم
__________________________________________________
(1) انظر كتب المناقب و فضائل الصحابة في كتب الحديث ففيها الكثير من الاحاديث في فضائل الصحابة جميعا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:218
و استبقائهم، و اشار عليه عمر بقتلهم و استئصالهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إن لأبي بكر و عمر إخوة من الملائكة و النبيين تشبههما، فأبو بكر كميكائيل في الملائكة ينزل بالعفو و الرأفة و الرحمة، و هو كابراهيم الخليل اذ يقول:
«فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»»، و هو كالمسيح اذ يقول: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2»».
(1/238)
و مثل عمر مثل جبرائيل ينزل بالعقوبة و النعمة، و مثله في الأنبياء كنوح إذ يقول: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «3»»، و كموسى إذ يقول: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ «4»». و إن اللّه ليشدّ في هذا الدين قلوبا فيجعلها كالحجارة، و يلين فيه قلوبا/ فيجعلها ألين من اللبن. و شبّه عثمان بلوط عليه السلام، فانه لما اسلم آذته قريش، فهرب بدينه الى ارض الحبشة و معه امرأته رقيّة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و دعهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عانق عثمان و قال: «إنه لأول من هاجر بدينه مع اهله بعد لوط»، و قال عليه السلام: «من احب ان يسمع القرآن غضا كما أنزل فليسمعه من ابن ام عبد «5»»، و قال عليه السلام: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن ام عبد، و كرهت لها ما كرهه ابن ام عبد «6»»، و قال للأنصار:
«إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع»، «و لو سلك الناس شعبا
__________________________________________________
(1) ابراهيم 36
(2) المائدة 118
(3) نوح 26
(4) يونس 88
(5) رواه الامام احمد في مسنده و ابن ماجه و الحاكم عن ابي بكر و عمر. انظر الزيادة على الجامع الصغير 3: 148
(6) رواه الحاكم عن ابن مسعود. انظر الجامع الصغير 4: 33
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:219
و واديا و سلكت الانصار شعبا و واديأ لسلكت شعب الانصار و واديهم»، و قال: «الانصار كرستي و غيبتي، و لو لا الهجرة لكنت امرأ من الانصار «1»» و قال في عمه العباس و في تفضيله و تفضيل ولده الاقوال الكثيرة، و قال في معاذ، و في عبد الرحمن، و أبي عبيدة «2»، و غيرهم من المهاجرين و الانصار ما هو معروف مكشوف لا يشك فيه؛ فقد كان ينبغي على ما يدعي هؤلاء ان تكون هذه الفضائل نصوصا «3» اذا كانت الالفاظ على خلاف ما يعرف منها في اللغة العربية.
(1/239)
و هؤلاء يقولون: انتم لستم من العرب و لا تعرفون العربية، فلهذا ذهب عليكم ان قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه، «و انت مني بمنزلة هرون من موسى» [يعني الاستخلاف ] «4».
قلنا قد فرغنا من هذا مرة و بينا ان هذا ليس من الفاظ الاستخلاف البتة، لا في عقل، و لا في لغة، و لا في شريعة.
و أيضا، فلو كان هذا من ألفاظ الاستخلاف لكان اولئك القوم الذين سمعوا هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد عرفوا صدقه و قصده، فكان من بعدهم يعرف ذلك كما عرفوا و ان لم يكن من العرب و لا يعرف العربية، لأن مدار الامر في ذلك/ و أشباهه على المعاني لا على الالفاظ. ألا ترى ان رسول
__________________________________________________
(1) لفضل الانصار انظر مناقب الانصار و الصحابة في كتب الحديث.
(2) انظر لفضلاء هؤلاء ابواب المناقب في كتب الحديث، و انظر الرياض النضرة في فضائل العشرة للطبري.
(3) في الاصل: نصوص
(4) في العبارة نقص، و لعلها ان تستقيم باضافة «يعني الاستخلاف» في آخرها.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:220
اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما دعا و نصّ: أني رسول اللّه الى الناس كافة، و أنه حجة اللّه على كل ما يأتي الى يوم القيامة، و انه لا شي ء معه و لا بعده، و جميع ما دعا اليه و حرمه من المحرمات، علم ذلك من قصده و ما عناه و أراده كل عاقل سمع اخباره من العرب و الروم و الفرس و الهند و القبط و الأرمن، ممن يحسن العربية و ممن لا يحسنها و لا يدور لسانه بها، و لا يحسن [التلفظ] «1» بقول رسول اللّه، و لا يحسن يتلفظ بشي ء من المحرمات؛ كلّ قد عرف ذلك من قصده بإشارة الخرس الذين بلغتهم الدعوة من المؤمنين و الكافرين. فيعلم بطلان هذه الدعاوى.
(1/240)
بل لو تكلم صلّى اللّه عليه و سلم بما لا يعرفونه في اللغة، و قصد به معنى من المعاني، و نقلهم عما يعرفون في لغتهم لعرفوا قصده و مراده. ألا ترى ان الوضوء في اللغة انما هو التنظيف، فجعله اسما لغسل هذه الأعضاء الاربعة فعرفوا قصده، و ان لم يكن قبل ذلك في اللغة. و الصلاة في اللغة: الاتباع و الدعاء، لا يعرفون إلا هذا، فجعل صلّى اللّه عليه و سلم هذا اسما للتوجه الى القبلة بعد الوضوء مع الركوع و السجود، فعرفوا قصده و إن لم يكن ذلك في لغتهم.
و كذا الزكاة، انما هي في اللغة اسم للزيادة و النماء في المال، فجعله اسما»
لما يؤخذ من اموالهم، فعرفوا قصده، و عرف من بعدهم ممن بلغه خبرهم مثل ما عرفوا، فيعلم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما عنى بالأخبار التي يروونها عنه ما ظنوه و عنوه.
و قد دعا امير المؤمنين علي بن ابي طالب الى نفسه، و فرض على الناس
__________________________________________________
(1) اضافة على الاصل
(2) في الاصل: اسم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:221
(1/241)
طاعته، و ابتلى بمن خالفه،/ و بمن قعد عنه، و بمن ضلله، و بمن ارتد عنه من اصحابه؛ فما احتج على مخالفيه إلا بالاختيار، و ان طاعته قد وجبت لأنه قد بايعه الذين بايعوا ابا بكر، و عمر، و عثمان. و قد احتج لنفسه، و احتج عنه ولده و شيعته و أهل بيته، و كاتب معاوية و راسله. ثم صار الى الشام، و احتج على اهل الشام و اهل البصرة و اهل النهر هو و أصحابه؛ فما احتجوا في مكاتبة و لا في مراسلة و لا في مشافهة، إلا بأنه قد بايعه الذين بايعوا ابا بكر و عمر و عثمان و انه لا تحل مخالفته كما لم يحل مخالفتهم، و لا يذكرون في احتجاجهم كما يذكر هؤلاء من الآيات و لا من الاخبار، و لا قوله «من كنت مولاه»، و لا «انت مني بمنزلة هرون من موسى»، مما يحتجون به. فلو كانوا هؤلاء شيعته رضي اللّه عنه لسلكوا سبيله و اقتفوا اثره؛ فقد بلي من هذا الأمر، و من خلاف الناس عليه، و من رجوع اصحابه عنه، و من اكفارهم له، ما لم يبتل به ابو بكر، و لا عمر، و لا عثمان، و لا احد من اهل الشورى و البدريين. و قد بالغ في اقامة الحجة عليهم و كلهم من اهل القبلة و اهل الصلاة و الى القرآن يرجعون، و بأحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يحتجون، و الحجة من قبله يطلبون؛ فما قال قط و لا ولده و لا من يحتج عنه من اهل بيته: ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد قال فيّ: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» و لا «انت مني بمنزلة هارون من موسى»، و هذا نص منه على استخلافي، و هذا شي ء تأويله النص، و باطنه الاستخلاف.
و لا قال هو و لا احد من اصحابه و من يحتج له: لم تكفرونني و تضللوني و النبي قد استخلفني و نص عليّ و شهد بعصمتي، و أني لا أخطى ء و لا أزل و لا أضلّ و لا يقع مني معصية للّه. و هو رضي اللّه عنه أعلم بدين اللّه و بالحجة، و أفقه و أبصر و أشجع، فلو كان لذلك أدنى إشارة/ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:222
(1/242)
لاحتج بها و بيّنها قبلوا ذلك منه أو لم يقبلوا. و في هذا أتم بيان و أوضح حجة.
و أعلم، أن هؤلاء يحتجون مذ زمن ابن الراوندي: ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سلم نص عليه نصا مكشوفا لا يحتمل التأويل، فقال: عليّ بن ابي طالب الخليفة عليكم من بعدي، و قال لهم: «سلموا عليه بإمرة المؤمنين «1»»، و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قام فيه في مقام بعد مقام، و في عام بعد عام، نحو مائة مقام مذ بعثه اللّه بمكة و المدينة، و السفر و الحضر، الى ان توفاه اللّه؛ فينبغي ان لا تكلمهم إلا في هذا النص المكشوف المعروف، و تقول لهم، المصير الى الأمر المكشوف و الحجة الواضحة اولى بنا و بكم من المصير الى المشكل الملتبس الذي يحتمل التأويل، فإن الكلام عليهم حينئذ يكون اوضح و أقصر؛ فيجري هذا مثل نصه عليه السلام على النبوة.
و هم يفرّون شديدا من هذا النص المكشوف مع من يعلم و يحصل، فإن ابتليت منهم بمن يقول: لا أتكلم في النص المكشوف بهذا، فقل له: إن كنت لا تتكلم فيه فسلم لنا بطلانه و كذب من ادعاه و ادّعى نقله. فان قال: لا أسلم، قيل له: ليس يخلو من ان يكون حقا و صدقا فينبغي أن تصير بنا اليه، أو كذبا و باطلا فينبغي ان تتبرأ منه و تخطى ء من احتج به.
فإن قال: كذلك أفعل، قيل له: فهذا شي ء قد ادّعته أمم عظيمة،
__________________________________________________
(1) ان اكثر الاحاديث التي رويت في خلافة علي ضعيفة او موضوعة، و على فرض صحتها فانها تشير الى الخلافة على اهله صلى اللّه عليه و سلم، منها: «ان اخي و وزيري و خليفتي من اهلي و خير من اترك بعدي يقضي ديني و ينجز موعدي علي». انظر تنزيه الشريعة عن الاخبار الشنيعة لعلي بن القرن الكتاني، الجزء الاول، ففيه الكثير من هذه الاخبار.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:223
(1/243)
و ادّعت معرفته و نقله. فإن قال: هم كذاك يدّعون، و إنما وضعه لهم واحد من الناس و قال لهم: إن هذا قد قاله النبي صلّى اللّه عليه و سلم و نقلته عنه الامم فأحسنوا به الظن و صدّقوه و إن كان لا أصل له.
قيل له: و كذلك ما تدعيه انت من التأويل في الآيات/ و الأحاديث التي تحتج بها، ما أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لا امير المؤمنين بها ما تعنيه انت و تعتقده، و إنما هي فضائل، و لكن هشام بن الحكم قال هي نصوص و النبي صلّى اللّه عليه و سلم اراد بها الاستخلاف؛ فأحسن به قوم الظنّ فقبلوا ذلك منه و اعتقدوه و ادّعوا انهم و من قبلهم قد نقل ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ليس هناك شي ء ينقل و لا يكتب، و لكنهم قوم سمّوا اعتقادهم نصا و دعواهم نقلا، كما يدّعي اليهود ان موسى عليه السلام نصّ لهم على تأييد شريعته؛ و كما يدعون هم و النصارى من الصلب و كما يدعي النصارى خاصة قيامه من قبره و انه عليه السلام أقام معهم اربعين يوما ثم صعد الى السماء و هم يرونه؛ و كما ادعوا ان هيلانة الحرانية وقع اليها [الخشبة] «1» التي صلب عليها المسيح مع خشب غيرها فلم تعرفها و أشكلت عليها فامتحنت ذلك بجنازة مرت بها، فجعلت تضع عليها خشبة بعد اخرى من خشب المصلين، فلم يقم الميت إلا باخر خشبة، قالوا: فعلمت انها هي الخشبة التي صلب عليها المسيح. فقالوا:
و قد شهد هذا الأمم الكثيرة ببيت المقدس من اليهود و الروم غير ان اليهود كتموا ذلك، و يسمّون هذا اليوم: عيد الصليب «2»؛ و يوم قيام المسيح من قبره بزعمهم عيد السلامة. و لهم مثل ذلك كثير، و هذا امر لا
__________________________________________________
(1) في الاصل: الصليب، و قد صححها المعلق بالخشبة.
(2) في الحاشية عنون الكاتب او المعلق لهذا البحث بقوله: عيد الصليب عيد السلامة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:224
(1/244)
أصل له، و انما هو موضوع لهم أحسنوا به الظن كما اصاب هؤلاء الرافضة من اصحاب النص.
على ان هشام بن الحكم قد أقر بذلك فقال: قد ادركت الشيعة في الصدر الاول و هم يتولون أبا بكر و عمر و عثمان و يصوبونهم، و يقولون: هؤلاء ما دفعوا امير المؤمنين عن حقه و مقامه، و انما دفعه المنافقون/ الذين كان القرآن يهتف بهم فنظر هؤلاء فاذا ليس احد أحق بالإمامة بعد علي منهم، فقاموا ذلك المقام بحق.
و قال هشام بن الحكم: و منهم من قال: لما رأى الوصيّ عليّ بن ابي طالب المنافقين قد أزالوه عن موضعه، قدّم أبا بكر و استخلفه ليكون بمكانه الى ان يتمكن فيزيله.
قال هشام: و هذا كله تلزيق و تلفيق دعاهم اليه الجبن من الإقدام على التبرؤ من ابي بكر و عمر و عثمان و المهاجرين و الانصار و لو عرفوهم كما عرفتهم أنا لأقدموا على البراءه منهم «1».
و قد ذكر هذا ايضا ابن الراوندي في كتابه «الإمامة» الذي نصر فيه قول الرافضة في البراءة من المهاجرين و الانصار و حكاه عن هشام.
فهذا ما أقرّ به الخصم فكيف ما لم يقر به؛ و لو لم يقر به لعلمنا ان الامر كذلك. و هشام انما كان في ايام بني العباس و هلك في دولة هارون
__________________________________________________
(1) علق الناسخ او المعلق على هذا بقوله: «لعن اللّه ناقل هذا القول و قائله، حيث كانوا يطلبون تغريب شموس الدين و إطفاء انوار الاسلام و المسلمين، عذبهم اللّه تعالى و أقوالهم، و أطفأهم و آثارهم آمين، آمين، آمين.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:225
الرشيد، لتعلم ان الذي ادّعى النص و جرّأ الناس على شتم ابي بكر و عمر و عثمان و المهاجرين و الأنصار هشام بن الحكم، و هو ابتدأه و وضعه، و ما ادعى هذا النص و الاستخلاف احد قبله.
(1/245)
و لو كان هشام من اهل القبلة، لما كان دعواه و دعوى مائة ألف معه مثله حجة، فكيف به و ليس من اهل القبلة، و هو معروف بعداوة الأنبياء، و قد أخذ مع ابي شاكر الديصاني «1» صاحب الديصانية «2» و كان معروفا به و بصحبته، فادعى انه من الشيعة، فخلصه بعض اصحاب المهدي حين ادعى انه يتشيع لبني هاشم فلم يصلبه مع ابي شاكر.
و قد ذكره العلماء بالمقالات بمذهب الديصانية، و ذكره الحسن بن موسى النوبختي في كتابه «في الآراء و الديانات» «3» حين نقض عليه/ مذهبه في ان اللّه جسم و نور يتحرك؛ فقال له الحسن: هذا مذهب المانوية نعوذ باللّه من موافقتهم. و انما ذكرنا الحسن بن موسى، لأنه من الرافضة.
و قد حكى عن هشام ايضا ابو عيسى الوراق، و ابن الراوندي، و أبو سهل بن نوبخت، و هؤلاء كلهم رافضة.
و الذين حكى هشام عنهم من الشيعة أن المنافقين أزالوا امير المؤمنين عن مقامه، فقد غلطوا ايضا، فإنه قد بيّنا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما كان منه نص في ذلك فيزيله احد من الناس.
__________________________________________________
(1) انظر الفهرست لابن النديم ص 487
(2) الديصانية احدى فرق الثنوية، و تعتبر اصلا للمانوية و انما اختلفت الفرقتان في كيفية اختلاط النور بالظلمة. انظر الفهرست 488
(3) من كبار المتكلمين و مؤرخي الفرق، و يعتبر كتابه «الآراء و الديانات» من اهم ما كتب حول الاديان و المذاهب و الفرق. انظر الفهرست 265- 266
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:226
(1/246)
و أيضا، فإن الغلبة بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لم تكن للمنافقين و انما كانت للبدريين و المهاجرين و الانصار، الذين يعتقدون نبوته صلى اللّه عليه، و صدقه، و إقامة نصوصه، و إحياء شريعته، و إذلال عدوه، و إعزاز وليّه، و هم الذين ردّوا الى الاسلام من ارتد من العرب، و غزوا من أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ملوك الفرس و الروم و الهند و الترك و سائر الامم المشركين و أدخلوهم في دينه و أدخلوا بلدانهم في ممالكه صلّى اللّه عليه و سلم، و انما يدّعي أن الغلبة كانت للمنافقين من لا علم له و لا تحصيل عنده.
و كان هشام يقول: لعمري إن عليّ بن ابي طالب رضي اللّه عنه ما احتج في إمامته بنصّ النبي صلّى اللّه عليه و سلم و لا بوصيته في الأمة إليه، و أنه كتم ذلك خوفا من المهاجرين و الانصار، فأمسك و سكت.
قيل له: قد فرغنا من هذا، و بينا ان ليس هناك نص و لا وصية و لا شي ء يكتم و لا ينقل.
و أيضا، فان امير المؤمنين ما سكت و لا أمسك، بل تدين بالاختيار و أظهره و جعله الحجة على من خالفه و قال: وجبت طاعتي و إمامتي لأنه بايعني اهل دار الهجرة الذين/ بايعوا ابا بكر و عمر و عثمان، فوجبت طاعتي و إمامتي كما وجبت طاعتهم، و حرمت مخالفتي كما حرمت مخالفتهم، و أعاد هذا و أبداه في خطبه و كتبه و جعله الحجة؛ فمتى سكت و أمسك.
و أيضا، فلم يكن سلطان ابي بكن و عمر و عثمان و عليّ سلطانا يخاف فيه محقق و لو كانت امرأة ارملة ذمية، فضلا عن غيرها. ألا ترى ان الأنصار قد تكلموا مع سعد بن عبادة و العباس و بني هاشم و أبي سفيان و بني عبد مناف في الإمامية بما ارادوا، و كلموا أبا بكر و نابذوه الى ان أقام الحجة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:227
(1/247)
و عارضوه في انفاذ جيش أسامة بن زيد و قالوا له: ليس علينا في هذا الوقت من الروم خوف، و لا حاجة بنا الى غزوهم في هذا الوقت و العرب قد ارتدت و أحاطت بنا، فدع هذا الجيش يكون لنا، فقال لهم ابو بكر رضي اللّه عنه: إن رسول صلّى اللّه عليه و سلم يقول و الوحي ينزل عليه: أنفذوا جيش أسامة و نقول نحن لا نرى ذلك، برأينا؛ فقال له قوم: فأقم على جيشه اميرا مكانه احسن منه فإنه حدث و في جيشه المشيخة و الكهول، فقال: أيوليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنزعه انا، لا يحل هذا.
و لما جاء الذين منعوا الزكاة و نزلوا على المهاجرين و قالوا لهم: قولوا لخليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعفينا من الزكاة فانا نقيم الصلاة و نجاهد معكم، فان لم يفعل صرنا مع العدو و حاربناكم. فمشوا الى ابي بكر رضي اللّه عنه، و سألوه أن يقبل ذلك منهم، فقال: لا أفعل، و لا يحل لي هذا و لا لكم، قالوا: فنحن في قلة و العرب قد ارتدت، فمن نقاتل و من ندع؟ لا طاقة لنا بقتال الناس كلهم، فاقبل منهم الى ان تنكشف هذه الفتن فانا قد خفنا على المدينة و على اثقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أثقالنا، فقال: ما كنت لأفعل و لو بقيت وحدي، اني إن قبلت رأيكم نقضت/ الاسلام عروة فعروة. ايها الناس، إن مات رسول اللّه نبيكم صلّى اللّه عليه و سلم، و كثر عدوكم، و قل عددكم، ركب الشيطان هذه منكم؛ و اللّه ليظهرنّ اللّه دينه على الدين كله و لو كره المشركون، و ليستخلفنكم في الأرض كما وعدكم، و تلا قوله عز و جل: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «1»» و قوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ
__________________________________________________
(1) التوبة 33 و الصف 9.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:228
(1/248)
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً «1»» و قوله: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «2»».
و قالوا له: أفتقاتلهم و تقتلهم و قد قالوا: لا إله الا اللّه؟ قال: انها غير مقبولة منهم لأنهم منعوا الزكاة؛ قالوا: فتقتلهم على ابن لبون «3» و على الحقة و الشاة و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أمرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله الا اللّه، فاذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم «4»» فقال ابو بكر فان فيه: إلا بحقها، و هذا من حقها. فطال ما بينهم في ذلك، فحين اقام الحجة صاروا الى قوله.
و لما فتح الفتوح و واتته «5» الاموال من كل وجه سوى بين الناس في العطاء، فعارضوه في ذلك، و قالوا: سويت بين من اسلم الآن و بين من سبق و بين من نصر و هاجر، فقال: هؤلاء عمال اللّه و أجورهم على اللّه، و انما الدنيا بلاغ؛ و اللّه لو شئتم معشر الانصار ان تقولوا: طردتم فاويناكم و خذلتم فنصرناكم
__________________________________________________
(1) النور 55
(2) البقرة 249
(3) ابن لبون من الإبل: ما له سنتان، و الحقة من الإبل بنت ثلاث.
(4) حديث متواتر، رواه الستة باسناد صحيح. انظر الجامع الصغير شرح المناوي 2: 188
(5) و اتته في الأصل،، لعل اضافة الواو تجعل اسياق اكثر انسجاما.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:229
و أفقرتم فواسيناكم، و اني لأجد/ مثلنا و مثلكم في قول طفيل الغنوى:
جزى اللّه عنا جعفرا حين شرفت «1» بنا فعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يحلونا و لو ان امنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
فذو الحظ موفور و كل مقسم لدى حجرات اثفات «2» أظلّت
(1/249)
و راسلته فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه و عليها و قالت:
ما بالك خليفة رسول اللّه ورثت رسول اللّه دوننا، فقال: ما ورثته، قالت: فأين نصيبنا من امواله بخيبر و فدك، فقال: اني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «هذا المال لمحمد و آله حياته، فاذا متّ فهو الى والي الامر بعدي، فان كان معك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عهد صرت الى قولك؛ و اللّه ما اريد شاهدا معك غيرك. فرجع الرسول فقال: تقول لك فاطمة:
لا و اللّه ما معي عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لكن رسول اللّه دخل علينا و هو يتلو: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» «3»، فقال: ابشروا آل محمد بالغنى. قال ابو بكر: إن كان بكم الغنى و لكم الغنى. ثم صار اليها ابو بكر و سألها عن عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقالت: ما معي اكثر مما قلت، فقال: إذا لم يكن معك عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فما كنت لأدع ما اسمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بقول احد.
و كلمه العباس في ذلك و طالبه بالحجة، فذكر ما سمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
__________________________________________________
(1) ووردت في موضع آخر «ازلقت». انظر فتوح البلدان 31
(2) ووردت في موضع آخر «ارفأت».
(3) الحشر 7
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:230
(1/250)
و قال: انا اوجه هذا المال/ في الوجوه التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يجعلها فيها، ورد ابو بكر هذه الاموال الى علي بن ابي طالب و قال له: افعل فيها ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يفعله. و كذا فعل امير المؤمنين رضي اللّه عنه حين صارت اليه الخلافة بعد عثمان، و هو فعل الخلفاء الاربعة و جميع الصحابة و التابعين بعدهم، فاعرف ذلك.
و عارضوه حين شاروهم في استخلاف عمر، فقال له قوم: هو الخيرة بعدك غير أن فيه شدة و هو مهيب، و في الناس الأرملة و الضعيف و ذو الحاجة، فاستعمل علينا من هو ألين منه كنفا؛ و كانت لهم معه في ذلك مطالبات و مراجعات و عمر يسمعها و يعلمها، الى أن قال لهم ابو بكر: انما أستعمله عليكم لأنه أقواكم عليكم و أنفعكم لكم و أردّكم عليكم، شهيدي اللّه: ما أردت إلا ذلك، و قد خاب من تزوّد من أعمالكم بظلم، إن عمر ليس ولدي و لا من اهلي، و انما أردت الخير لكم؛ و إني قد رمقته فكنت اذا لنت في الشي ء أراني فيه الشدة، و اذا أشددت أراني فيه اللين، و لو قد وليكم للان و اشتد.
ثم قال: ان عمر لا يأنف من التعلم، فحين أقام الحجة سلموا و رضوا. ثم عهد تلك العهود المعروفة، و كم من شي ء قد عارضوه فطالبوه بالحجة مما هو اكثر من هذا.
و معارضتهم لعمر في امر السواد «1»، و في فتوح الشام، و في تأمير الامراء، و في الفتوى و القضاء؛ حتى كان يعارضه في ذلك المرأة و البدوي فضلا عن المهاجرين مما هو معروف الى ان يقيم الحجة او يرجع الى قول من معه الحجة.
__________________________________________________
(1) يقصد هنا اختلاف من آراء المسلمين في امر سواد العراق لما فتح اللّه على المسلمين العراق و فارس، فقد كان من رأي البعض توزيعه على المسلمين، بينما رأى عمر رضي اللّه عنه ابقاء الأرض في ايدي اصحابها ليستفيد من خراجها المسلمون جميعا و قد وافقه المسلمون على رأيه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:231
(1/251)
و عثمان، فقد عارضوه في إتمام الصلاة بمنى، و في الحمى، و في الحكم بن ابي العاص، و فيمن ولاه من اهله، و أخذوه بإقامة الحدود عليهم، و بإقامة الحجة فيما يأتيه بما هو معلوم «1».
و عليّ رضي اللّه عنه قد عارضوه في تولية أقاربه و في الحكم الذي أنفذه بما هو معلوم/؛ حتى كان يجري على هؤلاء الخلفاء الاربعة من صغار رعيتهم في الفروع و في صغار الامور ما هو معروف، فكيف يجوز ان يتوهم عاقل تدبر أمورهم و عرف سيرهم. أنه قد كان اقل من الناس فخافهم ان يذكر لهم الحق، او ينطق بحضرتهم، او يتوقى ان يذكر ان يذكر لهم عهدا من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) او وصية لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم)؛ هذا لا يظنه الا أجهل الناس بهم و بأحوالهم، او عاقل بقيس أحوالهم بأحوال من رأى و سمع من الجبابرة و ولاة الجور، فاعرف هذا.
و انما القى هذا الى الإمامية فيما صنفوه لهم قوم من أعداء الانبياء ادعوا التشيع و تستروا بالرفض، لينفروا الناس عمن شيد الاسلام و بناه و نصر الرسول في حياته و بعد موته، ليخرجهم من الاسلام من حيث لا يشعرون.
و كما صنفوا في تهمة المهاجرين و الانصار فقد صنفوا ايضا في تهمة الانبياء
__________________________________________________
(1) مجموع الماخذ على عثمان رضي اللّه عنه ثمانية عشر هي: ضربه لعمار بن ياسر، و لابن مسعود، و جمع القرآن و توحيده في مصحف واحد، و أنه حمى الحمى و أجلى ابا ذر الى الربذة، و أخرج من الشام ابا الدرداء، ورد الحكم بعد ان نفاه الرسول، و أبطل سنة القصر في الصلوات في السفر، و ولى معاوية و مروان و الوليد بن عقبة، و أعطى مروان خمس افريقية، و ضرب بالعصا و علا على درجة رسول اللّه في المنبر، و لم يحضر بدرا، و لم يقتل عبيد اللّه بن عمر بالهرمزان، و كتب الى ابن ابي سرح في قتل البعض. و قد رد ابن العربي على هذا كله في كتابه القيم: العواصم من القواصم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:232
(1/252)
و شتمهم و تكذيبهم، و أنهم قد كانوا يتكلمون بالكذب و بالبهت بحضرة أممهم فيسكتون عنهم خوفا منهم؛ و هذا فعله بالانبياء عمر بن زياد الحداد، و أبو الوراق، و أبو الحسين بن الراوندي، و أبو سعيد الحسن بن علي الحصري، و جابر بن حيان، و هشام بن الحكم، و أمثالهم، كما قد عرفه العلماء «1»، و كل هؤلاء الذين طعنوا علي ابي بكر و عمر و المهاجرين و الانصار لفضل غيظهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لأن هؤلاء قاموا بأمره و نصروه في حياته، و قاموا بدينه بعد وفاته و بثوه في مشارق الارض و مغاربها، و قتلوا أعداءه صلّى اللّه عليه و سلم من العرب و ملوك الفرس و ملوك الروم و ملوك القبط و ملوك الهند و الترك و أمم الشرك و أدخلوا اممهم في دينه صلّى اللّه عليه و سلم.
فهذا ذنبهم عند/ علماء الرافضة، و لكن عوامهم لا يفطنون. و لهذا قالت العلماء حين حدثت هذه البدع: لا تسبّوا اصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فإنهم أسلموا من خوف اللّه و أسلم الناس بعدهم من خوف أسيافهم. ثم يقال لهؤلاء:
قد وجدنا امير المؤمنين علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه مكاشفا بالحق في جميع احواله، لا يخاف من احد من المخلوقين و ان كان وحده و الناس عليه؛ فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خلّفه بمكة و هي إذ ذاك دار كفر فما خافهم و لا فارقهم مع وحدته و تفرده، و قد كاشف معاوية و هو في مائة ألف سيف، و لعنه بلسانه، و قنت عليه في صلاته، و ضربه بسيفه، و بيّن له و إن علم انه لا يقبل، و قد كاشف الخوارج و برى ء منهم و ان علم انهم لا يقبلون و هم كانوا
__________________________________________________
(
(1/253)
1) سبق ان عرفنا بهؤلاء الأشخاص، اما جابر بن حيان فهو ابو عبد اللّه جابر بن حيان بن عبد اللّه الكوفي، قال ابن النديم: «و اختلف الناس في امره»، فقالت الشيعة: انه من كبارهم، و زعم الفلاسفة انه كان منهم، و ذهب اهل صناعة الذهب و الفضة الى انه رئيسهم. و ذلك انه كان واسع الثقافة، له باع طويل في التأليف في مختلف العلوم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:233
(1/254)
أصحابه و بهم صال على عدوه و استطال، و أقام على مخالفتهم و إن فرقوا عنه اصحابه و إن قتلوه «1»، فما قاربهم في كلمة، لأنهم قالوا له: إن تبت من الحكومة رجعنا لك كما كنا و قاتلنا عدوك، و إن أبيت اقمنا على حربك و قاتلناك حتى نقتلك او تقتلنا، فقال لهم: انتم دعوتموني الى الحكومة، قالوا: صدقت فقد تبنا و ما كان لنا ان ندعوك و ما كان لك ان تجيبنا و لا تحكم الرجال في دين اللّه، فقال: بل كان لي ان احكم، فلو كان ذلك معصية لما أجبتكم اليه، و من زعم ان الحكومة ضلال فهو أضل، و من زعم اني ارجع عنها فقد كذب. فصبر رضي اللّه عنه على ذلك و لم يقاربهم في لفظة تحتمل التأويل، لأنه لو قال انا تائب الى اللّه من كل ذنب و خطيئة و هو يعني غير الحكومة، لكان اللفظ يحتمل، و يتلافاهم و يردّهم و يكون بهم في عسكر عظيم/ كما كان قبل رجوعهم عنه، و يصول بهم على عدوه. فلم يفعل، و أقام على حربهم، الى ان قتلهم و قتلوه رضي الله عنه؛ فما لان في كلمة تحتمل التأويل، ليبيّن للأولين و الآخرين امر الدين، فما داراهم و لا قاربهم مع حاجته اليهم و خوفه من أسيافهم؛ فهو ما كان يخاف الجبابرة و الأحياء الذين هم في عساكر و يخافهم الناس فكيف يخاف من ابي بكر و عمر و عثمان في حياتهم و بعد مماتهم، و هم في حياتهم و سلطانهم ما خافهم محق قط و إن كان عبدا او امرأة ارملة ذمية. و انما يقول هذا من لا يعرف عليا و لا ابا بكر و لا عمر و لا عثمان؛ فعليك بالمعرفة فانها حياة، و الذهاب عن طلبها موت، و قد علم اهل المعرفة و العناية ان عليا كان في زمن ابي بكر و عمر و عثمان في علو الكلمة و نفاذ الامر مثله في سلطانه، و أنه كان في سلطان هؤلاء أنفذ امرا و أعلا قولا و أبسط لسانا منه في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و في حياته.
__________________________________________________
(1) لعلها: قاتلوه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:234
(1/255)
و لا فرق بين من ادّعى ان عليا كان يخاف من هؤلاء الخلفاء او ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يخافهم ايضا، و أنه من خوفهم كان يشهد لهم بالجنة و يزكيهم.
و هذا لازم لهم، بل هو قول الرافضة لأنهم قالوا: ان عليّ بن ابي طالب حجة اللّه على خلقه كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه معصوم كعصمة الانبياء.
و قالوا مع هذا: قد زكى ابا بكر و عمر و عثمان، و صاهر بعضهم، و صلى خلفهم، و حج معهم، و دخل الشورى و عمل بالاختيار، و صلى خلف صهيب كما وصّى عمر، و أطاع عمر كما وصّى ابو بكر، و عمل لهم اعمالا كثيرة، و أظهر تزكيتهم، و مدحهم بايمانهم و إن كانوا كفارا، كل هذا خوفا منهم و ممن بعدهم من شيعتهم فما تبين/ الحق الى ان خرج من الدنيا.
قلنا: فاذا كان هذا هو الحجة و المعصوم و القائم مقام الرسول فعل هذا بغير حق، لم نأمن أن يكون كل من صاهر النبي و مدحه و نص عليه و شهد له بالجنة و أمر الناس بطاعته ان لا يكون هذا حاله، و أنه فعل مثل فعل هذا الحجة، و هذا ما لا حيلة لهم فيه، و فيه فساد الديانات كلها، و إلى هذا قصد هشام ابن الحكم حين وضع هذه البدعة فاعرف ذلك «1».
__________________________________________________
(
(1/256)
1) وردت بهامش اللوحة 111 التعليق التالي: رحمك اللّه يا سيدنا اقضى قضاة الحكم القاضي عبد الجبار، أحسنت في حججك على الفاسقين الملاعين الكلاب المارقين الكاذبين الخاطئين المنحرفين عن الحق الخبثاء الروافض، كبتهم اللّه تعالى و أبعدهم، حيث يفسقون اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رضي اللّه عنهم اجمعين، قلت: ما رأيت كلام رد على الملاعين الروافض أحسن و أدق و أثبت و أقوى و أنجح من هذه الحجج التي ذكرها القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه هذا، فلا بد للمعتني بردهم ان ينظر في هذا الكتاب المبارك، و هذا قليل الوجود و غير معلوم لأكثر الناس، و لو علموا اسمه لا يعلمون ما فيه من الفوائد الكثيرة، فاحتفظ و كرر نظره. و لكن مؤلفه مشهور بالاعتزال فان تاب منه فمحله الفردوس الأعلى في مقام المقدمين ان شاء اللّه حيث نفع المسلمين بهذه الحجج و اللّه اعلم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:235
باب آخر [اكفار الرسول صلّى اللّه عليه و سلم للعرب و سائر الامم الاخرى و اسخاطها و كيف عصمه اللّه من اذاهم ]
(1/257)
قد علمت الحال التي ابداها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين ادعى النبوة و دعا الى اللّه، فانه اكفر الامم كلها و تبرأ منها و اسقطها و اسخطها و اغضبها، فما اعتصم بمخلوق كما قد تقدم ذكر ذلك. فكانت العرب و اليهود و النصارى و قريش و غيرهم يدا واحدة في عداوته و طلب عثراته و الحرص على قتله، و هو بينهم على وحدته، فيصرفهم اللّه عن ذلك بوجوه لا هو يعرفها و لا هم، و بوجوه يعرفها و يعرفونها. غير انهم قد كانوا ينالونه بالشتم و الضرب و يلقونه بالأرض و يدوسونه بأقدامهم و يلقون الفرث و التراب على رأسه، ثم صار الواحد بعد الواحد و النفر بعد النفر يجيبونه و هذه حاله، فيلقون معه الضرب و الهوان، و يعذبون و يجاعون و يحصرون في الشعاب، و منهم من يقتل، و لا يمكنهم المقام معه بمكة فيهربون بأديانهم، و يعبرون البحار، و النبي صلّى اللّه عليه و سلم مقيم بمكة معه ابو بكر و نفر يسير.
و كان يخرج في المواسم الى العرب، و يتلو القرآن، و يدعو الى اللّه، و يقيم الحجة، و قريش من اهل بيته يخرجون الى العرب يقولون لهم: لا تسمعوا منه فانه ساحر كذاب و نحن اهل بيته و أعرف به، و يقولون: «لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوافيه لعلكم تغلبون» و يمنعونه صلّى اللّه عليه و سلم/ من البيان و الاستيفاء، و ربما شغلوه بالضرب، يتولى ذلك منه عمه ابو لهب و أشباهه، فيقول له العرب:
اهلك اعلم بك، ما نجيبك، فاذهب عنا فقد عاديتنا و خالفتنا و اسمعتنا في آلهتنا و آبائنا و أنفسنا ما لا نحب، و تستجيب له القبيلة بعد القبيلة من قبائل طي ء و قبائل اسلم. و تسامعت به قبائل عبد القيس من ربيعة فأتوه و سمعوا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:236
(1/258)
منه و اسلموا طوعا بهذه الشرائط، و تسامعت به بنو قيلة من قبائل الاوس و الخزرج فأتوه و سمعوا منه القرآن و الحجة فأسلموا، و رجعوا الى قومهم فجاؤوا بهم اليه عاما بعد عام فأسلموا و بايعوه، و رجعوا الى قومهم و هم قبائل كثيرة فأسلم اكثرهم طوعا بهذه الشرائط.
و هاجر اصحابه الى المدينة بعد الذين هاجروا الى ارض الحبشة، و قال الانصار للنبي صلّى اللّه عليه و سلم: انا كثرة و نمنع منك و نجاهد الأمم كلها معك و نطيعك في المحيا و بعد المحات و لا تأخذنا في اللّه لومة لائم؛ فأخذ ذلك عليهم و انصرفوا. ثم صار إليهم مع ابي بكر الصديق رضي اللّه عنه، و صار في عز و منعة و في عسكر، و دعا الى اللّه، و كانت له غزوات و وقائع، و ما زال امره يقوى حتى ذلت اليهود و النصارى في جزيرة العرب و هم قبائل كثيرة، حتى ادوا إليه الجزية، و حتى صار من لا يعتقد نبوته في جزيرة العرب لا يمكنه اظهار ذلك لكثرة المهاجرين و الأنصار و أمثالهم ممن يعتقد نبوته و صدقه، و حتى غزا الروم غزاة تبوك و هي آخر غزواته في ثلاثين ألفا غير من خلفه من عماله و اصحابه في جزيرة العرب و هي «1»، اوسع من بلاد الروم.
و قبض صلّى اللّه عليه و سلم بالمدينة و الغلبة فيها لمن يعتقد صدقه و نبوته من المهاجرين و الانصار و اتباعهم/ و امثالهم، و هم الذين احاطوا بأبي بكر و أقاموه خليفة و غزوا من ارتد عن دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حتى غلبوهم و أذلوهم و قتلوهم، و غزوا فارس و الروم و امم الشرك و جميع اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أذلوهم
__________________________________________________
(1) في الاصل: و لها، و لعل الصحيح ما اثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:237
(1/259)
و قتلوا ملوكهم و ادخلوهم طوعا و كرها في دين رسول اللّه و في شريعته و ادخلوا بلدانهم في بلدان الاسلام، و لم يكن لهم شغل إلا اعزاز دينه، و إقامة نصوصه، و احياء شريعته و بثها و نشرها و إظهارها، و إعزاز من اقام بدينه و اذلال من تعرض لامانة شي ء منه.
و كانوا بعد وفاته اشد بصيرة منهم في حياته، لأنهم كانوا في حياته يتكلمون على تدبيره، فلما مات، و صار الامر إليهم، زاد تيقظهم، فرفضوا كل راحة، و هجروا كل لذة، و قصدوا لإقامة نصوصه و احياء شريعته الى ان يلقوا الارض كلها بذلك؛ و ما عندهم عمل ازكى من هذا.
و انما يظن ان نصوصه كانت تبدل و ان كتابه كان يغير و ان بننه كانت تلطم، الذي لم ينظر و لم يتدبر، و هو كمن قال انه صلّى اللّه عليه و سلم كان بالمدينة يضرب و يشتم و يداس بحضرة المهاجرين كما كان بمكة، و هذا لا يظنه إلا الغاية في الجهل بشأن المهاجرين و الانصار.
فان قيل: او ليس قوم موسى قد عبد قوم منهم العجل في حياته و حياة اخيه هرون، فلم انكرتم ان يرتد المهاجرون و الانصار عن دين محمد صلّى اللّه عليه و سلم، او ليس قد كانوا على ذلك قادرين؟
قيل له: إن هذا السؤال لا يسأل عنه من فهم ما قلنا، لأنا لم نقل:
ان هؤلاء ما ارتدوا من طريق التزكية لهم، و لا من طريق حسن الظن بهم، و لا محاباة لهم، و لا لأنهم ما قدروا على ذلك؛ بل قد كانوا على ذلك قادرين و لكنهم ما اختاروا ذلك و لا/ فعلوه، كما علمنا ان صاحبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما رجع عما كان عليه و ان كان على ذلك قادرا، و ان كان عدوه قد ادعى عليه انه رجع و اظهر الشك في امره بقوله: «ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:238
وَ لا بِكُمْ» «1» و بقوله: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» «2». و هذا قد ادعاه عليه رؤساء الرافضة الذين قدمنا ذكرهم.
(1/260)
و لا تكون الردة بالقياس فيقال: كما ارتد قوم موسى ينبغي ان يرتد قوم محمد صلّى اللّه عليه و سلم؛ هذا لا يظنه إلا الغاية في الجهل و البله و النقص، و هؤلاء قالوا: كما قتل يزيد بن معاوية الحسين فينبغي ان يكون ابو بكر قد ضرب فاطمة و قتل الحسن، فالعلم بأنه عليه السلام ما رجع عن دينه و أن ابا بكر و عمر و المهاجرين و الأنصار ما رجعوا عن دينه بعده قبل العلم بنبوته و صدقه و أنه دعا الى حق، و العلم بإقامة ابي بكر و عمر و المهاجرين و الانصار على دينه عليه السلام كالعلم بإقامته هو على ذلك، و العلم بذلك قبل العلم بنبوته.
و ما منزلة من ادّعى عليهم ذلك إلا كمن قال لنا: كنت بالقسطنطينة من بلاد الروم فوجدتهم يشتمون بولص و يبرؤون منه و يبسقون «3» على الصليب، فقلنا له: كذبت، فقال: و لم كذبتموني و ما كنتم معي، او ليس بولص كافر يستحق الشتم و يجب ان يبسق على الصليب و لا يعظم؟ قلنا: و إن لم نكن معك فعقولنا معنا، و علمنا ان الغلبة هناك لمن يعظم الصليب و بولص «4».
__________________________________________________
(1) الاحقاف 9
(2) يونس 94
(3) يبسقون: اي يبصقون
(4) لم نحاول ان نعلق على ما يورده القاضي حول ما يوجهه الرافضة الى الخلفاء الراشدين من اتهامات لأن القاضي يتبنى وجهة نظر اهل السنة تماما، و في شرحه ما يكفي عن التعليق.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:239
او بمنزلة من قال لنا: كنت بالأندلس فوجدتهم يلعنون معاوية و يبرؤون منه و من مروان بن الحكم و ولده كما يفعل ذلك بالكوفة و المدينة، لقلنا:
كذبت، فقال: انتم لم تكونوا معي فصدقوني او شكوا في خبري، قلنا:/ و إن لم نكن معك فعقولنا معنا، و قد علمنا ان الغلبة هناك لمن يقول بإمامة معاوية و مروان و ولده.
فهذه سبيل من ادّعى على ابي بكر و عمر و المهاجرين و الانصار ما يدّعيه الرافضة.
(1/261)
و من عجيب امورهم قولهم: هذا كعبادة قوم موسى العجل، فيجعلون الردة و الكفر و الايمان بالقياس، و الذي اخبرنا ان قوم موسى عبدوا العجل هو الذي عرفنا بعقولنا ان أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم أقاموا على دينه، و الذي عرفنا بالخبر ان يزيد بن معاوية قتل الحسين و أشخص ذريته الى الشام هو الذي عرفنا بعقولنا أن ابا بكر ما ضرب فاطمة و لا قتل المحسن؛ و هذا في القياس كمن قال: اذا كان يزيد بن معاوية قد غزى المدينة و مكة و استباحهما ان يكون ابو بكر قد فعل مثل ذلك، و إذا كان معاوية قد قتل عمار بن ياسر ان يكون ابو بكر «1» قد قتل العباس بن عبد المطلب، و إذا كان معاوية قد قتل ولدين لعبد اللّه بن العباس ان يكون ابو بكر قد قتل اربعة اولاد من ولد العباس، و أن يكون عمر و عثمان قد فعلا مثل ذلك؛ او كمن قال اذا كان بنو اسرائيل قتلوا الانبياء ان يكون اصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم قد فعلوا ذلك.
__________________________________________________
(1) في الاصل: أبا بكر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:240
(1/262)
و قيل ايضا للرافضة: اذا كان ابو بكر قد ضرب فاطمة و قتل المحسن فقد كان ينبغي ان يحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار، و أن يكون العلم بذلك مثل العلم بقتل يزيد الحسين، و مثل قتل معاوية حجر بن عدي، و عبيد اللّه بن زياد مسلم بن عقيل. بل كان ينبغي ان يكون العلم بما ادعيتم اقوى من العلم بهؤلاء القتلى، لأن هذه الحادثة التي ادعيتموها على ابي بكر كانت بالمدينة، و قد شهدها العباس و ولده، و عليّ بن ابي طالب و ولده، و عقيل و ولده، و جميع بن هاشم و مواليهم و نسائهم، و جميع/ المهاجرين و الانصار و أولادهم و نسائهم؛ و قد كان بالمدينة حين توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم اكثر من مائة ألف إنسان، فكان يكون العلم بهذا أقوى مما «1» كان بكربلاء، و لكن دعاوى الرافضة في ضرب فاطمة عليها السلام و قتل ولدها و أمر ابي بكر خالد بن الوليد بقتل عليّ بن ابي طالب، كدعواهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم النصوص التي يدّعونها، و كل من تأمل امرهم تبين له بطلان ذلك و وضح له وضوح الشمس.
و مما يزيدك بيانا بشأن هؤلاء الخلفاء و المهاجرين و الانصار و لزومهم لوصايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ان عثمان بن عفان لما اتم الصلاة بمنى انكر عليه للوقت علي ابن ابي طالب بحضرة الناس كلهم فقال له: ألم تصل مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ها هنا ركعتين؟ قال: بلى، قال: افلم تصل مع ابي بكر ها هنا ركعتين؟
قال: بلى، قال: افلم تصل مع عمر ها هنا ركعتين، قال: بلى، قال:
افلم تصل بنا ها هنا شطر خلافتك ركعتين؟ قال: بلى، قال: فلم اتممت، و ما عذرك في ذلك؟ قال: نكحت امرأة بمكة و سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: من تأهل بأرض فهو من اهلها، و لي مال بالطائف نويت مطالعته؛
__________________________________________________
(1) في الاصل: ما
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:241
(1/263)
و بعد، فقد بلغني عن طغام من اهل اليمن انهم قالوا: صلاة المقيم ركعتان، هذا امير المؤمنين عثمان يصلي ركعتين.
و لما نهى عثمان عن القرآن «1» و أمر الناس بإفراد الحج بلغ ذلك عليا، فدخل عليه فقال له: بلغني انك نهيت من القرآن، ثم قال عليّ: لبيك اللهم لبيك بحجة و عمرة، فقال له عثمان: لم فعلت هذا و قد نهينا عنه؟ قال: ما كنت لأدع شيئا أجازه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لقول احد.
و لما ادّعى على الوليد بن عقبة عامل عثمان على الكوفة و أخوه لأمه شرب الخمر، قال له عليّ أشخصه فاسمع الشهادة، فأشخصه و سمع الشهادة فجلده عليّ بيده، و الوليد من اشراف قريش، و قد كان رسول اللّه/ صلّى اللّه عليه و سلم يستعمله، و استعمله عمر و عثمان، و هو كثير الفتوح في الاسلام، و هو اخو امير المؤمنين فما تهيبه.
و لما تكلم من تكلم في عثمان لأنه ولىّ أقاربه و آثرهم، و قالوا لعليّ إن عمر لم يفعل مثل هذا بأقاربه، فقصده عليّ و قال له: ورائي قوم و قد كلموني فيك و ما ادري ما اقول لك؟ ما نعرف شيئا تجهله، و لا ادلك على امر لا تعرفه، ما سبقناك الى أمر فنبلغكه، و لا خلونا بأمر فنخبرك به، و لا خصصنا بأمر دونك، و إنك لتعلم ما نعلم. و اللّه ما ابن ابي قحافه بأولى من عمل الحق منك، و لا ابن الخطاب بأولى بشي ء من الخير منك، انت أقرب الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم رحما و قد نلت من صهره ما لم ينالاه، فاللّه اللّه في امرك فانك و اللّه ما تعلم من جهل، و لا تبصر من عمى، و إن الحق لواضح بيّن، و إن اعلام الدين لقائمة. فقال له عثمان: لقد علمت ليقولن الذي قلت،
__________________________________________________
(1) القرآن: اي ان يقرن الحج بالعمرة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:242
(1/264)
و لو كنت مكاني ما عتقتك و لا اسلمتك، و لا جئت منكرا ان وصلت رحما، و سددت خلة، و آويت ضائعا، و وليت شبيها بمن كان عمر يولي. أنشدك اللّه يا عليّ، هل علمت ان المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال:
فهل علمت ان عمر كان يوليه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني انت ان وليت ابن عامر مع رحمه و قرابته؟ فقال له عليّ: سأخبرك، إن عمر كان من ولّاه فإنما يطأ على سماخه، إن بلغه حرف جلبه و بلغ منه الغاية، و أنت لا تفعل ذلك، ضعفت و رفقت على اقاربك. فقال له عثمان: و هم اقاربك ايضا، فقال له عليّ: أجل، إن قرابتهم مني لقريبة و لكن الفضل في غيرهم، قال له عثمان: هل تعلم ان عمر استخلف معاوية؟ قال: نعم، قال: فقد/ استخلفته كما استخلفه، قال له عليّ: انشدك اللّه، هل تعلم ان معاوية كان أخوف من عمر من أرفا غلام عمر من عمر؟ قال عثمان: نعم، قال له عليّ:
فإن معاوية لا يخافك و يقتطع الأمور دونك، و يقول للناس: هذا امير المؤمنين عثمان.
و كان عليّ يعنفه في أقاربه، و يقول له في وجوههم: لا يغلب عليك مروان و الوليد و سعيد «1»، لا تطعهم؛ فيقول أهله له: هذا قوله لك في وجهك و وجوهنا فكيف بما يقوله للناس من ورائك و أنت امامه و ابن عمه؛ فيقول لهم عثمان: هو انصح لي منكم.
و كان عليّ رضي اللّه عنه يوافقه على صغار الأمور و كبارها و يدبر أمره، فإذا لم يقبل منه في أمر من الأمور عنفه و لامه و قعد عنه، فيرسل اليه عثمان و يجي ء به، فيقول له: قعدت عني و كنت لأبي بكر و عمر انصح، و أنا
__________________________________________________
(1) يقصد مروان بن الحكم، و الوليد بن عقبه، و سعيد بن العاص.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:243
أولى بذلك منك، و أنا إمامك و ابن عمك، فيقول له عليّ: كانا يقبلان و لا تقبل، أكون معك على امر فيجيئك مرران و سعيد و الوليد فيزيلانك عنه.
(1/265)
ثم يقول عليّ رضي اللّه عنه للناس: من عذيري من هذا؟ أكون معه على أمر فيدع رأيي و يأخذ برأي مروان و الوليد، فإن قعدت عنه يشكوني و يقول:
قطعت رحمي و لم تقض حق بيعتي.
فانظر كيف يصنع به الأمور الصغار التي غيرها اولى، و يأخذه بما هو أفضل، و يشير عليه ان يسير بالمسلمين سيرة ابي بكر و عمر، و أن يأخذ بالفضل و لا يترخص و لا يزول من سيرتهما، فأي عاقل تدبر و فكر يقع له ان هؤلاء كانوا يظلمون بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يبدلون القرآن و يعطلون النصوص و يغيرون الشريعة فيسكت عنهم.
و بمثل هذا كانت تشير عليه عائشة رضي اللّه عنها، و تحذره مخالفة سيرة ابي بكر و عمر، و بهذا كتبت إليه ام سلمة: أي بني، ما لي ارى رعيتك/ عنك مزورين، و عن جنابك نافرين، لا تعف سبيلا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لحبها «1»، و لا تقدح بزند كان اكباها»
، و توخ حيث توخى صاحباك فإنهما ثكما الأمر ثكما و لم يظلما «3» و السلام. فأجابها بالجواب المعروف «4».
و عتب قوم عليه ان حمى الحمى، و ما رآه في خمس أفريقية كما فتحها، و فيمن سيره من اللعّابين بالحمام و الرامين بالجلاهق «5» فيما كان في الكتاب
__________________________________________________
(1) في القاموس: لحب: سلك، و اللحب: الطريق الواضح.
(2) في القاموس: كبا الزند لم يور.
(3) في القاموس: ثكم آثارهم: اقتصها، و ثكم الطريق: لزمه.
(4) أم سلمة هي هند بنت أبي امية، احدى زوجات الرسول (ص)، و كانت قبله عند ابي سلمة عبد اللّه بن الاسد المخزومي توفيت سنة تسع و خمسين هجرية.
(5) الجلاهق: البندق الذي يرمى به
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:244
(1/266)
المنسوب إليه في شأن محمد بن ابي بكر الصديق و النفر المصريين؛ و هي كانت الطامة في السخط عليه و النكير له، و ما اقر بأنه كتب الكتاب و لا قامت عليه بينة، فقالوا: كاتبك كتبه فما اقر كاتبه، و قال لهم: الخط قد يشبه الخط. فلم يزل الانكار عليه في هذه الأمور الى ان اغتيل بالسحر و قتل.
و ليس في هذه تعطيل نص و لا تبديل قرآن و لا تغيير شريعة، و انما هي امور من طريق الرأي و الاجتهاد كان له أن يفعلها فجرى عليه. هذا كله في شي ء هذه سبيله، و هو الخليفة و السلطان و الملك، و إليه السوط و العصا و بيده الضر و النفع، مع شرف رهطه و قرب قرابته و ظهور ثروته و كثرة عدوه و أعوانه و من تعصب له، فكيف يتوهم عاقل تدبر، ان النصوص كانت تعطل و القرآن يغير و الشريعة تبدل و هم سكوت.
و هذا علي بن ابي طالب مع فضله و زهده و علمه و سوابقه و آثاره الجميلة في الاسلام و قريب قرابته، قد انكروا عليه ان ولى اقاربه، فقيل له: علام قتل عثمان بالأمس؟ اي لأنه ولى اقاربه، فقال لهم: ما علمت إلا خيرا، فإن انكرتم فأنكروا. و لما بعث الحكم ارتدوا عنه «1»، و قالوا: ضعفت و حكمت الرجال في دين اللّه و ما كان ذلك لك،/ و شككت في نفسك؛ فتب الى اللّه و إلا قاتلناك و جاهدناك، او تقتلنا او نقتلك. فقال لهم: لو كانت الحكومة معصية لما جئت إليها و كان لي ان احكم، و قد امر اللّه بالحكومة في شقاق يكون بين المرأة و زوجها و في ارنب تصاب في الحرم
__________________________________________________
(1) يقصد قصة التحكيم المشهورة، و ذلك حين الح اهل العراق على علي بقبول التحكيم الذي عرضه معاوية، فارسل ابا موسى الاشعري بالحاح منهم و كان يريد ارسال عبد اللّه بن العباس، و بعث معاوية بداهية العرب عمرو بن العاص، و كان ما كان من الحادثة المشهورة و ما تلاها من خروج الخوارج على علي و تكفيره لقبول التحكيم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:245
(1/267)
تساوي ربع درهم؛ فقال عز و جل: «يحكم به ذوا عدل منكم»، فكيف بإمامة قد اشكلت على المسلمين فقاتلوه و قاتلهم، و قتلهم و قتلوه، في امر ليس فيه تعطيل نص و لا تغير قرآن، و إنما هو شي ء من طريق الاجتهاد، و كان له رضي اللّه عنه ان يفعله. و قد بلغوا في الانكار عليه هذا المبلغ، فكيف بتغير القرآن و النصوص و ظلم ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، لتعلم فحش غلط هؤلاء القوم، و ان ابا بكر و عمر و عثمان و عليا رضي اللّه عنهم لو راموا بأجمعهم تعطيل نص لرسول اللّه، او تغير آية واحدة من كتاب اللّه، او ظلم امرأة ارملة ذمية لقتلوا بأجمعهم. و قد عرف اهل العلم و التحصيل، ان اهل البصائر، و من يعتقد دين محمد صلّى اللّه عليه و سلم و نبوته و صدقه و اجلال من اجل و تعظيم من عظم و إهانة من اهان في زمن ابي بكر و عمر اكثر و أوافر، و الغلبة لهم، و الامر بأيديهم، و هم كانوا الظاهرين القاهرين، و هم ولّوا ابا بكر و عظموه و اجلوه و قدموه تقربا الى اللّه، لأن رسول اللّه قد كان يقدمه و يعظمه و يجله و يكرمه؛ و لهذا كان يقول الرؤساء في ذلك الزمان من اقارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد رأوا تعظيم المهاجرين و الأنصار ابا بكر، و طاعتهم له، و تنفيذهم وصاياه و وصايا خليفته بعده: كان و اللّه حلوا في افواههم، جليلا في اعينهم، مهيبا في صدورهم، على سكون ريحه و لين جانبه./ فلا تظن ما يقول طوائف الامامية و الرافضة فيهم إلا الغاية في الغافله و ترك النظر؛ و تعليل الرجال هو الذى يوقع الناس في الضلال.
و باب آخر [الاخوة و المودة التي كانت قائمة بين الصحابة]
إن بين ابي بكر و عمر و تلك الجماعة و بين بني هاشم مع اخوة الاسلام فضل مودة و صداقة، يمدح بعضهم بعضا و يزكّي بعضهم بعضا، و يتصاهرون،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:246
(1/268)
و يرى بعضهم بعضا أهلا للإمامة و الولاية، و ينصح بعضهم بعضا. ألا ترى أنهم بايعوا ابا بكر، و صلّوا خلفه، و غزوا معه؛ و نفذوا وصيته بعد موته في عمر، فاجتمعوا كلهم في طاعته؛ و نفذوا وصايا عمر بعد موته و صلّوا خلف صهيب، و رجعوا الى عبد الرحمن كما وصّى، فغزا امير المؤمنين علي بن ابي طالب مع ابي بكر رضي اللّه عنهما الربذة و الى ذي القصّة «1».
و لما همّ ابو بكر بالخروج عن المدينة و المسير الى اصل الردة، اخذ امير المؤمنين علي بعنان فرسه و قال له: اقول لك كما قال لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوم أحد: سمّ سيفك، و ارجع مكانك، و متعنا بنفسك، و أتا أقول لك:
أنقذ جيشك و ارجع الى المدينة، فإنك إن هلكت لم يكن للاسلام بعدك نظام، فقبل رأيه و رجع.
و قد غزا غير واحد من بني هاشم في زمن عمر، و في غزواته هلك الفضل ابن العباس بالشام في طاعون عمواس في خلافة عمر، و قد خرج العباس معه الى الشام و غيره من بني هاشم، و خلف عليا أميرا على المدينة في بعض خرجاته الى الشام، فانه خرج اليها اربع مرات، فدخلها في بعضها، و في بعضها لم يدخل، و زوجه امير المؤمنين عليّ ابنته ام كلثوم و أمها فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم،/ و كان له منها زيد و رقية.
و قبل ذلك ما زوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابا بكر الصديق اسماء بنت عميس الخثعمية، و كانت تحل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم محل ابن الأخوات و تختص به و بنسائه و تكون في بيوته. و كانت من المهاجرات بدينها الى ارض الحبشة و إلى المدينه، و كانت قبل ذلك امرأة جعفر بن ابي طالب، و كان له منها
__________________________________________________
(1) انظر الطبري 3: 241 و 247
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:247
(1/269)
غير واحد من الأولاد، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أبا بكر كافل بني هاشم و مربي ابنائهم، فربّى اولاد جعفر بن ابي طالب و كفلهم و أدبهم، منهم: عبد اللّه ابن جعفر بن ابي طالب، و أخوه محمد. و كان عبد اللّه بن جعفر يذكر من برّ ابي بكر بهم و رأفته و تأديبه لهم ما يطول شرحه. و خلف امير المؤمنين علي و عمر على المدينة في خروجه الى جسر مهران «1»، و أشار عليه حين تكاتبت الأعاجم بإخراج المسلمين من ديارهم «2»؛ و كان يزدجرد بن شهريار ملك فارس الذي أخرجه عمر من ملكه حيّا مقيما عند خاقان ملك الترك و قد صاهره يستعينه على المسلمين، فراسل أهل مملكته بإخراج المسلمين من ديارهم، و أنه يوافيهم في الجيوش و يسير الى المدينة فيقتل عمر و يستأصل الاسلام، فكتب المسلمون الذين في ممالك الفرس الى المسلمين بالكوفة بهذا، و كتب أهل الكوفة الى امير المؤمنين عمر، فخطب الناس و قال: ايها الناس، إن الشيطان قد جمع جموعه، و إن الأعاجم من اهل جرجان و طبرستان و الريّ و أصفهان و همدان و نهاوند، قد تكاتبوا و تعاهدوا في اخراج المسلمين من ديارهم و قصدهم الى بلادكم، و هذا يوم له ما بعده، فأشيروا عليّ.
فقام طلحة بن عبد اللّه، فقال،/ فجزاه خيرا ثم امره بالجلوس، ثم قال:
أشيروا عليّ، فقام عثمان بن عفان، فقال: أرى يا امير المؤمنين ان تكتب
__________________________________________________
(1) سمي الجسر بذلك لأن قائد الفرس كان مهران بن مهر بنداد الهمذاني و كان قائد المسلمين المثنى بن الحارثة، و سميت المعركة معركة جسر مهران. و كان عمر رضي اللّه عنه قد هم بالخروج مع المسلمين في تلك الموقعه.
(2) كان ذلك في سنة 19- 20 للهجرة. فقد تكاتبت الفرس و اهل الري و قوس و اصبهان و همذان و الماهي و تجمعوا الى يزدجرد آخر ملوك فارس. فبعث عمر بعد مشورة الصحابة بجيش و ولى عليه النعمان بن مقرن المزني. فتوح البلدان، 424.
(1/270)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:248
الى اهل اليمن فيسيروا اليك من يمنهم، و إلى اهل الشام فيسيروا اليك من شامهم، و تسري بأهل هذين «1» الحرمين و أهل المصرين: الكوفة و البصرة، و تلقي العدوّ بنفسك، فاذا رآك في جموعك و عساكرك هاله أمرك، و قل هو و جيوشه في أعين المسلمين، ففعلت و فعلت، فجزاه خيرا و أمره بالجلوس، ثم قال: أشيروا عليّ، فقام علي بن ابي طالب، فقال له: يا امير المؤمنين، أما ما كرهته من مسيرهم فان اللّه عز و جل لذلك أكره، و إنك يا امير المؤمنين إن سيّرت اهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة الى ديارهم، و إن سيّرت اهل الشام من شامهم سارت الروم الى ديارهم، و إن سرت بأهل الحرمين انتقضت العرب عليك، فكان ما وراءك اهم لك مما بين يديك، و إن رآك العدوّ ازداد كلبه عليك و قال لأصحابه: هذا واحد العرب فان قطعتموه قطعتم العرب كلها. و لكن أرى ان تكتب الى اهل اليمن، فيكون ثلثهم في اهل عهدهم و ثلثهم في ثغورهم و يسير منهم الثلث اليك، و تكتب الى أهل الشام بمثل ذلك، و تقيم بمكانك و تنفذ اميرا يلقاهم، فان هلك أنفذت اميرا مكانه، فقد علمت انّا كنّا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نقاتل بالبصيرة لا بالكثرة، فجزاه خيرا و أمره بالجلوس، ثم قال: هذا و اللّه هو الرأي؛ إن انا أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة الى ديارهم، و إن سيّرت اهل الشام من شامهم سارت الروم اليهم، هذا و اللّه هو الرأي ان ساعدتموني عليه، فقالوا: نساعدك، فعمل على ذلك، و أنفذ الجيش، و أقام على ما اشار عليه عليّ؛ و كم له معه مثل هذا، و شرحه/ يطول.
و كم قد أشار عليه العباس و نصح له مما هو مذكور معروف عند العلماء،
__________________________________________________
(1) في الأصل: هذه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:249
(1/271)
و كم قد اشارا جميعا على عثمان و غيرهما من بني هاشم، و كم قد غزا الحسن، و الحسين، و عبد اللّه بن جعفر، و عبد اللّه بن العباس، و غيرهم من بني هاشم مع امراء عثمان الى خراسان و غيرها، و كم كان يقول عمر على المنبر: أقضانا عليّ، و يقول: لا تكون نازلة لا يشهدها علي بن ابي طالب؛ و ولاه القضاء بالمدينة، و تولى، فكان يقضي و يفتي، و استسقى بالعباس، و ألحق الحسن و الحسين في العطاء بالبدريين، و لما دوّن الدواوين، كتبوا اسمه في اول الديوان، فقال لهم: لم فعلتم هذا؟ فقالوا له: انت امير المؤمنين، فقال:
ابدؤوا بطرفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: هاشم و زهرة، وضعوا عمر و آل عمر حيث وضعهم اللّه، و أدخل عليا في الشورى: و كان لعليّ في اولاده من يسمى أبا بكر و عمر و عثمان كما يسمي الرجل اولاده بأسماء أحبابه و أئمته، و قد كان للحسين عليه السلام ولد يقال له ابو بكر قتل معه بكربلاء، و كان ليلي بن الحسين ولد اسمه عمر، و قد كان في أولادهم مثل هذا كثير، و شرح هذا يطول، و كذلك شرح ما كان بينهم من المودة و الصداقة و حراسة بعضهم لبعض، و مدح بعضهم لبعض يطول، و للعلماء فيه كتب مفردة مخلدة، انت تجدها اذا طلبتها. و لكن طال العهد و غلب الجهل، فظن من لا علم له انهم كانوا متباعدين متباغضين، و أن الذي كان بينهم من العداوة و البغضاء أشد مما كان بينهم و بين معاوية و ولده و مروان بن الحكم و ولده كما ظنت المنانية و من ذهب مذهبها، ان عيسى بن مريم «1» عليه السلام كان عدوا لموسى و هرون و داود و سليمان/، و أنه كان يحرم أكل اللحمان و ذبح الحيوان، و كما يظن من لا يعلم ان هذه الطوائف من النصارى على دين المسيح و في طاعته. و للبغضاء رحمك اللّه حال مبينة، و للمحبة آثار و أعلام. ألا ترى ان
__________________________________________________
(1) في الأصل بعد كلمة مريم لفظة كان، و هي زائدة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:250
(1/272)
معاوية و آل ابي سفيان و آل مروان، لمّا ابغضوهم و عادوهم، ما ذكروهم في الإمامة و لا رجعوا اليهم في القضاء و الفتوى، بل لعنوهم و حاربوهم و قتلوهم، و وصوا اولادهم بذلك، و كذا فعل بنو هاشم من ولد العباس و ولد ابي طالب ببني امية.
فإن قالت الرافضة: إنما صنع ابو بكر و عمر هذا ببني هاشم حيلة و خديعة و ليخرجوهم من الرئاسة، قيل لهم: من الحيلة و الخديعة ان لا يدخلوهم في الشورى، و لا ينبهوا عليهم في الرئاسة و لا يستسقوا بهم، و لا يستشفعوا الى اللّه بجاههم و مكانهم، و لا يشهدوا لهم بالجنة، و لا يسيروا إليهم بالعلم و المعرفة؛ ألا ترى ان معاوية لما عاداهم ما جعلهم اهلا للخلافة، و لا ذكرهم للرئاسة، و لا استسقى بهم، و لا استفتاهم، و لا استقضاهم، و لا شهد لهم بالجنة، بل كانت سيرته فيهم ما قد علم الناس؛ و لا فرق بين من ادعى هذا، او ادعى ان ما كان من مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لأهله و أصحابه انما كان على طريق المداراة و الخديعة، او ادعى ان ما كان من معاوية [مع ] «1» آل بني هاشم إنما كان على طريق الرأفة و الرحمة.
و بعد فما لأبي بكر و عمر على قولكم الى مداراة الناس و خديعتهم في بني هاشم، و عندكم ان الناس قد علموا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد استخلف عليا و نص عليه، و عرف الكافة انه الحجة على العالم. ثم ان ابا بكر دعاهم الى خلاف ذلك فأجابوه بأسرهم على/ قول بعضكم و هم الكاملية، و على قول الهشامية اجابوه إلا نفرا يسيرا كانوا مغلوبين. و دعاهم هو و عمر بعده و عثمان بعدهما الى تغيير القرآن و الشريعة، من الطهارة، و الأذان، و الصلاة
__________________________________________________
(1) اضافة على الاصل يقتضيها السياق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:251
و مواقيتها، و الصيام و مواقيته، و المواريث، و المناكح، و الطلاق، و العتاق، الى غير ذلك، فأجابوهم اليه.
(1/273)
و ما سمع الناس بأعجب من امر هؤلاء القوم في دعواهم على ابي بكر و عمر، انهم إنما زكوا بني هاشم مثل العباس و علي و غيرهما، و أدخلوهم في الشورى، و قدموهم في القضاء و الفتوى و الرئاسة، للنقص منهم، و الحيلة عليهم؛ و هو كمن قال: ان ابا بكر و عمر و عثمان اخذوا الروم و العجم و ملوك العرب بالدخول في دين النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و إدخال اممهم في دينه، و الشهادة برسالته، و إقامة شرائعه، و موالاة اوليائه، و مجاهدة اعدائه، انما فعلوا ذلك عداوة له صلى اللّه عليه، و للحيلة عليه، و اخراجه من الرئاسة و النبوة، و لإماتة ذكره؛ و كل امرهم عجب و خروج عما يعقل و يفهم.
فإن قالوا: إنما أدخله عمر في الشورى و قال يصلح للخلافة و الرئاسة ليمحو نصّ النبي عليه و استخلافه له، قلنا: فإن ذلك قد امحى على قولكم و أجابه الناس الى محوه و إزالته، فما حاجته الى ادخاله في الشورى لو لا محبته له و التنبيه على فضله، و لو اراد ان يخرجه من الرئاسة لما أدخله في الشورى، و لا قال انه يصلح للخلافة و الرئاسة؛ و انما الشورى وضعها عمر ليطلب الناس من يصلح في دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للقيام بأمر امته عليه السلام، و ليرجعوا الى وصاياه و عهوده فيمن يصلح لذلك في دينه و شريعته؛ فلو كان هناك منصوص عليه، او من فيه أدنى اشارة، لما ادخله عمر في الشورى و الرئاسة إن كان/ يريد ان يميت ذلك على ما يدعونه عليه، و هذا لا يظنه عاقل، و هو كمن قال انما استسقى بالعباس و استشفع الى اللّه به ليميت ذكره و ليخرجه من الفضل و الرئاسة و من استخلاف النبي له و نصّه عليه، فان الراوندية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:252
من شيعة بني العباس تدّعي ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم نص على العباس و استخلفه و جعله وارث مقامه، و أن الخلافة تكون في ولده الى يوم القيامة، كما تدعي ذلك الرافضة في امير المؤمنين.
(1/274)
و بعد فإن كان الذي صنعه عمر في الشورى حيلة على امير المؤمنين ليخرجه من الرئاسة، فلم دخل هو و قبله، و صلى خلف صهيب، و رجع الى عبد الرحمن في الاختيار، فكيف شعرتم انتم بهذا و خفي عليه.
فإن قالوا: فعل هذا خوفا و تقية، فقد بينا ان سلطان هؤلاء الخلفاء الأربعة ما كان سلطانا يخافه محقّ و لو كان عبدا او ذميا، و كشفنا ذلك من غير وجه. و اعلم ان الكلام اذا انتهى الى مثل هذا فليس إلا السكوت، فإن شرح المشروح و المجاذبة في امر المكشوف عناء و ادخال له فيما يغمض و يخفى، فارجع رحمك اللّه الى ما كان من ابي بكر و عمر و قول بعضهم في بعض و صنع بعضهم ببعض، تجدهم أولياء و اخوانا و اصدقاء، و قد تقدم لك في صدر هذا الكتاب ان ابا بكر و عمر و تلك الجماعة من المهاجرين و الانصار كانوا احباب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و كان يحبهم و يودهم، و يوجب على الناس مجبتهم، و يفرض عليهم مودتهم، و كانوا يحبونه، و هو أحب اليهم من أبنائهم و أنفسهم، و يحبون من أحبّ، و يبغضون من ابغض، و إن العلم بذلك قبل العلم بنبوته، فارجع اليه.
و باب آخر [افعال رسول اللّه و أقواله تشهد بأنه ما عهد لرجل بعينه ]
و هو ان افعال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أقواله و وصاياه و عهوده، تشهد بأنه ما عهد في رجل بعينه، و ان الامر في الخلافة بعده الى خواصه و اصحابه ليختاروا من يرون، و ان الخلفاء بعده يجوز عليهم الخطأ و الزلل؛ ألا تسمع
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:253
(1/275)
قوله صلّى اللّه عليه و سلم «1»: «أنفذوا جيش أسامة» و قوله: «لا تتركوا بعدي في جزيرة العرب دينين، و لا تجمعوا فيها دينين» «2» و قوله: «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم فخذوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، و إلا فكونوا أشقياء حرّاثين تمشون خلف أذناب البقر، و تأكلون كدّ أيديكم. أطيعوهم ما أطاعوا اللّه و رسوله، فاذا عصوا اللّه و رسوله فلا طاعة لهم عليكم؛ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «3».
و قوله: «هذا الأمر في قريش ما اذا استرحموا رحموا، و اذا حكموا عدلوا، و اذا قسموا أقسطوا، و اذا عاهدوا وفوا؛ فإن لم يفعلوا ذلك، فعليهم لعنة اللّه و الملائكة و الناس اجمعين، لا يقبل منهم صرف و لا عدل».
و مثل هذا من اقواله كثير، و يعلم هذا من دينه، كما يعلم من دينه أن الولد للفراش و للعاهر الحجر، و ان اليمين على المنكر و البينة على المدعي، و النفقة على الزوج دون المرأة، و ما أشبه ذلك من شريعته. و هذه الوصايا منه انما هي لأصحابه و خاصته، فمن اشكل عليه بعد هذا انه ما نص على رجل بعينه، و ان الخلفاء بعده يجوز ان يقع منهم الخطأ و الزلل، و أنه ليس فيهم من يؤمن منه ذلك، فقد اشكل عليه الواضح من شريعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم/ و جلّى سيرته، و المكشوف عن شريعته و وصاياه.
__________________________________________________
(1) في الحاشية كتب: وصايا رسول اللّه (ص)
(2) انظر طبقات ابن سعد. الجزء الثاني القسم الثاني ص 24 بلفظ آخر «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان».
(3) انظر شرح الجامع الصغير للمناوي 1: 149، و خضراءهم اي سوادهم و دهماءهم. و هنالك احاديث كثيرة في هذا المعنى، كلها تضع شرطا في التبعية لقريش هي الاستقامة على الحق و التقوى و الرحمة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:254
(1/276)
فإن قيل: كيف اشكل هذا على هؤلاء القوم؟ قيل له: ليس يعرف هذا بكمال العقل و ان كان واضحا، و انما يعرف بكثرة السماع و حسن الاصغاء و التأمل، وجودة التحصيل و صحة النقل.
ألا ترى ان في هؤلاء من يقول: ان في القرآن زيادة، و فيهم من يقول:
فيه نقصان، و فيهم من يقول: للطهارة و الصلاة و الصيام و سائر الشريعة باطن يخالف ما عليه الفقهاء و العامة، و الى ما يذهب اهل التناسخ و قوم من الصوفية. و كل من جالس العلماء و كثر سماعه و جاد تحصيله، يعلم علما يقينا ان هذا خلاف دين النبي صلّى اللّه عليه و سلم؛ و قد عرف اصحابه من سيرته جواز الاختيار في الائمة و الامراء، و عملوا بذلك في حياته صلّى اللّه عليه و سلم. ألا ترى انه لما انفذ عسكرا لغزو الروم قال لهم: اميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن ابي طالب، فإن هلك فعبد اللّه بن رواحة؛ فهلك هؤلاء الامراء الثلاثة فاستعمل الجيش بعدهم خالد بن الوليد المخزومي اميرا عليهم، فدبرهم و ساسهم و لقى العدو بهم، فما انكر النبي صلّى اللّه عليه و سلم ذلك بل صوبهم، و سمي خالد بن الوليد سيف اللّه. و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم انفذ عما لأبي موسى الاشعري اميرا على جماعة فهلك، فاستعملوا بعده ابا موسى، فما انكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذلك بل صوبهم؛ بل انهم انما فعلوا هذا لأنهم قد عرفوه من سيرته.
و قد ولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابو العلاء بن الحضرمي «1» البحرين، و انفذه في
__________________________________________________
(
(1/277)
1) أرسل الرسول (ص) العلاء بن الحضرمي الى المنذر الساوي بالبحر بالكتاب التالي: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللّه الى المنذر ساوي. سلام عليك فاني احمد اللّه إليك الذي لا إله الا هو، و اشهد ان لا اله الا و ان محمدا عبده و رسوله. أما بعد، فإني اذكرك اللّه عز و جل فان من ينصح فانما ينصح لنفسه و ان من يطع رسلي و يتبع امرهم فقد أطاعني و من نصح لهم فقد نصح لي، و ان رسلي قد اثنوا عليك خيرا، و اني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما اسلموا عليه، و عفوت عن اهل الذنوب فاقبل منهم، و انك مهما تصلح يغفر لك عن عملك، و من اقام على يهوديته او مجوسيته فعليه الجزية». السيرة الحلبية 3: 252.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:255
جماعة، و عهد إليه عهدا معروفا، و قال صلّى اللّه عليه و سلم/ في هذا العهد: و انا اشهد الله على رجل وليته امرا من امور المسلمين فلم يعدل فيه قليلا كان ام كثيرا فانه لا طاعة له، و هو خليع محاولتيه، و اني قد برأت المسلمين الذين معه من عهدهم و ايمانهم منه و من ولايته، فليستخيروا عند ذلك الله ثم ليستعملوا عليهم افضلهم في انفسهم؛ و اشباه هذا في وصاياه و عهوده و سيره كثيرة، و أنت تجده متى طلبته، و فيما معك اتم كفاية.
باب آخر [كيف خاض الصحابة في امر الامارة و لم يذكروا انه نص على أحد بعينه ]
و هو ان الصحابة قد خاضوا في باب الامارة في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قبل ذلك في ازمان مختلفة، و جرى لهم من الخوض في ذلك اكثر مما جرى لهم من كل شي ء في كبار الامور و صغارها، فأقوالهم و أفعالهم افعال من لا عهد عنده في رجل بعينه؛ و ان الائمة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يجوز ان تقع منهم المعاصي و الخطايا.
فمن ذلك، ان الصحابة سألوا عليا في مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقالوا:
(1/278)
كيف اصبح رسول اللّه يا أبا الحسن؟ فقال: اصبح رسول اللّه بحمد اللّه بارئا، فقال له العباس: أحلف باللّه لقد عرفت الموت في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كما أعرفه في وجوه بني عبد مناف، و إني لأرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم سيتوفى في وجعه هذا، فانطلق بنا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نسائله فإن كان هذا الامر فينا علمنا، و إن كان في غيرنا امرناه فوصى الناس بنا. فقال له علي: ما كنت لأسألها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فإنا إن سألناه فقال ليست فيكم منعناها الناس و قالوا: رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم قال ليست فيكم، و الله لا سألتها ابدا.
فانظر كم في هذا من بيان على صحة ما قلنا؛ فهذا العباس، و هذا علي،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:256
(1/279)
و هؤلاء الصحابة، فلو كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم/ قد نص لما جاز ان يذهب علمه عنهم، أو لو قال قولا يحتمل تأويله هذا المعنى لما ذهب عنهم، فإن البحث و النظر و الخوض يخرج خفيات الأمور و يذكر بغوامضها و بما قد تقدم عهده و زمانه، فكيف بالشي ء الواضح القريب العهد، و رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم حي بينهم، فكيف لم يقل علي للعباس: يا عم، أما تعلم ان رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم قد نص علي و جعلني حجة على العالم و استخلفني و ولديّ على امته الى يوم القيامة، و كيف نسيت مع قرب العهد، أو ليس قد قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، و «انت مني بمنزلة هرون من موسى»، و هذا نص و استخلاف. فإن كان امير المؤمنين علي رضي الله عنه نسي ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم استخلفه كما نسي العباس فكيف لم يذكرهما الصحابة و هم يسمعون ما يجري، و هذا لا يخفى على متأمل، فقد وجدت رحمك الله عليا و العباس و الصحابة قد اطبقوا على ان رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم ما نص و لا استخلف رجلا بعينه، و لا قال قولا قصد به هذا المعنى. فان قيل: و من سلم لكم ان هذا قد جرى بين علي و العباس رضي الله عنهما؟ قيل له: إن هذا كالذي جرى في السقيفة و في الشورى، لا يرتاب بذلك اهل العلم، و العجب انكم تقولون أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و تنكرون مثل هذا و هو أصح، و العلم به اقوى، و ما زال ولد العباس و ولد علي من قديم الدهر يتذاكرون هذا الذي جرى من آبائهما في أنهما أصوب رأيا، و يخوض اهل العلم في ذلك، كالشعبيّ و عبد الرزاق «1»، و إنما يذهب مثل هذا على معاند أو من لا نصيب له
__________________________________________________
(
(1/280)
1) الشعبي هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري (ابو عمرو) راوية من التابعين، و هو من رجال الحديث التقات توفي سنة 103 ه. تهذيب التهذيب 5: 65 و اما عبد الرزاق فهو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري (ابو بكر) من حفاظ الحديث التقات. له «الجامع الكبير» في الحديث. توفي سنة 211 ه، تهذيب التهذيب 6: 310
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:257
في العلم.
و في هذا الباب، ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم لما مرض جزع اصحابه لمرضه، فكانوا معه و حوله و مسجده بهم مثل الرمانة، و عنده في بيته ازواجه و عماته و بناته، فكان/ اذا وجد خفّا خرج فصلى بهم، فاشتد به يوما مرضه فقالوا:
الصلاة يا رسول اللّه، فقال: ما أستطيع الخروج، صلوا، قالوا: يا رسول اللّه من يصلي قال: يؤذّن بلال و يصلّي أبو بكر.
ففي قولهم: من يصلّي، دليل على انه ما استخلف رجلا بعينه، لأنه لو كان فعل ذلك لما قالوا من يصلي و لا خفي عليهم مكانه، كما لا تخفى عليهم القبلة و قد فرغ لهم منها، فلا يقولون الى اين نصلي. و أكد ذلك ايضا بقوله: يصلي بكم ابو بكر، و لو كان قد استخلف رجلا بعينه لقال:
او ليس قد استخلفت عليكم عليا، فكيف نسيتم مع قرب العهد، و لأمر عليا بالصلاة.
فان قيل: و من سلم لكم هذا، و إنما عائشة قالت له لا رسول اللّه، و أن رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم لما احس به خرج و صرفه.
قيل لهم: انه ليس لرسول الله عهد اوثق و لا عهد اوضح من عهده الى ابي بكر في الصلاة بالناس في مرضه، فانه عقد كان منه في بيته و بحضرة أصحابه، الذين صفتهم على المحافظة على دينه الصفة التي قدمنا، و العلم بذلك يجري مجري مرضه في بيت عائشة و دفنه فيه، و مجرى العلم بأن ابا بكر و عمر دفنا عنده؛ و العجيب ممن يقول: قد علمنا ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال:
من كنت مولاه معلّي مولاه و عليّ مني بمنزلة هرون من موسى، و قال:
(1/281)
انفذوا جيش اسامة، و ينكر امر ابي بكر في الصلاة بالناس، و هذا من
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:258
العناد الشديد و الجهل الفائض، و هو كمن قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما اختار أبا بكر للهجرة معه و لا كان معه في الغار، و لا اختصه بأن يكون معه في العريش يوم بدر دون الناس كلهم، و لا كان معه في بيعة الرضوان، و لا اقامه مقام نفسه في الحج بالناس في سنة تسع و لم يقدم غيره في ذلك، و هو اول امير حج بعده صلّى اللّه عليه و سلم/ في حياته من المدينة.
و لقد امر ابو بكر بالصلاة، فصلى بجميع اصحابه و أهل بيته كالعباس و عليّ و جميع بني هاشم و مواليه، و هو ينظر اليهم من بيته و في مسجده و هم يصلون خلف ابي بكر، فصلى بهم ابو بكر [عدة] «1» ايام. ففي بعض تلك الايام يخرج رسول الله و يصلي معهم، و في بعضها يخرج و قد فرغ ابو بكر فيجلس معهم، و في بعضها يحس به ابو بكر فيتنحى و يقدمه و يصلي بهم. لا يتدافع اهل العلم من الصحابة و التابعين و الذين يلونهم و الذين يلونهم في ذلك. و لقد صلى بهم ابو بكر الظهر في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم قبل دفنه و قبل البيعة له بذلك العهد الذي كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا ينازعه في ذلك احد.
و قد روى هذا الحديث و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لأبي بكر بالصلاة علي بن ابي طالب، ذكر ذلك في خلافته و على منبره مرات كثيرة، و رواه العباس و ابنه عبد الله، و ذكره عمر على منبره في خلافته، و رواه ابو عبيدة، و عبد الله بن مسعود، و أنس بن ملك، و البراء بن عازب، و سالم بن عبد الله، و عبد الله بن زمعة، و من لا يحصى كثرة من المهاجرين و الانصار. و انما كان سبب ذكرهم له، لأنهم كانوا يذكرون مرض رسول اللّه و كيف صنع، و انما
__________________________________________________
(
(1/282)
1) في الاصل فراغ املأته بعدة، و يمكن ان يقرأ بدونها فنقول حينذاك: فصلى بهم ابو بكر أياما.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:259
يظن ان ابا بكر تقدم فصلى بالمهاجرين و الانصار بغير عهد من رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم، من لا يعرف المهاجرين و الانصار، و شدة بصائرهم، و إعظامهم لمقام رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم ان يقوم فيه احد مقامه سيما في خاصته بغير امره.
و بعد فان مسجده في بيته و نصب عينيه، يسمع و هو في بيته صوت من في مسجده و يراهم، و أمره لأبي بكر/ بالصلاة بحضرة اصحابه، و يسمع ذلك جميع ازواجه و بناته و عماته، فقد كنّ في مرضه هذا اجتمعن كلهنّ عنده في بيت عائشة. و كان امره له بذلك مرة بعد مرة، فان الصحابة كانوا يدخلون في اوقات الصلاة فان وجد خفّا خرج معهم، و إلا قال لهم:
يصلي بكم ابو بكر. و كان في اول امره امر بذلك، قالت عائشة: يا رسول الله، إن ابي رجل أسيف «1» لا يستطيع ان يسمع الناس، فلو امرت غيره، فأبى رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم ذلك و لم يجبها اليه، فاستعانت ببعض ازواجه عليه ليشفعها و يأمر غير ابي بكر بالصلاة، فردّهن رسول الله و غضب و قال:
يأبى الله و المؤمنون غير ابي بكر، إليكنّ عني صويحبات يوسف. فهذا الذي كان من عائشة فادعوا عليها ما لم يكن، و هذا شأنهم. و لقد قيل لعائشة لم كرهت ان يصلي ابوك بالناس في مرض رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم و راجعت رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم في ذلك حتى غضب؟ قالت: ظننت بحداثة سني انه لا يطيق ذلك، و أن المسلمين يتشاءمون به.
و قد قال بعض العلماء في قول رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم: إليكن عنى صويحبات يوسف، ان اولئك النساء ظنن ان يوسف عليه السلام إذا دفع الى شدة
__________________________________________________
(1) الرجل الأسيف: الشيخ الفاني و السريع الحزن و الرقيق القلب، انظر قاموس المحيط.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:260
(1/283)
يضعف و يجيب الى المعصية فلم يكن كما ظنن، فأراد رسول الله ان ابا بكر سيدفع الى شدائد فيصبر و يحتمل.
ثم يقال لهم: و كيف طمع ابو بكر ان يتقدم بأصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم و قد علم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد استخلف عليا و عرفهم انه حجة اللّه عليهم و على رسول اللّه و جميع الصحابة حضور شهود، كيف يتوهم عاقل هذا؟
و بعد فكيف اقرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عائشة/ في ازواجه و اقام عليها و قد ارتدت بهذا الصنيع، و قد قال اللّه عز و جل: «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» «1»؟
فادعيتم ان ابا بكر اغتصب هذا المقام، و ان ذلك بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و انه غضب من ذلك و انكره، و خرج و عزل ابا بكر، و انكر على الصحابة طاعتهم لأبي بكر في الصلاة خلفه؛ هذا امر عظيم، و مراجعات كثيرة، إذ لو كانت لكان العلم بها اقوى من العلم بما كان من المراجعة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من المراجعة و المناقلة يوم الحديبية مع سهيل بن عمرو «2» و ما اشبه ذلك، و لكن مذاهبكم مقصورة على دعاويكم. و من العجب كونكم ما ادعيتم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما غضب و خرج و عزل ابا بكر ان يكون قد قدم عليا فصلى بالناس ليتم بهتكم، بل لو كنتم صادقين في دعوى النص عليه لكان هذا وقت تقديمه و الغضب لأجله لو ادعيتم ان رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم لم يختر
__________________________________________________
(1) الممتحنة 10
(2) كان سهيل بن عمرو سفير قريش الى الرسول يوم الحديبية، و قد عرض على الرسول الانصراف عن مكة ذلك العام على ان يأتيها في العام الذي يليه و على ان يقوم بينه (ص) و بين قريش صلح متصل عشرة اعوام. و قد حدثت اتناء المفاوضات مراجعات من المسلمين و احداث تجدها في كتب السيرة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:261
(1/284)
بيت عائشة لمرضه و دفنه و الموت فيه و انما اختار بيت ابنته فاطمة و لكن ابا بكر مضى و اغتصبه و حمله و جاء به الى بيت عائشة، فهذا رحمك الله من الأدلة التي تشهد ان رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم ما استخلف عليا و لا نص عليه كما يدعي هؤلاء و انما ينكرون الاخبار.
فان قالوا: لو كان رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم ما استخلفه لعلمنا باضطرار انه لم يستخلفه.
قيل لهم: ما لم يفعله رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم لا يعلم بالاضطرار، انما يعلم بالاستدلال، فمن استدل علم و من لم يستدل جاز ان يظن انه قد فعل.
و لو كان فعل شيئا أو فرض شيئا على الامة من سائر احكام الشريعة لجاء مجي ء العلم كما جاء غيره، و هذا هو الاصل كما شرحنا و قدمنا.
باب آخر [كيف فكر الانصار بالامارة ثم عدلوا عن ذلك بعد تبين الحق ]
من هذا، ان الانصار لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حزنوا لفراقه، فاشتد حزنهم و عظمت مصيبتهم، فقالوا هدانا اللّه به، و جمع إلفتنا بدعوته، و عظمت علينا بركاته. فرجع بعضهم على بعض فقالوا: احمدوا/ اللّه فقد قبض و هو عنكم راض، فقالوا: الحمد للّه، و لكن قد و ترنا الأمم، و قد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لم يستخلف، و لا بد لنا من امير نقيمه فنغزوا معه و نجاهد، فقال قائل منهم: لا بد لكم من هذا، فأقيموا رجلا منكم.
فانظر كيف أفصحوا بأنه لم يستخلف، و لو كان كما يدّعون هؤلاء لفيل لهم ذلك ورد عليهم هذا القول و النبي صلّى اللّه عليه و سلم لم يدفن بعد، و كيف لم يستدل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:262
عليهم بالآيات و الأحاديث التي تروونها و تستدلون انتم بها فلو لم يكن إلا هذا لكفى في الدلالة على بطلان ما يدعونه هؤلاء، و ما يدعيه العباسية و البكرية.
(1/285)
فإن قيل: فالنبي صلّى اللّه عليه و سلم قد قال: «الأئمة من قريش» في الجماعات الكثيرة و قد ذهب هذا على الانصار، فما تنكرون ان يكون قد نص على علي و العباس و أبي بكر و ذهب عنهم؟
قلنا: لا ندعي ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «الأئمة من قريش» في الجماعات الكثيرة، و لا قام فيهم خطيبا كما تقولون في دعواكم لعلي، و لا اخذه على الناس، و لا هو ايضا من فرض الكافة، و انما هو من فرض الفقهاء و الخاصة، فيعقده اربعة نفر أو خمسة لواحد، و هو يجري مجرى قوله عليه السلام:
«لا وصية لوارث» «1»، و «أهل ملتين لا يتوارثون» «2»، و «الخراج بالضمان» «3»، و ليس كذلك ما يدّعونه من انه نص على رجل بعينه و فرض طاعته على جميع أمته و جعله الحجة عليهم بعده، فأوجب على الرجال و النساء و الأحرار و العبيد و المقيمين و المسافرين طاعته، و أعلمهم هذا الغرض و أداه اليهم بحسب وجوبه و شمول عمومه، فجرى في الغرض مجرى قوله:
«انا رسول اللّه اليكم و حجة اللّه عليكم»، فهذا لا يذهب على النفر اليسير ممن هو دون الانصار في الرتبه و الاختصاص برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو يقول:
«الانصار كرشي و عيبتي» «4»، يريد بذلك انهم موضع سرّي و خاصتي،
__________________________________________________
(1) حديث لا وصية لوارث في الجامع الصغير، في الدار قطني عن جابر 2: 502
(2) ورد معنى هذا الحديث بلفظ آخر في الجامع الصغير 2: 505، مسند ابن حنبل و البخاري و مسلم و ابي يعلى عن اسامة.
(3) الحديث في شرح الجامع الصغير 1: 525، عن مسند ابن حنبل، و البخاري و مسلم و الترمزي و ابن ماجه عن عائشة،
(4) انظر الحديث في مناقب الانصار من صحيح مسلم و غيره
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:263
(1/286)
فأين/ فرض هذا من قوله: «الأئمة من قريش» «1»، و مع كون هذا من فرض الخاصة، فعند الحاجة ذكر و قبله الأنصار كلهم و عملوا به، فلو كان دعواكم انتم ايضا كذلك لكان قيل و عمل به مثل هذا.
و باب آخر [رفض علي ما عرض عليه من المبايعة بالامارة بعد وفاة الرسول ]
من هذا ان العباس و بني هاشم بلغهم قول الانصار و ما عزموا عليه، فما أنكروا قولهم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبض و لم يستخلف، و ان الإمامة تجب بالاختيار، بل مدحهم العباس و أثنى عليهم و أقبل على عليّ و قال له: قد كنت قلت لك و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حيّ عليل انطلق بنا اليه نسأله فيمن يكون هذا الامر فان كان فينا لم تنازع فلم تفعل، و الآن فامدد يدك أبايعك فيقال: هذا عم رسول اللّه بايع ابن عم رسول اللّه فلا يختلف عليك اثنان.
فتأمل رحمك اللّه هذا البيان و هذا الإفصاح من الجميع، ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما نص و لا استخلف، فكيف لم يقل علي لعمه: كيف نقول إنك لو بايعتني ما اختلف عليّ اثنان و رسول اللّه قد عقد لي و جعلني الحجة و قد خالفوني.
و انما كان قوله رضي اللّه عنه للعباس لما قال له أمدد يدك: هذا امر المسلمين، و ما كنت لأفتات عليهم بأمر، فإن ارادوني فقد عرفوا مكاني.
__________________________________________________
(1) انظر الجامع الصغير شرح المناوي 1: 427، و في الحاكم و السنن الكبرى عن علي. قال الحاكم: صحيح، و نعقب بأنه منكر.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:264
فقيل له: أقبل فانهم لا يخالفونك و لا يكرهونك، و قال له ابو سفيان:
اقبل يا ابا الحسن ما يقول ابو الفضل و انا أبايعك، فقال له العباس: اقبل فهذا شيخ بني عبد مناف يبايعك ايضا، فقال ابو سفيان عليّ بنو عبد مناف كلها، بل عليّ قريش ان تبايع و لا تخالف، فقال له العباس: افعل، فقال:
لا يا عم إلا عن ملأ من المسلمين.
(1/287)
فانظر كيف بين رضي اللّه عنه امر الامامة للمسلمين و باختيارهم، و انه لا يبادر الى القبول لئلا يظن به الحرص على الامارة، فقال له قائل من بني هاشم: فأخبر الناس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم جعلها/ في بني هاشم، فقال رضي اللّه عنه: و اللّه لئن كنت أول من آمن به فلا اكون اول من كذب عليه.
و مقام آخر، و هو ان العباس خرج الى ابي بكر و هو في المسجد فأخبره بما بلغه عن الانصار، و سأله ان يمضي اليهم و يبين لهم، لعلم العباس بعظم قدر ابي بكر في المهاجرين و الانصار. فنهض ابو بكر و تبعه عمرو و أبو عبيدة، و صاروا الى الانصار، فأنكر عليهم ابو بكر ما عزموا عليه، فعجبوا من إنكاره و قالوا: لم تنكر ان تكون الامارة فينا، فقد مضى رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم و ما استخلف، و قد قال فينا كذا، و مدحنا بكذا، فقال ابو بكر:
صدقتم، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: و لو سلك الناس شعبا و واديا و سلكت الانصار شعبا و واديا لسلكت شعب الانصار و واديهم؛ ثم قال ابو بكر و لكن هذا الامر ينبغي ان يكون في الحيّ من المهاجرين من قريش، فلا تنفسوا عليهم الامارة: أسلمنا قبلكم، و قدمنا الله في القرآن عليكم، و ما كان في قريش نفاق.
فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: فإن ابيتم فمنا امير، و منكم امير. ثم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:265
اقبل على قومه من الانصار فقال لهم: البلاد بلادكم، و البادية باديتكم، و أنتم شعب الاسلام الذي لجأ اليه، و إنما عزّ الاسلام بأسيافكم، فإن ابي هؤلاء [ان ] «1» يكون منا امير و منهم امير فأخرجوهم من بلادكم، ثم اقبل على المهاجرين و قال: إن شئتم اعدناها جذعة، انا عزيقها المرجّب و جذيلها المحكك «2».
(1/288)
فقال ابو عبيدة: اللّه اللّه معشر الانصار، إنكم اول من نصر و آزر فلا تكونوا اول من بدل و غير، و قال ابو بكر لسعد بن عبادة: قد علمت يا سعد إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال «3»: «الناس تبع لقريش، فخيار الناس تبع لخيارهم، و شرارهم تبع لشرارهم» «4»/ قال: صدقت، فقال بشير بن سعد الانصاري: و اللّه لئن كنا اولي فضيلة في جهاد عدونا فما أردنا بذلك الارضاء ربنا و الكدح لأنفسنا، و ما ينبغي أن نستطيل على الناس، فالمنة للّه و رسوله علينا. و رجع الانصار عما كانوا عليه، و أقبلوا على ابي بكر و قالوا: من ترضى لنا يا ابا بكر، فقال: رضيت لكم عمرو أبا عبيدة، إن رسول اللّه اتاه قوم فقالوا: ابعث معنا امينا حق امين فبعث معهم ابا عبيدة، و قد قال في عمر كذا و كذا، فقال عمر: اما انا فلأن اضجع فأذبح في غير
__________________________________________________
(1) زيادة على الاصل يقتضيها السياق
(2) الجذيل: تصغير جذل، و هو عود يكون في وسط مبرك الابل تحتك به و تستريح اليه، و يضرب به المثل في الرجل يشتفي برأيه. و العذيق تصغير عذق و هو النخلة نفسها، و المرجب: الذين تبنى الى جانبه دعامة ترفده لكثرة حمله و لعزه على اهله، فصرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه أهله. انضر لمناقشة الحباب بن المنذر الطبري 3: 220
(3) كتب في حاشية الصفحة: قال رسول اللّه (ص): الناس تبع لقريش.
(4) في شرح الجامع الصغير للمناوي 2: 462. و قد ورد في مسند ابن حنبل و مسلم عن جابر. بلفظ آخر.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:266
(1/289)
مأثم احب اليّ أن اتقدم قوما فيهم ابو بكر، و لكن انت يا ابا عبيدة ان شئت بايعتك، فقال ابو عبيدة لعمر: ما سمعت منك فهة «1» في الاسلام قبلها، اتقول هذا لي و فيكم الصديق و ثاني اثنين إذ هما في الغار، و خليفة رسول اللّه، و قد أمّنا حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فقال عمر: معشر الانصار، قد علمتم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قدم ابا بكر و اقامه مقامه في الصلاة بالناس، فأيكم تطيب نفسه ان يتقدم علي من قدمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، قالوا: معاذ اللّه أن نتقدم أبا بكر، فقال بشير بن سعد الانصاري ثم الخزرجي: قوموا الى خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فبايعوه، فانثالوا على ابي بكر و مدّوا يده فقبضها و قال: بايعوا عمر او ابا عبيدة، و دفعهم عن نفسه بجهده، و قبص يده فمدها عمر، فقال له ابو بكر: أنت أنت يا عمر، انت اقوى و أشد، فقال عمر: شدتي لك انت احق، انت خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، رضيك لنا؛ فما زالوا به حتى بايعوه.
فانظر الى طول هذه المراجعة بين المهاجرين و الانصار و هم يطلبون و يفتشون ما يجوز في دين رسول اللّه/ صلّى اللّه عليه و سلم، و يرجعون الى أفعاله و وصاياه، و يبتغون مرضاته، هل تجد احدا منهم يذكر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نصا على رجل بعينه او ما يشبه النصّ او ما تأويله النص من انه كتاب اللّه او من حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و العهد قريب و هو يوم موته، و لم يدفن بعد، و هذا موضع الحاجة الى ذكر ذلك؛ و المناظرة و المباحثة تذكّر بالأمور البعيدة و تخرج الغوامض فكيف بالأمر الواضح مع العهد القريب؟ و ما أراد الانصار بالبدار الى إقامة امير يكون على الناس إلا اللّه، و إلا إحياء الاسلام
__________________________________________________
(1) الفهة من العي و الغلط
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:267
(1/290)
و قمع اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، لينضبط الأمر و لا ينشر «1»؛ فقد كان معهم و حولهم اليهود و قبائل العرب من النصارى، و قد كانوا راسلوا ملوك الروم و أطمعوهم في الاسلام، و مسيلمة مقيم على حربهم و كذا طليحة، و قد ارتد من ارتدّ، فكان الصواب في المبادرة الى إقامة امير، فلما قيل لهم: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد قال: الأئمة من قريش سمعوا و أطاعوا، و قصدوا الى افضل قريش في انفسهم فعقدوا له و قاتلوا بين يديه كما كانوا يقاتلون بين يدي رسول اللّه، و تفانوا في طاعته؛ و لو أرادوا الملك و الدنيا لما أطاعهم المهاجرون و لا غيرهم، فإن البلاد بلادهم، و البادية باديتهم، و البأس و النجدة و الكثرة لهم و فيهم، و انما المهاجرون ضيفانهم و نزال عليهم، و بهم عزّوا، و بهم صار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في عساكر و جماعات، و بهم غزا العدو و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم و هو مقيم بمكة منذ دعا الى النبوة خمسة عشر سنة يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، و يتلو القرآن، و يدعو الى اللّه؛ فسمعته/ قبائل الأوس و الخزرج، و أصغوا الى دعوته، و أجابوه الى معاداة ملوك الأمم و جبابرة الأرض في طاعته، و أن ينفقوا اموالهم، و يسفكوا دماءهم في نصرة دينه، و أن يطيعوه حيا و ميتا. فلما أجابوه الى ذلك، أمر اصحابه بالهجرة اليهم، فقبلوهم و أظهروا الاسلام في المدينة و في قبائلهم و بواديهم، فهاجروا اليهم فوفوا بجميع ذلك، و كان باطنهم في الايمان كظاهرهم، فلهذا أسماهم اللّه الانصار و كذا المهاجرون، و لهذا قال اللّه: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً، وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» «2» فأخبر عزّ و جل عن صحة نياتهم و صدق
__________________________________________________
(
(1/291)
1) يقصد: كي لا يتفرق المسلمون
(2) الحشر 8
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:268
ضمائرهم، و شهد لهم بالصدق، ثم ذكر الانصار و قال: «وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»»
، لأن الانصار كانوا بالمدينة قبل المهاجرين، فلما جاءهم المهاجرون أحباب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم آثروهم على انفسهم بمنازلهم، و شاطروهم اموالهم بطيب من انفسهم، فشهد لهم بالفلاح، و فرض على من جاء من بعدهم مولاتهم و الاستغفار لهم فقال: «و الذين جاؤا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم»، و أمرهم بالتعوذ من بغضهم و عداوتهم، فهؤلاء الذين قاموا بدين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعده، و هم الذين اختاروا أبا بكر، و القرآن مملوء بمدحهم و الثناء عليهم، و أنت تحفظه؛ فارجع الى ما في سورة بعد سورة من ذلك و تدبره، فذكر جميعه يطول و لا يحتمله/ هذا الموضع.
(1/292)
فهم لما بايعوا ابا بكر سكنت نفوسهم، و باتوا و كأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لم يمت و لم يفقد من بينهم، فهذا الذي قصدوا بالبدار، و هم كانوا اعلم بما يباشرونه و يقولونه، و قد علموا انهم قد و تروا الامم كلها في طاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؛ فقد خلفهم و لا امير عليهم، فخافوا ان يبيتوا و قد فقدوا نبيهم و ليس عليهم امير فينشر امرهم، فلشدة اهتمام هؤلاء بحراسة الاسلام بادروا الى من يعقدون له، و إنما ذكرت لك هذا لتعرف الحال فإن من لا يعلم و من همه الطعن في الاسلام يدعي عليهم انهم إنما فعلوا ذلك حبا للدنيا و لسرورهم بموت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لاغتباطهم بالراحة.
__________________________________________________
(1) الحشر 9
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:269
و أنت تجدهم و قد شهدت افعالهم بأنهم بعد موته اشد حبا له، و أشد بصيرة في دينه.
ثم إن ابا بكر عاد من السقيفة و قام خطيبا، و أخبر المهاجرين بما كان و قال: و اللّه ما اردت الامارة، و لا نويتها، و لا تمنينها في يوم و لا ليلة، و لا رغبت فيها، و لقد حرصت أن اجعلها في عمر فما تركت، و إنما قبلتها خشية الفتنة، و لأنه لم يكن عليّ امير، و قد رجعت اموركم اليكم فاقيلوني و ولوا من شئتم. فقال له عليّ: و اللّه لا يقيلونك و لا يستقيلونك، رضيك رسول اللّه لديننا فرضيناك لدنيانا، قدّمك رسول اللّه فمن ذا يؤخرك، فصوّب الصحابة جميعهم قوله و استحسنوه «1».
(1/293)
و انظر اعترافهم ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد اعطى أبا بكر اكثر مما اعطوه، و عجب علي رضي اللّه عنه من طمع الانصار في الامارة و قال: أما سمعوا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اوصيكم بالانصار خيرا، اقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم «2»»، فلو كانوا هم الامراء لكانت الوصية لهم لا فيهم، و لكن نتجاوز لهم كما وصّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و اللّه يرحم الانصار.
فان قال: انهم لم يعارضوا أبا بكر/ خوفا و تقية، فقد بيّنا غير مرة ان سلطان هؤلاء الخلفاء الاربعة لم يكن سلطانا يتقيه محق.
و قيل: إن ابا سفيان لقي علي بن ابي طالب بعد البيعة لأبي بكر فقال له: يا ابا الحسن، ما بال هذا الأمر في اقل حيّ من قريش، إنما هي بنو عبد مناف، إن شئت ملأتها على ابي بكر خيلا و رجلا، فقال له علي: ما
__________________________________________________
(1) كتب في الحاشية: صوابه ان مقامه بعد قتل مسيلمة
(2) انظر الحديث في مناقب الانصار.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:270
(1/294)
اريد ذلك، إنا رأينا ابا بكر لها اهلا، و اني لأعد بيعتي له من جهادي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. ثم اتى ابو سفيان العباس و بني هاشم فقال: ما لنا و لأبي فضل «1»، إنما هي بنو عبد مناف، يا بني عبد مناف ذبوا عن مجدكم و انصحوا عن سؤددكم، و لا تخلعوا تاج الكرامة إذ ألبسكم اللّه فضلها، انها عقب نبوة، من قصر عنها اتبع، و من ذبّ عنها اتبع؛ فقال العباس: إن الاسلام قيد الفتك و أخذ بعنان الباطل، فأمهل نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الأمر مخرج نبسط اكفا للجد لا نقبضها او نبلغ المدى، و إن تكن الاخرى فلا لقلة في العدد و لا وهن في الأيد. فأنكر علي قول ابي سفيان، و نهى بني هاشم عن الخلاف، و قال لهم: عرجوا عن طريق المنافرة و حطوا تيجان المفاخرة. و قال لأبي سفيان: يا ابا سفيان، إن المسلمين قوم نصحة و إن تباعدت انسابهم، و ان المنافقين قوم غششة و ان تقاربت انسابهم، يا ابا سفيان، طالما عاديت الاسلام و اهله فلم يضره ذلك شيئا، انا وجدنا ابا بكر لها اهلا، و لو لم نره اهلا لما وليناه.
و قد ذكر من هذا امير المؤمنين علي رضي اللّه عنه بعد مضي عثمان في رسالته الى معاوية إذ يقول له في فصل منها: و قد كان ابوك اتاني حين وليّ ابو بكر رحمه اللّه الناس، فقال انت احق بهذا الأمر بعد محمد صلّى اللّه عليه و سلم فهلم ابايعك و انا بذلك على من خالفك، فكرهنا ذلك مخافة الفرقة،/ فكان ابوك اعرف بحقنا منك، فإن تعرف منه ما كان يعرف تصب رشدك، و إلا فسيغنى اللّه عنك.
و قد ذكر معاوية هذا المعنى لابن عباس و بني هاشم حين اخذ الأمر من الحسن، فقالوا له: اغتصبت و أخذت ما ليس لك، فقال لهم: إن كان امر الخلافة يستحق بالقرابة دون الرضا و الاجماع فما منع العباس منها و هو
__________________________________________________
(1) كذا في الاصل، و لعلها بكر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:271
(1/295)
عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قد ضمن له ابو سفيان بني عبد مناف؟ فكان جوابهم ان ذاك امر رضيه المهاجرون و الانصار و اجمع عليه المسلمون، و انت فما رضيناك.
و ما كنا في صحة امامة ابي بكر، و إنما كنا في ان الصحابة في كل زمان و أوان يخوضون فيمن يصلح للامامة و لا يذكرون عهدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في انسان بعينه مع حاجتهم الى ذلك، بل يجمعون على العمل بالاختيار، فعرض لنا ما كان بين بني عبد مناف، فذكرنا قول بني هاشم، و ان ابا سفيان احب ان تكون الخلافة في بني هاشم لأنهم اهله و أقاربه من بني عبد مناف، و لأن السؤدد و الرئاسة كانت فيهم قبل الاسلام.
و لهذا قال خالد بن سعيد بن العاص عامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على اليمن و قد قدم بعد وفاته و قد بايع الناس أبا بكر، فعجب من كون الخلافة في أبي بكر دون العباس او علي او عثمان فهؤلاء اعمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بنو «1» اعمامه، فقال لعثمان و علي و قد أتياه ليسلما عليه حين قدم من سفره: أرضيتم بني عبد مناف ان يلي امركم بنو تيم، فقال علي: رضينا، فقال خالد: انتم الشجر الطوال ذوات الظلال فاذا رضيتم رضيناه.
فولاية ابي بكر، و تقدمه على اهل رسول اللّه و أعمامه و بني اعمامه/ و هم كثرة و في عزة و منعة و فيهم اليسار و ليس لأبي بكر شي ء من ذلك من العجائب، و لهذا قال ابو قحافة و قد جال الناس جولة و هو بمكة: ما هذا؟
قالوا: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، قال: فما صنع الناس بعده قالوا: اقاموا ابنك مقامه، قال: أفرضيت بنو عبد مناف؟ قالوا: نعم، قال: افرضيت
__________________________________________________
(1) في الأصل: بني
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:272
بنو المغيرة؟ فقالوا: نعم، قال: و دانت لرجل من تيم؟ قالوا: نعم، قال: فلا مانع لما أعطى اللّه.
(1/296)
فعجب ابو قحافة من تقدم ابنه و السيّادة و الرئاسة انما كانت في بني عبد مناف و بني المغيرة من بني مخزوم دون بني تيم، فلما قدّم المهاجرون و الأنصار و من كان على دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابنه ابا بكر، علم ان ذلك الإسلام و من قبل اللّه، و ان ابنه قد كان اولى بالحسد و الابعاد، و لكن القوم رجعوا في توليته الى الدين و الاسلام دون الأحساب و الأنساب.
و لما بلغ اهل اليمن و البحرين و عمان قالوا لعمال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: هذا الذي بايعه الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابنه او اخوه؟ فقيل لهم: لا، قالوا:
فأقرب الناس منه؟ قيل: لا، قالوا: فما شأنهم؟ قيل: اختاروا أخيرهم فأمّروه عليهم، قالوا: لن يزالوا بخير ما صنعوا هذا.
فتأمل رحمك اللّه حال القوم لتعرف حقيقتها و تعلم انها بالضد مما قاله هؤلاء، فقد طال العهد و قل التأمل.
و باب آخر
و هو ان أبا بكر غزا اليمامة، و مسيلمة، و ربيعة، و طلحة، و بني اسد، و تلك القبائل المرتدة، و مانعي الزكاة، مع إذعانهم بإقامة الصلاة، و أنكر رضي اللّه عنه «1» تغير دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه لا يقرهم على ترك خصلة واحدة من دينه و لا تعطيل شي ء منه، و قد غزاهم بالمهاجرين و الانصار و نكل بهم كل التنكيل، و قتلهم ألوان القتل، و صنع بالرجال و النساء منهم
__________________________________________________
(1) في الاصل: عنهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:273
(1/297)
من النكال ما يطول شرحه لأنهم غيروا دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم،/ و عطلوا حدوده، فما استطاعوا ان يقولوا لأمراء ابي بكر لم تنكرون علينا هذا و أنتم قد عطلتم نصوص صاحبكم، و غيرتم دينه، و بدلتم كتابه، و انصرفتم عن وصيه و عمّن استخلفه، و ضربتم ابنته، و قتلتم جنينها في بطنها، و هذا موضع حاجة هؤلاء اليه، و لو كان لذلك ادنى اشارة لعوّلوا عليه و استراحوا اليه، فعلمت ان ما يدّعيه هؤلاء لا اصل له.
و لو كان بدا منهم شي ء لكان العلم به اقوى مما كان بين امير المؤمنين و أهل النهر، و بينه و بين اهل الشام و غيرهم.
و باب آخر [طلب ابي بكر من المسلمين اقالته و رفضهم ذلك ]
ان ابا بكر لما قتل مسليمة، و أسر طلحة، ورد اهل الردة، و استولى على جزيرة العرب الاسلام و أنفذ جيوشه الى العراق و استظهر المسلمون، قام في المسلمين خطيبا فقال: ان اموركم قد عادت اليكم و بحمد اللّه استظهرتم على عدوكم فأقيلوني فقد تقلدت امرا ما لي فيه راحة و لا يدان الا بمعونة اللّه، فقال له عليّ رضي اللّه عنه: ما يقيلونك و لا يستقيلونك، و ما منك بدل و لا بدل عنك حول، و مشى في الناس ثلاثا يستقيل فما اقالوه.
و باب آخر [تمنى ابي بكر ان لا يكون قد ولي إمرة المسلمين ]
ان ابا بكر لما مرض مرض موته قال: يا ليتني يوم ظلة بني ساعدة قد كنت وليت عمر او ابا عبيدة، فكنت أكون وزيرا خيرا من ان اكون اميرا، و ليتني حين بعثت خالدا الى الشام كنت بعثت عمر الى العراق فكنت
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:274
(1/298)
قد بسطت يميني و شمالي. ثم عزم على استخلاف خليفة يكون بعده، و أخذ يشاور في ذلك؛ فقال لرهط من المسلمين: إن وليت عليكم رجلا منكم أترضون؟ فقال عليّ بن ابي طالب: لا إلا ان يكون عمر، فأمسك؛ ثم خلا بعبد الرحمن بن عوف و شاوره في عمر و أخذ رأيه فيه ثم قال له: اكتم يا ابا محمد ما كان بيننا الى ان اقوله لك، ثم شاور عثمان بن عفان، ثم شاور اسيد بن حضير في رهط من الأنصار في ذلك، فقال له اسيد:/ ما اعلمه إلا الخيرة بعدك لو لا ما فيه من شدة فقال له ابو بكر: يا ابا يحيى اني قد رمقته، فكنت اذا شددت في الشي ء اراني فيه اللين، و إذا لنت في الشي ء اراني فيه الشدة، و لو قد وليكم للان و اشتد.
ثم اظهر ابو بكر الامر للناس و ذكر لهم رأيه في عمر، فقال طلحة و غيره: ان عمر رجل مهيب، له هيبه و ليس بخليفة، فكيف اذا صار خليفة؟ فاعدل بنا عنه الى رجل هو اخفض جناحا و ألين جانبا فكان جواب ابي بكر ما قد تقدم؛ فكيف يظن عاقل تدبر الامور ان هناك رجلا قد اقامه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و فرغ لهم منه، و كلهم و معهم ذلك الرجل الذي يدّعي هؤلاء، يطلبون رجلا يصلح في دين رسول اللّه و عند رسول اللّه للقيام بأمر امته؟ و هل هذا إلا كقائل قال في جماعة كثيرة قيام في الشمس و هم يطلبون الشمس و يسألون عن الشمس، و تأمل الحال، و كيف ينطق كل واحد بما عنده و بما يراه، غير راهب و لا خائف من الأنصار و من المهاجرين و من ابي سفيان و من بني هاشم و من خالد بن سعيد لتعلم سلطان هؤلاء الخلفاء كيف كان.
فكان المسلمون يفرغون الى ابي بكر في كل صغير و كبير، فيقول لهم:
أتظنون انكم تجدون عندي ما كنتم تجدونه عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، لا تجدون
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:275
(1/299)
ذلك، إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يأتيه الوحي، و إنما انا مثلكم، فان احسنت فأعينوني و إن زغت فقوموني؛ و يسأل عن مسألة فيقول: اقول فيها برأي، فإن يك صوابا فمن اللّه، و إن يك خطأ فمني و من الشيطان، فيستحسن المسلمون هذا منه و يحمدونه عليه، و لا يقول قائل كيف يزيغ إمام المسلمين و كيف يخطى ء، و عند الإمامية ان إمام المسلمين لا يخطى ء و لا يزل.
و قد قال عمر ايضا مثل قول ابي بكر مرات كثيرة، و قال عثمان مثل ذلك.
و ما بلي به علي/ و ما قاله في هذا الباب فأكثر مما ابتلي به أبو بكر و عمر و عثمان، فإنه ابتلي من اهل زمانه و من اصحابه طول خلافته بالإضلال و الإكفار فما احتج هو لنفسه بالنص و لا بالعصمة، و لا احتج له من في زمانه ممن كان يخاصم عنه من ولده و أهل بيته و شيعته بشي ء من ذلك، و كانوا و كان هو ايضا لا يأبون ان يجوز عليه ما يجوز على اهل الشووى و على الخلفاء قبله.
و كان ما يتدين به من الاختيار اكثر و أشهر مما كان من الخلفاء قبله، و لهذا قالت العلماء: إن العلم بأن رسول اللّه ما نص على علي و لا استخلفه اقوى من العلم بأنه ما نصّ على بلال، أو عمار، و أبي ذر، او ابن مسعود، فانه رضي اللّه عنه قد بقي بعد الخلفاء خليفة و إماما معه مائة الف سيف تطيعه، و قد نازعه خلق كثير في الإمامة و ناظروه، و ادّعوا عليه الخطأ و الضلال و الإكفار، فما ادّعى النص و لا العصمة و لا احتج في مشافهة و لا مراسلة و لا مكاتبة بشي ء من ذلك، بل كان يحتج بأن طاعتي وجبت لأنه بايعني الذين بايعوا ابا بكر و عمر و عثمان، فوجبت طاعتي كما وجبت طاعتهم.
و من نعمة اللّه على المسلمين ان بقاءه رضي اللّه عنه بعد الخلفاء خليفة و إماما و سلطانا و معه مائة الف سيف تطيعه، فما سار في تركات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:276
(1/300)
إلا سيرة ابي بكر و عمر و عثمان، و لا حبا السواد و مصر و فارس و أرمينية و أذربيجان و خراسان إلا ما حباه الخلفاء قبله، و لا قرأ إلا المصحف، و لا أقرأ اولاده و الناس الا هذا المصحف، و ملك الارض كان كله بيده إلا كرة فلسطين، و أقام التراويح بنفسه و أقامه عماله في ممالكه كلها، و كان يقيم إماما للنساء في التراويح، و أثنى على الخلفاء قبله بما يطول شرحه و قد ماتوا و بلوا، و هو يلعن معاوية و يبرأ منه و هو حي و معه اكثر من مائة الف/ سيف، و كذا صنع بالخوارج. فهو لا يخاف الجبابرة الاحياء، و عند الإمامية انه قد خاف الموتى و هو سلطان عظيم الشأن، و قد بيّنا ان هؤلاء في حياتهم و سلطانهم ما كان يخافهم محق «1».
فإن قيل: و من سلم لكم انه كان يقيم التراويح، بل يقول انه قد نهاهم عنها، فقالوا: و اعمراه، فلما قالوا ذلك، اقامها لهم.
قيل له: لا فرق بين من ادعى هذا، او ادعى انه قد كان نهاهم عن هذا المصحف فقالوا وا محمداه، او قال: قد كان نهاهم عن هذه الصلاة و قال لهم:
لها باطن و هي شخص، ألا تسمعونه يقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر، و لا ينهى إلا الشخص كما يدعيه عليه الاسماعيلية فصاحوا وا محمداه، او كمن ادعى انه كان يعيد في آخر ذي الحجة و يقول: هذا اليوم الذي نص عليّ فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و استخلفني كما يفعل الامامية ذلك في زماننا ببغداد، و انه كان يقيم المناحات بالشعر على فاطمة و ابنها الحسن الذي زعم الامامية ان عمر قتله، كما يفعل الامامية ذلك ببغداد و الكوفة. و بأي شي ء يعلم العاقل
__________________________________________________
(1) في الاصل: يخاف، و لكن السياق يقتضي ما اثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:277
(1/301)
المتأمل ان العباس و ولده و بنو هاشم كانوا يقيمون التراويح الا و العلم الذي يعلم به ان عليا كان يقيمها بنفسه و عامله قرظه بن كعب «1» بالكوفة و عامله بالبصرة و بمكة و المدينة و سائر بلدان الاسلام التي في ملكه و سلطانه اقوى و اقهر.
و لو ادّعى مدّع ان ابن مسعود بالكوفة و ابا عبيدة و معاذ بن جبل بالشام كانوا لا يرونها و لا يقيمونها، هل كانت الدلالة على بطلان دعواه الا ظاهرة، و الدلالة على بطلان من ادّعى ذلك على امير المؤمنين اقوى و اقهر. و العجب ان رؤساءهم و الذين لقنوهم هذا/ المذهب قد قالوا: انه اقام التراويح.
و إذا قيل لهم: هبكم انكم ادعيتم انه كان في زمن ابي بكر و عمر و عثمان كان مغلوبا مقهورا، فما باله حين مات هؤلاء [و] «2» صارت الخلافة اليه و صار السلطان بيده و الفي ء يجبى اليه فيعطيه من يرى و هو في العساكر و الجيوش، لم يدّع «3» النص و تعطيل التراويح و يظهر المصحف الذي تدعون و يسير في اموال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما تدعون و يظهر البراءة من ابي بكر و عمر و عثمان سيما و قد ماتوا، كما اظهرها في معاوية و الخوارج و هم احياء و في عساكر؟
قالوا: ما فعل ذلك و لا قدر عليه لأن جنده و أعوانه من المهاجرين و الانصار و التابعين بعدهم كانوا اولياء ابي بكر و عمر، فلو اتهموه ببغضهم لقتلوه، فما زال مظهرا لنصرتهم و موالاتهم الى ان خرج من الدنيا.
قالوا: و كذا فعل الحسن و الحسين رضي اللّه عنهم اجمعين.
__________________________________________________
(1) في الاصل: كعب بن قرظه، و الصواب ما اثبتناه، و هو احد كبار مساعدي علي بن ابي طالب رضي اللّه عنه و حضر معه صفين سنة 37 ه.
(2) في الاصل: صارت
(3) في الاصل: يدعي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:278
(1/302)
و الآن يدعي هذا المدعي في هذا الزمان انه كان قد نهى عن التراويح، فلما صاحوا و اعمراه خافهم فتقدم و اقامها لهم، فما يجري كلامهم على تحصيل و لكن كما يسنح لهم.
و مما كان ينبغي ان يقدم قبل هذا، ما كان من عهد عمر حين جرحه فيروز النصرانيّ، فإنه ورد على عليّ و المهاجرين و الانصار و جميع المسلمين من ذلك ما ذهلت له عقولهم أسفا عليه؛ فانه قد كان دوّخ ملوك الفرس و الروم و أذلهم، و غلب على ممالكهم، و ألجأهم الى الهرب، و بلغت خيوله افريقية و أوائل خراسان و أوائل الهند، فذلّ الشرك كله به، و غزا الاسلام بمكانه و سلطانه. فخاف المسلمون ان تكرّ ملوك الشرك عليهم بفقده، فاجتمعوا و انفردوا عنه/ مفكرين، و أملوا ان يبتدى ء و يستخلف عليهم. فدخل عليه أهل الامصار فقالوا له: أوصنا يا امير المؤمنين، قال: أوصيكم بالقرآن فتمسكوا به، فيه هدى اللّه نبيّكم و هداكم من بعده، و فيه نجاتكم، قالوا:
أوصنا، قال: أوصيكم بالمهاجرين و الانصار و ذكر فضلهم، قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بالعرب فإنهم مادة الاسلام، قالوا: اوصنا، قال: اوصيكم بذمتكم فإنهم ذمة نبيكم و قوت عيالكم، قالوا: اوصنا، قال: قوموا عني و إلا قمت عنكم. فلما رآه اصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يذكر أحدا للخلافة دخلوا عليه، و ابتدأ ابن عباس يسأله الاستخلاف؛ و افتتح الكلام، فقال:
قد توليتها حياتي و اجتهدت لكم رأيي و نصحت لكم جهدي و منعت نفسي و أهلي، و أرجو ان انجو منها كفافا لا عليّ و لا لي؛ فأثنوا، و ابتدأ علي يبشره عن رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم بالجنة، و قال له: و أشار الى ابن عباس يشهد على رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم بمثل ما شهدت، و شيع غيرهما ذلك و سألوه الاستخلاف، فقال: ما أحب ان اتحملها حيا و ميا، قالوا: بل تفعل، و لك في ذلك
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:279
(1/303)
الاجر؛ انظر يا امير المؤمنين لأمة محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فقال: دلوني على من أستخلف، فقال له المغيرة: انا أدلك عليه: عبد الله بن عمر، فقال له عمر: و الله ما أردت بذلك اللّه، فقال له ابن عباس: يا امير المؤمنين، و ما يمنعك من إخوانك، و أشار الى عليّ و عثمان و عبد الرحمن و تلك الجماعة، فقال عمر:
إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، و إن أترك فقد ترك من هو خير مني- يعني أن رسول اللّه ما استخلف و أن ابا بكر استخلف- ثم قال:
هي في واحد من هؤلاء الستة الذين شهد لهم/ رسول اللّه بالجنة و قبض و هو عنهم راض: علي و عثمان ابنا عبد مناف، و سعد و عبد الرحمن خالا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و الزبير حواريّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و طلحة وقاية رسول اللّه. ثم حذر كل واحد منهم من خلق كرهه له. و قال لعلي: إن وليت هذا فاعدل و لا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، و قال لعثمان مثل ذلك، و قال له:
لا تحمل بني ابي معيط على رقاب الناس، ثم اقبل على عمار و مقداد في ان يكونا في ثلاثين من المهاجرين، و قال لأبي طلحة الانصاري: إن اللّه لم يزل يعزّ هذا الاسلام بقومك فكن في خمسين منهم، فإذا متّ فليصلّ عليّ صهيب، و ليصلّ بالناس الى ان يقيموا خليفة، و كونوا عليهم رقباء لئلا يستبدّ مستبد، و قال: لا يأتي اليوم الثالث إلا و قد أقمتم احدا من هؤلاء الستة خليفة، و جدّوا في امركم، و جاهدوا عدوكم.
فلما قبض أنفذوا وصيته كما رسم، فكم في هذا من شاهد على بطلان دعاوي هؤلاء القوم، و ما حاجة الصحابه ان يختار لهم عمر خليفة و قد فرغ لهم من ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو قائم العين نصب اعينهم. و أعجب من هذا قول عمر و هم يسمعون ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما استخلف، و أعجب منه ان الذي يدّعون ان رسول اللّه استخلفه معهم في ان رسول اللّه ما استخلف،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:280
(1/304)
و أن الخلافة بالاختيار لا بالنص، و أنها في واحد منهم و فيهم الهاشمي و الاموي و الزهري و التيمي و الاسديّ، ففيمن كانت منهم كان صوابا، لا ينكر ذلك احد من المسلمين. و أعجب من هذاقوله لعلي: ان ولوك فاعدل و لا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، فكيف لم يقل له: ما أحتاج الى توليتهم لي؛ و لأنّي رسول اللّه و اختارني و شهد بعصمتي،/ و كيف تقول هذا لي؛ و كيف تقول إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما استخلف؟
و باب آخر [كيف رد المسلمون الأمر الى عبد الرحمن بن عوف ]
ان عليا و الجماعة ردّوا الامر الى عبد الرحمن ليختار واحدا منهم للخلافة و عليهم الرضا بحكمه، فقال لهم: تكلموا فأخبروا الناس بذلك، فتكلموا، و قام امير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه، فحمد اللّه و أثنى عليه و صلى على نبيه ثم قال: لو عهد الينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عهدا لجالدنا عليه حتى نموت، او قال لنا قولا انفدنا قوله على رغمنا، لن يسرع احد قبلي الى صلة رحم و دعوة حق، و الأمر اليك يا ابن عوف و عليّ صدق اليقين و جهد النصح و أستغفر اللّه لي و لكم. فلم يقل «1» رضي اللّه عنه إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما ولّاه و لا ولّى عليه.
ثم انظر في باب آخر في امر عثمان و ما لحقه في آخر امره من الإعراض و الخصومة، حتى تجرأ عليه العبيد و النساء و الصغير و الكبير، هل قرّعه احد من خصومه و أعدائه بأنه جلس في غير مجلسه؟ و قد بالغوا في التشنيع عليه، و هو كان يسمى الخليفة المستضعف، فكيف لم يتقدم الخليفة المنصوص عليه فيأخذ الامر من هذا الذي قد قهر و حصر.
__________________________________________________
(1) في الاصل: يقول
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:281
(1/305)
و أعجب من هذا، ان المصريين أتوه رضي اللّه عنه بعد ان مضى عثمان فقالوا: امدد يدك نبايعك، فقال: ليس هذا اليكم، هذا للمهاجرين و الانصار، من أمّره اولئك فكان اميرا. فانظر كم يقول إن هذا امر المسلمين و أنه بالاختيار. ثم ان المصريين انصرفوا عنه، فجاءه المهاجرون و الانصار، فقالوا: امدد يديك نبايعك، فقال لهم: اختاروا غيري تبايعونه و أبايعه، فلأن اكون لكم وزيرا خير من ان اكون اميرا، فدفعهم عن نفسه، فعاودوه فقال لهم: إن عمر كان رجلا مباركا/ و قد جعلها شورى، قالوا: فأنت من الشورى و قد رضيناك، فقال: اختاروا غيري، فدفعهم، فعادوا فقال: قد علمتم اني اسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه امركم، قالوا: قد رضيناك، فدفعهم و مشى الى طلحة و الزبير فعرضها عليهما، و قال: من شاء منكما بايعته، فقالا: لا، الناس بك ارضى، فترددوا اليه و هو يأبى و يقول: اختاروا غيري فيقال انهم اختلفوا اليه بعد مضي عثمان ثمانية ايام، و منهم من يقول [] «1» يوما و هو يقول: اختاروا غيري ابايعه و تبايعونه.
هذا، و قد مات ابو بكر و عمر و عثمان و ما هناك سلطان و لا خليفة، فأين ما ادعيتموه؟ ثم انه لما اتوا و ألحوا عليه فقال بعد الحمد و الثناء و الصلاة:
ايها الناس، ان احق الناس بهذا الامر اقواهم عليه و اتقاهم للّه، و لا يحل بعد إلا برضى المهاجرين و الانصار، فاذا رضوا لم يكن الخيار، فان شغب شاغب استتيب، فان ابي قوتل حتى يفي ء الى امر اللّه.
__________________________________________________
(1) فراغ في الاصل، و القول الصحيح ما ذكره القاضي من ان عثمان رضي اللّه عنه قتل يوم 18 ذي الحجة سنة 35 ه. و ان عليا رضي اللّه عنه بويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة. انظر الطبرى.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:282
(1/306)
فانظر الى هذا البيان و الكشف، و ان الامامة بالاختيار، و انها الى المهاجرين و الانصار، فقالوا نبايعك على كتاب اللّه و سنة رسول اللّه، فإن لم تف فلا بيعة لك، قال: نعم.
ثم خطبهم فقال بعد الحمد و الثناء و الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه و سلم مقدار نعم اللّه على الخلائق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ثم قال: ان اللّه يعلم اني كنت كارها للولاية على امة محمد عليه السلام حتى اجتمع رأيكم على ذلك لأني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: ايما وال ولي الامر بعدي اقيم على حد الصراط، و نشرت الملائكة صحيفته، فان كان عادلا انجاه اللّه بعد له، و ان كان جائرا انتفض به الصراط انتفاضة حتى تتزايل ما بين مفاصله، ثم تتحرق به الصراط فيكون اول ما يتقي به النار انفه و حر وجهه، و لكن/ لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم. اقول ما سمعتم، و استغفر الله لي و لكم.
فانظر الى هذا ففيه اتم كفاية، و انظر الى بيانه ان الامام يجور و يخطى ء و يزل.
و خطبته المشهورة بالعراق التي لا يستطاع دفعها:
ايها الناس، انه لما توفي رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم بايعتم ابا بكر فبايعت و رضيت، ثم بايعتم عمر فبايعت و رضيت، ثم بايعتم عثمان فبايعت و رضيت، حتى إذا مضى عثمان تداككتم عليّ كتداك «1» عرف الصبع، فمددتم يدي فقبضتها و قلت: اختاروا لأنفسكم فأبيتم الا مبايعتي، حتى اذا كثر الجمع و وطى ء الحسبان و شق عطافه، فأبيت الا أن تكون بيعتي ظاهرة مكشوفة على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و في مسجده، فبايعني كلّ، لا أرى منكرا، فلما قلد تمونيها
__________________________________________________
(1) تداككتم: تهالكتم. و في الحاشية كتب: صوابه تهالكتم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:283
(1/307)
نكث ناكثون ممن بايعني و قسط قاسطون، فلم اجد إلا قتال من بغى و محاكمة من اعتدى الى كتاب اللّه؛ و ليس يجب انكار امامة من عقدت له الامامة إلا أن يجور في حكم، او يعطل حدا، او يضعف عن القيام بها؛ فو اللّه ما عطلت لكم حدا، و لا جرت عليكم في حكم، و لا ضعفت عن القيام بالامامة، فأوجبوا لي على انفسكم مثل ما اوجبتموه لمن تقدمني من ابي بكر و عمر و عثمان يرحمهم اللّه.
فانظر كيف يذكرهم ببيعة الخلفاء قبله و رضاه بهم، و يجعلهم إجماعا و حجة على الأمة، و يذكر انه صار إماما ببيعتهم له، و أنهم هم قلدوه إياها، و أنه لا يحل انكار امامة الامام الا ان يجور في حكم او يعطل حدا او يضعف عن القيام بها، و أن هذا جائز على كل امام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو رضي اللّه عنه اعلم بنفسه و بدينه و أفقه في دين اللّه، فينبغي الرجوع الى قوله لا الى قول هؤلاء/. و قد قال في خطبة له بالمدينة و هو يأمر الناس بتفقد افعاله و أحكامه: رحم اللّه رجلا رأى حقا فأعان عليه، و رأى جورا فردّه، و كان عونا بالحق على من خالفه.
و قد قال الحسن ابنه رضي الله عنهما لأهل الكوفة حين استنفرهم الى ابيه: يا ايها الناس، إن امير المؤمنين يقول اني خرجت مخرجي هذا ظالما او مظلوما، و إني اذكر الله رجلا رعى الله حقا إلا نفر، فان كنت مظلوما أعانني، و إن كنت ظالما اخذ مني.
و من مقاماته بالبصرة يوم الجمل بعد انقضاء الحرب فقال: اين مثوى القوم؟ قالوا: صرعى حول الجمل، فقام خطيبا فقال بعد حمد الله و الثناء:
توفي رسول و لم يعهد الينا في الامارة عهدا فنتبع اثره، و لكنا رأيناها من
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:284
تلقاء انفسنا، فان يك صوابا فمن الله، و إن يك خطأ فمنا و من الشيطان.
استخلف ابو بكر و يرحم الله ابا بكر فاستقام و أقام، ثم استخلف عمر و يرحم الله عمر فاستقام و أقام، ثم ضرب الدين بحرانه، يرحم الله من يشاء و يعذب من يشاء.
(1/308)
ثم القول الذي كان يقوله و يعيده و يبديه و يذكر ايام الإلفة و الاستقامة و ما حدث بعد ذلك من الخلاف في آخر ايام عثمان: سبق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و صلى ابو بكر، و ثلّث عمر، ثم خبطتنا فتنة فما شاء اللّه «1»- قوله ما شاء اللّه على طريق الاستغاثة بالله لأن الله يشاء نصرة الحق و لا يشاء الله الباطل- أي اللهم افعل ما تشاء، قد قال الحسن البصري فيما حكاه الله عن احد الرجلين: «وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ» «2» اي ما شاء الله من شكره و حمده و الرجوع اليه.
و لما فرغ امير المؤمنين/ من امر البصرة و بلغه خلاف معاوية و ندب الناس الى حربه، دخل عليه ابن الكوّاء و قيس بن عباد اليشكريّ و هناك اصحابه فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت، تضرب الناس بعضهم ببعض ليتبين الناس أمورهم فتستولي بها عليهم، أمن رأي رأيته حين تفرقت الأمة و اختلفت الدعوة أنك احق الناس بهذا الامر، فإن كان رأيا رأيته أجبناك في رأيك، و إن كان عهدا عهده اليك رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم فأنت الموثوق به و المصدق المأمون على رسول الله فيما حدثت عنه.
__________________________________________________
(1) في الحاشية: قوله ما شاء اللّه على طريق الاستغاثة
(2) الكهف 39
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:285
(1/309)
قالوا: فتشهّد امير المؤمنين و حمد الله و قال: لأنا و الله اول من صدقه فلا اكون اول من كذب عليه، اما ان يكون عندي عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلا و اللّه، و لو كان عهد من رسول اللّه ما تركت أخا تيم ابن مرة «1» و لا ابن الخطاب على منبره و لو لم آحذ الا بيدي هذه، و لكن نبيكم نبي الرحمة لم يقتل قتلا و لم يمت فجأة، مرض ليالي و أياما، يأتيه بلال يؤذن بالصلاة فيقول له: ائت ابا بكر- و هو يرى مكاني- فلما قبض اللّه نبيه عليه السلام نظرنا في امرنا، فإن الصلاة أعظم الاسلام و قوام الدين فرضينا لدنيانا من رضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لديننا، فولينا ابا بكر امورنا، فأقام بين أظهرنا:
الكلمة جامعة و الامر واحد، لا يختلف علينه منا اثنان، و لا يشهد أحد منا الى صاحبه بالشرك و لا يقطع منه البراءة، فكنت و اللّه آخذ اذا اعطاني، و أغزو اذا أغزاني، و اضرب بيدي هذه الحدود بين يديه.
فلما قبض ابو بكر ظن ان عمر اقوانا عليها و أحمل لها منا فولاها عمر، فأقام عمر بين اظهرنا: الكلمة جامعة و الامر واحد، لا/ يختلف عليه منا اثنان و لا يشهد احد منا على صاحبه بالشرك، فكنت و اللّه آخذ اذا اعطاني و أغزو اذا أغزاني، و اضرب هذه الحدود بين يديه.
فلما حضرت عمر الوفاة ظن انه إن يستخلف خليفة فيعمل ذلك الخليفة بخطئه إلا لحقت عمر في قبره، فأخرج منها ولده و اهل بيته و جعلها في ستة رهط من قريش، و كان فينا عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لكم الى ان ادع لكم نصيبي منها على ان اختار للّه و لرسوله و المسلمين، فقلنا: نعم، فأخذنا ميثاقه على ذلك، و اخذ ميثاقنا على ان نسمع و نطيع لمن ولاه امرنا،
__________________________________________________
(1) يقصد أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:286
(1/310)
فضرب بيده على يد عثمان، فنظرت في امري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، و اذا ميثاقي لغيري في عنقي، فأديت الى عثمان حقه، و كنت اضرب بين يديه الحدود.
فلما قتل عثمان رحمه اللّه، نظرت فاذا الخليفتان «1» اللذان اخذاها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالعهد في الصلاة قد هلكا و لا عهد لهما و اذا الخليفة الذي اخذها بمشورة المسلمين قد قتل و خرجت ربقته من عنقي و قتل و لا عهد له.
فلما قتل، بايعني اهل هذين الحرمين: مكة و المدينة، و اهل هذين المصرين البصرة و الكوفة؛ فجاء معاوية يقاتلني مع اهل الشام و كنت احق بالامر منه:
كنت مهاجرا و كان اعرابيا، و كنت سابقا و كان طليقا، و كان لي الصحبة؛ قالوا: صدقت، انت احق من معاوية.
فتأمل هذا الشرح و الكشف و حصّل ما فيه، فلو لم يكن معك غيره لكان فيه اتم كفاية؛ و إنما سألوه هل معه في ذلك عهد من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ألقاه اليه وحده كما سأل عمران/ بن حصين و أبو الأسود الدؤلي عائشة و طلحة و الزبير كل واحد منهم على انفراده، هل معه العهد من رسول الله في مسيره فكلهم قال: لا.
فإن قيل: قد علمنا انه كان يأخذ اذا اعطوه، و يقيم الحدود بين ايديهم، و يعينهم، فمن اين لنا انهم غزوه؟ قلنا: لو لم يكن معنا خبر بأنهم قد غزوه إلا هذا لكفى و أغنى.
و كان رضي الله عنه قد انكر من معاوية تبسطه في زمن عثمان فتنكر له، و أشار عليه بعض اصحابه فقال: انت بقية الناس و لك حق الطاعة،
__________________________________________________
(1) في الاصل: الخليفة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:287
فأقر ابن عامر «1» و معاوية و غيرهما فانهم يبايعون لك الناس، و يهدئون البلاد و يسكنونهم. فقال له: و الله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي و لا وليت هؤلاء و لا مثلهم يولى، و الله لا اداهن في ديني و لا اعطي الدني في امري.
(1/311)
و كان المغيرة هو الذي اشار عليه بهذا، فلما قدم ابن عباس من مكة استشاره امير المؤمنين فقال: ما ترى فقد اشار المغيرة بإقرار معاوية، فقال:
قد نصح لك يا امير المؤمنين فافعل و اقبل، فقال: و اللّه ما اشك ان ذلك خير في عاجل الدنيا لأصحابها، و ما الذي يلزمني من الحق و المعرفة ألا اولي منهم احدا، فإن قبلوا ذلك فخير لهم، و إن ادبروا بذلت لهم السيف، و ما علي إلا الاجتهاد. فقال له ابن عباس: خلنى اولّه ثم انزعه من غير نقصان و لا إثم، فقال: لا افعل، ما كنت متخذ المضلين عضدا، اخاف ان يظلم مسلما او معاهدا فأجده في صحيفتي، لا اوليه ساعة واحدة.
فراجعه ابن عباس فقال: لا يظلم، فقال: لا أشرك في امانتي الا من ارضاه.
فانظر الى هذه المكاشفة بالحق في جميع اموره لتعلم فرية من نسبه الى الخوف من المخلوقين و قولهم انه كان يقي نفسه بدينه. و كان رضي اللّه عنه اذا سئل المداراة و خوّف من/ الخلاف يقول: ابا الموت تخوفونني، فو اللّه ما أبالي سقطت على الموت ام سقط الموت عليّ، و كان يقول: عليّ آنس بالموت من الطفل بثدي امه، و مذ امره اللّه و نهاه ما رأى منكرا قط و لا
__________________________________________________
(1) يقصد عبد اللّه بن عامر بن كريز، عامل عثمان على البصرة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:288
سمعه إلا ردّه و أنكره، و لا رأى معروفا إلا شيده و قوّاه و نصره. و كان ظاهره كباطنه، و سره كعلانيته. و كان لا يخاف الجبابرة الطغاة الذين يخافهم البشر فكيف [يخاف ] «1» ابا بكر و عمر و عثمان، و لا يخاف سلطانهم محق و لو انه عبد او امرأة او ذمي كما تقدم شرح ذلك؟ لتعلم ان معونته لهم و نصرته لسلطانهم و طاعته لهم في حياتهم و تنفيذه وصاياهم بعد موتهم لأنهم أئمة هدى.
(1/312)
و قد كتب رضي اللّه عنه الى معاوية «2»: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه علي امير المؤمنين الى معاوية بن ابي سفيان. اما بعد، فان بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان رضي اللّه عنهم على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار و لا للغائب ان يرد، و إنما الشورى للمهاجرين و الانصار، فاذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك رضى للّه، فان خرج من امرهم ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على ابتغائه غير سبيل المؤمنين و ولاه اللّه ما تولى و أصلاه جهنم و ساءت مصيرا.
فما دخل معاوية فيما دخل فيه المسلمون، فان احب الامر اليّ فيك العافية الا ان تتعرض للبلاء، فان تعرضت قاتلتك و استعنت باللّه عليك، فقد اكثرت في قتلة عثمان يرحمه اللّه. فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم الي احملك و إياهم على الحق و على كتاب اللّه، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن، و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان رضي اللّه عنه. و اعلم يا معاوية انك من الطلقاء
__________________________________________________
(1) اضافة على الاصل يقتضيها السياق
(2) كتب في الحاشية: كتاب علي رضي اللّه عنه الى معاوية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:289
الذين لا يحل لهم الخلافة و لا يعرض فيهم الشورى، و قد/ اتاك و من قبلك جرير بن عبد اللّه «1»، و هو من اهل الايمان و الهجرة فبايع، و لا قوة إلا باللّه.
(1/313)
فانظر هل يحتج الا بالاختيار و بالشورى و بالاجماع و بسنة الخلفاء قبله، فهم عنده حجة و قدوة، و كم يقول و يبين ان الامامة الى المهاجرين و الانصار فمن بايعون و عقدوا له كان اماما؛ فهو يحتج بأن طاعته طاعة الخلفاء قبله، و عند الامامية ان التدين بالاختيار و بالشورى و الاقتداء بأبي بكر و عثمان شرك و كفر، و هم مع هذا يدّعون انهم شيعة لأمير المؤمنين، فهل سمعت بأعجب من هذا.
و انظر مكاشفته بالحق لمعاوية، و قوله في كل انسان ما فيه، و قوله له انك اظهرت الطلب بدم عثمان و ما ذاك قصدك و نيتك، و انما نيتك و قصدك و ضميرك الملك و الدنيا، و لم يكن لك سابقة في الدين تحل لك بها الخلافة، فما تأخذه رضى اللّه عنه لومة لائم و لا يتقي احدا من المخلوقين. و كان يقول:
ايها الناس، انما اهلك من كان قبلكم خبث اعمالهم حين لم ينههم الربانيون و الأحبار فيأمروا بالمعروف و ينهوا عن المنكر، فان ذلك لن يقدم من أجل و لن يؤخر رزقا. و كان يقول: لا خير في قوم لا يرون الامر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضا، و لا خير في قوم يأمن بينهم اهل المعاصي و يعملون بينهم بالكبائر. و كان يقول: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «اقرب الشهداء مني و أفضلهم عندي بعد حمزة و جعفر من قام الى إمام جائر فأمره و نهاه فقتله» «2».
__________________________________________________
(1) هو جرير بن عبد اللّه البجلي المتوفي سنة 51 ه.
(2) انظر شرح الجامع الصغير 1: 64. و قد اورده الحاكم عن جابر بلفظ آخر.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:290
(1/314)
و كم له رضي اللّه عنه مثل هذا الكتاب الى معاوية، يمدح فيه الخلفاء قبله، و يذم معاوية، و كم له من الرسل اليه في هذا المعنى، و ما رضى من إنكار المنكر حتى سافر الى اهله بعد المكاتبة فشافههم به. فسار الى معاوية و نزل بصفين، و أقام نحو الشهرين لا يحارب/ و لا يقاتل، و يقيم الحجة على معاوية، و يبين براءته من دم عثمان و من خذلانه، و انه قد بذل لعثمان النصرة فأباها عثمان و كره القتال، و أراد ان ينصرف القوم عنه راضين بغير قتال، و انه ما ظن و لا ظن عثمان انه يقتل، و ان القوم اغتالوه و تسلقوا عليه و قتلوه ليلا. و يستشهد على ذلك المهاجرين و الانصار، ثم يحلف بعد هذا و يقول: و اللّه ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله و لا رضيت و لا هويت، و يلعن قتلة عثمان و يقول: اللهم العن قتلة عثمان في الليل و النهار و البر و البحر، و يرفع يديه بذلك حتى يبين ما تحت منكبيه.
و قد فعل مثل ذلك بالبصرة، فقال معاوية نحن نصدقه، و لكن في عسكره شناة عثمان و غزاته يسلمهم الينا. الى ان قال اهل الشام تخلّي معاوية على الولاية و هو يسمع لك و يطيع، فقال: لا افعل، و سألوه في ذلك فما أجاب. فأتاه و فد اهل الشام و فيهم رجل يقال له حوشب ذو ظليم له قدر و نباهة، فقام فقال: ألا ترى يا علي ان اللّه قد قسم لك قسما حسنا فخذه بشكر، إن لك قدما في الاسلام و سابقة و قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و صهرا و تجربة و سنا، فإن تتلف بيننا غدا فإنه لبوار العرب وضيعة الحرمات، و لكن انصرف راشدا و خلّ بيننا و بين شامنا و احقن دماءنا و دماء اصحابك.
فقال له رضى اللّه عنه: إنك لم تأل عن النصيحة بجهدك، و لو علمت ان
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:291
(1/315)
ذلك يسعني في ديني أجبتك و لكان اهون عليّ من المؤونة، و لكن اللّه لم يرض لأهل القرآن ان يعمل بمعاصي اللّه في اكناف الارض و هم سكوت لا يأمرون بمعروف و لا ينهون عن منكر، و اعلم يا حوشب اني قد ضربت الامر ظهره و بطنه و أنفه و عينه، حتى لقد منعني من نوم/ الليل، فما وجدته يسعني إلا قتالهم او الكفر بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و سلم، فكان معالجة القتال اهون من معالجة الاغلال، و كانت مؤونات الدنيا اهون علي من النار.
فتأمل ما في هذا القول من الانوار و الحجج الشاهدة ببطلان دعاوي هؤلاء القوم، فانهم زعموا انه مكث خمسا و عشرين سنة مع ابي بكر و عمر و عثمان و قد كفروا و ارتدوا لا ينكر عليهم بل كان اكبر اعوانهم، و هو يقول هذا القول. و كان اصحابه يقولون لأهل الشام- مثل عمار بن ياسر، و قيس ابن سعد، و شريح بن هانى ء، و عديّ بن حاتم، و صعصعة بن صوحان، و الأشتر-: ان عليا اذا ظهر سار فيكم سيرة ابي بكر و عمر، و ان معاوية لا يفعل ذلك، انما يريد العاجلة و يطلب الدنيا، و ان صاحبنا كان يتقدم عند ابي بكر و عمر و يرجعان الى رأيه، و قولهم «1» ان صاحبنا من البدريين و المهاجرين و ليس صاحبكم كذلك. فانظر بأي شي ء يمدحونه و بأي شي ء يحتجون له لتعرف بطلان دعاوي هؤلاء القوم، فانهم يقولون: الحجة في إمامته نصّ النبي عليه، و ظهور المعجزات عليه بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و هو رضي اللّه عنه لا يذكرها هو و لا يحتج بها و لا يعرفها، و لا احد من ولده و أهل بيته و شيعته في زمانه.
__________________________________________________
(1) في الاصل: و قوله، و لعل الصواب ما اثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:292
(1/316)
و لما رفع اهل الشام المصاحف و قالوا: بيننا و بينكم ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ردونا اليه فقد رضينا به، و هذا كتاب اللّه؛ فما قال لهم هو و لا اصحابه: فرسول اللّه قد نصّ عليّ و قال من كنت مولاه فعلي مولاه، و هذا نصّ او تأويله النص او معناه النصّ، او آية كذا او حديث كذا، فما احتج عليهم لا هو و لا شيعته الذين قتلوا بين يديه بشي ء مما يذكره هؤلاء.
و لما قال له اصحابه: ضعفت و سكنت في نفسك حتى حكمت الرجال/ في امرك، و أي حاجة كانت بك الى هذا و قد بايعك المهاجرون و الانصار، و ما احوجنا و اياك الى امام مثل عمر يسوسنا و يسوسك، و قد كفرت بما صنعت. فما احتجّ عليهم لا هو و لا من كان يحتج عنه مثل ابن عباس و صعصعة بأني معصوم و لا اخطى ء و لا اعصي، و ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد نص عليّ و قد رأيتم المعجزات او قد بلغتكم، و ما احتج عليهم الا بما قد تقدم لك في كل وقت و كل حال.
و كان يقول و اللّه لتخضبن هذه من هذه و يشير الى لحيته و هامته، فيقول له اصحابه: لو علمنا من ذلك لأبدنا و أبّرنا «1»، فيقول: كيف تقتلونه و لم يقتلني، فيقولون: يا امير المؤمنين اوص و استخلف، فيقول: ما اوصى رسول اللّه فأوصى و لا استخلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فاستخلف، فيراجعونه فيرجع عليهم بمثل ذلك ثم يقول: ان ادع فقد ترك من هو خير مني، و ان أستخلف فقد استخلف من هو خير مني. و لما ضربه ابن ملجم الملعون دخلوا عليه، فقالوا: استخلف، فقال: لا، انا دخلنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقلنا يا رسول اللّه: استخلف فقال: لا، اخاف ان تفرقوا عنه كما تفرقت بنو
__________________________________________________
(1) في القاموس: أبر القوم: اهلكهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:293
(1/317)
اسرائيل عن هرون، و لكن ان يعلم اللّه في قلوبكم خيرا يخر لكم. قال امير المؤمنين فعلم [اللّه و اللّه ] «1» في قلوبنا خيرا فاختار لنا ابا بكر، ثم اقبل على صعصعة بن صوحان و كان في القوم فقال: و لكن يا صعصعة، إن يعلم اللّه في قلوبكم خيرا يخر لكم. فتركوه ثم عاودوه فما فعل، و سألوه أن يشير عليهم بأحد فما فعل، فقالوا له: ان فقدناك يا امير المؤمنين فلا نفقدك ان نبايع الحسن، فقال لا آمركم و لا انهاكم. فعادوا القول فقال كذلك انتم ابصر، و كان آخر عهدهم به، و قبض صلوات اللّه عليه، فلم يقل «2» غير هذا.
فإن قالوا: فانا/ لا نقبل هذه الاخبار، قلنا: لو قلتم انه ما جرى بينه و بين العباس ما قلنا، و لا كان من الانصار في السقيفه ما ذكرنا، و لا كان من ابي بكر و الصحابة في استخلاف عمر ما قلنا، و لا دخل عليّ في الشورى، و لا صلّى خلف صهيب، و لا رجع الى عبد الرحمن، و لا سأل القوم عمر أن يستخلف عليهم و لا قال ان استخلف فقد استخلف من هو خير مني و ان اترك فقد ترك من هو خير مني، بل ما وضع عمر شورى اصلا، و هذا كله كذب، ما كان عندنا في ذلك الا ما عندنا في انكاركم ما كان من امير المؤمنين. و كذا لو قلتم ما كاتب معاوية، و لا رفع معاوية المصاحف، و لا كان من امير المؤمنين و بين اصحابه الذين صاروا خوارج ما ذكرنا، و لكنكم لو سلمتم هذا لبطل مذهبكم، و لو انصفتم لتركتموه و صرتم الى مذاهب امير المؤمنين و هي هذه التي قد ذكرناها، و ما شأنكم إلا انكار «3» ما قد كان و ادعاء ما لم يكن، و ما لو كان له اصل لكان العلم به قد قهر.
__________________________________________________
(1) كذا في الاصل، و لعلها: اللّه ان
(2) في الاصل: يقول
(3) في الاصل: الانكار
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:294
و في اقل قليل مما كتبت دليل على بطلان دعاويهم، و انما ذكرنا لك هذا في هذا الموضع لأنك طلبته و ذكرت حاجتك اليه.
(1/318)
و كثيرا تسأل الامامية عما كان من عثمان في تولية اقاربه و غير ذلك، و في سير طلحة و الزبير و عائشة الى البصرة، و ما ذاك الا لضعفهم و انقطاعهم لأن عثمان لو لم يول اقاربه و لم يصنع ما صنع لكان كافرا مشركا عندهم بادعائه الامامة لنفسه و لأبي بكر و عمر، و لو كان طلحة و الزبير و عائشة في عسكر امير المؤمنين و في المحاربين معه ما كانوا إلا مشركين باعتقادهم امامة ابي بكر و عمر و عثمان، فكلام الامامية/ في هذا الكلام مسلم لو كلم اليهود في وجوب النية في الطهارة، او كلم النصارى في استحلالهم الخمر، و انما يكلم في هذا من قال: لا ذنب لعثمان إلا ما اتاه من الحمى و تولية الاقارب و لو لا ذلك لكان مثل عمر، و من قال: لا ذنب لطلحة و الزبير و عائشة إلا مسيرهم الى البصرة و لو لا ذلك لكانوا مثل ابي عبيدة و عبد الرحمن و ابن مسعود.
فاعرف هذا و لا تكلمهم فيه البتة، و كلمهم فيما يدعونه من النص فهو الاصل. و اما طلحة و الزبير و عائشة فانهم انما سلموا علينا لأنهم سلموا على امير المؤمنين، و توليناهم و زكيناهم لأنه زكاهم و تولاهم و مدحهم و ترحم عليهم بعد كان منهم بالبصرة و بعد موتهم، فلو عاديناهم لكنا قد خالفناه و سرنا بغير سيرته و سلكنا غير سبيله، و نحن لا نرى خلافه، بل هو إمامنا و سيدنا و القدوة عندنا، و هو الذي ظاهره كباطنه و سريرته كعلانيته.
و هذا كلام مع الخوارج فيقال لهم: علي بن ابي طالب إمام هدي، و انما برئتم منه و ادعيتم انه كفر بالتحكم و قبل ذلك كان مرضيا، و قد زكى هؤلاء قبل التحكيم، و قد وجب عليكم الاقتداء به. فإن قالوا: و متى كان
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:295
هذا منه؟ قلنا: قد كان يتصفح القتلى بعد انقضاء الحرب، فمر بطلحة و هو صريع فنزل اليه و اخذ رأسه في حجره و مسح التراب عنه و قال: يرحمك اللّه يا ابا محمد، يعزّ عليّ ان اراك قتيلا تحت نجوم السماء و في اودية الارض، ثم انشد:
(1/319)
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه اذا ما هو استغنى و يبعده الفقر
و امر بجمع القتلى و صلى عليهم و امر بدفنهم، و دخل عليه ولد طلحة فأدناه و قربه/ و قال له: يا ابن اخي، خذ كتابي الى قرظة بن كعب الانصاري ليرد عليكم اموالكم و ما اخذ منها، فما امرته بإدخال يده فيها، انما اردت قبضها لئلا تمتد اليها ايدي السفهاء و ليحفظها عليكم، اتبسط يا ابن اخي في الحاجة تكون لكم فاني ارجو ان اكون انا و طلحة و الزبير من الذين قال اللّه: «وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» «1».
و لما قيل له رضي اللّه عنه: قاتل الزبير بالباب يستأذن، انزعج هو و أولاده حزنا عليه و إنكارا لقتله، و صار عندهم مأتم و مصيبة عظيمة، و قال: كيف قتله و ليس من اقرانه؟ قالوا اعتاله و معه سيفه، فقال:
خذوا السيف منه و بشروه بالنار، فأخذ السيف منه؛ فما زال امير المؤمنين يقلب السيف و يقول كم كربة كشفها صاحب هذا السيف عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لم يأذن له في الدخول عليه. ثم دخل عليه بعد ذلك مع الناس فقال: نحن اهل البلاء فلم نجفا؟ قال: من تكون؟ قال: قاتل الزبير،
__________________________________________________
(1) سورة الحجر 46
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:296
قال امير المؤمنين: بفيك الحجر، بفيك الحجر، ليلج قاتل الزبير النار، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: لكل نبي حواريّ، و حواري الزبير. و سمعته يقول: الزبير في الجنة و طلحة في الجنة، فقال ابن جرموز: انما قتلته أبتغي بقتله عند عليّ الزلفة فبشرني بالنار، و ندم على قتله، و صار ينكر ان يكون قتله.
و جهز عائشة بكل ما تحتاج اليه، و شيعها هو و أولاده و قال لأخيها و من خرج معها: بلغوها، و وصّى باكرامها، و كان يقول لها: يا أمّه، و أمّ المؤمنين سائرة، فمن اراد المسير معها ممن قدم بقدومها فليسر، و قال:
(1/320)
ايها الناس، انها امكم و زوجة نبيكم في الدنيا و زوجته في الجنة، و ردها الى سدانة قبر رسول اللّه و الى بيتها، و أعطاها ما كان يعطيها من قبله من الخلفاء.
و لا يحل لامرأة/ زعم هؤلاء انها كافرة، يردها امير المؤمنين الى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم [و تعطى ] «1» ما يعطى امهات المؤمنين، سيما و المدينة في ملكه و سلطانه، و فيها عماله، و ليس به في امرها حاجة الى المداراة و المداهنة بعد مقاتلتها كما كان بزعمهم يفعل مع من تقدم من الخلفاء.
و كم كان يركب اليهاهو و اولاده و ابن عباس و عبد اللّه بن جعفر، و يجلسون اليها و يعظمونها، و قد استغفرت و استغفر لها امير المؤمنين، و قد سمع عمار ابن ياسر رجلا ينال منها و الحرب قائمة فقال له: اسكت مقبوحا منبوحا، و اللّه إنا لنقاتلها و إنا لنعلم انها زوجة نبيكم و معه في الجنة، و لكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أم إياها؛ و شرح إكرامه لها و اكرام اولاده و هم بالبصرة يطول.
__________________________________________________
(1) في الاصل و لا تعطى، و لعل الصواب ما اثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:297
و كانت هي تلعن اصحابه الذين ارتدوا عنه و لعنوه و صاروا خوارج و تبرأ منهم، و تروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم تصويبه و تضليلهم، و تقول: أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبّوهم، و تسميهم كلاب النار، و لما بلغها موته استرجعت و قالت: ذهب و اللّه من لم يسفهه الملك و لا أطغته الدنيا، لتصنع العرب ما شاءت فما بقي بعد ابن ابي طالب من يكفّها و لا يردعها، ثم انشدت:
فألقت عصاها و استقر «1» بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
(1/321)
و كم قد طعنت على معاوية و واجهته بالتخطئة لما ورد المدينة و دخل عليها، حتى اخجلته و هو جبار قد غلب، و كم فعل ذلك به اخوها عبد الرحمن بما يطول شرحه. و لا يرد هذه الأخبار إلا معاند أو من قال انه كان يلعنها كما يلعن معاوية و لم يردّها الى المدينة، و من قال هذا فقد أتى في البهت على ما لا فيه حيلة.
و الإمامية تقول: قد فعل هذا و لكن «2»/ على طريق حسن العشرة و على سبيل التكرم و التفضل، قيل لهم: هو صلّى اللّه عليه و سلم أجل قدرا و أشد ورعا من ان يرد امرأة كافرة او فاسقة الى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يمكنها منه، و يعطيها ما يعطي امهات المؤمنين و يسميها ام المؤمنين، و يشهد لها بما قلنا، و يترحم على كافرين، و يرد الاموال و يشهد لهما بالجنة، هذا لا يحل في دين اللّه و لا يفعله مثله صلّى اللّه عليه و سلم بوجه من الوجوه، و إنما قوله بشّر قاتل ابن صفية بالنار، و قوله: ليلج قاتل الزبير النار على طريق التزكية له كقول
__________________________________________________
(1) في الاصل: استقرت
(2) مكررة في الاصل لانها اول الصفحة و آخرها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:298
رسول الله صلّى اللّه عليه و سلم: «تقتل عمار الفئة الباغية» «1» على طريق التزكية لعمار.
فإن قالوا: لم لم يقتل قاتل الزبير؟ قلنا: لم يكن ذلك له و انما هو لولد الزبير، فان شاؤوا قتلوا و إن شاؤوا عفوا.
و من عجيب الامور ان عبد اللّه بن الزبير قام بعد معاوية و دعا الى نفسه لإمرة المؤمنين، و غلب على الارض بسبع سنين إلا كورة فلسطين، و انبثّ عماله في الامصار، و عمرو»
(1/322)
بن جرموز حيّ بالبصرة فما تعرضوا له، و لقد قرئت جريدة اهل البصرة على مصعب بن الزبير بالبصرة، فقرأ الكاتب عمرو بن جرموز، فقال قائل لمصعب أصلح اللّه الامير و عمرو «3» بن جرموز و قد ساح في الارض و سار في البلاد فقال مصعب: او ظن ابن جرموز اني أقيده بأبي عبد اللّه، ليظهر ابن جرموز آمنا و ليأخذ عطاءنا مسلما فظهر و أخذ و أمن و ترفع «4» ولد الزبير عن قتله و قد كان لهم ذلك، و هو اليهم، فكيف يتعجب عاقل من عفو امير المؤمنين عنه و ليس القود له.
و كان عمرو بن جرموز بعد الذي سمعه من أمير المؤمنين شديد الندم على قتله، كثير الاستغفار، شديد/ الاشفاق، و قد بقي بعد زوال آخر آل الزبير و مصير الملك الى عبد الملك، فكان الحجاج يقول له: انت قتلت الزبير؟- لشدة عداوة الحجاج و بني امية لآل الزبير- فيقول ابن جرموز: ما قتلت احدا، فيقول له الحجاج: و ما عليك في قتله،
__________________________________________________
(1) انظر شرح الجامع الصغير 2: 147. و قد اورده ابو نعيم في الحلية عن ابي قتادة
(2) في الاصل عمير، الا انه ورد في معظم الكتب التاريخية باسم عمرو
(3) في الاصل ابن عمير و ابن زائدة
(4) مطموسة في الاصل، و القراءة اجتهادية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:299
و قتله خير لك من جزاء و تدبير حسنات؛ يشجعه الحجاج لينصرف عن الغم و الندم بما قاله أمير المؤمنين له في دخول النار بقتل الزبير، لتعلم رحمك اللّه شهرة انكار امير المؤمنين على من اعترف بقتل الزبير.
و لكن طال الأمر و قل الطالب المتأمل.
(1/323)
فإن قيل: فكيف سبيل تلك الدماء التي كانت بينهم يوم الجمل؟ قيل له: ان امير المؤمنين رضي اللّه عنه اعلم بذلك وافقه في الدين و أشد في الورع، و لم يكن ليقول في هؤلاء و في غيرهم ما لا يحل و لا يجوز في الدين، فقد كفانا حكمه عن البحث و الطلب، و ان كان العلماء قد ذكروا اتفاق رأي امير المؤمنين و طلحة و الزبير و عائشة على الصلح و وضع الحرب و استقبال النظر في الأمر، و ان من كان في العسكر من اعداء عثمان كرهوا ذلك و خافوا ان تتفرغ الجماعة لهم، و قالوا: لنشغلهم عنا بنفوسهم، فدبروا في القاء الحرب بينهم ما هو مذكور فتم لهم ذلك، و ما بك حاجة هاهنا الى ذكره، و أفعال امير المؤمنين تغنيك، فإن اردته وجدته في كتب العلماء «1».
__________________________________________________
(1) بياض في الاصل حتى نهاية الورقة 140 ثم الورقة 141 فراغ ايضا. و يبدأ بعد ذلك قسم جديد يبتدى ء ب بسم اللّه الرحمن الرحيم، بداية الجزء الثاني من الكتاب.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:301
فهرس الموضوعات «1»
الصفحة الموضوع المقدمة 5 البدء بما في القرآن من إكفار الرسول للامم و البراءة منهم و هو وحيد ضعيف
7 سلامته صلّى اللّه عليه و سلم مع حرصهم على إيذائه
8 وعده و هو في وحدته اته سيكون في جماعات كثيرة
38 استرواح المشركين لأدنى غم يصيب الرسول
40 عرض المشركين على الرسول ان يعبد آلهتهم و يعبدوا إلهه
44 وعد الرسول اصحابه في حال ضعفهم ان اللّه سيضرهم
46 اسراء الرسول من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى
52 ما نزل بمكة في رجال بأعيانهم انهم يصرون على شركهم الى ان يموتوا
55 ما كان بمكة من انشقاق القمر
59 ما كان بمكة من غلبة الفرس على ارض الجزيرة ادنى ارض الروم
64 من اعلامه صلّى اللّه عليه و سلم انقضاض الكواكب بمكة
80 دعوة رسول اللّه على مضر و إمساك القطر عنهم
83 ما كان بمكة حين بكى الرسول عليهم قوله تعالى: اقتربت الساعة
(1/324)
84 ما نزل بمكة من قوله تعالى «فاستمسك الذي اوحى اليك ...»
85 من اعلامه قوله عز و جل «قل لئن اجتمعت الانس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن»
__________________________________________________
(1) اكتفينا هنا بفهرس الموضوعات، و أجلنا باقي الفهارس الى نهاية الجزء الثاني.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:302
الصفحة الموضوع 91 من اعلامه اخباره عن النصرانية و مذاهبها
108 ما اشار إليه من اختلاف النصارى حول المسيح عليه السلام
121 ما جاء به الرسول حول الزعم بصلب المسيح، و اختلاف النصارى حول الاناجيل، و تأثر المجتمعات النصرانية بعقائد الروم و اخلاقهم
235 اكفار الرسول صلّى اللّه عليه و سلم للعرب و سائر الامم الاخرى و اسخاطها و كيف عصمه اللّه من اذاهم
245 الاخوة و المودة التي كانت قائمة بين الصحابة
252 افعال رسول اللّه و أقواله تشهد بأنه ما عهد لرجل بعينه
255 كيف خاض الصحابة في امر الامارة و لم يذكروا انه نص على أحد بعينه
261 كيف فكر الانصار بالامارة ثم عدلوا عن ذلك بعد تبين الحق
263 رفض علي ما عرض عليه من المبايعة بالامارة بعد وفاة الرسول
273 طلب ابي بكر من المسلمين اقالته و رفضهم ذلك
273 تمنى ابي بكر ان لا يكون قد ولي إمرة المسلمين
280 كيف رد المسلمون الأمر الى عبد الرحمن بن عوف
تثبيت دلائل النبوة ،ج 1،ص:303
خطأ و صواب
الصفحة السطر خطأ صواب 17/ 18/ مارد/ مادة
30/ 10/ القعقاع/ القينقاع
35/ 19/ كونين/ كونان
38/ 7/ فسينفضون/ فسينغضون
51/ 21/ الدافع/ الدامغ
72/ 20/ للعرب على العجم/ للعجم على العرب
103/ 13/ الات/ الآب
137/ 12/ المسح/ المسيح
145/ 12/ و إذ أمرك/ و «إذ آمرك»
157/ 19/ الشاؤول/ لشاؤول
158/ 22/ الملوك/ الملك
177/ 4/ و البعير/ و البصير
188/ 1/ و قألوا/ و قالوا
229/ 2/ فعلنا/ نعلنا
234/ 15/ وردت/ ورد
241/ 3 و 21/ القرآن/ القران
254/ 18/ بالبحر/ بالبحرين
(1/325)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:311
الجزء الثّاني
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:313
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
باب من ذكر اعلام النبوة و دلائل الرسالة
و هو أنه كان صلى اللّه عليه و سلم يتوعد قريشا و هو بمكة بنصر اللّه له و ظهوره عليهم، فيقولون: أيظن محمد أنه يغلبنا على مكه بأتباعه الفقراء و العبيد و نحن الأقوياء الأغنياء و الناس كلهم معنا و الرغبة عندنا لا عنده و البأس و النجدة لنا لا له، فتلا عليهم سورة القمر و ما أنزل اللّه بأمة أمة من الأمم التي يعرفونها إلى أن قال: «أكفار كم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر، أم يقولون نحن جميع منتصر، سيهزم الجمع و يولون الدبر» «1».
فهزمت جموعهم، و كانت العقبى له كما أخبر و فصل، و قد كان في ظاهر الرأي و الحزم و موجب التدبير أن تكون العقبى لهم لا له، و هم الغالبون لا هو، لأنهم و اليهود و النصارى و تلك القبائل يد واحدة عليه و في العداوة له، و الكثرة و الثروة و البأس و النجدة و الكراع و السلاح معهم لا معه، فلن يغلبهم إلا أن يكون من قبل اللّه و رسولا للّه كما أخبر.
__________________________________________________
(1) القمر 43
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:314
و باب آخر [ما أشار اليه الرسول و هو في حال ضعفه من أن دينه سيغلب على الأديان كلها و يقهر الملوك جميعا.]
و هو أنه صلى اللّه عليه و سلم قال حين دعا إلى اللّه و في حال وحدته و ضعفه:
إن اللّه أرسلني و وعدني أن يظهر ديني على الأديان كلها، فيكون سلطاني أقهر من سلطان كسرى و قيصر، فأغلب الملوك، و يعلو ملكي و ملك أنصاري و أتباعي كل ملك في الأرض. ثم ما رضي بهذا القول حتى جعله كتابا يقرأ و قرآنا مخلدا يتلى، يعرفه العدو و الوليّ فقال: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ/ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» «1» و قال أيضا:
«
(1/326)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» «2» فكان كما قال و كما أخبر، فلم يرض أن أظهر دينه بالحجة حتى جعل أهله العالين بالقدرة و الظاهرين بالمنعة و القاهرين الملوك و الجبابرة بالعز و الملكة. ثم ما رضي حتى أورده على وجه يغيظ و يغضب و يبعث على الممانعة و الدفع و المغالبة، و على وجه يجعل العدوّ على أهبة، بخلاف تدبير حزمة الملوك و دهاة الجبابرة. فأخبر بهذا و ديانات العرب قائمة و ملوكهم على جزيرة العرب كلها مستولية، و هي جزيرة عظيمة فيها عدة ملوك، كل واحد منهم عظيم الشأن، ثم ديانات اليهود و ملوكهم، و ديانات النصارى و الروم و ملوكهم بالشام و مصر و المغرب و الجزيرة و أرمينية، إلى غير ذلك، و ديانات الفرس و ممالكها، و هي كانت أعظم ممالك الأرض و أوسعها ملكا و أشدها بأسا، و ممالك الهند. فغلب ملوك العرب في جزيرتها، و غلب ملوك اليهود و ممالك الفرس كلها، و ممالك النصرانية و الروم، فلم يبق ملك بحيث تناله الحوافر
__________________________________________________
(1) الفتح 28
(2) التوبة 32
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:315
(1/327)
و الأخفاق و الاقدام إلا أزاله عنه و أخرجه منه، و أسنده إلى عقاب يعتصم بها، و معاقل يأوى اليها، و قلاع و مطامير و خلجان و بحار يمتنعون بها. ثم ركب البحار إليهم، فأخرج الروم من الشام و مصر و أرض المغرب و لعلها مسيرة سنين، و هي اليوم في أيدي عدة ملوك، و غلب على أرمينية، و صار ملوكها يؤدون الجزية، و سار الاسلام حتى نزل على القسطنطينية و هي محصّنة/ ممنّعة بالبحار و الخلجان و الجبال و الأسوار، فمذ غزاهم خلفاؤه و أصحابه كانوا في ذلة و في شعاب و رؤوس مضايق قد سخت نفوسهم عن عيون ممالكهم و استسلموا، و كانوا كأعراب يطلبون النجعة أو كلصوص يطلبون الغرّة و يطرقون النيام، أو كصعاليك ينتظرون الفتنة بين المسلمين فينتهزون الفرصة، فأما أن يكون ملك يظهر لهم و يقيم بإزائهم و يعاديهم الحرب و يناوئهم كما كان ذلك بين ملوك الفرس و الروم و ملوك الترك و الهند فلا.
فما ضربت ملوك الروم و تدا في بلادها فضلا عن بلاد المسلمين منذ غزاهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى سني نيف و خمسين و ثلثمائة للهجرة في زمن الديلم، و السلطان بالشام إذ ذاك سيف الدولة على بن حمدان، و هو معروف الديانة و الطوية للاسلام و الغزاة و أهل السيرة و العنف بالرعية، و مما كان يلجئهم بالجور الى الهرب إلى الروم، و شرح ذلك يطول.
و كانت الروم تقول قد كفانا بأس المسلمين و شغلهم عنا و ألجأهم إلينا، و هو ملكنا الأكبر و دمستقنا الأعظم «1».
فأما ممالك السند و الهند و أصحاب الفيلة و البأس و العز و في البر و البحر، فأخذ من ممالكهم في البر و ركب إليهم في البحر مما يطول شرحه، فحازه
__________________________________________________
(1) الدمستق هو لفظ استعمله العرب مرادفا لكلمة ruenrevuog- أي حاكم- في اللغات الأجنبية.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:316
(1/328)
و صار من بلدان الاسلام كمولتان و المنصورة و غيرها من المدن و الأمصار البحرية ما هو معروف، و شرحه يطول، و من طلبه و جده. فقد اعتبر العلماء و أهل التحصيل فما وجدوا أحدا جاء مجي ء نبينا محمد صلّى اللّه عليه و سلم في الوحدة و الفقر و الفاقة و منافرة/ الأمم كلها و معاداتها، حتى ما اعتصم بمخلوق و لا صوب ملكا و لا جبارا كان في زمانه كما تقدم شرح ذلك، ثم صار أمره في القهر و الغلبة ما صار أمره إليه. فإن ظاهر الأمر و موجب التدبير و العقل أن ذلك لا يتم و لا يكون، و أنه هو المغلوب المقهور المقتول إلا أن يكون من قبل اللّه الذي لا يغلبه شي ء. فإن أمره صلّى اللّه عليه و سلم كان كريشة دفعت الجبال فسيرتها و طيرتها، أو كزجاجة وضعت على الجبال فطحشتها و سوتها بالأرض. فتأمل هذه الآية العظيمة، و كل آياته عظام.
و ما قلنا إنه نبىّ لأن دعوته قامت و دولته اتسعت، و لكن لما قدمنا و شرحنا من وحدته و فقره و تبرئه من الأمم و إكفارهم و إسخاطهم كما قد فسرنا غير مرة، و مجي ء ذلك كما قال و أخبر من أنه مع هذه الحالات سيظهره اللّه عز و جل، و قد علم ذلك من سمع أخباره و دعوته باضطرار، أنه أخبر بذلك جميعه في أول أمره قبل أن يكون شي ء «1» منه و أن الأمر كان كما أخبر.
و معروف من سيرته أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان يعرض نفسه على القبائل و في المواسم ليتبعوه، و يشرط عليهم في دعوته عداوة الأمم كلها و محاربة الملوك، فيقال له:
إن الكسور من ملوك الفرس لا ترضى بهذا و لا تصبر عليه و لا نحن من رجال معاداتهم و معاداة غيرهم من الملوك، فيقول: أرأيتم إن منحكم اللّه ملكهم و أفرشكم نساءه أتطيعونه و تعبدونه؟ فيتعجبون من هذا القول، و يقول
__________________________________________________
(1) في الاصل: شيئا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:317
(1/329)
بعضهم لبعض: ما هذا إلا مجنون واحد وحده لا يغلب على دار بمكة و قد ناصبه قومه و هو/ يقول هذا، و يقول بعضهم ما هو إلا عاقل، فإن كان رسولا للّه كما قال فسيكون ذلك، فيقال: بمن يكون هذا، و أين خزائن الملوك و عساكرها و غضبها لملكها و أنفتها و كبرياؤها و نخوتها حتى يترك هذا يغلبها، و لهذا قال اللّه تعالى: «وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» «1».
و لشهرة هذا القول منه قبل أن يتلو به القرآن، أنه عليه السلام لما توفي و ارتدت العرب، جال أهل مكة جولة، و همّوا بالردة، فاستخفى عتّاب بن أسيد عامل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على مكة «2»، فقام سهيل بن عمرو فيهم خطيبا و نهاهم عن ذلك، فقالوا: محمد قد مات و الناس قد رجعوا عن دينه، فقال لهم سهيل: إن يكن محمد قد مات فإن اللّه لم يمت. و قد علمتم أني أكثركم قتبا في برّ و جارية في بحر، فأقروا أميركم، و أنا ضامن إن لم يتم هذا الأمر أن أردّها عليكم جذعة و إن كنت أعلم أن هذا الدين سيمتد من طلوع الشمس إلى غروبها. قالوا و من أين علمت، قال: إني رأيت رجلا واحدا وحيدا لا مال له و لا عزّ، قام في ظلّ هذا البيت فقال: اني رسول اللّه، و إني سأظهر، فكنا بين ضاحك و هازل و راجم و مستجهل، فما زال أمره ينمى و يصعد حتى دنّا له طوعا و كرها، و اللّه لو كان من عند غير اللّه لكان كالكسرة في يدي أي فتى من فتيان قريش، و إن هذا، و أشار إلى أبي سفيان، ليعلم من هذا الأمر مثل ما أعلم، و لكن قد ختم على قلبه حسد بني عبد المطلب.
و سهيل بن عمرو هو أحد رجال قريش و عقلائها و خطبائها و ذو الرأي
__________________________________________________
(1) القصص 57
(
(1/330)
2) هو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، من أشراف العرب في صدر الإسلام، أسلم يوم فتح مكة و استعمله النبي عليها عند خروجه إلى حنين سنة 8 ه. و بقي واليا عليها إلى في خلافه عمر، توفي سنة 13 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:318
منها، و هو صاحب القضية يوم الحديبية، و له تلك الناظرة و المجادلة، و كان أحد أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المجردين في ذلك، و كان إذا تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم القرآن بمكة يقوم خطيبا و كأنّ كلامه يخرج من/ صدع صخرة، فينثال الناس عليه. و هو القائل و هو على باب عمر مع وجوه قريش و سادات العرب و قد حجبوا، فخرج آذن عمر فيقول: أين بلال؟ أين عمار؟ أين صهيب؟
فينهض هؤلاء الموالي مكرمين و يحجب أولئك، فرآهم سهيل و قد تمعّرت وجوههم «1» فقال لهم: مالكم تتمعر وجوهكم، هؤلاء قوم دعوا و دعينا، فأسرعوا و أبطأنا، و لئن غبطتهم اليوم بباب عمر، لما أعدّ اللّه لهم غدا في الجنة أفضل.
(1/331)
و لما أبى أبو بكر الصديق قبول الصلاة و الجهاد ممن منع الزكاة. قال له أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: يا خليفة رسول اللّه، من نقاتل و من ندع. لا طاقة لنا بحرب العرب كلها، اقبل من هؤلاء الصلاة ودع الزكاة فلعلهم إذا رغبوا في الصلاة أن يرغبوا في الزكاة. حتى إذا فرغوا من قولهم تكلم أبو بكر فقال: الحمد للّه الذي هدى فكفى، و خلق فسوّى، و أغنى و أفنى، إن اللّه جل ثناؤه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و سلم و الاسلام غريب شريد قد رث حبله و ولىّ أهله، و مقت اللّه أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا و لا يصرف عنهم سوآ حين غيّروا أو حرفوا، و العرب الأميّون صفر من اللّه، أضلهم دينا و أشدهم عيشا، فجمعهم اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و سلم، فنصرهم من أنفسهم، و وعدهم بالنصر على عدوهم. فلما توفي اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و سلم، ركب الشيطان مركبه الذي كان أنزله عنه فأخذ بحبل رقهم «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ،
__________________________________________________
(1) جاء في اللسان: غضب فلان فتمعر لونه و وجهه: تغير و علته صفرة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:319
(1/332)
أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «1» و قد ارتدّ من حولكم و منعوا شاتهم و بعيرهم، و لم يكونوا في دينهم أزهد منهم يومهم هذا، و لم تكونوا في دينكم أرغب من يومكم هذا،/ و اللّه لا نبرح نقاتل على أمر اللّه جل و عزّ حتى ينجز اللّه لنا وعده و يفي لنا بعهده، فيقتل من قتل منا شهيدا من أهل الجنة، و يبقى من بقي منا خليفة ربّه في أهله، مطيعين متوكلين، قضاء لا خلف له «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2»» و قال اللّه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» «3». و اللّه لينجزنّ اللّه لنا ما وعدنا في كتابه، و ليظهرنّ ديننا على جميع الأديان، و ليمكننّ لنا في الأرض كما وعدنا في كتابه، و هو اليقين الذي لا خلف له.
و قد كانت ردة العرب بعد وفاته عليه السلام بألوان الردة: منهم من ادّعى النبوة، و منهم من كانت ردته بتعطيل الشريعة كلها، و منهم من كانت ردته بمنع الزكاة على أن يقيم الصلاة و يجاهد مع المسلمين، فإن لم يقبل منهم ذلك صاروا مع العدو على المسلمين، و أغاروا على المدينة، و زحفوا حتى شارفوا المدينة، و خافهم المسلمون، فسألوا أبا بكر أن يقبل ذلك منهم مدة إلى أن ينكشف ما بالمسلمين، فأبى، فقيل له ما نراك تنحاش لما قد بلغ
(1/333)
__________________________________________________
(1) آل عمران 144
(2) النور 55
(3) الفتح 28
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:320
من الناس و لما يتوقع من إغارة العدو. فقال أبو بكر ما دخلني إشفاق من شرّ و لا دخلني في الدين وحشة إلى أحد منذ ليلة الغار، فإن رسول اللّه حين رأى إشفاقي عليه و على الدين قال: هون عليك أبا بكر، «1» فإن اللّه قد قضى لهذا الأمر بالنصر و التمام. فقبلوا منه و رجعوا الى قوله، و قاتلوا العرب كلها فغلبوهم/ و قهروهم مع قلة المسلمين و كثرتهم، لتعلم معرفتهم بما أخبرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الظهور و ثقتهم بذلك.
فلما فرغ أبو بكر من العرب أرسل إلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على فارس و الروم أن اللّه قد وعدكم الفتح، و أن يظهر دينه على كل دين، و أن يستخلفكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم، و اللّه متم أمره، و مصدق رسوله، و لكن أخوف ما أخاف علينا أن يصرف اللّه ذلك إلى غيرنا لتقصير يكون منّا، فجدّوا و بادروا لتحوزوا ثوابها. ثم قال لهم: إن بلادهم خرسة يعني خراسان، فقد سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يذكرها و يخبر أنكم ستفتحونها.
فذكرها و هي أقصى ممالك فارس و أوسعها بلادا و أكثرها رجالا و أشدها بأسا. و لما صار النعمان بن مقرن مع النفر الذين معه من المسلمين إلى يزدجرد ابن شهريار ملك فارس برسالة عمر بن الخطاب يدعونه الى الاسلام و أداء الجزية أو القتال، فقال لهم يزدجرد: لا أعرف أمة أقلّ و لا أشقى منكم.
ثم ذكر من ذلّة العرب و سوء حالها ما يطول، ثم قال: تقولون لفارس، و ملكها أعزّ ملوك الأرض، و ملوك الأرض كلها تخضع لها: تعطوننا الجزية، يا كلاب، لو لا أنكم رسل لقتلتكم، سأتقدم إلى رستم، يعني صاحب
__________________________________________________
(1) في الأصل: أهون عليك
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:321
(1/334)
جيشه، بأن يدفنكم و أميركم، يعني سعد بن أبي وقاص، و كان نازلا بالعذيب يريد ملك فارس، بأن يدفنكم في خندق القادسية، ثم أرسل إلى بلادكم فاستأصلكم و أصنع بكم أشد مما صنعه سابور بكم. و أخذ يتعجب من ضعف أجسامهم و رثاثة سلاحهم و كسوتهم.
فقالوا له: إنا قد فهمنا ما ذكرت أيها الملك من القلة و استطالة الملوك علينا/ و لكن اللّه بعث فينا رجلا منا يدعونا إلى اللّه، و وصفوا له الاسلام و حال النبي صلّى اللّه عليه و سلم و وحدته و فقره، و أنه وعد أن يغلبنا و يغلب الأمم، فعجبنا من قوله، و تلقيناه بالجهل و الرد و التكذيب، فلم تزل مواعيده تصدق، فما أخلف في شي ء قاله. و قد وعدنا ممالككم و أرضكم و دياركم، و لن يخلف قوله. فأجيبوا إلى دينه فإنه دين يحسن فيه الحسن و يقبح فيه القبيح، نخلف فيكم كتاب اللّه فتجاهدون من يليكم فتفوزون، و إلا فالجزية نقبلها منكم عن يد و أنتم صاغرون، فإنكم إن تقاتلوا ينصرنا اللّه عليكم. فقال: ما تريدون بقولكم عن يد؟ قالوا عن يد منّا عليك في قبولها منك، فازداد غيظه و قال: قوموا يا كلاب عني، و جرى لهم معه ما يطول، و إنما أردنا ذكر ثقتهم بهذا الوعد.
و لما سار رستم بجيوشه إلى سعد بن أبي وقاص و هو في المسلمين، أرسل رستم طلائعه و قال لهم: بادروا، و من وقع بأيديكم من العرب فأسرعوا به إليّ. فجاؤا برجل من المسلمين، فقال رستم للترجمان: قل له ما جاء بكم إلى بلادنا؟ فقال المسلم: لنأخذ موعود اللّه، فقال رستم: و ما هو؟ قال المسلم: أنفسكم و أموالكم و دياركم، فقال رستم الملك له: يا كلاب، كأنا قد وضعنا في أيديكم، فقال له العربي: أعمالكم وضعتكم في أيدينا، انك لست تحاول البشر و إنما نحاول القدر، فقال له رستم: أما أنت فتقتل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:322
الساعة، فقال له المسلم: أنا أقتل فأصير إلى الجنة، و من بقي من المسلمين يظهر عليكم.
(1/335)
و لما نزل الملك رستم القادسية، أرسل إلى سعد أن أرسل إليّ من يبلغني عنك و يبلغك عني، فأرسل إليه رجلا واحدا، فجلس له على سريره، و أحدق به جنوده و هو في عشرين و مائة ألف/ في خيول و فيلة و شدة و بأس. فقال رستم للمسلم: قل لي ما جئتم تطلبون- و ظن رستم أن المسلمين سيرهبون لما يرون من جنوده- فقال له المسلم: إنك لا تسمع مني أو تنزل إليّ أو أصعد إليك، فهاله ذلك منه و هو رجل واحد، فلما صار معه وصف له الإسلام و رغبه فيه، فقال له رستم: مثلكم معشر العرب مع فارس مثل رجل كان له كرم فدخلته الثعالب فتغافل عنها فطمعت فيه، فسدّ عليها المثاغب ثم قتلها عن آخرها، «1» و كذا يكون أمركم معنا، و ذكر من كان يولونه على العرب و غلبتهم لهم، ثم قال: هاتوا يا أشقياء جمالكم هذه نوقرها لكم تمرا و برّا و نكسوكم فإنكم عراة و ترجعون، فهو خير لكم، فإنه لا طاقة لكم بالملوك، و خاصة ملك فارس. فقال له المسلم مثل قول أصحابه من حال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كيف كان ابتداؤها و ما وعد به، فانصرف.
ثم عاود رستم سعدا فيمن يرسله إليه، فأرسل إليه رجلا واحدا، و كان رث الهيئة و اللبسة و السلاح، فسأله رستم عما جئتم له، فوصف له مثل ما وصف أصحابه، و قال مثل ما قالوا، فسأله رستم عن الاسلام، فوصف أصوله و حدوده- و الترجمان يترجم عنه- فأقبل رستم على من حوله من الملوك و القواد و الوزراء و الأساورة، فقال: ألا ترون إلى حسن ما يصف من هذا الدين، و إلى هؤلاء كيف لا يختلف قولهم مع كثرتهم، فقالوا له: نعيذك باللّه
__________________________________________________
(1) الثغب هو الأخدود تحتفره المسايل من عل، فإذا أنحطت حفرت أمثال القبور و الدبار.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:323
(1/336)
أيها الملك أن تستحسن دين هؤلاء، أما ترى عريهم و وسخهم و رثاثة سلاحهم و لباسهم، فقال لهم رستم: أنتم قوم عنيتم بالملابس و الماكل و المشارب و عنوا بالأحساب، انظروا إلى عقولهم و بصائرهم و صبرهم. و جرى له معهم أكثر مما جرى لهم مع الملك الكبير يزدجرد مما يطول/ شرحه.
و هم يذكرون هذا الوعد مع كثرتهم، و لا يختلف قولهم، و كانت الملوك تمتحنهم بمثل هذا لينظروا هل يختلف قولهم، و هل هناك زلة أو هفوة لصاحبهم فتظهر من بعضهم على طول المدة، أو تميل بهم الرغبة إلى عاجل الدنيا مع تعجل السلامة، و هل يهو لهم ما يرون من العتاد و العدة و ما يسمعونه من التهديد بالقتل، فما وجدوا عندهم شيئا من ذلك، و كانت قرة أعينهم بما آتاهم اللّه من البصيرة في دينهم، كما قد قال سليمان عليه السلام: «فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» «1».
و لقد كتب أمير المؤمنين عمر إلى سعد: سرت في العرب و نزلت على الفرس، ما تنتظر؟ ناجز القوم. فكتب إليه سعد يذكر له عدد فارس و بأسها و شدتها و عتادها و عدتها، و ضعف من معه و قلتهم و رثاثة سلاحهم، فكتب إليه عمر: بهذا وعدنا، قال اللّه: «سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ» «2» فاشكر اللّه يا سعد أن سمعته بأذنك، و رأيته بعينك، و باشرته بيدك.
و كم كان للمسلمين مثل ذلك مع ملوك الروم بحمص و دمشق و أنطاكية و مصر و غيرها، و ما كانت الرسل تقوله لهم عند المجادلة أن نبينا قد وعدنا بظهور دينه على الأديان، و أنه قد أخبرنا و أنذرنا و بشرنا بأمور كثيرة فما
__________________________________________________
(1) النمل 36
(2) الفتح 16
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:324
(1/337)
أخلفنا في شي ء قط، و ما جرى لهم معهم يطول شرحه، و هو مذكور في مواضعه، و إنما ذكرنا هذا القول لأن من قطعته هذه الآيات فتحيرّ فلم يجد متعلقا فأخذ يقول فيها عند صحتها: هذه المواعيد لم تكن في أول الأمر، و إنما يقال هذا فيمن أخلف مواعيده و ظهر كذبه في شي ء بعد شي ء، فأما من مكث ثلاثين سنة يخبر بما في هذا القرآن، ثم ينحو مثله من الأخبار، فلم يخلف في شي ء منه، كيف يقال/ فيه «1» مثل هذا، و لو كان قد قال هذا القول قبل موته بساعة لما خرج من أن يكون آية و دلالة على نبوته و أنه شي ء قد انتقضت العادة به، فإنه صلّى اللّه عليه و سلم ما خلف بيوت الأموال و لا مروج الكراع و لا خزائن السلاح، بل مات فقيرا، و مرض و عنده سبعة دنانير، فقال: ما كان يقول محمد لربه لو لقيه و هذه عنده، فقسمها و تصدق بها.
و قد حمى نفسه و نساءه و أهله و ولده عن الدنيا كما هو معروف، و ما خلف في أصحابه و عليهم إلا البصائر فقط، و قد ارتدت العرب بعده إلا و مسجدين: مكة و المدينة، فنهض أصحابه بالأمر و ليس معهم إلا التقوى و البصائر، و إنما يقول مثل هذا من لا يعرف الفرس و الروم و قديمها و شدة بأسها و حزمها و ضبطها و يسرها و كثرة جنودها و تقادم الملك فيها و ضنّها بملكها. و حال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سيرته و ما خلفه، و كيف كانت حال العرب في المهانة الضعف و القلة عند ملوك الفرس و الروم و الهند و غيرهم، و شرح ذلك يطول.
فما غلبت العرب إلا بالتقوى و لا عزت إلا بالاسلام. و لقد كانت الفرس تنفذ إلى جزيرة العرب فيما يكرهونه بالرجل الواحد و بالنفر اليسير. و كذا الروم فينفذ أمرهم، و لهذا مزق كسرى أبرويز كتاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و وجّه باثنين في إشخاصه إليه. فأما عند الحرب فما كانوا ينفذون إلى الجمع الكبير من العرب إلا بالنفر اليسير، و لقد عجبت العجم و العرب من انكسار السريّة
(1/338)
__________________________________________________
(1) في الأصل: في
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:325
الذين أنفذهم كسرى بسبب النعمان بن المنذر يوم ذي قار، حتى قال النبي صلّى اللّه عليه و سلم «هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، و بي نصروا».
ثم عاد الأمر الى خلاف ذلك، فكان النفر من أصحاب/ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يلقون الجمع الكثير فينصرون عليهم، حتى كان الرجل وحده يسير إلى بلد من بلدانهم فيأخذه مع رثاثة سلاحهم و قلة عتادهم و عدتهم، و لقد قال أبو أمامة الباهلي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في زمن بني أمية و قد رأى لهم رايات و تهويلات:
ما تصنعون بهذا ثكلتكم أمهاتكم؟ و اللّه لقد أخذ هذا الملك الذي في أيديكم رجال ما كان لسيوفهم قباع، و اللّه ما كانت مجانّهم الإبرادع جمالهم.
و كان عمر أمير المؤمنين كثيرا [ما] «1» يقوم في الصحابة خطيبا، فيذكر لهم ما كانت فيه العرب من القلة و الذلة و الفقر و الشقاء و شدة العيش و استطالة الأمم عليها، ثم إلى أي شي ء آل أمرها اليه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يقول: إنما أقول هذا لكم لأني سمعت اللّه يقول لموسى: «وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» «2»، و يأمرهم بلزوم طاعة اللّه، فبها غلبوا الأمم و قهروا الملوك، حتى صار ملكهم أعز من كل ملك في الأرض، و دينهم أظهر الأديان و أهيبها و أجلها، و أنهم ما لزموا ذلك لا يزالون ظاهرين قاهرين.
و كانت ملوك الفرس و الروم تعجب من انهزام عساكرها الخشنة المعدة القوية الشديدة من بين أيدي المسلمين، مع قلتهم و ضعفهم و قلة آلتهم و سلاحهم، حتى لقد قال رستم الملك لما عبر العتيق لحرب سعد بالقادسية:
أين عسكر هؤلاء الكلاب، فقيل له: أشخص بصرك إلى هذه الجهة تره، فقال لما أشخص بصره: قال: أرى سوادا فأين هو من السواد، فقيل له:
هو السواد، فعجب و قال: و هذا هو كله، قالوا: نعم، قال: و قد بذلنا
(1/339)
__________________________________________________
(1) زيادة مني اقتضاها سياق الكلام
(2) ابراهيم 5
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:326
لهم الصلح فما أجابوا و هذا قدر عسكرهم، لا تقتلوهم و ادفنوا هؤلاء الكلاب أحياء، استقلالا لهم. فلما قامت الحرب/ نزعوا برادع جمالهم يستخفون بها، و قدموا ابن ام مكتوم و هو أعمى و معه رايتهم، فصاروا عنده كالضحكة، و الطمع فيهم أشد، و احتقاره لهم أكثر. فلما رأى صبرهم تحير، حتى قال لجواسيسه: يا ويلكم، أيّ ناس هؤلاء، أما يملّون ما هم فيه، أما يطلبون الراحة، أما يشغلهم أكل. قيل: إنهم إذا قاموا من منامهم ابتدؤوا بأكلهم، قال:
و ما يأكلون، قيل له: مع كل واحد منهم خشبة يأكلها، يعني بذلك السّواك، لأن الجاسوس كان يراهم يستاكون عند القيام من النوم فظن أن ذلك طعامهم، لأن الفرس و الروم لا تعرف السّواك.
و لما قدمت منهزمة الروم على هرقل و هو بأنطاكية استعظم انهزامهم، و كان عنده أن المسلمين هم الذين ينهزمون، و أنه يصير إلى المدنية فيستأصلهم، فقال لهم: أخبروني ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تقاتلونهم، أليسوا بشرا مثلكم، قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم، قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن، قال: فما لكم تنهزمون كلما لقيتموهم، فقال شيخ منهم: من أجل انهم يقومون بالليل و يصومون بالنهار، و يوفون بالعهد، و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و يتناصفون، و من أجل أنّا نزني، و نركب الحرام، و ننقض العهد، و نغضب و نظلم، و نأمر بما يسخط اللّه، و ننهي عما يرضي اللّه، و نفسد في الأرض. قال: أنت صدقتني.
و كانت نصارى العرب بين تغلب و تنوخ و بلخ و غسان و غيرها من القبائل تعين الروم و الفرس على المسلمين، و كانوا ينغمسون في المسلمين لأنهم عرب فيظنهم المسلمون منهم، فيرجعون بأخبارهم إلى الروم، فيحدثونهم عن عسكرهم، و عن أمرائهم و رؤسائهم، كشر حبيل بن حسنة، و معاذ بن
(1/340)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:327
جبل، و خالد بن الوليد/ و أبي عبيدة بن الجراح و هو أمير الأمراء، «1» و أنهم لا يبينون من جندهم بشي ء، و أن كل واحد منهم هو الذي يقوم على فرسه و يخدم أهل عسكره، و أن الذين في عسكرهم من بني هاشم و هم أهل بيت نبيّهم و رهط أبي بكر و ولد عمر في العسكر كضعفاء الناس، لا يبينون من غيرهم بشي ء. و أن من سرق قطعوه، و من قتل قتلوه، و من افترى جلدوه، و من كذب أسقطوه و أبعدوه و إن كان ابن نبيّهم أو ابن أميرهم.
و أنهم في الحدود و الحقوق سواء، لا يتفاضلون إلا بالتقوى في دينهم. و أنهم رهبان بالليل و فرسان بالنهار. و يحدثونهم بحب النصارى لهم، و تشبثهم بهم، و أنهم أحب إليهم من ملوك النصرانية، و أن أهل حمص بكوا لرحيل أبي عبيدة بن الجراح عندهم لما تكاثرت عليه ملوك الروم، فقيل لأهل حمص:
تبكون على هؤلاء و هم اعداؤكم في الدين، و الذين يجيئونكم ملوككم و أهل دينكم، فيقولون: هؤلاء أهل الأمانة و الوفاء و قول الحق و العمل به، و قد أمناهم:- فهل سمعتم بمن يأمنه عدوه- دماؤنا محقونة، و أموالنا موفورة، و سبلنا آمنة، و أعراضنا مصونة، و أهل ديننا يفتضّون أبكارنا، و يشربون خمورنا، و يأكلون و دوابهم أقواتنا و علف مواشينا، و يسخروننا لمعونتهم.
فكان سرورهم بملك المسلمين لهم عظيما، و هكذا كانت رجال الفرس.
فإن عمر حين ملكهم أقرّهم على أديانهم و أموالهم، و أخذ الجزية منهم، و فرض على أرضهم القفيز و الدرهم «2»، و صدقهم في ادّعائهم، و استعمل عليهم و في أرضهم و خراجهم حذيفة بن اليمان، و سلمان الفارس، و عمار
__________________________________________________
(1) ورد التعريف بهؤلاء الاعلام فيما سبق من الكتاب
(2) أنواع من المكاييل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:328
(1/341)
بن ياسر، و عثمان بن حنيف «1»، و أمثالهم، و وصاهم بهم، و حرص الفرس به أن يستعملهم عليهم و ضمنوا التوفير، و قالوا نحن أعلم بهم، فلم يفعل، فسقط/ عن الفرس رسوم ملوكهم عليهم من حق النوروز و المهرجان و الكسور و الأجور و حق الخزن و غير ذلك، فأيسروا و سمنوا و صاروا كشحم الكلى، فأحبّوا الاسلام و المسلمين فما رأوا سوآ، إلى أن كتب زاذان فرّوخ- رجل منهم- للحجاج فسار بهم سيرة ملوكهم فقالوا: ما زلنا مع المسلمين بخير حتى دخل بيننا و بينهم رجل منا، فكنا كما يقال: إن فأسا طرح بين شجر فقال بعضهم لبعض: ما لهذه بيننا؟ فقالت شجرة منهن: ما علينا منها بأس ما لم يدخل فيها شي ء منّا.
و كانت ملوك الفرس و الروم يعجبون من سلطان المسلمين و أنه يقوم بدرّة و مرقعة و يغلب الجبابرة و أهل الملك القديم، و أصحاب التدبير و السياسة و الترتيب، و أصحاب الكنوز، و أتاهم عن عمر أن كنوزهم تحمل الية فيقسمها و لا يخزنها. و أن قائلا قال له: يا أمير المؤمنين لو ادّخرت من هذا
__________________________________________________
(1) حذيفة بن اليمان هو حذيفة بن حسل بن جابر العبسي، أبو عبد اللّه، و اليمان لقب حسل: صحابي من الولاة الشجعان الفاتحين، كان صاحب سر الرسول صلى اللّه عليه و سلم في المنافقين، توفي سنة 36 ه. الأعلام 2: 180 سلمان الفارسي: من كبار الصحابة، كان صاحب رأي و علم بالشرائع، و هو الذي دل المسلمين على حفر الخندق في غزوة الاحزاب، توفي سنة 37 ه الاعلام 3: 169 عمار بن ياسر الكناني: صحابي من السابقين الى الاسلام و الجهربه، شهد بدرا و أحد و الخندق و بيعة الرضوان، و تولى الكوفة أيام عمر، توفي سنة 37 ه. الاعلام 5: 191 عثمان بن حنيف الانصاري، صحابي، ولي أكثر من ولاية، توفي بعد سنة 41 ه. الاعلام 4: 365
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:329
(1/342)
المال ذخرا ليكون إن كان، فقال له: كلمة ألقاها الشيطان على لسانك، أما إنها لن تضرني و لكنها فتنة لمن بعدي، يدّخر لكون إن كان تقوى اللّه و طاعته و طاعة رسوله، و قسم المال و لم يقبل منه. و كان يأخذ عماله بإنصاف الناس و رعايتهم و خدمتهم و أن يعودوا العبيد و الضعفاء إلى غير ذلك مما يطول.
و لما انكشف ملوك الروم من الشام و مصر، و احتجزوا من المسلمين بالمضايق و الدروب، أخذوا في مداراته و مراسلاته، و طمعوا في كفه و استعطافه بالرفق، فكانت رسلهم ترد المدينة مع نفر من المسلمين في ثغورهم، فلا يرون له قصرا و لا منزلا يتميز به من سائر الناس، بل يرون منازلهم كقامة رجل من جريد النخل، و ربما لم يجدوه في بيته و لا في مسجده، فيسأل المسلمون الذين معهم: أين/ أمير المؤمنين؟ فيقولون: ها هنا كان آنفا و ما ندري أين مضى، فيمشون مع رسل الروم يطلبونه في المدينة فيجدونه وحده في طرف من الأطراف مشغولا بشأن المسلمين، فيقول الروم للمسلمين: هذا الذي أخرج الروم و الفرس من ممالكها، لا قصر له و يمشي وحده حافيا، أما يخاف هؤلاء الملوك؟ فيقول المسلمون لهم: هو أعز على المسلمين من ذلك، فيرجعون إلى ملوكهم بخبره، فيسألون بينهم و في حكمائهم، هل رأوا و بلغهم أن سلطانا بهذه «1» العزة و الغلبة قام بدرّة و مرقّعة، فيقولون: لا، ما سمعنا و لا ظننّا و لو لا أنا رأينا ما صدقنا.
و قد كان يزدجرد بن شهريار ملك فارس قال لرستم صاحب جيشه و قد سأله رستم عن النعمان بن مقرن و الذين كانوا معه و كيف رآهم، فقال له يزدجرد: ما ظننت أن في العرب أمثالهم، ما تقصر عقولهم عن عقول فارس، وجدتهم على بصيرة و يقين من أمرهم، و لقد وعدوا أمرا لا ينتهون عنه أو
__________________________________________________
(1) في الأصل: بهذا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:330
(1/343)
يبلغوه أو يهلكوا. و لما ظفر سعد برستم، و هزم جيوش الفرس، صار إلى المدائن، و هرب يزدجرد إلى نهاوند، كان يجاري خواصه، و يكثر تعجبهم من ضعف العرب و غلبهم الجبابرة الأقوياء أهل الملك القديم و التدبير السديد من الروم و الفرس، و شدة جرأتهم عليهم و إقدامهم عليهم في وقت واحد، لا يكون لهم عندهم من الهيبة ما يصمدون لملك ملك حتى إذا افرغوا منه تفرغوا لغيرة، بل تفوقوا عليهم كأنهم ملك واحد أو سلطان واحد فأصابوهم، مع سوء التدبير و اطراح الحزم خلافا لما يفعله حزمة الملوك، فيقول يزدجرد: ما أظن صاحبهم إلا رسولا للّه كما ادعى، فلو لم يكن من/ آياته إلا طاعة العرب له و قد كانوا منتشرين يأكل بعضهم بعضا.
و انما رماهم يزدجرد بن شهريار بسوء التدبير و سوء الاختيار، أنهم قصدو الملوك كلهم، و أثاروا أهل الأرض كلهم على أنفسهم ضربة واحدة، و ما هكذا كانت تسير الملوك، بل كانوا يقصدون لبعض الوجوه و يدارون غيرها، و يتقون كل جنبة جنبة منه، هذا قول يزدجرد بن شهريار.
و سار يزدجرد بن شهريار من نهاوند إلى فارس، و رتب عماله و أصحابه في الممالك كلها، و أنه يستثير بالفرس كلها بخراسان و يستنصر بالترك و يرجع، فيخرج العرب من ممالكه، و يصير الى بلادهم فيقتل عمر ملكهم و يستأصلهم. و خرج من فارس إلى سجستان، و منها الى مرو، و منها الى خاقان ملك الترك، و استنصره و صاهره، و عيونه و جواسيسه تختلف الى العرب، و رسله إلى الملوك في ممالكه، يشدّ منهم و يأمرهم بجهاد العرب، و يعدهم بنصرهم و الرجوع إليهم، و هم يعذلون الفرس و المجوس الذين ادّوا الجزية و صبروا على العرب، و كانت العرب و ملك المسلمين احب اليهم من ملوك الفرس لما قدمنا، و لأن ملوك الفرس كانوا يسمون أنفسهم الأرباب و غيرهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:331
العبيد، و كذا كانت كتبهم من الأرباب إلى العبيد.
(1/344)
ثم كانت أصول دياناتهم «1» على ما ألقاه زرادشت إلى الملك بستاسف بن لهوا سف أن اللّه خلق الدنيا، فلما خلقها استحسنها، ثم فكر هل هاهنا ضد يدخل عليه، قال: و الفكر ردي ء، فتألف من فكره إبليس، فمثل بين يديه، و ما زال يخلق الظلام و الأجسام الشريرة كالحيات و العقارب و الأمراض و الأسقام/ فيقيم بإزاء كل خلق للّه خلقا لنفسه، فلما خلق اللّه الفار خلق إبليس بإزائه السنور، إلى غير ذلك من الخرافات السخيفات مما هو مذكور عندهم، و قد ذكره للناس عنهم و أخذوه منهم إلى قولهم: و أن اللّه نزل من السماء إلى الأرض لمحاربة إبليس بملائكته، و أن إبليس لقيه بشياطينه فحاربه أكثر من ألف سنة، و أن إبليس هزمه و حاصره في بعض البساتين، و أن الملائكة سعت بينهم في الصلح فتهادنا سبعة آلاف سنة على أن يرجع إلى مستقر ملكه في سمائه و يترك إبليس في الأرض يصنع ما يشاء إلى انقضاء مدة الهدنة، و أن الملائكة أخذت سيف كل واحد منهما فعدّلوهما. فهذا هو أصل دينهم، و فيه من السخف و الجهل و الحمق ما هو أكثر من هذا مما «2» هو مذكور في أماكنه.
و أما الفروع «3»، فتجنب الماء، و التطهير بالأبوال، و تعظيم الماء و النار و الأرض، و تطهير الحائض و النفساء ببول البقر، يتولى ذلك منهم الهربذ، يجردها و يباركها و يباشر غسل فرجها بيده، و يرى بعينيه، و يأخذ منها من الأجر ما هو معروف مذكور، و في يده ريشة من ريش النسر يدخلها في فرجها ثم يخرجها لينظر زعم نقيت أم لا، و شرع لهم وطء المغنيات، و فرض
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الصفحة: أصول ديانات المجوس
(2) في الأصل: ما
(3) كتب في الهامش: فروع المجوس
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:332
(1/345)
على زوج المرأة إذا أراد السفر أن يوكل من يرضى، و شرع لهم نكاح الأمهات و البنات، و أوجب عليهم طاعة الملوك و الانقياد لهم في كل ما يأمرونهم، و أمرهم بإقامة النوروز و أنه أعظم الأعياد، و زعم لهم أن الشياطين كانوا ظاهرين مختلطين بالناس يؤذونهم كل الأذى، و أن إبليس أخذ المقادير و النهايات و هو الذي تسميه الفرس قيما، و زعم أن إبليس أخذ المقادير و النهايات/ من الناس فصاروا «1» يأكلون فلا يشبعون، و يشربون فلا يروون، و يذهبون لحوائجهم فلا يهتدون، و أنه أخذ الأنوار فأظلمت الدنيا عليهم، إلى أمور كثيرة يزعم أن إبليس بلغها منهم يطول شرحها. و أن جمشاذ الفارس استأمن إلى إبليس و صار في عسكره، و تنصح له، و خدمه و قرب منه، و تقرب إليه بكل شي ء لتخليص الناس من شره، و أنه لما اختص به طلب المقادير و النهايات التي أخذها إبليس فلم يجدها في خزائنه، و إذا ابليس لشدة كيده قد ابتلعها لئلا تصل يد أحد إليها. ففطن لذلك جمشاذ الفارسي، فرأى إبليس و هو معه في أرض الهند نائما وحده منفردا من عسكره، فأعدّ خيولا، و أدخل يده في دبره و أخذ المقادير و النهايات و استوى على الخيول، فلما صار بأرض فارس أضاءت الدنيا و تندّت الأرض بعد اليبس و رجع إلى الناس المقادير و النهايات، فلهذا صاروا يوقدون النيران و يصبون المياه و يظهرون السرور و يتوفرون على اللذات في النواريز. و أن يد جمشاذ هذا الفارسيّ اسودّت اسودادا قبيحا فاحشا لإدخاله إياها في دبر إبليس، فغسلها بكل شي ء فما نقيت، فشكا الى اللّه ذلك، فأوحى إليه غسلها ببول البقر فنقيت، قالوا: لهذا شرع زردشت غسل الحائض و النفساء ببول البقر. و زعموا أن جمشاذ هذا كان قبل زردشت، و حرّم عليهم افتضاض الأبكار لأجل الطعن في الدّم
__________________________________________________
(1) في الاصل: صاروا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:333
(1/346)
و هو الذي يسمونه سولاسم، فمن يمسك بدينه منهم يتوقى ذلك و يحتال لافتضاضها، إما أن تتولى هي ذلك «1»/ لنفسها بإصبعها أو بغيره إلى أن ينقضي الدم. و لهم في فروعهم فواحش آخر، مثل: أكل الميتة، و هو ما يشدونه من البقر الشد الوثيق و يأمرونها بصعود الجبل و يقولون لها: قد أمرناك و أعذرنا إليك فلم تفعلي، فيضربونها إلى أن تموت، ثم يأكلونها، و هذا الذي يسمونه يزدان كشت، تفسيره، قتيل اللّه، إلى غير ذلك من حمقهم. فلما جاءهم الاسلام، كان حذيفة و سلمان و غيرهما من الأفراد لا شغل لهم الا قراءة القرآن و درسه و تعليمه، و الظهور للناس، و المشي في الأسواق، و الجلوس في الطرقات.
فكانوا يسألونهم عما يقرؤون و عما في كتابهم فيفسرونه للتراجمة و لمن يفهم، فيذكرونه لهم، و يرجعون الى عقولهم فيما يسمعون من جلال اللّه عز و جل و عظمته و آياته في كل شي ء في مثل قوله: «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ»»
، و ما في قوله في سورة الروم: و من آياته، و من آياته، و من آياته، غير مرة، إلى غير ذلك.
و علم الصحابة به أعظم من علم من بعدهم، فنظر القوم إلى أصول صحيحة يشهد العقل بها، و فروع زكية تدعو الى التمسك بأصولها، و وجدوا الصحابة يعلمون بما يقولون، فأسلموا، و تبادروا إلى الإسلام طوعا من تلقاء أنفسهم، و جاهدوا في سبيل اللّه كما قد عرف الناس، و بقايا ذلك اليوم بخراسان خاصة.
و هذه كانت سبيل النصارى بمصر و الشام و أرمينية، فديانات النصرانية في الأصول على تلك الجهالات و الكذب كما قد تقدم لك ذكره،/ و فروعهم في
__________________________________________________
(1) مكررة في الأصل
(2) الذاريات 21
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:334
(1/347)
النجاسة و القذارة كما قد عرفت، و رأوا من الصحابة في المذاكرة بالقرآن و المواظبة على درسه، فأسلموا اختيارا و طوعا من تلقاء أنفسهم، و جاهدوا في سبيل اللّه عز و جل.
و أما خاص المجوس بجور و إصطخر «1»، فعندهم أن اللّه مات جل اللّه عن قولهم «2» و أنه خلف ابنين، أحدهما غلب على السماء و هو الخير، و أن الآخر غلب على الأرض و هو الشرير. و قد كان عامل لعمر رضي اللّه عنه كتب اليه يعتذر من قلة المال و يقول: أسلم الناس و قلت الجزية، فأنكر عليه عمر هذا الاعتذار و كتب إليه: إن اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و سلم هاديا و لم يبعثه جابيا، و صرفه و لم يستعمله لحزنه على قلة المال و حرصه على الجباية «3».
و كان خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقولون لعمالهم: ارعوا الناس و لا تجبوهم، فإن اللّه بعثنا رعاة و لم يبعثنا جباة، و إن من بعد نامن الأمراء سيصيرون جباة لا رعاة، فإذا أفعلوا ذلك ذهب الحياء و الوفاء و قلت البركات، فالزموا الاسلام.
و لما دخل عمر الشام تسامع به النصارى و من بها من ملوك الروم ممن أقام على الذمة، فأحبوا أن يروه، فخرجوا على براذينهم و خيولهم في زيهم و مراكبهم و ملابسهم، فرأوا المسلمين يدخلون أولا، أولا، فيقولون لهم: أين الملك؟ فيقولون لهم: هو في الساقه. و تلقاه أبو عبيدة و الأمراء، فجاء على
__________________________________________________
(1) جور: مدينة بفارس بينها و بين شيراز عشرون فرسخا. معجم البلدان 2: 181 و اصطخر: بلدة بفارس كانت من أعيان مدتها. معجم البلدان 1: 211
(2) كتب في الهامش: اعتقاد مجوس جور و اصطخر
(3) كتب في الهامش: كتب عمر رضي اللّه عنه الى عامل جورحين اعتذر إليه أن الناس سلموا و قلت الجزية.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:335
(1/348)
جمله و معه مولى على جمل آخر، فانتهى إلى ماء فنزل و نزع جرموقيه «1» و أخذ برأس بعيره و خاض الماء، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت صنيعا عند أهل هذه الأرض، كأنّ أبا عبيدة كره له كل هذا التواضع و التبذل و هو سلطان المسلمين، و عدوّه/ كثير، و هم يرونه، و قد سلبهم ملكهم و عزهم، و عيونهم و جواسيسهم معه يرون ذلك و يبلغونه ملك الروم، و للروم عناية شديدة بمعرفة حال عدوهم، و ظنونهم سيئة، و تيقظهم دائم، حتى أن لهم إلى هذه الغاية مع ضعف الاسلام و ذهاب أهله جواسيس و عيونا متوالية إلى أقاصي خراسان، و في كل الاسلام، و من يصير لهم في مكة في كل سنة فيشهد الموسم و يرجع إليهم بالخبر.
فقال عمر لأبي عبيدة: هاه، رافعا بها صوته، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، كنتم أذل الأمم، فأعزكم اللّه بالاسلام، و مهما تطلبوا العز بغيره يذللكم اللّه.
و لما ورد الشام و قدم الجابية و هو على جمل أورق، تلوح صلعته من الشمس، ليس عليه عمامة و لا قلنسوة، بين عمودين، و وطؤه فرو كبش نجديّ، و هو وطؤه إذا ركب، و فراشه إذا نزل، و حقيبته شملة محشوة ليفا، هي وسادته إذا توسد، عليه قميص من كرابيس قد انخرق بعضه. و لقيه أمراء و الأجناد في مواكبهم، فكلما لقيه أمير منهم فسلم عليه قال له امض، فردّه، و لقيه الاسقف، فقال حين رآه لاساقفته: ثكلتكم أمهاتكم، هل رأيتم رهبانية أو ديرانية أو سياحة مثل هذا، هذا ملك الأرض، فانظروا إليه و إلى حاله.
__________________________________________________
(1) الجرموق: هو ما يلبس فوق الخف. القاموس 3: 217
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:336
(1/349)
و قد كان قال لعامله على أذرعات «1» و قد قدم عليه، و على عمر قميص من كرابيس، فقال لعامله: خذ هذا فاعتله و ارفعه، ففعل، و قطع عليه قميصا قبطيا فأتاه به و قال: هذا قميصك و هذا قميص قطعته عليه لتلبسه، فمسه فوجده لينا فقال: لا حاجة لنا به. و لما قدم دمشق و صار في يوم الجمعة نام عمر فجاء عامله على دمشق فسألهم/ ما يريد أمير المؤمنين أن يلبس إلى الصلاة، و هل يلبس غير لباسه الذي كان عليه، قالوا: لا، ما يلبس غيره، فكره ذلك عامله و خاف أن تزدريه البطارقة و ملوك الشام بعد هيبته في صدورهم و صوته فيهم، فأمرهم عامله أن يغسلوا قميصه، فإنه إذا قام من نومه فوجده رطبا لم يلبسه أعطيناه غيره فلا يجد بدا من أن يلبس. فلما انتبه عمر [و] «2» أراد أن يمضي إلى المسجد للجمعة دعا بقميصه فوجده رطبا قد غسل، فلامهم «3» في ذلك، قالوا: نأتيك بغيره، قال: لا ألبس غيره؛ فعصره و لبسه و صعد المنبر و قد كان أبطأ من أجل القميص، فجعل يعصر ما بقي فيه من الماء و هو على المنبر، و يمدّ كمه فلا يبلغ أصابعه، و هو قميص غليظ، و قال لهم: إنما حبسني أن قميصي هذا غسل، فلما نظروا اليه و إلى هيبته أقبلوا يبكون و ينتحبون من كل ناحية و يقولون: و لا رهبانية ابن مريم، و لا رهبانية ابن مريم، مرتين، ما رأينا ملكا في رهبانية أعجب من هذا.
و قال الروم: هذا الذي غلب فارس و الروم و أخذ كنوز كسرى و قيصر، فقال عامل عمر: فكان و اللّه الذي فعل أهيب في صدورهم و أبلغ مما أردنا، و جاءت هيبة الدين و التقوى.
__________________________________________________
(1) بلد في أطراف الشام معجم البلدان 1: 13
(2) زيادة مني اقتضاها السياق
(3) في الاصل: لامهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:337
(1/350)
و هذه كانت سيرة خلفائه و أعوانهم كبني مقرن، و أبي عبيدة، و معاذ ابن جبل، و شرحبيل بن حسنة، و عتبة بن غزوان، و سعد بن أبي وقاص، و أمثالهم من السابقين و التابعين بإحسان، لا يحصون لكثرتهم. و الذين رغبوا فيما أحلّه اللّه لهم و أباحهم إياه كعبد الرحمن بن عوف و أمثاله، فقد كانوا يبذلون و ينفقون في سبيل الخير، ثم لا يعرفون من التواضع من/ عبيدهم و لا يفرق بينهم و بين عبيدهم و فقرائهم، فكانوا كما قد قيل فيهم لا يحوي رجاؤك ما حوت أيمانهم، و لا تسري همتك إلى حيث سرت أقدامهم، لم يزدهم اللّه رفعة و تشريفا إلا ازدادوا هيبة و إجلالا، و لا تسليطا و تمكينا إلا ازدادوا عن الدنيا عزوفا و منها تقللا، و لا تقريبا و اختصاصا إلا ازدادوا من رعيتهم قربا و بالمساكين رأفة و عليهم حدبا و بهم رحمة.
و لقد قال عبد اللّه بن سلام و غيره لأولئك الذين شغبوا على عثمان، كحرقوص بن زهير، و خالد بن ملجم، و سودان بن حمران «1»: يا قوم، إن سلطانكم يقوم بالدرة، و ما سمعنا بسلطان يقوم بالدرة قبله، و إن قتلتموه لم يقم إلا بالسيف، لا تسلوا سيف اللّه عليكم، فو اللّه إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم، إن مدينتكم محفوفة بملائكة اللّه مذحلّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و إلى اليوم، و اللّه لئن قتلتموه لتتركنها، فلا تطردوا جيرانكم من الملائكة.
و قد قلنا قبل هذا انما لم نجعل زهد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و سلم و خلفائه و أصحابه دليلا على صحة الاسلام و نبوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم فإن ذلك إنما يدل عليه ما قدّمنا من الأدلة و أمثاله، و لكن استدللنا بزهدهم على محبتهم لنبيّهم، و أن ظاهرهم كباطنهم، و سريرتهم كعلانيتهم، و على بصيرتهم في دينهم، و أنه لم يكن لنبي من الأنبياء عليهم السلام صحابة مثلهم، و أنهم خير أمة أخرجت للناس.
__________________________________________________
(
(1/351)
1) انظر لتفصيل حادث مقتل عثمان رضي اللّه عنه، الطبري، أحداث سنة 35 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:338
و اعلم أنك لا تكاد تعدم من يطعن فيما معك من هذه الأخبار لجهله.
فإن هذه الأخبار التي معك من كلام الوليد بن المغيرة الى غير ذلك، كلها قد جاءت مجيئا صحيحا كالقرآن، و إن/ كان أكثر الناس لا يعلمون ذلك. ألا ترى أن لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الغزوات و السرايا و البعوث أكثر من خمسين و لا تعرف العامة و من جرى مجراهم منها خمسة، و هم يعرفون أبا بكر الصديق في الصحابة و لا يعرفون أبا طلحة و أبا قتادة «1». و يعرفوه من أزواجه خديجة و عائشة و لا يعرفون سودة بنت زمعة و صفية بنت حيي و غيرهن من أزواجه «2» فإنه صلى اللّه عليه و سلم تزوج خمس عشرة و مات عن تسع، و كان له من خديجة أربع بنات: زينب و رقية و أم كلثوم و فاطمة «3»، و كان له تسعة أعمام و لا يعرف العامة منهم أكثر من ثلاثة، و كان له سبع عمات و لا يعرفون إلا واحدة، و مثل هذا كثير. و لسنا نريد بقولنا ها هنا العامة كالملاحين و الحمالين و الفلاحين، و لكنا نريد من لم يباشر هذه الصنعة و إن كان من الخلفاء و الوزراء أو القواد و الكتاب و كائن من كان.
فإن قيل: فإن هذا الدين و إن ظهر على الأديان كلها و كان أقواها و أعزها فما استأصلها و لا قلع أصولها، فقد بقي في يد الروم بقية من ممالكها و إن كان الاسلام قد أخذ أكثرها و عامتها، و بقي في يد الهند بقية، قيل له: إنه لم يقل أنه مستأصل الديانات و لا الممالك كلها حتى لا يبقى شيئا منها، بل قال:
__________________________________________________
(
(1/352)
1) أبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود النجاري الأنصاري، صحابي شجاع، شهد العقبة و بدرا و أحدا و الخندق و سائر المشاهد، توفي سنة 34 ه. طبقات ابن سعد 3: 64 أما عن أبي قتادة فلعله يقضي قتادة ابن النعمان الانصاري و هو صحابي بدري، شهد المشاهد كلها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، توفي سنة 23 ه. الاعلام 6: 27
(2) كتب في الهامش: عدد زوجات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم
(3) كتب في الهامش: عدد بنات رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:339
ليظهره على الدين كلّه، و قد ظهر و غلب، فصار أعزها و أظهرها و أقواها، فقد استوفى الخبر شرطه؛ و مع هذا فقد فرض الجهاد على أمته إلى يوم القيامة، فدلّ أنه تبقى من الشرك بقية، فقد أحدق الصدق بكل ما قالوا، فما هاهنا عيب يكون لطاعن.
فإن قيل: إن الرّوم/ قد ارتجعت أكثر ممالكها التي أخذها المسلمون منها، حتى لو قدّر ما ارتجعوه من جزائر البحر و ما في البر من الثغور الشامية و الجزيرية و أرمينية و أذربيجان، لكان يكون في الكوفة إلى بخارى بلدان عامرة، ثم من بالاحساء و المغرب و ما يلي المغرب إلى أن يقارب العراق يعتقدون عداوة الأنبياء كلّهم و يخصون نبيّكم محمدا بفضل عداوة، و يجردون في القصد إلى إماتة شريعته و استئصال دعوته كما قد عرف ذلك من تصفح و اعتبر، و كما لهم من الآثار في قتل المسلمين و الحجّاج، و غزو مكة و الكوفة و البصرة و باليمن و بالشرق و الغرب، و إن تستروا بالباطن، فكيف يكون الآن ظاهرا على الأديان كلها.
قيل له: إنه لو ارتد جميع أهل الدين حتى لا يبقى عليه أحد من الناس كلهم، لما قدح ذلك في الخبر الذي خبر أنه يظهر على الأديان كلها، لأن ذلك الخبر و تلك المعجزة قد صارت إلى ما قال و كما أخبر، فظهر على الأديان كلها فلما استوفت شرائطها و انتهت إلى حدودها فما قصرت عن شي ء قاله عليه السلام أو شرطه.
(1/353)
ثم في غلبة الروم و القرامطة و غيرهم من أعداء الاسلام على ما غلبوا دلالة أخرى على نبوته عظيمة، فإنه قد مرّ، أن بعد مضي أصحابه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، و في آخر الزمان، ستضعف بصائر أهل ذلك الزمان، و يكرهون الموت، و يشتد حبهم للدنيا و حرصهم على البقاء، فسيظهر عليهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:340
عدوهم و يغلبهم. و الأخبار في ذلك أصح و أقوى من كل قويّ، و هي كثيرة، و مجيئها كمجي ء القرآن، حتى أنه صلّى اللّه عليه و سلم حين وقت المواقيت، وقت ميقاتا لأهل العراق و العراق إذ ذاك في أيدي الفرس، و وقت ميقاتا لأهل الشام و الشام إذ ذاك في يد الروم، و كذا غيرها من الأمصار، و ذكر ظهور أمته عليهم و استقامة/ الأمور لهم، ثم ذكر اضطرابها، حتى يقول: و منعت مصر أردّبّها و دينارها، و منعت العراق درهمها و قفيزها، و منعت الشام كذا، حتى يجي ء في الأثر، ليخرجنّكم كما أخرجتموهم كفرا كفرا، يعني بلدا بلدا و قرية قرية، لأن أهل الشام يسمون القرى الكفور، فيقولون: كفر طاب و كفر ثوبا و كفر كذا لقرى كثيرة. حتى يذكر آخر الزمان، و ان الأمم تتمالأ على أمته كما تتمالأ الأكلة على قصعتها، فقيل يا رسول اللّه أمن قلة يؤتون، فقال: لا، إنهم أكثر ما يكونون و لكن الوهن و الفشل، فقيل: يا رسول اللّه ما الوهن و الفشل، قال: حبّ الدنيا و كراهة الموت «1».
(1/354)
و قد وجد أهل الاعتبار ذلك، فإن بابك الخرّمي صاحب الخرميّة من البذ من أرمينية و أذربيجان، ابتدأ في أول أمره و تستر بأنه من المسلمين و يدعو إلى الاسلام و إلى المهدي من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، «2» فلما قوى و ظهر كان من أمره ما هو معروف، فكدّ السلطان في زمانه و أتعبه، فكان المعتصم ابن الرشيد، فأرسل با بك إلى ملك الروم و هاداه و لاطفه و تقرب إليه ببغص الاسلام و المسلمين، و أنه إنما تستر بالاعتزاء إلى المهدي حيلة عليهم و سخرية منهم، و قال: إني قد شغلت ملك العرب عنك فما يتفرغ لغزوك فإن فرغ
__________________________________________________
(1) للاطلاع على نموذج من هذه الأحاديث التي تكلم فيها الرسول عليه السلام عن البلاد التي سيفتحها المسلمون و عن مستقبل الاسلام، انظر فيض القدير للمناوي 4: 96- 102
(2) امتدت فتنة بابك الخرمي زمنا طويلا في عهد المأمون و المعتصم و كان خروجه سنة 201 و منتهاه سنة 221 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:341
مني تفرغ لك، فانتهز الفرصة لتنهنهه عني و أنهنهه عنك، ففعل ملك الروم ذلك، و سار حتى فتح ربطره و كان له من الأثر في المسلمين ما هو معروف.
و كان له مع صاحب الزّنج من الحرب مثل ذلك أيام المعتمد، فإن صاحب الزّنج شغل السلطان عن ملك الروم فأعانه ملك الروم، و انتهز الفرصة و سار فأخذ لؤلؤة من أيدي المسلمين، و هي بلد عظيم و مصر جليل.
و كان صاحب الزنج يدّعي أنه المهدي،/ و آثاره معروفة، و سيرته في المسلمين معلومة في أن آمنهم ثم قتلهم بعد الأمان و قتل الأطفال، إلى غير ذلك.
و كان يذكر أنه علويّ، و لقد أخذ أبا يعقوب الشحام فقال له «1»: لم لا تجي ء أنت و أصحابك فتجاهدون معي و تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر، و لكنكم معشر المعتزلة منافقون تقولون بما لا تفعلون، فقال له أبو يعقوب:
(1/355)
أجيب عن هذا و أنا آمن، قال: نعم، قال: أنا آمن قبل الجواب و بعد الجواب على نفسي و أهلي و مالي، قال: نعم فتوثق منه ثم قال له: أخبرني أيّما خير، أنت أو عليّ بن أبي طالب، قال: بل عليّ، قال: فأيما شر من عاداك أو عادى عليّ بن أبي طالب، قال بل من عادى عليّا. قال:
فهل بلغك أنه آمنهم ثم قتلهم، لقد حاربوه فما قتل لهم أسيرا و لا أجهز لهم على جريح و لا اتبع لهم موليّا و لا سبى لهم ذرية و لا هجم لهم على منزل، و لقد كانت الخوارج مقيمة معه فما بدأهم بحرب و هم يكفرونه، فقد كان ينبغي أن تسلك سبيله لأنك أنت تدعي أنك من شيعته، فقال له: لو لا أني قد آمنتك، و لو لا ما بيني و بينك لقتلتك. فقام أبو يعقوب و خرج و هرب و لم يأمنه. و قد كان صاحب الزنج قبل أن يملك البصرة يغشى العلماء و يجلس إليهم
__________________________________________________
(1) من كبار رجال الاعتزال انظر المنية و الأمل (طبقات المعتزلة لابن المرتضى)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:342
و يتقرب من قلوبهم «1».
و هذه كانت سبيل سعيد الذي خرج بالمغرب أيام المقتدر «2»، فإنه لما تمكن برقادة من أرض المغرب «3»، و صار في جيوش، راسل ملك الروم و هاداه و تودده و أغراه بالمسلمين، و بشره بأنه يملك ممالكهم كلها و يستأصل ملك بني العباس، و أن له إخوانا على مثل رأيه باليمن و بالبحرين و بالكوفة و في الجبال و بخراسان، و أنه قد سلطه عليهم. و كان يبشره بالمكاره التي تنزل بالمسلمين، و سيّر جيشا له عظيما مع ابن له إلى مصر ليأخذها، و عرّف الروم هذا، فسيّروا جيشا إلى الثغور، و كان هؤلاء ينصرون أولئك في الثغور، و شغلوا/ المسلمين و شتتوهم. و كان هذا بعد الثلثمائة للهجرة.
(1/356)
و كان عندهم أن أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابيّ صاحب البحرين يعينهم فإنه كان على رأيهم و مواطئا لهم «4»، و كان عندهم أنه إذا انقضت سنة ثلثمائة ظفروا و ظهروا على الاسلام كله، و أن سعيدا الذي بالمغرب هو المهديّ و هو الذي يغلب و يظهر. و كانوا يكاتبون الشيعة بالعراق في كل مكان بذلك، و يقولون لهم: انتظرونا و كونوا على أهبة فإنا لا نتأخر. فاتفق قتل أبي سعيد الجنابي في سنة إحدى و ثلثمائة، و أخلف ما ظنوه، و انهزم أولئك الذين نزلوا على مصر و رجعوا إلى المغرب، و رجعت الروم بسبي عظيم من المسلمين، و كان ذلك في سنة اثنين و ثلثمائة. ثم عادوا إلى مصر بأعظم من تلك الجيوش
__________________________________________________
(1) الزنج أو الزط قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة و عاثوا فيها، و لما استقر الحكم للمأمون سنة 205 ه بعث إليهم عددا من قواده فتفرقوا و لكنه لم يقض على فتنتهم قضاء تاما حتى فعل ذلك المعتصم سنة 219 ه.
(2) سيأتي تفصيل ذلك في موقعه من الكتاب.
(3) بلدة كانت بالمغرب، بينها و بين القيروان أربعة أيام. معجم البلدان 3: 55
(4) سبق التعريف بالجنابى هذا، انظر الجزء الأول الصفحة 129
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:343
(1/357)
في سنة سبع و ثلثمائة، و عادت الروم إلى الثغور و حرقوا و سبوا، و خرّب هؤلاء بالاسكندرية و الصعيد و نهبوا و انهزموا و رجعوا، و أخذ الروم ملطية و ثغورها «1»، فهنأهم هؤلاء الذين بالمغرب بذلك، و بشروهم بما يفعله أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي بالمسلمين و بالحجّاج، و بقلع الحجر، و بسبي المسلمين، و بقتل الحجّاج، و بسلب الكعبة، و أنا قد شغلنا المسلمين بأنفسهم عن غزوكم؛ حتى كتب ملك الروم إلى المسلمين كتابا بذلك و أظهر الشماتة بما نزل بالبصرة و بالكوفة و بمكة و بغيرها من وقائع القرامطة بالمسلمين و إذلالهم الاسلام. و قد أجاب عن هذا الكتاب أحمد بن يحي بن المنجم نديم السلطان، و أجاب عنه عيسى بن داود ابن الجراح وزير السلطان.
و أولاد أولئك الذين كانوا بالمغرب إلى هذه الغاية مقيمون على مسالمة الروم و مقاربتهم و مهادنتهم و التقرب إليهم و الشغل بإفساد المسلمين و الاسلام.
فإن غزا الروم أحد من المسلمين من نواحي الشام و مصر و جاؤا بسبي أو أسير أخذهم هذا السلطان منهم و خلع عليهم و وصلهم و برهم و أكرمهم و أنزلهم أجل المنازل و قال لهم: من أقام منكم عندنا/ فله الكرامة و من شاء فليرجع فله الحباء و الصيانة، و يراسلون ملك الروم بأنا ما نغزوكم و لا نتعرض لكم، و ما نقدر أن نكاشف في المنع من غزوكم كل المكاشفة، و لا نرد كل أحد عن ذلك، و قد علمتم أن من وصل إلينا منكم رددناه مكرما إليكم، و من آثر المقام كان في عز و في كفاية، و لنا جيوش و عساكر في البر و البحر قد جاورناكم سيما مذ صرنا بنواحي الشام، و مصر، و اذا قصدتم لناحية فيها
__________________________________________________
(1) بلدة من بلاد الروم مشهورة تتاخم الشام، فتحها المسلمون، ثم استعادها الروم سنة 323 ه. ثم عادت للمسلمين مع الدولة العثمانية. معجم البلدان 5: 192
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:344
(1/358)
عساكرنا رحلوا عنها و خلوها لكم. و لهم معهم أكثر من هذا التفصيل، و إنما أردنا أن نذكر صحة قوله عليه السلام أن أمته في آخر الزمان تكون إلى حب الدنيا و البقاء فيخذلون، و تجتمع عليهم الأمم، و هذا باب من معجزاته.
و باب آخر [حول الآية الكريمة «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»]
و هو قوله: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» «1». و كانت قريش و العرب قد تفرغوا لمكارهه و تركوا كل شغل، و أفردوا كل قوم بضرب من مكروهه كما كانت تفعل اليهود ذلك به، فكانت خمسة من مشيخة قريش قد تفرغوا للاستهزاء و المنع في المواسم و المحافل من أن يستمع منه أو يصغى إلى القول منه، و هم «2»: الوليد بن المغيرة المخزوميّ، و العاص بن وائل السهميّ، و الأسود بن المطلب الأسدىّ، و الأسود بن عبد يغوث الزهري، و الحارث بن الطلاطلة «3»، فبلغوا منه في الاذلال، فشكاهم إلى اللّه عز و جل فأرسل إليه جبريل عليه السلام فقال له:
إن اللّه تعالى قد أمرني بطاعتك فمر فيهم بما أحببت، فاستند إلى الكعبة، فمرّ به الوليد، فأومى إلى أخمص رجله، و كان قد مر برجل من خزاعة و هو يريش نبلا له، فوطى ء على فصل منها، و كان من ذلك مريضا ثم اندمل، فانتقض به عند ذلك و مات.
ثم مر به الأسود بن المطلب/ و بيد النبيّ عليه السلام ورقة خضراء،
__________________________________________________
(1) الحجر 94
(2) كتب في الهامش: خمسة من مشيخة قريش قد تفرغوا للاستهزاء برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و منع الناس من استماعهم منه عليه السلام.
(3) الطلاطلة: الداهية، و هو اسم أمه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:345
(1/359)
فرمى بها في وجهه و قال: اللهم أعم بصره، و أثكله ولده، فعمي بصره و قتل بنوه: زمعة، و عقيل، و الحرث بن زمعة. و مر به العاص بن وائل، فأومى إلى رجله، فركب حمارا يريد الطائف فطرحه الحمار فدخلت في رجله شوكة فمات.
و مر به الحارث بن الطلاطلة، فأومى إلى بطنه فأكل سمكا مملوحا و نام، فلما كان جوف الليل عطش، فقام إلى قربة فيها ماء، فوضع فاه على فيها فشرب، فما روى حتى انشق بطنه و مات. و قد علمنا أن كان هناك من كان يستهزى ء به، و أن قوله عز و جل: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» «1» قد كفيهم، و قد قرأ ذلك عليهم، فعلمنا أن كان هناك مستهزئين و قد كفيهم.
و باب آخر [حول الآية الكريمة «فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ»]
قوله عز و جل (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) «2» فذكرهم بعصمة اللّه له منعة لهم من قتله مع وحدته و كثرة أعدائه و حرصهم على قتله و استئصاله و إطفاء نوره، فصرفهم اللّه عن ذلك، و قد راموه غير مرة و حرضوا عليه.
فانظر إلى هذا الادلال و إلى هذه الثقة بمنع اللّه منه، فإن هذا قول يغيظ و يغضب و يحرضهم على مكروهه و يبعثهم على قتله و يزيدهم حرصا على استئصاله، و هذا من الآيات العظام، و هو أعظم من صرف اللّه كيد فرعون عن موسى، فإن بني «3» اسرائيل بمصر و هم ستمائة ألف على دين موسى
__________________________________________________
(1) الحجر 95
(2) هود 55
(3) في الأصل: بنو
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:346
و تصويبه سوى المشايخ و النساء و الأطفال و إن كانوا مغلوبين بسلطان فرعون.
و طول مقام موسى مع فرعون بعد ادعاء النبوة سنة واحدة، و محمد صلّى اللّه عليه و سلم أقام بمكة خمسة عشرة سنة، و جاءهم وحيدا منفردا بدينه، خالف الأمم كلها من أهل زمانه، و لم يعتصم. بمخلوق، و لا صوّب أحدا من الأمم و لا من الملوك الجبابرة.
(1/360)
فإن قيل: أو ليس كان عمه أبو طالب يمنع منه، قيل: ليس في هذا قدح فيما ذكرنا، لأنه ما قال أن/ أحدا لا يدفع عني و لا يسوؤه ما نزل بي، و إنما قال في حال وحدته، لا أقتل و لا تقتلونني مع كيدكم لي، و إن ربي أخبرني بذلك، و هو قال لي: «وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» «1» و هو قال لي: قل لهم: «فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ» و هو قال لي: «وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فلو منع نصفهم من قتله لما قدح ذلك في خبره، و دفع أبي طالب عنه يؤكد أمر حجته، فإنه قد كان على غير دينه، و كان على دين أعدائه، و مع هذا كان يدفع عنه و يقول لقريش: هو الأمين الكريم الوفيّ الذي عرفتموه، و تشفع إليهم في الكف عنه، و قد كانوا مع هذا يضربونه حتى يغمى عليه، و يسحبونه، فيقول لبناته و هنّ يبكين: إن أباكنّ لا يقتل بل يؤذى، و يقول هذا للناس كلهم و يناله عمه أبو لهب و النضر بن الحارث بن كلدة، و أبي بن خلف، و أمية بن خلف، و عقبة بن أبي معيط، و غيرهم من قريش، مع حرص أبي طالب في الدفع عنه، فيقول صلى اللّه عليه و سلم:
لا تنالون مني أكثر من هذا، و العقبى تكون لي، و لن أقتل و لا أموت حتى أظهر. فيزدادون غيظا عليه، و يجددون عزمهم على قتله، و يقول أبو جهل لبني مخزوم: لأقتلنّ محمدا، فإن شئتم حينئذ فأسلموني إلى بني عبد مناف و إن __________________________________________________
(1) الاسراء 60
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:347
شئتم فدعوا. فقالوا نحن لا نسلمك لشي ء أبدا. فأرصد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى أن وجده ساجدا، فأخذ صخرة و مشى إليه، فلما دنا ليرضح رأسه بالصخرة التزقت الصخرة بكفه و ولى هاربا، فأنزل اللّه فيه: «أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى- حتى قال:- فَلْيَدْعُ نادِيَهُ» «1» لأنه معروف العداوة سيد مطاع.
(1/361)
فانظر كيف يقول له: «فليدع ناديه سندع الزبانية»، و قد أرصدوا له للقتل مرات لا يحصيها إلا اللّه، و كان أشد ما عليهم إذا قرأ القرآن و فيه عيبهم و عيب آلهتهم، مثل قوله في سورة ص، و ياسين، و الفرقان، و ما أشبه ذلك،/ فإنهم كانوا يثورون له و يفورون من أجله، و كان ذلك شديدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لوحدته و ضعفه، و لما يعرف من بأسهم و غلظ أكبادهم حتى يقول اللّه: «وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً، وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً، وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» «2». و إنما قال:
«جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً» «3» لما كان يصيبهم من الغضب و الغيظ عند تلاوته القرآن، فأضاف ذلك إلى نفسه لهذا المعنى، لا أنه جعل على قلوبهم أكنة و لا في آذانهم وقرا، و هذا كقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: (شيبتني هود و اخواتها) «4»، لما كان يلحقه عند الفكر فيما يتلوه منها من خشية اللّه و خوف نقماته، لا أن هود و أخواتها كانت تفعل فيه الشيب. و مثله قوله عليه السلام:
(حبّك للشي ء يعمي و يصم) «5» لا أن الحبّ يفعل العمى و الصمم، و لكنه
__________________________________________________
(1) العلق 9
(2) الإسراء 45
(3) الأنعام 25
(4) فيض القدير 4: 169
(5) فيض القدير 4: 372
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:348
اذا أحبّ الشي ء ذهب مكبّا على وجهه فلم يتثبت، فتبصر عينيه و لا يصغي فيسمع قول من ينصح له، و قد قال اللّه عز و جل «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً»»
،
(1/362)
و النذير لا يفعل فيهم النفور، و لكنهم لما نفروا عند إنذاره نسب نفورهم إليه، و هذا من الاستعارة الحسنة، و هو معروف في اللغة.
فسلامته صلّى اللّه عليه و سلم منهم و هذه حالهم و حاله كمن قال: الدلالة على صدقي أني أخوض هذه النار العظيمة و ألبث فيها و أخرج منها سليما، فهذه كانت حال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مع هذه الأمم، فإنه أقام بعد ادعاء النبوة بمكة خمسة عشرة سنة بين هذه الشدائد المتوالية و الأهوال المتصلة، و هو يخرج إلى المواسم، و يقوم في المحافل، و يبرز إلى القبائل، و يعرض نفسه، و يذكر ما يدعو إليه، و هو وحده و معه أبو بكر الصديق أو أبو بكر و عليّ/ بن أبي طالب.
و قريش ترصده و تتبعه برجالها و دهاتها في التنفير عنه و الصد عنه، فأين كان أبو طالب، و كم يكون أبو طالب مع هذه القبائل و العشائر و هم يتوعدونه و هو لا يلين و لا يفتر.
و لقد كان عمه أبو طالب يعزله فيما أتاه من مخالفة دين آبائه و يسأله أن يكف عنهم و أن يلين لهم، و يضرع له و يطاوله و يدبره في كل جهة، و يخوفه بأسهم «2» و سطوتهم و أنه لا يأمن قبلهم، فلا يلين، و يقول يا عم:
ما كان لي أن أراهن في أمر اللّه، حتى يبكي صلّى اللّه عليه و سلم من طول معاتبة عمّه له و يقول: ما كنت لأفعل. فإذا قال له إني أخاف عليك منهم، إني غير آمن عليك مكر قريش و إن دافعت عنك، فيقول صلّى اللّه عليه و سلم: إن ربي قد ضمن لي
__________________________________________________
(1) فاطر 42
(2) في الأصل: بأسه، و لعل الصحيح ما أثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:349
صرفهم عني، فيقول أبو طالب: يا ابن أخي، ما اطوع ربك لك، فيقول:
له: و أنت يا عم لو أطعته أطاعك.
(1/363)
و قد مات أبو طالب، و أقام صلّى اللّه عليه و سلم بعده و هو على شدته عليهم، و أشد بكثير مما كان عليه في حياة أبي طالب، و غيظهم أشد. فإن القرآن كان يتوالى نزوله بما يكرهون، فيجيب من يجيب منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فيتضاعف غيظهم، و يتجدد عزمهم على قتله و استئصاله، فيجدّون و يشمرّون و يسعون و يرهجون فلا يغني عنهم كيدهم شيئا، «وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» «1».
و لقد كانوا يمكرون به المكر العظيم، كما قال اللّه تعالى: «وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» «2» و ما كان ليقول هذا عنهم و العدو و الوليّ يسمعه إلا و هو كما حكاه عنهم.
و في هذا المعنى يقول عز و جل: «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ» «3» أي من كان يظن أن لن ينصر اللّه محمدا في الدنيا و الآخرة و لن يفي له بما يدعي محمد عليه، فليجتهد جهده، و ليستفرغ وسعه في استئصال محمد و إطفاء نوره و طلب كذب يكون/ منه، ثم لينظر هل يجد ما يشفي غيظه، فإنه لا يجد ذلك، بل يجد ما يضاعف غيظه، و هذا أيضا من تلك الأبواب التي تبعث على قتله و تذكر باستئصاله.
و كم كان يلقي من يجيب رسول اللّه من الذل و الضرب و الهوان و التجويع
__________________________________________________
(1) فاطر 10
(2) ابراهيم 46
(3) الحج 15
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:350
(1/364)
و التعطيش و الجفاء و السبّ و أصناف المكاره التي يطول شرحها، و هي مذكورة في مواضعها، معروفة لا يشك أهل العلم فيها. حتى يكون مثل عثمان بن عفان مع كثرة ثروته و صلته لأرحامه و شرف رهطه و حلمه و أناته لا يمكنه المقام بمكة، ففر إلى أرض الحبشة و معه رقية بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و كذلك جعفر بن أبي طالب و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، و أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين. وفر الزبير مع شرفه و شجاعته، و من شئت من الوجوه و الأشراف فما أمكنهم المقام و هذه حالهم، فكيف بالموالي و الفقراء و قريش تطلبهم، و تعبر البحار في طلبهم، و يكون لهم مع النجاشي ما هو معروف.
و من هاجر إلى المدينة اتبعوه، فإن وجدوه في الطريق ردوه قهرا، و إن وجدوه في المدينة خدعوه و سألوه زيارة أهله و عطفوه على أبويه و رغبوه في صلة رحمة و أمنوه على نفسه و دينه ما أقام معهم، فكم ممن أجابهم و اغتر بهم لما ردوه صفدوه بالحديد و عذبوه، و من أحسّ منهم بولده قد أسلم قيّده، كما فعل سهيل بن عمرو بابنه أبي جندل بعد الهجرة، و كما صنع أبو أميمه سعيد بن العاص بابنه خالد بن سعد، فإن أبا بكر الصديق لقيه و عرفه حسن الاسلام، فأجابه، فعلم أبوه بإسلامه فأرسل في طلبه جماعة فأخبروه أنهم لا يجدونه، فقال: الطائف، فجاؤوا الطائف فلم يجدوه، فأخبروه أنه يكون بأعلى مكة في شعب أبي ذر قائما يصلي، فأتوا به إلى أبيه، فأنّبه و بكّته و ضربه بمقرعة/ في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال له: اتبعت محمدا و أنت ترى خلافه قومه، و ما جاء به من عيب آلهتهم و عيب من مضى من آبائهم، و زعمه أن للناس بعد موتهم دارا يدخلوتها فيخالدون فيها، فما أعجب هذا. و أخواته و أهله يشهدون، بل هم ردوه إلى أبيه، فقال خالد قد اتبعته و صدق و اللّه محمد. و حاجّه ابنه، فغضب أبو أحيحه و نال من ابنه و شتمه، و قال: اذهب
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:351
(1/365)
يا لكع حيث شئت، و اللّه لأمنعنك القوت، قال: إن اللّه يرزقني ما أعيش به، فأخرجه و قال لبنيه: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به ما صنعت. فخرج خالد، فلقيه أبو سفيان صخر بن حرب فقال: قد فعلتها يا خالد، ما شكرت أباك، و لقد هدمت شرفك الذي ينالك، فقال خالد: بل عمرت ذلك الشرف، قال أنت غلام حدث، لو بسط عليك العذاب لأقصرت،
و صار خالد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فكان يلزمه، و جعل من لقيه من فوقه يؤنبونه، و يستقصرون فعل أبيه و تركه له، و أنه قد كان ينبغي له أن يبسط عليه المكروه و يواليه عليه. فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا أحيحة، ما أدري أضعفت أم ضجّعت الرأي أو أدركتك المأقة «1»، قال: و ما ذاك، قال: تركت ابنك يتبع محمدا أو أنت سيد قريش و كبيرها و المطاع فيها، فيتجرأ علينا شبابنا و يقولون: هذا ولد أبي أحيحه قد أسلم و لم يصنع به شيئا، فقال لا ما ضعفت، إني لأقوى قريش نفسا و أكثرها عددا و مالا. و أما قولك: ضجعّت الرأي، فما الرأي عندك في أمره، قال حبسه و التضييق، فقال: و اللّه ضربته حتى كسرت العصا على رأسه، و حرمته القوت، فهذا أشد الأمور عليه، فلم أره حفل بواحدة منها. و أما قولك: المأقه، لقد غاظني أمر محمد أنه أوسطنا نسبا، و أنه نشأ فينا/ كأحسن ما نشأ به أحد من الشباب من حسن الحديث و أداء الأمانة و حسن الخلق، فجاء بدين محدث، فرق جماعتنا و شتت أمرنا و أذهب بهاءنا و اجترأ علينا. و أخرى إن صدقني ظني- و هو صادق- أنه خارج إلى قوم يقوي بهم ثم يدخل بهم عليكم. قال أبو جهل: لا تقل هذا، فما الفرج لنا إلا في اخراجه و تحويله عن ديارنا، فإنه إن خرج عادت إلفتنا، وعدنا لديننا
__________________________________________________
(1) جاء في اللسان: ضجع في أمره و اضجع و أضجع: و هن، و الضجوع: الضعيف الرأي و المأقة: الأنفة و شدة الغضب و الحمية، و نكث العهد من الأنفة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:352
(1/366)
القديم الذي كان عليه آباؤنا. فخرج من عنده و هو يقول: تغيّر أبو أحيحة، ما هو إلا الكبر، ما اجترى ء عليه بهذا حتى أنسوا ضعفا. ففر خالد إلى أرض الحبشة.
و إنما ذكرت لك طرفا يسيرا من صنيعهم بفتيانهم و أولادهم و مهجهم إذا اسلموا، و شدة الرؤوساء منهم على من لم يبالغ في ذلك، فأمّا ما صنعوا بأبي بكر مع حلمه و نبله و سعة جاهه و كثرة خلّانه من ساداتهم، ثم بمن يليه طبقة طبقة، فأعظم من كل عظيم.
و باب آخر [حول الآية الكريمة «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» و كيف ورثها أصحاب الرسول صلى اللّه عليه و سلم ]
و هو قوله عز و جل: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ، وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «1». فورثها أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلم كما قال و كما أخبر، و فيه مع كونه دلالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم لما في الكتب التي أنزلها اللّه عليهم، ان النبيّ الأخير من ولد إسماعيل بن هاجر بن إبراهيم، القائم من فاران، هو أعز و أعلى و أقهر من جميع النبوات، و أن أتباعه الصالحين يرثون الأرض و يحيون الحق و يميتون الباطل و يذلون الجبابرة كما هو مذكور في الكتب ذكرا تقدم به الحجة عند العلماء، و قد ذكره من أسلم، مثل عبد اللّه بن سلام و من يليه طبقة طبقة، و للعلماء فيه كتب مفردة، مثل أحمد بن يحيى بن المنجم/ المعروف بالنديم، و مثل أبي عبد اللّه محمد بن زيد الواسطي الكاتب، و مثل أبي بكر الزهيري الكاتب، و مثل ابن قتيبه، و غيرهم، فإنهم ذكروا تلك المواضع من تلك
__________________________________________________
(1) الأنبياء 105
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:353
(1/367)
الكتب، و ما فيها من البشارات و الإشارات، فإن أردتها وجدتها، و إن كان فمعك ما يغنيك عنها «1».
و في هذا أيضا دلالة على صحة إمامة أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ و أتباعهم و شيعهم، فإن اللّه قد شهد لهم بالصلاح و هم ورثوا الأرض. فإن قيل فقد ورثها بعضهم ممن «2» ليس هو في مثل حالهم عندكم، حتى انتهى ذلك إلى القرامطة و الروم و أشباههم، و من يقرب حاله من حالهم، فإنهم قد غلبوا على كثير من الأرض. قيل له: لو ملكوا الأرض كلها لم يقدح ذلك في هذا العلم و لم يؤثر في هذا الخبر، لأنه ما قال: لا يرثها إلا الصالحون، و لا تخرج من أيدي الصالحين.
و مثله قال موسى لقومه: «اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» «3»، و مثله قوله: «أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا» «4»، و قد خرجت من أيدي بني إسرائيل و ملكها بخت نصرّ و ملوك الروم و أمثالهم من الكفرة، و هذا غير مشكل.
و قوله في آخر الآية: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «5» يزيدك علما بأن المراد، أن الوارثين «6» للأرض هم أهل دينه و القائمون بشريعته،
__________________________________________________
(1) أحمد بن يحيى المنجم المتوفى سنة 327 ه أديب و شاعر و متكلم و فقيه. معجم الأدباءه: 146 و محمد بن زيد الواسطي المتوفى سنة 306 ه متكلم معتزلي. الفهرست 1: 172. و أظنه يقصد ابن قتيبة، عبد اللّه بن مسلم الدينوري. المتوفى سنة 276 ه.
(2) في الاصل: من
(3) الأعراف 128
(4) الأعراف 137
(5) الأنبياء 107
(6) كتب في هامش الأصل: الوارث، الصواب: الوارثين.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:354
(1/368)
و هذا خبر و بشرى و وعد، و إخبار اللّه لا يكذب، و وعده لا خلف له.
فشهد عز و جل لمن قدّمنا بالصلاح، و عند الإمامية و طبقات الرافضة أن أبا بكر و عمر و عثمان و البدريين و المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم و أعانوهم على وراثة الأرض حتى أبادوا الأمم و غلبوا ملوك الفرس و الروم و الترك و غيرهم من أمم الشرك كانوا اكفارا مشركين طلاب دنيا لا طلاب دين/ و أنهم غيروا القرآن، و عطّلوا النصوص، و بدلوا الشريعة من الطهارة و الأذان و الصلاة و المواقيت و الصوم و المواريث و النكاح و الطلاق، و رفعوا ما كان و وضعوا ما لم يكن، و شهادة اللّه لهم بخلاف قول هؤلاء فيهم.
و أنت و إن كنت قد عرفك اللّه بعقلك بطلان دعاويهم عليهم فاعرفه أيضا بالسمع، فقد أتاك اللّه به في غير موضع من القرآن و من غير القرآن. و في قوله عز و جل: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» «1» دلالة أيضا على طهارتهم و عمق إيمانهم و براءة ساحتهم، فهم أظهروا الدين، و أخذوا الممالك و الأمصار ممن قبلهم، و الذين من بعدهم إلى طاعتهم رجعوا، و بأمرهم سفكوا الدماء، و بقولهم أخذوا و أعطوا، فلو كانوا مبطلين لما كان الظاهر هو دين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على الدين كله، بل كان ما ذهب اليه هؤلاء الصحابة ظاهرا، و دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الذي تدعيه الرافضة خاملا خفيا ميتا، فإن الذي يقول الإمامية أنه الحجة و أن الحق معه قد كان مغلوبا مقهورا، قد أسكته بزعمهم الخوف عن النطق بالحق و الدعاء إلى دين النبي، و ألجأه إلى تصديق الكاذبين و تكذيب الصادقين، و موالاة المشركين. و الذي قرّره هؤلاء الصحابة من الدين و الشريعة و القرآن هو الظاهر على الأديان، القائم به الحجة إلى الآن.
__________________________________________________
(1) التوبة 33، الفتح 228 الصف 9
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:355
(1/369)
فإذا قد أخلف هذا الوعد من قوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»، فاعلم ذلك ففيه أتم كفاية.
و هم يقولون: ما ظهر بعد، و إنما يتم ظهوره بقيام صاحب الزمان. و جواب هذا: السكوت عنه و التعجب منه، فإنه ليس مع المكابرة مناظرة.
و قد علم المتأمل كذب من ادّعى أن دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان في زمن أبي بكر و عمر و عثمان ذليلا ميتا قد أطفى ء نوره و قلعت أصوله./ و قد علمنا أن في زمان هؤلاء كسرت الأصنام، و هدمت بيوت النيران و تعطل «1» النوروز و المهرجان و عيد السلامة و عيد الصليب، و تمزق التقويم «2» و كسر الاصطرلاب، و لما انضاف إلى ذلك من جميل أفعالهم فقد تيقّنّا أن هذا هو المراد من دين الإسلام و هو معنى ظهوره.
و من عجيب الأمور أن أصحاب الزنجاني القاضي قد تستروا بالتشيع، و هم من عداوة النبي صلّى اللّه عليه و سلم و الطعن عليه و إخراج الناس من دينه بكل حيلة، إذا أرادوا التشفي منه قالوا لنا: الآن انحلّ أمره و بطل دينه، و أوردوا ما قد ظهر من تعطيل الحدود و أخذ المكوس و ارتكاب المحرمات و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و يقولون: انظروا إلى وجوه قريش و اعتصامهم بالتقويم و الاسطرلاب، و رجوعهم إلى أرباب هذه المقالات، و تدبرهم بهم دون الاستخارة بالقرآن و الرجوع إلى وصايا نبيهم، و غير ذلك مما قد ارتكبه الملوك و الخاصة. و لو استطعنا تسمية أصحاب الزنجاني و ذكر القرشيين الذين
__________________________________________________
(1) في الأصل: تعطيل
(2) في الأصل: تمزيق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:356
قد سلكوا هذه السبيل و الأمصار التي غلب عليها هذا لكان أشفى و أبين، و لكنا لا نقدر على ذلك من الخوف، و اللّه المستعان.
و باب آخر [حول الآية الكريمة «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»]
(1/370)
من آياته، لما أنزلت: «و أنذر عشيرتك الأقربين»، فجمعهم و قام فيهم و خطبهم و دعاهم إلى مفارقة دين آبائهم، و ذكر لهم مالهم في ذلك من نعيم الجنة إن أجابوا، و ما عليهم من عاجل العقاب إن أبوا، و أن اللّه يبعث عليهم جندا من جنوده يجاهدونهم مع رسوله و نصرة لدينه مع ما عليهم من عاجل «1» العقاب، فغضبوا و نفروا و مشوا إلى أبي طالب يشكون و يتوعدون، و أنهم أكثر جندا. و قد ذكر اللّه ذلك في قوله حاكيا عنهم:
«أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» «2» إلى قوله: «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ»، و هذا نزل بمكة قبل الحرب فكان كما قال، فانظر في أي حال توعدهم بهزيمتهم، و على أيّ وجه أورده على قلوبهم و أثارهم و غاظهم و أوجعهم، فإنها حال كان فيها في قبضتهم و أسيرا في أيديهم، و هم القوم الذين لا صبر لهم على ضيم، و لا ينامون على وتر، و لا يقيمون على مكابرة الغيظ، كيف يقصر اللّه أيديهم عنه، و يقيه كيدهم و شرهم، و تلك حالهم، فاحفظ هذا و أمثاله.
و اعلم أن أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم اجتمعوا و جمعوا كيدهم و قرؤوا كتابه، فزعموا أنه صلّى اللّه عليه و سلم في ابتداء أمره و هو مقيم بمكة ما خالف قومه
__________________________________________________
(1) في الأصل: من أجل، و لعل الصواب ما أثبتناه
(2) سورة ص 5
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:357
(1/371)
و لا أغضبهم و لا أغاظهم، بل كان مصوّبا و مقاربا لهم، ألا ترون أنه قال لهم: «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «1» و أنه قال لهم: (لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ) «2». قالوا: و إنما توعد بالحرب و زال عن هذا حين صار بالمدينة و في جماعة. و هذا يقوله ابن الراوندي حين اجتمع مع لاوى اليهودي، و ساعدهما أمثالهما من الأشقياء حين نظروا و دبّروا و كادوا المسلمين، فانصرفوا عن الضرورات بالتأويلات و سمّوا الكتاب الذي ضمنوه هذا و أمثاله كتاب الدامغ «3».
و كل عاقل سمع الأخبار يعلم علما يقينا لا يرتاب به، أنه صلّى اللّه عليه و سلم حين ادّعى النبوة و ساعة انتحل الرسالة كاشف بدعوة الاخلاص، و أكفر كلّ من خالفه، و ادّعى أنه يظهر و يغلب، و أنه يصير في جماعات و عساكر، و أنه يقتل أعداءه و مخالفيه و يذلهم، و أن العقبى تكون له. ثم أكّد ذلك بأن جعله قرآنا يتلى.
فمما نزل بمكة من ذلك، قوله: «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ» «4»، و قوله: «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» «5»، و قوله: «وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» «6»،
__________________________________________________
(1) سبأ 24
(2) القصص 55
(3) كتب في هامش الأصل: كتاب الراوندي، و قد سبق أن عرفنا به. انظر 1: 51 من الكتاب.
(4) القمر 44
(5) ص 11
(6) يونس 65
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:358
(1/372)
أي تغلب و لا/ تغلب، و قوله: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» «1» إلى قوله: «وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ»، فإنهم قد كانوا بمكة يقاتلون أشد القتال، و كانت محنة المسلمين فيها أغلظ، فإنهم كانوا يضربون و يداسون و يحبسون و يجتمع النفر بعد النفر منهم فيدفعون عن أنفسهم، سيّما حين أسلم عمر، فإنهم عزوا به و نهنه عنهم قليلا، ثم ما أطاقوا المقام. و أمثال هذه من الآيات مما نزل بمكة كثير.
ثم في قوله: «وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» إكذاب لهم و تضليل لهم، و هو كقول الرجل لخصمه إذا أراد الرفق به لينقاد له و لينظر فيما معه إذا كان مدلا بحجته: أحدنا مبطل و أحدنا ضال هالك، لا يشك عاقل أن هذا تعريض بخصمه.
و كذا قوله: «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ» هو في هذا القول أشد ما كان في في إقامة الحجة عليهم، فتأمل قوله عز و جل: «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» «2» إلى قوله: «وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» إلى ما بعد ذلك، و إنما هو كقول الرجل لخصمه إذا ظهرت حجته و اتضح قوله و بان بطلان ما أتى به خصمه: ما بعد هذا كلام، و ما بعد هذا مقال، و ما بيننا حجة. و ما يحتاج إلى شاهد و لا دليل.
فمن أبين فضيحة ممن طعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بمثل هذا بعد أن جمعوا كيدهم و استفرغوا وسعهم، و لكنهم لشدة إفلاسهم و قلة حيلتهم و خيبة
__________________________________________________
(1) الحج 39
(2) الشورى 15
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:359
سعيهم لم يجدوا في الطعن عليه إلا التكذّب عليه و البهت له.
(1/373)
و هم الذين قالوا في قوله: «وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ» «1»، قالوا: قد أظهر الشك في أمره و رجع عن قوله، و كل عاقل سمع أخباره يعلم باضطرار من قوله و قصده أن لا حقّ إلا ما كان معه/ و منه و من عنده و مع أتباعه إلى يوم القيامة، يعلم هذا من قصده قبل العلم بنبوته، و لهذا نظائر مما يذكرونه، و إنما ذكرت هذا لك لتعرف مقدار كيد الخصوم و ظهور فضيحتهم، و هؤلاء هم الغايات في التجريد في طلب معايبه و التفرغ لذلك، يمدّ بعضهم بعضا و يعين بعضهم بعضا، و لهم من يزيح عللهم بالأموال من من اليهود و النصارى و غيرهم من أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ممن يتستر بالتشيع، فقد كانوا يأخذون ابن الراوندي و أمثالهم، فيزيحون عللهم، و يجمعون الكتب لهم، و يأتونهم بمن يعينهم و يكتب عنهم و لهم.
و باب آخر [حول الآية الكريمة «وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ»]
مما جاء من آياته، و ما أخبر به عن سلامته و قيام حجته و ظهور أمره و دينه على الدين كله، قوله في سورة بني إسرائيل و هي مكية: «وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً، وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً»، «2» فتأمل ما في هذا القول من امتهان الخصم و إذلاله و تهيجه و إغضابه و إثارته و العلو عليه، و أنه مفتضح لا حجة معه و لا حراك به، و هم أشد الناس حرصا على
__________________________________________________
(1) الاحقاف 9
(2) الإسراء 81
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:360
تكذيبه و فضيحته و استئصاله و إطفاء نوره.
(1/374)
و مثله قوله: «قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ» «1» أي: قد أخرسهم حقك و أسكتهم و أماتهم فما يجدون سبيلا إلى تكذيبك، و هذا أشد على قريش و العرب من ضرب السيوف و وقع السهام، و هم المعروفون بغلظ الأكباد و الفرار من العار.
و مثله قوله: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» «2» و قوله: «وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» «3»، فتأمل في هذا فإنه قول مختصر و فيه معان عظيمة، و لقد قال/ صلّى اللّه عليه و سلم: (أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي اختصارا).
و لو بلغهم دون هذا عن ملك الصين أو الروم لما صبروا حتى يذبّوا عن مجدهم و ينضحوا عن أنفسهم، فكيف عمّن هو معهم و في قبضتهم و منهم، و قد ادّعى ما فيه كل الرئاسة و السؤدد، و ما ترك شيئا يغيظهم و يغضبهم و يسقط من أقدارهم و أقدار آبائهم إلا و قد أتى به و ارتكبه، و ألجأهم إلى تكذيبه و إقامة حجة عليه، فما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
و لقد كان يبلغهم أن كسرى ملك فارس يسفه أحلام العرب و يستخف عقولهم، فيقلقهم ذاك و يحزنهم، و يرسلون إليه من يستأذنه في النطق بين يديه فيما بلغهم عنه، و لا يصبرون و إن كانوا مقهورين مغلوبين و الملوك تتحيّفهم و تستركهم «4»، و ليس أحد يبكي من الهجاء و يحزن من الضيم
__________________________________________________
(1) سبأ 49
(2) النمل 80
(3) فاطر 22
(4) هكذا في الأصل و لعلها تسترقهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:361
غير العرب و سيما قريش، فكيف بهم مع رجل يقيم على هجومهم خمسا و عشرين سنة بكتاب يتلو فيه ليلا و نهارا مثل قوله: «أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ»،»
(1/375)
و قوله: «أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» «2» و مثل قوله: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ» «3»، و مثل قوله: و «لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» «4»، و مثل هذا كثير، فتأمل تجده، و تأمل ما في هذا من الادلال بالحق و الدعاء إلى البحث و النظر، و عرض ما معه على عقول العقلاء لينظروا/ فيما أتاهم به، و المبطل لا يفعل هذا.
فتأمل مذاهب النصارى و المجوس فإنهم يمتنعون عن البحث و النظر و التفتيش و القياس، و كذا يصنع الفلاسفة، فإنهم ينهون أصحابهم عن المتكلمين و يقولون: هؤلاء سوفسطائية، و يقتصرون على الرضا عن أنفسهم و العجب بما معهم.
و انظر إلى هذه الطائفة: القرامطة التي قد طبقت الأرض، و فيها الملك، و استهوت الأمم، كيف يحلفون من يجيبهم على كتمان ما يلقونه إليه، و أن لا يخرج به إلى أحد، و لا يشكو ما به إلى أحد، و لا يعرض ما معه على أحد لينظر
__________________________________________________
(1) الجاثية 43
(2) الفرقان 43
(3) البقرة 171
(4) الأعراف 179
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:362
ما عنده، هذا مع الملك القاهر و التستر بالاسلام، فتأمل ما في هذا.
(1/376)
و لقد ضاقت قريش ذرعا بما يسمعونه منه صلّى اللّه عليه و سلم ليلا و نهارا، و يتربصون به الموت فلا يموت، و يرومون قتله مع وحدته فلا يتم. فأجمع رأيهم على هجرته و هجرة الأدنين من بني هاشم، مؤمنهم و كافرهم، إلا من جرّد في قصده مثل تجريدهم، و ترك مبايعتهم و مناكحتهم، و منعهم من ابتياع ما يؤكل و يشرب، و التضييق عليهم و الإساءة إليهم، و حصرهم في شعب من شعاب مكة، حتى يقتلوا محمدا أو يسلموه اليهم حتى يقتلوه أو يمثلوا به. و تحالفوا على ذلك، و كتبوه في صحيفة علقت في بيت اللّه الحرام بمكة. فمكث صلّى اللّه عليه و سلم و من معه من أهله في ذلك الشعب أربع سنين متواليات في الحصار الشديد، لا يدخل إليهم ما يتقوتونه إلا بالحيلة و المسارقة، و لا يقدر أن يخرج منهم إنسان في حاجة إلا عن غفلة من المشركين أو ليلا.
و قد شملهم الخوف فلا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، و أهله/ يتضرعون إليه بأن يلين لقومه من قريش و، يمسك عن عيب آلهتهم، أو يرجع عن تضليل آبائهم، و يخوفونه فلا يلين، و لا يزداد إلا شدة و صرامة. ثم أخبرهم بعد أربع سنين: أن ربي أوحى إليّ أني قد سلطت الأرضة على الصحيفة التي كتبها المشركون فأكلت كل موضع منها فيه ذكر عقوق أو قطيعة و تركت ما سوى ذلك، فقال له عمه أبو طالب و كان كافرا مقيما على دين قريش: يا ابن أخي، انظر ما تقول، فإني لست آمن إن لم يكن الأمر حقا أن يشتد علينا قومنا و يزيد أذاهم لنا، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: ما قلت لك إلا حقا، فامض لشأنك.
فنزل أبو طالب و قريش في أنديتها، فلما رأوه قالوا له: نرجو أن تكون يا أبا طالب جئت لصلاح و خير، و أن يكون ابن أخيك قد أقصر عن شأنه و ما نكره من أمره، قال أبو طالب: للخير و الصلاح جئت. فلما استقر به مجلسه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:363
(1/377)
قال: إن محمدا أخبرني، و و اللّه ما كذب قط قبل أن يقول إن ربه أرسله فكيف الآن، إن ربه أوحى اليه في هذه الليلة أنه سلط الأرضة على الصحيفة التي تمالأتم على كتبها علينا فأكلت منها كل موضع فيه ذكر عقوق و قطيعة و مأثم، فانظروا فيما ذكر، فإن كان الأمر على ما قال فعلام تستجيزون ما أنتم عليه.
فأحضرت الصحيفة و فتحت، فوجد الأمر على ما أخبر به النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن ربه، فخزي المشركون، و فرح المسلمون، و فرّج اللّه عن بني هاشم، فخرجوا من الحصار الذي كانوا فيه، و عادوا إلى ما كانوا عليه، و كان هذا من الفتوح العظيمة.
و الأمر في شأن هذه الصحيفة معروف، يعرفه أهل العلم كمعرفتهم بما كتبه النضر بن الحارث بن كلدة من أخبار رستم و اسفنديار «1»، حين دخل/ إلى الفرس يشكو إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يأتي بما يعارض به القرآن. و كالعلم بما كتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى كسرى ملك فارس مع عبد اللّه بن حذافة السهمي «2»، و بما كتبه إلى قيصر مع دحية بن خليفة الكلبي «3» و بما كتبه إلى المقوقس ملك مصر مع حاطب بن أبي بلتعة «4»، و بما كتبه إلى النجاشي ملك الحبشة. فأهل العلم لا يرتابون بشي ء من أمر هذه الصحيفة، كما لا يرتابون بما قدمنا ذكره. فاعرف
__________________________________________________
(1) النضر بن الحارث هو ابن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف، كان إذا جلس النبي صلى اللّه عليه و سلم مجلسا جلس النضر بعده فحدث بأخبار ملوك فارس و رستم و اسفنديار. مات على الشرك سنة 2 ه.
(2) هو عبد اللّه بن حذافة بن قيس السهمي، صحابي أسلم قديما و بعثه النبي إلى كسرى، هاجر إلى الحبشة و حضر فتح مصر و توفى بها أيام عثمان سنة 23 ه. الاعلام 4: 206.
(
(1/378)
3) هو دحية بن خليفة الكلبي، صحابي بعثه الرسول إلى قيصر يدعوه للاسلام، حضر كثيرا من الوقائع، نزل دمشق و سكن المزة و توفي سنة 45 ه. الاصابة 1: 472.
(4) هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعثه الرسول إلى المقوقس صاحب الاسكندرية، توفى سنة 30 ه. الاصابة 1: 300.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:364
هذا فإنه باب من أعلامه، و لا تظنه من أخبار الآحاد و النفر، و إنه جاء مجي ء ما قدمنا ذكره من تلك الأمور التي جاءت مجي ء القرآن، و لها نظائر.
و إنما أردنا ذكر شدة قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المسلمين تلك السنين، فقد كانوا منهم في مثل النار المتأججة.
(1/379)
و استأذن الصحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في الهجرة و الفرار لما يلقون من الأذى، فأذن لهم، غير أبي بكر، فإنه احتبسه لنفسه، و قال له: أقم عليّ، فلعل اللّه يأذن لي في الهجرة فتكون معي، فأقام. و مات أبو طالب، و اشتدت قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قالوا: إلى كم نصبر على سبّ محمد لنا و لآبائنا و آلهتنا، و إلى كم لا نناجزه، فإما حبسناه، أو أخرجناه إلى حيث نرى، أو قتلناه، خذوا فيما يريحنا منه، و قدموه و لا تؤخروه. فاجتمعوا و دخلوا دار الندوة، و كتموا سرهم، و لم يدخل معهم إلا من انتخبوه من ثقاتهم. فقال قائلهم: انظروا في شأن هذا الرجل، فو اللّه ليوشكنّ أن يواتيكم في أمركم بمن قد بايعه من أصحابه،و قد تسمعون وعيده، و أنه يملككم و يملك الأرض. فقال قائل منهم: شدوه وثاقا و احبسوه، فيكون أسيرا في أيديكم إلى أن يموت، و قال بعضهم: أخرجوه من بين أظهركم لتستريحوا منه؛ و قال قائل ليس هذا/ برأي. حتى قال أبو جهل: فإني أشير برأيي: أرى أن يؤخذ من كل قبيلة غلاما شابا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، فيضربونه ضربة رجل واحد حتى يقتلوه، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن بني هاشم يقومون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فوديناه لهم «1»، و قطعنا عنا شأفته و استرحنا منه.
__________________________________________________
(1) أي قبلوا أن يأخذوا ديته
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:365
(1/380)
فأجمعوا على هذا الرأي، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يعلم ذلك، و لا أحد من المسلمين. فأتاه جبريل فأخبره بما عزموا عليه، و أمره بالهجرة. فاجتمعوا ببابه ينتظرون اجتماع الفتيان ليقتلوه في ليلته، فخرج و هم ببابه و هو يتلو: «وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» «1» و جعل على رؤوسهم التراب، و مضى إلى بيت أبي بكر في الهاجرة، و قد كان يأتيه في كل يوم مرة، فأتاه في ذلك اليوم مرتين: في الهاجرة و في ساعة مبكرة، و خلا بأبي بكر و أخبره بما عزمت عليه قريش، و بما أتاه جبريل به، و قال له: إنّ ربي قد أمرني بالهجرة و أن آخذك معي، فبكى أبو بكر مسرورا.
و قد كان أبو بكر أعدّ راحلتين يعلفهما ورق التمر منذ أخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بأنه ينتظر أمر ربه في الهجرة. فخرجا جميعا من بيت أبي بكر، و صار إلى الغار، و طلبته قريش فلم تجده صبيحة ذلك اليوم، و طلبت أبا بكر فلم يجده، فتحرقوا و التهبوا، و هاجوا يطلبونه و يطلبون أبا بكر بمكة و شعابها و جبالها، و جعلوا لمن أتاهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مائة ناقة، و لمن أتاهم بأبي بكر مائة ناقة، أسيرين أو مقتولين. و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه تغشّ: ببردي و نم في مضجعي فإنه لا بأس عليك، و لن يصلوا إليك. و صار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبو بكر إلى الغار، و سارت قريش في طلبهما و معهم قائف «2».
و حين دخل/ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أبو بكر الغار، ضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض، فلما انتهوا إلى فم الغار و معهم القائف يطلب آثارهما، فلما انتهى إلى ثور انقطع الأثر، فقال قائل منهم: ادخلوا الغار،
__________________________________________________
(1) ياسين 9
(2) هو الذي يقتفي الأثر
(1/381)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:366
فقال أميه بن خلف: و ما أراكم للغار، إن عليه لعنكبوتا كانت قبل ميلاد محمد، فمذ ذاك نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن قتل العنكبوت، و قال: إنها جند من جنود اللّه. و تحرق أبو جهل على فوات النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و استبد أسفه، و قال: أما و اللّه إني لأحسبنه قريبا يرانا، و لكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا «1».
صفة حديث الغار من الجمع بين الصحيحين:
قال أبو بكر: أسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، و خلا الطريق، فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد، فعولنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول اللّه و أنا أنقض لك ما حولك. فنام، و خرجت أنقض ما حوله «2»، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردناه، فلقيته، فقلت: لمن أنت يا غلام، فقال لرجل من أهل المدينة، فقلت أ في غنمك لبن، قال: نعم، قلت: أفتحلب لي، قال: نعم. فأخذ شاة فقلت له: انفض الضرع من الشعب و التراب و القذى، قال: فرأيت البراء يصرف بيده على الآخرى ينفض، فحلب لي في قعب معه كتبة «3» من لبن، قال: و معي أداوة أرتوي فيها للنبي صلّى اللّه عليه و سلم ليشرب منها و يتوضأ، قال: فأتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلم و كرهت أن أوقظه «4» من نومه، فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت يا رسول اللّه، اشرب من هذا اللبن، قال: فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن
__________________________________________________
(1) كتب الناسخ معلقا: من غير نسخة الأصل
(2) كتب في هامش الصفحة: حاشية، نقض الأرض، أي: ينظر هل فيها ما يخاف منه
(3) جاء في اللسان: الكتبة: السير الذي تخرز به الزادة و القربة
(4) في الأصل: أيقظه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:367
(1/382)
الرحيل، قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعد ما زالت الشمس.
و اتبعنا سراقة بن مالك و نحن/ في جلد من الأرض «1» فقلت يا رسول اللّه أتينا، فقال: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» «2» فدعا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فارتطمت إلى بطنها أذى، فقال: إني قد علمت أنكما دعوتما عليّ فادعوا اللّه لي، فاللّه لكما عليّ أن أردّ عنكما الطلب. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم ما هاهنا، و لا يلقى أحدا إلا ردّه، ثم قال: و هذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر بإبلي و غلماني في مكان كذا و كذا فخذ منها حاجتك، قال: لا حاجة لي في إبلك. فقد منا المدينة ليلا، فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال: أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب، أكرمهم بذلك.
فصعد الرجال و النساء فوق البيوت، و تفرق الخدم و الغلمان الطرق ينادون:
ايا محمد، يا رسول اللّه، جاء محمد، جاء رسول اللّه «3».
فهذا من آياته العظيمة الباهرة، قد نطق بذلك القرآن، فقال عز و جل:
«وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «4».
و لقد يئست قريش من رسول اللّه، و قالوا إنه لا محالة مقتول، لما لجّ المشركون و ألحوا و قصدوا لهذا الكيد. و قد كان فيهم من يكره أذاه و العنف به
__________________________________________________
(1) أرض جلد: أرض صلبة مستوية المتن غليظة اللسان
(2) التوبة 40
(3) صفة الغار من نسخة غير نسخة الأصل، فقد أشار الكاتب إلى أن نسخة الأصل تبدأ من كلمة: فهذا
(4) الأنفال 30
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:368
(1/383)
و إن لم يصدقه، منهم جبير بن مطعم «1»، فإنه كان عنده أنهم سيقتلوه، فخرج حتى لحق بدير من الديارات فكان فيه حتى لا يشهد قتله. فأقام عندهم، فسألوه عن خبره و لأي شي ء أقام عندهم، فأخبرهم، و قص عليهم قصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ساق دعوته. فعجبوا لذلك، و قال له رئيسهم: تعرف شبهه لو تراه مصورا، فقال: نعم، إنما عهدي به قريب. فأراه صورا مغطاة، فجعل يكشف صورة صورة فيقول: أتعرف، فيقول: لا، حتى كشف عن مثل صورته، فقال جبير: ما رأيت شيئا أشبه بشي ء من هذه الصورة به، كأنه طوله/ و حسنه و بعد ما بين منكبيه. فقال له الرئيس: فتخاف أن يقتلوه، فقال:
أظنهم قد فرغوا منه، فقال له الرئيس: لا و اللّه لا يقتلونه، و ليقتلن منهم من يريد قتله، و إنه لنبي، و ليظهرنّه اللّه، و لكن قد وجب حقك علينا فامكث ما بدا لك. فمكث عندهم حينا.
ثم قدم مكة، فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد نجا من أيديهم و هرب إلى المدينة، فتعجب من قول رئيس الدير، و ازداد بصيرة بشأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فقالت له قريش حين قدم مكة و قد خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و نجا من كيدهم: قد تبين لنا أمرك، و عرفنا شأنك، هلم أموال الصبية التي عندك التي استودعكها أبوك، قال: ما كنت لأفعل هذا حتى أموت، يعيّر بها ولدي في أمانة، و لكن أدفعها اليهم. فقالوا: إن عليك عهدا للّه و ميثاقه لا تأكل من طعامه، قال:
نعم.
فقدم المدينة و قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الخبر، فدخل عليه فقال له فيما
__________________________________________________
(1) هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي، صحابي جليل، كان من علماء قريش و سادتها و نسابتها، روى الحديث عن رسول اللّه. توفى سنة 59 ه. الأعلام 2: 103
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:369
(1/384)
يقول: إني لأراك جائعا، هلموا طعاما، قال جبير: لا آكل حتى أخبرك، فإن رأيت أن آكل أكلت. فحدثه بما أخذوا عليه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:
فأوف بعهد اللّه و لا تأكل من طعامنا و لا تشرب من شرابنا. و تحدث جبير بحديث أهل الدير و ما كان من الصورة، و أنه رأى مع صورة النبي صورة أبي بكر قد أخذ بعقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: فقال أهل الدير: فهل تعرف هذا الذي أخذ بعقبه، قلت: نعم، قالوا: نشهد أن صاحبكم نبيّ و أن هذا الخليفة من بعده.
و لعظم شأن هذه الآية ما قد أعاد اللّه ذكرها، فقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «1» فذكر المؤمنين بهذه الآية، و عظم هذه المعجزة، و ما احتملت عليه، مع نجاته منهم، و ما أغشى أبصارهم حين خرج و هم ينظرونه، و سلامة عليّ رضي اللّه عنه كما قال له، و ما كان من نسج العنكبوت. و في الحديث الصحيح، أن أبا بكر نظر إلى أقدام المشركين فقال: يا رسول اللّه، لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لأبصارنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما.
(1/385)
و انظر إلى قوله عز و جل: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ»، أي: فقد عرفتم نصري له حين هاجرتم و تركتموه مع صاحبه وحيدين، فأبطلت كيد المشركين مع
__________________________________________________
(1) التوبة الآيات 38، 39 ... دلائل- 24
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:370
كثرتهم و وحدته، و صدقت وعدي بمنعي عنه و عصمتي له، و أكذبت أقاويلهم، و هو معنى قوله: «وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» فتأمل هذا ففيه آيات بينات باهرات، و هذا الخطاب و العذل و الاستزادة إنما هي للمؤمنين. ألا تسمع قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا». و أيضا فلا يجوز أن يقول للعدو: «إلا تنصروه».
و لقد قال العلماء من السلف: إن اللّه أفرد أبا بكر الصديق بفضل الصبر على جميع المؤمنين من غير تأثيم لهم، كأنه يقول: لو صبرتم مثل صبره و لم تترخصوا لكان ذلك أفضل، فإن أبا بكر يفضل صبره عليهم. و قوله:
«لا تحزن» ليس بنهي، و إنما هو بشرى، كقوله لموسى و هرون: «لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى » «1» و كقوله لأم موسى: «وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» «2» و قوله: «إن اللّه معنا، بالنصر و التأييد، كما قال: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» «3». و أبو بكر في هذا الحزن ممدوح لأنه خاف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الأذى و العنف من المشركين، فجازاه اللّه بأن بشره أنه/ معهما بالنصر و التأييد. قال أهل العلم في قوله: «فأنزل اللّه سكينته عليه»، يعني على أبي بكر، فأما النبي صلّى اللّه عليه و سلم فقد كانت السكينة عليه قبل ذلك.
(1/386)
و من حديث عبد الملك بن عمير، عن أسيد بن صفوان، أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال و هو يثني على أبي بكر حين توفى: كنت ثاني اثنين، و صاحبه، و المنزل عليه السكينة، و رفيقه في الهجرة و المواطن الكريمة. و قالوا
__________________________________________________
(1) طه 46
(2) القصص 7، و في الأصل: لا تخافي إنا رادوه ...
(3) النحل 128
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:371
في قوله: «و أيده بجنود لم تروها»: إنه أيد أبا بكر كما يؤيد المؤمنين من غير أن يروهم، و بشره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بذلك فعلمه و تيقنه بتعريفه إياه. و إنما ذكرنا حال أبي بكر عند ذكر الآية التي هو مذكور فيها، و لأن الخصوم يسألون عن ذلك، و لحاجتك اليه، و لأن الطاعنين على أبي بكر بمثل هذا هم الطاعنون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بما قدمنا و بأمثاله من الآيات التي يسألون عنها، و جعلوا الطعن على أبي بكر و أمثاله من المهاجرين و الأنصار و آكد الطرق إلى تكذيبه، و الطعن عليه، و الإيحاش منه، و التنفير عنه، و أيسرها التشكيك في صدقه و نبوته، و هم: أبو شاكر الديصاني، و أصحابه: الحداد، و أبو عيسى، و ابن الراوندي، و الحصري «1» و لكلهم كتب في الطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و في نصرة الإمامية و طبقات الرافضة، و لأن الطريق في العلم ببراءة أبي بكر و المهاجرين و الأنصار مما رموهم به، كالطريق في العلم ببراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مما رموه به.
و باب آخر [ما في الآية الكريمة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» من وعد تحقق ]
(1/387)
من آياته، قوله عز و جل لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» «2»، و معاد الرجل بلده، و سمي معادا لأنه ينصرف في البلاد و يضرب في الأرض ثم يعود إليه، و كذلك مثاب الرجل منزله، لأنه يثوب اليه «3». و منه قول اللّه عز و جل: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً» يريد أنهم يثوبون اليه كل سنة و في كل حين، أي يعودون للحج و العمرة. و هذه
__________________________________________________
(1) سبق التعريف بهؤلاء الكتاب فيما مر من الكتاب
(2) القصص 85
(3) كتب في هامش الصفحة: معاد الرجل بلده، مثاب الرجل منزله
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:372
الآية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين خرج من مكة يريد المدينة، فكان خروجه منها محزونا لمفارقة وطنه، فبشره اللّه بالظهور و الغلبة، و أعلمه أنه يعود إلى مكة، فكان كما قال و كما أخبر.
و باب آخر [ما في الآية «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ...» من تحد دائم لم يستطع أحد الوقوف أمامه ]
من آياته، و هو قوله عز و جل: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» «1»، فما أتوا بمثله مع حاجتهم إليه، فانظر كيف يقطع الشهادة أنهم لا يأتون بمثله، و هذا من التحدي المهيج الذي يغيظ و يغضب، و في هذا غيوب كثيرة لا يأتي بمثلها حذاق المنجمين و لا يتفق مثلها بالتبخيت و لا بالتخرص «2».
فإن قيل: فما تنكرون أن يكونوا قد أتوا بمثله، قيل له: لو أتوا بمثله لجاء ذلك مجي ء القرآن، و لكان العلم به كالعلم بالقرآن، و لجاء مجي ء أمثاله من الأمور التي كانت بينهم و بينه، و ما قاله لهم و قالوه له.
(1/388)
فإن قيل: فإن الغلبة و الدولة منعت من إظهار ذلك و نشره و نقله و التحدث به لأنه ظهر و قهر في حياته، و قام أبو بكر بعده فقتل مسيلمة، و ردّ الردة، و أسر طليحة، و غزا فارس و الروم، و أذل أعداء محمد صلّى اللّه عليه و سلم في كل مكان، و أسكتهم و أخرصهم «3»، و أعز أولياءه و أهل طاعته، و كذا من أتى بعده من
__________________________________________________
(1) البقرة 127
(2) التبخيت من البخت بمعنى الحظ و الصدفة
(3) أخرصهم: أكذبهم، و الخراصون: الكذابون اللسان: مادة خرص
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:373
الخلفاء و الملوك، و بعد، و كيف تنقلون ذلك و تذكرونه و أنتم تكرهونه و فيه بطلان قولكم و دينكم.
قيل له: إنك ما تزيدنا على الدعاوى الخالية من كل حجة، و إذا أثبتنا لك بطلان دعواك الأولى انتقلت إلى دعوى أخرى. فإنك قلت في الأول: أتوا بمثله، فقلنا لك: فأين هو و أين العلم به، فانتقلت فادعيت أن الغلبة و الدولة/ منعت من إظهاره و نقله، فدعواك الثانية كالأولى.
على أن دليلنا هذا قد دلّ على أنهم ما أتوا بمثله، و لا بما يقاربه، و لا بما يدانيه، ما هناك شي ء ينقل و لا يذكر و لا يكتم و لا يستر، و لا فرق بين من ادّعى هذا أو ادعى أن مائة ألف قد أتوا بمثله، و إنما الدولة قهرتهم و منعتهم من إظهار ما أتوا به.
(1/389)
على أن الدول و الممالك لا تأتي و لا نغطّي على الأمور التي قد كانت و وقعت، و لا يطمع عاقل في كتمان ما هذا سبيله و إن ضره ظهوره، و ساءه انتشاره، و أسقط من قدره. ألا ترى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما ادّعى النبوة، و أكفر الأمم و فرض مجاهدتهم، و أباح دماءهم و أموالهم و حريمهم، قد ساءهم ذلك و ضرهم، و أسقط من أقدارهم، و ذهب برئاستهم؛ و قد ودوا أن ذلك لم يكن، فما كتموه، و لا طمعوا في طيّه و تزميله، بل هم تحدثوا بذلك لكل أحد، و نقلوه و عرفوه، و أدوه إلى من لا يسمعه، لأنه صلّى اللّه عليه و سلم لم يكن حين ادعى ذلك و دعا اليه له أتباع يخالدون ذلك و يدونونه و ينقلونه، و إنما كان يفعل ذلك عدوه.
و تأمل ذلك بالشعر الذي هجي به، و من هجاه من الشعراء، و ما كان له معه من ضربه و سبّه و أذيته، و من قتلوا من أعمامه و من أصحابه، و من
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:374
(1/390)
ادّعى بعده و معه النبوة، فإن المسلمين قد نقلوا ذلك و خلدوه و دوّنوه و إن غمهم و ساءهم. و انظر إلى الكتب التي صنفت في تكذيبه و في الطعن عليه و على إخوانه من الأنبياء، التي صنفت في دولة الإسلام، و أشد ما كان الإسلام شوكة و غلبة، كالتي عملها الحدّاد و الورّاق و ابن الراوندي و الحصري و الكندي و الرازي و أمثالهم «1»، و ادّعوا أن فيها الحجة و البرهان في إبطال الربوبية و تكذيب الأنبياء. و أنت تراها مبثوثة ظاهرة. تباع في أسواق المسلمين، لا يسقط منها حرف. و المسلمون/ كلهم قد كرهوا ذلك و غمّهم، و ودّوا أنه لم يكن، و إنما كان يضعها الواحد بعد الواحد مستخفيا خائفا لا يظهر ادعاءها، و لا يعلن وضعه لها، بل يكتم اسمه و يكنى عن ذكره، و إنما يلقيه إلى الواحد بعد الواحد من أمثاله، كما صنع أبو عيسى بكتبه، و ترجمتها تصنيف الغريب المشرقيّ، و هي من الظهور اليوم على ما ترى، حتى إنها لتبلغ مشارق الأرض و مغاربها. فالعدو ينشرها للاحتجاج بها، و المسلمون ينشرونها لنقضها و الإجابة عنها. فعلمت أن الدولة و الممالك لا تؤثر في العلم بالأمور التي قد كانت و وقعت، و بهذا تعلم أنه ما كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم زلة و لا هفوة و لا سقطة و لا غدرة، و لا زلت له قدم، و لا بارت له حجة، و لا أخجله خصم. يزيدك بذلك علما، أن معاوية و أشباهه من بني أمية قد عادوا أمير المؤمنين و بني هاشم، و غلبوهم، و استولوا على ملك الدنيا، و عظموا نفوسهم بكل ما قدروا عليه، فما أمكنهم أن يجعلوا لمعاوية منزلة لم تكن له و هو سيدهم، و لا أن يجعلوه من البدريين السابقين، و لا من أهل الشجرة، و لا من أهل الشورى،
__________________________________________________
(1) سبق التعريف بمعظم هؤلاء، و أما الرازي فهو أبو بكر محمد بن زكريا الفيلسوف و الطبيب المعروف المتوفى سنة 311 ه. ابن النديم 1: 299 طبقات الأطباء: 1: 309
(1/391)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:375
و لا من المهاجرين و لا من الأنصار، و قد ودّوا أن يكون له شي ء من ذلك أو من هذه المنازل. و لا أمكنهم أن يخرجوه من جملة الطلقاء و أبناء الطلقاء، و لا أمكنهم أن يخرجوا أمير المؤمنين عن منازله: من كونه من السابقين و البدريين و الفقهاء و العلماء و الزهاد، و من العشرة و من أهل الشجرة، و من أهل الشورى، و ممن اختاره المهاجرون و الأنصار للإمامة بعد عثمان، و لا أن يغطّوا على ما سنّه عليّ و فرضه و دعا إليه، من محاربتهم و مجاهدتهم، و قد ودوا أن ذلك لم يكن، و قد ضرهم ذلك كل الضرر، فتعلم أن الدول و الممالك لا تؤثر في العلم بالأمور/ التي قد كانت و وقعت.
و تأمل ما كان لمعاوية من احتيالاته في التوصل إلى الملك، في إطعام عمرو ابن العاص مصر، و بادعائه زيادا، و بمن استماله ببذل الدنيا له، كذي الكلاع «1» و خالد بن المعمر»
، و مصقلة بن هبيرة «3»، و أشباه ذلك، و ما كان لملك ملك مما هذه سبيله.
فانظر إلى بني العباس لما غلبوا على أعدائهم من بني أمية، ما أمكنهم أن يغطوا على المحاسن التي كانت لهم، و لا أمكن أعداء بني العباس أن يغطوا على المحاسن التي كانت لهم، من إقامة المواسم و عمارة الثغور، و غير ذلك من
__________________________________________________
(1) هو سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر، من ملوك اليمن أسلم و قدم المدينة أيام عمر، و شهد اليرموك و فتح دمشق، ثم تولى قيادة أهل حمص في جيش معاوية. توفى سنة 37 ه القاموس: مادة كلع
(2) هو خالد بن معمر بن سليمان السدوسي، أدرك عصر النبوة، و كان رئيس بني بكر في عهد عمر، و انحاز إلى علي يوم الجمل و صفين، ثم ولاه معاوية إمرة أرمينية و مات في طريقه إليها نحو سنة 50 ه. الإصابة: 1: 461
(
(1/392)
3) هو مصقلة بن هبيرة بن شبل الثعلبي الشيباني من بكر بن وائل، كان من عمال علي، ثم تحول إلى معاوية. قتل في غزوة إلى طبرستان حوالى سنة 50 ه. فتوح البلدان للبلاذري 242- 243
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:376
محاسنهم. و أنت تجد ما يكون من مساوى ء الملوك، و ما يكون من غدرهم و ظلمهم، و ما يلحق كل نقص و فضيحة بهم ظاهرا في دولتهم، مع بقاء مملكتهم و اتصال عزهم. فتأمل ذلك شيئا فشيئا تجده ظاهرا مكشوفا، و إن كان ذلك مهيجا لهم، و مسقطا لأقدارهم، و قادحا في نبلهم و رئاستهم، و قد ودّوا أن ذلك لم يكن، روي عن عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه، قال:
إذا رأيت القوم ينتحون في دينهم دون الجماعة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة «1».
و تأمل أحوال هؤلاء الباطنية الذين قد تستروا بالإسلام «2»، و بقراءة القرآن، و بالصلاة و الصيام و الحج، و إظهار التحقق بأهل البيت، و قد أوثقوا أمورهم بالكتمان و بأخذ الأيمان و العهود على من أجابهم، و تجنبوا استدعاء الأدباء و العلماء و الفقهاء، و سلكوا الواسطة، و قصدوا الأطراف البعيدة التي قد استولى على أهلها الغافلة و الجهل و القوة، و قصدوا أهل الترفه و العجب و الشغل بالدنيا و الملك، و تسمّوا بالاسم الحسن من أنهم الشيعة، و غرّوا المسلمين، فانظر إلى فضائحهم مع هذه الأمور كلها.
فإن أبا القاسم الحسن بن الفرح بن حوشب/ بن زاذان الكوفي النجار «3»، عرف أهل عدن لاعة و جبال لاعة من أرض اليمن، و أنهم شيعة، فصار إليهم مع أبي الحسين محمد بن علي بن الفضل من أهل جيشان و الجند و المذيخرة من أرض اليمن «4». و كان هذا أحد المياسير و الرؤسا من الشيعة من أهل تلك
__________________________________________________
(1) جاء في الهامش: قول عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه: إذا رأيت القوم ينتحون في دينهم، إلخ ...
(2) جاء في الهامش: في ابتداء ظهور الباطنية و هم القرامطة
(3) انظر الجزء الأول من الكتاب ص 107
(
(1/393)
4) محمد بن الفضل صاحب دعوة الفاطميين في اليمن، و قد ظهرت الدعوة أول ما ظهرت في لاعة في جبل صبر معجم البلدان 5: 7
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:377
البلاد، فمكن لابن حوشب، و تساعدا على الدعوة، و كل واحد منهما بمكانه، و تسمى ابن حوشب بالمنصور من آل أحمد، و تسمى الآخر بالولي. و مكثا مدة يتستران بإقامة الشريعة، ثم ظهر منهما الإباحة، و ليلة الافاضة، و أولاد الصفوة، و نكاح الأمهات و الأخوات و البنات، و المشاركة في الزوجات، و تعطيل الشرائع، و شتم الأنبياء عند التمكن و القدرة. ثم ظهر بين ابن حوشب و بين ابن الفضل من المشاتمة، و برى ء كل واحد من صاحبه، و دعا كل واحد منهما إلى نفسه بأنه إله و ربّ، و غزا، و قصد العلويين بالمكاره و القتل و سبي الذرية.
و قد كان نصب هذين، الحسين بن أحمد بن عبد اللّه بن ميمون القداح «1» الذي زعم أنه الإمام، و هو خليفة محمد بن اسماعيل بن جعفر «2»، و قال لهذين و غيرهما ممن خرج معهما إلى اليمن: إذا ملكتم و غلبتم خرجت إليكم، و جعلنا الملك باليمن، و المهدي يظهر باليمن، و هكذا روينا عن أهل البيت.
فلما تمكنوا باليمن، أخرج اليهم ابن ميمون القداح الحسين الأهوازي الداعية من قبله، فطلب منهم مالا يحملونه اليه، فأعطوه مرة بعد مرة، ثم رجع إليهم و عرّفهم أن الحجة خليفة محمد بن اسماعيل يخرج إليهم لينصروه، فشتموه و ردوه، فقالوا: قد عرفنا أن هذا كله مخرقة، و هو عرّفنا بهذا، فلم نسلم الملك اليه، فقال لهم: على كل حال هو عرفكم هذا و خلصكم من الشرائع
__________________________________________________
(1) هو الحسين بن أحمد أبو عبد اللّه الشيعي، مهد لعبيد اللّه المهدي الفاطمي بيعة المغرب، ثم قتله عبيد اللّه سنة 298 ه.
(
(1/394)
2) هو محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق، و هو إمام عند القرامطة، و ترى الطائفة الاسماعيلية أنه قام بالإمامة بعد وفاة أبيه أو اختفائه سنة 138 ه، مات حوالى سنة 198 ه. الأعلام 9: 258
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:378
و الإسلام، فاشكروا له و أطيعوه، فشتموه و شتموا من وجّه به. فرجع الرسول إلى الحسين بن أحمد/ و عرّفه أن القوم قد أظهروا الباطن و عملوا به و فطنوا له، و تشاتموا و تفاضحوا بينهم. ثم صمد يحيى بن الحسين العلوي رضي اللّه عنه لجهاد هم. و قد كان ابن حوشب هلك و بقي ابن الفضل، فهلك هو و ابنه أمام يحيى بن الحسين العلوي كما هو مذكور، و فضائحهم مشهورة عند أهل العلم.
و من عند ابن حوشب انبثت دعوتهم باليمن و المغرب.
ثم تأمل فضيحتهم بالبحرين، فإن داعية لهم خرج إلى من بها من الشيعة، و قال: أنا رسول المهدي إليكم، و قد قرب خروجه، فأعدوا و استعدوا، و احملوا اليه زكواتكم و أعشاركم و فضول أموالكم. فاجتمعوا، و كانوا نحو ثمانمائة، و أعطوه ما طلب. و غاب عنهم و رجع اليهم و أخبرهم عن المهدي:
أن للأشياء كلها بواطن، و أن خاصة المهديّ لا يحرم عليهم شي ء، و أن المهدي قد أحل لكم كل شي ء، و أنه يحل للمؤمن أن يشارك أخاه في ماله و أصله «1»، و أن علامة إيمانه أن تطيب نفسه بذلك كله. و كان فيمن أجابهم: أبو سعيد الحسين بن بهرام الجنابيّ «2»، و كان يبيع الطعام و الدقيق بالراذة من أرض البحرين، و كان شريرا فاسقا جاهلا لا يعرف من كتاب اللّه شيئا، و لا من سنة نبيه، و لا شيئا من الأدب، و لا شغل له إلا بالمعاش.
و كان له صديق منهم يعرف بإبراهيم الصائغ داعية لهم، قد وجهوه غير مرة إلى ناحية فارس و الأهواز. و كان يظنهم شيعة، فجاء يوما إلى أبي
__________________________________________________
(1) جاء في الهامش: ليعلم أن لا يشارك
(2) جاء في الهامش: أبو الحسين سعيد بن بهرام الجنابي رأس القرامطة.
(1/395)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:379
بكر زكريا يحيى بن نبهان فقال له: اعلم أن هؤلاء القوم على ضلال، كنت مع أبي سعيد الجنابي و قد جاءه رجل من أهل جنابة يقال له يحيى بن علي، فأكلنا عنده فلما فرغنا، قام فأخرج امرأته ثم أدخلها مع يحيى هذا في بيت، و قال لها: إن أرادك الولي فلا تمنعيه نفسك فإنه أحق بك مني. فمضى يحيى ابن نبهان بإبراهيم الصائغ إلى هذا الأمير: علي بن مسمار/ فأخبره بما وقف عليه، فأرصد عليّ بن مسمار لذلك و تعرفه، فأخذ الرجل فضربه بالسوط، و حلق رأسه و لحيته، ثم خلى سبيله، و طلب أبا سعيد فهرب إلى جنابة، و بحث عنهم و عن أحوالهم فإذا هم يتسترون بالتشيع و يعطلون الشريعة. و بقي أولاد ابي سعيد و أصهاره في البحرين، فبحث الناس عن أحوالهم و أحوال بني سنبر و أمثالهم فإذا هم على هذه الحال.
ثم تمكنوا، و عاد أبو سعيد بعد أن صار إلى النيل و سواد الكوفة، و معه الدعوة و رجالها، مثل حمدان بن الأشعث، «1» و هو المعروف بقرمط، و اليه ينسب القرامطة، و خال ابن أبي المليح القرني، و خال عيدان. و قد كان بالبحرين يحيى الطمامي داعية لهم، فلما تمكن أفسد و غدر، و أظهر الإباحة، و كان شريك أبي سعيد الجنابي في الدعوة، فوثب عليه أبو سعيد و غدر به و قتله، و استولى على الأمر، و غدر بالناس لما ملكهم، و أظهر من الإباحة و تعطيل الشرائع ما هو مذكور. و قال إنه رسول الأمين الإمام حجة اللّه على خلقه، و هو محمد بن عبد اللّه بن محمد بن الحنفية، و هو مقيم في بعض هذه الجبال، و هو المهدي، و أنه في سنة ثلاثمائة للهجرة يخرج و يملك الأرض
__________________________________________________
(1) هو رأس القرامطة، اختلف في اسمه و أصله، قيل: اسمه حمدان، أو الفرج بن عثمان، الفرج بن يحيى، و قرمط لقبه. قتله المكتفي باللّه سنة 293 ه الأعلام 6: 35 و قد كتب في الهامش: داعية الباطنية حمدان بن الأشعث المعروف بقرمط.
(1/396)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:380
كلها. و كان هذا القول و الوعد من أبي سعيد في سني نيّف و ثمانين و مائتين للهجرة. و كان يقسم قصور بغداد على أصحابه، و يحلف لهم أنه يدخل بهم إليها. و يملكها. فلما كان في سنة ثلاثمائة، قتل أبا سعيد خادم كان لأبي الفضل العباس بن عمرو الغنوىّ في الحمام «1»، و كذبت أخباره، و ظهرت فضائحه، فخجلوا لذلك خجلة يالها، و تحيروا.
و قد كان علي بن عيسى بن داود بن الجراح «2» وزير المقتدر باللّه كاتب أبا سعيد يقول له: زعمت أنك رسول المهديّ، و قد قتلت العلويين، و سبيت آل الأخيصر العلويين، و من باليمامة، و استرققت العلويات، و غدرت بأهل البحرين. و قد كان حاصر أهل هجر أربع سنين و منعهم الأقوات، و حبس عنهم الماء، ثم وصل/ اليهم و ما بهم رمق فأتى عليهم، و قتلهم عن آخرهم. و قد كان صنع بأهل القطيف شبيها بذلك، و غدر بهم أقبح غدر.
فأجاب ولد أبي سعيد علي بن عيسى عن كتابه بأن أهل البحرين بغوا علينا، و غدروا بنا، و رمونا، و قالوا: إنا نشترك في أزواجنا، و نرى الإباحة و تعطيل الشريعة، و قد كذبوا علينا، و نحن قوم مسلمون و ما نحل من اتهمنا بغير الإسلام.
فكتب اليهم عليّ بن عيسى: إن كنتم صادقين فأطلقوا من في أيديكم من أسارى المسلمين، فأطلقوا منهم نحو ثلاثين ألفا، و أظهروا الإسلام و الصلاة و قراءة القرآن، و خجلوا من الفضيحة.
__________________________________________________
(1) هو العباس بن عمر الغنوي، أمير من قادة الجيش العباسي، ولاه المعتضد اليمامة و البحرين و أمره بقتال القرامطة، توفي سنة 305 ه. الأعلام: 4: 37
(2) هو ابن الجراح، علي بن عيسى بن داود بن الجراح أبو الحسن البغدادي وزير المقتدر العباسي و القاهر، توفي ببغداد سنة 334، و له كتب و رسائل متعددة الأعلام 5: 133
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:381
(1/397)
و مما كانوا يقولونه و يقوله أبو سعيد من خروج المهدي في سنة ثلاثمائة لحقهم الخجل و الفضيحة. و كان بنو بسطام، و بنو القاسم بن عبد اللّه، و العزاقريّ و أمثالهم يستولون على دولة المقتدر باللّه «1»، و كانوا يتشيعون. فراسلوا أولاد أبي سعيد و قالوا لهم: أنتم خرجتم أيام المعتضد و المكتفي، فلما صار الأمر إلى هذا الصبي المقتدر باللّه قعدتم، قوموا فنحن كتابه و أصحابه، و الدولة لكم، و لا يوحشنكم قتل أبي سعيد و ما كان منه، فإن الناس قد تناسوا ذلك.
فقالوا: هذا الرجل علي بن عيسى رجل صالح، و ما دام هو الناظر فما نختار مخالفته. فلما قبض السلطان على عليّ بن عيسى، أطلق من ببغداد و الكوفة من الشيعة الطيور إلى البحرين بذلك، فغزوا البصرة على غفلة و غدروا بهم أقبح غدرة، ثم غزوا الكوفة، و سرّ بهم الشيعة و قالوا: أبو طاهر بن أبي سعيد وليّ اللّه و حجة اللّه و خليفة المهديّ بالبحرين، يخرج عن قرب، و أبو طاهر خليفته، و هو الذي يأخذ الأرض له و يكون ملكه بالبحرين. فبادر من أهل الكوفة و سوادها خلق كثير، و قالوا: نهاجر إلى بلد المهدي قبل ظهوره، فنقلوا أموالهم و عيالهم، و من منهم ببغداد و الكوفة و سوادها يراعون أمر المقتدر، و ينقلون أخباره إلى أبي طاهر بن أبي سعيد.
و قد كان حصل لأبي/ طاهر من أموال الحجاج و الخراسانية و الكوفة و البصرة بيوت كثيرة، و أطمعه الشيعة ببغداد في السلطان، و عرّفوه ضعفه، و أن النجوم تدل على أن أبا طاهر يغلب السلطان، و أنه يدخل بغداد و يستولي على الملك. فتحمل أبو طاهر، و حمل أهله و عياله، و سار يريد بغداد، و قال:
أنا أدخلها و أدخل دار الخلافة على هذا الحمار، و أشار إلى حمار أسود كان
__________________________________________________
(1) هو جعفر بن المعتضد بن أبي أحمد المتوكل، و هو أخو المكتفي، و قد قتل سنة 320 ه، أما المكتفي فقد توفي سنة 295، بينما توفي أبو هما سنة 289 ه.
(1/398)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:382
في كراعه. و سار و نزل ظهرا بالكوفة، و لقيه بن أبي الساج فهزمه «1»، و نادى مناديه أن يكون لنا وقعة مع مؤنس الخصّى برصافة الكوفة و نهزمه «2» و يستغنى أهل الكوفة من ذلك النهب، و أسير فأدخل بغداد في يوم ثلاثاء، و في يوم طشّ «3»، و استكتب عليّ بن عيسى، و استعمل على الشرطة أبا الهيجاء عبد اللّه بن حمدان. و جلس بظهر الكوفة يقسم قصور بغداد على أصحابه، و يتماسكون و يختارون. فلم يخرج مؤنس من الكوفة و رحل من بغداد و نزل بطباطبا، و هي من بغداد على فراسخ يسيرة.
و طال انتظار أبي طاهر له، و كان من ببغداد من الشيعة قدر راسلوا أبا طاهر أنه ما بقي عند السلطان إلا مؤنس الخصي، و هو الذي يلقاك. و هو أضعف من ابن أبي السّاج بألف طبقة، و أنت تهزمه و تدخل بغداد. فصبر مؤنس و لم يبرح من طباطبا، و أبو طاهر يراسله: ما انتظارك؟ و إن كنت رجلا فابرز، و مؤنس لا يبرح. فسار أبو طاهر و عبر الفرات، و جاء فنزل بالقرب من مؤنس، فانقلبت بغداد، و عبر الكثير من أهل الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، إلا من كان من الشيعة. و انحدر كثير منهم و أحدروا عيالهم إلى البصرة. و خرج إلى أبي طاهر من أهل بغداد من الشيعة و غيرهم من الكتاب سرا، و بشروه بضعف السلطان، و أنهم قد قلبوا له بغداد بالأراجيف. و قالوا له: بغداد بلد عظيم، و إن لم ترهب أهله بالقتل لم تملكه، فقال: نبيح
__________________________________________________
(1) هو يوسف بن أبي الساج أرسله المقتدر الخليفة العباسي سنة 315 ه خماية الكوفة من القرامطة.
(2) و يلقب مؤنس بالمظفر، لكنه لم يكن مظفرا في حربه مع أبي طاهر القرمطي، و كان قائدا عاما لجيش المقتدر، و قد قتل المقتدر بعد ذلك.
(3) يوم طش، هو اليوم الممطر مطرا خفيفا انظر اللسان في مادة: طش
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:383
(1/399)
المؤمنين القتل فيه ثلاثة أيام، قالوا لا تصنع هذا، و لكن سبعة أيام، و تنظم جانبي دجلة/ بالمصلين من بني هاشم، و القراء، و الفقهاء، الذين يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فقال: كذا نفعل.
و أظهر من بالكوفة لعن بني العباس و السلف، و خرج أبو الغيث بن عبيدة العجلي في ثلاثين ألفا، و أقام أبو القاسم عيسى بن موسى حتى عيدان في البقلية أصحابه «1»، و أظهروا الخلاف، و قالوا: ظهر الحق و قام المهدي و انقضت دولة بني العباس و الفقهاء و القراء و أصحاب الحديث، و قال قائلهم: ما بقي شي ء ينتظر و ما جئنا لإقامة دولة، و لكن لإزالة شريعة. فقيل لهم: إن الخصي قد قطع قنطرة نهر بطباطبا، فقالوا: قد عبر أبو طاهر الفرات فلا يعبر نهر بطباطبا، و إنما هو كالساقية بالإضافة إلى الفرات.
فسار أبو إسحاق ابراهيم بن ورقاء الشيباني الأمير، و كان رجلا صالحا لا يعين السلطان إلا فيما يحل و يحسن. فسار إلى الفرات في السماريات «2»، و منع القرامطة من العبور و من ورود الماء، فضاق صدر أبي طاهر من تأخرهم عنه، فرحل عن مؤنس و رجع إلى الفرات، و صاعد نحو الرقة يقتل و ينهب من ظفر به، و قد ظن بعض الناس أنه كان يتوقع من بالمغرب من القرامطة أن يوافيه لوعد بينهم، فما جاءه أحد، فرجع إلى الأحساء، و كذبت أخباره تلك كلها، و كانت لهم من الفضائح ما لا يكاد يحصى.
و كان أصحابه و من بالكوفة و سوادها له على أحسن طاعة، لا يشكون أنه وليّ اللّه و حجة اللّه، فلما رجع بتلك الخيبة، و قد كذبت أخباره و أقاويله، أخذ
__________________________________________________
(1) انظر معجم البلدان 4: 171
(2) مراكب تصنع من شجر الطلح
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:384
(1/400)
خواصه يلقون إلى من معه من البوادي إذا قالوا لهم: قتلنا عيالنا و اقتسمنا قصور بغداد ثم رجعنا خائبين، و قد قتل ابن أبي الساج صناديدنا و عيون من بقي منا، فيقولون مرة: لهذا القول و هذه المواعيد باطن، و مرة يقولون: إن في كتب الحدثان و الملاحم أنا نرجع، و مرة يقولون: سرنا بأمر، و أمثال هذا من الحيل و المخاريق.
/ ثم سار من البحرين إلى مكة، فوصل اليها في عشر ذى الحجة و بها الحجاج من أهل الدنيا كلها، و الإسلام أكثر ما كان، فمنعه من بمكة من الحجاج و غيرهم من دخولها، و نقلوا صناديق البيت إلى ناحية دار ابن داود، و حاربوه أياما. فلما لم يطقهم، أظهر أنه جاء حاجا و متقربا إلى اللّه، و أنه لا يحل لهم أن يمنعوه من بيت اللّه، و أنه أخوهم في الإسلام، و أظهروا أنهم محرمون، و نادوا بالتلبية، و استدعى من قريش من أهل مكة من راسلهم بهم، هو أبو الإمام بها و القاضي في يومنا هذا، فقالوا: كيف تكون حاجا و أنت في عشية ورودك الحرم قد قتلت المسلمين، فقال: هذا كان بغير أمري و لا رضاي، و قد يكون مثل هذا من الأتباع و من معرة العساكر، و وجه اليهم بخاتمه و سوطه ليؤمنهم، و حلف لهذا القرشي بالأيمان الغليظة أنه قد أمنهم على دمائهم و أموالهم و حرمهم، و أنه لا يؤذي أحدا منهم، و أنه ما جاء إلا ليحج، إلا أصحاب الجند و السلطان فإنه لا يؤمنهم، و قال: أنا لا أغدر و لا أغر من نفسي، و لو أردت ذلك لأمنت أصحاب السلطان ثم غدرت بهم، و لكن لا أؤمنهم، لأنهم يشربون الخمر، و يلبسون الحرير، و يعينون السلطان الذي يحجب عنه الرعية، و يظلم اليتيم و الأرملة، و يشرب الخمر، و يسمع القيان. فازداد الناس به اغترارا، و قبلوا أمانه، و أفرجوا له حتى دخل، و وضعوا السلاح.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:385
فلما دخل و تمكن و سكن الناس، و ثب بهم أغرّ ما كانوا، و قال لأصحابه:
(1/401)
ضعوا السيف و اقتلوا كل من لقيتم، و لا تشتغلوا إلا بالقتل. فلم يزل كذلك ثلاثة أيام، و لاذ المسلمون بالبيت، و تعلقوا بأستار الكعبة، فما نفعهم ذلك، و قتلوهم في المسجد الحرام و في البيت، و ما زالوا يقتلونهم و يقولون لهم:
«و من دخله كان آمنا»، أفامنون أنتم يا حمير، أما ترون كذب صاحبكم.
و أمروا من يصعد لقلع الميزاب، فصعد و هو يقول مستهزئا:/ هو في السماء و بيته في الأرض. و سلب البيت، و قلع الحجر الأسود، و أبو حفص عمر ابن زرقان صهر أبي سعيد واقف حذاء البيت و السيف يأخذ الناس، و هو على فرسه يضحك و يتلو: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» حتى [وصل ] «1» إلى قوله: «وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» قال: ما آمنهم من خوفنا، ظهر الباطن يا أهل مكة، حجّوا إلى البحرين، و هاجروا إلى الأحساء من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها.
ثم أمر أصحابه بالنهب، فجمع شيئا عظيما من العين و الورق و الجوهر و الطب، و من متاع مصر و اليمن و العراق و خراسان و فارس و بلدان الإسلام كلها، و حمل مقدار مائة ألف جمل، و أحرق الباقي، و سبى من العلويات و الهاشميات و سائر الناس نحو عشرين ألف رأس، و سار إلى الأحساء، فكانت حادثة في الإسلام لم يكن مثلها قط، و أحصوا القتلى عند الدفن، فكانوا عشرين ألف و ثمان مائة. و لعلك تستكثر مائة ألف جمل لما ترى في زمانك من سوء حال الإسلام و المسلمين، و إذا تأملت الحال في ذلك الزمان استقللتها، فإن الإسلام إذ ذاك قد كان من السعة ما كان، مستوليا على الدنيا إلا القليل، و كان يسار أهله على حال عظيمة، و إذا تصورته استقللت ذلك، و إذا تأملت خراسان
__________________________________________________
(1) زيادة مني اقتضاها السياق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:386
(1/402)
وحدها، و المسلمون يصلون من نواحي الصين، ثم من نواحي الهند، و كابل ثم عمان، و مشجر عمان، ثم اليمن، و جزيرة العرب و هي أوسع من بلاد الروم، ثم المغرب من الأندلس، و القيروان، و المغرب تشبه لكثرة رجالها و جمالها و بلدانها بخراسان، و أما أذربيجان فيشبه من السعة بما يقارب فارس أو العراق، و إنما ذكرت ذلك لأنا أردنا لا نخلى ما نقوله من حجة، و إن كان الناس قد ذكروه.
فلما صار أبو طاهر إلى البحرين، سلم الأمر إلى ذكيرة الأصفهاني المجوسي «1» و جمع الناس بالبحرين، و قال: معشر الناس إنا كنا ندخل عليكم بحسب أهوائكم، مرة بمحمد،/ و مرة بعليّ، و مرة بإسماعيل بن جعفر، و مرة بمحمد بن إسماعيل، و بالمهديّ «2»، و هذا كله باطل، و هو سر كنا نكتمه و من قبلنا منذ ستين سنة، و اليوم قد أظهرناه، و هذا إلهنا و إلهكم، و ربنا و ربكم، يعني ذكيرة الأصفهاني، فإن عاقب فبحق، و إن عفا فبفضل، أظهروا اللعن على الكذابين: آدم، و نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى و محمد معشر الأجمين، يعني بالأجمعين قسّين و جنبلا «3»، و عرج عمن كان عندهم بالبحرين و من سواد الكوفة و أهل الكوفة، و قال:
معشر الدعاة و الخاصة، اذكروا ما عندكم، فذكروا معنى ما جرى بين عبد اللّه بن ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان و بين محمد بن الحسين بن جهار بخنان المعروف ببندار من أعمال الحيلة على المسلمين، و التستر بالتشيع، و الدعاء إلى المهديّ، فإذا وقع التمكن، و صاروا في ملك و سيف، أظهروا تكذيب
__________________________________________________
(1) جاء في الهامش: فلما صار أبو طاهر القرمطي الباطني الملعون إلى البحرين سلم الأمر إلى ذكيرة الأصفهاني المجوسي. انظر الكتاب 1: 106
(2) سبق التعريف بهذه الأسماء فيما مضى من الكتاب
(3) كذا في الاصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:387
(1/403)
الأنبياء، و تعطيل الشرائع، و قتلوا المسلمين، مما هو مذكور في كتاب ابن رزام، و كتاب عطية، و غيرهما من العلماء «1».
فأخذهم ذكيرة بلعن الأنبياء جهارا في الأسواق، و تقدم بإحراق المصاحف و براءة الذمة ممن ترك عنده شيئا من المصاحف أو التوراة و الانجيل و جمع هذا كله، و أمر بطرحه في الحشوش، و الاستنجاء به، و نادى بنكاح الأمهات، و البنات، و الأخوات، و ذوات المحارم، و بإباحة اللواط، و بأن تطعن البهائم في خواصرها إلى أن تموت، ثم تموت، و بأشياء كثيرة يطول شرحها، و هي مذكورة في كتب العلماء، و قال لهم: تأهبوا فإني سائر إلى العراق لاستئصال دين محمد و قتل أتباعه، فقد انقضت دولته، و قد أحييته ثلاث مرات، و استتبته من إضلال الناس فما تاب، فالعنوه و العنوا الكذابين، يعني الأنبياء. فكانت الأصوات ترتفع بذلك في الأسواق و قتل بني زرقان و بني سلمان و من وجوه عسكره في مدة ثمانين يوما سبعمائة رجل/، و أمرهم بأن يعرضوا عليه نساءهم من بيت أبي سعيد و غيره، فعرضوهن فاختار منهن من أراد، فكان فيمن اختار زينب بنت أبي سعيد امرأة عمر بن زرقان، و قد كان قتل زوجها، و كان له منها ابن، فأمر ذكيرة أبا طاهر بذبحه، فأخذه أبو طاهر خاله فذبحه.
ثم بعد مدة، قال أبو دلف لأم أبي طاهر: إن ذكيرة الأصبهاني قد عزم على قتل ابنك و إخوتك؛ و كان لأبي طاهر خمسة إخوة، و هم ولد أبي سعيد، فاتفق قتلهم له نهارا، فماج القصر لذلك، فقال لهم الحسن ابن سنبر: أغلقوا باب القصر، فأغلق، و أشرف على الناس فقال: ما لكم اجتمعتم؟ قالوا: بلغنا أنكم قتلتم الإله، قال: قد فعلنا ذاك، قالوا له:
__________________________________________________
(1) ابن رزام، عطية (الأعلام 5: 3 و 4: 239)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:388
(1/404)
و لم قتلتموه، قال: ما نريد أن نذكر لكم السبب في ذلك فأمسكوا، و قال لهم ابن سنبر: إن شئتم أن تذهبوا فاذهبوا، فما نعرفكم السبب. ثم قال لهم: يا قوم لا تفضحونا و أنفسكم، و لا تشمتوا بنا المسلمين و بكم، و ارجعوا عن جميع ما قاله لكم أبو طاهر إلى ما كنتم عليه و كنا من قبل ذلك، من أنّا أصحاب المهدي؛ و الدعاة إلى المهدي، و المؤمنون و الشيعة، فإنه كنا نحدّث أن ستكون للمؤمنين زلة و هي هذه، فاللّه اللّه في أنفسنا و أنفسكم، فما أدخلناكم في شي ء إلا بعد أن دخلنا فيه. قالوا نريد أن نراه إن كان مقتولا، و خافوا أن لا تكون حيلة من جملة حيلهم و كذبهم الذي كان لأبي طاهر، ففتحوا الباب و أدخلوهم، فرأوا ذكيرة مقتولا، و جاءت زينب بنت أبي سعيد امرأة ابن زرقان، فشقت جوفه، و استخرجت كبده فأكلتها، و كانت فضيحة عظيمة. فقال ابن سنبر لأبي طاهر: فرق المال في الرؤساء و أرضهم، فإن هذه سقطة عظيمة سقطناها، فوجه/ أبو طاهر في الليل إلى الرؤساء و تلافاهم، و خضع لهم، و لم تكن عادته.
ثم إنه غزا بعد قتل ذكيرة و نهب، و جاء إلى الكوفة. فصار أصحابه لا يمتثلون أمره كما كان، و قد كانوا لا يخالفونه في شي ء البتة، و كان أي شي ء نهبوه أو غنموه يسلموه اليه و لا يخونونه في شي ء منه. لأنه حجة اللّه، و أن المال يجبيه للمهديّ، فصار بعد قصة ذكيرة لا يعطونه ما ينهبونه و صاروا يشربون، و يسمعون القيان، و يطلبون المواخير، و إذا جاءهم العرفاء، و قالوا لهم: هاتوا ما غنمتم، لم يعطوهم، و إذا قالوا لهم: السيد يأمركم بكذا، قالوا: ناك السيد أمه، و في است أم السيد، فرحل بهم راجعا إلى البحرين، فقال العويمل العقيلي و غيره لبني عمهم: يا ويحكم، اعتزلوا هذا الكذاب بن الكذاب فإنه يصير بكم إلى البحرين و يسترهن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:389
(1/405)
عيالاتكم، و يطالبكم بما غنمتم، و يأخذه منكم و يستعبدكم. فبلغه قوله، فأخذه و قيده، و رجع إلى الأحساء، فقتل من أصحابه و ثقاته نحو أربعمائة، و أقام بالأحساء و قال: قد نهيت عن الغزو، و أمرت بعمارة الأحساء فأخذ المسلمين الذين أسرهم و استعبدهم بالعمارة. و أقام مدة، ثم غزا و أقام ناحية من الكوفة، و وكل بالعسكر من يراعيه لئلا يدخل اليه غريب، و طمع أن يعود أصحابه كما كانوا، فما فعلوا، و دخل على أهل السواد من الكوفة و من كان يلتجى ء اليه من المتشيعين من الحزن و الفضيحة و شماتة الأعداء ما قتلهم حزنا.
و كان مثل عيسى بن موسى ختن عبدان و أصحابه و أمثاله، يعاتبون أبا طاهر و أصحابه بينهم سرا، فيقول لهم: ما الحيلة، ما اخترنا هذا لأنفسنا، و قولوا لنا من كان من أهل هذه الدعوة لم تكن له سقطة و فضيحة.
ألم يفتضح المنصور بن حوشب/ بعدن لاعة، ألم يفتضح الوليّ ابن الفضل بجيشان «1»، ألم يفتضح سعيد بسجلماسة، حتى شيخ المشائخ أبو موسى هرون و هو شيخ الشيعة، و قال لسعيد في وجهه: ويلك، أنت الغاوي لا المهدي، تزني، و تلوط، و تشرب الخمر، و تكذب، و تغدر، و تسفك الدم، ويلك، أي شي ء أنت، و ابن من أنت، قال: قد قال لكم أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الكوفي الداعية أني أنا المهدي، فجاؤا بأبي عبد اللّه، فقالوا له: هذا هو المهدي، فقال: لا، فقال له سعيد: ألم تقل لأهل العسكر بسجلماسة: هذا هو المهدي الذي
__________________________________________________
(1) لعله يقصد علي بن الفضل بن أحمد القرمطي أحد المتغلبين على اليمن. استولى على الجبال و التهائم ثم دخل زبيدا و صنعاء و ادعى النبوة و أباح الحرمات. و مات مسموما سنة 303 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:390
(1/406)
كنت أدعو اليه، فأقبل أبو عبد اللّه على أبي موسى و الجماعة فقال: يا هؤلاء غلطت كما يغلط الناس، أنا رجل من أهل الكوفة من الشيعة، و كنا نذهب إلى إمامة موسى بن جعفر و ولده، فرجع ابن حوشب و رجعنا لما مات الحسن العسكري، و وقع علينا من دعانا إلى إمامة محمد بن اسماعيل بن جعفر، و لقيت الإمام من قبل محمد بن اسماعيل بالكوفة، و ودعته و خرجت إلى ابن حوشب باليمن، و بين يدي الإمام بالكوفة غلامان. فقال لي حين ودعته: يا أبا عبد اللّه، هذان إماماك، فمن دعاك منهما فأجبه. فخرجت إلى اليمن، و منها إلى مكة، و منها اليكم إلى المغرب.
و بلغنا أن الإمام قد مات و خلف ولده، و كانت الكتب تأتيني من هذين، و فيها بعض العلامات التي كانت بيني و بين الإمام، فظننته المهديّ و ما هو بالمهديّ، و لكنه رجل سوء، كذاب، شرّير، عدو اللّه، و عدوّ رسوله، و عدوّ أهل بيته، و عدو الشيعة، و عدو المهدي. فوافق سعيد أبا عبد اللّه على غدراته و أكاذيبه و ما كان له في كتامة، و تشاتما و انفرد سعيد و معه الأموال، و أعمل الحيلة، و قتل أبا عبد اللّه/ و شيخ المشائخ.
و قام أبو زكريا محمد بن أحمد بن زكريا «1» أخو أبي عبد اللّه و كان أجل منه و أخص بسعيد و أعلم بالدعوة، فنادى على سعيد بأنه كذاب عدو لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته، و واقفه و تشاتما، و ما زال ينادي عليه برقادة و أرض المغرب إلى أن دس عليه من قتله.
و قام أبو ذاكي تمام بن معارك، و كان أخص الناس بسعيد و أوثقهم عنده و وجها في الشيعة، فما زال ينادي: احذروا هذا المشرقي الكذاب فإنه
__________________________________________________
(1) كتب فوق الاسم بخط مختلف: العباس
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:391
لا دين له إلى أن بذل سعيد الأموال في العبيد و الجهال إلى أن قتل أبا ذاكي و أصحابه.
(1/407)
أو ليس حين مات سعيد و قام ابنه قد رجع عنه خاصته، و قالوا هذا أكفر من أبيه. أو ليس قد أظهروا بأرض المغرب شتم نبيّ العرب و أصحابه فقالوا: العنوا الغار و من حوله، العنوا عائشة و بعلها؛ و لعنوا جميع الأنبياء و أظهروا الباطن كله، و بعثوا الدعاة، فدعوا إلى سعيد أنه إله حق، و أنه خالق رازق، و أنه هو الذي فتق و رتق و أمات و أحيا. و نكحوا البنات، حتى كان مثل أبي الأسود و أبو طاعة من الدعاة قد نكحوا بناتهم؛ حتى ذهبت الشيعة إلى أبي يزيد مخلد بن كرّاد و هو من الشراة «1» و شكوا اليه ذهاب الإسلام بهؤلاء المشارقة، و قالوا: هذا و إن كان من الشراة فليس ينكر الربوبية و لا يكذب الرسل و لا يلعن الأنبياء و معه حفظ الأموال، فساروا معه إلى ابن سعيد بعد موت أبيه، فأنفذ اليه ابن سعيد عسكرا بعد عسكر، فما زال يهزمهم إلى أن وافى باب المهدية فأغلق بابه دونه، فأخذ الحلقة بيده و هو شيخ كبير لا يمكنه لعجزه و كبره أن يركب فرسا، فكان يركب حمارا، فحاصر ابن سعيد في المهدية مع عساكره فمات في حصاره/ فرقا منه.
و قام اسماعيل ابنه من بعده و حاصرهم صاحب الحمار حتى أكلوا براذينهم، و حتى ذلوا له و خضعوا؛ و قد دوخهم خمس سنين، و استولى مع عجزه و ضعفه على أكثر ممالكهم، إلى أن تمت حيلته عليه.
__________________________________________________
(1) انظر الجزء الأول من الكتاب ص 107
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:383
المؤمنين القتل فيه ثلاثة أيام، قالوا لا تصنع هذا، و لكن سبعة أيام، و تنظم جانبي دجلة/ بالمصلين من بني هاشم، و القراء، و الفقهاء، الذين يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فقال: كذا نفعل.
(1/408)
و أظهر من بالكوفة لعن بني العباس و السلف، و خرج أبو الغيث بن عبيدة العجلي في ثلاثين ألفا، و أقام أبو القاسم عيسى بن موسى حتى عيدان في البقلية أصحابه «1»، و أظهروا الخلاف، و قالوا: ظهر الحق و قام المهدي و انقضت دولة بني العباس و الفقهاء و القراء و أصحاب الحديث، و قال قائلهم: ما بقي شي ء ينتظر و ما جئنا لإقامة دولة، و لكن لإزالة شريعة. فقيل لهم: إن الخصي قد قطع قنطرة نهر بطباطبا، فقالوا: قد عبر أبو طاهر الفرات فلا يعبر نهر بطباطبا، و إنما هو كالساقية بالإضافة إلى الفرات.
فسار أبو إسحاق ابراهيم بن ورقاء الشيباني الأمير، و كان رجلا صالحا لا يعين السلطان إلا فيما يحل و يحسن. فسار إلى الفرات في السماريات «2»، و منع القرامطة من العبور و من ورود الماء، فضاق صدر أبي طاهر من تأخرهم عنه، فرحل عن مؤنس و رجع إلى الفرات، و صاعد نحو الرقة يقتل و ينهب من ظفر به، و قد ظن بعض الناس أنه كان يتوقع من بالمغرب من القرامطة أن يوافيه لوعد بينهم، فما جاءه أحد، فرجع إلى الأحساء، و كذبت أخباره تلك كلها، و كانت لهم من الفضائح ما لا يكاد يحصى.
و كان أصحابه و من بالكوفة و سوادها له على أحسن طاعة، لا يشكون أنه وليّ اللّه و حجة اللّه، فلما رجع بتلك الخيبة، و قد كذبت أخباره و أقاويله، أخذ
__________________________________________________
(1) انظر معجم البلدان 4: 171
(2) مراكب تصنع من شجر الطلح
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:384
خواصه يلقون إلى من معه من البوادي إذا قالوا لهم: قتلنا عيالنا و اقتسمنا قصور بغداد ثم رجعنا خائبين، و قد قتل ابن أبي الساج صناديدنا و عيون من بقي منا، فيقولون مرة: لهذا القول و هذه المواعيد باطن، و مرة يقولون: إن في كتب الحدثان و الملاحم أنا نرجع، و مرة يقولون: سرنا بأمر، و أمثال هذا من الحيل و المخاريق.
(1/409)
/ ثم سار من البحرين إلى مكة، فوصل اليها في عشر ذى الحجة و بها الحجاج من أهل الدنيا كلها، و الإسلام أكثر ما كان، فمنعه من بمكة من الحجاج و غيرهم من دخولها، و نقلوا صناديق البيت إلى ناحية دار ابن داود، و حاربوه أياما. فلما لم يطقهم، أظهر أنه جاء حاجا و متقربا إلى اللّه، و أنه لا يحل لهم أن يمنعوه من بيت اللّه، و أنه أخوهم في الإسلام، و أظهروا أنهم محرمون، و نادوا بالتلبية، و استدعى من قريش من أهل مكة من راسلهم بهم، هو أبو الإمام بها و القاضي في يومنا هذا، فقالوا: كيف تكون حاجا و أنت في عشية ورودك الحرم قد قتلت المسلمين، فقال: هذا كان بغير أمري و لا رضاي، و قد يكون مثل هذا من الأتباع و من معرة العساكر، و وجه اليهم بخاتمه و سوطه ليؤمنهم، و حلف لهذا القرشي بالأيمان الغليظة أنه قد أمنهم على دمائهم و أموالهم و حرمهم، و أنه لا يؤذي أحدا منهم، و أنه ما جاء إلا ليحج، إلا أصحاب الجند و السلطان فإنه لا يؤمنهم، و قال: أنا لا أغدر و لا أغر من نفسي، و لو أردت ذلك لأمنت أصحاب السلطان ثم غدرت بهم، و لكن لا أؤمنهم، لأنهم يشربون الخمر، و يلبسون الحرير، و يعينون السلطان الذي يحجب عنه الرعية، و يظلم اليتيم و الأرملة، و يشرب الخمر، و يسمع القيان. فازداد الناس به اغترارا، و قبلوا أمانه، و أفرجوا له حتى دخل، و وضعوا السلاح.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:385
فلما دخل و تمكن و سكن الناس، و ثب بهم أغرّ ما كانوا، و قال لأصحابه:
ضعوا السيف و اقتلوا كل من لقيتم، و لا تشتغلوا إلا بالقتل. فلم يزل كذلك ثلاثة أيام، و لاذ المسلمون بالبيت، و تعلقوا بأستار الكعبة، فما نفعهم ذلك، و قتلوهم في المسجد الحرام و في البيت، و ما زالوا يقتلونهم و يقولون لهم:
«و من دخله كان آمنا»، أفامنون أنتم يا حمير، أما ترون كذب صاحبكم.
(1/410)
و أمروا من يصعد لقلع الميزاب، فصعد و هو يقول مستهزئا:/ هو في السماء و بيته في الأرض. و سلب البيت، و قلع الحجر الأسود، و أبو حفص عمر ابن زرقان صهر أبي سعيد واقف حذاء البيت و السيف يأخذ الناس، و هو على فرسه يضحك و يتلو: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» حتى [وصل ] «1» إلى قوله: «وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» قال: ما آمنهم من خوفنا، ظهر الباطن يا أهل مكة، حجّوا إلى البحرين، و هاجروا إلى الأحساء من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها.
ثم أمر أصحابه بالنهب، فجمع شيئا عظيما من العين و الورق و الجوهر و الطب، و من متاع مصر و اليمن و العراق و خراسان و فارس و بلدان الإسلام كلها، و حمل مقدار مائة ألف جمل، و أحرق الباقي، و سبى من العلويات و الهاشميات و سائر الناس نحو عشرين ألف رأس، و سار إلى الأحساء، فكانت حادثة في الإسلام لم يكن مثلها قط، و أحصوا القتلى عند الدفن، فكانوا عشرين ألف و ثمان مائة. و لعلك تستكثر مائة ألف جمل لما ترى في زمانك من سوء حال الإسلام و المسلمين، و إذا تأملت الحال في ذلك الزمان استقللتها، فإن الإسلام إذ ذاك قد كان من السعة ما كان، مستوليا على الدنيا إلا القليل، و كان يسار أهله على حال عظيمة، و إذا تصورته استقللت ذلك، و إذا تأملت خراسان
__________________________________________________
(1) زيادة مني اقتضاها السياق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:386
وحدها، و المسلمون يصلون من نواحي الصين، ثم من نواحي الهند، و كابل ثم عمان، و مشجر عمان، ثم اليمن، و جزيرة العرب و هي أوسع من بلاد الروم، ثم المغرب من الأندلس، و القيروان، و المغرب تشبه لكثرة رجالها و جمالها و بلدانها بخراسان، و أما أذربيجان فيشبه من السعة بما يقارب فارس أو العراق، و إنما ذكرت ذلك لأنا أردنا لا نخلى ما نقوله من حجة، و إن كان الناس قد ذكروه.
(1/411)
فلما صار أبو طاهر إلى البحرين، سلم الأمر إلى ذكيرة الأصفهاني المجوسي «1» و جمع الناس بالبحرين، و قال: معشر الناس إنا كنا ندخل عليكم بحسب أهوائكم، مرة بمحمد،/ و مرة بعليّ، و مرة بإسماعيل بن جعفر، و مرة بمحمد بن إسماعيل، و بالمهديّ «2»، و هذا كله باطل، و هو سر كنا نكتمه و من قبلنا منذ ستين سنة، و اليوم قد أظهرناه، و هذا إلهنا و إلهكم، و ربنا و ربكم، يعني ذكيرة الأصفهاني، فإن عاقب فبحق، و إن عفا فبفضل، أظهروا اللعن على الكذابين: آدم، و نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى و محمد معشر الأجمين، يعني بالأجمعين قسّين و جنبلا «3»، و عرج عمن كان عندهم بالبحرين و من سواد الكوفة و أهل الكوفة، و قال:
معشر الدعاة و الخاصة، اذكروا ما عندكم، فذكروا معنى ما جرى بين عبد اللّه بن ميمون بن ديصان بن سعيد الغضبان و بين محمد بن الحسين بن جهار بخنان المعروف ببندار من أعمال الحيلة على المسلمين، و التستر بالتشيع، و الدعاء إلى المهديّ، فإذا وقع التمكن، و صاروا في ملك و سيف، أظهروا تكذيب
__________________________________________________
(1) جاء في الهامش: فلما صار أبو طاهر القرمطي الباطني الملعون إلى البحرين سلم الأمر إلى ذكيرة الأصفهاني المجوسي. انظر الكتاب 1: 106
(2) سبق التعريف بهذه الأسماء فيما مضى من الكتاب
(3) كذا في الاصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:387
الأنبياء، و تعطيل الشرائع، و قتلوا المسلمين، مما هو مذكور في كتاب ابن رزام، و كتاب عطية، و غيرهما من العلماء «1».
(1/412)
فأخذهم ذكيرة بلعن الأنبياء جهارا في الأسواق، و تقدم بإحراق المصاحف و براءة الذمة ممن ترك عنده شيئا من المصاحف أو التوراة و الانجيل و جمع هذا كله، و أمر بطرحه في الحشوش، و الاستنجاء به، و نادى بنكاح الأمهات، و البنات، و الأخوات، و ذوات المحارم، و بإباحة اللواط، و بأن تطعن البهائم في خواصرها إلى أن تموت، ثم تموت، و بأشياء كثيرة يطول شرحها، و هي مذكورة في كتب العلماء، و قال لهم: تأهبوا فإني سائر إلى العراق لاستئصال دين محمد و قتل أتباعه، فقد انقضت دولته، و قد أحييته ثلاث مرات، و استتبته من إضلال الناس فما تاب، فالعنوه و العنوا الكذابين، يعني الأنبياء. فكانت الأصوات ترتفع بذلك في الأسواق و قتل بني زرقان و بني سلمان و من وجوه عسكره في مدة ثمانين يوما سبعمائة رجل/، و أمرهم بأن يعرضوا عليه نساءهم من بيت أبي سعيد و غيره، فعرضوهن فاختار منهن من أراد، فكان فيمن اختار زينب بنت أبي سعيد امرأة عمر بن زرقان، و قد كان قتل زوجها، و كان له منها ابن، فأمر ذكيرة أبا طاهر بذبحه، فأخذه أبو طاهر خاله فذبحه.
ثم بعد مدة، قال أبو دلف لأم أبي طاهر: إن ذكيرة الأصبهاني قد عزم على قتل ابنك و إخوتك؛ و كان لأبي طاهر خمسة إخوة، و هم ولد أبي سعيد، فاتفق قتلهم له نهارا، فماج القصر لذلك، فقال لهم الحسن ابن سنبر: أغلقوا باب القصر، فأغلق، و أشرف على الناس فقال: ما لكم اجتمعتم؟ قالوا: بلغنا أنكم قتلتم الإله، قال: قد فعلنا ذاك، قالوا له:
__________________________________________________
(1) ابن رزام، عطية (الأعلام 5: 3 و 4: 239)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:388
(1/413)
و لم قتلتموه، قال: ما نريد أن نذكر لكم السبب في ذلك فأمسكوا، و قال لهم ابن سنبر: إن شئتم أن تذهبوا فاذهبوا، فما نعرفكم السبب. ثم قال لهم: يا قوم لا تفضحونا و أنفسكم، و لا تشمتوا بنا المسلمين و بكم، و ارجعوا عن جميع ما قاله لكم أبو طاهر إلى ما كنتم عليه و كنا من قبل ذلك، من أنّا أصحاب المهدي؛ و الدعاة إلى المهدي، و المؤمنون و الشيعة، فإنه كنا نحدّث أن ستكون للمؤمنين زلة و هي هذه، فاللّه اللّه في أنفسنا و أنفسكم، فما أدخلناكم في شي ء إلا بعد أن دخلنا فيه. قالوا نريد أن نراه إن كان مقتولا، و خافوا أن لا تكون حيلة من جملة حيلهم و كذبهم الذي كان لأبي طاهر، ففتحوا الباب و أدخلوهم، فرأوا ذكيرة مقتولا، و جاءت زينب بنت أبي سعيد امرأة ابن زرقان، فشقت جوفه، و استخرجت كبده فأكلتها، و كانت فضيحة عظيمة. فقال ابن سنبر لأبي طاهر: فرق المال في الرؤساء و أرضهم، فإن هذه سقطة عظيمة سقطناها، فوجه/ أبو طاهر في الليل إلى الرؤساء و تلافاهم، و خضع لهم، و لم تكن عادته.
ثم إنه غزا بعد قتل ذكيرة و نهب، و جاء إلى الكوفة. فصار أصحابه لا يمتثلون أمره كما كان، و قد كانوا لا يخالفونه في شي ء البتة، و كان أي شي ء نهبوه أو غنموه يسلموه اليه و لا يخونونه في شي ء منه. لأنه حجة اللّه، و أن المال يجبيه للمهديّ، فصار بعد قصة ذكيرة لا يعطونه ما ينهبونه و صاروا يشربون، و يسمعون القيان، و يطلبون المواخير، و إذا جاءهم العرفاء، و قالوا لهم: هاتوا ما غنمتم، لم يعطوهم، و إذا قالوا لهم: السيد يأمركم بكذا، قالوا: ناك السيد أمه، و في است أم السيد، فرحل بهم راجعا إلى البحرين، فقال العويمل العقيلي و غيره لبني عمهم: يا ويحكم، اعتزلوا هذا الكذاب بن الكذاب فإنه يصير بكم إلى البحرين و يسترهن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:389
(1/414)
عيالاتكم، و يطالبكم بما غنمتم، و يأخذه منكم و يستعبدكم. فبلغه قوله، فأخذه و قيده، و رجع إلى الأحساء، فقتل من أصحابه و ثقاته نحو أربعمائة، و أقام بالأحساء و قال: قد نهيت عن الغزو، و أمرت بعمارة الأحساء فأخذ المسلمين الذين أسرهم و استعبدهم بالعمارة. و أقام مدة، ثم غزا و أقام ناحية من الكوفة، و وكل بالعسكر من يراعيه لئلا يدخل اليه غريب، و طمع أن يعود أصحابه كما كانوا، فما فعلوا، و دخل على أهل السواد من الكوفة و من كان يلتجى ء اليه من المتشيعين من الحزن و الفضيحة و شماتة الأعداء ما قتلهم حزنا.
و كان مثل عيسى بن موسى ختن عبدان و أصحابه و أمثاله، يعاتبون أبا طاهر و أصحابه بينهم سرا، فيقول لهم: ما الحيلة، ما اخترنا هذا لأنفسنا، و قولوا لنا من كان من أهل هذه الدعوة لم تكن له سقطة و فضيحة.
ألم يفتضح المنصور بن حوشب/ بعدن لاعة، ألم يفتضح الوليّ ابن الفضل بجيشان «1»، ألم يفتضح سعيد بسجلماسة، حتى شيخ المشائخ أبو موسى هرون و هو شيخ الشيعة، و قال لسعيد في وجهه: ويلك، أنت الغاوي لا المهدي، تزني، و تلوط، و تشرب الخمر، و تكذب، و تغدر، و تسفك الدم، ويلك، أي شي ء أنت، و ابن من أنت، قال: قد قال لكم أبو عبد اللّه الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الكوفي الداعية أني أنا المهدي، فجاؤا بأبي عبد اللّه، فقالوا له: هذا هو المهدي، فقال: لا، فقال له سعيد: ألم تقل لأهل العسكر بسجلماسة: هذا هو المهدي الذي
__________________________________________________
(1) لعله يقصد علي بن الفضل بن أحمد القرمطي أحد المتغلبين على اليمن. استولى على الجبال و التهائم ثم دخل زبيدا و صنعاء و ادعى النبوة و أباح الحرمات. و مات مسموما سنة 303 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:390
(1/415)
كنت أدعو اليه، فأقبل أبو عبد اللّه على أبي موسى و الجماعة فقال: يا هؤلاء غلطت كما يغلط الناس، أنا رجل من أهل الكوفة من الشيعة، و كنا نذهب إلى إمامة موسى بن جعفر و ولده، فرجع ابن حوشب و رجعنا لما مات الحسن العسكري، و وقع علينا من دعانا إلى إمامة محمد بن اسماعيل بن جعفر، و لقيت الإمام من قبل محمد بن اسماعيل بالكوفة، و ودعته و خرجت إلى ابن حوشب باليمن، و بين يدي الإمام بالكوفة غلامان. فقال لي حين ودعته: يا أبا عبد اللّه، هذان إماماك، فمن دعاك منهما فأجبه. فخرجت إلى اليمن، و منها إلى مكة، و منها اليكم إلى المغرب.
و بلغنا أن الإمام قد مات و خلف ولده، و كانت الكتب تأتيني من هذين، و فيها بعض العلامات التي كانت بيني و بين الإمام، فظننته المهديّ و ما هو بالمهديّ، و لكنه رجل سوء، كذاب، شرّير، عدو اللّه، و عدوّ رسوله، و عدوّ أهل بيته، و عدو الشيعة، و عدو المهدي. فوافق سعيد أبا عبد اللّه على غدراته و أكاذيبه و ما كان له في كتامة، و تشاتما و انفرد سعيد و معه الأموال، و أعمل الحيلة، و قتل أبا عبد اللّه/ و شيخ المشائخ.
و قام أبو زكريا محمد بن أحمد بن زكريا «1» أخو أبي عبد اللّه و كان أجل منه و أخص بسعيد و أعلم بالدعوة، فنادى على سعيد بأنه كذاب عدو لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته، و واقفه و تشاتما، و ما زال ينادي عليه برقادة و أرض المغرب إلى أن دس عليه من قتله.
و قام أبو ذاكي تمام بن معارك، و كان أخص الناس بسعيد و أوثقهم عنده و وجها في الشيعة، فما زال ينادي: احذروا هذا المشرقي الكذاب فإنه
__________________________________________________
(1) كتب فوق الاسم بخط مختلف: العباس
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:391
لا دين له إلى أن بذل سعيد الأموال في العبيد و الجهال إلى أن قتل أبا ذاكي و أصحابه.
(1/416)
أو ليس حين مات سعيد و قام ابنه قد رجع عنه خاصته، و قالوا هذا أكفر من أبيه. أو ليس قد أظهروا بأرض المغرب شتم نبيّ العرب و أصحابه فقالوا: العنوا الغار و من حوله، العنوا عائشة و بعلها؛ و لعنوا جميع الأنبياء و أظهروا الباطن كله، و بعثوا الدعاة، فدعوا إلى سعيد أنه إله حق، و أنه خالق رازق، و أنه هو الذي فتق و رتق و أمات و أحيا. و نكحوا البنات، حتى كان مثل أبي الأسود و أبو طاعة من الدعاة قد نكحوا بناتهم؛ حتى ذهبت الشيعة إلى أبي يزيد مخلد بن كرّاد و هو من الشراة «1» و شكوا اليه ذهاب الإسلام بهؤلاء المشارقة، و قالوا: هذا و إن كان من الشراة فليس ينكر الربوبية و لا يكذب الرسل و لا يلعن الأنبياء و معه حفظ الأموال، فساروا معه إلى ابن سعيد بعد موت أبيه، فأنفذ اليه ابن سعيد عسكرا بعد عسكر، فما زال يهزمهم إلى أن وافى باب المهدية فأغلق بابه دونه، فأخذ الحلقة بيده و هو شيخ كبير لا يمكنه لعجزه و كبره أن يركب فرسا، فكان يركب حمارا، فحاصر ابن سعيد في المهدية مع عساكره فمات في حصاره/ فرقا منه.
و قام اسماعيل ابنه من بعده و حاصرهم صاحب الحمار حتى أكلوا براذينهم، و حتى ذلوا له و خضعوا؛ و قد دوخهم خمس سنين، و استولى مع عجزه و ضعفه على أكثر ممالكهم، إلى أن تمت حيلته عليه.
__________________________________________________
(1) انظر الجزء الأول من الكتاب ص 107
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:392
و أعان أبو الحسين بن عمار اسماعيل القائم الثالث منهم عليّ أبي يزيد حتى ظهر عليا، فلما خرج أظهر اسماعيل الرجوع إلى الإسلام. و قتل الدعاة، و نفى بعضهم إلى أرض الأندلس و غيرها. فقال للعامة: من سمعتموه يلعن الأنبياء فاقتلوه و أنا من ورائكم، و أذن للفقهاء و المحدثين، و خضع للعامة، و زعم أن الذي كان من الدعوة و من الناحية و المنشدين كان بغير علم أبي و لا علم جدي، و خفف الخراج، و أظهر الشغل بالفقه.
(1/417)
فسقطات غيرنا من أهل هذه الدعوة أكثر من سقطاتنا، أم تظنون أنا بالبحرين لا نعرف أخبار اخواننا و أهل دعوتنا بالمغرب و اليمن و العراق، فكانوا يحتجون بمثل هذا على من عذلهم من إخوانهم في إظهار الباطن، و كان الدعاة مثل أبي القاسم عيسى بن موسى، و أبي مسلم بن حماد الموصلي، و أبي بكر أخيه، و أبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي الكلابي و غيرهم يحدثون أسفا و حسرة بما أتاه أبو طاهر من كشف الدعوة، حتى سقطت هيبته و استخفت العرب به بعد ذلك التعظيم، و حتى كان أبو طالب بن عيسى بن موسى و أمثاله يقولون إذا ذكروا هتيكة أبي طاهر و فضيحته مالك يا أبا طاهر، لعنك اللّه ويلك، لم سلمت الأمر إلى ذكيرة الأصبهاني. ويلك، إلا مضيت على غرتك و قد ظن الناس أنك المهدي، و فيهم من ظن أنك فوق المهدي، ويلك، إلى بخارى قدما ما يردك أحد. لعنك اللّه، و صلى اللّه عليك يا محمد.
لا يلعنون أبا طاهر براءة منه، و لا/ يصلون على النبي صلّى اللّه عليه و سلم موالاة له و تصديقا بنبوته، و لكن يذهبون إلى أنه و إن كان كذابا محتالا مثل أبي طاهر و الذين بالمغرب و حاشاه صلّى اللّه عليه و سلم من قولهم فما افتضح مثل فضائحهم.
و لقد رجع أبو الغيث العجلي عنهم و كان نابا من أنيابهم، و مطاعا في
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:393
عشيرته. و كانوا نحو ثلاثين ألفا، و كتب في ذلك كتابا بيّن فيه أنه تموّه أمرهم عليه و ظنهم شيعة و أصحاب المهدي؛ و رجع غيره من رؤسائهم ممن قد ذكره ابن رزام من المراتب الخمس و في الكتاب الكبير، و ذكرهم غيره.
(1/418)
و لقد بلغ الأمر بأبي طاهر أنه كان بعد ذكيرة يغير على الحاج و على بلدان المسلمين، ثم يجهد بالعرب أن يعطوه شيئا مما يأخذونه كما كانوا يفعلون من قبل، و يقول هذا مال المهدي، فإن لم تعطونا كله كما كنتم فهاتوا بعضه، فيقولون له: استأمنا إن أعطيناك مفاتحنا و قد عرفناك. فلما رأى استخفافهم به بعد الكرامة قال: لا وجه لما أنا فيه، أقتل المسلمين و أنهبهم و يذهب هؤلاء بالمال. فجاء إلى الكوفة و آمن الناس، و وجه إلى الراضي بعد المقتدر و بعد القاهر، «1» و كان هذا الراضي من الضعف و حجر بجكم و الأعاجم عليه على حال قبيحة «2»، و قد تفرقت الجنود عنه، و أخذت الأموال منه؛ فوجه اليه يطلب منه مالا يعطيه ليخدمه و يبذرق الحاج «3»، ففعل الراضي ذلك، و أعطاه مالا معلوما، و قال أبو طاهر هذا أربح لي، آخذ هذا المال و أعطي بعض أصحابي و أعواني و أفوز ببعض. و كان العقلاء يعجبون و يعتبرون، و يقولون عظم أمر أبي طاهر حتى ادّعى قوم أنه إله، و ادعى آخرون له أنه نبيّ، و ادعى قوم أنه المهدىّ، و أقل ما ادّعى له أنه ثقة المهدي و سيف المهدي. و استقلوا له ملك الأرض، و ما شك
__________________________________________________
(1) بويع للراضي بالخلافة بعد خلع القاهر في 5 جمادى الأول سنة 322 ه، و لم يزل خليفة إلى أن توفي في ربيع الأول سنة 329 ه. انظر تاريخ الإسلام و محاضرات تاريخ الإسلام السياسي
(2) يحكم الديلمي: قائد الجند أيام الراضي.
(3) البذرقة: فارسي معرب، بمعنى الخفارة، يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة اللسان، مادة: بذرق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:394
(1/419)
الشيعة أنه يملكها، و أظهروا/ الروايات «1» له بذلك، و أنه مذكور في الملاحم، و في كتب الحدثان؛ و أنه حجة اللّه و صاحب حجة اللّه، و المهديّ و المنتظر الذي يملك الأرض كلها. و طمع في ذلك أشد الطمع، و كان السلطان في زمانه مقصرا لا يعرف من التدبير قليلا و لا كثيرا، و قد قلد الخلافة و له اثنتا عشر سنة متحليا بالنساء، كتابه و عماله و خاصته تغلب عليهم التشيع، يظنون أبا طاهر من الشيعة، فكانوا أعوانه على السلطان، فخذله اللّه حتى صنع مع ذكيرة ما صنع ففضحه اللّه بلسانه، ثم عاد فقتل ذكيرة و رجع عما كان عليه، ثم لم يزل خذلان اللّه به حتى جاء إلى الراضي و تلك حاله يطلب بذرقة الحاج منه، و سأله أن يستخدمه في ذلك، و ضمن كل ما يجري على الحاج. و خرج إليه إلى الكوفة ابن مقاتل صاحب ابن رائق «2» و وافقه على بذرقة الحاج بعد أن وبخه على ما كان منه، فأنكر أن أن يكون ما جرى باختياره، و أن البوادي كانت تقتات عليه و لا تطيعه، و أن السلطان قصر في أمره و قد كان ينبغي له أن يعرف مكانه، و يعطيه ما يرضي البوادي، و يستخدمه و يجعله أحد صنائعه، فقال الحجاج لا نسير معه و لا نثق به و لا كرامة له، فأقام السلطان أبا عليّ عمر بن يحيى العلوي أميرا عليهم، يسير أبو طاهر مع أصحابه بسيره و ينزل بنزوله، و لا يكون له على أحد من الحاجّ أمر و لا نهي. و إذا تصورت حال أبي طاهر و كيف كانت و إلى أي شي ء صارت، حتى يرغب إلى الراضي- و هو أول من
__________________________________________________
(1) في الأصل: الرويات، و لعل الصواب ما أثبتناه
(2) هو محمد بن رائق، أبو بكر، ولاه الراضي إمرة الأمراء و الخراج سنة 324 ه، و توجه إلى الشام فحارب الاخشيديين ثم عاد إلى بغداد حيث قتل بأمر من ناصر الدولة الحمداني 330 ه. دائرة المعارف الإسلامية 1: 164
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:395
(1/420)
زالت دولة بني العباس على يده و أخذت الأموال منه، و أجرى له مقدار الكفاية، و زال أمره عن تدبير الجند و عن الولايات؛ و هو أول من حجر عليه منهم- في أن يستخدمه في بذرقة الحاج بشي ء يعطيه، علمت أن ذلك آية من آيات اللّه العظام، فقد/ كان أثخن في الإسلام، و أخرب منازل الحاج، و قد كاتب في الأمن و العمارة كالأسواق القائمة، و لعل قتلاه أكثر من قتلى بابك و صاحب الزنج، و كانت هيبته قد ملأت القلوب، حتى كتب ملك الروم إلى السلطان كتابا يظهر له الشماتة بأن أبا طاهر القرمطي قد أبادكم و أفناكم و شغلكم عن غزونا و أراحنا منكم و قصد بيت عبادتكم فقتل زواره و من يعظمه و أنزل بدينكم كل هوان. و كان العامة و من ليس هو من الدعوة إذا سألوا أصحاب أبي طاهر عما أتاه في باب ذكيرة لا يجيبون بل يقولون إنما سلم الأمر اليه ليمكر به و لينظر ما عنده، و صبر عليه و على ما أتاه ليعرف آخر أمره، فكان لتسليمه باطن غير ما ظهر للناس.
و هذا أعجب ما يكون من فضائح المبطلين و بهتهم، و هذا ما لا يعجز عن ادعائه أحد، فإنهم قد افتضحوا و تقطعوا ندما، و انصرفت عنهم عقيل لهذه الفضائح و هانوا على جندهم بعد الكرامة، و سقطت أقدارهم البتة، ثم يبهتون هذا البهت.
و هذا كقولهم لو قال: إن خادم العباس بن عمرو الغنوي ما وثقنا به و لا سكنا اليه و لا وثق به أبو سعيد و لا ائتمنه و لا سكن اليه و إنما تركناه و قتل أبي سعيد و تلك الجماعة الذين قتلهم في الحمام لننظر ما عنده و ليظهر آخر أمره، على علم منّا بما سيأتيه و يفعله. و أن ما أتاه الأصفر من قتل رجالنا و منعنا من التصرف في البلاد و الخروج لأخذ ضريبة الحاج و حصاره إيانا في الأحساء، ليس عن عجز منا و لا لجهل منا بما كان منه قبل أن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:396
يكون، و إنما تركناه على علم و قدرة ليظهر كل ما عنده و لكل أمر باطن.
(1/421)
أو كمن قال: إن الأصفر لم يصنع بهم هذا الصنيع عداوة لهم، فكذا ما صنعه ابن أبي الساج، و إنما أراد الأصفر أن يمتحنهم بذلك، و لهذا باطن و هذا خلق لأهل هذه الدعوة حيث كانوا من مشرق الأرض و غربها، فإنهم متى افتضحوا و متى بان كذبهم فقالوا لهذا باطن.
فقد كان سعيد أنفذ الجيوش في سنة اثنين و ثلاثمائة إلى مصر و قال:
تفتحونها و أنا في إثركم، و كانت خالية ليس فيها إلا القاسم بن الاخشيد الفرغاني في سبعة آلاف، و عسكر ابن سعيد الذي ورد به إلى مصر في نحو مائتي ألف، فهزمهم القاسم و ردّهم، فرجعوا في سنة سبع و ثلاثمائة في ثلاثمائة ألف، و قال: تفتحونها، فرجعوا منهزمين. و كان ابن سعيد رئيس الجند، و يوسف بن غروي الكبير المدبّر، و هو يعجب من رجوعهم و قد قال تفتحون. فقال لهذا القول باطن فأخذ يوسف هذا و قتله»
.
و قد كان الرابع منهم لما ملك مصر و الشام قال: الآن أملك الدنيا كلها، و كان له برذون أشهب يقال له عين الفضة، فقال: على هذا أدخل قسطنطينة، و قال: أنا لا أعطي أهل الاحساء عن الحاج ضريبة كما كان كافور الخصيّ الأسود قبلي يعطيهم، فإن خالفوني وجّهت بكتامة فشدّوا براذينهم على أبوابهم بالأحساء و ساوم صاحبه و صاحب جيشه في ثياب بياض، ثم قال: و هذه تجلب من نيسابور و إلى هناك نصير فنشتريه من معدنه. فجاء ولد أبي سعيد و أخذوا الرايات السود من بغداد و عليها الامام المطيع للّه أمير المؤمنين. و كانوا في جيش قليل، و أخذوا الشام منه، و قتلوا
__________________________________________________
(1) في الأصل: أبو يوسف، و لعل الصواب ما أثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:397
(1/422)
ابن فلاح صاحبه «1»، و قالوا له ما تحتاج أن تنفد/ بكتامة إلى الأحساء فقد جئناك. فراسلهم و داراهم، و قال لهم: لم رضيتم لأنفسكم أن تسيروا تحت الرايات السود و تقيموا الدعوة لبني العباس، قالوا له: قد كان ينبغي ألا تمخرق علينا و لا تتكلم فينا، و نحن نعرفك و نعرف أباك، فما زال يراسلهم و يتضرع اليهم و يقول: الدعوة واحدة و هذا البيت و بيت أبي سواء، فساروا اليه إلى مصر و ضيقوا عليه، فخندق على نفسه، و بذل الأموال، و بذل المال للبوادي فأخذوا سوادهم و انهزموا من باب مصر، و أسر ابن المنجا و جماعة منهم، فأكرمهم و صانهم و خلع عليهم، وردهم إلى الأحساء و أعطاهم أكثر مما كان يعطيهم كافور، و قتل من كان في عسكرهم من السوقة و الباعة و هم ألوف كثيرة، و قال لولد أبي سعيد أنا ما منعتكم و إنما منعكم هذا العبد جوهر، و تقرب اليهم، و أذكرهم أن الدعوة واحدة و ما ينبغي أن نختلف فيشمت بنا المسلمون، و ما زال هو و من بعده يحمل اليهم المال الكثير و البرّ الكثير إلى أن حاصرهم الأصفر و منعهم، و وافى ملك الروم لعنه اللّه و نزل الشام.
و اتفق موت البرذون عين الفضة، و نما الخبر إلى ابن الزيات و هو بالشام فكتب اليه: قلت إنك تدخل القسطنطينة على عين الفضة و قد مات و بينك و بين القسطنطينة مسيرة ستة أشهر، و ملك الروم فقد نزل بالشام و بينك و بينه مسيرة عشرين يوما، و قد قرب الأمر عليك فالحق. فترك الجواب عن هذا و كتب إلى ابن الزيات: أنت رجل فاضل كامل، صنعتك و أسأت اليك و أنكرت فضلك، و ما أدري كيف أعتذر اليك، و أنا من
__________________________________________________
(1) هو علي بن جعفر بن فلاح الكتامي، أبو الحسن، من أكابر وزراء الفاطميين بمصر، و كان الناظر في جميع شؤون الدولة أيام الحاكم، قتل في القاهرة سنة 409 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:398
(1/423)
أحوج الناس اليك، و ما هذا/ سبيله من الملاطفة. و إذا طالبت خاصته و الدعاة له بتلك الأقوال و بينت لهم كذبها و خلقها قالوا: تلك الأقوال لها باطن.
و عند الخامس منهم من أهل خوارزم و الموليان و غيرهما زوار كثير قد جاؤا بالأموال و الهدايا، و هم محجور عليهم و موكل بهم و مع هذا فقد تبلغهم ما هناك من الفواحش و الإباحات. فربما استفهم الواحد بعد الواحد من هؤلاء الزوار فيقال له: لهذا باطن، و ربما قيل لبعضهم: إنما يفعل هذا مولاكم عمدا ليريكم و يمتحن صبركم، فأمسكوا و لا تتكلموا، ثم لا يؤذن بالرجوع لأهل الفطنة منهم.
و قد كان سعيد و هو بالمغرب قد جعل الرصد على من يرد و يصدر بباب البلد فيعرف أخبارهم، فمن كان منهم من الرسل و الدعاة الذين يريدهم فلا يدخلهم إلا ليلا ملثمين في هوادج، و إن كانوا جماعة، فرق بينهم، و أنزلهم و وكل بهم ثقاته، و أخرجهم كذلك، لئلا يقفوا على شي ء من أمره؛ و يدس اليهم من يحدثهم من أخباره بما يريد، و يبرهم و يصلهم و يخلفهم و يخرجهم في الاستخفاء كما دخلوا، و يردهم إلى النسفى و أبي حاتم الرازي و ابن حماد. فتأمل حال هؤلاء و هم في الأطراف، و قد تستروا بدين الإسلام و أقاموا المؤذنين، فكل من يستدعونه في أول أمره يقولون له لسنا كالإمامية أصحاب موسى بن جعفر الذين يقولون: الصلاة إحدى و خمسين ركعة. الذي يجب عليك عافاك اللّه ثلاث و سبعون ركعة في اليوم و الليلة، و تؤدي الزكاة، و تصوم رمضان، و تحج البيت. و تؤدي الأمانه، و تحصن فرجك، و ما نحل لك المتعة كما تحله الرافضة، و تجتنب الكذب و الزنا و الربا و اللواط،/ و لا تشرب شيئا من المنكر، و ما لك في شي ء من هذا رخصة البتة. و إذا كان عند الداعية أحد من المحرومين و ممن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:399
لا يعرف حقيقة الدعوة يصلي الداعية بحداه الليل و النهار. و مع هذا فقد عرف أهل العلم حقيقة الدعوة فكيف بأمر النبوة و هو من الأمور المكشوفة.
(1/424)
و لو أخذت تحصي فضائح هؤلاء في كل زمان مع هذا التحفظ لطال، و ينبغي أن تعنى بأمورهم فليس هاهنا من يطعن في النبوات سواهم كما قد تقدم لك و دعاتهم اليوم مثل جابر المتوفى، و ابن جبلة، و ابن الكميث، و الحسن بن محمد الممدى، يقولون لمن قد بلغوا به، أما ترون أتباع هذا الفاعل الصانع- يعنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم- اليوم- أربع مائة سنة قد أقاموا على شريعته ما يفارقونها، ماذا يرون فيها الحمير، و قد كدّهم بالصلاة و الصوم و الحج و الجهاد، أما يفطنون أما يفيقون.
و العجب ممن ذهب عنه صلّى اللّه عليه و سلم مع ظهور أعلامه و انكشاف براهينه، و لو كان لهؤلاء فطنة و معهم تدبّر لكفتهم أنفسهم و أحوالهم في معرفة صدقه، فإنهم مع اعتصامهم به و تسترهم بإقامة شريعته و الانتساب إلى أهل بيته، و مع الأيمان و المواثيق، يفتضحون في كل طرفة عين، و هو صلّى اللّه عليه و سلم قد جاء ذلك المجي ء و أعداؤه منذ أربع مائة سنة يطلبون عثرة له و زلة فلا يجدونها، و هو كما يقال: قد كان ينبغي أن يكون أصحاب الطب من أخشى خلق اللّه و أعرفهم به لكثرة ما يرون من الشدائد النازلة بالناس و بأنفسهم ثم قل ما يغني طبهم عن أنفسهم و أعزّتهم، و لكن قد سبقوا إلى الاعتقادات الباطلة و التقليد للرجال، فتركوا النظر و قلت عبرتهم، فتبلدوا و تحيروا، فتاهت عقولهم، و ماتت/ فطنهم، فنعوذ باللّه من طول الغافلة و موت على غرّة و قدوم على حسرة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:400
و باب آخر [علم الرسول صلى اللّه عليه و سلم حين تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أنهم لن يستطيعوا]
(1/425)
و هو أنه صلّى اللّه عليه و سلم قد علم و تيقن حين تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل عشر سور أو بمثل سورة أنهم لا يأتون بذلك، و لو لم يتيقن ذلك لما تحداهم و لا قال، لأن العاقل لا يقدم على مثل هذا و هو لا يأمن أن يأتوا بمثله فيفتضح و تبطل حجته و يستظهر عليه خصمه و يظهر كذبه و ينصرف عنه أصحابه و تبطل رئاسته، سيما و العرب أمم كثيرة، و الفصاحة مثبوتة فيهم غالبة على رجالهم و نسائهم و عبيدهم و إمائهم، و هو لا يعرفهم بأعيانهم و لا يحيط علما بأشخاصهم و بشعرائهم و خطبائهم و بلغائهم و فصحائهم و دعاتهم، فكان لا يأمن أن يتبتّل له قوم منهم غضبا لأديانهم، و عصبية لآبائهم، و أنفة لأنفسهم، فيأتون بمثل ذلك في الفصاحة و البلاغة، أو بما يقارب ذلك، فيهدمون كل ما بنى، و هو العاقل الحليم الذي لا يدفع عدوه عقله فلم يكن ليخبر أنهم لا يأتون بشي ء من ذلك إلا و هو على يقين أنهم لا يأتون بذلك و لا بما يقاربه، فما في الدنيا عاقل تأمل أمره صلّى اللّه عليه و سلم إلا و أثمر له الفكر و العلم بذلك.
فإن قيل: قد يقول العاقل في صنعة يدعيها، أو شجاعة، أو في شدة و قوة و أشباه ذلك: إن أحدا لا يساويني في ذلك و لا يدانيني فيه، و إن كان لا يعلم أن الأمر كما ادّعى و لا يخرجه ذلك من أن يكون عاقلا ... قيل له: لا يسأل عنه و عن أمثاله من تأمل ما قلنا، فإنا لم نقل إنه ليس في الدنيا عاقل ادعى أنه لا يساوى في منزله إلا و هو على يقين من أن الأمر/ كذلك، و إنما قلنا: إن هذا الرجل صلّى اللّه عليه و سلم قد ادعى أعظم الأمور و أجلها، و هو أن اللّه اصطفاه على العالمين، و جعله وحده منذ أرسله حجة على كل من أدركه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:401
(1/426)
و كل من يأتي بعده إلى يوم القيامة، و أن من خالفه فقد حلّ ماله و دمه و أهله و ذريته، و عليه الخزي و الغضب من اللّه في الدنيا و الآخرة، و انه قد وجب على كل عاقل طاعته و الانقياد إلى أمره إلى غير ذلك مما ادعاه و فرضه مما يطول ذكره، و ان حجته في ذلك أن الخلق أجمعين لو اجتمعوا و اجتهدوا لن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة منه لا يأتون بمثله، و أنهم إن أتوا بذلك فقد بان كذبه و حرمت طاعته و وجبت معصيته و حل دمه و دم كل من صدقه، فبهذه الشريطة قلنا ذلك و ادّعيناه، و بهذا قد علمنا، لا بما ظنه السائل.
و باب آخر [محاولة اليهود و النصارى في المدينة القضاء على الإسلام و فشلهم ]
(1/427)
من أعلامه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو أنه لما صاروا أصحابه في المدينة مشى اليهود إلى الأوس و الخزرج و قالوا لهم: لقد جلبتم على أنفسكم باتباع هذا الرجل الضلال و البلاء العاجل بمعاداة الأمم، و لو كنتم يهودا لناظرناكم؛ و قد كان في الأوس و الخزرج من قد تهود. و قالت النصارى لهم مثل ذلك، و رغبوهم في النصرانية، و هددوهم بنصارى العرب و بملوك الروم، و أكثروا في ذلك و هوّلوا، فقال اللّه عز و جل: «وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» فكفاهم اللّه إياهم كما وعد و كما أخبر، و قد كانوا أشد الناس حرصا على قتله و استئصاله و بواره،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:402
يبذلون في ذلك أموالهم و دماءهم. و قد كانت حاله بالمدينة و إن كان قد صار في جماعة و أنصار قريبا من حاله بمكة فقد كان يجلس وحده و يمشي وحده، و يدعو به الرجل و المرأة لحاجة فيمشي مع من دعاه، و قد يكون في بيته و عند أهله وحده، و إنما بيوته و مسجده من جريد النخل و ارتفاعها مقدار قامة.
(1/428)
و كانت سبيله في ذلك سبيل خلفائه و أصحابه في البذل و التظرح، و قد قصد العبد النصراني لقتل عمر فقتله «1»، و قصد ابن ملجم لقتل علي بن أبي طالب فقتله، و قد تحصن عثمان و أخذ حذره و جمع نفسه و مع هذا فقد تسلق عدوّه عليه و دخل من خوخته و نال منه حاجته مع هذه الأنساب و هم الأمراء، فتعلم أن سلامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من هذه الأشياء، من الآيات العظيمة، سيما و قد قال لعدوّه: إن اللّه سيكفينّكم، و في هذا تهييج لعدوه على نفسه، و بعث على مكروهه.
و قد كان أهل مكة يبعثون اليهود و النصارى و من بالمدينة على قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يحرشون بين الأوس و الخزرج، و يبعثونهم على من آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و على من اتبعه، و قد كان اليهود و أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ممن بالمدينة يردون مكة و يلقون قريشا فيبعثونهم على مكاره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قتله.
و قد كان لليهود بالمدينة و بالحجاز و بجزيرة العرب عدد جمّ. و قرى و حصون، و لهم بأس، و لهم نجدة و خيول و فرسان، و أبطال و فصحاء و شعراء، و لهم ثروة، و فيهم أجواد و يستجار بهم و يجيرون و يمنعون جيرانهم، و يقاومون الملوك و يدفعونهم عن أنفسهم؛ و نصارى العرب أكثر في هذا كله و أقوى و أشد، فاعرف هذا فبك إلى معرفته أمس الحاجة.
__________________________________________________
(1) يقصد أبا لؤلؤة الفارسي المجوسي.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:403
و باب آخر [بدر و ما فيها من آيات ]
(1/429)
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم/ و هو ما كان ببدر فإنه يوم كانت فيه آيات كثيرة و أظهر اللّه عز و جل لنبيّه أعلاما عظيمة، و كان للمشركين من قريش عير قد أقبلت فيها أموال و بزّ و أمتعة فاخرة، و خرجت قريش و قد خافت عليها المسلمين في نحو ألف فارس معدين و مستعدين ليحموها، و وعد اللّه المسلمين إحدى الطائفتين أن يظفرهم بهم و يغنمهم إياهم، و ودّ المسلمون أن تكون هذه الطائفة غير ذات الشوكة لقلة المسلمين و ضعفهم و كثرة المشركين و قوتهم، و كان المسلمون في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا يعتقب العدة منهم البعير الواحد، و لا فرس معهم يومئذ إلا فرس المقداد و فرس الزبير، و قد سبقهم العدو إلى الماء، و احتوى على الشعاب، و استظهروا على المسلمين بالماء و المكان، فوافى المسلمون في ضعفهم و قلتهم، فحصلوا على المضايق و الخروق من الأرض، و لا ماء لهم، فأنزل اللّه عليهم الماء فشربوا و سقوا ركابهم و تطهروا، و توطت الأرض لهم ما كان منها رملا حتى ثبتت أقدامهم عليها، و عند الحرب ألقى عليهم النعاس في الوقت الذي لا يكون فيه نعاس و يطير النوم للخوف على النفوس، فطيب قلوبهم و طير خوفهم، و شجع جبنهم، و أرسل إليهم ملائكته فثبتتهم و بشرتهم، و أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كفا من تراب و فيه حصيات فرمى به في وجوههم و قال:
شاهت الوجوه، حم، لا ينصروا، فتفرق الحصى في عسكر المشركين و بلغ إلى خلق كثير بخلاف ما جرت به العادة. و قد ورد القرآن بذلك و تفصيله ورودا يشهد عقل كل عاقل و متأمل و معتبر و متفكر أن ذلك قد كان و وقع في قوله في سورة الأنفال إلى قوله: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:404
(1/430)
بَيْتِكَ/ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» إلى قوله: «وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «1».
(1/431)
فانظر كيف يصف لهم أحوالهم و ضعفهم و خوفهم و قلّتهم و ما كان قد وعدهم به من الظفر بإحدى الطائفتين قبل اللقاء و ما نصرهم به على ذلك التفضيل. و لا يجوز أن يقول لهم: قد كنت وعدتكم و قد كنتم كارهين و خائفين و مستضعفين، فأزلت خوفكم، و طيبت نفوسكم، و أنزلت عليكم الماء، و غشيتكم بالنعاس أمنة مني، و نصرتكم بالملائكة، و هو يعلم أنهم يعلمون أنه كاذب، و أن ذلك لم يكن؛ و هذا القول يسمعه العدو و الوليّ، و هو يمتنّ به على الصحابة و أتباعه، و يحتج به على العدو و الوليّ، و يصول بذلك و يدل و يستطيل؛ هذا لا يقع من عاقل، و لا يتوهمه عاقل تدبر و فكر، فكيف بمن يدعي النبوة و الصدق، و يريد من كل أحد سمع
__________________________________________________
(1) الأنفال، الآيات من 5- 17
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:405
قوله/ أن يتبعه و يعتقد ذلك منه و يطيعه. و هؤلاء الذين اتبعوه و أطاعوه و بذلوا أموالهم و دماءهم، إنما فعلوا ذلك لما اعتقدوه من نبوته، و عرفوه من صدقه، و تحققوه من قوله. ففي كل واحد من هذه الآيات ما فيه أتم الحجة بانفراده، فكيف بترادفه و اتصال بعضه ببعض، و لو افردت لكل آية بابا و شرحت ما فيها لكان أولى و إن طال، و أنت متى شئت قدرت على ذلك.
و انظر ما في قوله: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» إلى قوله: «وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» «1» فتأمل موافقته لهم و احتجاجه عليهم، و ليس يدعى أن هذا قوله، بل يقول لهم: هذا قول ربي و ربكم، و هو الذي كان وعدكم هذه المواعيد و ضمن لكم النصر و قد وفى لكم بجميع ذلك.
(1/432)
و انظر إلى حسن تدبيره سبحانه و تعالى، فإنه ضمن لهم إحدى الطائفتين و لم يقل أيهما هي، و ودوا هم أن تكون غير ذات الشوكة فإنها في عدة من الرجال قليلة، و أموالها كثيرة؛ و كرهوا ذات الشوكة لقوتهم، و كثرة عددهم؛ و أراد اللّه أن يحق الحق بكلماته التي وعد نبيّه أنه يهزم جموعهم و ينصر ضعف المسلمين عليهم. و لو قال لهم: إنكم تلقون ذات الشوكة ها لهم ما عاينوا، إذ هم رجّالة وعدتهم قليلة و أولئك خيّالة وعدتهم كثيرة فخافوا أن يبرزوا فيجول عليهم العدوّ جولة يصطليهم فيها فأيدهم بذلك
__________________________________________________
(1) الأنفال الآيات من 41 إلى 44
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:406
النصر، و سلمهم تلك السلامة فظفروا بعدوهم فقتلوا سبعين و أسروا/ سبعين و هزموا الباقين.
و تفهم معنى قوله: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» «1» أي بذلك النصر و ذلك التأييد و تلك الآيات و المعجزات استوى لكم قتلهم، «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى » «2» لأنه صلّى اللّه عليه و سلم لما رمى بلغ اللّه رميته إلى ما لم يكن في وسعه تبليغها و بثها و إيصالها، فما أحد أصابته إلا قتل أو أسر؛ و ليس يجوز أن يقول لهم فلم تقتلوهم و لكن اللّه قتلهم و مثل ذلك قد يكون و قد يتفق، و كذا في قوله: «وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى » و وليّه و عدوّه يسمع هذا، و هم قد مارسوا الحروب قبله و جربوها و عرفوها و سمعوا بها، ليعلم أن ذلك شي ء انتقضت به العادة و كان فيه آيات و معجزات. و قد سأل الخصوم فقالوا: إذا كان الملائكة ثلاثة آلاف أو خمسة و المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر فكيف لم يصطلموا عدوّهم و إنما هم في نحو ألف، و كيف لم يعنه بالملائكة يوم أحد و قد قتل أصحابه، و هو قد كان يوم أحد إلى الملائكة أحوج.
(1/433)
قيل له: قد علمنا بما قدمنا أن الملائكة قد شهدتهم يوم بدر بدلالة امتنانه على المسلمين بذلك و العدوّ و الولي يسمعه، فليس في سؤاله قدح في هذا العلم، فإن بيّنا وجه حضورهم فمن طريق التطوع، و هو أنه ليس في حضور الملائكة عليهم السلام سقوط الفرض عن المسلمين في مجاهدة عدوّهم، و لا أذن اللّه لهم في محاربة العدو، و لكنهم حضروا ليثبتوا الذين آمنوا و ليرغبوا الذين كفروا و ليقتلوا الواحد بعد الواحد تثبيتا للمؤمنين
__________________________________________________
(1) الأنفال، 17
(2) الأنفال، 17
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:407
و إرعابا للكافرين و إيضاحا للمعجزات، و كذا قال اللّه و قد ذكر نزول الملائكة: «وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» و قال في موضع آخر/ في هذه القصة: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ».
(1/434)
و أما قصة أحد، فليس إذا أنزل اللّه الملائكة يوم بدر وجب أن ينزلهم يوم أحد، و ليس إذا عافى اللّه نبيه وقتا وجب أن يعافيه في كل وقت بل قد يمتحنه بالمرض في وقت و يكلفه الصبر، و كذا ينصر وقتا بالملائكة و يخليه من ذلك وقتا آخر فتشتد محنته و يلزمه الصبر؛ و إنما يسأل عن هذا من ادعى أن اللّه ينصر أنبياءه في جميع مواطنهم بالملائكة، و هذا سؤال يذكره ابن الراوندي بعد موافقته أبي عيسى الوراق و ابن لاوى اليهودي، و أمثالهم من الملحدة و أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا غاية كيدهم، و قد بذلوا جهدهم و استفرغوا وسعهم فما فضحوا بذلك إلا أنفسهم، و لو سكتوا لكان أستر لهم، و لو آمنوا لكان خيرا لهم، لتعلم أن الإسلام نور لا يطفأ، و أن مطاعن الخصوم فيه لا تزيد إلا قوة كالذهب الذي لا يكلف و كلما سبكته و عرضته على النار زاد جودة و صفاء. و قد كان أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في زمانه من قريش، و اليهود و النصارى أكبر عقولا و أشد كيدا و أكثر شغلا بالتتبّع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و طلب عثراته و لهم فضل المشاهدة، فلو وجدوا مطعنا لسبقوا اليه و لوافقوا عليه، فقد كان ينبغي لهؤلاء المتأخرين من أعدائه أن يعملوا هذا فيمسكوا، و لكن الجهل و الغباء قد سد مسامعهم و غطّى على أبصارهم، و يأبى اللّه إلا فضيحتهم و هتيكتهم؛ و هم لم يسألوا عن الآيات التي كانت تنذر و لا عن المواعيد التي تقدمت بها قبل كونها مع كثرة ذلك و اعتداد اللّه به، و ما سألوا إلا عن الملائكة ليأسهم من تلك/ و طعنهم في هذه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:408
و قد تبينت خيبة أملهم في هذه أيضا و في شهود الملائكة مع ما قدمنا من الدلالة.
(1/435)
أخبار من ذلك: أن رجلين من مزينة من الكفار كانا على جبل ينظران على من تكون الهزيمة، فقال الباقي: و كنا نحب أن يكون على قريش لأنهم أكثر أموالا و متاعا فنصيب منه فرابنا سحابة قد أقبلت، و قائل يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فإنه انكشف قناع قلبه فمات، و أما أنا فتماسكت، فأتى النبيّ فأخبره بذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حيزوم اسم فرس الملك «1».
و من ذلك أن حكيم بن حزام لما أسلم و قد كف بصره و كان يوم بدر مع الكفار قال: لو كان بصري صحيحا لأريتكم الوادي الذي خرجت علينا منه الملائكة.
و من ذلك أن أبا تميم الأسلمي لما رأى الحارث بن هشام يصير إلى مكة داخلا و قد انقطع فرسه فسأله عن الخبر فقال «2»: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق تطير بين السماء و الأرض فانهزمنا.
و من ذلك أن أبا سفيان بن الحرث بن عبد المطلب لما قدم مكة منهزما قال له أبو لهب: إلى أين يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر فقال: يا عم قتل الناس، قال له أكانوا أكثر منكم، قال: لا، و لكنا رأينا رجالا بيضا على خيل بلق
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الأصل: الحيزوم اسم فرس الملك.
(2) أما أبو تميم الأسلمي فهو حمزة بن عمرو بن الحارث الأسلمي، صحابي كان كثير العبادة شهد فتح افريقية توفي سنة 61 ه. الأعلام: 313 و أما الحارث بن هشام فهو الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، صحابي، كان شريفا في الجاهلية و الإسلام، شهد بدرا مع المشركين و أسلم يوم فتح مكة توفي سنة 18 ه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:409
تطير بين السماء و الأرض، فلما رأيناهم انهزمنا، قال أبو رافع مولى العباس ابن عبد المطلب و كان مسلما: تلك الملائكة فوثب عليه أبو لهب فضربه.
(1/436)
و من ذلك خبر أبي داود المازني قال: بينا أنا أبتغي خلف رجل من الكفار إذ سقط رأسه بين يدي من غير أن أضربه، و قد كان المسلمون لما رأوا كثرة المشركين و عدتهم و بأسهم و ضعف المسلمين و قلتهم قالوا: يا رسول اللّه قد تخلف عنك خلق من المسلمين بالمدينة لم يخرجوا لأنهم لم يظنوا أنك تلقى عدوا تقاتلهم/ و إنما ظنوا أنك تلقى عير قريش، و لسنا نأمن جولة العدوّ، فإن رأيت يا رسول اللّه أن نبني لك عريشا تكون فيه، فأجابهم إلى ذلك و قال: اتخذوا لي عريشا تسعني و صاحبي، و أخذ بيد أبي بكر الصديق فأدخله معه العريش، و جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يدعو ربه، و طالت مناجاته ربه: ربّ ما وعدتني، ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض، فاحتضنه أبو بكر من ورائه و قال:
بأبي أنت و أمي مناشدتك ربك، فو الذي بعثك بالحق لينجزنّ اللّه لك ما وعدك.
و جعل رسول اللّه يخبر أبا بكر بما يأتيه به جبريل و الملائكة، و يقول له: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر اللّه و عونه، هذا جبريل معتمرا بعمامة آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناة النفع، و هذه الملائكة قد سومت.
فأمر الملائكة عليهم السلام، و حضورهم يوم بدر، و قتال من قاتل منهم، من الأمور المشهورة، و قد قدمنا قبل هذه الأخبار دلالة العقل على ذلك، و قوله عز و جل: «وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» «1» فقلل المشركين في أعين المسلمين ليتجرؤوا عليهم و لئلا يهابوهم، و قلل المسلمين في أعين المشركين ثم ملأ
__________________________________________________
(1) الأنفال 14
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:410
(1/437)
قلوبهم رعبا منهم ليكون ذلك آية للفريقين. و قد كان المشركون من قريش خرجوا من مكة على خيولهم مستظهرين و وعيدهم أن يغلبون كل من يلقونه و لا غالب لهم من الناس، فلما نجت عيرهم ذات الأموال، قال عتبة بن أبي ربيعة: ننصرف فقد نجت عيرنا من محمد و أصحابه، فقال أبو جهل:
لا ننصرف و نقيم و نجزر الجزور و نأكل و نطعم الناس و نأخذ محمدا و أصحابه فإنهم في ضعف و قلة، فلما التقى الجمعان و رأوا قلة المسلمين و ضعفهم/ رهبوهم و زال ما كانوا يظنون.
(1/438)
و قد ذكر اللّه للمسلمين أمرهم فقال: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ» «1» إلى آخر القصة و لعظم الآيات ببدر ما أذكر اللّه بها في كل موضع، فقال عز و جل في سورة آل عمران: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» إلى قوله: «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ» «2» معطوف على قوله: «وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» أي ليس لك و لا لغيرك شي ء من هذا النصر، و إنما هو من اللّه وحده في إنزال الملائكة و فيما ألقى من الرعب و فيما غشى من النعاس و فيما بلّغ من الرمى و غير ذلك. و كان المشركون مغيظين و حنقين و محفظين يتمنون أن يبرز اليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أصحابه لا يشكون في أنهم إذا وقعت عيونهم عليهم اصطلموهم و استأصلوا الإسلام و شفوا غيظهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فجاءهم ما لم يحتسبوا.
__________________________________________________
(1) الأنفال 48
(2) آل عمران 121
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:411
و باب آخر [حول موقف اليهود و النصارى و عبد اللّه بن أبي سلول ]
(1/439)
من آياته و هو أنه صلّى اللّه عليه و سلم لما نزل بالمدينة و دعا إلى ربه و بها و حولها من اليهود و خلق كثير، فدعاهم و وعظهم و بين لهم، فرجع الرؤساء و الأتباع و تواصوا بالانحراف عنه و بالصدّ و بالقصد له، و كان عددهم كثيرا و شوكتهم شديدة، فمشوا في الأوس و الخزرج في الصدّ عنه، و مالوا إلى عبد اللّه بن أبي سلول، و كان الأوس و الخزرج على أن يملكوه عليهم إلى أن جاء الإسلام فانتقض ما عزموا عليه. و كانت اليهود تدّعي أنها على بصيرة/ من أمرها، و أن الجنة لها، و أن نعيم الجنة خالص لها، فأخبر اللّه نبيّه أنهم ليسوا من أمرهم على يقين كما يدعون، و أن رهبتهم لكم شديدة، و أنك إن دعوتهم إلى تمني الموت لا يتمنونه، فقال: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». ثم قال: «وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ «1» أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» «2» إلى آخر القصة. ثم أعاد هذا التقريع و التوبيخ في سورة أخرى و في زمان آخر فقال: «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». ثم قال: «وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» «3». فما تمنوه أبدا مع هذا الاقتضاء و المطالبة التي تغيظ و تغضب، و مع شدة عداوتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و حرصهم على تكذيبه و فضيحته و زلة تكون منه، و قد بذلوا في ذلك دماءهم و أموالهم و أولادهم و حاربوه
__________________________________________________
(1) في الأصل: فلن يتمنونه
(2) البقرة 94- 95
(3) الجمعة 6- 7
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:412
(1/440)
و أعانوا عدوه عليه، و تكلفوا كل شدة و كل مشقة في ذلك و ما أقدموا على تمني الموت مع سهولته و قربه، و هو أن يقولوا: ليتنا متنا. و هذه الآيات العظام و الأعلام الكبار الهائلة الواضحة المكشوفة الباهرة القاهرة التي ما فكر فيها عاقل إلا ملأت قلبه علما بنبوته صلّى اللّه عليه و سلم و صدقه، و بهرت عقله، فإنك ما تدري أمن إقدامه صلّى اللّه عليه و سلم على الإخبار عنهم بأنهم لا يتمنون ذلك مع خفته و سهولته و مع علمه بشدة حرصهم على تكذيبه و فضيحته تعجب، أم من إحجامهم عن ذلك مع شدة حاجتهم اليه. و لم يقل هذا من عندي و لا من مولى/ بل هذا من قول اللّه ربي و ربكم و إلهي و إلهكم و العالم بسركم و جهركم، فجعله كتابا يقرأ و قرآنا يتلى، ليكون أشد و أغيظ و أبلغ في الحجة و أظهر في التنبيه، و لتعلم أنه ما قال هذا لهم إلا و هو عالم أنهم لا يتمنونه. و هو أعجب من قوله للعرب أنكم لا تأتون بمثل هذا القرآن، و هذا مقام لا يقومه مثله مع عقله و عظم دعاويه إلا مع اليقين، لتعلم ثقته بربه جل و عز و سكونه إلى ما يوحى اليه.
و قد تحيرت الملحدة و أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و تاهت عقولهم عند هذه الآيات، فهم يلعنون العرب لم لم يأتوا بمثل هذا القرآن، و كون اليهود لم لم يتمنوا الموت فيكذبونه فيستريحون و نستريح. و هذا يقوله مثل الحدّاد و صاحبه أبي عيسى قبحهم اللّه.
(1/441)
فمرة يقولون: كانوا جهالا بلها فقيل لهم ما قد تقدم ذكره من أن من رمى أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من قريش و اليهود و النصارى بالجهل و الغباء فهو كمن رماه صلّى اللّه عليه و سلم بذلك. و مرة يقولون: قد كانوا عقلاء و فطناء و لم يكونوا أهل جدل و نظر فيعرفوا مثل هذا، قلنا: لو كانوا مثلكم في النظر و الجدل لعميت قلوبهم كما عميت قلوبكم. و بعد فما حاجتهم إلى جدلكم و نظركم ليعرفوا ما دعاهم اليه صلّى اللّه عليه و سلم و هم بهذا أعلم الناس، و هو شي ء يعرفه الرجال و النساء
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:413
و الصبيان من كل أمة، فإن من استعالى على خصمه بأنه لا يأتي بمثل ما أتى من كتابة أو سباحة أو فصاحة أو خطابة أو شعر فإنه قد عرف الوجه في ذلك، فإن الصبي يقول لقريبه: أنت لا تحسن تكتب كما أكتب و لا تحسب كما أحسب و لا تطفر هذا الجدول كما أطفر، فإن خصمه يدري ما أراده منه و بأي شي ء قد طالبه/ و ما الوجه في مغالبته و إكذابه، و كذا تمني الموت قد عرفته اليهود و عرفوا كل أحد منهم ما أراده صلّى اللّه عليه و سلم.
(1/442)
فذكر ابن الراوندي أن الوراق كان يقول: إنما لم يتمنوا الموت لأن اليهود و النصارى كانوا يؤمنون بموسى و غيره ممن كان يدعي النبوة، و قد أخبر هؤلاء في كتبهم بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم فلم يقدموا على التمني لهذا. فقيل له: فهذا يدل على نبوة أولئك و نبوة محمد جميعا فقد لزمكم القول بكتبهم أجمعين، و أنتم تنكرون ذلك كله. قال: إنما إخبار هؤلاء عن مجي ء محمد صلّى اللّه عليه و سلم كما يخبر المنجم عن ما يكون، فيقولون ذلك. قيل له: و متى كان مثل هذا في أخبار المنجمين أن يخبروا عن مثل مجي ء محمد صلّى اللّه عليه و سلم، و في أي زمان يجي ء، و بأي شي ء يجيي ء، و من أي بلد يجي ء، و من أي جيل، هو و ابن من هو، على التفصيل الذي جاء به، مثل هذا لا يكون في أخبار حذاق المنجمين و لا ما يقاربه و لا ما يدانيه، و إنما يتفق لهم الإصابة في شي ء مجمل قليل يسير بعد أن يكذبوا و يخطئوا «1» في ألف شي ء، فيتفق ما يتفق لهم من ذلك بطريق التجارب و الزجر، كما يتفق للصبيان من الإصابة في إخراج الزوج و الفرد و في اللعب بالخاتم، بل ما يتفق للصبيان في الإصابة أكثر و أسرع و أحسن و أبدع، و كذا ما يتفق للقوابل في أن الحمل ذكرا أو أنثى، و كذا ما يتفق لمن يزجر الطير و يضرب بالحصا، و كذا ما يتفق للمتفائلين بالثعلب و المتطيرين بالبوم و لمن يزجر الطير، فكذب المنجمين
__________________________________________________
(1) في الأصل «يكذبون و يخطئون».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:414
(1/443)
و خطئهم أكثر من كل كبير، و هو شي ء لا يستنكر، و هم يعترفون بهذا فيقولون: لا تعجبوا من خطئنا و لكن اعجبوا من/ صوابنا، و إنما صوابهم كمجنون نطق بحكمة، أو صبي أتى بنادرة، فإن الناس يحفظون ذلك و يعجبون به لأنه أتى من غير معونة، و لا يحفظون ما يكون من المجانين و الصبيان من الجهل و الكذب، فكذا ما يكون من المنجم، يخطى ء في ألف شي ء و يكذب في ألف شي ء فلا يحفظ عليه لأن ذلك غير منكر منه، فإذا اتفق له الصواب في شي ء واحد تعجبوا و حفظ لقلته من مثله و لأنه أتى من غير معدنه. و على أن الناس يكذبون المنجمين و يدّعون لهم ما ليس لهم و لا في صنعتهم، و يضايقون الأنبياء و يتعنتوهم، و قد تقدم قبل هذا شي ء على المنجمين فارجع اليه.
ثم قال هؤلاء الزنادقة: إنما لم يتمنوا الموت لأنهم لو تمنوه بألسنتهم لقال إنما عنيت أمنية القلوب، فإن قالوا له: قد تمنينا بقلوبنا، قال لهم: قد أخبرني جبريل أنكم لم تفعلوا ذلك.
قيل لهم: قد حصلوا لنا غير متمنين بألسنتهم، و انتقضت العادة و قامت الحجة و ظهرت البينة، و حصلتم تعللون ما لم يكن و ما لم يقع، و قد كنتم نسبتم اليهود في تركهم التمني إلى البله، و الآن فقد نسبتموهم إلى التميز و التحصيل و إلى غاية الذكاء و الفطنة، و من هذه مرتبته كانوا يقولون له: أنت قلت لنا لن نتمنى ذلك أبدا و هاقد تمنيناه و هذا إكذاب لخبرك ظاهر بين.
فرجوعك إلى ما في القلوب هو الانقطاع على أنك قد نفيت التمني منا نفيا عاما لما كان منه باللسان و ما كان منه بالقلب، فإذا تمنيناه باللسان فقد أكذبناك و قد أفضحناك و قامت حجتنا عليك، و قولك بعد هذا أن جبريل أخبرك أنا ما تمنيناه بقلوبنا قدح منك لأنا نحن نقول لك: إن جبريل ما أتاك و لا يأتيك فكيف يكون دعواك حجة علينا. فتعلم بهذا/ بطلان كيد الخصوم في توكلهم لليهود
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:415
(1/444)
بعد أربع مائة سنة، و بعد فكيف لم يقولوا له: أي الأمنيتين أخبرت إنا لا نفعلها ليبينوا للناس أنه لا حجة عليهم فيما أخبر به عنهم في أنهم لا يتمنون الموت مع حرصهم على تكذيبه و إبطال حجته.
و باب آخر [محاولة اليهود قتل الرسول بالصخرة و اخباره تعالى بذلك ]
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم، أنه مضى و معه أبو بكر و عمر إلى اليهود في بعض الشأن، فلما جلسوا أرسل اليهود من يلقي عليهم صخرة لتقتلهم فلما صعد رسول اليهود لذلك أنذره اللّه عز و جل فنهض من ساعته و قال لأبي بكر و عمر:
قوما فإن هؤلاء قد أرسلوا من يلقي علينا ما يقتلنا، فخجل اليهود لذلك.
و في ذلك يقول اللّه ممتنا عليهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» «1» و هي قصة معروفة، فلهذا جاز الامتنان بها، و لا يجوز أن يمتن و يقول مثل هذا إلا لما هو مشهور معروف عندهم سمعه الوليّ و العدو.
و باب آخر [توعد اليهود و النصارى في وقت كثر فيه ممالئوهم ]
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم، و هو أن قوما من المنافقين و ممن في قلوبهم مرض و ضعف يقين و قلة بصيرة كانوا يمالئون اليهود و يتوددون إليهم، فيقال لهم: لا تفعلوا هذا، فيقولون: الصواب لنا و لكل عاقل أن يفعل ذلك، فإنا لا نأمن أن يكون لليهود دولة فيصيبنا منهم دائرة، و هم كثرة و لهم نجدة و بأس و شدة، فأنزل اللّه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
__________________________________________________
(1) المائدة 11
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:416
(1/445)
وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» أي «1» من تولاهم فإنه منهم في الكفر لا من المؤمنين، إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين أي لا ينجيهم من العذاب و لا يوصلهم إلى الثواب. ثم قال على نسق الكلام: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ/ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» ثم قال:
«فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» «2» و الفتح هو نصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عليهم و غلبته لهم، فوعده بذلك ثم أنجز له و وفى له، و عسى من اللّه و أحبه. فواقع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم اليهود وقائع كثيرة فنصره اللّه عليهم، و ندم أولئك المنافقون في إسراعهم فيهم كما قال و كما أخبر. و قال المؤمنون حين رأوا غمّ المنافقين بما نزل باليهود و بما آتاه اللّه من نصر نبيّه صلّى اللّه عليه و سلم: «أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» «3».
و في هذا آيات عظيمة و أخبار بغيوب كثيرة أخبر بها قبل أن تكون على وجه يغيظ و يغضب و يبعث العدو على استفراغ وسعه و بذل مجهوده في تكذيبه و في إعمال حيله في أن لا يتم ما قال و ما أخبر، خلافا «4» لتدبير عقلاء البشر، فإنهم لا يظهرون لعدوهم وجوه مكايدهم لئلا يسبقوهم إليها، و لئلا يتحرروا منها، لتعلم أن هذا تدبير اللّه الغالب لكل شي ء، الذي لا يغلبه شي ء، و أن هذا القرآن كلامه و قوله لا كلام أحد من البشر. و كان ميل أولئك إلى اليهود فأنزل اللّه هذا في اليهود و في النصارى، و نصر المسلمين عليهم أجمعين، و كانت
__________________________________________________
(1) المائدة 51
(2) المائدة 52
(3) المائدة 53
(4) في الأصل: خلاف.
(1/446)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:417
وقائع المسلمين مع النصارى أكثر، و كان بأس النصارى أشد، و عددهم أكثر، و مدة محاربتهم أطول، فكانت العقبى للمسلمين.
و باب آخر [اخباره تعالى عن المرتدين و أنه سيأتي بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيله ]
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم و دلائل نبوته، و هو قوله عز و جل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».
فأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه أتى اللّه بمن يغلبه و يقهره، فلما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ارتدّت/ القبائل الكبيرة من العرب عامة و خاصة على وجوه من الردة كما قد تقدم شرح ذلك، فشمر أبو بكر الصديق لحربهم، و أرسل المهاجرين و الأنصار على قتالهم، و قاموا على ساق، فقهروهم و أذلوهم و غلبوهم و ظهرت كلمة الإسلام فكان العز للمسلمين، و هذا من الآيات العظام، فانظر كيف قال عز و جل لهم بالمواجهة: «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» «1» و لم يقل: من يرتد عن دينه، فكانت عدة تحتمل التسويف بل قال: «مِنْكُمْ».
و في هذا غيوب كثيرة، فإن القبائل التي ارتدت تلك الأنواع من الردة كانت كثيرة و لها بأس و شدة كما قد تقدم ذكر ذلك، و في هذا أيضا تأييد لإمامة أبي بكر الصديق، و أنها حق و هدى و صواب و رشاد و دين للّه، و قد وصفه اللّه و من معه بأنهم يحبون اللّه و أن اللّه يحبهم، و أنهم يخضعون و يذلون للمؤمنين و أنهم يستعلون و يشتدون على الكافرين، و أنهم يجاهدون في سبيل اللّه
__________________________________________________
(1) المائدة 54.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:418
(1/447)
و لا يخافون أحدا و لا يراقبون أحدا و لا يهابون في اللّه مخلوقا و أن هذا فضل من اللّه ساقه اليهم و خصهم به، و هذه صفات أعلى المؤمنين درجة عند اللّه، فلو لم يقف من غلط من اتهمهم و رماهم بالريب إلا من هذا الوجه لكفى و أغنى و زاد على الكفاية «1». و لو كان أبو بكر رضي اللّه عنه و أصحابه ارتدّوا و كفروا كما زعم هؤلاء و ادعوا لأتى اللّه بمن يقهرهم و يغلبهم، و إلا كان خبر اللّه قد كذب و أخلف و حاشا لأخبار اللّه أن تكون كذلك. و عند هؤلاء الزنادقة أن هؤلاء الصحابة قد ارتدوا، و أنهم أعداء اللّه و أعداء رسوله و أن أمير المؤمنين و نفرا كانوا معه على الإسلام مغلوبين مقهورين مقصودين بالإذلال و المكروه، و أن أبا بكر و عمر و عثمان و المهاجرين و الأنصار كانوا يعزون المشركين و أعداء الدين و المرتدين و المبدلين و المغيرين و يذلون المؤمنين، و هذا ضد/ التنزيل و تكذيب لقول اللّه فيهم كما قد شرحه اللّه و بينه في الآية و أظهره من ضمائر هؤلاء و نياتهم. و على ما يقوله الخصم كان ينبغي أن يكون التنزيل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يبغضهم و يبغضونه يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الشيطان فهذه صفاتهم عند هؤلاء الخصوم، نعوذ باللّه من العمى.
و الذي عند العلماء، أن عليا رضي اللّه عنه كان في أيام هؤلاء أعز المؤمنين و أجلهم و أعلاهم، نافذ الأمر مسموع الغلب، مثلهم في سلطانه؛ و به قام سلطان أبي بكر و بأمثاله من المؤمنين، و قد تولى لأبي بكر أتعاب المدينة، و تولى له أموال رسول اللّه، و سار معه إلى الربذة و إلى ذي القصة، و غزا معه، و أشار عليه بتلك الآراء، و ردّه إلى المدينة و أطاعه حياته و بعد موته، و نفذ وصيته في عمر. و كان رضي اللّه عنه يضرب المثل لأصحابه، و أنه كان
__________________________________________________
(
(1/448)
1) كتب في هامش الأصل «تشنيع على الروافض».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:419
في سلطان أبي بكر و عمر أنفذ قولا، و أن أولئك كانوا أعرف بحقي منكم، و أني لو كنت الخليفة في زمانهم لكانت طاعتهم إلي أحسن، و كان يقول لعدوه مثل ذلك، و لقد كتب إلى معاوية يتمنى أولئك الذين مضوا من المهاجرين و الأنصار فقال: «1»
لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا أو حمزة الليث الهمام الأزهرا
أو أن لي صدّيقها أو عمرا أو من أولاك السابقين معشرا
رأت قريش نجم ليلي ظهرا و الخصم في زمانك هذا يقول: ما أسلموا قط و لا لهم إسلام، و أنهم ما زالوا أعداء المسلمين، و الذي يعرف أهل العلم و التحصيل أنهم كانوا خاصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم/ و بطانته، و أمناءه و ثقاته على نفسه و أهله و دينه، و أنه كان يحبهم و يودهم و يجلهم و يعزهم و يواليهم. و أنه قد فرض محبتهم و موالاتهم و أوجبها على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة. و العلم بهذا قبل العلم بنبوته، و هو كالعلم بأن عقبة بن أبي معيط، و العاص بن وائل، و الوليد بن المغيرة، و النضر ابن الحارث بن كلدة، و أبي بن خلف، و أمية بن خلف، و عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و أمثالهم، كانوا أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه قد فرض بغضهم و البراءة منهم إلى يوم القيامة. فما يحتاج في هذا إلى تلاوة آية و لا إلى رواية خبر، و إن كان القرآن مملوآ بذلك، و الحديث مستفيضا به. فإن فعلت ذلك فمن طريق الزيادة في الحجة و المظاهرة بالبينة. و لحكاية تلك الألفاظ عمل الناس الكتب في تفضيل القرآن و إن كانوا يعلمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يفضله و يجله، و كما عملوا الكتب في تفضيل شهر رمضان و إن كانوا يعلمون أن
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الأصل: «من شعر علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:420
(1/449)
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يفضله، و كما عملوا الكتب في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و في الجهاد في سبيل اللّه، و كما عملوا الكتب على المبتدعين من أهل القبلة بأن القديم الأزلي هو اللّه وحده، و أنه لم يزل موجودا حيا عالما قادرا غنيا و لا يزال كذلك، و أن جميع ما خلقه و فعله و قضاه و قدره و شاءه و أراده و صنعه و دبره و رضيه و أحبه و أمر به و دعا اليه فكله حق و صواب و عدل و حسن من جميع وجوهه، أين كان و فيمن كان، و أنه يجب على العباد قبوله و الصبر عليه و الرضى به و التسليم له سواء كان شدة أم رخاء، و أن الكفر باللّه و شتم أنبياء اللّه و تكذيب رسل اللّه و جميع المعاصي قبيحة، فتلوا في ذلك آيات القرآن و ذكروا ألفاظ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم/ لما ذكرنا، فاعرف هذا، فالعلم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مدح أبا بكر و عمر و تلك الجماعة من السابقين أقوى من العلم بأنه مدح أحدا و أثنى عليه، أو أنكر أن يكون أبو بكر و عمر و عثمان و علي و تلك الجماعة مدحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أعظموه أو صلوا خلفه، و إنما ذكرنا هذا للحاجة اليه و لأن الناس قد أكثروا فيه في هذا الزمان فما يستغلون الآية.
و باب آخر [حول غزوة أحد]
(1/450)
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم، و هو أن قريشا و العرب تجمعوا و أعدوا الخيل و الرجال و السلاح و قالوا: نسير إلى محمد فنقتله و نقتل أصحابه و نأخذ بثأرنا يوم بدر. فساروا في ثلاثة آلاف، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ندعهم حتى يردوا المدينة؛ فقال قوم من الأنصار قد أصابوا زروعنا فنخرج اليهم فنلقاهم وراء المدينة، فصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى رأيهم و سار. ثم فكروا و قالوا: نأخذ بما أشار به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و نقاتلهم في المدينة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: ما كان لي أن ألبس لامتي فأرجع حتى ألقى العدو. فخرج في سبعمائة و فيهم عبد اللّه بن أبي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:421
(1/451)
سلول و أمثاله ممن في قلبه مرض، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: ستكون فيكم مصيبة، و ذاك أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم رأى في المنام أن بقرا تنحر فتأوله قتلا في أصحابه، و رأى أن سيفه ذا الفقار قد انفصم فكان قتل عمه حمزة رضي اللّه عنه، و رأى أن كبشا أعين قتل فتأوله كبش الكتيبة فكان عثمان بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين. فلما صاروا بأحد التقوا مع المشركين عبّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه قال لهم: إنكم ستهزمونهم، و أقام الرماة من أصحابه في موضع خاف أن يدخل المشركون منه فيصيروا خلف العسكر، و أمرّ عليهم عبد اللّه بن جبير، و قال لهم:/ إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى بلغنا بهم بموضع بعيد فلا تبرحوا أنتم، فانهزم المشركون كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وضع المسلمون فيهم السيف يقتلونهم، و نظر الرماة إلى الهزيمة فتركوا مراكزهم و اتبعوا العدو و اشتغلوا بالغنائم و ثبت أميرهم مع طائفة و قال: و اللّه لا أعصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فلما زال الرماة عن مكانهم دخل المشركون و صاروا من ورائهم و نادى مناديهم بصوت عال: قتل محمد و قتل ابن أبي قحافة و قتل ابن الخطاب. و انصرف عبد اللّه بن أبي سلول بمن معه، و انهزم المسلمون، و بقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مع نفر يسير، فما برح و ما برحوا مع قلتهم و كثرة المشركين، منهم أبو بكر و عمر و علي و طلحة و أبو عبيدة و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و نفر من الأنصار؛ و أقبل أبو سفيان بأصحابه نحو الجبل الذي فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و النفر الذين معه فصرفهم اللّه فلم يقدموا عليهم، فنادى أين ابن أبي كبشة، أين ابن أبي قحافة، أين ابن الخطاب، فما أجابه أحد فقال: قتل هؤلاء، فقال عمر: يا رسول اللّه ألا أجيبه، فقال: أجبه، فقال أبو سفيان:
(1/452)
اعل هبل، فقال عمر: اللّه أعلى و أجل، قال أبو سفيان: لنا العزّى و لا عزّى لكم، فقال عمر: اللّه مولانا و لا مولى لكم، قال أبو سفيان: الأيام
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:422
دول، و الحرب سجال، و أحد ببدر، و حنظلة بحنظلة، يعني ابنه حنظلة.
فقال له عمر: و لا سواء، قتلانا في الجنة يرزقون و قتلاكم في النار يعذبون، فقال أبو سفيان يا ابن الخطاب أسألك عن شي ء فأخبرني، فقال: قل، فقال:
أما أنت فحيّ، سألتك باللّه أمحمد حيّ و ابن أبي قحافة حيّ، قال: نعم/، و رسول اللّه يسمع كلامك و لك منه ما تكره، فقال أنت أصدق، فإن ابن قمئة أخبرني أنه قتل «1». فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم اللهم أقمه في الدنيا قبل الآخرة، فاعتقل عنزا ليحلبها فنطحته فمات.
و في هذه الوقعة يقول اللّه عز و جل: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» أي تقتلونهم «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» «2» إلى آخر القصة.
فتعلم أنه لا يسوغ و لا يجوز أن يقول رئيس قوم لهم: قد كنت وعدتكم أن تقتلوهم و قد صدقتكم فيما وعدتكم و أريتكم ما تحبون ثم عصيتم أمري و خالفتم وصيتي و هو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذب في جميع ذلك، فكيف بمن يدّعي النبوة و الصدق في جميع ما يقوله و يخبر به.
و قوله: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» إلى قوله: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» يعني أولئك الذين أخلوا المراكز «3» و اشتغلوا بالغنيمة «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا
__________________________________________________
(
(1/453)
1) هو عبد اللّه بن قمئة الليثي: جرح و جنة الرسول في أحد فدخلت حلقتان من حلق الدروع في و جنته، و انظر لهذه المحاورة سيرة ابن هشام 3: 93- 94
(2) هذه الآيات و ما بعدها من سورة آل عمران 150- 154
(3) في الأصل: أخلوا بالمراكز.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:423
بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «1» ثمّ أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم».
و هذه أيضا من الآيات بأحد، فإن النعاس غشيهم كما غشيهم ببدر، في الموضع الذي يطير فيه النعاس؛ و الذي يدلّك على كونه امتنان اللّه عليهم به و لا يجوز أن يمتن عليهم بذلك و العدو و الوليّ يسمع هذا الامتنان، و هو أمر لا أصل له و هو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم في ذلك. إلى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ/ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ»، و قال لنبيّه عليه السلام: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» فأمره بالاستغفار لهم و أن يعود لهم إلى حالهم في مشاورتهم، فإن المشورة فيما لم ينزل به قرآن مستحبة حسنة. و الذين أشاروا من الأنصار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بأن تكون الحرب خارج المدينة كان لهم أن يشيروا بذلك، و كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يأخذ برأيهم؛ و لقد اجتهد أعداء عثمان في أن يجدوا له عيبا فما قدروا عليه مع طول المخاطبة، فقال له قائل منهم: أنت ممن تولى يوم أحد فقال له عثمان: فلم تعيرني بذنب قد غفره اللّه، أما سمعت قوله: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» إلى آخر الآية.
(1/454)
و فكر في معنى قوله عز و جل: «أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «1» أي بذنبكم و تقصيركم و ترككم الموضع الذي قال لكم نبيكم صلّى اللّه عليه و سلم سنهزمهم فلا تتركوا مركزكم و لا تمسوا غنائمهم حتى تفرغوا. و قد كانوا يوم بدر
__________________________________________________
(1) آل عمران 165
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:424
قتلوا سبعين و أسروا سبعين، فلهذا قال لهم: «قد أصبتم مثليها» لأن القتلى من المسلمين كانوا يوم أحد سبعين فلهذا قال لهم: «قد أصبتم مثليها» لأن القتلى من المسلمين كما ذكرنا. فتأمل ما تقرأ و أطل الفكر فيه تقف على المراد به، فإن الذكر للقصة بأحد من قوله: «وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» إلى قوله: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ».
فتأمل طول هذه المراجعة و المواقفة للمؤمنين على الوفاء بما ضمنه لهم، و على الصدق فيما أخبرهم و فيما كان من تقصيرهم،/ فكم فيه من آيات و دلالات.
و انظر إلى هذا الادلال بالحق و الاستطالة على العدوّ و الولي بالحجة حتى ما يستطيع العدو المكاشف أن يدفع شيئا من ذلك.
و انظر إلى المواقفة و المناظرة التي كانت بين عمر و بين أبي سفيان، هل قدر أبو سفيان و أصحابه و هم يناظرون المسلمين من عسكرهم أن يقولوا:
إن محمدا كذبنا في كذا و أخلف في كذا و كيف تطيعونه و تفارقون أديانكم و بلدانكم و تقتلون أنفسكم لرجل هذه سبيله و ما أشبه ذلك، و هذا موضع حاجتهم إلى ما هذه سبيله.
(1/455)
و انظر إلى أهل الردة على طبقاتهم، فقد كانوا أشد الناس عداوة لأبي بكر و قد نال منهم كل منال و قتلهم كل قتلة، فما استطاع أحد منهم أن يقول له: و أنت فقد بدلت دين محمد و نقضت عهوده فكيف أنكرت علينا ما صنعنا، و لم تقتلنا لأنا منعنا الزكاة، و هذا موضع حاجتهم اليه و حجتهم عليه، و لتعلم أنه لم يكن فيه مغمز كما لم يكن في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.
و لما رجع المشركون من أحد و صاروا بالروحاء «1»، أقبل بعضهم على
__________________________________________________
(1) معجم البلدان 3: 76
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:425
بعض يتلاومون، و أنهم صاروا في عسكر عظيم و هم لا يشكون في أنهم يقتلون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يستأصلون الإسلام، فخاب أملهم و اختلفت أقوالهم و قالوا:
لا محمدا قتلتم و لا كواعب أردفتم فبئس ما صنعتم.
و قد كان أبو سفيان نادى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل انصرافه من أحد:
(1/456)
ما بيننا و بينكم موسم بدر الصغرى نلتقي بها، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم لمن كان يجيبه من الصحابة: قل نعم إن شاء اللّه، فلما حضر الوقت تعذر على أبي سفيان الخروج للوعد أو كرهه، فأتى نعيم بن، مسعود فقال له: إني و اعدت محمدا و أصحابه أن نلتقي بموسم/ بدر الصغرى و قد بدا لي أن لا أفعل، و أكره أن يخرج محمدا و أصحابه و لا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة، و لأن يكون الخلف من قبلهم أحبّ إليّ، فلك عشرة من الإبل إن حبستهم عني. فقدم نعيم على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هم مجهزون فجعل يثبطهم و يخوفهم و يذكر أن أبا سفيان قد جمع لهم الجمع الكبير، و أنهم إن خرجوا لم يفلت منهم أحد. و جعل يريهم النصح لهم و الإشفاق عليهم، فما قبلوا و بادروا و قالوا: حسبنا اللّه و نعم الوكيل. و خرجوا و تخلف أبو سفيان عن الوعد و فيهم نزلت: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ» «1» الآية.
فتأمل خيبة المشركين و خلف أقوالهم و حيرتهم مع كثرتهم، و صدق جميع ما وعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و جرأة المسلمين مع قلتهم و فقرهم و شدة الأمر عليهم.
__________________________________________________
(1) آل عمران 173
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:426
و باب آخر [دعوة الرسول لنصارى نجران للمباهلة و خضوعهم له ]
من أعلامه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو أن نصارى نجران و غيرهم من النصارى دعاهم إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا قبلك فكذبهم في قولهم بأنهم قالوا: للّه ولد، و عظّموا الصليب، و أكلوا الخنزير. فقال شيخ منهم كبير فيهم: من أبو عيسى؟
(1/457)
فسكت النبي صلّى اللّه عليه و سلم و كان لا يعجل حتى يأمره اللّه، فأنزل اللّه عز و جل «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» إلى قوله: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «1» فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عليهم ذلك، ثم دعاهم إلى المباهلة و أخذ بيد الحسن و الحسين و عليّ و فاطمة رضوان اللّه عليهم. فقال واحد منهم لمن معه من النصارى: أنصف الرجل، و تشاوروا و قال قائل منهم: إنه لصادق و لئن باهلتموه ليحرقن.
فقالوا له: لا نبارزك، و كرهوا الإسلام، و أقروا بالجزية، و سألوه أن يقبلها منهم فأجابهم إلى ذلك، و قال صلّى اللّه عليه و سلم: «و الذي نفسي بيده، لو باهلونا «2» لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا، فرضوا بالجزية و انصرفوا بالخزي.
فانظر إلى هذا الاحتجاج في أن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب، احتجاج غير متكلف و لا متعمل و لا مخالط للمتكلمين و لا هو في بلد الجدل صنعتهم. فأشار لك بهذه الإشارة التي هي من جوامع العلم و مفاتيح الحكمة كما قال صلّى اللّه عليه و سلم: «أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي اختصارا» فإن خلق آدم من أكبر الحجج على النصارى، و خلقه أبدع، لأنه خلق من غير ذكر
__________________________________________________
(1) آل عمران 59- 62
(2) انظر لتفصيل هذه المباهلة سيرة ابن هشام 2: 573
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:427
و من أنثى و أكمل اللّه له قوته و أداته و عقله و تميزه ضربة واحدة، و تولى اللّه عز و جل مناجاته و تأدبه و تعليمه بنفسه دون كل أحد من خلقه.
(1/458)
و على كل حال فالمسيح قد تقلب في الحشا كالأطفال، و خرج من الفرج و كانت أمه تحتاج إلى آية في أنه مولود من غير ذكر، و قد خلق اللّه حواء من آدم، و قد خلق الملائكة من غير تناسل»
و لا أكلوا و لا شربوا و لا بالوا و لا تغوطوا، و ليس كذلك المسيح، فإن سبيله في ذلك سبيل سائر الناس.
و قد تقدم لك ذكر أجناس الحيوان التي خلقها اللّه من غير ذكر و من غير أنثى و بغير تناسل في كتابك المعروف «بالمصباح»، و خلق الدودة و الذبابة في الحجة كخلق الفيل، فإن المخلوقين لا يتأتى منهم إنشاء علامة ظفر و لا إحياء دودة، بل إحياء الدودة أبدع من إحياء الفيل، كما أن نظم الخردل أبدع من نظم الحنظل.
هذا و قد قدم دلالة العقل في سورة يونس فقال عز و جل: قالوا «/ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ» «2»، في أن الولد لا يتخذه الحكيم إلا للعز و الرفد و بقاء للذكر، فإذا كانت الحاجات منتفية عن اللّه عز و جل علمنا أن اتخاذ الولد لا يجوز منه. و قد تبين أيضا من طريق العقل أنه لا كف ء له و لا إله معه، فقال عز و جل: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فليس مع التضادّ نظام و لا مع الشركة استقامة.
و لما قالوا له صلّى اللّه عليه و سلم: كفرت أهل الكتب من النصارى و مشركي العرب بأيّتما آية يا محمد جعلت الإله واحدا؟ فأنزل اللّه عز و جل: «وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ
__________________________________________________
(1) في الأصل غير واضحة، و قد أثبتناها لاتفاقها مع سياق الكلام
(2) يونس: 68
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:428
(1/459)
واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» «1» فقدم الدعوى، ثم اتبعه بأدلة العقل فقال عز و جل: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» «2» فتبين أنه لو كان هاهنا آلهة أخر لقدّم ما أخره هذا و أخر ما قدمه، و سوّد ما بيضه و بيض ما سوده، و إن كان جميع ذلك حكمة، لأنه ليس بمحال أن تنبت اللحى للنساء و أن يكون ابتداء نبات اللحى أبيض كالصلع أو أخضر كالحصرم، أو أصفر كالزعفران، و أن تلد النساء كأولاد الأنعام و أن تلد الأنعام كأولاد النساء، و أن يكون ماء البحر عذبا فراتا و أن يكون ماء دجلة ملحا أجاجا، و أن يولد المولود كامل العقل و القوى و الأدوات، كاسيا كيسا كالفروج، عالما بالصنائع من غير تعلم و لا تمرين كفرخ الأوز و علمه بالسباحة حين يخرج من بيضته، و كعلم دود القز و العنكبوت بالنسج و النحل ببناء البيوت، كل هذا ممكن، فلما جاء ذلك/ على طريق واحدة فلا ينتقض بما نبهت عليه، علمت و تيقنت أنه لا إله إلا هو، و أنه المعتز بالقدم فلا قديم إلا هو، و أن كل موجود ليس هو اللّه فكائن بعد أن لم يكن.
فإن قيل: فما ينكر أن يكون هناك آلهة جماعة إلا أنها قد و كلت التدبير إلى واحد منها فجرى تدبيره على طريقة واحدة.
قيل له: هذا خلاف ما يعقل و خلاف ما أخرجت العبرة في أن الجماعة لا يتفقون في المشيئة و الإرادة و التقدير و التدبير أبدا على طريقة واحدة، و لا فرق
__________________________________________________
(1) البقرة 163
(2) البقرة 163
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:429
(1/460)
بين من ادعى هذا أو ادعى في الإنسان الواحد أنه جملة أحياء قادرين عالمين مدبرين غير أنهم قد اتفقوا في الإرادة فلا يختلفون، و هذا خروج من العقل و مما شهدت به العبرة.
و قد بين أيضا بحجة العقل أن الإله لا يكون محتاجا، فقال عز و جل:
«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» «1» فقال:
أنتم ترون حاجته و فقره و ضعفه، و حاجة أمه و حاجته إلى أمه، فكيف يكون من هذه سبيله إلها؟ فإن كان عندكم إلها بكون الآيات ظهرت على يديه، فقد خلت من قبله رسل كانت لهم آيات و معجزات عظيمة كثيرة، ثم قال:
«أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «2» فقد كان المسيح لا يدفع عن نفسه الحاجات و الآفات فكيف يملك لكم.
ثم قال: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» «3» يقول: أنتم معشر النصارى قد آمنتم بنبوة موسى و الأنبياء قبل عيسى، و صدقتم كتبهم، و كلهم قد جاء بإخلاص التوحيد، و أنه إله واحد غني قديم لا إله إلا هو، لا يعرفون ما يقوله النصارى من الجوهر و الأقانيم/ و الاتحاد و ما أشبه ذلك، و أن هذا نمط من ينكر خلق السموات و الأرض و البعث و النشور و ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام فكيف تكونون من أهل الكتاب و هذه سبيلكم؟ فينبغي أن يصدق قولكم فعلكم.
__________________________________________________
(1) المائدة 75
(2) المائدة 76
(3) المائدة 77
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:430
(1/461)
فتأمل رحمك اللّه هذه الجملة، فإن الجوهر و الأقانيم و الاتحاد هو من قول أرسطوطاليس و أشباهه من القائلين بالقدم و تكذيب الرسل و بإنكار البعث، و هم قالوا: إن الإنسان إذا عرف شيئا فقد اتحد به، و أن العقل و العاقل و المعقول يصير شيئا واحدا، و أن الثلاثة واحد و الواحد ثلاثة، و لهذا قالوا: هرمس المثلث، فهذه الجهالة و الحماقة هي لهؤلاء و عنهم أخذ نموها، و هم يسمون حكامهم و رؤساءهم آلهة لا الأنبياء و أهل الكتاب، فانظر إلى هذه من مقالة هؤلاء كيف أطلع اللّه عز و جل محمدا عليه و لو لم يكن من آياته إلا هذا لكان عجبا.
و يبلغ من جهل أرسطو طاليس و أمثاله أنهم يقولون: إن الشمس و القمر و الكواكب حية عالمة سميعة بصيرة تخلق و ترزق و تحيي و تميت، و هي عندهم آلهة يدعونها و يسألونها و يرغبون اليها في الرزق و العافية و الحياة، و لكل كوكب منها عندهم هيكل و دعاء و بخور و دخنة، فقد كان الناس يعجبون من قولهم في الناس أنهم آلهة حتى صاروا يقولون ذلك في الجماد و الموات، إذ لا فرق بين من ادعى ذلك في الشمس و القمر أو ادعى في البرق و الغيم و الريح و النار و الياقوت و الزجاج، أو ادعى في شعاع الشمس، أنه سميع بصير خطيب شاعر.
على أن إخوانهم من المنانية قد ادّعوا في الغيم و المطر و الريح و الماء و في جميع الأجسام أنها حية سميعة بصيرة حساسة دراكة، و إنما ذكرنا هذا و إن لم يكن كاملا في النبوة لتعلم أن أدلة التوحيد و نفي الشركة/ و الشبيه مأخوذ من القرآن، مجتذب إلى ما في أدلة العقول من ذلك، و لتعلم أن الخير كله
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:431
في القرآن و من القرآن، و منه صنفت كتب الكلام بما في العقل من ذلك، و قد تقدم لك في كتاب «المصباح» قطعة منه:.
(1/462)
و قد طعن أبو عيسى الوراق و ابن الراوندي في قصة المباهلة أنها مشاتمة و أن القوم رفعوا أنفسهم عنها، و قال: و قولكم إنه قال لهم: إن باهلتموني نزلت بكم النقمة، ليس هذا في الكتاب و إنما هو حديث من أحاديثكم.
قيل لهم: هم كانوا يلعنونه و يشتمونه و يبالغون في ذلك و في شتم أصحابه و لعنهم و يطلبون نفسه بغير حجة، و يرحلون إلى الملوك و يستفرغون الوسع في ذلك، فمتى رفعوا أنفسهم عن هذا. و لكن لما لم يجد هؤلاء في آياته صلّى اللّه عليه و سلم مطعنا و قد بذلوا جهدهم عدلوا إلى المباهنة و المكابرة؛ و ليست المباهة كما ظنوا «1»، و ذلك لجهلهم باللغة كما جهلوا صنعة الكلام. فإن المباهلة في اللغة تجري مجرى المخاطرة و المبايعة و المراهنة التي يكون صاحبها يؤول أمره فيها: إما إلى الظفر، و إما إلى الفضيحة و العطب. و هو لفظ مشتق من الباهل و هي الناقة المخلوع عنها صرارها و هو ما يصر به ضرعها، أي يشد، لئلا ترضع و لا تحلب، فإذا نزع عنها ذلك الصرار فهي باهل، أي متروكة، فمن أراد حلبها نال ذلك منها، و في الخبر عن امرأة من العرب أنها قالت لزوجها: منحتك مأدومي، و أبثثتك مكتومي، و أتيتك باهلا غير ذات صرار.
فقد علمت ثقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بربه و سكونه إلى ما يوحى اليه، و إلا لم يكن ليقوم هذا المقام في أن الكاذب يعجل اللّه له خزيه و ينزل به نقمته/ لأن هذا القول عليهم سهل، فكان لا يأمن أن يجيبوا إلى ذلك فلا ينزل بهم عقاب فتكون الفضيحة. و كان أيضا قد مكنهم من شتمه و لعنه في وجهه و بحضرة أصحابة
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الأصل «المباهلة في اللغة».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:432
(1/463)
و هذا مقام لا يقومه عاقل، فتعلم بدلالة عقلك أنه قد توعدهم بأنهم إن باهلوه نزلت بهم النقمة و أنهم لا ينصرفون من ذلك المقام إلا و قد بان أمرهم لأن الملاعنة لا يعجز عنها أحد، و لو لم يكن إلا الملاعنة وحدها لأجاب إليها القوم و لكان فيها كل فائدة و رغبة، فتعلم بدلالة عقلك أنهم هربوا منها للبوار الذي توعدهم به.
(1/464)
و مما يدلك من طريق عقلك أنه قد توعدهم في المباهلة بنزول العذاب امتناعهم منها و فرارهم، و يدلّ أيضا أنه لو لم يكن إلا الملاعنة لما كان لإحضار النبي صلّى اللّه عليه و سلم من يعينه من قراباته دون سائر الناس ذلك الموضع معنى ألا ترى أن الذين حضروا ذلك الموضع ولده و ولد ولده و من يجري مجرى ذلك، فإن الصهر ولد و يعز فقده على العاقل، لا سيما و هو ابن عمه؛ فأحضر أمسّ الأرحام و أشدهم عليه فقدا، و قد قال لهم: «تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ» «1» فإن لم يكن إلا اللفظ بالملاعنة فما وجه هذا القول و إحضار الولد، فمن تأمل ذلك شهد عقله بأنه عليه السلام قد توعدهم عند المباهلة بالاستئصال و نزول النقمة، و إن كان المتأمل لا يعرف لفظ الخبر كما يعلم إذا فكّر في قوله عز و جل: «وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ» أنه قد وعدهم بذلك قبل أن يكون، و أنه قد وفى لهم بما وعدهم و إن لم يعرف عين الخبر و لا لفظه، لأنه لا يسوغ أن يقول رئيس قوم لهم إني/ قد كنت وعدتكم بكذا و تمنيتم كذا و هو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذب في ذلك كله؛ و لهذا قالت العلماء في قول عمر على المنبر متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: إن تحريم المتعة قد قد تقدم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فعرفه عمر و المهاجرون و الأنصار، و إلا لم يكن عمر ليقوم هذا المقام على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يحضره أصحابه و الذين بهم عز
__________________________________________________
(1) آل عمران 61
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:433
(1/465)
و بهم صال و استطال، و هم أوفر ما كانوا، و بهم من المحافظة على دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما قد عرفه أهل العلم، هذا مقام لا يقومه عاقل و لا يختاره ممتر. و بعد فهم أولئك القوم الذين صنعوا بعثمان ما صنعوا لأنه و صل سببا و آوى طريدا فتعلم أن القول من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في تحريم المتعة كان مؤكدا كما علمت الوعيد بالعذاب و نزوله في المباهلة.
و زعم ابن الراوندي أيضا أنه ما دعا النصارى إلى المباهلة و اليهود إلى التمني «1» على وجه الاحتجاج بذلك للنبوة، و لو كان إلى هذا قصد لبادروا إلى إجابته.
فقيل له: أما سمعته يقول: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا» «2» فكيف تكون المحاجة إلا كذا لو لا حيرتك و انقطاعك و فضيحتك.
قيل له أيضا: كيف لا يكون متحديا و محتجا بذلك على اليهود و النصارى و غيرهم و قد كان يدّعى من أول أمره أنه لا يكذب فيما يأتيه عن اللّه عز و جل و ان الكذاب لا يكون نبيا، فإذا أخبرهم بأنهم لا يتمنون الموت فلو تمنوه لكان قد دل ذلك على كذبه و على خروجه من النبوة على حكمه بأن من كان نبيّا لا يكذب فأي تحدى «3» و احتجاج يكون أقوى من هذا و كذا الحال في قولهم في المباهلة.
فإن قيل: كيف يحتج عليهم بالنساء و الصبيان؟ قيل له: لم يحتج عليهم بهؤلاء و إنما أحضرهم لان مقدمهم يعزّ عليه و هم أقرب أرحامه اليه.
__________________________________________________
(1) في الأصل «تمني»
(2) آل عمران 61
(3) الأنفال 36، و في الأصل: إن الذين
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:434
و باب آخر [حول الآية «الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ»]
(1/466)
من أعلامه صلّىاللّه عليه و سلم، من ذلك قوله عز و جل: «الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ» «1».
فخبر بإنفاقهم قبل أن ينفقوا، و بقتالهم قبل أن يقاتلوا، و بهزيمتهم قبل أن يهزموا، ثم كان ذلك كما قال و كما أخبر و كما فصل، و أورد ذلك موردا يغيظ و يغضب و يبعث على تكذيبه و على الممانعة من وقوع ما أخبر به، بخلاف تدبير البشر، فإن الحكماء يتواصون بكتمان ما يدبرونه و يعزمون عليه و يقولون:
من فساد الأمر و التدبير إعلانه قبل الفراغ منه، ثم لا يرضى أن يجعل ذلك خبرا عن نفسه بل يجعله خبرا عن ربه.
و باب آخر [إخباره عن اليهود]
من آياته و عجيب أعلامه، و هو إخباره عن اليهود فقال: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا» «1».
فخبر أن أقلّهم يؤمن و لو لم يكن على بينة من أمره و ثقة عن خبر ربه عز و جل و ما يوحيه اليه، لم يكن ليقول هذا و هو لا يأمن أن يتبعه أكثرهم و يؤمنون و يدخلون في دينه. ثم قال: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً» و لو لم يكن على يقين لم يقل: «وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» و هو لا يأمن أن أن يتجاوزوا الأذى إلى أخد المال أو إلى سبي/ الذرية و إلى قتل الأنفس، و أن
__________________________________________________
(1) آل عمران 111
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:435
(1/467)
يغلبوه إن قاتلوه و لا يولون الأدبار، فقاتلوه صلّى اللّه عليه و سلم يوم قينقاع فنزلوا على حكمة، و قاتلوه يوم بني النضير فأجلاهم عن بلادهم، و قاتلوه يوم بني قريظة فولوا الأدبار فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، و قاتلوه يوم خيبر فهزمهم و ملكهم و أخذ عنوة خيبر بالسيف فرضوا به أن يقرهم على أن يكونوا حرثة يعملون له في النخل.
فتأمل هذا الشرح و هذا التفصيل في هذه الأخبار، فإن مثلها لا يقع اتفاقا و لا من حذاق المنجمين و لا الكهنة، و انظر كيف أخبرهم بها قبل وقوعها، و أنذرهم بما يكون قبل أن يكون، و جعلهم على أهبة، بخلاف تدبير البشر.
و قد كانوا جماعات كثيرة لهم خيول و سلاح و حصون و يمتنعون و يقاتلون من ناوأهم و أرادهم و قصدهم، لتعلم أن هذا من أخبار علّام الغيوب، و هذا من الدلائل الواضحة و الأعلام البينة النيرة لأن السيف إذا لقي السيف دبّ الحياء، و لا يأمن من ليس على يقين مما يخبر به أن يقع الأمر بخلاف ما خبر و لا يحمل أحد نفسه على هذا من غير يقين إلا الغاية في الحمق و الجهل و النقص.
و باب آخر [ما أرجف به المشركون بعد هزيمة المسلمين في أحد]
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم، و هو أنه لما كانت وقعة بدر، و صدقت أخباره و تحققت مواعيده، ماج أعداؤه من اليهود و غيرهم، و قال بعضهم لبعض: ما أخلف محمد في شي ء أصحابه، و إنه لنبيّ، و ستؤول الأمور إلى ما يقول، و سيظهر على الناس و تكون الدولة له. فلما كان يوم أحد و قتل من أصحابه من قتل اشتدت قلوبهم و رجعوا على إخوانهم الذين قالوا لهم ما قد تقدم، و قالوا لهم:
أبشروا بما كان عليه يوم أحد، فأنزل اللّه عز و جل/ «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ، «1»» ثم أذكرهم بالآيات التي
__________________________________________________
(1) آل عمران 12
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:436
(1/468)
كانت يوم بدر فقال: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ» «1» فغلبوهم و قهروا كما قال و إلى جهنم يحشرون كما أخبر، فصدق إخباره بالأول يشهد بالثاني، فتأمل هذه الأجوبة و الأدلة المكشوفة الواضحة، و انظر كيف يذكر قصة بدر و يحتج عليهم بها و يجعل ذلك عن ربه لتعلم أنها قصة قد عرفها العدوّ و الولي.
و باب آخر [حول الآية «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»]
من آياته و هو قوله عز و جل: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» «2».
فإن مسجد بيت المقدس قد كان غلب عليه الروم الدهور الطويلة و استولوا عليه مع ملكهم بالشام و أقاموا فيه الشرك و منعوا من ذكر التوحيد فيه، و غلبت قريش على المسجد الحرام و غيرهم من مشركي العرب، و قد كان أبو بكر الصديق بنى مسجدا بمكة بفناء داره قبل الهجرة فكان يتلو فيه القرآن و يدعو إلى اللّه و إلى رسوله، و قد كان أجاره رجل من سادات قريش على أن يفعل ذلك.
فمشت قريش إلى الرجل الذي أجار أبا بكر، و هو معروف و لكن لم يحضرني اسمه في هذا الموضع [3]، فذكروا له محل أبي بكر و حلمه و بيانه و لطفه، و أنه يمر به القيان و العبيد و النسوان فيسمعون دعاءه فلا يلبثون أن يجيبوه إلى
__________________________________________________
(1) آل عمران. 13
(2) البقرة. 114
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:437
(1/469)
دين محمد، فلا تجره. فقال لهم: إنه رجل يكسب المعدم و يصل الرحم و يقري الضعيف، فكرهت أن يخرج من بينكم و يهرب بدينه عنكم فتعدمون هذا/ الفضل. قالوا: فيلزم بيته و لا يعلن دينه؛ فمنعوه من ذكر اللّه في مسجده.
فبشر اللّه نبيه عليه السلام و أصحابه بالظهور على هذه المساجد، و ملكهم لها و لمن فيها، و أنهم لا يدخلونها إلا أذلاء خائفين مقهورين، أو بأمان و عهد و إذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أو من أصحابه. ثم أخبر بخزيهم في الدنيا و عقوبتهم من منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه، فنزل بهم ذلك الخزي بقتل من قاتل منهم و عليهم، و الذل بأداء الجزية لمن رغب في الإقامة فيما غلب عليه الصحابة، فكان كل ذلك كما أخبر، و في هذا غيوب كثيرة.
و قد كانت ممالك الروم و غيرهم قوية ممتنعة فوفى اللّه لنبيه بتصديق هذه المواعيد، و بفتح هذه الأمصار، و بنزول الخزي على مشركي العرب في الدنيا و سينالهم في الدار الآخرة عذاب عظيم كما قال، و كما صدق في الأول صدق في الثاني، فنعوذ باللّه من عذابه و سخطه.
و باب آخر [قوله صلّى اللّه عليه و سلم لعثمان بن أبي طلحة العبدري بأن مفاتيح مكة ستكون له و حصول ذلك ]
من هذا الجنس، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو بمكة قبل الهجرة جاء ليدخل الكعبة فدفعه عثمان بن أبي طلحة العبدري و منعه من دخولها، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلم: لا تفعل يا عثمان فكأنك بمفتاح الكعبة في يدي أضعه حيث شئت فقال له عثمان: لقد ذلت قريش يومئذ و قلّت، فقال النبي صلّى اللّه عليه و سلم: بل كثرت و عزت.
و اعتبر رحمك اللّه سيرته في المكاتبة و المراسلة فإنه فعل ذلك بجبابرة الأرض و ملوك الدنيا من العرب و العجم في أقطار الدنيا، فدعاهم إلى رفض ما هم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:438
(1/470)
عليه، و الدخول في طاعته، و امتثال أمره، و الخضوع له، و أخبرهم بذات نفسه و بما يدعو إليه، و أخبرهم بأن اللّه عز و جل اصطفاه وحده و اختاره وحده/ و وعده بالظهور و الغلبة لملوك الأرض و جبابرتها، و أن السعيد من بادر إلى طاعته من قبل أن تسبى أمواله و تستباح حريمه و يسفك دمه، فما ترك شيئا مما يغضبهم و يغيظهم و يبعثهم على قتله و استئصاله و بواره و بوار أصحابه إلا أتى به و فعله، و هذا ما لم يكن مثله و لا يقدم عليه عاقل إلا و هو على غاية الثقة بالسلامة من العواقب، و أن العاقبة تكون له لا لعدوّه.
أما ترى كيف اغتصب كسرى كتابه حين أنفذه مع عبد اللّه بن حذافة السهمي و هو «1»: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى و آمن باللّه و رسوله. و شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له و أن محمد عبده و رسوله، أدعوك بدعاية اللّه فإني رسول اللّه إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.
فمضى بكتابه، و كان في طريقه و بحضرته ما لعله يرد عليك، فلما بلغه كتابه غاظه ذلك و أغضبه، حتى كتب إلى صاحبه باذان و هو خليفته باليمن و ملكها يأمره بإشخاصه إليه «2»، فأرسل باذام في ذلك، فسرّ ذلك أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من اليهود و النصارى و قريش و العرب و استبشروا. و قال بعضهم لبعض: كفيتموه كفيتموه. فلما وصل الرسول اليه قال له رجل منهم انطلق معي إلى الملك باذان فنكتب معك كتابا إلى الملك شاهنشاه ينفعك عنده
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الأصل: «كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى كسرى».
(2) أثبت القاضي باذام بالميم مع أنها في معظم كتب السيرة و التاريخ: باذان، انظر سيرة ابن هشام 1: 69
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:439
(1/471)
و يكفّ عنك، و إن أبيت فهو من قد علمت و هو مهلكك و مهلك قومك و مخرب بلادك، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: أقم إلى غد حتى أجيبك. فلما كان الغد صار، فقال ما تقول يا/ محمد؟ قال ارجع إلى صاحبك فإن ربّي قد خبرني أنه قتل البارحة كسرى، قتله ابنه شيرويه على كذا كذا ساعة من الليل «1»، فقال له هل تدري ما تقول، إنا قد نقمنا منك أيسر من هذا، فتكتب بهذا عنك و نخبر الملك باذام بذلك قال: نعم، أخبراه ذلك عني، و قولا له: إن ديني و سلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، و ينتهي إلى منتهى الخف و الحافر، إلى أن قال: سيأتي هذا الدين على ما أتى عليه الليل.
و قد كان قال صلّى اللّه عليه و سلم لعبد اللّه بن حذافة لما رجع إليه و أخبره بأن كسرى استخف به و مزق كتابه فقال صلّى اللّه عليه و سلم: أما إن اللّه عز و جل سيمزق ملكه.
فانظر إلى هذه الأقوال المغضبة كيف تتوالى لهم منه، و انظر إلى هذه الثقة هذا الثبات.
و قد كان راسل قيصر ملك الروم بدحية بن خليفة الكلبي، فأكرمه و أكر كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و سأل من عنده من أهل مكة و تجار قريش عنه صلّى اللّه عليه و سلم و عن أخلاقه و طرائقه و سيرته، و استقصى ذلك، فإذا هو النبيّ الذي تقدمت البشارة به، و ردّه مكرما، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: لقد عرف الحق و لكن ضن الخبيث بملكه و عاجل دنياه فاثرها على دينه.
و أرسل إلى المقوقس ملك الإسكندرية حاطب بن أبي بلتعة بكتابه اليه «2»
__________________________________________________
(1) ورد التعريف بحادثة قتل شيرويه لكسرى في الجزء الأول من الكتاب ص 28
(2) هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعثه النبى بكتابه إلى المقوقس، و مات في المدينة سنة 30 ه. الإصابة 1: 300
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:440
(1/472)
فدفعه اليه فقرأه، ثم أقبل على جلسائه فضحك و قال لهم: كتب إليّ يصف لي حسن دينه و يدعو اليه، فما منعه إن كان رسول اللّه أن يسأل اللّه فيسلط البحر عليّ فيغرقني فيكفى مؤونتي و يأخذ ملكي، فقال له حاطب فما منع عيسى ابن مريم و هو كما زعمت إذ أخذته اليهود فربطوه في حبل و حلقوا وسط رأسه و جعلوا عليه إكليل شوك و جعلوا على عنقه الخشبة التي صلبوه عليها ثم خرجوا به و هو يبكي حتى صلبوه/ على الخشبة ثم طعنوه بالحربة حتى مات، فما منعه أن يسأل ربه أن ينجيه منهم و يهلكهم و يكفى مؤونتهم و يظهره و أصحابه عليهم، و ما منع يحيى بن زكريا حين سألت امرأة زانية رجلا أن يقتله فقتله و بعث إليها برأسه حتى وضعوه بين يديها فما منعه أن يسأل ربه أن ينجيه منها و يهلك الملك.
فأقبل المقوقس على جلسائه فقال: و اللّه إنه لحكيم. و ما يخرج الحكيم إلا من عند الحكماء، ما تقولون، قالوا: نقول: صدق أيها الملك، قد رأينا ما رأيت. و عاود قراءة كتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و احتبس حاطب عنده مدة، و سأله عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عن أصحابه و عن سيرته، و ردّه مكرما.
و أرسل النبي صلّى اللّه عليه و سلم إلى غير واحد من ملوك الشام يدعوهم إلى طاعته. و كان فيمن أرسل الحارث بن عمير الأزدي فقتله شرحبيل بن عمرو الغساني «1» فأنفذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعده غير واحد و لامهم على غدرهم و قتلهم الرسل، و قال لهم: أنتم مغلوبون و سلطاني يعلو عليكم، فأغضب ذلك ملوك الروم و نصارى العرب. و أرسلت نصارى العرب إلى ملك الروم: انتهز الفرصة مادام هذا الرجل في ضعف، فأنفذ جيشا في مائة ألف قاصدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بياتوقس
__________________________________________________
(
(1/473)
1) كان ذلك في سنة 8 من الهجرة، فقد بعثه الرسول بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤقة عرض له شرحبيل بن عمر الغساني فقتله، و على أثر مقتله كانت غزوة مؤنة. الإصابة 1: 286
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:441
البطريق، و على نصارى العرب من غسان و قضاعة و غيرهم شرحبيل بن عمرو الغساني، فانتهوا إلى مؤتة فكفاه اللّه أمرهم كما هو معلوم.
و أرسل إلى ملوك اليمن و ملوك البحرين و عمّان رسلا معروفين، و قد علمت رحمك اللّه أنه دعاهم إلى الاختلاع من ملكهم و الخروج من عزهم إلى التواضع و التذلل، و إلى الجهاد بأموالهم و أنفسهم، و هذا غير تدبير البشر و حكماء الملوك، و هذا عندهم من سوء التدبير، فتعلم بعقلك أنه لم يفعل ذلك/ إلا و هو على يقين من السلامة من سطواتهم و كيدهم و شرهم.
و قد تقدم لك حال كل من جاء بعده من قريش و العرب و غيرهم، و أنهم به لاذوا و اعتصموا و على ما مهّده صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه هو ما اعتصم بمخلوق بما فيه كفاية، فارجع إليه. و قد أجابه صلّى اللّه عليه و سلم من الملوك الذين دعاهم النجاشي و غيره.
(1/474)
و تأمل حال قوم في زمانك و هم من الملوك العظماء، و ملكهم واسع، و شأنهم عظيم، فإنهم من تسترهم بالإسلام و مع اعتزائهم إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أنهم من ولده و قد قدموا على ما مهد لهم، بأي شي ء يلقون ملوك الإسلام، و بأي شي ء يراسلونهم، و كيف يخضعون لهم و يخدعونهم بألوان الخدع ليستبقوا طاعتهم لهم باللسان، فيقول دعاتهم لكل واحد من هؤلاء حتى لرؤساء الأعراب و الأكراد: أخوك فلان ابن فلان ابن رسول اللّه، و قد علمت عظيم ملكه، و هو يدعى بأمير المؤمنين، و قد فرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عليك طاعته لقوله كذا و لوصيته الفلانية؛ و ما يطالبك بحقوقه، و ما يطلب منك شيئا، و لكنه يرغب في أخواتك و في صداقتك و في الانبساط إليك في أن تقبل هديته، و قد علمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قبل الهدية و رغب في ذلك، و إن كافأت بأقل القليل قبله
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:442
منك و شكرك عليه. ثم يهاديه بالهدية النفيسة الخطيرة و يقول له: «إذا استحكم الأنس و تمت الثقة فتح لك أبوابا يتضاعف بها ملكك، و تشتد بها شوكتك، و ما عليك في الوصول إلى ذلك مشقة و لا كلفة و لا مؤونة و لا غرامة، و ما هو إلا الثقة بك و أن يعرف طويتك و أنك بحيث يوثق بك.
فإذا تعلق قلبه بذلك و طمع، قال له: قد علمت ما جاء في الكتمان و المواثيق المأخوذة/ من الأنبياء ثم يروضه بعد هذا، فإن كان من أهل الشهوات و الرغبة في الدنيا قال له: أنت فيمن قال اللّه: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» «1» و يبيحه المحظورات و يتقرب اليه بما يسقط عنه الكلف و يؤمنه من كل عقاب آجلا و عاجلا، و يذكر له ما قد أعدّه من التأويلات، و يتحبب اليه بهذا و أشباهه، و يأخذ عليه كتمان السر و أن لا يخبر غيره بما عنده و لا يسأله عن شي ء و إن كان مجوسيا.
(1/475)
و إن رآه من المتمسكين بالشريعة زيّن ذلك عنده و قال له: لا تغتر بما يقوله الإمامية القطعية أن الصلاة عند أهل البيت إحدى و خمسين ركعة فإن هؤلاء ليسوا من دين أهل البيت على شي ء، و صلاة أهل البيت ثلاث و سبعون ركعة، و يأمره بذلك، و يصلي عنده و بحضرته و بحضرة أتباعه و حشمه، و إن يأت عنده لم ينم الليل من كثرة الصلاة. و يأمره بالزكاة و بكل خير بحسب ما يتفق ذلك عنده، غير أنه يقول: للصلاة باطن، و لكل شي ء باطن.
و إن كان يهوديا زيّن عنده اليهودية و ما فيها من إقامة السبت و جميع ما هم عليه، و قال: المهديّ الذي ندعو اليه هو المسيح الذي تنتظرونه.
__________________________________________________
(1) الأعراف 157
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:443
و إن كان نصرانيا مدح الصليب و قال: المهدي الذي ندعو اليه هو الفارقليط الذي بشر به المسيح.
و إن كان مجوسيا مدح عنده المجوسيّة و قال: أنتم الناس، و أنتم العقلاء، و أهل الملك القديم.
و إن كان صابئا مدح عنده عبادة الكواكب، و يقول لكل واحد من هؤلاء الأصناف: إن الديانات كلها سواء و هي تتفق في الباطن و لكن أصحابها لا يعلمون.
و يظهرون التودد إلى كل أحد بما يهواه، ثم يتواصون بكتمان ذلك و أن لا يظهروا «1» ذلك إلا لمن أحبهم أو مال اليهم.
(1/476)
و يقصدون بالدعوة/ الأعراب و الأكراد و الديلم و البربر و النبط و المترفين من الأمراء و الوزراء و الكتاب و أهل الجهالة، و يستظهرون على من انتمى إلى القول بالإمامة و التشيع، و هؤلاء يسرعون إلى إجابتهم و القبول منهم، و يوثقون الجميع بالأيمان الغليظة و العهود المؤكدة؛ و ملوك الأرض منذ نحو مائة سنة من الديلم و بني حمدان و من بالبحرين و عمران في البطيحة و من باليمن و الشام و أذربيجان، و كل هؤلاء الملوك أصحاب إمامة و مشيّعة، و في الأرض كلها، و دولة بني العباس لم يبق منها إلا اسمها في بعض المواضع، و الموضع الذي فيه سلطانهم و ملكهم و عزهم يشتم فيه العباس و ولده و المهاجرون و الأنصار و يلعنون، ثم هؤلاء القوم مع الملك و مع تسترهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و اعتصامهم، و مع هذه الأحوال كلها التي تستروا بها و توثقوا بها، أنت ترى فضائحهم في الأطراف و في أقطار الأرض في كل حين كما قد تقدم لك طرف منه. ثم هو شي ء
__________________________________________________
(1) في الأصل: «يظهرون».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:444
(1/477)
يحدث في كل حين، و تبدو فيه الفضيحة كل قليل مع الملك و القهر و الغلبة و السيف و القتل الذريع الذي قد تقدم لك طرف من ذكره، لتعلم أن السبل التي سلكها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يسلكها عاقل، و لا تخطر بقلبه، و لا تسمو اليها همته، و لا يحدث بها نفسه، و لا يدخل فيها طمعه، إلا أن يكون رسولا للّه و نبيا للّه و واثقا بوحي اللّه. ثم هو شي ء ما كان في أحد من الأنبياء قط منذ كانت الدنيا، على ما حصله العلماء و أحصوه و بلغهم خبره، أن يكون إنسان ضعيف فقير أجير وحيد معيل مبتدى ء مع هذه الحال، فيذكر ملوك العرب و ملوك الفرس و ملوك الروم حتى يذكر خراسان و ملوك الشرك و الترك/ و أنه يحويها و يحوزها و هو على تلك الحال، ثم يكاتبهم ملكا ملكا و سيدا سيدا و قبيلا قبيلا و بلدا بلدا يذكرها. و يوصيهم بالقبط و ما لهم من الحرمة بمارية القبطية فإنهم يفتحون مصر، و يقول: أبشروا بفتح العروسين غزة و عسقلان، و يذكر دمشق و بيت المقدس، و يسمع ذلك نصارى العرب و يذكرونه لملوك الروم و غيرهم فيغتاظون من ذلك، و تذكر قريش ذلك للفرس.
و لما دخلت رسل المسلمين إلى الشام و لقوا ملوك النصارى بها رأوا بعضهم قد جلس على فرش عالية يرقى اليها بسلم و عليه السواد، و في رسل المسلمين عبادة بن الصامت الأنصاري، قال: ما هذا السواد عليك و ما هذه المسوح التي قد لبستها، قال الملك لبستها نذرا لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام و أفعل و أفعل، فقالوا له المسلمون: سنمنعك مجلسك هذا و و اللّه لنأخذنه منك، و لنأخذن ملك الملك الأعظم. ثم ساروا من عنده إلى الملك الأعظم من ملوك الروم و أبلغوه الرسالة، فأنزلهم أكرم منزل و احتبسهم عنده مدة طويلة، و خلا بهم، و ناظرهم و امتحنهم، و سألهم عن شي ء فشي ء من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و من أمر الإسلام و المسلمين ليلا و نهارا، و كان لهم معه ما هو مذكور، إلى
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:445
(1/478)
أن قالوا له: إن أرضك هذه نأخذها منك و نغلبك عليها، أخبرنا بذلك نبينا، فساءه هذا القول و قال: مهما قال من شي ء فقد صدق، و اللّه لوددت أن نفسي تطيب بالخروج من ملكي و أكون عنده فأخدمه و أشد ملكه، و لكن نفسي لا تطيب.
و قال المقوقس ملك مصر لحاطب: إنكم ستملكون ملكي هذا كما قال صاحبكم، و ملوك الروم كانت أعرف بحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فلذلك كانت ألين و إن كانت نصارى العرب تغضبها و تثيرها عليه صلّى اللّه عليه و سلم/ و لم تكن كالجبار الشقي كسرى و ما فعله برسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و تمزيق كتبهم فمزق اللّه ملكه كل ممزق كما قال صلّى اللّه عليه و سلم، أخبر أن ابنه قتله في تلك الليلة و بينه و بين كسرى نحو ثلاثمائة فرسخ، و ذلك من آياته المعروفة التي جاءت مجي ء القرآن، يعرف ذلك أهل العلم كما يعرفون أن رسوله كان اليه عبد اللّه بن حذافة السهمي، و كما يعرف ما كان بينه و بين النجاشي، و بين صاحب عمان، و غيرهم من الملوك. و إسلام باذان ملك صنعاء و اليمن لأجل هذه الآية معروف، و إخلاصه و من معه في الإسلام و هم يعرفون بالأنبياء.
و لما تنبأ العنسي الكذاب باليمن ناقشوه «1» و باحثوه فلم يجدوا عنده آية و لا علامة، فأرسلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في أمره، فأمرهم بجهاده ففعلوا، و قتله فيروز الديلمي الذي كان أحد رسل الملك باذان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لم يكن ديلمي الأصل و إنما كان أحد عمال الفرس على ثغور الديلم.
و لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان لهؤلاء الأنباء من باذان و من معه من البصيرة في الإسلام و الإقامة عليه و مجاهدة المرتدين و معونة أبي بكر الصديق و عماله ما هو معلوم.
__________________________________________________
(1) فى الاصل قانشوه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:446
(1/479)
و إنما أجرينا هذا من أعلامه صلّى اللّه عليه و سلم عند ذكر مكاتبته و مراسلته الملوك، و النية ذكر أعلامه التي ليست في القرآن بعد الفراغ مما في القرآن، فإن وهب اللّه ذلك و إلا ففيما معك فوز عظيم فاحتفظ به و حافظ عليه و اطلب ما بعده فإنه أكبر الجهاد و أجل العبادة.
و باب آخر [اخبار الرسول أصحابه أن اللّه سيمكن لهم في الأرض و يستخلفهم ]
من آياته صلّى اللّه عليه و سلم، و هو ما أخبر أصحابه من أنه يمكّن لهم في الأرض و يستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم، و يؤمن خوفهم، فيخلصون في عبادته وحده لا يشركون/ به شيئا، فقال عز و جل: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» «1» إلى آخر الآية. و هذه نزلت في غزوة الأحزاب و في الخندق، و قد تحزبت العرب و اليهود عليهم، و غدر من حول المدينة بهم و هم في حومة الموت و شدة الخوف، و ما كان بأيديهم إلا المدينة مع من بها من اليهود و المنافقين، فأظهر اللّه أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و استخلفهم و مكّن لهم و بدّلهم من بعد خوفهم أمنا، و عبدوه وحده و أطاعوه، و في هذا غيوب كثيرة لا تكون بالاتفاق و لا لحذاق المنجمين، و لا هو مما يغلب في العقل بل الغالب في العقل و الظاهر في الحزم و التدبير أن يكونوا هم المغلوبون المقهورون، إلا أن يكونوا من قبل اللّه، و أن يكون صاحبهم رسولا للّه، و الذي يدلك على أن هذا نزل و هم غير متمكنين و أنهم قد كانوا خائفين من قوله عز و جل: «وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» «2» فلا يجوز أن يخبرهم بما لم يكونوا عليه و يمتن عليهم بذلك و العدو و الولي يسمعه و هو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم ثم يؤكد هذا بأن
__________________________________________________
(1) النور 55
(2) النور 55
(1/480)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:447
يقول: هذا قول اللّه لكم، و وعد اللّه لا وعدي، و بشارة اللّه لا بشارتي، و في هذا دلالة على صحة الخلفاء من بعده، ألا تسمعه يقول: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» و لو قال: الذين آمنوا لكانت عدة تحتمل التسويف و التأويل، فلما قال: «منكم» جعلها فيهم و لهم و منهم، فزالت الشكوك و ارتفع اللبس، و لو كان الأمر على ما يقول الإمامية لكانت هذه الأخبار قد كذبت و هذه المواعيد قد أخلفت لأنهم زعموا أن المستخلف كان علي بن أبي طالب، و أنه ما كان متمكنا و لا آمنا بل كان مقهورا مغلوبا خائفا، فأين تصديق ما وعد اللّه، فنعوذ باللّه من الذهاب عن الحق.
و عندنا أنه/ رضي اللّه عنه كان في زمن أبي بكر و الخلفاء قبله ممكنا غالبا قاهرا آمنا عزيزا نافذ الأمر مسموع القول كما قد تقدم شرح ذلك لك، و به و بإخوانه من المهاجرين و الأنصار كانت خلافة من قبله و عزّ سلطانهم، فالعدة فيه و في أبي عبيدة بن الجراح و في سعد و معاذ و عبد الرحمن و غيرهم من المهاجرين و الأنصار، و اللّه عز و جل لا يستخلف إلا المتقين و لا يمكن إلا لأوليائه و أحبائه و أهل طاعته، و ليس لمن أسلم في عام الفتح، و في هذا خبط، لأن هذه نزلت في عام الخندق و في غزوة الأحزاب قبل فتح مكة، و أولئك من الطلقاء لا من المهاجرين و لا من الأنصار، و ليس هذا بنصّ جليّ مكشوف في خلافة هؤلاء رضي اللّه عنهم، و لكنه شي ء يعرف بالاستنباط و الاستدلال و التدبر في هذه التلاوة، فلا يسوغ في تأويلها و تفسيرها إلا هذا.
و قد كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين ارتدت العرب بعد وفاته و كثر من خالفهم يستبشرون بظهور الإسلام و غلبة المسلمين بهذه الآية و قد تلاها أبو بكر الصديق عليهم في ذلك الزمان و قال لهم ما لعله قد تقدم لك شي ء من ذكره، و هذا شي ء قد تقدم به الإجماع و سبق به الاتفاق قبل أن يخلق هشام بن الحكم
(1/481)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:448
الذي هو الأصل في الطعن على خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المهاجرين و الأنصار. و مع هذا فقد ذكر هشام بن الحكم أنه أدرك الشيعة و كلهم يتوالى أبا بكر و عمر و عثمان، و يقولون هؤلاء ما أنكروا فضل الوصيّ عليّ بن أبي طالب و لا دفعوه عن حقه، و أن الذين دفعوه عن حقه و أنكروا فضله هم المنافقون الذين كان القرآن يهتف بهم. قال هشام و هذا كله تلزيق و تلفيق/ دعاهم اليه هيبة أولئك القوم فما أقدموا على تهمتهم و لو عرفوهم لا تهموهم، ثم أخذ يذكر ما عنده من تهمتهم، فقد أقر بلسانه أنه لم يسبقه أحد إلى شتمهم و لعنهم، و لو لم يقر لكان العقل يشهد به و يدل عليه.
و باب آخر [قوله صلّى اللّه عليه و سلم في أوان ضعفه أنه سيعظم أمره و يعلو شأنه ]
من أعلامه و آياته، و هو أنه كان يقول في أوان ضعفه و عنفوان أمره أنه سيعظم أمره و يعلو شأنه، و تتحزب الأمم عليه، و تقصد لقتاله و قتله و استئصاله و استئصال أتباعه، و يأتونهم من كل وجه. و أن أصحابه يثبتون و يزدادون بصيرة و يقينا في أمرهم عند ذلك. و أن من رآهم و رأى من سار إليهم يكون عنده و في عقله و رأيه أنهم لا ينجون، فكان ذلك كما قال و أخبرهم اللّه في تلك الحال، أنه عز و جل سيكفيهم أمر هؤلاء و أمر من ظاهرهم من أهل الكتاب، و يستخلفهم في الأرض، و يؤمن خوفهم، و يبدلهم بالضعف قوة، و يمكن لهم في الأرض، و كان هذا في قصة الأحزاب، و أنزل اللّه فيها و في يومها الآية التي تقدم ذكرها في سورة النور. و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم أجلى بني النضير من اليهود لأذيتهم له و غدرهم به، فرحلوا عن المدينة من جواره، و صاروا إلى قريش و إلى عبس و ذبيان و فزّارة و غيرهم من القبائل، و حرضوهم عليه بأنه أكفر أسلافكم و عاب أديانكم و استجهلكم و ذهب بسيادتكم و رئاستكم و بأحسابكم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:449
(1/482)
و فرق آلافكم و حمل الأبناء على قتل الآباء، و الآباء على على قتل الأبناء، و هو يزعم أنه يظهر عليكم و يستأصلكم و أنتم غير آمنين مما يوعدكم به، فبادروا مادام في ضعف قبل أن يقوى بأشد مما كنتم عليه ببدر و أحد.
و كانت لليهود بالحجاز رئاسات و ضيافات و منن على العرب، يجيرون من استجار بهم و يمنعون عن جيرانهم و يقاتلون/ دونهم؛ فأثاروا قريشا و العرب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فساروا اليه في نحو عشرين ألفا، و جاء حييّ بن أخطب اليهودي النضري إلى بني قريظة من اليهود و كانوا قد عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يسالموه و لا يعينوا أحدا عليه أبدا و كتبوا بينهم و بينه في ذلك كتابا. فجاء حييّ بن أخطب اليهودي إلى كعب بن أسد رئيس بني قريظة، و قال له: جئتك بشرف الدنيا و بالعزّ، و هذه القبائل من قريش و العرب قد ساروا إلى محمد فكن معنا، فقال: دعني فإن هذا الرجل قد عرفناه بالصدق و الوفاء، إن قال نعم فهي نعم، و إن قال لا فهي لا، ما لقوله خلف، و أكره أن يغدر به و لعلكم ألا تظفروا به. فقال حيي: ليس هذا من تلك العساكر التي لقيته قبل هذا، و نحن في كثرة و هو في قلة، و لن ننصرف عنه أو نستأصله، فتندم في قعودك عنا؛ و إنما هو و أصحابه قليلون، و هذه قريش في هذا العدد. و ذكر عدد تلك القبائل و ما زال بهم حتى غدرت قريظة. فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بسعد ابن معاذ و سعد بن عبادة اليهم ليعرف ما عندهم و هل غدروا أم لا. فلما بصرت قريظة بالسعدين مزقوا الذي كان بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سبوه، فرد عليهم سعد بن عبادة، فقال له سعد بن معاذ: كفّ، فما بيننا و بينهم أجلّ من السباب.
فرجعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأخبراه بغدرهم تعريضا إشفاقا على ضعف
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:450
(1/483)
المسلمين، و كانت قريظة بالقرب من المدينة و في أحد جوانبها. و جاءت قريش و القبائل من وجه آخر، و أشار سلمان الفارسي رحمة اللّه عليه بحفر خندق، و كان هذا أول مشهد شهده سلمان. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بحفر الخندق و أخذ كل جماعة من الصحابة قطعة يحفرونها/، فاعترضتهم صخرة صلبة لا يعمل فيها المعول فهموا بالتعريج عنها، ثم قال قائل: عرفوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم سار بالمسلمين عن المدينة و عسكر بإزاء العدو. فنزل صلّى اللّه عليه و سلم إلى الصخرة و أخذ المعول فضربها ضربة فثار منها برقة عظيمة. فكبر و كبر المسلمون، و قال: رفعت لي صنعاء و اليمن فرأيت قصورها كأنها أنياب الكلاب و أنتم تفتحونها و تملكونها. ثم ضرب أخرى فبرقت برقة عظيمة فكبر و كبر المسلمون فقال: رفعت لي قصور الشام كأنها أنياب الكلاب و أنتم تفتحونها و تملكونها. ثم ضرب أخرى فبرقت برقة ثالثة فكبر و كبر المسلمون و قال: رفعت لي قصور مدائن فارس و فارس و أنتم تفتحونها و تملكونها فأبشروا. و تصدعت الصخرة فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الخندق و هو مستبشر مسرور، و رتب أصحابه لحراسة الخندق و جعله بينهم نوائب كما هو مذكور.
و كان بالخندق من الضيق ما تطفره خيول شجعانهم، فطفره عمرو بن عبد ودّ، و عكرمة بن أبي جهل، و خالد بن الوليد، و ضرار بن الخطاب، و أقاموا أياما يحاربون، ثم تواعدوا عشية أن يكونوا من غد يحملون حملة واحدة من كل جانب، و يقتحمون على المسلمين. فأرسل اللّه عليهم ريحا عاصفا قلعت أخبيتهم و أبنيتهم، و نفرت خيولهم و إبلهم، و أخذهم من الرعب ما لم يملكوا أنفسهم، و مروا هرابا على وجوههم، و كفى اللّه المؤمنين قتالهم، و بات المسلمون من تلك الريح في كل عافية.
فإن قيل: و من أين لكم صحة هذا أنه جرى، قيل له: قد جاء مجيئا إذا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:451
(1/484)
تدبّره من سمعه و فكر فيه علم و تيقن أن الأمر كذلك، فإن القرآن نزل به مذكرا هذه النعمة و محتجا بهذه الآية و ممتنا على المؤمنين فقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» «1»
فلو كانت هذه الريح و غيرها من الأمور التي جرت العادة مثلها «2» لما امتن اللّه به و لا احتج و العدو و الولي يسمعه، [هذا] لا يفعله عاقل فكيف بمن يدعي النبوة. ثم يؤكده بأن يجعله قولا للّه و أن اللّه يذكرهم بهذه النعمة.
ثم قال: «وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» «3» لما كان قد تقدم به البشرى، فكانوا يقولون: الواحد منا ما يستطيع أن يذهب لحاجته من العساكر التي قد أحاطت بنا و هو يعدنا بملك اليمن و ملك كسرى و قيصر. ثم أذكرهم بقول طائفة أخرى «يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» «4» و قد كان قوم من بني حارثة قالوا ذلك أخبرهم اللّه بضمائرهم في قولهم، و لا يجوز أن يقول ذلك إلا و هو كما قال، ثم قال:
«و لو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها و ما تلبثوا بها إلا يسيرا.
(1/485)
و لقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل لا يولّون الأدبار و كان عهد اللّه مسؤولا» إلى قوله: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
__________________________________________________
(1) البقرة 213- 214
(2) هكذا في الأصل، و لعل الأصح «بمثلها».
(3) الأنفال 49
(4) الاحزاب 13
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:452
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» «1» يصف جبنهم و خورهم و خداعهم و أنهم إذا زال الخوف و أمنوا قالوا: فعلنا و صنعنا و اجتهدنا، و يظهرون احتقار العدو و إن عادوا عاودناهم، ثم قال/:
«يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ» «2» يحكي عن هؤلاء المنافقين و عن من قلت بصيرته و عن من في قلبه مرض، أنهم يحسبون أن الأحزاب لم يذهبوا و لم ينصرفوا، و أنهم سيرمون شعثهم مما نالهم من الريح و يرجعون، و أن عسكرا مثل هذا في الكثرة و القوة لا ينصرفون بإزائهم في ضعف و هم مع ذلك في قلة، و «يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا»»
(1/486)
فأخبر عن أسرارهم و عن ضمائرهم و واجههم بنفاقهم و سوء نياتهم، و هذا لا يفعله إلا نبي واثق بتأييد اللّه له و بنصره إياه، لأن من صواب الرأي و محكم التدبير عند الحكماء و الرؤساء و طلاب الملك و خطاب الدنيا أن يقبلوا الطاعة ممن أظهرها لهم و إن اتهموا ضمائرهم، و أن لا يردوا ما ظهر من نصحهم و لا يقولوا لهم ليس ظاهركم كباطنكم و أنتم أعداء، ليس هذا من حقوق الرئاسة و لا يسوغ في تدبير السيادة و لا يقع هذا من عاقل إلا أن يكون نبيا، لأن الرئيس إذا فعل هذا حملهم على مكروهه و بعثهم على مكاشفته و استفراغ الوسع في الإفساد عليه و في قتله. و في أمثال الحكماء: لا تسمّه عاقّا فيعق، و قال في وصاياه التي ترتضيها العقلاء:
اقبل مقالة من يأتيك معتذرا إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره و قد أجلك من يعصيك مستترا
__________________________________________________
(1) الأحزاب 14- 15
(2) الأحزاب 20
(3) الأحزاب 20
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:453
و كان أيضا لو لم يكن نبيا لا يأمن أن يكون باطنهم في طاعته مثل ظاهرهم، فإذا قال لهم قد نافقتم و هم بخلاف ذلك لكان طعن في قوله، و إن لم يواجهوه بالكذب قالوه/ من ورائه و ذكروه لأتباعه و لمن قد اعتقد صدقه، و يذكرونه لعدوه من اليهود و النصارى. فإنهم كانوا أشد الناس حرصا أن يقع له كذبة أو زلة، فهم كانوا يواجهونه بالتكذيب و ليس معهم حجة فكيف إذا صار لهم حجة. فتعلم أنه لم يقل ذلك إلا عن علم و يقين، و هذا باب كبير من الاخبار بالغيوب و هو كثير في القرآن فاعرفه، فهو من الآيات العظام ثم قال لهم:
«
(1/487)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» «1» فقد كانوا رأوه صلّى اللّه عليه و سلم في تلك الشدائد و الأهوال، ساكن القلب، طيب النفس يبشرهم بالنصر على هؤلاء و على أمم العرب و العجم.
ثم قال: «وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً».
و قد كانوا يقولون عند قول النبي صلّى اللّه عليه و سلم و هو بمكة: أني سأصير في جماعات و عساكر فيقولون: ملكنا أبسط و حزبنا أغلب و جندنا أكثر، فأنزل اللّه إذ ذاك و قبل الهجرة: «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ. جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» «2» فلما رآهم المؤمنون ذكروا هذا الوعد من اللّه عز و جل فازدادوا إيمانا. و لهذا الوعد نظائر و أمثال كقوله:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا» و مثل قوله: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» «3» و غير
__________________________________________________
(1) الأحزاب 23
(2) ص 10
(3) البقرة 214
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:454
(1/488)
ذلك. و قوله: «وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً» لم يرد به الذكر باللسان و إنما أراد الذكر ذكر القلب و الفكر في آيات اللّه و دلائله و حججه، و هذا أعظم الذكرين/ و أجلهما و أنفعهما، و الذكر باللسان بعده، و لا يغني عن ذكر القلب شي ء البتة. ثم قال: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» «1» فأخبر عن ضمائر المؤمنين السابقين و المهاجرين و الأنصار، و أن باطنهم في الإسلام كظاهرهم، و سريرتهم كعلانيتهم. كما أخبر عن باطن المنافقين و من في قلبه مرض، و في إخباره عن بواطن المؤمنين من الدلالة مثل ما في إخباره عن ضمائر المنافقين، فتأمل ذلك لتعرفه فشرحه يطول.
و قوله: منهم من قضى نحبه، أي من قتل في سبيل اللّه أو مات و هو مقيم على موالاة اللّه و إيثار مرضاته، و من بقي ينتظر مثله و نيته و طويته ألا يزول عن ذلك، و ما بدلوا تبديلا و لا غيروا. و فكر في قوله: «وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» «2»
فانظر كيف تمنن عليهم بأنه صرف عنهم هؤلاء الجنود و هذه العساكر بالريح و كفاهم قتالهم، و ما نال المسلمين من الريح أذى مع قرب المسافة. بل باتوا منها في كل عافية و بات أولئك في كل بلية، و هذا بخلاف ما جرت به العادة، و لا يقدر على صرف الريح في الجهات و إجرائها على هذه السبيل إلا اللّه عز و جل.
__________________________________________________
(1) الأحزاب 23
(2) الأحزاب 25
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:455
(1/489)
و همّ النبي صلّى اللّه عليه و سلم بالانصراف إلى المدينة و الرجوع اليها بعد انصراف الأحزاب، فأتاه جبريل يقول له عن اللّه: لا تنزع درعك حتى تصير إلى بني قريظة، فسار اليهم و نزل عليهم، فألقى اللّه في قلوبهم الرعب منه صلّى اللّه عليه و سلم مع كثرتهم فامتنعوا بحصونهم، و قال صلّى اللّه عليه و سلم: يا يهود يا إخوة القرود «1»، فقالوا يا محمد: ما عهدناك فحّاشا، فقال صلّى اللّه عليه و سلم: غدرتم بي و نبذتم/ عهدي، إنا إذا حللنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. و بعث اليهم أبا لبابة بن عبد المنذر فقالوا له: يا أبا لبابة أتنزل على حكم محمد قال: نعم، و أومى بإصبعه إلى حلقه، أي أنه الذبح، فأنزل اللّه عز و جل: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «2» و ما كان من أبي لبابة إلا إيماء بإصبعه، فأخبر اللّه بما كان من إشارته و ما كان بينه و بينهم.
قال أبو لبابة و اللّه ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت اللّه و رسوله، و ذهب من وجهه فأوثق نفسه بسارية في المسجد، فقال صلّى اللّه عليه و سلم أما إنه لو أتاني لاستغفرت له فأما إذ فعل فلا أحلّه حتى يكون اللّه هو الذي يحله، و ما زالت سارية أبي لبابة معروفة في المسجد، و هذه آية أخرى.
و قد كان بنو قريظة في كثرة و بأس و نجدة، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب عند نزول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ. فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى سعد فجاء على حمار أقمر، و قد كان أصابه يوم الأحزاب سهم، و كان يقول اللهم لا تمتني حتى تريني في بني قريظة ما أحب، فقال له
__________________________________________________
(
(1/490)
1) في سيرة ابن هشام أن النبي صلى اللّه عليه و سلم لما دنا من حصون بني قريظة قال: يا إخوان القرود هل أخزاكم اللّه و أنزل بكم نقمته، قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا. سيرة ابن هشام 2: 234
(2) الأنفال 27
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:456
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إن بني قريظة قد رضوا بك و بالنزول على حكمك، فقال له الأوس: يا أبا عمرو هم حلفاؤك، فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في اللّه لومة لائم؛ لينزلوا حتى أحكم. فلما نزلوا قال: قد حكمت بقتل مقاتلتهم، و سبي ذريتهم، و غنم أموالهم، و أن تكون للمهاجرين دون الأنصار.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: قد حكمت بحكم اللّه، و هو معنى قوله: «وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ/ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً» «1».
فانظر كيف يمتن عليهم بهذا، و العدو و الولي يسمع، و لا يجوز أن يمن عليهم إلا بما قد كان و علموه. فانظر كم علم في قصة الأحزاب، و كم آية، و كم دلالة، و كم أعجوبة.
(1/491)
و قد دخل في هذا الباب باب آخر و هو بانفراده حجة تامة، بل في كل موطن منه حجة و دلالة، فمن ذلك قوله عز و جل: «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً.» «2»
فانظر كيف يخبر عن عدوه أنهم سيقولون ما فيه حجة عليهم قبل أن يقولوه، فيقولون ذلك و يفعلونه كما أخبر عنهم، و هذا من عجيب الأمور،
__________________________________________________
(1) التوبة 120
(2) الفتح 11
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:457
و لها نظائر، مثل قوله عز و جل: «فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ» «1» و قوله: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» «2» و مثل هذا كثير.
فإن قيل: فما ينكرون أن يكون قد أخبر عنهم بعد أن قالوا.
قيل له: هذا لا يفعله عاقل بأن يقول لأمر قد كان و قد وجد و فرغ منه هذا سيكون، فيكذب هذا الكذب الظاهر عند قوم يعلمون أنه قد كذب و هو يدعي/ الصدق و النبوة و أنه وجده حجة اللّه و صفوة اللّه و أنه لا أحد معه في ذلك و لا بعده إلى يوم القيامة، فاعرف هذا وراعه في أماكنه من القرآن إذا تلوته.
(1/492)
و تأمل قوله عز و جل: «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» و قوله:
«بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً».
فإن العاقل لا يفعل هذا بمن أظهر له الطاعة و إن كان متهما الباطنية، بل يظهر له القبول، هكذا حق الرئاسة و هو الذي تقضيه السيادة و هو الحزم و من سوء التدبير إظهار تهمة مثله، و هذا لا يفعله إلا من كان نبيا أو رسولا للّه صادقا كما قد تقدم شرح ذلك لك.
و مما يؤكد ذلك، أنه صلّى اللّه عليه و سلم كان يوصي أمته بالمداراة و بالصفح و بترك
__________________________________________________
(1) الإسراء 51
(2) الفتح 15
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:458
المكاشفة، و يقول: هذا هو الحزم. و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم واجدا على بعض أحياء العرب، فوردوا عليه و هو معرض عنهم، فقام رجل منهم فأنشده «1»:
فحي ذوي الأضغان تستبق و دهم تحيتك الحسنى فقد يرفع النفل
و إن أظهروا سوآ فأظهر كرامة و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه استماعه و إن الذي قالوا وراءك لم يقل
فأقبل صلّى اللّه عليه و سلم و رضي عنهم و قال: إن من الشعراء لحكماء، و إن من البيان لسحرا، و أعاد قول الشاعر: و إن الذي قالوا وراءك لم يقل. استحسانا له و استصوابا، فلما صار إلى أمر اللّه عز و جل ما رضي إلا بمواطأة القلب للسان، و أن يكون الظاهر مثل الباطن، ثم ما رضي بأن يكون هذا القول منه و من عنده حتى قال هذا القول/ قول اللّه لا قولي، و قول خالقكم و خالق «2» العالم بضمائركم و ما أخفيتم.
(1/493)
و تأمل قوله: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» إلى قوله: «بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» «3»
فانظر كيف يقول لأولئك لما جاؤا معتذرين و سامعين و مطيعين: إنكم قد قلتم بألسنتكم ما ليس في قلوبكم، و إن قعودكم لم يكن لشغلكم بأموالكم و أهليكم بل لظنكم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا.
و يقول لهؤلاء الآخرين الذين بهم ضعف بصيرة و قد جاؤا مذعنين
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الأصل: «سبب قول النبي صلى اللّه عليه و سلم: «إن من الشعراء لحكماء»
(2) في الأصل: «خالقي»
(3) الحجرات 17
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:459
و سامعين و مطيعين: لم تؤمنوا، و لكن قولوا: أسلمنا. فلا يسوغهم دعوى الإيمان مع ضعف البصيرة، و يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» «1» فيعطيهم العطاء الجزيل و يقول: هؤلاء الذين ضعفت بصائرهم أعطيهم أتألف قلوبهم لانحطاط منزلتهم عن منازل المهاجرين و السابقين و الأنصار، فيسميهم باسم المنقصة و يلبسهم جلباب المذلة و قد أعطاهم تلك العطايا الوافرة، و هذا خلاف تدبير عقلاء الناس و حكماء البشر، فإن هذا عندهم تضييع للمال و تنفير للناس و جناية على الملوك و نقض عرى الملك و هدم لأركانه.
(1/494)
و في هذا المعنى قوله عز و جل: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ. وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» إلى قوله: «وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» و هذا من ذلك الجنس الذي قدمنا، و هي في قوم من/ المنافقين معروفين و هم عبد اللّه بن أبي سلول الخزرجي و أتباعه، و هذا كان سيدا في الخزرج مطاعا عظيم الشأن، و كان متقدما في الأوس و الخزرج جميعا، و كان رأس المنافقين، يطيعونه و يرجعون اليه، و كان قد حسد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سبق عليه أمره، و كان سعد بن عبادة يقول للنبي صلّى اللّه عليه و سلم اصبر عليه يا رسول اللّه و احتمله، فو اللّه لقد نظمنا خرزات تاجه لنسوده حتى جاءنا اللّه بك.
و كان معه على النفاق جماعة من الأوس و الخزرج يؤملونه و يرجون أن تكون الرئاسة له، و كانوا يعدلون قومهم من الأنصار في محبتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أتباعه.
و كانت الأنصار تحب إسلامه و إجابته و إخلاصه، فيذكرون له صحة الإسلام
__________________________________________________
(1) التوبة 60
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:460
(1/495)
و حسنه، و يوبخونه في إبطائه عنه، فيجيبهم إلى ذلك فيسلم؛ ثم ينظر في أمره و أنه ليس له منزلة خبّاب بن الأرتّ، و سهيل بن سنان، و زيد بن حارثة، و بلال مولى أبي بكر الصديق، و عمّار بن ياسر، و أمثالهم من الموالي مع حبه للرئاسة إذ هو رئيس و سيد قبل الإسلام، فيتحسر، و يحمله الحسد، فيرجع و يتردد. و قد كان في بعض غزوات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، إما في غزوة المريسيع أو غيرها قد ازدحم الناس على الماء لضيقه «1»، فوقع بين الجهجاه الغفاري صاحب عمر بن الخطاب و أجيره و بين رجل من الأنصار، فقال الغفاري: يا للمهاجرين و قال الأنصاري: يا للأنصار، و بلغ ذلك عبد اللّه بن أبيّ بن سلول و هو في مجلسه و في جماعة من خواصه و خدنه و عبيده و أهل بيته، و كان في هذه الغزاة، فأظهر التعجب من أن يقال يا للمهاجرين و أن يكون أحد يعازّ الأنصار و قومه/ من الأوس و الخزرج و أخذ يلوم الأنصار في مجيئهم بهم و أنهم جاؤا بقوم فقراء فواسوهم و مطرودين فاووهم و أنزلوهم ديارهم و مخذولين فنصروهم، فلما قووا و اشتدوا و اثبوهم و قالوا: يا للمهاجرين، و هذا كما قيل: سمّن كلبك يأكلك، و ينبغي لهم أن يقطعوا النفقة عنهم حتى ينفضوا عن هذا الرجل «2» و لئن رجعنا إلى المدينة لنأخذنهم بهذا، و لننضحن لهم، و ليخرجن الأعز منها الأذل. و كان قد قال هذا بحضرة ثقاته و ظن أن ذلك لن يبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فجاء زيد بن أرقم الأنصاري و كان من أهل بيته فأعاد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم المجلس، فذكر صلّى اللّه عليه و سلم ذلك للأنصار فجاؤا إلى عبد اللّه بن أبيّ بن سلول فذكروا له ذلك، و أن زيدا بن أرقم حكى ذلك
__________________________________________________
(
(1/496)
1) و تسمى أيضا غزوة بني المصطلق. و في سيرة ابن هشام يوضح أن الذي نادى أولا هو الأنصاري إذ قال: يا معشر الأنصار، و الأنصاري هو سنان بن وبر الجهني. انظر لتفصيل الحادث سيرة ابن هشام 2: 290
(2) هو يتكلم عن الأنصار فيقول: ينبغي لهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:461
عنه، فقال: ما قلت هذا، و حلف، و قال: قد كذب من ذكر ذلك عني، و أنا أعرف بحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من أن أقول هذا، و زيد بن أرقم غلام حدث لا يدري ما يقول. فقالوا له كذا الظن بك، و أقبلوا على زيد بن أرقم تعذلونه و جاء هو إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مع أصحابه و خاصته يكذبون زيدا فيما حكاه، و يحلفون على ذلك، و أنهم يعتقدون في قلوبهم و ضمائرهم نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و صدقه، فقبل رسول اللّه أيمانهم و سمع منهم و أقبل عليهم يكذب زيد بن أرقم و لا صدقه، بل أمسك عنه. فأخذه صلّى اللّه عليه و سلم الوحي كما كان يأخذه، فأقبل على أصحابه و دعا بأبي بكر و عمر، و تلا السورة، و أخبرهما بصدق زيد بن أرقم و أنه على حداثته قد أجاب و صدق. فقال له عمر بن الخطاب يا رسول اللّه لم لا تأذن في قتل هذا، تقدم إلى بشر بن البر الأنصاري أو إلى غيره يقتله «1»، و تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم السورة على الأنصار، فقاموا/ إلى عبد اللّه بن أبي بن سلول فتلوا ذلك عليه و عرفوه ما كان، و عذلوه و لاموه و لاموا أصحابه و من حوله ممن يريد هذا، و قالوا: إلى كم يا ويحك، و إلى متى تكون هذه الفضائح و يفضحكم اللّه مرة بعد مرة، توبوا و ارجعوا، فقالوا نتوب و نرجع.
(1/497)
و جاء ابن لعبد اللّه بن أبيّ بن سلول إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كان مخلصا و كان برّا بأبيه شديد المحبة له، فقال: يا رسول اللّه، قد بلغني ما كان من أبي و ما أحسب ولدا أبرّ بوالد مني و لكني لا أرضى له ما يأتيه، و قد بلغني ما أشار به عمر، فإن أردت قتله فمرني بذلك فإني و اللّه أقتله مع حبي له و برّي به، و إن قتله غيري خشيت ألا أصبر أن أرى قاتل أبي في الناس فأقتله فأدخل النار، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلم لا تقتله و تأنّ به.
__________________________________________________
(1) في سيرة ابن هشام: عباد بن بشر الأنصاري
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:462
(1/498)
و لما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من هذه الغزاة يريد المدينة، فلما قرب اعترض ابن عبد اللّه بن أبي بن سلول هذا أباه و اعتقل جمله وثنى ركبته، فقال له أبوه: مالك يا بني و ما تريد، فقال له: و اللّه لا دخلت المدينة أو يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الأعزّ و أنا الأذل، فما زال يدافعه و يسأله تركه و تخليته فلا يفعل، و يمر به الناس على طبقاتهم في سيرهم، فمنهم من يسأله الصفح عنه و التخلية له و منهم من لا يفعل، و أصحابه و أعوانه يرون ذلك به و يشتد حسرتهم عليه، فما أفرج ابنه عنه حتى قال ذلك و نادى على نفسه. فتأمل ما في هذا من دلالات و علامات و آيات بينات تدل كل عاقل استدل بها على نبوة محمد صلّى اللّه عليه و سلم و صدقه و فيه من ذلك أكثر مما شرحنا فتأمله تجده و هؤلاء المنافقون كبراء و رؤساء في قومهم، و كانوا مطاعين و لهم/ أتباع، و قد كان اليهود يجلسون إلى عبد اللّه بن أبي بن سلول و يعظمونه و يجلّونه و يزيدون في ذلك لأجل عداوته للنبي صلّى اللّه عليه و سلم، و يبعثون الأوس و الخزرج على طاعته، و يقولون: سيدكم القديم و لحمكم و دمكم، و إنما محمد و أصحابه دخلاء فيكم. و قد كان الجدّ بن قيس أحد السادة القدماء المطاعين في بني قيلة من الأوس و الخزرج «1»، و قد كانت سبيله في النفاق سبيل عبد اللّه بن أبي بن سلول.
فإن قال قائل: قد لعمري كان هذا من سيرة محمد صلّى اللّه عليه و سلم و أفعاله و هو بخلاف سيرة حزمة الملوك، و لن يقوم الملك بمثل هذا التدبير، و لكن إنما فعل محمد هذا في آخر أمره و حين صار بالمدينة و صار في عساكر و جماعات، و حين استتب أمره، فألا فعل هذا بمكة؟
__________________________________________________
(
(1/499)
1) كان الجد بن قيس المتخلف الوحيد عن بيعة الرسول صلى اللّه عليه و سلم بيعة الرضوان. ثم تخلف عن غزوة تبوك و نزلت فيه الآية: (و منهم من يقول ائذن لي و لا تغتني). سيرة ابن هشام ج 2: 316، 516
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:463
قيل له: ما في هذا طعن و لا جئت بشي ء، بل ما حصلت و لا تدري ما تقول و لو سكت لكان أستر لك، لأنك مازدت على أن قلت: هذا كان بالمدينة و لم يكن بالمدينة، و كان حين صار في عساكر و جماعات، فما في هذا من الطعن، و لو قد تدبرت لعلمت أن هذا زائد في حجته. لأنه بالمدينة ما رجع عن دعوى النبوة و الصدق و العصمة كما كان بمكة، و حين صار بالمدينة و في عسكر و عدوه في عسكر يقصده و يطرقه، فهو إلى الرجال و إلى التدبير بتدبير حزمة الملوك و طلاب الدنيا و مداراة من يتهم باطنه و ترك مكاشفة مثل هذا أولى، فما زدتنا بسؤالك هذا إلا قوة في الحجة. و قولك: ألا كان هذا بمكة؟ فكيف يكون بمكة و ما هناك منافق البتة؟، و كيف ينافقونه بمكة و هو و أتباعه كانوا بها مقهورين مغلوبين و بها من المسلمين من يكتم إيمانه خوفا من قريش، و الذين/ كانوا يظهرون إيمانهم بمكة قبل الفتح أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ و أشباههم، من تلك الجماعة المعروفة، على ما عليهم في ذلك من الشدة و الأذية و البلية من قومهم و سواهم من الرجال و النساء كانوا يضعفون عما يقوى عليه أولئك فيكتمون ايمانهم، فمن أين يكون بمكة منافق.
(1/500)
و الأمر بالضد مما كان بالمدينة فكأنك تقول له صلّى اللّه عليه و سلم: لم لم تكذب و أنت بمكة كما صدقت و أنت بالمدينة، و أيضا فهو كان بمكة وحيدا فريدا، «1» و من معه في ذلة و قلة و قبل أن يتبعه أحد، فما لان لعدوه بل كاشف و بالغ فيما يغضبهم و يغيظهم و جبههم بالإكفار و التجهيل بمثل قوله: «أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» «2» «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و مثل قوله: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» «3» و مثل قوله: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ
__________________________________________________
(1) في الأصل: وحيد فريد
(2) الزمر 24
(3) الفرقان 44
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:464
الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» و مثل قوله: «وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» إلى غير ذلك من نظائره مما لم يكاد يحصى لكثرته، و هذا لا يفعله حازم و لا عاقل إلا أن يكون نبيّا كما تقدم لك شرحه في غير موضع من كتابك هذا.
و تدبر قوله في أصحابه ببدر: «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» «1» كيف يوافقهم على اليسير مما كانوا يجدونه من الشدة و الخوف من عدوهم لقلتهم و كثرة عدوهم.
(1/501)
و في هذا المعنى قوله: «وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «2» و قوله في قصة أحد: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» «3» فواقف الذين أرادوا من الدنيا المباح من الغنائم على هذا المقدار، بخلاف تدبير البشر و من له حرص على طلب الرئاسة و الملك، حتى قال ابن مسعود: ما شعرت أن أحدا يريد الدنيا حتى سمعت رسول اللّه يقول: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» لأن المهاجرين و الأنصار اتبعوا النبيّ لصدقه و نبوته لا لغير ذلك، فإن اتفق لهم رزق مباح لم يكن بذلك بأس.
إلى قوله: «وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ
__________________________________________________
(1) الأنفال 6
(2) الأنفال 26
(3) آل عمران 152
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:465
لَكَ يَقُولُونَ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» «1»
و هذا كان قاله عبد اللّه بن أبيّ بن سلول و أصحابه يوم أحد و هو من ذاك الجنس.
(1/502)
و مما يجري هذا المجرى قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ» «2» و العاقل إذا تدبر علم أنهم لو لم يكونوا كذلك في ضمائرهم و طويتهم لما قاله فيهم و لما أخبر به عنهم، لأنهم كانوا ألفا و أربع مائة، فكان لا يأمن أن تكون طويتهم غير خالصة و إن أظهروا له ذلك، فكان لا يأمن أن يهجم منهم على خلاف ذلك، فيتبينون كذبه و هذا لا يفعله عاقل، فكيف بمثل محمد صلّى اللّه عليه و سلم و هو يدعي النبوة و الصدق و يدعو الناس إلى أن يعتقدوا ذلك فيه، و يريده منهم و مع هذا فيقول إن هذا ليس بقولي و إنما هو قول ربّي و ربّكم علام الغيوب. و هذا فيه علوم بغيوب كثيرة [التي ]، «3» لا يعلمها إلا اللّه و لا يطلع عليها إلا صفوته و أنبياؤه. و لو كان فيهم من ليس بخالص/ الطوية لرجع إلى نفسه فكان يظهر ذلك و لو بعد حين، و لا يدع التحدث به و إن لم يجبه به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كان يتحدث مع اليهود و الرؤساء الذين ذكرناهم من أعداء النبي صلّى اللّه عليه و سلم و يخبرهم بما كان عليه و ما قاله، و كانوا يسرّون بعثرة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و زلّة إن لو كانت و حاشاه من ذلك، فكان يبلغ ذلك رسول اللّه، و المسلمون و يتحدثون به، و يشيع الأمر، كما ظهر أمثاله من قول المنافقين مع إخفائهم لذلك. فتعلم حينئذ بدليل عقلك أن بواطنهم له صلّى اللّه عليه و سلم كانت كظواهرهم كما أخبر و كما قال.
__________________________________________________
(1) آل عمران 154
(2) الفتح 18
(3) هكذا في الأصل، و نظنها زائدة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:466
(1/503)
و قد كانوا يتعنتون و يتعلقون بالضعيف من الأمور و يسألون، ألا ترى أن عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح قد كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فكان إذا انتهى إلى آخر القصة و قد أملى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «و كان اللّه» فيقول ابن أبي سرح:
غفورا رحيما، أو عليما حكيما، فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: هكذا نزلت فاكتب، فقال للناس: إنما يأتي محمد بهذا من تلقاء نفسه، و حكى مثل هذه الصورة، فكيف بما فيه الحجة لهم عليه. و لهذا نظائر مما قد سألوا عنه و ترددوا فيه، و ليس أحد من أصحابه من أخبر عنه مع كثرتهم شكّ أو تردد أو أخبر عن ضميره بخلاف ما أخبر صلّى اللّه عليه و سلم.
و من هذا الجنس قوله عز و جل: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» «1» فأخبر عن المهاجرين المكيين بأنهم هاجروا للّه و ابتغاء لمرضاة اللّه و شهد لهم بالصدق، ثم قال: «وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ/ الْمُفْلِحُونَ»
«2» فشهد لهم بالفلاح، و هم خلق كثير، أخبر عن طوياتهم و ضمائرهم، و هذا من الغيب لا يعلمه الا اللّه.
و من هذا الجنس، إخباره في القرآن عن عائشة و صفوان بن المعطل الذي رميت به، فأخبر عز و جل ببراءة ساحتها و بغافلتها عما رميت به و أنّ ذلك لم يخطر ببالها و لا همّت به فضلا عن أن تفعله، فقال عز و جل: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ
(1/504)
__________________________________________________
(1) الحشر 8
(2) الحشر 9
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:467
عَظِيمٌ» «1» و قد جلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أولئك القذفة و قال: اللّه أمرني بجلدهم و أخبرني بكذبهم في قذفهم عائشة، و تلا عليهم: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»»
أي ما ضركم بل كانت عقبى لكم، فإن اللّه عز و جل تولى إكذابهم بنفسه، و أنزل فيه القرآن المعجز و الآيات البينات التي لا إكذاب لها إلى يوم القيامة، ثم قال: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» «3»
ثم عاتب المؤمنين الذين حكوا ما قالته القذفة و وبخهم على ذلك و على إمساكهم عن تكذيب أولئك و الرد عليهم و حسن الظن بعائشة و بصفوان فقال عز و جل: «لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» حتى قال: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ». فانظر إلى هذا التعنيف النازل بالمؤمنين الذين حكوا ما قالته القذفة في عائشة و قالوا: إنما قلنا ما قيل لا انا قذفنا و لا انا شهدنا.
ثم عاد إلى من كان له في القصة هوى فقال: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» فتأمل هذا الوعيد لمن كان له في هذا هوى/ و قوله للمؤمنين الأبرياء: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».
(1/505)
ثم قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» أي إن هذا مما يزينه الشيطان و يدعو اليه و الشيطان لا يريد إلا الباطل ثم قال: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» أي لو لا لطفه بخلقه و حسن اختياره لهم و جميل تدبيره لما زكى
__________________________________________________
(1) النور 23
(2) النور 11
(3) النور 11
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:468
منهم أحد أبدا، ثم قال: «وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
و هذا القول يقوله اللّه لأبي بكر، فإن مسطح بن أثالة كان من بني عبد مناف و كان ابن خالة أبي بكر و كان في عياله، و قد كان خاض مع الخائضين في شأن عائشة، فلما أنزل اللّه براءتها حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح و قد كان تاب و ندم و كان من المهاجرين، فلما قال اللّه هذا القول لأبي بكر الصديق قال: بلى، يا رب نحب أن تغفر لنا، فرده في عياله.
(1/506)
فتأمل هذا النكال النازل بالقذفة و الفضيحة الحالّة بهم و التوبيخ لمن أصغى لحديثهم و التزكية العظيمة لهذه المقذوفة، و قد وقع في هذه القصة جماعة كثيرة فيما يكرهون على طبقات، و هذا قول يغيظ و يغضب و يخرج المخبات و يذكر بالأحقاد و بالأمور القديمة و يبعث على البهت فضلا عن الإنصاف، فكيف بأمر قريب العهد. و لهؤلاء القذفة و الخائضين نفوس و أكباد و عشائر و أحباب، و فيهم مثل عبد اللّه بن أبيّ بن سلول، و يتصلون بأعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من اليهود و غيرهم،/ و لهم الحرص الشديد على كذبة أو زلة تقع منه فما قدروا، فلو لم يكن في هذه القصة إلا إنسان واحد أو عائشة وحدها و كان هناك كذب لظهر، فكيف و فيها جماعة، فلو لم يكن اللّه قد أطلعه و أخبره بصدق عائشة و صفوان لما أخبر بهما فإن كان لا يأمن كذبهما، هذا لا يختاره عاقل سيما و هو يدعي الصدق.
فقد علمت أن الملوك و طلاب الدنيا لا يؤمن غدرهم و كذبهم و بهتهم بل تلك عادتهم و سجياتهم، و هم يطوون أسرارهم و لا يطلع عليه إلا الواحد بعد
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:469
(1/507)
الواحد من ثقاتهم ممن يشاركهم في ملكهم و نعمهم، ثم لا يأمن إن أظهر ذلك على نعمته و دمه، ثم لا يلبث السرّ الذي هذه سبيله أن يظهر ذلك في زمن الملك من جهته أو من جهة ذلك الثقة الذي أطلعه عليه، و ليس للناس بإظهار ذلك عناية، و ربما لم يكن في ذلك ما يتعلق بالدين و فيه معاداة الناس كلهم، و عنايتهم به و طلب عثرات من أتى به شديدة، و يتمنون وقوع ذلك منه. و من لا عيب فيه و لا عادة في وقوع الكذب منه و من يدّعي العصمة فصغار الأمور كبيرة منه، و قد يشيع عليه بما يشبه العيوب و الذنوب بأنه عيب و ذنب، و يتعلق عليه بمشكل الألفاظ و متشابه الكلام. و قد كان أعداؤه صلّى اللّه عليه و سلم معه و بهم من الكثرة و القوة و الملك و السطوة ما قد عرفه الناس، و مع هذا فقد ارتد من ارتد من قبائل العرب بعد موته، و ناظرهم أصحابه و حاجوهم و حاربوهم فما أمكن أحد من أولئك الأعداء من المرتدين و لا المنافقين و لا اليهود و لا النصارى أن يقيموا حجة في/ هفوة أو زلة أو فيما يشبه ذلك كان منه صلّى اللّه عليه و سلم مع حاجتهم إلى ذلك و حرصهم عليه، فكانوا يدفعون بأس أصحابه عن أنفسهم بذلك و يوقعون الخلاف بينهم بذلك، لأن أصحابه إنما استحلوا دماء من خالفه ديانة لأنه نبيّ و لأنه صادق لا يخطى ء و لا يزل و لا يكذب، و لو وقع منه شي ء من ذلك لما حلت نصرته و لا تصديقه و لا اتباعه فلو كان فيمن زكاه و شهد على ضميره و نيته من ليس كذلك لما لبث أن يخبر بذلك و يرجع عن نبوته و تصديقه، و كان لا يسر بما أظهره من تزكيته لأنه يعلم أنما أظهر تلك التزكية و التصديق حيلة عليه و خديعة له و سخرية منه، فكيف و الذين زكاهم و شهد على ضمائرهم جماعات كثيرة في أوقات متغايرة، و كذا من شهد بنفاقه، فاعرف هذا فإنه باب كبير من ورائه أبواب في دلائل نبوته صلّى اللّه عليه و سلم.
ثم عدت إلى ما كنت بدأت به، فمن هذا الجنس قوله تبارك و تعالى:
(1/508)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:470
«لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» «1».
فتبين رحمك اللّه ما في هذا، فقد تقدم لك شرح نظائره، ثم قال: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ. لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» «2» و هذا في قوم معروفين استأذنوه عليه السلام ثم قال فيهم: «وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ/ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ.
(1/509)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» «3» و هذا خلاف تدبير عقلاء البشر، فإنهم إذا خلفوا من خلفوا خوفا من ضرره و هربا من شره و قدموا من قدموا ليهلك فيستريحون من شره لا يفضحون بذلك و لا يظهرونه و إنما يظهرون خلافه، فيقولون لمن خلفوه إنما خلفتك لحاجتي لتكون من ورائي و لثقتي بك و لتعويلي عليك، و كذا يقولون فيمن يقدمونه، ثم قال: «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ» «4» يريد ما كان من حرصهم على قتلك و استئصالك حتى طمعوا فيك، لوحدتك ثم لضعف من اتبعك حين آمنوا بك و لقلتهم حتى جاء ما وعد اللّه من النصر و الظفر و الظهور، ثم قال: «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
__________________________________________________
(1) التوبة 42
(2) التوبة 43- 44
(3) التوبة 46
(4) التوبة 48
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:471
وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» «1» و قد كان صلّى اللّه عليه و سلم قال للجد بن قيس: هل لك في جلاد بني الأصفر. يعني الروم. فقال هو و غيره:
بل تأذن لنا فنقيم و نتخلف و لا تفتنا فتغلظ المحنة علينا بأمرك إيانا بالخروج و ترك إعفائنا منه، فلعل ذلك أن يثقل علينا فنخالف أمرك فيه.
فقال اللّه: «أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا» أي فيما ذكروا أنهم يحذرونه من المعصية و الخلاف سقطوا، و النار من ورائهم محيطة بهم على أفعالهم و نفاقهم و قعودهم عنك.
(1/510)
ثم قال: «قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ» و ليس من تدبير عقلاء البشر أن يقول لمن أظهر طاعته و أنفق فيها ماله و بذل فيها مهجته:/ إن هذا لا ينفعك و لا يقبل منك ثم قال: «وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ» و هذا من ذلك الجنس في المكاشفة ثم قال: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ» «1»، فقد كان للجد بن قيس و لعبد اللّه ابن أبي و أضرابهما ممن نافق من الأوس و الخزرج أموال ظاهرة و نعم و أولاد، و هم جماعة كثيرة، فأخبر اللّه نبيّه بسوء أحوالهم في الباطن و أن أموالهم و بال عليهم و اللّه يعذبهم بها بما يكلفهم من إنفاقها، فهم ينفقون أموالهم و يكدّون أبدانهم و يقاتلون أولياءهم مع أعزائهم، و هذا من ذلك الجنس. و ليس يريد كفرهم، و إنما يريد تعذيبهم بكفرهم في حال كفرهم، كما قد يقول الرجل لصاحبه: إنما أريد أن تعودني و أنا مريض، و إنما أريد أن تزورني و أنا محبوس،
__________________________________________________
(1) الآيات السابقة من سورة التوبة 38 فما بعدها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:472
(1/511)
و إنما أريد أن تسد خلتي و أنا فقير، و هو لا يريد أن يكون مريضا و لا محبوسا و لا فقيرا، و إنما يريد أن يعامل بهذه المعاملة و هو في هذه الأحوال، فكذا أراد اللّه تعذيبهم و هم كافرون، أي في حال كفرهم و لأجل كفرهم و إن كان لكفرهم كارها. ثم قال: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ» «1» و هذا في قوم من المنافقين معروفين اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شرّ من الحمير، فقال رجل كانوا يظنونه منهم و هو مسلم: و اللّه الذي لا إله إلا هو إنه لحقّ و لأنتم شرّ من الحمير. ثم أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فذكر ذلك له، فدعاهم فقال/ أنتم القائلون كذا و كذا، فحلفوا باللّه ما قالوا، فأنزل اللّه ذلك، فقال رجل منهم: قد و اللّه قلنا، و أرى اللّه قد عرض علي التوبة و بذلها لي، و اللّه لأقبلنها؛ فتاب و اعتذر، و هو معروف.
و قد قلت لك: إنك بعقلك تعلم أن هناك قوما «2» هذه صفتهم و قد قالوا ما حكاه اللّه عنهم و إن لم نعرف أسماءهم و أعيانهم. و قوله: «وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعطيهم من الغنائم إذا حضروا الحرب على ظاهر الإسلام، و يعطيهم من الصدقات بظاهر الفقر، فأذكرهم اللّه بهذه النعم، و هذا كقولك ما لي إليك ذنب إلا نصحي لك و محبتي إياك.
ثم قال: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً
(1/512)
__________________________________________________
(1) التوبة 74
(2) في الأصل: قوم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:473
فِي قُلُوبِهِمْ» إلى قوله: «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «1» و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و سلم حث الناس على الصدقة، فجاء عمر بصدقته و جاء عبد الرحمن بصرة يعجز عنها الكف، و جاء عثمان أيضا بما هو معروف من عظم صدقته، و كذلك غيرهم من الصحابة. و جاء رجل يقال له أبو عقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: لو كان لنا مال لأعطينا أكثر مما أعطى عبد الرحمن، و قالوا لصاحب الصاع: إن اللّه لغني عن صاعك هذا، فلمزوا من إعطاء الكثير و من إعطاء القليل، فلهذا قال اللّه: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» «2» فلهذا فصل اللّه عز و جل بين الفريقين. و أما قوله: «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» فإن اللّه لا يفعل سخرية الساخرين، و لا ظلم الظالمين، و لا استهزاء المستهزئين، و لا خداع المخادعين، و لا جور الجائرين،/ و لكنهم لما جازاهم على سخريتهم جاز أن يقال سخر منهم، و هذا جزاء، كقوله: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» «3» و «جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «4» فالأولى سيئة و الثانية جزاء. ثم قال: «وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا» و هؤلاء قوم معروفون بأعيانهم تخلفوا عن الخروج مع رسول صلّى اللّه عليه و سلم إلى غزوة تبوك و قالوا هذا القول، و كان قد خروج في أشد ما يكون من الحرّ، و كانت نصارى العرب قد خرجوا إلى ملك الروم يحثونه على قصده لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قالوا له: هو و أصحابه في جهد و ضرّ شديد، فانتهز الفرصة فيهم.
(1/513)
فبادره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و خرج بأصحابه و هم في ضرّ شديد و إعواز و عدم القوت، و توجه نحو
__________________________________________________
(1) التوبة 75
(2) التوبة 79
(3) البقرة 194، و في الأصل: و من اعتدى
(4) الشورى 40
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:474
الشام في عشرة آلاف فارس و عشرين ألف راجل، و أقام بتبوك و ملك الروم بدمشق، فراسله النبي صلّى اللّه عليه و سلم و دعاه إلى إجابته و الدخول في طاعته و وبخه و كان له معه ما هو معروف.
«وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ»، و المعذّر بالتشديد هو المقصر الذي لم يستفرغ وسعه، و المعذر بالتخفيف الذي قد قدم فيما بينه و بين أخيه و صاحبه ما هو غاية في العذر «1» و كان ابن عباس رضي اللّه عنه يقرأ: المعذرون بالتخفيف، و يقول: لعن اللّه المعذرين، ذهب إلى الذي يعتذر بغير عذر.
ثم قال: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» «2».
و كذا يجب على المسلم أن يرضى ما رضي اللّه و عمّن رضي اللّه و يسخط ما سخط اللّه، و لهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يرضى بقدر اللّه» فالرضى بقدر اللّه واجب، و سخط المعاصي فرض لازم، فالويل لمن رضي بمعاصي اللّه و الويل لمن لم يرض بقدر اللّه «3».
و قوله عز و جل:/ «الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً» إلى قوله:
إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
و كان رجل من كبار الأوس يقال له أبو عامر عبد عمرو بن صيفي و كان يعرف بأبي عامر الراهب، و قد كان أظهر الترهب و أنه يطلب الحنيفية و دين
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل: المعذر بالتشديد: المقصر. المعذر بالتخفيف
(2) التوبة 96
(
(1/514)
3) جاء في هامش الأصل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يرضى بقدر اللّه».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:475
الحق. فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه و سلم المدينة لقيه أبو عامر فقال: يا محمد إلام تدعو، فقال إلى دين الحنيفية الذي تطلبه بزعمك، فقال له: ما أنت عليه؟ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: بلى، و دعاه فأبى، و حسد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قال له أبو عامر:
(1/515)
الكاذب منا أماته اللّه غريبا شريدا طريدا، يعرض برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: نعم فعل اللّه ذلك بالكاذب منا. ثم أقبل أبو عامر على قومه ينهاهم عن اتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عن طاعته و يجتهد، و أعلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و آياته تتزايد و تظهر و يكثر أتباعه من قوم أبي عامر فيزداد غيظا. و اتخذ مسجدا يجمع اليه الناس فيحادثهم و ينهاهم من اتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يزعم أنه على الحنيفية، و أن دينه سيظهر و يصير في جماعة و عز، فكان يجتمع اليه قوم من المنافقين، و يجلس اليهم اليهود و يقوون منهم الخلاف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثم إنه خرج إلى مكة و بعثهم على غزو النبيّ و حربه، و يقول: أنا معكم و قومي من الأوس معكم، فإذا لقيتم محمدا صرنا إليكم. و كان معهم في وقعة أحد، فلما تنازلوا نادى أبو عامر قومه معاشر الأوس، أنا أبو عامر فقالوا: لا مرحبا بك يا فاسق، و سبّوه و لعنوه، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. و قد كان خرج إلى مكة من قومه جماعة كثيرة و هم على رأيه في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و كانوا نحو خمسين رجلا، فقاتلوا المسلمين/ مع قريش قتالا شديدا، ثم صار أبو عامر إلى الروم و لقي قيصر ملك الروم بالشام، فدعاه إلى قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المسلمين و حرّضه على ذلك، و هوّن أمرهم عنده بضعفهم و فقرهم و قلة عددهم و كثرة عدوّهم، و خوّفه العواقب إن هو لم يفعل ذلك بما لا يأمنه من قوة الإسلام. ثم إن أبا عامر مات بالشام طريدا غريبا وحيدا كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هذا أيضا من أعلامه في إجابة دعوته.
و قوله: «أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» دلالة على أن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:476
(1/516)
الفتنة بمعنى النعمة «1» و فيها دلالة على أن اللّه قد أنعم على الكافرين و المنافقين بنعمة الإيمان، و أكمل عقولهم و قواهم و أزاح عللهم، فبدلوا نعمة اللّه كفرا و أبطئوا عن التوبة و التذكر.
و انظر إلى ما في قوله: «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «2» و هذه نزلت في هؤلاء الثلاثة من المؤمنين خاصة، و هم «3»: كعب بن مالك و هلال بن أمية و مرارة ابن ربيعة و كلهم من الأنصار، و كان هؤلاء تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في غزوة تبوك، ثم ندموا و اغتموا غمّا شديدا و حزنوا لذلك حزنا عظيما ضاقت صدورهم به، فأخبره اللّه عز و جل عن صدق نياتهم و خلوص ضمائرهم و ما فيها من الحزن و الغمّ بتأخرهم و ما كان ليتلو ذلك إلا و قد علم و تيقن ما في ضمائرهم، و في هذا من الدلالة مثل ما تقدم، و الكلام فيه مثل الكلام في ذلك، فاعرفه.
و كان «4» تخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في هذه الغزاة خلق كثير من المسلمين نحو ثمانين رجلا، و ذكروا/ ما أخرهم، و صدقوا عن أنفسهم، و منهم من لحق به بتبوك قبل أن يرجع إلى المدينة. و كانت هذه الغزاة صعبة شديدة، خرجوا في الحر الشديد و كانوا في إضاقة «5» و في قلة من الزاد، و كان الزمان
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل: «قوله تعالى: (أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) دلالة على أن الفتنة بمعنى النعمة.
(2) التوبة 126
(3) جاء في هامش الأصل «قوله تعالى: وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» نزل في كعب بن مالك و هو و هلال بن أمية و مرارة بن ربيعة.
(
(1/517)
4) في الأصل، و كان كان
(5) هكذا في الأصل، و لعلها ضائقة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:477
حريقا، و أقبل صلّى اللّه عليه و سلم من تبوك، حتى إذا دنا من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا عنه من المؤمنين، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: لا يكلمنّ رجل منهم و لا يجالس حتى آذن لكم، و أعرض عنهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه و عن أخيه، و حتى إن المرأة لتعرض عن زوجها. فمكثوا أياما، و يجعلون يعتذرون إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بالجهد، و يحلفون له، فرحمهم صلّى اللّه عليه و سلم و استغفر لهم. و قالت بنو سلمة لكعب بن مالك امش إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فاعتذر اليه و بايعه لعله يقبل منك، فأقبل معهم و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم جالس في المسجد يبايع، فسلم عليه فأعرض عنه، فقيل إن كعبا قال: لم تعرض عني يا رسول اللّه، فو اللّه ما نافقت و لا ارتبت و لا بدلت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: فما خلفك عني؟ قال:
أما إني لا أعتذر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعذر، لقد كنت شابا موسرا و لكن أصابني فتنة فتخلفت. فسمع مرارة بن ربيعة و هلال بن أمية بالذي قال كعب فقالا مثل قوله، فأعرض عنهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقاموا من عنده، فقالت بنو سلمة لكعب: و اللّه ما أصبت و لا أحسنت و لو اعتذرت لقبل منك، فقال لهم كعب: و اللّه لا أجمع اثنتين: أتخلف و أكذب و قد اطلع اللّه على ما في نفسي فقالت بنو سلمة: و اللّه إنك لشاعر مفوه بليغ جرى ء على الكلام، فقال كعب:
لن أجترى ء على الكذب.
(1/518)
فمكث هؤلاء الثلاثة قريبا من شهرين لا يكلمهم أحد من/ المسلمين و لا يجالسهم، حتى أعرض عنهم نساؤهم، و وجلوا أشد الوجل، و خرجوا من أهاليهم إلى البرية، و طلبوا الفساطيط يأوون اليها بالليل و يتعبدون اللّه. و كتب جبلة بن الأيهم ملك غسان إلى كعب بن مالك أنه بلغنا أن صاحبك نبا بك و أقصاك هلم إلينا فإن لك متحولا و لا تقم على الهوان؛ فأقبل كعب بكتابه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو يبكي، فقال يا رسول اللّه: ما زال إعراضك عني حتى رغب فيّ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:478
(1/519)
المشركون يدعونني إلى الشرك، فلم يراجعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فرجع كعب أحزن ما كان و أشده كربا، و قد أقام أياما في الفسطاط ينتظر التوبة و هو بالحمى فضاقت عليه برحبها، فرجع إلى سلع «1» فكان يقيم به بالنهار صائما و يأوى إلى داره بالليل، حتى نزلت التوبة له و لصاحبيه و رضي اللّه عنهم و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في بيت أم سلمة فقام من الليل فتوضأ و استن ثم قال لأم سلمة: الحمد للّه الذي أنزل لإخواننا التوبة، فقالت: من هم يا رسول اللّه، فقال: كعب ابن مالك و صاحباه، فقالت أم سلمة: أفلا أبعث اليهم و أبشرهم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: أصبحي، فصلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم الصبح و انصرف، فاجتمع إليه المهاجرون و الأنصار فقال لهم: قد تاب اللّه على إخوانكم الليلة، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا و سعى أبو بكر و عمر يبتدران كعبا ليبشراه، فسبق أحدهما صاحبه، فارتقى المسبوق على سلع فصاح: يا كعب بن مالك، أبشر بتوبة اللّه، فقد أنزل اللّه فيكم القرآن. و كعب جالس في مسجد قومه فسمع الصوت فوقع ساجدا يبكي سرورا بالتوبة و اجتمعت اليه بنو سلمة رجالهم و نساؤهم يهنئونه بالتوبة، و أقبل كعب سريعا إلى رسول اللّه فبايعه و استغفر/ له و بشره بالتوبة التي نزلت فيه و في أصحابه، و قرأ عليه: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» إلى آخر القصة.
و هذا كعب بن مالك أحد الشعراء و السادة و البلغاء و كذلك صاحباه فمن السادة، و كانت هذه حالهم في تخلفهم و ما امتحنوا به و ما صدقوا به عن أنفسهم و الإخبار عما في ضمائرهم، لتعلم حسن هذا التدبير و إدلال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالصدق و الأمانة و البعد من كل ريبة و من كل حيلة و مما جرى عليه
__________________________________________________
(1) لتفصيل حادثة الثلاثة الذين خلفوا و منهم كعب رضي اللّه عنه انظر سيرة ابن هشام 4: 531- 537
(1/520)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:479
أمر البشر، فتدبر ما يقرأ و يكتب لتعرف أعلام النبوة و تظهر لك حيل المحتالين على المسلمين في تشكيكهم فيها و إخراجهم من الإسلام من حيث لا يشعرون، فإن القوم الذين قدمنا ذكرهم حين كادوا الإسلام تستروا بالتشيع، و قالوا:
يجوز على أنبياء اللّه و حججه «1» تزكية المشركين و مدح الكافرين و شتم النبيّين و البراءة من الصديقين على طريق الخوف و الاتقاء، و إنما قالوا ذلك لما قد قهرهم من مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أمير المؤمنين لأبي بكر و عمر و عثمان و تلك الجماعة من المهاجرين و الأنصار، فقالوا: إن هذا المدح على طريق الخفية من هؤلاء و اتقاء لهم و لبأسهم، و أنت ترى مكاشفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للأعداء في حال الوحدة و هو خائف يترقب، و هو في أيديهم و في قبضتهم مقهورا مغلوبا، و قد تقدم شرح ذلك، و تقدم لك أيضا أن هؤلاء المهاجرين و الأنصار قد علمنا أنهم أحباب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أولياؤه و ثقاته و أمناؤه، و أنه كان يحبهم و يتوالاهم، و أن العلم بذلك قبل العلم بنبوته، و أنه قد فرض على أمته و أهل طاعته محبتهم و موالاتهم كما فرض عليهم البراءة من الوليد بن المغيرة، و النضر بن الحرث، و عتبة بن ربيعة و أمثالهم من أعدائه من قريش و من اليهود و النصارى/ على ما تقدم لك من شرح ذلك، و قد تقدم لك أيضا أن أنبياء اللّه و حججه لا يجوز أن يتقوا و إن خافوا و إن غلبوا و إن قهروا.
و أعجب الأمور أن رؤساء الجاهلية و أقيال العرب و المتبوعين و المطاعين كعيينة بن حصن، و العباس بن مرداس، و عامر بن الطفيل. و أضرابهم قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إنا نحب أن نجلس إليك و نسمع منك و نحن وجوه الناس، و إنما حولك هؤلاء الفقراء و العبيد كصهيب بن سنان، و خبّاب بن الارتّ، و عمّار ابن ياسر، و بلال، و أرواح ثيابهم كأرواح الجلود العطنة، و نكره أن ترانا
(1/521)
__________________________________________________
(1) جمع حجة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:480
العرب معهم، فاجعل لنا يوما و لهم يوما. فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بذلك و لم ير به بأسا، رجاء لإسلام هؤلاء و أنهم متبوعون مطاعون يسلم بإسلامهم الخلق الكثير، فأنزل اللّه: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» «1» و قد كان قوم من هؤلاء الرؤساء الذين قدمنا ذكرهم قالوا: يقدم هؤلاء العبيد و الموالي و الفقراء علينا، فأنزل اللّه: وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2»
و في هذا المعنى نزل قوله عز و جل: «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» «3».
(1/522)
فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن ذلك العزم و لم يفرد أولئك الرؤساء/ بمجلس يخصهم، و قدّم هؤلاء الفقراء و العبيد و الموالي، فكانوا أقرب الناس اليه، و يجلس اليهم ما جلسوا، و لا يقوم عنهم حتى يقوموا. و قد كانوا عرفوا ذلك منه، و كانوا إذا أقبلوا يقول لهم: سلام عليكم مرحبا بكم، بأبي من عاتبني فيهم ربّي اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين. يريد المتواضعين للمسلمين.
فتأمل هذا التدبير، و كم كان من الرؤساء من قريش و غيرهم يبطئهم
__________________________________________________
(1) الأنعام 52
(2) الأنعام 53- 54
(3) الكهف 28
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:481
(1/523)
عن الإسلام أنهم قد علموا أنهم إذا أسلموا لم يتقدموا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على هؤلاء الموالي و العبيد، بل لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يسوي بينهم، و إنما كان الناس يتقدمون عنده على السابقة و الهجرة و البصيرة. فلما فتحت مكة و أسلمت العرب و يئس عدو الإسلام من الطمع فيه تحدث أبو سفيان و أمثاله من بني عبد مناف، أن الذي أخرنا عن الإسلام أنا حسدنا بني عمنا من بني هاشم و لقد أوفى الحارث بن هشام على مرقب حين خرج من مكة [1]، فلم يبق بها نافخ ضرمة إلا خرج مودعا له و مستوحشا لفراقه، فقال: ما بلد أحبّ إليّ من بلدكم و لا قوم أحب إلي منكم، و لكن حدث هذا الأمر فسبق اليه رجال ليسوا من أقدارنا، و لئن سبقنا عمار و بلال و صهيب إلى الإسلام فلن يسبقونا إلى الجنة، و أنا حبيس في سبيل اللّه ما حييت. فكان منه و من عكرمة ابن أخيه و غيرهما من بني مخزوم و هم كانوا أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و من مسلمة الفتح من الجهاد في سبيل اللّه و في قتال المرتدين بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حتى ردوهم إلى دين الإسلام، و من جهاد الفرس و الروم، و من الصبر على تلك الشدائد، ما هو مذكور في كتب العلماء.
و في هذا المعنى ما كان آذن عمر بن الخطاب يخرج و ببابه سادات/ العرب فيقول: أين بلال؟ أين عمار؟ أين صهيب؟ أين خبّاب؟ فينهضون مقدّمين مكرّمين، و بالباب سهيل بن عمرو، و حكيم بن حزام، و عيينة بن حصن، و أمثالهم من السادة. فنظر اليهم سهيل بن عمرو و قد تمعرت وجوههم من جلوسهم بالباب و الإذن لأولئك قبلهم فقال لهم: ما لكم معشر العرب تتمعر وجوهكم، هؤلاء قوم دعوا و دعينا فأسرعوا و أبطأنا، و لئن حسدتموهم اليوم بباب عمر، لما أعدّ اللّه لهم في الجنة غدا أفضل، و هذا سهيل بن عمرو
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:482
(1/524)
كان من أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و من أشدهم عليه و هو من مسلمة الفتح، فاسمع قوله و تأمل أمره.
و كم يحدّث معاوية و آل أبي سفيان و آل مروان في ملكهم و في سلطانهم بعد مضي أئمة الهدى أن الذي أخرهم و أخر أباهم عن الإسلام الأنفة أن يكونوا كمن قد قدمنا ذكره.
و منهم من أخره الحسد و المنافسة، و منهم من أخره منع إخوانه و ساداته و هذا باب مفرد.
و قد علمت أن الملوك و الجبابرة قد تكون لهم الهفوات و الزلات فتقف عليها ثقاتهم و وزراؤهم و شركاؤهم في الملك و من يخافهم على دمه في التحدث بعيوبهم فيحدثون به في حياتهم و يلقونه إلى ثقاتهم و لا يملكون أنفسهم لثقل الكتمان على الناس، فأما إذا مات الملك أو الرئيس فيحدثون به كل أحد مجاهرين، هكذا جرت العادة و دلت عليه العبرة، و هؤلاء تحدثوا بهذا في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بعد وفاته، لتعلم وثاقة أمر النبوة و أن أمرها و أساسها وضع على مثل الجبال. و ما كنا في هذا الباب و إنما كنا في بطلان قول الذين رموا الأنبياء بكتمان الحق و إظهار الباطل، فاتصل الكلام بما أشبهه فخرجنا إلى هذا.
/ ثم عدت إلى بيان بطلان قول هؤلاء فتأمل قوله: «عَبَسَ وَ تَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا».
و قد كان بعض سادات العرب و أغنياؤهم قصد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ببعض شأنه، فأقبل صلّى اللّه عليه و سلم على كلامه رجاء إسلامه و أتاه في تلك الحال ابن أم مكتوم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:483
- و كان أعمى- يكلمه، فتشاغل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن جوابه بذلك السيد فعاتبه اللّه هذا العتاب في شي ء هذا قدره.
(1/525)
فكيف يسوغ أن يظن عاقل متأمل بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ما ادعاه هؤلاء عليه!!
و تأمل قوله: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» «1»
و هذه نزلت في قصة زينب بنت جحش و كانت بنت عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد زوجها بزيد بن حارثة و كان مولى.
و كان قد زوّج أيضا ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم المقداد بن الأسود و كان من الموالي أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بطلان مذاهب الجاهلية في الأكفاء، و كانت زينب هذه شرسة الأخلاق كثيرة النقار لزيد و الخصومة له، و كان ذلك يشق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يكره أذيّة زيد، و كان زيد لا يصبر و لا يطيق أخلاقها و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كالمتندم على تزويجها به و يقول في نفسه: ليتني كنت تزوجتها فكنت أحق باحتمالها و الصبر عليها من زيد و غيره لقربها مني/ و كان زيد إذا همّ بطلاقها نهاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن ذلك و قال:
اصبر و احتمل و أمسك عليك زوجك، فلم يصبر زيد، فطلقها، فأحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يتزوجها فكره استحياء من زيد و غيره، فقال اللّه عز و جل له هذا القول في شي ء ليس بمعصية، ثم أمره بالتزويج بها لما أراده و نواه من صلة رحمه، و لئلا يخرج المؤمنون في التزوج بأزواج أدعيائهم و من يتبنّونه و لم يكن من أصلابهم، فقال عز و جل: «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها
__________________________________________________
(1) الأحزاب 37
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:484
(1/526)
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا».
فتأمل هذه الأقوال في هذه الأمور الصغار، و تأمل دعوى هؤلاء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كأنما يحدثونك عن مسيلمة أو عن كسرى و قيصر في سيرتهم، لا عن محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سيرته و تدبير اللّه له.
و باب آخر [حول الآية الكريمة «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» و كيف كان كما أخبر تعالى ]
و هو قوله عز و جل: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» «1» فكان ذلك كما أخبر، حتى تم أمر المسلمين و كانت العقبى لهم، و إن كان في خلال ذلك قد كانوا ينالون من المسلمين و يقتلون منهم إلا أن العقبى كانت لهم عليهم كما قد تبينت و لهذا قال صلّى اللّه عليه و سلم: «نصرت بالرعب». و قد كان المسلمون يرون ذلك و يتحدث المشركون بما يجدونه منه و قالت بنت للحكم بن أبي العاص لجدها:
ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا و لا أعجز في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم منكم يا بني أمية، فقال: لا تلومينا يا بنية لا أحدثك إلا ما رأيت بعينيّ هاتين. تواعدنا مع قريش لنأخذه، فلما دنونا اليه سمعنا صوتا خلفنا ظننا أنه ما بقي بتهامة/ جبل إلا تفتت، فغشي علينا و ما عقلنا حتى قضى صلاته و رجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى فلما جاء نهضنا اليه، قال فرأيت الصفا و المروة قد التقى أحدهما بالآخر فحالا بيننا و بينه فو اللّه ما نفعنا ذلك حتى رزقنا اللّه الإسلام. «2».
__________________________________________________
(1) الأنفال 12
(
(1/527)
2) كان الحكم بن أبي العاص أحد نفر يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و هم أبو لهب و عقبة ابن أبي معيط، و عدي بن حمراء الثقفي، و ابن الأصداء الهذلي، و الحكم، و كانوا جيران الرسول و لم يسلم منهم إلا الحكم. سيرة ابن هشام 1: 416
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:485
و لقد قال لهم أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، قالوا: نعم قال: فالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فقيل له ذات يوم: هو ذاك يصلي فانطلق اليه ليفعل به ما قال، فما رأيناه إلا و هو ينكص على عقبيه و يتقي بيده، قالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: بيني و بينه حدق و هول و أجنحة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا.
و اجتمع مرة الملأ من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فقالوا: قد التبس علينا أمر محمد، فلو علمنا رجلا يعلم الشعر و السحر و الكهانة بعثنا به اليه يكلمه و يأتينا ببيان أمره، فقال عتبه بن ربيعة: أنا أعرف الكهانة و الشعر و السحر، و قد علمت منه علما فأنا آتيه فلا يخفى عليّ أمره، فأتاه فقال:
(1/528)
يا محمد، أأنت خير أم عبد اللّه، أأنت خير أم هاشم، أأنت خير أم عبد المطلب، فبم تشتم آلهتنا و تضلل آباءنا و تفعل و تفعل، إن كانت بك الرئاسة جعلناك رئيسا علينا حتى تموت، و إن كان بك الباه زوجناك عشرة نسوة تختارهن من قريش، و إن كان بك المال أعطيناك ما تستغني به و عقبك، و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم ساكت؛ فلما فرغ عتبة قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: يا أبا الوليد قد قلت فاسمع: ثم قرأ صلّى اللّه عليه و سلم «حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» حتى بلغ إلى قوله: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ/ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» «1» فأمسك عتبة على فم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قال: أنشدك بالرحم لما كففت. ثم رجع اليهم فقالوا له: يا أبا الوليد رجعت بغير الوجه الذي ذهبت، فقال: يا قوم أمسكوا عن هذا الرجل فإن تم أمره فشرفه لكم، و مضى إلى منزله فقال أبو جهل: ما أرى عتبة إلا قد صبأ و اتبع محمدا، انطلقوا بنا اليه. فأتوه، فقال أبو جهل: ما نراك إلا قد صبأت
__________________________________________________
(1) فصلت 13
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:486
و اتبعت محمدا، فغضب و أقسم ألا يكلم محمدا أبدا، و لكني أتيته، و قص عليهم ما قاله له، قال: فقرأ عليّ: بسم اللّه الرحمن الرحيم «حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» حتى بلغ «أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ» فأمسكت على فيه و ناشدته بالرحم و علمت أن محمدا لا يكذب، و خفت أن يأتيكم:
العذاب.
(1/529)
و قال الزبير بن العوام و هو يذاكر الناس بحال رسول اللّه و حالهم بمكة قبل الهجرة: رأيت نفرا من المشركين حول الكعبة و رأسهم يومئذ أبو جهل، و أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هم يتامرون بمناهضته، فقال لهم: قبحتم و قبح ما اجتمعتم له، قال: فخرسوا فما منهم إنسان يكلمه، و لقد رأيت أبا جهل و هو يعدو في إثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يعتذر اليه و يقول: يا محمد أمسك عنا و نمسك عنك، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: لا أمسك عنك حتى تؤمن باللّه أو أقتلك، فقال أبو جهل و أنت تقدر على قتلي، قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: اللّه يقتلك و يقتل هؤلاء معك، فوّلى أبو جهل و أصحابه فما بقي من أولئك أحد إلا قتل. و الصحابة يتذاكرون ذلك و يتعاودونه.
و قصة أخرى كانت لقريش مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بمكة، و قد قدم رجل من أراش بإبل له/ إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، فأقبل الأراشيّ حتى وقف على نادي قريش، فقال: يا معشر قريش، إني غريب و ابن سبيل، و قد غلبني أبو الحكم بن هشام على حقي، فرجل منكم يأخذ حقي منه؟ و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم جالس في ناحية المسجد. فقال أهل المجلس للأراشيّ «1»: ترى ذلك الرجل، يعنون رسول اللّه، إنه نديم أبي الحكم،
__________________________________________________
(1) أراشي نسبة الى قبيلة عربية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:487
(1/530)
إذهب اليه فهو يأخذ لك حقك منه، يهزؤن به لما يعلمون من شدة عداوة أبي جهل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و الأراشي لا يعرفه. فأقبل الأراشيّ حتى وقف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقال: يا عبد اللّه، إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حقي قبله و أنا غريب و ابن سبيل، و قد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي حقي فأشاروا عليّ بك، فخذ لي منه بحقّي رحمك اللّه، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم معه، فلما رآه أهل المجلس قد قام معه قالوا لرجل منهم: اتبعه و انظر ما يصنع.
فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى أبي جهل فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال محمد: اخرج إليّ، فخرج اليه و ما معه روحه و قد امتقع لونه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: اعط هذا الرجل حقه، فقال: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل فخرج اليه بحقه فدفعه اليه، ثم انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال للأراشيّ: الحق بشأنك، فأقبل الأراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال:
جزاه اللّه خيرا، فقد و اللّه أخذ لي حقي، و جاء الرجل الذي بعثوه معه، قالوا له: ما الذي رأيت؟ قال عجبا من العجب، و اللّه ما هو إن ضرب عليه بابه فخرج اليه و ما معه روحه، فأعطاه حقه. ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: مالك، و اللّه ما رأينا مثل ما صنعت، و تحدثوا بأنهم هم أشاروا على الأراشيّ محمد هزآ/ بالأراشي لما سألهم وجيها عندك و نديما يأخذ له حقه، و ما ظنوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يسأله و لا إن سأله في الأراشيّ إلا منعه و حرمه و نال منه و من محمد، فقال لهم أبو جهل: و يحكم و اللّه إن هو إلا أن ضرب على بابي و سمعت صوته فملئت رعبا و خرجت اليه و إن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته و لا أنيابه لفحل قط، و اللّه لو أبيت لأكلني.
(1/531)
و مرة أخرى اجتمع الملأ من قريش في الحجر فتعاقدوا باللات و العزى بالهتهم كلها لو قد رأينا محمد لقد قمنا اليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:488
نقتله، فأقبلت بنته فاطمة عليها السلام تبكي حتى دخلت عليه فقالت: يا أبت إن هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك و لو رأوك لقد قاموا اليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك فقال:
يا بنية أدني وضوآ، فتوضأ ثم دخل المسجد، فلما رأوه قالوا: هاهو ذا، هاهو ذا، و خفضوا أبصارهم و سقطت أذقانهم على صدورهم فلم يرفعوا اليه بصرا و لم يقم اليه منهم رجل، فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حتى قام على رؤوسهم و أخذ قبضة من تراب ثم قال: شاهت الوجوه ثم حصبهم بها فما أصاب رجل منهم من ذلك الحصباء إلا قتل كافرا.
و مرة أخرى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يطوف بالبيت و يده في يد عثمان بن عفان، و في الحجر عقبة بن أبي معيط، و أبو جهل، و أمية فمر بهم رسول اللّه بين أبي بكر و عثمان، فلما حاذاهم أسمعوه ما يكره، و أدخل أصابعه في أصابع عثمان و طافوا جميعا فلما حاذاهم أيضا قال أبو جهل: و اللّه ما نصالحك ما بلّ بحر صوفة، أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا. ثم مضى عنهم/ و صنعوا به في الشوط الثاني كذلك، حتى إذا كان في الشوط الرابع ناهضوه، و قام أبو جهل يريد أن يأخذ مجمع ثوبه، فدفع عثمان في صدره فوقع لقفاه، و دفع أبو بكر أمية بن خلف، و دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عقبة بن أبي معيط، فأفرجوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقال لهم صلّى اللّه عليه و سلم:
أما و اللّه ليحلّنّ بكم عقابه عاجلا، فما منهم رجل إلا رعب و أخذه إفكك، ثم قال لهم و هم في تلك الحال من الرعب:
بئس القوم أنتم لنبيّكم، ثم أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على أبي بكر و عثمان فقال: «أبشرا فإن اللّه مظهر دينه و متمم كلمته و ناصر نبيّه، إن هؤلاء الذين
(1/532)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:489
ترون يجري اللّه ذبحهم بأيديكم عاجلا، فقال عثمان و هو يذاكر الصحابة بهذه القصة: فو اللّه لأجرى اللّه ذبحهم على أيدينا يوم بدر.
و قال بعض العرب: و قد كان مع عدو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في وقعة حنين: إن محمدا لما أخذ كفا من الأرض و رمانا به و قال شاهت الوجوه، وجدنا في قلوبنا الرعب.
و لسنا نقول: إن اللّه كان يمنع منه صلّى اللّه عليه و سلم في كل وقت و يرعب عدوه منه في جميع الحالات، بل قد ضربوه و سحبوه و خنقوه و وضعوا التراب على رأسه و السّلا و الفرث و أخافوه، و لكن بيّنا أن الرعب قد وقع كما قال اللّه و قامت به الحجة و انتقضت به العادة، فليس يقدح في ذلك أن لا يكون في كل وقت، كما أن العادة انتقضت بقتال الملائكة يوم بدر، فليس يقدح في ذلك ألا يكونوا قاتلوا يوم أحد.
و باب آخر [في اخراج يهود بني النضير من المدينة و ما فيه من آيات ]
في الدلالة على نبوته، أن بني النضير من اليهود غدروا به بعد مهادنة كانت بينه و بينهم، فأرسل اليهم بعد أن سار اليهم و نزل عليهم: أنكم غدرتم بي و نقضتم الصلح الذي كان بيني و بينكم، و مع هذا يصعد عمرو بن جحاش ليطرح عليّ صخرة ليقتلني حتى أطلعني اللّه على ذلك،/ فاخرجوا من حواريّ. فأرسل اليهم عبد اللّه بن أبي بن سلول بغير واحد من أصحابه يشجعهم و يقول لهم: لا تخرجوا من دياركم فأنا معكم و من ورائكم، فإن قاتلكم محمد قاتلنا معكم و نصرناكم، و إن أخرجكم خرجنا معكم، فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، فقال عز و جل: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:490
(1/533)
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» «1».
فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم هذه على الناس و أخبرهم بما كان من المنافقين و بما أسرّوه إلى اليهود و نادى بفضحهم، ثم أخرج بني النضير من ديارهم و أجلاهم فلم يخرج معهم عبد اللّه بن أبي بن سلول و أصحابه كما ضمن لهم و قد قاتلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم فما نصروهم.
فتأمل كيف أخبر بما أسرّوا و بما تراسلوا و بما قد كان من كيدهم و محالا يكون إن لو كان كيف كان يكون، ثم كان جميع ذلك كما أخبر و كما فصل، و في هذا غيوب كثيرة لا تكون لاحد من المتخرصين، إلا لنبيّ صادق من اللّه.
و لقد ركب صلّى اللّه عليه و سلم إلى سعد بن عبادة يعوده من مرض أصابه على حمار عليه أكاف فوقه قطيفة فدكيّة مختطمة بحبل من ليف، و أردف أسامة بن زيد ابن حارثة، فمر صلّى اللّه عليه و سلم بعبد اللّه بن أبي بن سلول و هو في ظل مزاحم أطمه و حوله خلق كثير من المشركين و من اليهود و من المنافقين، و كان فيهم من المسلمين عبد اللّه بن رواحة و سعد بن الربيع و خارجة بن زيد بن أبي زهير و بشير بن سعد فتذمم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من أن يتجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم ثم جلس فقرأ القرآن،/ و دعا إلى اللّه عز و جل، و ذكّر به، و حذّر و بشّر و أنذر، و عبد اللّه زامّ لا يتكلم حتى فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من مقالته، فقال
__________________________________________________
(1) الحشر 11- 12
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:491
(1/534)
ابن أبي سلول: يا هذا ما أحسن ما تقول إن كان حقا، فلو أنك جلست في بيتك فمن أتاك حدثته و لم تعرضه على من لا يريده، و شيع بعض اليهود كلامه، فأقبل سعد بن الربيع على اليهودي و قال: مالك و لهذا لا أم لك، كف عن هذا المنطق، فقال ابن أبي سلول: و ما قال؟ يذهب محمد إلى من أخرجه من بلاده و مولده فأما من لم يخرجه فلا يغشاه، و قال زيد بن اللضيب معينا لعبد اللّه: انظر يا محمد إلى الذين جاؤك فأخرجوك من بلادك فاتهم و اترك من لم يدعك. و خاض المسلمون الذين كانوا في المجلس، و ناظروا و وعظوا عبد اللّه مع إكرامهم له و هيبتهم له، إلى أن قال عبد اللّه بن رواحة: بل اغشنا بهذا في منازلنا و رحالنا فإنا نحب ذلك. فاغتاظ ابن أبي بن سلول مما كان و قال في ذلك:
متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل تذل و يعلوك الذين تضارع
و هل ينهض البازي بغير جناحه و إن قص يوما ريشه فهو واقع
ثم قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ركب حتى أتى سعد بن عبادة و ذكر له ما كان من عبد اللّه بن أبي بن سلول فقال له سعد: يا رسول اللّه، و الذي أكرمك بالنبوة لقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه، أنشدكم اللّه أتعلمون ذلك، قال القوم: نعم، فما يرى إلا أنك نزعت شيئا في يديه، قال سعد:
و اللّه ليرى أنك نزعت ملكه، لقد جئت. و إنا لنجمع الخرز لنعقد على رأسه التاج، و أنت أحق من عفا عنه لأنه خالك»
.
فتأمل ما في هذا و انظر كيف يتكلم كل أحد بما عنده غير خائف و لا هائب،/ و انظر إلى عبد اللّه و تلك الجماعة من قومه، و اليهود الذين قد زينوا عداوته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. و قد دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى دينه و احتج عليهم و تلا القرآن، فما أتوا بشي ء يقدح فيما تلاه و احتج به، و لا قالوا هذا كلام
__________________________________________________
(
(1/535)
1) انظر لتفصيل هذه الحادثة سيرة ابن هشام 2: 587، و لحادثة مربع بن قيظى نفس المرجع 2: 523
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:492
يقدر على مثله، و لا أتوا بشي ء أكثر من قولهم له: ما نريد أن تتلوه علينا و لا تدعونا اليه.
و هذا عبد اللّه بن أبيّ عربي فصيح و مفكر داهية و ملك من الملوك و كذلك من معه فصحاء بلغاء و أعداء، لتعلم وضوح هذا الأمر و يأس الأعداء من قدح فيه، و اعرف هذه المجالس و المواطن و المقامات.
و لقد قال له مربع بن قيظيّ من بني حارثة بن الحارث حين اجتاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عليه في حائطه و معه أصحابه عامدا إلى أحد، لا أحل لك يا محمد إن كنت نبيا أن تمر في حائطي، و أخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: و اللّه لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به، فابتدره القوم، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: دعوه فهذا أعمى القلب.
و كم كان القوم يقولون للأنصار جئتم بغريب و غرباء فقراء و عاديتم الأمم و طمعتم في الجنة، جنة لعمري من حرمل، و طمعتم في الحياة بعد الموت، و هيهات لما توعدون. و ترد الأجوبة عن ذلك مما هو في القرآن من أنه إن لم يكن ها هنا إعادة و مجازاة فخلق العباد لهو و لعب كقوله: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ»
«1» و قوله: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ.
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» «2».
أي ليس هذا الأثر/ و هذا الفعل فعل من يجوز أن يكون منه لعب أو لهو أو عبث أو ظلم أو جور. ثم بيّن اقتداره على الاعادة مما هو مذكور في سورة
__________________________________________________
(1) المؤمنون 115
(2) الأنبياء 18
(1/536)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:493
بني إسرائيل، و في سورة يونس، و في سورة الروم، و في سورة الواقعة، إلى أن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: يا عجبا كل العجب للشاكّ في قدرة اللّه و هو يرى خلقه، و يا عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة و هو يرى النشأة الأولى، و يا عجبا كل العجب للمكذب بنشور الموت و هو يموت كل يوم و ليلة و يحيا.
و يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور، و يا عجبا كل العجب للمختال الفخور و إنما خلق من نطفة و هو يعود جيفة و هو بين ذلك لا يدري ما يفعل به، إلى غير ذلك مما كان يذكره صلّى اللّه عليه و سلم و يذكره أصحابه رحمهم اللّه مما أصله في القرآن، و لم تكن العناية تشتد به استغناء بالقرآن و لأنه تنبيه على ما وضعه اللّه في العقول فهو متحل بمن نظر ثم فكر و اعتبر.
و قد كان لعبد اللّه بن أبيّ بن سلول حين أظهر الإسلام مقام يقومه كل جمعة، إذا جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليخطب الناس فيقوم عبد اللّه و يقول: أيها الناس، هذا رسول اللّه بين أظهركم كرمكم اللّه و أعزكم به فانصروه و عزّروه و اسمعوا له و أطيعوا، و يجلس، حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع، و رجع بالناس، قام يوم الجمعة يفعل ما كان يفعل، فأخذ الأنصار بثيابه من نواحيه و قالوا: اجلس أي عدو اللّه، لست لذلك بأهل و قد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس و يقول: و اللّه لكأنما قلت هجرا أن قمت أسدد أمره فوثب علي أصحابي يحذبونني و يعنفونني كأنني قلت/ هجرا، قالوا: ارجع يستغفر لك رسول اللّه، قال: و اللّه ما أبتغي أن يستغفر لي، فاجتمع اليه قومه ممن على رأيه و في نفاقه، و اليهود يتوجعون له و يقعون في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المسلمين، و يدبرون الرأي و يعملون الحيل في شي ء يصنعونه بالأنصار ليصدوهم عن اتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلا يجدون، و هذا من تلك المواطن و موضع الحاجة.
(1/537)
و لما أخذ أولئك المنافقون في التتبع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و التعرف لأخباره،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:494
و التحفظ لما يكون منه مع المسلمين و مع غيرهم، و قد اختلطوا بالمسلمين و أظهروا الإسلام، فينقلون الأخبار إلى إخوانهم و أمثالهم من المنافقين و اليهود، و يحلون معهم. و كان هؤلاء المنافقون أكثر من ستين رجلا، فلما كثر منهم ذلك تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بإخراجهم من المسجد، فقام الأنصار فأخرجوهم و سحبوهم واحدا واحدا، و أذلوهم، و قالوا لهم: يا أعداء اللّه، قد اختلطتم بنا و صليتم معنا، و أصغيتم إلى حديثنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فلا أنتم وجدتم ما تحبون و تتمنون، ثم لا تنتهون و لا تخلصون. و هذا من تلك المواطن التي قد تقدم نظائرها و أنها لا تكون من تدبير البشر، فانظر إلى هذه المكاشفة، فلو وجدوا عثرة أو زلة أو ما يشبه ذلك لذكروه و احتجوا به، فهذا موضع الحاجة إلى ذكره، و هؤلاء المنافقون الذين سحبوا و أخرجوا من المسجد أسماؤهم معروفة و كذلك أنسابهم واحدا واحدا.
و في هذا تكذيب لمن زعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يداهن أصحابه و اتباعه و يظهر تزكيتهم و مدحهم و تعظيمهم/ و إجلالهم و لا ينطوي على ذلك و لا ينويه و لا يضمره، و هذا يقوله من زعم أنه من المسلمين، و إنما وضع هذا من أراد الطعن في الإسلام و تحيير المسلمين و تشكيكهم و إخراجهم من الإسلام من حيث لا يشعرون.
ثم انظر إلى اليهود: منهم من بني قينقاع، مثل زيد بن الصليت، و سعد ابن حنيف، و سويد بن الحارث، و رفاعة بن قيس، و عزيز بن أبي عزيز، و غيرهم من رؤساء بني قينقاع إلى بني النضير و رؤسائهم، كحييّ بن أخطب، و أخيه أبي ياسر، و جدي بن أخطب، و سلام بن مشكم، و كنانة بن أبي الحقيق، و سلّام بن أبي الحقيق، و أمثالهم من رؤساء بني النضير. و إلى بني
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:495
(1/538)
قريظة و من رؤسائهم، كعب بن أسد و هو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب، و الزبير بن باطا بن وهب، و اعزال بن شماويل، و قزوم بن كعب، و نافع بن أبي نافع، و وهب بن يهوذا، و أسامة بن حبيب، و غيرهم من رؤساء بني قريظة. فهؤلاء كانوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بالمدينة و حول المدينة و إلى من يحبذون «1» رؤساءهم، فقد كانوا حين سمعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو بمكّة و ما ادّعاه من النبوة ثقل ذلك عليهم سيّما على أحبارهم و رؤسائهم، فجردوا في عداوته و ظاهروا قريشا و العرب عليه و نهوهم عن أتباعه و تصديقه.
و كانت قريش تشكوهم إليهم، و كان من يجتاز من أهل مكة في متجرهم إلى الشام يذكرون لهم ذلك، و في قريش من يقصدهم لهذا، كالنضر بن الحارث و أمثاله يطلبون منهم ما يكون فيه تكذيب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ما ينفر الناس عنه و عن القبول منه مما يجدونه في كتبهم، و يأثرونه عن أنبيائهم و رؤسائهم/، فيقولون لهم: سلوه عن يوسف و ما كان من أمره و إلى أي شي ء انتهى، فينزل القرآن بذلك، فإذا أخبروهم قالوا لهم: سلوه عن أصحاب الكهف من هم و كم عدتهم، فينزل القرآن بذلك، فإذا أخبروهم قالوا لهم: فاسألوه عن رجل مؤمن سار من مغرب الشمس إلى مشرقها، فينزل القرآن في ذي القرنين، إلى غير ذلك. فلما نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لمدينة و جاورهم و صار معهم، كانت عداوتهم أشد، و شغلهم به صلّى اللّه عليه و سلم و بالمسلمين و الدخول بينه و بين الأوس و الخزرج و النهي عن اتّباعه. و كانوا معدن الشر و الشبه و الفتح على العرب أبواب الضلالة، و فيهم شجاعة و ثروة، و كان كيدهم أحدّ من
__________________________________________________
(1) في الأصل، يحبذو
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:496
(1/539)
سيوفهم و أنفذ من رماحهم. و قد رحل بنو النضير حين أجلاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى قريش و بعثوهم على حربه و قصده، و كان من بني قينقاع و قريظة و خيبر ما هو مذكور و شرحه يطول.
فانظر هل ظفروا مع طول هذا الطلب و الحرص بزلة أو هفوة أو عثرة أو ما يشبه ذلك. و قد كان منهم باليمن و بعدن و بوادى القرى خلق كثير يمدون هؤلاء الذين بالمدينة و يصنعون صنيعهم في إلقاء الشبه للعرب، فتأمل هذا فكم فيه من نور و هدى.
و لقد كان هؤلاء و جميع أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتراجعون أمره فيما بينهم، فإذا هم لا يجدون مطعنا و لا مغمزا. كالذي كان من بني قريظة قبل النكث و نقض عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، حين قال عمرو بن سعد للزبير بن باطا: «1» أطيعوني و تعالوا نتبع محمدا، فو اللّه انكم لتعلمون أنه نبيّ قد بشّر به علماؤنا، منهم. ابن الهيبار، و أبو عمير بن حواش ممن قدم الينا من علماء بيت المقدس يتوكفان قدومه «2»، و أمرانا باتباعه و أن نقرئه/ منهما السلام، ثم ماتا على دينه و دفناهما بجزيرتنا هذه. فأمسك القوم فلم يتكلم منهم أحد. فأعادوا الكلام، فقال الزبير: قد قرأت صفته في كتاب باطا التي أنزلت على موسى.
و ذكروا صلاح بن الهيبار، و أنه حين حضرته الوفاة قال: ما الذي ترون؟
أخرجوني من أرض الخمر و الخمير إلى أرض البؤس و الجوع، فقالوا: أنت أعلم، قال: أتوكف خروج نبيّ قد أظلكم زمانه، هذه البلدة مهاجره،
__________________________________________________
(1) هو الزبير بن باطا بن وهب، يهودي عدو للإسلام، انظر سيرة ابن هشام 2: 515
(2) جاء في لسان العرب مادة و كف: توكف الأثر تتبعه، و التوكف التوقع و الانتظار، و في حديث ابن عمير: أهل القبور يتوكفون الأخبار، أي ينتظرونها و يسألون عنها. يقال: هو يتوكف الخبر، أي يتوقعه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:497
(1/540)
فكنت أرجو أن أدركه فأتبعه، فإن سمعتم به فلا تسبقوا اليه فإنه يسفك الدماء و يسبي الذراري، فلا يمنعكم هذا منه، فقال له كعب بن أسد: فما يمنعك من اتباعه، قال: أنت، قال: كعب: و لم؟ ما حلت بينك و بينه، قال: أنت صاحب عقدنا و عهدنا، فإن اتبعته اتبعنا و إن أبيت أبينا. فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فقال: أما و التوراة إنه للعزّ و الشرف، و إنه لعلى منهاج موسى و ننال معه شرف الدنيا و ننزل معه و مع أمته غدا في الجنة. قال كعب: نقيم على عهدنا و لا يخفر محمد لنا ذمة، و ننتظر ما يصنع حييّ بن أخطب، فقد أخرج إخراج ذل و صغار و لا أراه يقر حتى يغزو محمدا، فإن ظفر فهو ما أردنا أقمنا على ديننا، و إن ظفر بحييّ فما في العيش خير. و تحولنا من جواره. قال عمرو: و لم نؤخر الأمر و هو مقبل، قال كعب: ما على هذا فوت، متى أردت هذا من محمد أجابني. قال عمرو: بلى إن عليه لفوتا إذا سار الينا و تحصّنّا في حصوننا هذه التي هي قد خدعتنا فلا نفارق حصوننا حتى ننزل على حكمه فيضرب أعناقنا. قال كعب:
ما عندي في أمره إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصير تابعا بقول هذا الاسرائيلي لا يعرف لي فضل البتة و لا قدر النعال، قال عمرو بن سعدى: بلى،/ لنعرفن ذلك لك، و طال ما بينهم، و نزل قوم منهم و لحقوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أسلموا.
(1/541)
فانظر إلى طول البحث و المراجعة بينهم، و إلى أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من رؤسائهم و أحبارهم و هم يصدون عن اتباعه بجهدهم، هل يقول قائل منهم هذا الذي من غدراته و نكثه كذا و كذا، و كذبه يوم كذا، و هذا موضع الحاجة اليه و إلى ذكره، أو أن موسى قد وصّى بأن شريعته لا تنسخ، و أن السبت لا يعطل مما يدعيه اليهود، و المناظرة و المراجعة تذكر بالأمور المتقادمة و تخرج الأسرار، فتعلم أنه لم يكن لجميع أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيه مطعن و لا مغمز بوجه من الوجوه، و كم لليهود معه صلّى اللّه عليه و سلم من مشهد و موقف بهم الحاجة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:498
إلى ما قد ذكرنا و بيّنّا.
و قد علمت مقامه بمكة و قد تفرغوا له و جعلوا شغلهم كله في طلب عثراته و في الصد عنه، و فيهم مثل أبي لهب، و أبي جهل، و أخيه العاص، و العاص ابن سعيد، و الحكم بن أبي العاص، و عديّ بن الحمراء، و ابن الأصد الهذلي، و عقبة بن أبي معيط، و الأسود بن عبد يغوث، و ابن العيطلة و هو الحارث ابن قيس بن عديّ السهمي، و الوليد و أبي و أمية ابنا خلف، و أبي قيس بن الفاكه و العاص بن وائل، و النضر بن الحارث، و منبه بن الحجاج، و زهير بن أبي أمية، و السائب بن صيفي، و الأسود بن عبد الأشد، هؤلاء جيرانه، و كانت عداوة أبي سفيان صخر بن حرب، و عتبة و شيبة بن ربيعة و سهيل بن عمرو، مسلمة، و الحارث ابني هشام، و أمثالهم، تصغر في جنب عداوة هؤلاء و هو معهم و أسير في أيديهم بمكة، يضربونه، و يخنقونه، و يطرحون/ التراب الفرث على رأسه، و يطرحون الجيف ببابه، فيقول: يا بني عبد مناف، أي و جوار هذا.
و كان الموسم إذا جاء يخرج إلى الموسم فينذر و يدعو إلى اللّه تعالى و يقول:
(1/542)
أيها الناس، إن الذي أنتم عليه ليس للّه و لا من اللّه، هلموا إلى عبادة اللّه وحده، و يتلو القرآن فيتبعوه و يضربوه، و يرمي عمه أبو لهب أعقابه حتى يدميها، و يتفرقون في الشعاب و على الطرق إذا جاء الموسم، و يلقون الناس ليصدوهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؛ فيقتسمون الطرق على عقاب مكة، فيقول لهم الوليد بن المغيرة: تفرقوا حيث يمر بكم أهل الموسم، فإذا سألوكم عنه فليقل بعضكم: كاهن، و بعضكم ساحر، و بعضكم شاعر، و بعضكم غاو يفرق بين الأب و ابنه و بين الأخ و أخيه، فإذا انتهوا إليّ صدّقتكم. و هؤلاء
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:499
الذين كانوا يفعلون هذا: حنظلة، و أبو سفيان، و عتبة، شيبة، و ابو جهل و العاص بن هاشم، و أبو قيس بن الوليد، و قيس بن الفاكه، و زهير بن أبي أميّة، و هلال، و السائب، و النضر بن الحارث، و أبو البختري بن هشام، و منبّه بن الحجاج، و أمية، و أوس بن المغيرة مولى وهب بن حذافة، و زمعة ابن الأسود.
و كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ممن أسلم بمكة يخرجون فيتفرقون مع هؤلاء المقتسمين، فإذا ذكروا ما عندهم في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لهم المسلمون: كذب هؤلاء، بل محمد رسول اللّه صادق يدعو إلى عبادة اللّه وحده، و إلى صلة الرحم، و رحمة اليتيم، و إلى كذا؛ و يتلون القرآن و أولئك يمنعونهم و يضربونهم في الموسم الذي يأمن فيه الناس فلا يأمن فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لا أصحابه و هم يدعون إلى اللّه و يقولون هذا مع كونهم مقهورين مغلوبين و قليلا و ضعفاء/ يخافون أن يتخطفهم الناس.
(1/543)
فتأمل هل قدرت قريش أو أهل مكة أن يقولوا فيه صلّى اللّه عليه و سلم أنه غدر أو كذب أو احتال أو أتى بفاحشة أو شيئا مما يدعيه أعداؤه و ملحدة زمانك، مع طول تلك السنين التي كان مقيما فيها بمكة منذ ادعى النبوة و هي خمس عشرة سنة، فما زادوا في الطعن فيه على التكذّب عليه. و كان أهل الموسم إذا سمعوا قول أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول بعضهم لبعض: قول هؤلاء أحسن و خير.
فتأمل رحمك اللّه الأمور، و أطل الفكر و التأمل و أصرّ على ذلك، لتعلم حقائق الأمور، فقد بليت في زمانك بمن يقول في الصحابة المكيين و المهاجرين و الذين بنوا الإسلام و شيدوه أنهم ما اعتقدوا الإسلام قط و لا اتبعوا رسول صلّى اللّه عليه و سلم لبصيرة و لا لحجة و لا اعتقدوا نبوته و لا أضمروا محبته و تعظيمه و ما اعتقدوا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:500
إلا تكذيبه و لا أضمروا إلا سقوطه و احتياله.
(1/544)
و هؤلاء قوم اتبعوه و هو وحيد فقير ذليل خائف مقهور مغلوب و أهل الارض يد واحدة في عداوته و عداوة أتباعه، فخرجوا باتباعه من الأمن إلى الخوف، و من الغنى إلى الفقر، و من العزّ إلى الذل و من الكرامة إلى الهوان و من الراحة إلى النصب، و من الأوطان إلى الغربة. و زعم ملحدة زمانك أنهم فعلوا نفاقا و أنهم كانوا منافقين فمن ينكر بعد هذا أعجوبة، أو ينفي عن الناس حماقة أو يحسن يأخذ ظنّا، و هل هذا إلا كقائل قال: إن محمدا نبيّ المسلمين كان ينافق قريشا و العرب تدافعهم و إن كان قد خرج معهم إلى تلك الأمور، و أنّ السحرة قد نافقوا فرعون و داهنوه في اتباعهم موسى/ و انصرافهم عنه و مكاشفتهم له حين قال لهم: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» «1» و «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى . قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى » «2»
و الأعجب من هذا، أنه صلّى اللّه عليه و سلم قد أوجب على العباد موالاة هؤلاء المهاجرين السابقين و فرض محبتهم و تعظيمهم و إجلالهم، و حرّم سوء الظن بهم إلا أن يظهر منهم كبيرة، كما أوجب معاداة اليهود و النصارى و المجوس و أمثالهم و من سلك سبيلهم و فرض بغضهم إلا أن يظهر منهم الإيمان.
هذا معلوم من دينه صلّى اللّه عليه و سلم و دعوته غير ما قد ضمنه اللّه كتابه من مدح
__________________________________________________
(1) طه 71
(2) طه 71- 72
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:501
(1/545)
المهاجرين و الأنصار و ملأ القرآن به، و هذا كله خلاف ما يدعيه هؤلاء الذين غرّهم من لقنهم هذا، فإنه كاد بهذا الصنيع للإسلام و المسلمين من حيث لا يشعرون. و إنما أردنا ذكر حال أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من أهل جيرته و بلده و أهل بيته من طبقات قريش مع الدهاء، و أنهم قد توكلوا لجميع أعدائه و كفوهم و زادوهم على الكفاية، فما وجدوا شيئا يكون لهم حجة أو شبه الحجة في إبطال أمره، فبطل كيدهم مع طول العناء و بار مكرهم كما قال اللّه:
«وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» «1».
و قد خرج صلّى اللّه عليه و سلم إلى الطائف و دعا إلى اللّه و قال: أجيروني حتى أبلغ رسالة ربي و دعوا ما أنتم/ عليه فإن اللّه يسخط، و عاب دياناتهم و ما كان عليه آباؤهم، و ذم قريشا بما تأتيه من تكذيبه، فما كان عندهم في ردّه شي ء إلا أن قالوا له: كيف اختارك اللّه من بين أهل مكة و من بين الناس كلهم و هناك من الحكماء و العقلاء كفلان و فلان، و في أهل الطائف فلان و فلان، و إذا كان اللّه قد اصطفاك فكيف أحوجك إلى نصرة الناس، إلى غير ذلك مما لقوه به من الجفاء و قد غاظهم و أغضبهم ما ذكره من قبح أديانهم و تضليل آبائهم.
فانظر هل يرجعون في تكذيبه إلى حجة أو ما يشبه الحجة، و هل يجدون مطعنا أو مغمزا مع حاجتهم إلى ذكر ذلك في هذه المواضع.
و من هذا الجنس، لما أمر اللّه عز و جل رسوله بعرض نفسه على القبائل و هو أمر معروف، و قد ذكره الناس و تحدثوا به، و ممن كان يتحدث به عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: لما أمر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه و سلم بعرض نفسه على القبائل، خرج و أنا معه و أبو بكر الصديق حتى دفعنا إلى مجلس «2» من مجالس العرب
__________________________________________________
(1) فاطر 10
(2) في الأصل مجالس، و لعل الصواب ما أثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:502
(1/546)
فتقدم أبو بكر فسلم، قال علي: و كان أبو بكر مقدّما في كل خير، و كان رجلا نسّابة، فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة، قال: و من أي ربيعة؟
ثم ذكر عليّ رضي اللّه عنه ما كان بينهم و بين أبي بكر قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة و الوقار، فتقدم أبو بكر فسلم و قال: ممن القوم؟
قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقال: بأبي أنت و أمي، هؤلاء غرر قومهم، و فيهم مفروق بن عمرو و قد غلبهم خصالا و لسانا، و كانت له عذبتان تسقطان على تربيته «1»، و كان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر، فقال له أبو بكر: كيف/ العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على ألف و لن تغلب ألف عن قلة، فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق علينا الجهل و لكل قوم جلّ؟ قال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم و بين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين «2» نلقى، و إنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب، و إنا لنؤثر الجياد على الأولاد، و السلام على اللقاح، و النصر من عند اللّه: يديل علينا مرة، و يديل لنا مرة. لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: و قد بلغكم أنه رسول اللّه، و هاهو ذا. فقال مفروق:
قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلى ما يدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قام أبو بكر يظلّه بثوب. فقال عليه السلام: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أني رسول اللّه، و أن تؤوني و تنصروني. فإن قريشا قد ظاهرت على أمر اللّه و كذبت رسوله و استغنت بالباطل عن الحق، و اللّه هو الغني الحميد، قال مفروق: و إلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً،
__________________________________________________
(
(1/547)
1) لعل هنا سقطا تقديره: موضع، فتكون العبارة: موضع تربيته.
(2) في الأصل: لحين
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:503
وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ، وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ، وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «1»
قال مفروق: و إلى ما تدعو يا أخا قريش فو اللّه ما هذا من كلام أهل الأرض، و لو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» «2» فقال مفروق:
دعوت و اللّه يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و لقد أفك قوم كذبوك و ظاهروا عليك، و كأنه/ أحب أن يشركه في الكلام هانى ء بن قبيصة، فقال مفروق: هذا هانى ء بن قبيصة شيخنا و صاحب ديننا، فقال هانى ء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، و إني أرى إن تركنا ديننا و اتبعناك على دينك لمجلس جلسته الينا ليس له أول و لا آخر، هذا زلة في الرأي و قلة نظر في العاقبة. و إنما تكون الزلة مع العجلة. و من ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، و لكن ترجع و نرجع، و تنظر و ننظر، و كأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال:
و هذا المثنى بن حارثة شيخنا و صاحب حزبنا، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، و الجواب فهو جواب هانى ء بن قبيصة في تركنا ديننا و اتباعك على دينك لمجلس جلسته الينا ليس له أول و لا آخر، و إنما نزلنا بين ضربتين، التامة و الشامة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما هاتان الضربتان فقال: أنهار
__________________________________________________
(1) الانعام 151
(2) النحل 90
(1/548)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:504
كسرى و مياه العرب، نزلنا بينهما على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا و لا نؤوي محدثا، و إنّا نرى يا قرشيّ أن هذا الأمر الذي تدعو أنت اليه مما يكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك و ننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: ما أسأتم في الردّ إذ أفصحتم بالحق، و إن دين اللّه لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم لو لم يلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم اللّه أرضهم و ديارهم و أموالهم و يفرشكم نساءهم أتسبحون اللّه و تقدسونه؟
فقال النعمان بن شريك: اللهم لك. فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و هو آخذ بيد أبي بكر و يقول: يا أبا بكر أية أحلام في الجاهلية- أو أية أخلاق شكّ الراوي الراوي أيهما قال- ما أشرفها، بها يدفع اللّه بأس بعضهم ببعض و بها يتحاجزون فيما بينهم. قال علي رضي اللّه عنه/: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس و الخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و كانوا صدقاء صبراء و أنفذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم معهم بعد أن تردد اليه منهم قوم بعد قوم يسلمون و ينصرفون: مصعب بن عمير رضي اللّه عنه لتلاوة القرآن و التفقيه في الدين، و كانت الأوس و الخزرج قبائل كثيرة و عددا جما فأسلموا طوعا بهذا الشرط و غلب عليهم الإسلام. و لغلبة الاسلام على هذه القبائل و لاستبصار أهلها ما كان في الأوس و الخزرج منافقون لما رأوا قومهم و قد عمهم الإسلام و كانوا كثيرا و المنافقون قليل فأحبوا أن يحقنوا دمائهم و أن يشاركوا قومهم في العز فأظهروا الإسلام و إن كانوا لا يعتقدونه.
ثم انظر إلى صنيع قريش فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فقد كان صار بها نحو المائة من كبار المهاجرين، و استجاروا بالنجاشي ملك الحبشة فأجارهم و قبلهم، فعبدوا اللّه آمنين مطمئنين و استراحوا من المكاره التي كانت تجرى
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:505
(1/549)
عليهم من قريش فقد كانت عظيمة، فلما بلغ قريشا أمرهم قلقوا لذلك و قاموا و قعدوا، ثم ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فيهم رجلين منهم، و أن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، و كان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ثم لم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد اللّه بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، و عمرو ابن العاص بن وائل السهمي، و قالوا لهما: إدفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن أن تكلموا النجاشي، ثم قدّموا للنجاشي هداياه ثم سلوه بأن يسلمهم اليكم قبل أن يكلمهم. فخرجا فقدما على النجاشي فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا اليه هديته قبل أن يكلما الملك ثم قالا لكل بطريق منهم أنه قد ضوى إلى بلد الملك منا/ غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينكم، و جاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا أنتم، و قد بعثنا فيهم إلى الملك أشراف قومهم ليردّهم اليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم الينا و لا يكلمهم فإن قومهم أعلا بهم عينا و أعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قرّبا هداياهما إلى الملك فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا ديننا و لم يدخلوا في دينك «1»، و جاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا أنت، و قد بعثنا اليك أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردهم اليهم، فهم أعلم بما عابوا عليهم و ما عابوهم فيه. و لم يكن شي ء أبغض إلى عبد اللّه و عمرو و سائر قريش من أن يسمع النجاشي كلام المسلمين، فقال بطارقته و هم حوله صدقاء: أيها الملك، قومهم أعلا بهم عينا فسلمهم إليهما ليرداهم إلى بلادهم و قومهم. فقال النجاشي:
__________________________________________________
(1) ضوى: لجأ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:506
(1/550)
لا أسلمهم إليهما و لا أكاد قوم «1» جاوروني و نزلوا بلادي و اختاروني على من سواي حتى أدعوهم و أسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان سلمتهم اليهما، و إن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما و أحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل اليهم فدعاهم اليه. ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا أجبتموه؟ فقالوا: نقول و اللّه ما علمنا و أمرنا به نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلم كائن في ذلك ما هو كائن. و كان عمرو بن العاص صديق النجاشي قديم المعرفة به و المهاداة له، و كان يرفعه في مجلسه و يكرمه الكرامة الكبيرة. فدخلوا عليه، و عمرو بن العاص عن يمينه؛ فلما بصر بهم من حول الملك قالوا لهم:
اسجدوا للملك، و كان الصحابة قد جعلوا أمرهم إلى جعفر بن أبي طالب ليكلم الملك عنهم. فقال جعفر: لا نسجد إلا للّه وحده، فزبرهم من حول الملك فما سجدوا «2» فقال لهم الملك: ما هذا الدين الذي فارقتم/ فيه قومكم و لم تدخلوا في ديني و لا دين أحد من هذه الملل، فقال له جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسبي الجواري، و يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا إلى اللّه لنوحده و نعبده و نخلع ما كنا نعبد و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة و صلة الرحم و حسن الجوار و الكفّ عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش و قول الزور و أكل مال اليتيم و قذف المحصنة، و أمرنا أن نعبد اللّه و لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام؛ فعدد عليه جعفر أمور الإسلام. ثم قال
__________________________________________________
(1) أكاد، من الكيد، و قوم على هذا الأساس منصوبة لأنها مفعول به
(2) زبره: نهره و غلظ له بالقول اللسان، مادة زبر
(1/551)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:507
له: فصدقناه و آمنا به و اتبعناه على ما جاء به، فعبدنا اللّه فلم نشرك به شيئا، و حرمنا ما حرم علينا و أحللنا ما أحلّ علينا. فعدا علينا قومنا فعدبونا و فتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللّه، و أن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا و ظلمونا و ضيقوا علينا و حالوا بيننا و بين ديننا خرجنا إلى بلدك، و اخترناك على من سواك، و رغبنا في جوارك، و رجونا أن لا نظلم عندك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاءك به عن اللّه من شي ء؟ فقال جعفر:
نعم، فقال النجاشي: فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدرا من «كهيعص» فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته و بكى أساقفته حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: هذا من عند اللّه انطلقوا فو اللّه لا سلمتكم إليهما. فورد على عمرو و البطارقة الذين أعانوه و هاداهم ما كرهوا، و غلظ عليهم. فلما خرجوا من عنده قال عمرو: و اللّه لأبيّتنه غدا/ بما أستأصل به خضراءهم، و اللّه لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد اللّه. ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل اليهم و اسألهم عما يقولون فيه. و بلغ ذلك المسلمين و لم ينزل بهم مثلها. فاجتمع المسلمون، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه، فقالوا:
نقول و اللّه فيه ما قال اللّه و ما جاء به نبيّنا عليه السلام كائن في ذلك ما هو كائن فقال: فأرسل اليهم النجاشي، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد اللّه و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول الحصينة. و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أرسل عمرو بن أميّة الضمري بكتابه إلى النجاشيّ يدعوه إلى الإسلام و يقول له: عندك أصحابي فأجرهم و قرّبهم و لا تتجبّر عليهم، و أرسل إلى المسلمين
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:508
(1/552)
بما أنزله اللّه عليه: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» فلما سمع النجاشيّ ذلك ضرب يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود، فتأخرت بطارقته حوله حين قال ذلك فقال لهم: و إن نخرتم، ثم أقبل على المسلمين فقال: اذهبوا فأنتم سّيّوم بأرضي ما أحب أني آذيت رجلا منكم بجبل ذهب. ردوا على هذين هداياهما فلا حاجة لي بها، فو اللّه ما أخذ اللّه مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فاخذ الرشوة فيه، و ما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، فنال بطارقتهم من هذا ما غمّهم و ساءهم، و خرج عمرو و صاحبه من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاآ به، و أقام المسلمون عنده بخير دار عند خير جار. ثم أقبل عليهم و بسطهم و رفع منهم و لم يزل يسمع، و أسلم، و أجاب/ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن كتابه بأني قد أسلمت، و ترددت رسله و كتبه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم مع هداياه، و أنفذ ابنه إلى النبي عليه السلام فغرق في البحر قبل أن يصل اليه، و كان من أمر النجاشي ما هو من المعلوم من إسلامه.
و الذي أردنا من هذا أن مثل عمرو بن العاص قد تباهى في سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و التنفير عنه و الصد عنه عند النجاشي.
فانظر هل أمكنه أن يذكر في ذلك حجة أو ما يشبه الحجة، أو غدرة، أو زلة. و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم هاجر و كان له مع قريش و اليهود و النصارى تلك الوقائع و المشاهد و قد شهدها عمرو و بلغه ما لم يشهده، فانظر هل كان عنده في ذلك شي ء ينفر به عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أو يحتج به على المسلمين و قد استفرغ.
و منام عمرو فوق يقظة هؤلاء السفلة من زنادقة زمانك كالحداد و الوراق و ابن الراونديّ و الكندي و الباطنية و طبقات القرامطة. و كم مثل عمرو من قريش
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:509
(1/553)
سبيلهم سبيله في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و المسلمين، و كم له مع النجاشي من المراجعات في أمر عمرو بن أمية الضمري ليمكنه منه ليقتله فما مكنه، ثم عاد بعد ذلك إلى النجاشيّ بمدة طويلة و سفرة بعد سفرة، فوعظه النجاشي و دعاه إلى الإسلام و رغبه في الهجرة، و قد كان أخوه هشام بن العاص أفضل منه و أجل قدرا فأسلم و هاجر و جاهد في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بعد موته و استشهد رحمة اللّه عليه.
فانظر إلى تدبير قريش في مهاداة البطارقة ليكونوا معهم على المسلمين و ليصرفوا النجاشي عن المسلمين، فإن هذا تدبير العقلاء و الدهاة و المنكرين، و لا يمكن العاقل الكامل المتأني أن يفعل أكثر من هذا ليعرف عقول قريش و خصوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من العرب على غيرهم، ثم ما أغنى عنهم فيما راموه من/ الطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.
و انظر كيف لما ذكره المسلمون بأنا نعرف أمانته و صدقه و عفافه إلى غير ذلك هل تهيأ لعمرو أو لغيره من أعدائه أن يقدح فيه أو ينكره، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابنهم و هم ولدوه و هم ربّوه و معهم نشأ و معهم أقام و سافر.
و باب آخر [كيف أن معجزات الرسول يغني بعضها عن بعض و ليس كذلك الأمور التي يسلم فرضها و يشمل وجوبها]
أن معجزاته صلّى اللّه عليه و سلم و الآيات التي نقضت العادات يغني بعضها عن بعض و يسد بعضها مسد بعض. فإن من استدل ببلاغة القرآن و فصاحته على نبوة النبيّ عليه السلام عرف صدقه و إن لم يعلم ما في القرآن من الاخبار بالغيوب، و من لم يستدل بالفصاحة و استدل بما فيه من التنبيه على ما في العقول يحصل عالما بنبوته و إن لم يستدل بالفصاحة و لا بالإخبار عن الغيوب، و ليس كذلك النصوص على
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:510
(1/554)
الأمور التي يعم فرضها و يشمل وجوبها، فإن بعضها لا ينوب عن بعض و لا يغني بعضها عن بعض، و لا بد من أن يحصل العلم بكل واحد منها و يكون مجي ء جميعها مجيئا واحدا. بيّن لك ذلك أن النص على القبلة لا يغني عن النصّ عن شهر رمضان، و النص على الجمعة لا يغني عن النص على غسل الجنابة، و كذا في الخمر، و الخنزير، و الزنا، و اللواط، و الأمهات، و الأخوات، و البنات، و جميع الفروض العامة الوجوب، فاعرف ذلك.
و إنما ذكرنا هذا لأن قوما من الإمامية و الرافضة ادّعوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نصّ على إمامة رجل بعينه، و أوجب على جميع الخلق من الذكور و الإناث و العبيد و الأحرار و المسافرين و المقيمين و المرضى و الأصحاء طاعته و اعتقاد ولايته و موالاته.
فقيل لهم: لو كان الأمر كما يدعونه لجاء العلم بذلك مجي ء أمثاله من الفروض العامة الواجبة، لأن قوله صلّى اللّه عليه و سلم: هذا إمامكم/ و هذا حجة اللّه عليكم بعدي يجري في شمول وجوبه مجرى نصّه على نبوته، و قوله: أنا رسول اللّه اليكم فهذا أعم في الفرض من القبلة و شهر رمضان، فإذا علمنا نصّه على القبلة و شهر رمضان فقد كان ينبغي أن يكون العلم بما يدعون أقوى.
قالوا: فاجعلوا ما يدّعيه من النص كالمعجزات التي هي غير القرآن. قيل له: إن إخراجكم هذا النص عن نظائره و أمثاله من النصوص من أدل الدليل على ضعف يقينكم فيه و يأسكم من صحته، و كفى بهذا بيانا منافيا في بطلان ما يدّعونه.
و أيضا، فقد علم كل من سمع الأخبار أنه صلّى اللّه عليه و سلم قد ادّعى النبوة و ادّعى أن معه آيات و معجزات و دلالات لا يرتاب بذلك من صدّقه و لا من كذّبه،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:511
فوازن ذلك و نظيره أن يعلم كلّ من سمع الأخبار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد نص النصّ الذي تدّعونه، و هذا فليس بمعكم و لا لكم، فقد صار ما صرتم اليه من أمر هذه المعجزات عليكم لا لكم.
(1/555)
و أيضا، فإن هذه المعجزات التي مع النبيّ فيها ما يعلم كل من سمع الأخبار أنه عليه السلام قد ادّعى أنها حجة له في نبوته، و منها ما اجتمعت الأمة عليه، و ما تدّعونه فلا يعلم باضطرار و لا فيه إجماع، فهذا كما ترون في بعده مما تدعون.
و جواب آخر، أنه ينبغي أن تعلم أن كثيرا من المعجزات التي ليست في القرآن يعلمها كثير من الناس كعلمهم بالقرآن، و هذا تجده فيمن كثر سماعه و اشتدت عنايته بمبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بمقامه بمكة و بهجرته إلى المدينة و بسيرته و بمكاتباته و بمراسلاته و بغزواته، و لهذا تجد أبا الهذيل، و عمرو بن بحر الجاحظ و محمد بن شبيب، و أمثالهم من القدماء يدّعون في كتبهم التي صنفوها في النبوة في المعجزات التي ليست في القرآن العلم الضروري، و كذا أبو عمر/ الباهلي، و قد ذكر أبو هاشم في نقض الفريد نحو هذا، فادّعى في استسقاء النبي و في إخباره عن المقتولين في غزاة مؤتة و فيما كان بين النبي صلّى اللّه عليه و سلم و أهل مكة من المراجعة في غلبة الروم على فارس علم الاضطرار، فاعرف ذلك، و لتشتد عنايتك بهذه الأمور لتساويهم في العلم بذلك.
و باب آخر [كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى ملك الروم و ملك فارس، و ما فيها من دلالات ]
كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى ملك الروم كما كتب إلى كسرى ملك فارس.
و كان كتابه إلى ملك الروم مع دحية بن خليفة الكلبي؛ و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:512
قد أمر دحية إلى أن يدفع كتابه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ملك الروم.
فلما قرى ء على قيصر فيما يدعوه إلى اللّه و عبادته وحده، و أن لا يضن بملكه، و أن لا يتحمل آثام الروم مع إثمه.
و كان ملك الروم بالشام بحمص و دمشق يشتو في بلد و يصيّف في بلد، فطال فكره في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و في كتابه، و وجد قلبه يخشع، فقال لأصحابه:
(1/556)
التمسوا لي هل هاهنا من قوم هذا العربي الذي يزعم أنه نبيّ من أحد لنسأله عنه؟ فوجدوا بالشام رجالا من قريش قدموا تجارا في الهدنة التي كانت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بين كفار قريش و فيهم أبو سفيان صخر بن حرب، فأشخصوا اليه و قد صار إلى بيت المقدس. فأدخلوا عليه و هو جالس في مجلس ملكه، و عليه التاج، و حوله عظاماء الروم. فقال لترجمانه أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم اليه، فقال ملك الروم: ما قرابة ما بينك و بينه؟ قال أبو سفيان: هو ابن عمي، و ما كان في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غير أبي سفيان؛ فقال ملك الروم له: ادن مني، ثم أمر أصحابه من قريش فجعلوا خلف ظهره عند كتفه، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائل هذا الرجل/ عن هذا الذي يزعم أنه نبيّ فإن كذب فكذبوه، فقالوا: نعم.
ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، فقال ملك الروم: فهل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ قال: لا، قال ملك الروم: فهل كان في آبائه من ملك؟ قال أبو سفيان: لا، قال ملك الروم: أفأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:513
أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال ملك الروم: أفيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون، قال ملك الروم: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا، قال ملك الروم: فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا، و نحن الآن منه في هدنة و نحن نخاف أن يغدر. قال ملك الروم:
فهل قاتلتموه و قاتلكم؟ قال أبو سفيان نعم. قال ملك الروم: فكيف كانت حربكم و حربه؟ قال أبو سفيان: كانت دولا سجالا، يدال علينا مرة و يدال عليه الآخرى، قال: بما يأمركم به؟ قال أبو سفيان:
(1/557)
يأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئا، و ينهانا عن كل ما يعبد آباؤنا، و يأمرنا بالصلاة و الزكاة و الصدق و العفاف و الوفاء بالعهد و أداء الأمانة. قال: و أولئك الملأ من قريش يسمعون قول أبي سفيان، فصدقوه، فقال ملك الروم لترجمانه: قل له: إني سألت عن نسبه فيكم فزعمتم أنه فيكم ذو نسب، و كذلك الرسل تبعث في نسب قومها. و سألتك هل قال هذا القول أحد فيكم قبله فزعمت أن لا، فقلت لو كان قال هذا القول منكم أحد قبله لقلت رجل يأتم بقول قيل قبله، و سألتك هل كنتم تتهمونه في الكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس و يكذب على اللّه و سألتك هل كان من آبائه ملك فزعمت أن لا، فقلت لو كان في آبائه ملك لقلت يطلب ملك آبائه. و سألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه، و هم أتباع الرسل. و سألتك هل يزيدون/ أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، و كذلك الإيمان حتى يتم.
و سألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه فزعمت أن لا،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:514
(1/558)
و كذلك الإيمان حتى يخالط القلوب لا ينقضه أحد. و سألتك هل يغدر فزعمت أن لا، و كذلك الرسل لا يغدرون. و سألتك هل قاتلكم و قاتلتموه فزعمت أن قد فعل و أن حربكم دولا، و كذلك الرسل قد تبتلى و يكون لها العاقبة. و سألتك عما يأمركم فزعمت أنه يأمر أن تعبدوا اللّه وحده و ينهاكم عما كان يعبد آباؤكم و يأمركم بالصلاة و الصدق و العفاف و الوفاء و أداء الأمانة، و هذه صفة النبيّ قد كنت أعلم أنه خارج و لم أكن أظن أنه منكم. و إن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدميّ هاتين، و اللّه لو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه، و لو كنت عنده لغسلت قدميه. قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأمر به فقرى ء إلى أن انتهى منه إلى قوله: «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» «1» قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظاماء الروم و كثر لغطهم فما أدري ما قالوا، و أمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت مع أصحابي و خلصت بهم قلت: لقد أمر أمر بن أبي كبشة، هذا ملك بني الأصفر يخافه.
و قال أبو سفيان لأصحابه: و اللّه لو لا الحياء من أن يأثروا عني الكذب لحدثته عنه حين سألني، و لكني استحييت أن يأثروا عني الكذب فصدقت عنه، و لم يمكني كلمة «2» أدخل فيها شيئا أنتقص محمدا فيه أخاف أن يؤثر عني غيرها حين قال لي: فهل يغدر قلت: لا، و نحن الآن/ منه في هدنة، و نحن نخاف أن يغدر.
__________________________________________________
(1) آل عمران 64
(2) لعلها: إلا كلمة لأن سياق الكلام يستدعي ذلك.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:515
(1/559)
فهذا أبو سفيان عدو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إذ ذاك، و هذا كان قبل إسلامه و في حال عداوته، و الذين معه من قريش على حاله في العداوة، و هذا ملك الروم عاقل حازم.
و انظر كيف استظهر في أن يسأل عنه صلّى اللّه عليه و سلم أعداءه. فأحضرهم و هم لا يدرون ما يريده منهم، و سألهم عنه على تلك السبيل التي استنطق واحدا منهم بحضرة جماعة بغتة على حال يبعد فيها المواطأة.
ثم قول أبي سفيان لأصحابه: لو لا خوفي منكم أن تأثروا عني الكذب و استحيائي منكم لما صدقت ملك الروم عنه و لكذبت عليه، و ما قدرت أن أطعن عليه إلا بقولي: و نحن نخاف أن يغدر، ما قدرت على أكثر من هذا.
و خاف أبو سفيان أن لو كان وحده أن يسأل ملك الروم غيره فيتبين كذبه.
و تأمل قول ملك الروم: هل يرتد أحد سخطة لدينه أي لعثرة أو زلة تكون منه. و لما أسلم أبو سفيان كان يعيد هذا الحديث ثم يقول: فو اللّه ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمر محمد صلّى اللّه عليه و سلم سيظهر حتى أدخل اللّه قلبي الإسلام و أنا له كاره.
و جعل ملك الروم كتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم بين يديه، و راجع الفكر فيه، و أدام المسألة عنه صلّى اللّه عليه و سلم. فقدم عليه أميه بن أبي الصلت الثقفي، و حكيم بن حزام القرشي، فسألهما عنه، فأخبراه بحاله و دعوته على نحو ما أخبر به أبو سفيان و أولئك النفر، فقال لأمية بن أبي الصلت: أآمنت به؟ قال لم أكن لأومن لنبيّ إلا أن يكون من ثقيف.
و كان هذا الملك متخشعا، و لما انكشف عنه جنود فارس مشى من حمص إلى بيت المقدس شكرا للّه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:516
(1/560)
و كانت القصة المعروفة التي قد تقدم ذكرها لك لقوله عز و جل: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي/ أَدْنَى الْأَرْضِ» فرجع ملكهم اليهم في عام الحديبية، و أرسل ملك الروم إلى رجل كان برومية يقرأ بالعبرانية و يعرف الكتب القديمة، فكتب اليه يخبره بورود كتاب النبي صلّى اللّه عليه و سلم عليه، و بما ذكر فيه، و بما وقف عليه حين سأل عنه. فكتب اليه صاحب رومية أنه النبيّ الذي كنا ننتظر لا شك فيه، فلما وقف ملك الروم على هذا أمر بطارقته فجمعوا له في دسكرة ملكه «1»، فأمر بها فأشرجت عليهم بأبوابها «2»، ثم اطلع عليهم من عليّة له خوفا على نفسه، فقال: يا معشر الروم، إني قد جمعتكم لخير، إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، و و اللّه إنه النبي الذي كنا ننتظر و نجده في كتبنا، فهلموا فلنتبعه و نصدقه و تسلم لنا دنيانا و آخرتنا. فنخروا نخرة رجل واحد، ثم ابتدروا باب الدسكرة ليخرجوا فوجدوها مغلقة، فقال: كرّوهم عليّ، فلما رجعوا قال:
يا معشر الروم، إنما قلت لكم هذه المقالة لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي قد حدث، و قد رأيت منكم الذي أسرّ به. فوقعوا له سجّدا، و أمر بباب الدسكرة ففتحت لهم. و كان الناس يتحدثون بذلك، و يقول الروم: إن الملك [فعل ] «3» هذا امتحانا لأصحابه، و يقول غيرهم من النصارى: ما فعل هذا إلا لورود كتاب صاحب رومية عليه بما ورد. و قد كان بقي منهم من أدرك خلافة عبد الملك بن مروان، غير أن الجملة التي لا ريب فيها عند أهل العلم إكرام ملك الروم لكتاب رسول اللّه، و مسألته عنه، و مدحه له، و قوله إنه للنبيّ الذي كنا ننتظر، و ما صنعه في الدسكرة،
__________________________________________________
(1) الدسكرة: بناء كالقصر فيه منازل و بيوت للخدم و الحشم، و يكون للملوك. اللسان: مادة دسكر
(2) أي فأغلقت عليهم
(3) هذه الكلمة زيادة مني على الأصل اقتضاها سياق الكلام.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:517
(1/561)
و ما قاله لبطارقته و الروم بعد ذلك من محاسنها و حزم ملوكها. و العلم بذلك كالعلم بكتابه عليه السلام إلى كسرى مع عبد اللّه بن حذافة السهمي، و تمزيق كسرى للكتاب و استخفافه/ به و برسوله. و كانت كتبه صلّى اللّه عليه و سلم في أكارع الأدم يكتبها جهارا بعلم عدوه و وليه، و ينفذها جهارا، و يعلم العدو و الوليّ بما يكون من الجواب.
فتأمل الحال في ذلك و حال الملوك في زمانك، الذين يزعمون أنهم من ولده، و كيف يسترون مكاتباتهم عن أوليائهم فضلا عن أعدائهم، و يكتمون ذلك بجهدهم، و يعظمون الكتاب و يزينونه و يصورونه و يهولونه، و يضمنونه المخاريق و الخدع، هذا مع تسترهم بالإسلام، و أنهم من ولد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و الأئمة الذين وصى اليهم النبي صلّى اللّه عليه و سلم. و يكون مع تلك الكتب الأموال و الهدايا و التحف العجيبة، و يذكرون للمكتوب اليه ملكهم، و أنهم قد وجدوا ذلك في كتب الحدثان و في الملاحم و الأبار، و يطمعون المكتوب اليه في المشاركة في الملك، و إن كان ملكا قالوا نقرّك و نزيد في ملكك، و يحلفونه في كتمان ذلك و كتمان ما يلقونه اليه، و يهولون عليه بأن فلانا الملك، و فلانا الأمين، و فلانا السلطان، قد أجابونا، و هم أهل دعوتنا، و قد عرفوا حقيقة ما قلناه لهم؛ فبادروا في الإجابة لتكون لكم الوسيلة قبل ظهور الدعوة، و قبل ملك الإمام لجميع الأرض، و قبل انغلاق باب التوبة. و إنما يكتبون بهذا إلى الملوك الذين هم في الإسلام، و الذين يزعمون أنهم شيعة، و قد تواطئوا لهم من كل وجه، و قد لاذوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أظهروا الاعتصام به، و يقولون: السنّة السنّة تكون الغلبة، و ظهور الأمر على جميع الأرض، فلا يكون لذلك أصل، و يموت من وعدوه ذلك، و يتناسى، و يبتدئون فيسخرون بقوم آخرين فيبطل ذلك و لا يكون، و يبتدئون بقوم آخرين، و يموت/ ذلك الذي قالوا لهم إنه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:518
(1/562)
الإمام الذي يظهر، و يدعون إلى آخر و يموت الذي بعده، ثم الذي بعده كذلك.
كما وعدوا نصر بن أحمد أمير خراسان، و مرداويج الحالي، و أسفار بن شيرويه، و ابن أبي الساج، و أمثالهم، ثم من بعدهم. و مات أولئك الذين كانوا يقولون في كل واحد منهم في زمانه أنه الإمام الذي يقوم و يغلب و يملك الأرض كلها من أولها إلى آخرها.
فتأمل و فكر، فبالفكر تكون البصائر. و إنما عرض هذا في ذكر كتبه و مكاتباته فضلا على ما تقدم لتعلم أن أحواله كلها محفوفة بالعصمة، «1» مكنونة بالحجة الظاهرة و البينة القاهرة. و إنما ذكرنا أحوال هؤلاء الملوك الذين في زمانك بعد ذكر من تقدم من ملوك بني أمية و بني العباس، لأن هؤلاء معك و في زمانك، و هم يدعونك و يدعون الناس كلهم، فتأمل أحوالهم، فإنك إن ذهبت عما في زمانك كنت عما فاتك زمانه أذهب.
و لما ذكر اللّه عز و جل نعمه على بني آدم بما سخره لهم حين قال: «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» إلى قوله «وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا» «2» و هو كما قال عز و جل، فإن العاقل إذا ترك الفكر فيما يشاهد، و ذهب عن معرفة النعم التي عليه في الدنيا، فهو عما أراده اللّه به من نعم الآخرة أذهب.
[بين جرير بن عبد اللّه البجلي و اليهودي ]
و من جنس ما تقدم أن جرير بن عبد اللّه البجلي سمع بأرضه من رجل تاجر من اليهود قدم عليهم بمتاع يشترونه منه: لا و الذي أنزل التوراة على موسى، فقال له جرير: من موسى هذا؟ و ما التوراة؟ فقال اليهودي: موسى بن
__________________________________________________
(1) يقصد الرسول عليه الصلاة و السلام.
(2) الاسراء 66
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:519
(1/563)
عمران رجل من بني إسرائيل/ أرسله اللّه إلى بني إسرائيل و أنزل عليه كتابا يسمّى التوراة، فقال له جرير: فأخبرني خبره، فقص عليه شأنه، فقال له جرير: فهل أرسل اللّه أحدا قبله، قال: نعم، فقصّ عليه قصة نوح، قال له: فهل أرسل اللّه بعد نوح أحدا، قال: نعم، فقص عليه قصة إبراهيم، فقال له جرير: فهل غير هؤلاء؟ قال: كثير، فجعل يسم له الرسل، فقال له جرير: بأي شي ء يرسلون، و ما يقال لهم؟ قال: يرسلون أن يعبد اللّه وحده، و بالصدق، و أداء الأمانة، و غير ذلك، قال له جرير: فكيف صنع قومهم بهم؟ قال: آذوهم و ضربوهم و قتلوا بعضهم، و دخل في دينهم ناس من قومهم؛ و جرير يستزيده من حديثهم و يعجب، و يعجب قومه من ذلك، و هو شي ء ما سمعوا به أصلا، و لا سمعوا أسماء هؤلاء الرسل، فضلا عن غير ذلك.
فقال جرير: و اللّه ما سمعت بهذا قط و لا ظننته، فلعل محمدا هذا القرشيّ رسول مثل هؤلاء، فقد سمعنا خبره ثم عزب عنا ذكره، و قد خفي علينا أمره. ثم شاور جرير من يعقل من قومه في الرحيل إلى النبيّ ليسمع منه و ينظر فيما يقوله، فقيل له: إنه قد ساجل قومه الحرب و لا يؤمن عليك، و من الرأي أن ينتظر الأشهر الحرم فيخرج للحج مع الحاج؛ فلما دخلت الأشهر الحرم رحل مع قومه فوافى إلى عكاظ و إلى ذي المجاز و إلى منى، «1» و صدروا إلى مكة، فعمدوا إلى مجلس من قريش أكثره كهلا و أبداه شرفا، فجلسوا اليهم، و تحدثوا معهم، و باسطوهم في الحديث. فقال جرير: ما فعل صاحبكم هذا، الذي يزعم أنه رسول اللّه؟ قالوا: فعل شرّا، شتمناه و شتمنا، و فعل و فعل، ثم حاربنا فقتلنا و قتلناه. فقال جرير: و ما نقمتم عليه؟ قالوا: نقمنا
__________________________________________________
(1) ذو المجاز: موضع سوق بعرفة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:520
(1/564)
سحره و كذبه،/ قال جرير: فكيف علمتم أنه ساحر؟ قالوا: سحر قلوب فتياننا حتى اتبعوه و عصونا، قال جرير: ما علمتم إلا بهذا؟ قالوا: لا، قال جرير: فما دلكم على كذبه، هل حدثكم شيئا فوجدتموه باطلا؟ قالوا لا و اللّه، إلا أنه يكذب على اللّه، و يزعم أنه أرسله أن آلهتنا باطل، و أن سلفنا ضلال من أهل النار. قال جرير: دعوا هذا فما ذا يقول سوى ذلك؟ قالوا:
و اللّه ما يقول إلا حسنا، إنه ليأمر بصلة الرحم، و الكفّ عن المحارم، و الخلق الجميل، و العفو عن المسي ء، و أخلاق سوى ذلك جميلة لو قالها من عند نفسه و لم يزعم أن اللّه أرسله بها ما أنكرنا عليه، قال جرير: فلعله رسول اللّه، فقد أرسل اللّه رسلا قبله: إبراهيم و نوحا و موسى، قالوا: و أين هو من موسى؟
قال جرير: لمه؟ فأنتم خير و أكرم أم قوم موسى؟ قالوا: لا بل نحن، قال: فما أنكرتم أن يرسل اللّه منكم رسولا كما أرسل من قوم موسى؟
و جادلهم عنه صلّى اللّه عليه و سلم. فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ساحر و كذاب، ثم قالوا لجرير: ألقيته قط؟ قال: لا و اللّه ما لقيته قط و لا كلمته، و لكن هذا هكذا فغلظوا في شتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سبه، قال جرير: أنتم أعلم. و رجع إلى قومه و عشيرته بمن معه؛ فجاء قومه يسألونه عن الموسم، و عن العرب و ما كان بينهم، فحدثهم بذلك، ثم قال: و غير ذلك قالوا: و ما هو: فحدثهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه بيثرب، و ما كان من قريش، و أنه ما وجد عند عدوه مطعنا غير السفاهة، و وجدت قومه قد خافوه، فهل لكم في خبر، قالوا ما هو؟ قال جرير: قد أرسل اللّه قبله رسلا، فهل لكم أن أخرج قبله و ترسلوا معي رسلا تأمنونهم و تثقون بعقولهم و تطمئنون إليهم و إلى خبرهم، فتأتيه/ و نسائله، فلا يخفى أمره علينا، إن كان صادقا سالمناه و آمنا به و دخلنا في دينه و أخذنا لكم منه سببا و حبلا، و إن كان غير ذلك أريناكم برأينا. قالوا:
(1/565)
ما بما قلت بأس. فأرسلوا معه من اختاروه، و خرجوا حتى قدموا عليه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:521
المدينة؛ و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لأصحابه: أتاكم خير ذي يمن، على وجهه مسحة ملك؛ و كان جرير جميلا سيدا و سيما. فلما قدموا المدينة نزلوا منزلا ثم لبسوا أجمل ثيابهم و خرجوا، فلقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و جلسوا اليه، و كلموه، و ساءلوه عما يقول و ما يدعي، و ما يدعو اليه. فذكر ذلك و شرحه، و تلا القرآن، و بيّن لهم. فقال جرير: رضينا منك، و أسلم، و أسلم أصحابه و من معه.
فتأمل ما في هذا، فإن بجيلة هي حي عظيم و قبائل كبيرة يجاورون مكة ما سمعوا باسم موسى فضلا على أن يعلموا هل أرسله اللّه بل لم يعلم جلهم و أكثرهم أن هناك من يدّعي له الرسالة و النبوة، و هذا قد يكون من قلة الطلب و المساءلة، و من قبل عدم من يقصد الناس و يدعوهم إلى ذلك و يذكرهم به، و من قبل غير ذلك مما يطول شرحه.
و قد كان أبو الحسن عليّ بن محمد بن بكر الاسفذاني صاحب أبي علي رضي اللّه عنهما «1»، حج، و كان كثير الحج، فأسرته القرامطة مرة ثم أرسلوه، فحصل في البوادي، فأجرى ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فلم يعرفوه، و قالوا: ما سمعنا به، فتعجب من ذلك. و هذا أبو الحسن كان كبيرا من فقهاء أصحاب أبي حنيفة، و كبيرا من أصحاب الحديث، غزير الرواية زاهدا، واعظا مجيدا، و كان خلا لأبي الحسن الكرخي رحمة اللّه عليهما، و كان يلقى جبابرة الملوك من البريديين/ و الديلم بالموعظة، و يصدقهم و يعظهم، و له كتب كثيرة في العلم، و لعل أكثرها في خزانة الوقف بالريّ.
و كان يكثر تعجبه و هو فارسيّ من بلاد العجم، و من أهل عسكر مكرم، و هو أعلم الناس أو من أعلمهم بنبوة «2» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و باثاره و بأخلاقه و شريعته،
__________________________________________________
(
(1/566)
1) يقصد أبا علي عبد الوهاب الجبائي المعتزلي المعروف.
(2) في الأصل: و بنبوة، و لعل الصواب ما أثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:522
و قومه من العرب و جيرانه في البلد لا يعلمون شيئا من ذلك، و هذا إنما صار كذلك لترك السلطان العناية بالدين و إرسال العلماء و الفقهاء في البوادي و الآفاق كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يفعل ذلك و خلفاؤه و لا يخلون القبائل من مقرى ء و فقيه و ساعي، و مع هذا فابتلى الناس بيحيى الطحاني و بأبي سعيد الجنابي و ولده و أمثالهم من القرامطة في جزيرة العرب، فزعموا أنهم شيعة و دعاة إلى المهدي ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقتلوا المسلمين و من يقيم شريعة الإسلام، و سبوا المسلمين، و غزوا مكة و غيرها، و أحرقوا المصاحف، و صنعوا ما هو معلوم، فلهذا خفي على أولئك ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و إذا تدبرت هذا إن دارت بصيرتك بصدق قوله في قصة نوح عليه السلام: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» «1».
فهذا جرير و بجيلة يقولون: و من موسى، و ما التوراة؟ و إن كنت قد علمت بعقلك بما تقدم لك، أنه صلّى اللّه عليه و سلم ما عرف ما أقصه من قصة نوح و غيره من الأنبياء إلا بالوحي. و انظر كيف صنع جرير و بجيلة في معرفة أخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فإنهم ابتدؤوا فسألوا عنه أهل بلده، و أهل بيته، و من رباه، و من ربّي معه، و أعداءه، و من ناصبه و طلب عثراته، فعرف ما عندهم،/ فلم يجد عيبا و لا مطعنا، فرجع إلى قومه بمن معه فأخبروهم بما سمعوا، ثم تخيروا عقلاءهم و فضلاءهم فأرسلوهم إلى المدينة فسألوه و سمعوا منه، و هذا غاية ما يفعله العاقل الحازم المرتاد الطالب.
(1/567)
فتأمل هذا و ما قبله من تلك المحافل و المقامات و المواطن التي تقدم لك ذكرها، مما كان بمكة و بأرض العرب و بأرض الحبشة و بالشام عند ملوك الروم و بالعراق عند ملوك الفرس، و أحضره فهمك، و واصل درسه، و تدبر
__________________________________________________
(1) هود 49
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:523
(1/568)
قول قريش لجرير و بجيلة في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه ساحر، فإنهم لما سمعوا القرآن و رأوا غيره من آياته و دلالاته صلّى اللّه عليه و سلم فلم يمكنهم دفعها بالحجة، قالوا: سحر و هذا ساحر، و إنما يقولون ذلك لما لطف و غمض و دقّ و أخذ بالعقول: هذا سحر و هذا ساحر و لهذا قال أبو جهل حين خرجوا و معهم القافة في طلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين هاجر و معه أبو بكر في قصة الغار: و اللّه إني لأراه معنا في بعض هذه الشعاب يرانا من سحره و ما نراه، و لما نزل قوله عز و جل: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» «1» سأل صلّى اللّه عليه و سلم عمه أبا طالب ليجمعهم له، فكان يراجعه و يدافعه، ثم أجابه لما يعرف من صدقه و لشدة محبته له فجمعهم، فلما حضروا، أطعمهم حتى امتلئوا شبعا من يسير من الطعام، و سقاهم حتى أرواهم من عسّ لبن، ثم ابتدأ بدعوتهم و إنذارهم لأن اللّه أمره بذلك، و أنه قال للملك: إني إن فعلت ذلك تفلق قريش رأسي فلق الخبزة «2»، فقال لي: يا محمد، إنك إلا تفعل ذلك تعذّب، و إن اللّه قد اتخذ لك جندا تبعثهم، و إن اللّه ينزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما و يقظان، و إن قريشا و العرب ليست على شي ء من اللّه و لا للّه، و إن اللّه/ يقول: «إني خلقت عبادي جميعا حنفاء مسلمين، و جعلت ما يحلهم من رزق فهو لهم حلال، فأحالتهم الشياطين على دينهم و حرمت عليهم ما أحللت لهم، و أمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، و أمرتهم أن لا يغيروا خلقي. فقطع أبو لهب كلامه و أمر أصحابه بالقيام فقاموا و خرجوا، و تحادّوا أنه أشبعهم و أرواهم من ذلك الطعام و الشراب اليسير الذي لا يكاد يشبع الواحد و لا يروي، فقال أبو لهب: هذا من سحره، و هذا بعض سحره، كالذي قالوه لجرير و أولئك الرهط من بجيلة.
و هذا المقام الذي كان له مع قريش كتلك المقامات التي قد تقدم ذكرها من
(1/569)
__________________________________________________
(1) الشعراء 247
(2) فلق الخبزة: كسرتها أو شطرها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:524
شأن الإسراء و قصة الروم و غير ذلك، لا يرتاب بها العلماء و لا يشكون فيها. و قد علمت أن إسلام الأنصار كان في الاستقصاء و طول السؤال و المراجعة أشد من استقصاء جرير و بجيلة، و في نحو ذلك كان إسلام قبائل عبد القيس، و هذه كانت سبيل قبائل طيّ. و تأمل أحوال قريش من أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيما كان يظهر من آياته، و يصدق من أقواله، كيف كان يرجع بعضهم إلى بعض في الرؤساء خاصة، إن هذا الرجل ما تزل له قدم، و لا يخلف في شي ء قاله، و لا يغني كيدنا له شيئا؛ متأسفين و متحسرين على ما يخيب من سعيهم، فيقول بعضهم لبعض: فلعله نبي كما يقول، فنحن جميع و هو وحده، و نحن أغنياء و هو فقير، فيقول بعضهم لبعض: هذا من سحره.
(1/570)
و لما دخل سعد بن معاذ الأنصاري رحمة اللّه عليه مكة بعد هجرة النبي صلّى اللّه عليه و سلم اليهم، نزل على أبيّ بن خلف و كان خلّا له، فأراد أن يطوف بالبيت، فخاف عليه ابن خلف قريشا، فقال له: اصبر إلى أن يخف الناس، فلما خفوا خرجوا و طاف، فأبصره/ أبو جهل فقال له: أتطوف بالبيت آمنا و قد آويتم محمدا، لأفعلن و لأفعلن، فخاصمه ابن معاذ و جادله و لامه في عداوته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و ذكر عذرهم في قبولهم منه صلّى اللّه عليه و سلم، و أنه جاءهم بالنور و الهدى، و أنكم على ضلال في تكذيبه، فلم يكن عنده و لا عند قريش حجة و لا ما يشبه الحجة، من ذكر زلة أو هفوة يصرفون سعد بن معاذ و الأنصار عنه مع حاجتهم إلى ذلك. و استطال سعد على أبي جهل، فقال له أبيّ بن خلف: أترفع صوتك على أبي الحكم و هو سيد البطحاء، فقال له سعد: أما أنت فقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: إن اللّه يقتلك، فراعه ذلك، و دخل على امرأته كئيبا، فقال لها: أما تسمعين ما قال أخي اليثربيّ، زعم أنه سمع محمدا يقول إنه يقتلني و ما كذب محمد قط. فلحق المرأة من الرعب أكثر مما لحق أبيّا؛ فلما
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:525
كانت بدر، قال له أبو جهل: اخرج معنا، فقالت له امرأته: اذكر ما قال أخوك اليثربي، فكره الخروج، فما تركه أبو جهل حتى أخرجه، فقتل كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.
و الذي بدأنا به و أردنا، خوض أهل مكة في عداوته صلّى اللّه عليه و سلم و اجتهادهم في صرف الناس عن اتباعه بكل وجه و حيلة فلا يجدون مطعنا، و اتصل بهذا، اخباره صلّى اللّه عليه و سلم عن قتل أبي بن خلف فكان كما قال، و هذا آية أخرى.
(1/571)
و كم لاموا أنفسهم فيما بينهم لما نزل بهم ببدر، و قد كانوا خرجوا واثقين بالظفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه لقلتهم و ضعفهم، و لقوة قريش بالكراع و السلاح و المال و كثرة العدد، و كم تلاوموا فيما بينهم حين رجعوا من أحد و قد خرجوا في ثلاثة آلاف، و هم لا يشكون أنهم يظفرون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أنهم يسبون المدينة، و معهم أبو عامر الراهب/ كما تقدم لك.
و لما رجعوا مع الأحزاب و الخندق و قد جمعوا تلك الجموع، فنزل بهم من الريح و الرعب ما قد تقدم لك ذكره، تجمع كل قوم إلى رئيس و صاحب يتعجبون من ذلك، فقال عمرو بن العاص للذين اجتمعوا اليه: و اللّه إني لأرى أمر محمد يعلو على الأمور علو المنبر، فتشاوروا فيما يصنعون، فقال عمرو: إني قد رأيت رأيا، قالوا: و ما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي- و كان له صديقا- فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يده أحب الينا من أن نكون تحت يد محمد، و إن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير. و صاروا إلى النجاشي، فأقاموا عنده. و ورد على النجاشيّ عمرو بن أمية الضمري رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم «1»، و أفاضوا في ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ما أتى به و ما دعا اليه، فأجمعوا على حسن
__________________________________________________
(1) انظر سيرة ابن هشام 224 و 324
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:526
ذلك، و عذلهم النجاشي في إبطائهم عنه، فما وجدوا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم غميزة يذكرونها أو يحتجون بها، فكروا راجعين إلى مكة. و قد رحلوا إلى النجاشي غير مرة، و كانت له معهم في هذا الشأن محافل و مجالس.
(1/572)
و لقد قال خالد بن الوليد بن المغيرة لأصحابه و أهل أنسه قبل إسلامه و قبل هجرته: و اللّه لقد استقام الميسم، و إن الرجل لنبيّ فحتى متى؟ ثم هاجر و أسلم بعد الحديبية، و هاجر بعده عمرو بن العاص و أسلم، و كان منهما ما هو معلوم.
و لما قسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم شعره على أصحابه في حجة الوداع، ما زال خالد ابن الوليد يضرع و يقول: يا رسول اللّه ناصيتك، يا رسول اللّه ناصيتك، فيها أرجو النصر، فنادى أبو بكر الصديق في الناس متعجبا و معتبرا و منبها، و قال:
أيها الناس، هذا/ خالد بن الوليد الذي لقينا منه ببدر و أحد و الخندق و الحديبية ما لقينا، انظروا اليوم اليه و إلى بصيرته.
و لما قسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم غنائم أرطاس، و أعطى المؤلفة ما أعطاهم، قال عيينة بن حصن: أنا ابن الأشياخ، أنا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، فقال صلّى اللّه عليه و سلم: خير الناس يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم؛ و كان صلّى اللّه عليه و سلم يقول في عيينة بن حصن: الأحمق المطاع، و كان من أمره معه، و مع الأقرع ابن حابس، و العباس بن مرداس المسلمي، و تلك المؤلفة. ما هو معلوم «1»
و لما أعطاهم من تلك العناية ما أعطاهم، و حرم السابقين و البدريين و المهاجرين و الأنصار، قال قائل من الأنصار: نظهر على هذه الغنائم بأسيافنا و يأخذها هؤلاء دوننا، و بلغه ذلك، فأرسل صلّى اللّه عليه و سلم، و جمع الأنصار، و قال:
__________________________________________________
(1) سيرة ابن هشام 4: 492
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:527
أخبروني عنكم معشر الأنصار، ألم تكونوا ضلّالا فهداكم اللّه بي؟ قالوا بلى، قال: ألم تكونوا أعداء فألف اللّه بين قلوبكم بي؟ قالوا: بلى، قال:
(1/573)
فما مقالة بلغتني عن بعضكم؟ و أعاد عليهم القول، فقالوا: يا رسول اللّه أيما كان، هذا من بعض أحداثنا، فأما نحن فراضون. فقال صلّى اللّه عليه و سلم: هذا مال تألفت به قلوب هؤلاء الذين عهدهم بالإسلام حديث، و ببصائرهم ضعف، أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة و البعير و ترجعون برسول اللّه إلى رجالكم؟
قالوا: بلى، رضينا؛ و بكوا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: لو شئتم أن تقولوا أتيتنا طريدا فاويناك، و مخذولا فنصرناك، لقلتم، فزاد بكاؤهم و خشوعهم، و قالوا: المنّة علينا في ذلك للّه و لرسوله.
[سيرة الرسول عليه الصلاة و السلام في السابقين و البدريين ]
و كم قد كان مثل هذا، فتأمل هذا المقال و الفعال للفريقين من المؤلفة و من الأنصار، ففيه العبرة الكبيرة و البصائر النيّرة، و تأمل سيرته صلّى اللّه عليه و سلم في السابقين و البدريين، لأهل بيته، و في ولده و أزواجه، كيف حرمهم الدنيا و حماهم منها؟، و كيف ملأ قلوبهم بالوعيد و المخاوف؟، و كيف جعلهم أسوة الناس كلهم في الأحكام و القصاص و الحلال و الحرام، و في أن من حازت شهادته من العجم و الموالي على الحاكة و الحجامين و الزيالين، حازت شهادته على القرشيين و الهاشميين و السابقين و البدريين، و كيف حرم الصدقات على أهل بيته و أوجبها في أموالهم للناس، و كيف شرع و بيّن أن الخطأ و الزلل جائز على كل واحد من أصحابه و أهل بيته و خاصته، و وصى بمراعاة أفعالهم و أقوالهم و أن يذكروا و أن يعلموا و أن يتفقوا حين جعلهم قواما على المسلمين، و وكلاء و خدما، لما علم اللّه عز و جل أن الأتقياء و الأولياء الأذكياء من قريش، أحرص على رشاد المسلمين و صلاحهم من سائر الناس، فقال فيهم: استقيموا لقريش
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:528
ما استقاموا لكم، و تلك الأقوال التي قد تقدم لك ذكرها، فأحضرها فهمك و تأمل ما فيها.
[الرد على دعوى العصمة لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ]
(1/574)
ثم لم يجعل العصمة و الأمانة من الزلل في دين اللّه إلا له وحده إلى يوم القيامة، لا يشاركه أحد فيه، و لا يقوم مقامه و لا يسدّ مسدّه، فقبلوا كل ذلك منه، و خضعوا له، و تدينوا به، و أجابوه إلى ذلك على تلك الشرائط التي تقدم ذكرها، لتعلم بمكان الاعلام و الدلائل و البراهين التي انتقضت بها العادة فبهرت عقولهم، و قد كانوا من أعظم الناس نخوة و أنفة و حميّة، ثم لا تجدهم لما صحبوه و اختصوا به و أجابوه حدث لهم نبوه عنه، و لا نفور منه، و لا طعن عليه في دينه/ لشي ء وقفوا عليه، أو وقف عليه واقف، أو استراب فيه مريب في شي ء من أحواله، لا من الرجال و لا من النساء، و لا من الخدم، و لا من الأزواج، لا في حياته و لا بعد وفاته، و أزواجه عدد كثير و هن ضرائر، و فيهن بنات أصحابه و خاصته، و فيهن بنات أعدائه.
فإن قيل: أو ليس الرافضة تدّعي أنه قد شهد بالعصمة لابن عمه عليّ ابن أبي طالب، و أنه كالأنبياء في أن الخطأ و الزلل لا يجوز عليه البتة في حال من الأحوال، و لا يلحقه سهو و لا غفلة، و أنه يسدّ مسدّه و يقوم مقامه، و أنه مفزع الخلق، و كذا ولده بعده، فيهم من يقول ثلاثة، و منهم من يقول سبعة، و منهم من يقول اثنا عشر، و منهم من يقول أكثر.
قيل له: إنا لم نقل أن هؤلاء ادّعوا هذا، و لا أخبرنا عنهم، و إنما أخبرنا عن شرعه صلّى اللّه عليه و سلم و سنته و وصاياه، لا عما يقول هؤلاء. و قد تقدم لك الأدلة على بطلان دعاويهم، و أن أصحابه كلهم من أولهم إلى آخرهم أطبقوا على ذلك قرنا بعد قرن، ثم الذين يلونهم ثم التابعين لهم، ثم الذين يلونهم في القرون و الاعصار، إلى زمن هشام بن الحكم؛ فإنه ابتدع هذا القول، ثم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:529
(1/575)
أخذ عنه الحداد، و الوراق، و ابن الراوندي، و أرادوا به كيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و إفساد دينه، و تشكيك الناس في نبوته، و أحوالهم في شدة عداوته معروفة، و قد تقدم لك بيان ذلك و البرهان عليه بما لا حاجة لك إلى إعادته.
و قد ذكر أبو عليّ رحمه اللّه طرفا من ذلك في «التفسير» و في «نقض الإمامة على ابن الراوندي»، و ذكره غيره من العلماء. و العلماء يقولون: إن من قال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم جعل مفزع الدين أرسل اليهم، و اتباعه في العلم بالحلال و الحرام إلى واحد، كمن قال ما أرسل إلا إلى ذلك الواحد،/ و لا آمن به و لا اتبعه إلا ذلك الواحد، و لا زكّى و لا مدح إلا ذلك الواحد، و لا شهد بالجنة إلا لذلك الواحد، قالوا: و إنما تكلم من قال إن بعض أصحابه أعلم من بعض و أوعى و أحفظ، و أنه ما استخلف على أمته واحدا بعده كما استخلف أبو بكر و يدله على ذلك.
فأما من قال ذلك القول فسبيله ما ذكرنا، و نظيره ما مثلنا. و هؤلاء يدّعون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بيّن عصمته و عصمة ولده، و نصّ لأمته على ذلك، و أداه لهم بحسب وجوبه على كل واحد منهم من عبد و حر، و ذكر و أنثى، و حضهم على ذلك، و أن الاعلام و المعجزات كانت تظهر عليه و على ولده، و أنها ظاهرة إلا على إمام الزمان الذي هو معنا و حجة علينا.
و قد علم كل عاقل سمع الأخبار أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قد ابتلى من الخلاف و التضليل و التخطئة و الإكفار ما لم يبل بمثله أبو بكر، و لا عمر، و لا عثمان، فما احتج لنفسه بأنه معصوم لا يجوز عليه الخطأ، و لا أن النبيّ نصّ عليه و وصى اليه و استخلفه، و لا بأن المعجزات ظهرت عليه مع حاجته إلى ذلك، و لا احتج له من يخاصم عنه في زمانه مثل الحسن و الحسين، و عبد اللّه بن العباس، و قيس بن سعد و أبي أيوب
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:530
(1/576)
الأنصاري، و صعصعة بن صوخان، و عديّ بن حاتم، و عثمان بن حنيف، و سهل بن حنيف، و جهر بن عبد اللّه، و عمران بن حصين، و شريح بن هاني، و الأحنف بن قيس، و أبي الأسود الدؤلي، و غيرهم ممن أرسلهم إلى من خالفه من أهل البصرة، و من أرسله إلى أهل الشام، و من أرسله إلى الخوارج، و من أرسله إلى أهل الكوفة يستنفرهم حين قعدوا عنه بمشورة عامله أبي موسى، و كان يجادل عنه بحضرته من كان يرد عليه من رسل معاوية، و يجادل الخوارج، لا يعرفون شيئا مما يدعيه هؤلاء بوجه من الوجوه، و لا يرجع فيما يحتج به رضي اللّه عنه إلا إلى الاجماع، فيقول: وجبت طاعتي كما وجبت/ طاعة أبي بكر و عمر و عثمان، لأنه قد بايعني من بايعهم، و إنما الأمر في الإمامة إلى السابقين و البدريين من المهاجرين و الأنصار، لا إلى الطلقاء و أبناء الطلقاء، و يحتج بأنه من أهل الشورى التي وضعها عمر، و يحتج في التحكيم بالقياس، و يردّه إلى الاجتهاد، و يقول: قد أمر اللّه بإرسال الحكمين في شقاق يقع بين المرأة و زوجها و في أرنب تصاب في الحرم قيمتها ربع درهم، فكيف بإمامة قد أشكلت على المسلمين، و يشير عليه ولده و أهله و أصحابه و خاصته الذين قدمنا ذكرهم و غيرهم، و يقولون: له: الرأي أن تفعل كذا و قد فعلت كذا و لم يكن الرأي أن تفعله، كما قال له الحسن ابنه و ابن عباس حين قبل البيعة، و كما قال له قيس بن سعد في شأن مصر، و حين قال له الأحنف في شأن التحكيم، ففي آرائهم ما يأخذ به و يدع رأيه لرأيهم، و منه ما يقيم على رأيه دون رأيهم، و يقول: هو أصوب. و إذا فعل الشي ء يسأل الناس عنه، هل هو صواب أم خطأ، و يسمع منهم، و يجادلهم، و يعتذر اليهم، و يبين وجه الصواب. كما قال لبعض أصحابه لما حكّم بالشام و رجع إلى العراق فقال لخاصته: ما يقول أهل الرأي؟:
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:531
(1/577)
فقيل له: أما أهل الرأي فيقولون: إن عليا كان له بناء فهدمه، و كان له جمع ففرقه، فحتى متى يا بنى مثل ما هدم، و يجمع مثل ما فرّق، فلو أنه إذ عصاه من عصاه مضى بمن أطاعه فإما فتح و إما قتل، فكان أعذر مما صنع؛ فقال رضي اللّه عنه: أنا هدمت أم هم؟، أنا فرقت أم هم؟ و أما قولهم: لو مضى بمن أطاعه من أصحابه إذ عصاه من عصاه ففتح أو قتل فكان أعذر، فو اللّه ماغبي عليّ هذا الرأي و لا ذهب عني، و لكن كان هذان، يعني الحسن و الحسين، متى حملت اتبعاني، و هذان: يعني محمد بن الحنيفية و عبد اللّه ابن جعفر/ بن أبي طالب يقدماني فكرهت أن يهلك هذان فلا يبقى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذرية، و كرهت أن يهلك هذان فإنهما شابان و من أجلي أقدما، و سترون إذا عدت إن شاء اللّه إلى الشام، لا أدع هؤلاء في عسكري.
فانظر كيف يباحث أهل الرأي و يقبل الصواب و يحمده و يبين عذره لما هو.
و لما قال له قائل بالكوفة: ذهبت إلى الشام و رجعت فلم تصنع شيئا، فيكون من جوابه، أن على الانسان أن يجتهد رأيه، و لا لائمة عليه بعد ذلك.
و لا يحتج في شي ء من ذلك بنصّ، و لا حكمة، و لا عصمة، و لا آية و لا معجزة، و لا يقول: هكذا وصاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قال لي: ينبغي أن تفعل كذا، و يقول لأهل الكوفة: اخترتكم على أهل البصرة و ظننت أن عندكم ما أحب من الطاعة و النصرة، فقلت لابن عباس هؤلاء أشد شوكة، و هم أزالوا كسرى عن ملكه، فلم تكونوا كما ظننت.
و خطبهم مرة فقال:
ليتني لم أركم و لم أعرفكم معرفة و اللّه جرت ندما، و ملأتم قلبي غيظا،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:532
و جرعتموني بكأس التهمام أنفاسا.
و يقول في بعض أقواله: ندمت على كذا، و يقول»
:
إني عثرت عثرة لا أجتبر سوف أكيس بعدها أو أستمر
(1/578)
و أجمع الرأي الشتيت المنتشر و قد قال في الجد بأقوال مختلفة، و رجع من قول إلى قول، و كذا في الخلية و البرية، و في أمهات الأولاد، و في غير ذلك، و هو في الاجتهاد و في الرجوع من قول إلى قول أشهر من أبي بكر، و عمر، و عثمان، و ابن مسعود، و زيد بن ثابت، و كان يستقضي و يستعمل من يخالفه في الاجتهاد و الرأي، و يحكم بغير قوله، مثل ابن عباس، و شريح بن الحارث، و أبي مسعود البدري، و أبي موسى الأشعري، و غيرهم. و كان الناس في سلطانه و في بلدان ملكه/ و حيث ينفذ أمره، و البلدان التي هو فيها و فيها عماله، يفتي الناس فيها بالرأي و الاجتهاد، بما يخالف اجتهاده و رأيه، مثل من كان بالكوفة من أصحاب عبد اللّه بن مسعود، و من بالمدينة من زيد بن ثابت و غيره، و من بالبصرة، و يعلم بذلك و يجاريهم فيه، فلا ينكره و لا يردّه، بل يسوغهم، و يصوب الأحياء و يترحم على الموتى، حين حكم أهل الكوفة في إبل ابني عم، أحدهما أخ لأم، فجعلوا أهل الكوفة المال كله للأخ للأم، فقال لهم: لم فعلتم ذلك؟ قالوا: هكذا فعل ابن مسعود، فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرحمن، و كان مذهبه غير هذا، إلى ما لا يحصى كثرة.
و لقد قالت العلماء: العلم بأن النبي عليه السلام ما نصّ على عليّ و لا استخلفه، و لا كان علي يدّعي النصّ و الوصية و العصمة، أقوى من العلم بأنه
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الصفحة «من قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:533
ما نصّ على عمار، و لا على بلال، و لا على أبي ذرّ، لأن عليا قد كان في زمن أبي بكر و عمر و عثمان، و بقي بعدهم خليفة و سلطانا مائة ألف سيف تطيعه و تنقاد لأمره، و قد خوصم و خولف و نوزع، و جادل و خاصم أصحابه و أهله عنه، فما احتج قط بنص و لا وصية و لا عصمة مع حاجته إلى ذلك، و لا احتج له أحد من أولئك.
(1/579)
و من عجيب أمر هؤلاء الإمامية أنهم يقولون: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد كان عرّفه عدوّه و وليّه و ما يجري عليه بعده، و أنه خرج إلى صفين و هو يعلم أنه لا يظفر بمعاوية، و أن معاوية سيرفع المصاحف، و ينقض تدبيره، و يفسد عليه أصحابه، و يرده كئيبا حزينا، و أن عمرو بن العاص سيغلب صاحبه أبا موسى إذا أنفذه للحكومة، و يجعل ذلك حجة لأهل الشام. و أن عبد الرحمن ابن ملجم سيقتله في تلك الساعة، و أنه خرج اليه و هو يعلم أنه ينتظره ليقتله، و أن الحسين عليه السلام، وجه بابن عمه مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة ليأخذ البيعة عليهم/ و هو يعلم أنه لا يتم له أمر، و أن عدوه سيقتله، و أن أهل الكوفة لما كاتبوه بالمصير اليهم و ضمنوا له النصرة فقبل كتبهم و قولهم و سار اليهم و هو يعلم أنهم لا يفون له، و أنه إذا صار اليهم و من معه سيقتلونهم و يقتلون إخوته، و يحملون رأسه و ذريته إلى الشام، و أن أمير المؤمنين استعمل مصقلة بن هبيرة الشيباني و ائتمنه على كورة أردشير حرة و على مال بني ناحية، و هو يعلم أنه سيغدر به و يخونه و يصير إلى معاوية، و أنه استعمل زياد بن سمية الثقفي على كورة اصطخر، و هو يعرف عداوته له، و ما يؤول اليه أمره من مصيره بعده إلى معاوية، و قتله لشيعته، و إظهاره للعنه، و قتل ابنه عبيد اللّه للحسين عليه السلام، و كذا خالد بن المعمر السدوسي و سائر من خانه من عماله، الذين استعملهم و اختارهم فخانوه و غدروا به، و أنه استعمل قيس
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:534
(1/580)
ابن سعد على مصر، ثم أظهر تهمته و تقصيره و الخوف من خيانته فعزله، مع شهامته و كفايته و أمانته و ثقل وطأته على عدوه معاوية، و استعمل على مصر بدلا منه محمد بن أبي بكر الصديق، و هو يعلم أنه يقصر عن منزلة قيس، و أن معاوية سيقتله و يقتل أصحابه، و أنه بعد قتل محمد أنفذ الأشتر واليا على مصر، و هو يعلم أن صاحب القلزم سيقتله، و أنه و الأئمة من ولده كانوا يعلمون ضمائر الخصوم الذين يرتفعون اليهم، و من المحق منهم و من المبطل، و يعرفون ضمائر الشهود و الذين يشهدون عندهم، و من هو الكاذب من الصادق.
و العلم رحمك اللّه إنما يحتاج إليه لاجتلاب المنافع و دفع المضار، فهذ موضع الانتفاع بتقدمة المعرفة، و لو لا ذلك لكان طلب العلم جهلا، و الرغبة في المعرفة عناء، و اللّه عز و جل يقول لنبيّه: قل يا محمد: «وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ» «1» و يقول له في قوم كانوا يظهرون له الحيل فيظن ذلك بهم: «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» «2» و قال له في آخرين ظن بهم هذا الظنّ: «وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» إلى قوله: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ» «3» و قد قال صلّى اللّه عليه و سلم (إنكم لتختصمون إليّ و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، و إنما أحكم بالظاهر و اللّه هو المتولي للسرائر، فمن قضيت له بشي ء بغير حق فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) و هذا باب لا يتكلف نقضه على الخصوم، و إنما ذكرناه على طريق التعجب، فإنّ من عرف أمير المؤمنين و ولده رضي اللّه عنهم، يعلم أنهم كانوا لا يعلمون ما يدعيه هؤلاء عليهم، و أنهم كانوا يعملون فيها بظنونهم
__________________________________________________
(
(1/581)
1) الأعراف 188
(2) البقرة 204
(3) المنافقون 4
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:535
و ما يغلب على رأيهم، و هؤلاء يزعمون أنهم كانوا يقصدون ما يفسد أمرهم و يقتل نفوسهم و أحبابهم، و يشمت عدوهم، و يميت سلطانهم، و يكسر عساكرهم، و يمكن لعدوهم على علم و يقين؛ فإذا الجهال من أعدائهم الذين يعملون بالجهل و الخبط، و يختارون لأنفسهم بجهلهم و نقضهم أسلم على عمالهم و أصحابهم من معاوية و بني أمية من هؤلاء العالمين المعصومين. فلو أراد مريد أن يبالغ في سبّ هؤلاء السادة صلوات اللّه عليهم لما بلغ منهم ما بلغ هؤلاء الذين زعموا أنهم لهم شيعة و أولياء. و لكن العلماء قالوا: إن أوائلهم أشدّ الناس عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لدينه و لأهل بيته، فلم يمكنهم المكاشفة بذلك، فادّعوا أنهم شيعة، و تستروا بذلك، و سبّوهم هذا السبّ، و طعنوا عليهم هذا الطعن، الذي لم يبلغه العدوّ المكاشف بعداوتهم من الحرورية و بني أمية [1].
و كذا يقول العلوية من بني الحسن، و الزيدية من بني الحسين، و القاسمية، و الناصرية: الرافضة أضرّ علينا و أنكأ فينا من الحرورية و بني أمية الذين و لغوا في دمائنا.
(1/582)
و مما يزيدك في العجب قولهم: إن النبي صلّى اللّه عليه و سلم،/ و أمير المؤمنين، و الذين يدّعون لهم الإمامة من ولده يعرفون اللغة الفارسية و الرومية و الهندية و القبطية و التركية و الديلمية و سائر اللغات و يتكلمون بها، و لا يجوز أن يكون في أهل هذه اللغات أحد أعلم بها منهم؛ قالوا: و يجب أن يعلموا ذلك بدليل العقل، و لو لم يعلموا ذلك لكان نقصا فيهم و هم حجج اللّه على خلقه، و الإمام لا يترجم له و لا يحتاج إلى ترجمان إذا حضره الخصوم، و لا بد من أن يكون عالما بجميع اللغات؛ قالوا و يجب أن يعلم جميع الأقلام، و يكتب بها، و يقرأ ما كتب بها، و يخط بالأقلام كلها، و لا يجوز أن يكون أحد أكتب منهم فقد سبوهم و انتقصوهم، و أنهم قد كتبوا الكتب كلها، و كتبوا بالأقلام كلها
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:536
بالخطوط التي لا يكون أحسن منها، و نطقوا باللغات كلها، و أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد كان قرأ صحف ابراهيم، و ما نزل على آدم، و نوح، و موسى، و داود، و عيسى، و جميع الأنبياء، بتلك الألسن، و كتبها بتلك الأقلام.
و أنت تجده صلّى اللّه عليه و سلم يحتج في نبوته على عدوه حين تلا عليهم ما في كتبهم بأنه من قبل اللّه و علمه، و أنه ما تلا قبله كتابا و لا خطه بيمينه إذا لارتاب المبطلون.
(1/583)
و يدلّ بذلك، و يستطيل على الخصوم و يقول: إن اللّه قد نعته و وصفه للأنبياء قبله بأنه النبي الأمي، و هؤلاء يقولون لم يكن الأمر كذلك، و زعموا أنهم يمدحونه بهذا القول و فيه تكذيبه. فتأمل ما يجلب هؤلاء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و على دينه من المكاره و هم يتجاوزون هذا إلى أن هؤلاء القوم يعلمون ما تريده السباع بعوائها، و كذا جميع الطير و البهائم، و هذا لهم مسطور، و أنت فقد علمت بدليل عقلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما قرأ كتابا قط و لاخطه بيمينه كما تقدم ذلك، و بأي شي ء تعلم أن أبا بكر و عمر و عثمان و العباس و عبد الرحمن و أمثالهم ما كانوا «1» يكتبون بهذه الأقلام و لا يحسنون هذه اللغات إلا و العلم بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين رضي اللّه عنهم ما كانوا يحسنون ذلك أقوى و أظهر.
و أن هؤلاء ما كانوا يكتبون إلا بالعربية، و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما كان يكتب لا بالعربية و لا بغيرها من الأقلام، و هم يدّعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و على هؤلاء الذين يدعون إمامتهم أنهم كانوا يحسنون الصنائع كلها، و أنهم أعلم الناس بها، من النجارة و الخياطة و الصباغة، و كل صناعة في الدنيا صغرت أو كبرت، ارتفعت أو اتضعت، و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان أعلم بالشعر من كل شاعر، و قد علم أهل المعرفة بعقولهم أنه ما كان يحسن شيئا من ذلك البتة، و لا يروي لغيره شيئا منه البتة، و أنه كان لا يقيم بيتا واحدا يرويه لغيره كما يرويه
__________________________________________________
(1) في الأصل «كان» و لعل الصواب ما أثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:537
(1/584)
العرب و العجم، و الفصيح و الأعجم، و لا يستقيم له، و لا يجري على لسانه، و اللّه عز و جل يقول: «وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ» «1» فمن هذا الجنس مدائحهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته، و هو الغاية في تكذيبه و الطعن في نبوته.
[الرد على علي أن الأئمة كانوا يعلمون المكاره التي كانت ستنزل بهم ]
و انظر إلى قولهم فيهم أنهم كانوا يعلمون المكاره التي كانت تنزل بهم، و تفسد أمرهم، و تشمت عدوهم، و كانوا يسعون اليها على عمد و علم، و اللّه قد أقامهم حتى يحافظوا عباده و يمنعوهم من الفساد، و لا يمكنوا من غفر حمار يهودي، و هم يمكنون من أنفسهم و عيالهم على علم، و اللّه يقول: «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «2» و يقول: «وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «3» «وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ» «4» و يقول في قصة سليمان صلّى اللّه عليه و سلم: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» «5» يقول عز و جل: إن الجن و عفاريتها كانت تدعي علم الغيب، و في الانس من يدّعي ذلك لها، و كان سليمان عليه السلام واقفا بإزائها، و يستعملها في تلك الأعمال الشاقة المؤذية المهينة، و هي تعمل خوفا منه، و هو متكى ء على عصا كانت في يده، فتوفاه اللّه عز و جل على تلك الحال، و الشياطين لا تعلم، و هي تعمل و تظن أنه يراها و يشاهدها، و كانت إن قصّرت عذّبها، فهي تخاف نكاله بها، فبقيت على هذا حينا من الدهر تظنه حيا و هو قد مات، فلما أكلت دابة الأرض عصاه صلى اللّه عليه،
__________________________________________________
(1) ياسين 69
(2) البقرة 195
(3) النساء 29
(4) النساء 71
(5) سبأ 14
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:538
(1/585)
تبيّنت الجن أنه قد مات مذحين طويل و هو حذاءها و لا تعلم، و لو علمت لانتفعت بهذا العلم، و لتخلصت من العذاب المهين، فإنما يراد العلم بالعواقب لينتفع به، و هؤلاء يدّعون على القوم أنهم كانوا يعلمون العواقب و يلقون أنفسهم في المهالك، و قد بيّن عز و جل أن يوسف صلّى اللّه عليه و سلم لما أعلمه بالعواقب في تلك السنين انتفع بذلك العلم و استعمله، فدفع به المضار، و اجتلب به المنافع، و صار به إلى ملك الأرض، و إلى أن خضعت له الملوك و ألقت تقاليدها اليه فقرت عينه، و عيّن كل وليّ له و سجنت عيون أعدائه و ماتوا كمدا فقال لهم: ستتوالى عليكم سبع سنين خصبة، فلا تغتروا و اخزنوا الطعام، فسيأتي بعدهن سبع شداد قحطة تأكلون فيها جميع ما خزنتم في السبع الخصبة و ليكن ما تخزنونه في سنبله و تبنه لئلا يعفن أو يقع فيه السوس، و لا تخرجوا من السنبل إلا ما تتدبرونه، حين قال لما سأله رسول الملك عن رؤيا الملك.
و اللّه عز و جل يقول: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» «1» بيّن عز و جل، أن العاقل إذا علم العواقب بدأ بنفسه فتحرز من المضار سلم من المكاره، ثم بعد ذلك/ ينتفع غيره إن شاء، ففي وقوعهم في المكاره من أدلّ الدليل على أنهم لا يعلمون العواقب، فلم قالوا لغيرهم: لو أطاعونا ما قتلوا، ما في هذا فضيحتهم. و هذا مثل قصة سليمان مع الجن.
فتأمل ما في هذا الكلام من الحكم البالغة، فإنه و إن كان كلاما في توبيخ الشيع فيما أضافوه إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلم و إلى أهل البيت، ففيه بيان شاف في تكذيب المنجمين و الرد عليهم، فقد قال لهم أبو الهذيل رحمه اللّه حين استدعاه المأمون
__________________________________________________
(1) آل عمران 168
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:539
(1/586)
و سأله الكلام عليهم فقال لهم: أخبروني أيما أيسر عندكم، العلم بما سيكون، أو العلم بما قد كان «1»، فقال لهم: فأخبرونا عما قد كان، إن شئتم بالبصرة، و إن شئتم بالكوفة، و إن شئتم ببغداد، و إن شئتم في هذا القصر، بأن تقولوا في خزانة الكسوة كذا و كذا صندوقا أو رزمة أو عدلا، و في الصندوق الفلاني كذا و كذا قميصا و كذا و كذا قباء، و كذا و كذا عمامة، و فصلوا ما في كل واحد منها، و هو شي ء قد كان و وجد، و عرفه الخزان و الفراشون، و لكم الكلام. فسكتوا فما أحاروا جوابا، و هذا شاف كاف بل زائد على الكفاية فما تحتاج معه إلى غيره في بيان فضيحتهم، فاعرف ذلك.
[الرد على أن النجوم تدل على ما كان و يكون، أو أن الأئمة يعلمون الغيب ]
و كذا قال لهم أبو الفضل جعفر بن حرب رحمه اللّه: إذا قلتم إن النجوم تدل على ما كان و يكون، و ما هو موجود و معدوم، فما يمنعكم أن تستدلوا على كنوز كسرى و قيصر فتستغنوا بها عن خدمة الملوك، و طلب ما في أيدي الناس، و التذلل لهم لأجل ما عندهم، و كذلك معادن الذهب و الفضة و الغوص على الدر، فيجعلون للملوك عليه الجعل الثمين، و يخبروهم بمبلغ ما فيها. و قد سألهم أبو علي الجبائي عن مثل هذا، و سألهم أصحابه، و هذا ما لا حيلة لهم فيه، و إنما أنطق هؤلاء القرآن و ما نبه اللّه عليه/ عباده مما تقدم ذكره، فعليك بمداومة درسه و الفكر فيما تدرسه و التدبر له، و لو كان للمنجمين فطنة الشيع و ما عندهم لما انقطعوا في يد أحد، فإنهم كانوا يقولون: قد علمنا ما كان و ما يكون و لكن لا نقول، و نخطى ء على عمد، و نفضح أنفسنا على عمد، و نشمت أعداءنا على عمد، و لو شئنا لا ستغنينا و أغنينا من شئنا و لكن لا نفعل على ضرب من التدبير. و على قول الشيع لا يفتضح كذاب، و لا تقوم حجة على محتال و كذاب و متكهن و متنبى ء، فإن كل واحد من هؤلاء يقدر أن يقول أنا نبيّ، و لو شئت لأحييت الموتى و أخبرت بالغيوب، و لكن لا أفعل لضرب
(1/587)
__________________________________________________
(1) لعل هنا نقصا تقديره: «فقالوا بل العلم بما قد كان»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:540
من التدبير، و لمحنة امتحني اللّه بها كما تقول ذلك الشيع في أئمتها، فلا يكون للشيعة معهم كلام، و لا من قولهم انفصال.
فأما أنت رحمك اللّه، فلو قال لك قائل من المنجمين أو المحتالين المتكسبين هذا لكان من جوابك أن تقول: أنا أعلم أنك تكذب لأنك مضطر ملجأ إلى أن تغني نفسك و عيالك، و إلى أن لا تفضح نفسك و تشمت عدوك، فأنت لا تعلم شيئا مما ادعيت و لا تقدر عليه، و لا تجد سبيلا اليه.
و العجب أن الشيع تزعم أن اللّه أطلع الأئمة على هذه الغيوب لأنهم حجج اللّه على خلقه، و لتقوم حجتهم عليهم بهذه العلوم، ثم لا يظهر من هؤلاء القوم شي ء مما يدّعون مع حاجتهم إلى ذلك، بل أفعالهم تشهد أنهم لا يعلمون ذلك، و أنهم كغيرهم من طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن، فسبيل أمير المؤمنين سبيلهم، بل الأمر في بابه عليه السلام أوضح في كذب هؤلاء عليه في ادعائهم له النص و العصمة و المعجزات، و قد خالفه من ذكرنا و نازعهم و خاصمهم فما احتج بشي ء من ذلك مع حاجته اليه كما تقدم ذكر/ ذلك في غير موضع من هذا الكتاب.
و العجب أن أمير المؤمنين رضي اللّه عنه يسأل عما كان من طلحة و الزبير، فيقال له: قد سارا مع عائشة إلى البصرة، فيعجب و يقول: ما ظننت أنهما يفعلان هذا، و يسأل عن معاوية و أهل الشام و يتعرف بأخبارهم من واحد بعد واحد، و يتعجب من إخراج من بالبصرة عامله عثمان بن حنيف منها بعد أن بايعوه، و أنه ما ظن أنهم يفعلون ذلك، و لما سار إلى البصرة و صار بالربذة قال «1»: من له هداية بذي قار يهديناا و يعرفنا الطريق، فجاء رجل فقال له: أنا من أهدي الناس بذي قار، فسار بين يديه حتى جاء إلى ذي قار.
__________________________________________________
(
(1/588)
1) الربذة من قرى المدينة على بعد ثلاثة اميال في طريق مكة. معجم البلدان
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:541
و لما اشنبكت الحرب بالبصرة قال للحسن ابنه عليهما السلام: يا حسن، أما ترى، ودّ أبوك أنه قد مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة، قال له الحسن: قد أمرتك و خوفتك فعصيتني، فقال: و اللّه يا بني ما ظننت أن الامر يصير إلى هذا.
و كان ابن عباس يقول: كان علي رضي اللّه عنه لسابقته و قرابته يرى أنه لا يخالف و لا يريد أمرا إلا بلغه، فلم يكن كما ظن.
و رأى عليه السلام على بنت له لؤلؤة من المال فعرفها، فانزعج، فقال:
من أين لها هذه للّه، عليّ أن أقطع يدها، فقال له أبو رافع خازنه على بيت المال لما رأى جدّه في ذلك: أنا و اللّه يا أمير المؤمنين زينتها بها، و من أين كانت تقدر عليها لو لم أعطها، فهدأ و سكت.
و دخل على الحسن عليه السلام رجل فقال له: من أنت و من تكون؟ فقال له: أنا رسول معاوية إليك، فقال له: أو هكذا يدخل الناس على الناس، اخرج فاستأذن و سلم، ففعل ذلك و دخل/ بعد أن أذن له، فقال له: في أي شي ء أرسلك معاوية، فقال له: يقول لك أنت من أهل العراق على غرر، قد راسلني «1» رؤساؤهم بأنهم يسلمونك إليّ، و هذه كتبهم، فألقاها بين يديه ليقرأها، فلما وقف على ذلك قال: حتى أعرف ما عند الناس، فخرج و علا المنبر، و جمع الناس، ثم قال: يا أهل العراق، اللّه اللّه في جيرانكم و ضيفانكم من أهل نبيّكم، فبكى الناس، ثم خطبهم فقال: إنه و اللّه ما ثنانا عن قتال معاوية شكّ و لا ندم، و إنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة و الصبر فشيبت السلامة بالعداوة، و الصبر بالجزع، و قد كنتم في مبدئكم إلى صفين و دينكم أمام دنياكم، و قد أصبحتم اليوم و دنياكم أمام دينكم، و إنا كما كنا لكم
__________________________________________________
(1) في الأصل: أرسلني
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:542
(1/589)
و لستم كما كنتم لنا، و قد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون عليه، و قتيل بالنهروان تطلبون بثأره، و الباكي خاذل، و الطالب ثائر، و إن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز و لا نصفة، فإن أردتم الموت ردنا عليه و حاكمناه إلى اللّه، و إن أردتم البقية أخذنا لكم بالوثيقة فنادوه البقية البقية يا أمير المؤمنين، فجلس، و تعجب أن معاوية قد صدق عليهم، و قال: يا أهل العراق سخا بنفسي عنكم قتل أبي و جراحتكم لي و انتهابكم متاعي.
و لما مات معاوية عزم الحسين عليه السلام على المسير إلى الكوفة، أتاه عبد اللّه بن عمر بن الخطاب فسأله عن رأيه، فأخبره أن أهل الكوفة قد راسلوه و بايعوه، فقال له عبد اللّه بن عمر: لا تقبل منهم و لا تسر اليهم، و لا تأمن بني أمية، فإنهم طغاة ضلال طلاب دنيا، لا يبالون من قتلوا، فلا تغتر بأهل الكوفة فإنهم قتلوا أباك/ و خذلوا أخاك، و هم يسلمونك في طاعة بني أمية. فقال الحسين: هذه كتبهم، و قد بايعوني، و أخذ عليهم مسلم بن عقيل البيعة لي، و كاتبوني بالقدوم عليهم، و أنهم ينصروني؛ و ابن عمر يقول له لا تثق بهم فإنهم يسلمونك، و الحسين عليه السلام يكذب عنهم و يذكر ثقته بهم، و أنه قد راجعهم و وبخهم بما كان منهم، و أنه وثق منهم أنهم لا يسلمونه و لا يصنعون به ما صنعوا بأبيه و أخيه، فلما رآه ابن عمر واثقا بهم لا يقبل منه فيهم، قال له: استودعك اللّه من قتيل.
و أتاه عبد اللّه بن عباس فنهاه عن المسير اليهم، و قال له نحو قول ابن عمر، فأخرج كتبهم و أقرأه إياها، يقولون: قد اخضرّ الجناب فأقدم، فإنما تقدم على جند مجنّد. فقال له ابن عباس: لا تقبل منهم، فإنما يدعونك إلى القتال و هم يسلمونك، و الحسين يقول: ما كانوا ليفعلوا هذا و قد بايعوني و عاهدوني و هذه كتبهم، و أشار إلى خرج مملوء بكتبهم، فقال له لا تفعل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:543
(1/590)
فإنهم لا يفون. فلما رآه ابن عباس لا يقبل منه قال له: فلا تسر بعيالك معك فتقتل و هم يرونك.
فسار بعياله معه واثقا بهم ليستوطن الكوفة، مسرورا مستبشرا بأنه لا يلقى قتالا، و لا من أهل الكوفة خلافا و لا غدرا، و أنه يدخلها مع عياله بغير دافع و لا مانع.
و لم يكن عبيد اللّه بن زياد بالكوفة بل كان بالبصرة، فسار إلى الكوفة فأخذ مسلم بن عقيل فقتله، و قتل هانى ء بن عروة المرادي، و الحسين قاصد إلى الكوفة لا يعلم بشي ء من ذلك. و أرسل أخاه من الرضاعة إلى الكوفة ليعرّف مسلم بن عقيل و أهل الكوفة بأنه عليه السلام قد سار اليهم و قرب منهم، فأخذه عبيد اللّه بن زياد فقتله، و الحسين عليه السلام لا يعلم بشي ء من ذلك.
فلما قرب من الكوفة لقيه من قد جاء من الكوفة يريد البادية، فسأله عن الخبر فأخبره بقتل مسلم و هانى ء و الرضيع، و أن أهل الكوفة ما دافعوا عبيد اللّه بن زياد عنهم، و أنه قد تمكن. فبقي عليه السلام كئيبا حزينا، و صار في نسائه مأتم بمسلم ابن عمه و كان زوج أخته، فقال له من لقيه: ارجع، فقبل منهم و هم بالرجوع. فقال له بنو عقيل إخوة مسلم: يقتل أخونا و نرجع و ما أخذنا بثأرنا، سر بنا حتى نلقى أهل الكوفة. فسار معهم و ظنّ أن أهل الكوفة إذا رأوه نصروه و صاروا معه على ابن زياد، و هو يسير و كل من يلقاه يقول له: ارجع فإن أهل الكوفة قد غدروا بك، و هو يظن أنهم إذا رأوه صاروا معه.
فلما قرب من الكوفة وجّه عبيد اللّه بن زياد بأهل الكوفة فأحاطوا بالحسين و منعوه من الرجوع، فقال لهم: ويلكم بكتبكم جئت، و منكم قبلت،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:544
(1/591)
و ناداهم يا فلان ابن فلان، و يا فلان ابن فلان، هذا كتابك، قد كنا ساكتين و عدونا عنا ممسك، فسللتم علينا سيفا كان مغمودا عنا، و فعلتم و فعلتم، فما زالوا يحاربونه، و عياله يضجون و يبكون، و من معه من إخوته و ولده و بني عمه يقتلون، و هو يبكي و يذكر قول ابن عمر، و كلما ضج نساؤه يقول:
لا يبعد اللّه ابن عباس، و قد أيقن بالقتل، و هو يودع عياله و يوصيهم بأن لا يشقوا عليه جيبا؛ و لا يظهروا «1» عويلا، و أخته زينب تقول له: يا أبا عبد اللّه، يا أبا عبد اللّه، أنا الفداء لك، أتغتصب نفسك على القتل،/ و يقول كيف أصنع يا أخيّة، اصبري و احتسبي، قتل أبي و هو خير مني، و مضى أخى و هو خير مني، و يحتسب على أهل الكوفة و أنهم غروه و كذا أبوه، و يندم على قبوله منهم و على قدومه، و أنه ما علم أنهم لا يفون، و أنه ليته لم يقدم، و أنه حين قدم لم يقدم بعياله. و كم مثل هذا من أفعالهم و أقوالهم لو أردت أن تحصيه لاحتجت فيه إلى الطوامير الطوال «2»، ثم كنت لا تأتي على جميعه لكثرته.
و العلم بأن هؤلاء كانوا يحتاجون إلى المعرفة بما في نفس عدوهم و وليهم مثل غيرهم من الناس أقوى من العلم بأنهم يحتاجون إلى الطعام و الشراب.
[الرد على ما تدعيه الشيع من المعجزات لعلي رضي اللّه عنه و أئمتهم من بعده و بيان أن عليا كان منكرا لمثل هذه الأقوال إنكارا شديدا]
و لا يزال هؤلاء الشيع يقولون: الدلالة على أن أمير المؤمنين خير من أبي بكر و عمر و أن المعجزات كانت تظهر عليه، أن قوما في زمانه قد ادّعوا فيه أنه إله العالمين و رب السموات و الأرضين، و أن مثل ذلك ما قيل في أبي بكر و عمر.
قيل لهم: فقد ادّعى قوم من الهند و العرب و غيرهم في الأصنام و البددة أنها آلهة و أرباب و عبدوها، و ادّعى قوم في الكواكب مثل ذلك، فينبغي على
__________________________________________________
(1) في الأصل: يظهرون
(
(1/592)
2) الطامور و الطومار: هو الصحيفة و هو لفظ فارسي الأصل. لسان العرب مادة: طمر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:545
قياسكم أن يكون قد ظهر منها آيات و معجزات، و أن تكون خيرا من الأنبياء و قد ادعى قوم لخلق بما تقدم ذكره.
و من عجيب الأمور، أن أفعال هؤلاء و أقوالهم، تشهد بأنهم عليهم السلام ما ادّعوا ما تدعيه الشيع لهم من النصوص و الوصايا و المعجزات، و قد تيقن ذلك كل متوسم و متأمل، فقالوا: ننصرف عن هذا كله لقول جاهل لا يعرف الربوبية من الانسانية، فإن الذي ألقى هذا في عسكر أمير المؤمنين إلى قوم جهال لا يعرفون عبد اللّه بن سبأ «1»، و هو/ المعروف بابن السوداء، و كان يهوديا من ناحية اليمن، و كان خبيثا منكرا، فأظهر الإسلام في زمن عثمان، و سار حتى أتى الحجاز، و أظهر التقشف و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الاختلاط بالمسلمين. و كان يطلب الرئاسة فلم يقم له سوق، و لم يؤبه له. فرحل إلى الكوفة فأقام مدة يطلب ذلك، فلم يقم له سوق فرحل إلى الشام و أقام يطلب ذلك و اختلط بالصحابة، و تقرب إلى أبي الدرداء، و عبادة ابن الصامت، بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ففطن أولئك له فنهوه، و أوقع بين أبي الدرداء و بين قوم بالشام شرا، و تبين أمره بالشام فرحل إلى مصر، و كان على هذا، و اغتر به قوم فأوقع خلافا بين الناس، و وافى عمار ابن ياسر رسولا لعثمان إلى مصر، فحمل أقواما على أن بلغوا عمارا رحمه اللّه عليه من بمصر عن الولاة مكروها، فثار من ذلك فتنة
و سار ابن السوداء هذا إلى المدينة مع المصريين الذين تظلموا من عمال عثمان، و أقام بالمدينة معهم، و ما زال يغري بعثمان إلى أن اغتاله قوم من المصريين، فتسلقوا عليه في السحر فقتلوه، و قاتله لا يعرف إلى هذه الغاية.
__________________________________________________
(
(1/593)
1) كتب في هامش الصفحة: أول من ألقى في عسكر علي بن أبي طالب أنه إله العالمين، عبد اللّه بن سبأ المعروف بابن السوداء اليهودي.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:546
ثم وثب المصريون، فأثاروا فتنة عظيمة بعد قتل عثمان، و لما نفر طلحة و الزبير و عائشة من أفعالهم و صاروا إلى البصرة، راسلهم أمير المؤمنين بالقعقاع بن عمرو، و بابن عباس، و بمحمد بن حاطب، و بكليب الجرمي، و اصطلحوا على أن يصير أمير المؤمنين إلى البصرة و يجتمعون و ينظرون، فدس ابن السوداء أصحابه و قال لهم: أوقعوا الفتنة حتى تنشب الحرب، فإنهم إن اصطلحوا فما يصطلحون إلا عليكم، فكانت الفتنة، و كل هذا فقد ذكره غير/ واحد من العلماء و شرحوه طويلا مفصلا، و حاله هذه معروفة.
و كان بالكوفة يظهر تعظيم أمير المؤمنين بما لا يرضاه أمير المؤمنين و يستغوي بذلك من ليست له صحبة و لا فقه في الدين، و كالبوادي و أهل السواد، و يتحدث بينهم، و ربما استقصر عندهم فعل أبي بكر و عمر و عثمان، و يقدم أمير المؤمنين عليهم في الفضل، لأنه كان يدعي ما ادعاه أبو الخطاب و هشام بن الحكم. و كان يدّعي عند أمثال هؤلاء أن أمير المؤمنين يستخصه و يخرج اليه بأسرار لا يخرج بها إلى غيره، و أمير المؤمنين لا يعلم بذلك.
و لقد قال قائل لأمير المؤمنين عجبت لقوم كنت فيهم كيف ولّوا عليهم و عليك غيرك؟ فقال له أمير المؤمنين: أرأيت أبا بكر الصديق؟ قال: لا، قال أما إنك لو قلت لي أنك رأيته لفعلت بك و فعلت.
و كان ابن سبأ هذا يقول لأصحابه: إن أمير المؤمنين قال لي: إنه يدخل دمشق و يهدم مسجدها حجرا حجرا، و يظهر على أهل الأرض و يكشف له أسرارا و يعرفهم أنه ربهم، و ليس لهذا كأبي بكر و عمر و عثمان.
و لقد أتى أمير المؤمنين رضي اللّه عنه سويد بن عقلة، و كان من خاصته و كبار أصحابه، فقال له: يا أمير المؤمنين، مررت بنفير من الشيعة يتناولون
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:547
(1/594)
أبا بكر و عمر بغير الذي هما من الأمة له أهل، و يرون أنك تضمر لهما على مثل ما أعلنوا، فقال: أعوذ باللّه أعوذ باللّه، مرتين، أن أضمر لهما إلا الذي أتمنى المضي عليه، لعن اللّه من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، أخوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و صاحباه و وزيراه، رحمة اللّه عليهما./ ثم نهض دامع العينين يبكي، قابضا على يدي سويد، حتى دخل المسجد، فصعد المنبر فجلس عليه متمكنا، قابضا على لحيته، و هي بيضاء، حتى اجتمع الناس. ثم قام فتشهد بخطبة موجزة بليغة، ثم قال: ما بال أقوام يذكرون سيّدي قريش و أبوي المسلمين بما أنا عنه متنزه، و مما قالوا برى ء، و على ما قالوا معاقب، أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة، لا يحبهما إلا مؤمن تقي، و لا يبغضهما إلا فاجر ردي ء صحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على الصدق و الوفاء يأمران و ينهيان، و يقضيان و يعاقبان، فما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و كان لا يرى مثل رأيهما رأيا، و لا يحب كحبهما أحدا، مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و هو عنهما راض، و مضيا و المؤمنون عنهما راضون، أمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أبا بكر على صلاة المؤمنين، فصلى بهم تلك الأيام في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فلما قبض اللّه نبيه عليه السلام و اختار له ما عنده، مضى مفقودا صلّى اللّه عليه و سلم، ولاه المؤمنون ذلك، و فوضوا إليه الزكاة لأنهما مقرونتان، ثم أعطوه البيعة طائعين غير مكرهين، أنا أول من سنّ له ذلك من بني عبد المطلب و هو لذلك كاره، يودّ لو أن بعضنا كفاه، فكان و اللّه خير من بقي رأفة، و أرحمه رحمة، و أيبسه ورعا، و أقدمه سلما و إسلاما، شبهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بميكائيل رأفة و رحمة، و بإبراهيم عفوا و وقارا، فسار فينا سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، حتى قبضه اللّه على ذلك.
(1/595)
ثم ولىّ الأمر بعده عمر، و استأمر/ في ذلك المسلمين، فمنهم من رضي و منهم من كره، فلم يفارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، و أقام الأمر على منهاج النبي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:548
صلّى اللّه عليه و سلم، يتبع أثرهما كاتباع الفصيل أثر أمه، و كان و اللّه رفيقا رحيما لضعفاء المسلمين، و بالمؤمنين عونا و ناصرا على الظالمين، لا تأخذه في اللّه لومة لائم، ضرب اللّه بالحق على لسانه، و جعل الصدق من شأنه، حتى إن كنا لنظن أن ملكا ينطق على لسانه، أعز اللّه باسلامه الاسلام و جعل هجرته للدين قواما، ألقى اللّه له في قلوب المؤمنين المحبة و في قلوب المشركين المنافقين الرهبة، شبهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بجبريل فطنا غليظا على الأعداء، و بنوح حنقا مغتاظا على الكفار، و الضراء على طاعة اللّه آثر عنده من السراء على معصية اللّه، فمن لكم بمثلهما رحمة اللّه عليهما و رزقنا المضيّ على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا بالحب لهما، و اتباع آثارهما، فمن أحبني فليحبهما، و من لم يحبهما فقد أبغضني و أنا منه بري ء، و لو كنت تقدمت اليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة، فمن أوتيت به بعد هذا اليوم فإنه عليه ما على المفتري، ألا و خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر، ثم اللّه أعلم بالخير أين هو، أقول قولي هذا و أستغفر اللّه لي و لكم.
فإن قالوا: لا نصدق بهذا، قلنا: العجب أنكم تصدقون قوله عليه السلام:
من كنت مولاه فعليّ مولاه، و لا تصدقون بهذا و مجيئه أقوى من مجي ء ذاك.
و الحال التي وصفها أمير المؤمنين في هذا الحديث بيّنة معلومة قد شهد بها العقل، و قد تقدم بيان ذلك، و إنما ذكرنا هذا عند ذكركم للتفضيل و تعلقكم بصحته/ مما ادعته السبئية أصحاب عبد اللّه بن سبأ، و هو ابن السوداء.
(1/596)
و لقد قال أبو القاسم البلخي في كتابه الذي نقض به اعتراض ابن الراوندي على كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في أن القرآن سليم من الزيادة و النقصان: إن قول أمير المؤمنين: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر «1»
__________________________________________________
(1) في الأصل: أبي بكر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:549
و عمر قد جاء مجيئا لا ينكره من له في العلم نصيب، و ذكر جماعة ممن رووا فضلهم و نبلهم و كثرتهم و جلالتهم ثم قال: و لكن عندنا ما أراد نفسه.
ثم ذكر أبو القاسم رحمة اللّه عليه أن شريك بن عبد اللّه كان من كبار الشيعة «1»، و كان يقول: خير هذه الأمة أبو بكر و عمر و هما خير من عليّ، و لو قلت غير هذا ما كنت من شيعة علي، لأنه قد قام على هذه الأعواد فقال:
ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر، فنكذبه، و اللّه ما كان كذابا.
قال أبو القاسم: الخبر صحيح، و لكنه عندنا مخصوص، و لم نقصد لذكر ما قاله أمير المؤمنين في فضلهما، فإن ذلك أوضح من الشمس و هو كثير، و له كتب كثيرة مفردة طويلة، و إنما ذكرنا هذا عند ذكر عبد اللّه بن سبأ و ما كان منه. و بما أفسد به على أمير المؤمنين، و ربما ألقى عبد اللّه بن سبأ هذا ما ألقاه، و ظهر إلى قوم كان يلقيه اليهم من أنه إله، و استتابهم أمير المؤمنين فما تابوا فأحرقهم، و كانوا نفيرا يسيرا، و نفى عبد اللّه بن سبأ عن الكوفة إلى المدائن، فلما قتل أمير المؤمنين عليه السلام قيل لابن سبأ قد قتل و مات و دفن فأين ما كنت تقول من مصيره إلى الشام؟ فقال: سمعته يقول: لا أموت حتى أركل برجلي من رحاب الكوفة فأستخرج منها السلاح و أصير إلى دمشق، فأهدم مسجدها حجرا حجرا، و أفعل و أفعل، فلو جئتمونا بدماغه مسرودا لما صدقنا أنه قد مات./ و لما افتضح بهت، و ادّعى على أمير المؤمنين ما لم يقله.
(1/597)
و الشيع الذين يقولون بقوله الآن بالكوفة كثير، و في سوادها و في العراق كله يقولون: أمير المؤمنين كان راضيا بقوله، و بقول الذين حرقهم، و إنما
__________________________________________________
(1) يقصد بأبي القاسم: عبد اللّه بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي، من كبار المعتزلة، له آراء و مقالات انفرد بها، أخذ عنه قاضي القضاة عبد الجبار كثيرا في كتابه طبقات المعتزلة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:550
أحرقهم لأنهم أظهروا السرّ، ثم أحياهم بعد ذاك. قالوا: و إلا فقولوا لنا لم لم يحرّق عبد اللّه بن سبأ؟
قلنا: عبد اللّه ما أقر عنده بما أقر أولئك، و إنما اتهمه فنفاه، و لو حرّقه لما نفع ذلك معكم شيئا، و لقلتم إنما حرقه لأنه أظهر السر.
(1/598)
و أنت رحمك اللّه، إذا شاهدت الإمامية مع هؤلاء و مع من يقول في أمير المؤمنين و ولده أنهم أنبياء، فإن الإمامية تقول لهم: قد كان هؤلاء الأئمة بين الناس فما ادّعوا النبوة، فيقولون لهم: قد كانوا بين الناس فما ادعوا و لا أظهروا ما يدّعون عليهم من الإمامة و النص و الوصية و العصمة و الآيات و المعجزات، فإن كان ما يقولون لنا من أنهم ما أظهروا النبوة حجة، فهذا حجة عليكم لمن خالفكم، فإن قلتم: قد أظهروا ما يدّعون بهتم الناس و ليس مع المباهتة مناظرة، و قلنا لكم: أيضا قد أظهروا ادعاء النبوة، فإن قلتم بالعقل قد علمنا أنه لا بد من إمام معصوم، قلنا لكم: بالعقل علمنا و بالسمع جميعا أنه لا تخلو الدنيا من نبيّ موجود فيها قائم العين و لا تقوم شريعة نبيّ إلا بنبيّ مثله، و لا يبلغ شريعة نبيّ إلا نبيّ مثله، و قد قال اللّه: «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا» «1» و قال: «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً» «2» فإن قلتم: هذا انصراف عن الضرورات بالظواهر و التأويلات، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: لا نبيّ بعدي، قلنا: فما حالنا نحن و قد ادعينا/ ذلك، فإن ادعيتم علينا المكابرة ادّعينا عليكم مثله، و بعد فنحن ندّعي أن هؤلاء القوم قالوا لنا و لسلفنا أنهم أنبياء و قد ذكرنا لكم بحجة العقل و حجة السمع، فكيف يريد النبي أنه لا نبي بعده. و أيضا فنقول لكم: ما في العقل وجوب إمام معصوم، و إنما هو ظن يظنونه بما ألقاه هشام لكم، و قد بينا لكم
__________________________________________________
(1) المؤمنون 44
(2) المؤمنون 51
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:551
(1/599)
من أفعال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أقواله، و أفعال أمير المؤمنين و أقواله، أن الإمامة بالاختيار، و أن الإمام يجوز أن يخطى ء و يعصى. فإن قلتم لنا: أنتم كفار عندنا. قلنا لكم: هذا أول انقطاعكم و أيضا فإنكم عندنا كذلك، فإنه لا حجة تقوم لكم، و نحن نروي أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال لعليّ: لا نبيّ بعدي إلا أنت و ولداك، فإن قلتم هذا كذب ولدتموه، قالت لكم المعتزلة و الفقهاء و أصحاب الحديث: قولكم: إنه لا بد من نص و وصية من النبيّ، و بيان شخص الإمام، و أنه معصوم، و أن الآيات قد ظهرت عليه، شي ء وضعه هشام و فرية ابتدعها، و العقل و السمع يشهد بكذبه، فلا يجدون فصلا، و إذا كلم هؤلاء الإمامية من يقول أمير المؤمنين إله فإنهم ينقطعون في أيديهم أيضا كما انقطعوا في أيدي الذين قالوا إنه نبيّ، لأنهم إن قالوا: لهم جسم لا يكون قديما قالوا لهم فهشام بن الحكم و أمثاله من الإمامية يقولون في اللّه إنه جسم ذو نهاية، و أنه نور و أنه يتحرك و يرى و يلمس، قالوا: و العقل يشهد بذلك.
قالوا: و مع هذا فإنا أخذنا هذا عن الأئمة بالمشافهة، قالوا لهم: دعوا ما حكته المعتزلة عن هشام و أصحابه في أن اللّه جسم و نور يتحرك و يرى و يصعد و ينزل و يلمس و أنه لا يعلم الشي ء قبل أن يكون، و خذوا فيما حكاه عنهم أبو عيسى الوراق و ابن الراوندي و أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي و أبو سهل النوبختي و السوس النجردي، و أمثالهم من الإمامية، و كتبهم مملوءة بذلك، و يذكرونه عن كل من سبق و تقدم من الإمامية، و كذا أيضا يذكرون عنهم القدر، قالوا لهم: و نحن نروي أن أمير المؤمنين قال في خطبته و على منبره: أنا رفعت سماءها و حفرت بحارها و نصبت جبالها، فإذا قالوا لهم: هذا لا يصح، قالوا: هذا أصح من قول النبي: (من كنت مولاه فعليّ مولاه) فيقول الإمامية لهم: فقد قال: أنا عبد اللّه و أنا أخو رسول اللّه،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:552
(1/600)
قالوا: ما هكذا قال، قد حرفتم القول، إنما قال أأنا عبد اللّه، أأنا أخو رسول اللّه، على طريق الإنكار لقول من يحكي هذا عنه، فينقطع الإمامية في أيديهم.
و هؤلاء يروون عن أبي الخطاب محمد بن أبي زينب قال: كنت عند جعفر بن محمد فأستأذنت عليه، هذه الإمامية الذين يقولون فيه إنه إمام و حجة اللّه على أهل زمانه، فقال: ائذن لهم، عليهم لعنتي و غضبي، فلما دخلوا قطع الكلام الذي كان يتكلم به قبل أن يدخلوا، فلما خرجوا أتبعهم اللعن و قال: يا أبا الخطاب، ما خلقت خلقا أبغض إلي من هذه الإمامية، و إني لأتقيهم أكثر مما أتقي الناصبة، و اتبعهم اللعن و قال: يا أبا الخطاب، أنا إلهك و أنت رسولي إلى خلقي. و كان أبو الخطاب إذا لبّى يقول: لبيك جعفر لبيك.
و إنما أوردنا هذا لأنه مثل ادعاء الإمامية و روايتهم أن أمير المؤمنين و ولده كانوا يدّعون أنهم يعلمون الغيب و ما في نفس عدوهم و وليهم، و يظهرون المعجزات، و يدّعون العصمة، فليس لكذبهم عليه غاية، و في كل حين قد ولّد أهل ذلك العصر من الإمامية على أهل البيت غير ما ولده من قبلهم. و يدّعون أن هذا مما قاله النبيّ عليه السلام و نص عليه و مما هذا سبيله. و قد أذاعوه في هذا العصر و وضعوا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: إن بنتي فاطمة أحصنت فرجها فحرم اللّه ذريتها على النار، فلا يجوز أن يدخل النار أحد من ولد فاطمة. فأعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يطعنون عليه بمثل هذا. قلنا: لو كان هذا من نصوصه لجاء مجي ء أمثاله ممن نصّ عليه صلّى اللّه عليه و سلم أنه لا يدخل النار و أن النار لا تمسه مثل آدم و نوح و سائر الأنبياء صلوات اللّه عليهم، بل كان يجب أن يكون العلم بما ادعوه لولد فاطمة عليها السلام أقوى من العلم بنصه على أولئك، لأن عهد هؤلاء
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:553
(1/601)
أقرب من عهد أولئك، و هم خلق كثير و أمم عظيمة، أحياء بين الناس، و هذا نص فيهم و حجة لهم، فالعلم به كان ينبغي أن يكون أقوى، فلما لم يكن كذلك علمت أنه أمر لا أصل له، و هو كادعائهم النص و العصمة و المعجزات لأئمتهم.
[حول قولهم بأن اللّه حرّم ذرية فاطمة رضي اللّه عنها عن النار]
و لقد قال عظيم من ولد فاطمة عليها السلام و ملك من ملوكهم لأبي عبد اللّه محمد بن علي بن زيد بن رزام الطائي الكوفي: نحن أمرنا على يقين، فإن فاطمة أمنا حصنت فرجها فحرم اللّه ذريتها على النار، فقال له ابن رزام فهل بلغك أن حواء زنت قط؟ ما كانت إلا حصينة الفرج، فذريتها محرمة على النار، فسكت. و هو كما قال ابن رزام، و في هذا كلام كبير.
و الذي يعرف العلماء أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم، قال: يا فاطمة بنت محمد، و يا صفية عمة محمد، و يا عباس عم محمد، اعملوا لما عند اللّه فإني لا أغني عنكم شيئا «1» لا تأتوني بالأنساب و يأتي غيركم بالأعمال، فمن قعد به عمله لم ينهض به نسبه، إن اللّه لا ينظر إلى صوركم و إنما ينظر إلى أعمالكم، كلكم لآدم و آدم من تراب، و الناس سواء كأسنان المشط، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، فخيركم من اتقى اللّه.
و كم مثل هذا من قوله، و كم في القرآن مثل هذا، و أنت تعرفه، و الذي جعله اللّه في عقول العلماء من عباده هو الذي قاله رسول اللّه لا يجوز غيره، و هؤلاء القرامطة يدّعون أنهم شيعة أهل البيت، و هم فيما بينهم يتواصون بقتل العلوية أين تمكنوا، و يقول بعضهم لبعض: هؤلاء شر من ولد العباس، و أشد في الإدلال على الناس بجدهم من أولئك، و قد سلطهم على الناس. و هذا
__________________________________________________
(1) كتب في هامش الأصل: قال النبي صلى اللّه عليه و سلم لفاطمة و لصفية و للعباس رضي اللّه عنهم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:554
(1/602)
مذكور لهم في البلاغ السابع و النيموس الأعظم الذي فيه حقيقة مذهبهم الذي يخرجون به إلى من قد بلغوه، و هو وصيتهم لأبي طاهر بن سعيد الجنابي.
[حول الادعاء بأن لأهل بيت الرسول خمس أموال المسلمين ]
و مما يذكرونه الآن للناس مما هذا سبيله، قولهم للمعتزلة: إنكم تقولون إن هذا الرجل الذي هو نبيكم قد زهد في الدنيا و حمل أهل بيته عنها، و ولد العباس و ولد أبي طالب لا يتدافعون انهم قد جعل لهم خمس الأرض و خمس ما في أيدي الناس كلهم، حتى يقولوا عظاماؤهم و أغنياؤهم و ملوكهم و أهل الثروة منهم: لنا في أموال الناس كلهم الخمس، حتى الأرملة الفقيرة التي تعيش بغزلها لنا فيه الخمس.
فقيل لهم: لو كان صلّى اللّه عليه و سلم قد نص على هذا و فرضه لجاء مجي ء أمثاله من النصوص، و كان العلم به أقوى من العلم بقسم الصدقات، لقوله: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ» «1» إلى آخر الآية، و من قسمة المواريث بقوله: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ» «2» إلى آخر الآيات، لأن هذا نص في رجال سادة أشراف معروفين، و كان ينبغي أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد قسم فيهم خمس جزيرة العرب فقد ملكها، و أن يكون أمير المؤمنين قد قسم فيهم خمس الأرض فقد كان ملك الإسلام كله إلا كورة فلسطين وحدها، و نفد أمره فيها خمس سنين.
فإن قالوا: قد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ذلك، و فعله أمير المؤمنين حين ملك، قلنا: فقد كان ينبغي أن يكون العلم بذلك حاصلا لمن سمع الأخبار، و يكون أقوى من العلم بدخوله البصرة و محاربته لمن حارب بها، و من دخوله إلى الشام و لمحاربته لمن حارب بها، و من كونه بالكوفة و بالنهروان، و ما كان له مع من
__________________________________________________
(1) التوبة 60
(2) النساء 11
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:555
(1/603)
حاربه بها، لأن قسمة ما ادعوه فعل يتكرر على رجال و نساء صفتهم ما قدمنا، و لا فرق بين من ادعى هذا أو ادعى أنه عليه السلام كان قد أقطع عبيد اللّه اليمن حين ولاه إياها لتكون له و لولده مما يستحقه من الخمس، و كذا فعل بابن عباس حين ولاه البصرة، و بتمام بن العباس حين ولاه المدينة، و بقثم حين ولاه مكة، و بمعبد بن العباس حين ولاه خراسان، و أنه أقطع عقيل ابن أبي طالب أصبهان، و ولد جعفر بن أبي طالب الجبل، و الحسن ابنه مصر، و الحسين عليه السلام عمان و الهند، أو ادّعى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قسم ذلك عليهم في حياته و تقدم إلى أمته بذلك.
و الذي يعرف أهل العلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حرم عليهم الصدقات و أوجبها على أغنيائهم لفقراء المسلمين من ليس من بني هاشم، و جعل للفقراء من بني هاشم من خمس الخمس من الفي ء بمقدار ما يسدّ به الخلة.
و قد كان يمنعهم إذا سألوه، فكان أمير المؤمنين يتحدث بذلك فيقول:
ألا أحدثكم عنا و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، إن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قمّت البيت حتى أثر بثوبها «1»، و طحنت حتى أثر بكفها، و استقت بالقربة حتى أثر بنحرها، فقيل لها: إن أباك قد أتاه سبي و هو يقسمه بين الناس فلو سألتيه خادما يكفيك، فاستحيت أن تسأله، فمشى معها عمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و مشينا معها، فأتيناه و هو مشغول بالنّاس، و طال انتظارنا فرجعنا، فلما فرغ، أخبر بذلك فأتانا، فقال: ما جاء بك يا فاطمة، فاستحيت أن تقول، فقلنا جاءتك يا رسول اللّه لتخدمها من السبي الذي أتاك خادما، فإنها قد قمت البيت حتى أثر بثوبها، و طحنت حتى أثر بكفها، و استقت بالقربة حتى أثر بنحرها، فقال لها: يا بنية أيتام بدر أحق منك، ألا أعلمك ما هو خير لك
__________________________________________________
(1) قم البيت: كنسه اللسان، مادة: قمم
(1/604)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:556
من هذا، تسبحين اللّه كذا و تحمدينه كذا، و ذكر الحديث، و هي قصة معروفة طويلة.
و أتته فاطمة مرة أخرى بالحسن و الحسين، فقال: يا نبي اللّه أنحلهما.
فقال: نحلت هذا الكبير المهابة و الحلم، و نحلت هذا الصغير المحبة و الرضا، فما زاد على هذا.
و كم قد سأله صلّى اللّه عليه و سلم غير واحد من بني هاشم فمنعهم، و تفصيل ذلك يطول، و هو مذكور في كتب العلماء. و ما كان يعطي المحتاجين منهم إلا من خمس الخمس من الفي ء، و ربما دفعه إلى العباس ليقسمه عليهم.
و كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ثلاث صفايا، فكانت أرض بني النضير حبسا لنوائبه، و جزأ خيبر ثلاثة أجزاء، و كانت فدك لأبناء السبيل، فكان عمر ابن عبد العزيز يعجب من إقطاع معاوية إياها مروان بن الحكم و هي لأبناء السبيل، و قد سألته إياها فاطمة بنته صلّى اللّه عليه و سلم فمنعها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب الناس فقال: إن فدك كانت مما أفاء اللّه على رسوله، لم يوجف المسلمون عليها بخيل و لا ركاب، فسألته إياها فاطمة رضي اللّه عنها، فقال: ما كان لك أن تسأليني و ما كان لي أن أعطيك. فكان صلّى اللّه عليه و سلم يضع ما كان يأتيه منها في أبناء السبيل.
ثم ولي أبو بكر و عمر و عثمان و عليّ رضي اللّه عنهم فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ثم ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم، فوهبها مروان لأبي و لعبد الملك، فصارت لي و للوليد و سليمان، فلما ولي الوليد سألته حصته فوهبها لي، و سألت سليمان حصته فوهبها لي، فاستجمعتها، و ما كان لي مال أحبّ إلي منها، فاشهدوا أني قد رددتها إلى ما كانت عليه.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:557
(1/605)
فعادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في منع أهله معروفة، و كان يعطي الناس الجزيل الكثير، و يمنع أهله. و لقد سأله رجل غنما ما بين جبلين فأعطاه إياها كلها، و كم من رجل قد أعطاه مائة بعير و أكثر، و كان إذا أتاه المال لا يدخل بيوته حتى يقسمه كله ثم يدخل، و ربما أمسى عنده منه شي ء فيبيت في المسجد إلى أن يقسمه. و كان أصحابه من السابقين الأولين يتذاكرون سيرته صلّى اللّه عليه و سلم في هذا، و أنه كان يأتيه الفي ء العظيم فيمسي و إن بيوته لصفر ما أدخلها حلوا و لا مرا حتى يرد عليه من بيوتنا.
و لقد دخلت من الأنصار امرأة على عائشة فرأت فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلى عائشة بفراش حشوه الصوف، فدخل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: يا رسول اللّه، إن فلانة الانصارية دخلت عليّ فرأت فراشك، و ذهبت فبعثت إليّ بهذا، فقال:
رديه، فلم تردّه، و أعجبها أن يكون في بيتها، فراجعته فقال لها ذاك ثلاث مرات، و كم مثل هذا مع أزواجه في ستر يراه و غيره مما يطول شرحه، و قد عرفت شرطه على أزواجه و ما أنزل اللّه في سورة الأحزاب، و قد تقدم لك ذكر ذلك، و إنما هذا و أمثاله من الأحاديث التي يضعها الملحدة و يتقربون بها إلى بني هاشم ليغروهم بالناس، و ليلبسوا عليهم دينهم، ثم يأتون العلماء فيسألون عنها في المطاعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فيشغبون من كل وجه، فقلّ ملحد إلا و هو يدعي التشيع و يصنف الكتب في نصرة الرفض كما هو معروف، و قد تقدم لك ذكر ذلك. و الذي يجب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم البيان، و ليس يجب عليه ألا يكذب عليه أحد و لا يلزمه ذلك.
و كان أبو الفتح بن فراس الكاتب و هو أحد الشيع و من كبار الإمامية يقول للإمامية: فدك التي أعطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليست تلك النخيلات التي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:558
(1/606)
بالحجاز و إنما فدك التي نحلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فاطمة هو ما سقته الفرات و النيل و دجلة و سيحون و جيحون، فلأولادها يأكلون من مال أمهم، و الشيعة يأكلون من مال مواليهم، و كأنك بهذا قد انتشر و صار له إسناد، و ادّعوا فيه التواتر.
و كان أبو الفتح هذا ينزل ببغداد في الجانب الشرقي في سوق يحيى، و قريبه مات، و كانت الشيع ترجع اليه في الرواية و يعرض عليه شعراؤهم شعرهم، مثل أبي الحسن عليّ بن وصيف الجلاء الذي تسمى بالناشي ء و حمام بن فراس في هذا الموضع معروف [1].
[الرد على الروايات التي زوروها من أن الفروض لا تجب على أهل بيته عليه الصلاة و السلام و شيعته ]
و قد وضعوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: إن الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج لا تجب على أهل بيتي و لا على شيعتي، و لا يحرم عليهم شي ء من هذه المحرمات و إنما هذه عذاب على أعداء أهل النبي و أهل بيته، و ما كان اللّه ليجمع بين أوليائه و أعدائه في الفروض.
و زوّر لهم في ذلك الروايات، و تأولوا في ذلك القرآن، و قد انتشر هذا و انبث و عليه خلق كثير منهم بسواد الكوفة و بالبحرين و ببغداد و بنواحي اليمن و بالشام، و لا يكاد أحد من هؤلاء يصلي إلا إذا حضره الناس و لأجل الناس و في المشاهدة ليغتر به الناس، و بينما ترى الواحد و قد ادّعى التشيع حتى قد تبرأ من أبي بكر و عمر و المهاجرين و الأنصار حتى قد ادّعى أن القرآن مغير و مبدل، حتى ادعى أن له باطنا غير ما عليه العلماء و الفقهاء و العامة، ثم لا يلبث أن يدعي أنه ما يحرم عليه لا زنا و لا لواط و لا ربا، و لا تجب عليه عبادة، إلى غير ذلك مما يطول شرحه. و قد علم كل من سمع الأخبار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أوجب هذه الفرائض على كل عاقل بلغته دعوته، و أنها بركة و رحمة من اللّه على عباده، و أنها لا تسقط عن أحد يستطيعها، و لا يحل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:559
(1/607)
الزنا و الاشتراك في الزوجات و اللواط و غير ذلك لأحد البتة، و أنها على البررة و الخاصة، و العلماء و من أهل البيت أوجب و ألزم منها للعامة الفجرة، و أنها ليست بعذاب على أحد، و أن لمن فعلها و قام بحقوقها و لم يبطلها و لم يحبطها الثواب و المدح و الإجلال و الكرامة في الدنيا و الآخرة. و العلماء يعرفون من سنة محمد صلّى اللّه عليه و سلم أن تكاليفه الثقيلة إنما هي على خاصته و السابقين، و أنه كان يولي على أهل بيته و يلزمهم الطاعة لولاته، فقد ولى عتاب بن أسيد مكة و بها من بني هاشم خلق كثير فكانوا له رعية، و قد ولّى على المدينة في غزواته و أسفاره غير واحد من المهاجرين و الأنصار و بها من بني هاشم و مواليهم رجال كثير و قد ولى زيد بن حارثة على عسكر مؤتة و على جعفر بن أبي طالب، فكان هو الأمير دون جعفر، و قد كان هناك غير جعفر هذا. و جعفر رضي اللّه عنه قديم الإسلام، قديم الهجرة، و قد وّلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عمر بن الخطاب و جعله خليفة/ على عسكره و جيشه يوم الطائف و يوم الفتح و يوم حنين، و كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في ذلك العسكر و في هذه المواطن كلها، و قد ولّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على عسكره و جيشه أبا بكر الصديق في غزوة تبوك، و أقام بالمدينة يحرض الناس على غزو الروم، و في ذلك الجيش الذين أمرهم غير واحد من بني هاشم، و كان أبو بكر يصلي بهم و يأمرهم و ينهاهم.
و لما سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى تبوك قدم أبو بكر و عمر على معظم جيشه و قدمهما أمامه و سار في آخر الناس في نفر يسير، و في ذلك العسكر غير واحد من بني هاشم، و هي قصة معروفة، و فيها يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لمن معه:
كيف ترون الناس صنعوا حين أرهقتهم صلاتهم و فقدوا نبيّهم، قالوا: اللّه و رسوله أعلم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: أ ليس في القوم أبو بكر و عمر، إنهما
(1/608)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:560
سيرشدان الناس، فإن أطاعوهما فقد رشدوا و رشدت أمهم، و إن عصوهما فقد غووا و غوت أمهم، يقولها ثلاثا.
[حول تولية الخلفاء الراشدين صحابة رسول اللّه ]
و قد ولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع و فيه عليّ ابن أبي طالب و غير واحد من بني هاشم، و أبو بكر الأمير و المصلي و الخطيب و الدافع بالناس دون عليّ، و دون أحد من بني هاشم. و قد استخلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أبا بكر الصديق على الصلاة في مرضه، فصلّى ببني هاشم و بالمهاجرين و الأنصار و بالناس كلهم و هناك من بني هاشم خلق كثير، فكانوا في كل ذلك سامعين و مطيعين و ما كلفهم من الشدائد فأعظم، و لمثل هذا قال أمير المؤمنين لمعاوية في كتابه اليه، و قد ذكر فيه الشدائد التي كلفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بني هاشم: فكان إذ حمي الناس و دعي إلى البراز قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أهل بيته فوقّى بهم/ أصحابه حرّ السيف و حرّ الأسنة، فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، و حمزة يوم أحد، و قتل أخي جعفر يوم مؤتة، و قتل زيد بن حارثة يوم مؤتة، و أراد من لو شئت لذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلم غير مرة غير أن آجالهم عجلت و منيته تأخرت، فما سمعت و لا رأيت أحدا هو أنصح و لا أطوع للّه و لرسوله في طاعة ربه، و لا أصبر من أهل بيته، و في المهاجرين خلق كثير يعرفونه لهم، فجزاهم اللّه خيرا.
فتأمل رحمك اللّه هذه السيرة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فإنها ضد سيرة طلاب الدنيا و خطاب الملك في أولاوهم أقاربهم و أهل بيتهم، و في هذا كلام كثير، و قد تقدم له نظائر و أمثال، و قد تقدم ذكر وصاياه لأصحابه في مرضه فارجع اليها و تأملها.
(1/609)
و تأمل حالهم حين قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد خاضوا فيمن الخليفة بعده كما قد تقدم لك فيما كان من بني هاشم و العباس و أبي سفيان مع أمير
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:561
المؤمنين، و ما كان من السقيفة، و قد جرت تلك الخطوب التي قد تقدم لك ذكرها يوم موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم على وجه الأرض لم يدفن بعد، و قد تذاكروا و خاضوا و أدلى كل قوم بما لهم من الفضائل و بما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في كل فريق، و قد تجاذبوا الامارة و فيمن تكون الرئاسة، فانظر كيف أجمعوا كلهم على تزكية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و التسليم لأوامره، و الاقتفاء بأثره، و الطلب لوصاياه فما هناك أحد منهم أظهر معتبة أو شك في شي ء من أمره و أفعاله صلّى اللّه عليه و سلم و لا سأل على طريق الاستفهام عن شي ء من أموره بوجه من الوجوه، هذا و العهد قريب، و فيهم من يريد شرف/ الرئاسة في قومه، فما رجعوا إلا إلى وصاياه في أن يكون في الأخيار من قريش، و هذا موضع يخرج في الأضغان و يظهر الشحناء.
ثم انظر كيف جعلوها فيمن كان يجله و يعظمه و يقدمه، و في أهل السابقة، و هناك من سادات العرب و ذوي الشرف و النخوة و العدد و العدة و كثرة العشيرة و ظهور الثروة ما لا يحصى كثرة، ثم هناك من الأقارب من سادات بني هاشم خلق كثير، و لو لم يكن إلا العباس مع فضله و عقله الذي كان يدعى حليم قريش، و إذا كان حليم قريش و قريش أحلم العرب إذ ذاك و أعقل العرب فهو حليم العرب كلها، فجعلوها في أبي بكر و هو أضعف حيّ في قريش و أقله عددا و أظهر فقرا، فقد كان له مال فأنفقه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و في نوائب الإسلام، حتى لم يكن له ثوب يكفن فيه حين مات فوصّى أن يكفن في أطماره الرثة، فلما قيل له: ألا تشتري لك ثوبا جديدا يكفيك فيه، فقال:
الحيّ أحوج إلى الجديد.
(1/610)
و لما استخلف، غدا إلى السوق و على عاتقه أثواب يبيع و يشتري، فاجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و قالوا: هذا خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أصبح غاديا يبايع
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:562
الناس في الأسواق، و له بشأن المسلمين شغل، و لن يبلغ أحدا خبره من سادات العرب و ملوك العجم إلا احتقروا أمركم، فأتوه و كلموه في ذلك «1»، و قالوا له قولا غليظا شديدا، فقال: إنما أنا كاسب أهلي، فإن أنا أضعتهم فأنا لمن وراءهم أضيع، و قد كرهت أمركم و حرصت أن أكون وزيرا فأبيتم إلا بيعتي و أكرهتموني. و كان من أمرهم معه ما هو مذكور.
فتأمل هذه المواطن و المقامات، فكم فيها من دلائل و علامات على سلامة/ النبوة من كل دنس، و طهارتها من كل لبس.
فإن قيل: أو ليس الرافضة تدّعي أن أبا بكر غلبهم و قهرهم، و أنهم في السقيفة اتزروا بالأزر الصنعانية و اقتتلوا على الملك و الخلافة؟ قلنا: قد فرغنا من هذا، و بينّا بطلان هذه الدعوى، و أن القوم الذين اعتقدوا نبوة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و تدينوا بصدقه و اتبعوه بتلك الشرائط التي قدمنا ذكرها، هم الذين اجتمعوا على خلافة أبي بكر و استخلفوه و اعتقدوا إمامته فطهارته، و تقربوا إلى اللّه بطاعته و امتثال وصاياه و أوامره، فلا فرق بين من ادّعى هذا و أن أبا بكر غلبهم و قهرهم و خدعهم و سحرهم، و بين من ادّعى ذلك في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ادعى ذلك في أمير المؤمنين، و من أطاعه و اعتقد إمامته. و لا فرق [بين ] «2» من ادعى أنهم لبسوا الازر الصنعانية أو ادعى أنهم تقاتلوا عليها بالسيوف و الرماح على الخيول، فإن الملك بمثل هذا يؤخذ لا بالأزر، و إنما هذه دعاوى من يريد تشكيك المسلمين في دينهم لتستوي له المطاعن في نبوة نبيهم صلّى اللّه عليه و سلم.
و أهل المعرفة يعلمون أن أبا بكر مضى إلى الأنصار و هم أهل العدد و العدة
(1/611)
__________________________________________________
(1) جاء في الهامش «لما استخلف أبو بكر رضي اللّه عنه غدا إلى السوق على عاتقه أثواب يبيع و يشتري، فاجتمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم»
(2) زيادة مني على الأصل اقتضاها السياق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:563
و البأس و النجدة، و هم أكثر من جميع المهاجرين و جميع قريش الذين بالمدينة و تبعه عمر و أبو عبيدة و سالم مولى أبي حذيفة، فكيف كان يغلب الأنصار بهؤلاء الثلاثة؟ و لو أراد أن يغلبهم بكل من بالمدينة من قريش لما أطاقوا ذلك، و لكن الأنصار رحمهم اللّه طلبوا في بدء الأمر الخلافة فلما بيّن لهم أبو بكر أنه لا ينبغي ذلك رجعوا عنه للّه و ابتغاء وجه اللّه.
قال متكلم الشيع: خدع أبو بكر/ الأنصار بأن قال: منكم الوزراء و منا الأمراء، فأطمعهم ثم غدر بهم، فما استوزر أحدا منهم لا هو و لا من بعده من الخلفاء، فلهذا أجابوه و اتبعوه.
قلنا: هذا من دعاويكم التي لا دليل عليها، و الوزارة التي ذكرها أبو بكر لهم إنما هي المعونة و المؤازرة في طاعة اللّه لمن يلي الأمر من قريش، فهذا زيادة في كلفة الانصار في شدة الوطأة عليهم و المشقة الشديدة فيما ألزمهم من معونة الخلفاء، فأين الإطماع الذي ادعيتم عليهم؟ و هذا الذي شرطه أبو بكر عليهم إلى النفور عنه و إلى الايحاش منه أقرب، فهذه الوزارة التي شرطها عليهم.
و هذا مثل قوله لهم في السقيفة حين قالوا له: اقبل البيعة فأبى، و قال:
(1/612)
ولّوا الإمارة عمر أو أبا عبيدة «1» و دعوني أكون لهم وزيرا، و كذا قال عند وفاته: ليتني يوم سقيفة بنى ساعدة لم أقبل البيعة و جعلتها في عمر أو في أبي عبيدة، و كنت وزيرا لا أميرا يريد معينا، و كذا قال أمير المؤمنين حين مشوا اليه بعد عثمان و قالوا له: نوليك أميرا فابسط يدك نبايعك، فقال: انظروا غيري تبايعوه و أبايعه معكم، و دعوني أكون لكم وزيرا، فلأن أكون لكم وزيرا خيرا من أن أكون أميرا، يريد معينا.
__________________________________________________
(1) في الأصل: أبو عبيدة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:564
و لكن هؤلاء القوم نظروا إلى من يقال له الوزير في زمن ملوكنا ممن يريد سلطان الزمان منه جباية الأموال، و ترتيب أصحاب الضرائب و المواصير في ظلم الناس، و إقامة المستخرجين و المصادرين للناس في ديوان الاستدراك، و تمدحه الشعراء، و يجلس و حوله القيان و أصحاب الملاهي، و له القصور على الأنهار و البحار، كابن كلّس بمصر، و ابن بقية ببغداد، و فلان و فلان بالعراق و فارس، فظنوا أن الوزارة التي ذكرها أبو بكر/ هكذا ينبغي أن تكون، «1» أو ما علموا أن موسى سأل ربه فقال: «وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» «2» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: وزيراي من أهل السماء جبريل و ميكائيل، و من أهل الأرض أبو بكر و عمر، و لو لا فساد الزمان و غلبة الجهل لما كان يجاب عن مثل هذا الكلام.
(1/613)
و بعد فإن العاقل يعلم بطلانه من كل وجه، فإن الأنصار لو كان غرضهم الدنيا لقالوا لأبي بكر: و لم ندع الأمارة و نصير تبعا لك و الدار دارنا و البلاد بلادنا و البادية باديتنا و العدد و العدة فينا و البأس و النجدة لنا، و أنت و صاحبك و جميع قريش جئتمونا هرابا الينا مستجيرين بنا، فما بنا حاجة اليك أن تكون من أتباعنا و حاشيتنا فكيف تكون أميرا علينا، و ما حاجتنا و الدنيا طلبتنا و نيتنا و العاجلة بغيتنا أن نتكلف هذه التكاليف الشديدة التي أتانا بها صاحبك، من الصلاة و الصيام و الزكاة و الحج و المواساة و الحدود و معاداة الأمم و المجاهدة للملوك حتى يقيموا دينه و يتملكوا بشريعته، و نسفك دمانا في ذلك، و نكفر أسلافنا الذين خالفوا دينه و شريعته.
__________________________________________________
(1) ابن كلس: هو يعقوب بن كلس كان أحد وزراء الاخشيديين و هرب إلى الفاطميين و كان من أهم أسباب دخولهم مصر. أما ابن بقية فهو أبو طاهر محمد بن بقية وزر ببغداد سنة 362 ه.
(2) طه 30
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:565
(1/614)
و هذا مثل دعوى من ادعى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خدع المهاجرين و الأنصار بغير ما ادعى هؤلاء عليهم، فقال عز و جل: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» «1» فأخبر عن نياتهم و شهد بصدقهم، و قال في الأنصار: «وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ/ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2» فأخبر أنهم يؤثرون الفقر في طاعة اللّه، و يواسون المحتاجين في ذات اللّه، مع ما بهم من الخصاصة، و شهد لهم بالفلاح، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: لو سلك الناس شعبا و واديا و سلكت الأنصار شعبا و واديا لسلكت شعب الأنصار و واديهم، و قال لهم: إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع، إلى غير ذلك مما قاله فيهم رضي اللّه عنهم.
(1/615)
فهذه الشيع تقول فيهم بخلاف ما دل عليه العقل و بخلاف ما قال اللّه و بخلاف ما قال رسوله، و لكن الأنصار رحمهم اللّه لما علموا أن الإمامة لا تكون فيهم جعلوها في الفاضلين من مهاجرة قريش، و لو أرادوا الدنيا و الملك لكذبوا أبا بكر حين قال لهم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «الأئمة من قريش» أو كانوا يقولون: و إن قال هذا فإنا لا نقبل، فقد كانوا على ذلك قادرين و الغلبة و العز لهم و فيهم، و لو أرادوا الدنيا و الملك لقدحوا في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لكذبوا عليه و لقالوا فيه كما يقول هؤلاء، فتعلم بهذا صحة النبوة و سلامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من كل عيب، و طهارة أبي بكر و المهاجرين و براءتهم في صغير القبيح و كبيره،
__________________________________________________
(1) الحشر 8
(2) الحشر 9
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:566
و إن الأنصار ما أرادوا إلا اللّه و الدار الآخرة في تصييرهم الخلافة في أبي بكر و أمثاله من قريش، و أنهم قدموه لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قدمه، و لقوله صلّى اللّه عليه و سلم:
«ليلني منكم أولو الأحلام و النهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، و لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»»
فكان أبو بكر و عمر هما اللذان يليانه إذا قام لصلاته، و إذا استوى في مجالسه، و لهذا قالوا/ و هم يصفون مجالس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و منازل أصحابه عنده، قالوا: إن كانت حلقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لتشتبك حتى تكون كالأسوار، و إن مجلس أبي بكر منها لفارغ ما يطمع فيه أحد، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، و أقبل اليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بوجهه و ألقى اليه حديثه، و سمع الناس.
(1/616)
و لقد أقبل العباس يوما فتنحى له أبو بكر و أجلسه معه، فعرف السرور في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بتعظيم أبي بكر للعباس، فاعرف هذا فإن الإمامية اليوم يروون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنه كان يلعن أبا بكر و عمر و عثمان و أمثالهم من المهاجرين و الأنصار، و أنه كان يتلو في ذلك القرآن كما كان يتلوه في لعن فرعون و هامان و قارون و إبليس و أبي لهب و أبي جهل، و هذا باب ينبغي أن تراعيه، فإن الأدلة تشهد ببراءة هؤلاء من كل عيب، كما تشهد ببراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و الكلام على الفريقين ممن كشف قناعه في الطعن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و اعتقد افتعاله و احتياله و نسب الطعن عليه بتهمة أصحابه.
و أيضا فإن أبا بكر ما قبض الأموال لنفسه و لا لولده و لا لأصهاره و لا لأهل بيته، و لا أقطعها القواد و الجند فنوجه في ذلك تهمة، و إنما جعلها لأبناء السبيل الذين لا يعرفهم و لا يدري من هم، و إنما هم غرباء فقراء يطرقون و يجتازون.
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «ليلني منكم أولو الأحلام و النهى»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:567
(1/617)
و قد قال أبو علي محمد بن عبد اللّه العلوي المصري الفاطمي الحسيني أفقه أهل بيته في زمانه، و أرواهم لأحاديثهم و أخبارهم، و كان رحمة اللّه عليه من الزهد و النزاهة و العبادة بالمنزلة التي لم يكن في أهل بيته و زمانه مثله، فقال رحمه اللّه: من الدلالة على براءة ساحة أبي بكر الصديق مما رمته/ الرافضة به أنه منع العباس و فاطمة و أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلم أموال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و جعلها في سبيل اللّه، فإنه إنما فعل هذا و تم له و أقدم عليه مدلّا بالحق الذي كان عليه، و لو كان مبطلا لأعطاهم إياها و أكثر منها، لأنه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عزّ، و به تقدم، و به كانت له الرئاسة، و به صار صدّيقا، و أصحابه و أنصاره جعلوه خليفة، فلو كان مبطلا و طالب دنيا لأعطاهم ذلك و أرضاهم بكل ما يقدر عليه ليتم له ما يطلبه من الملك، فليس من الحزم أن يمنعهم هذا المقدار و ينفرهم و يوحشهم لأجل شي ء هذا قدره، و قد كان عاقلا حازما بالأمور عارفا بالأمور لا يدفعه عن هذا من عرفه، فإنما منعهم ذلك لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم منعهموه «1».
ذكر أبو عليّ رحمه اللّه هذا و معناه في رسالته التي بين فيها من الرافضة، و من الناصبة، و من الشيعة.
يزيدك بذلك علما، أن معاوية بعد أن قاتل بني هاشم و قتل منهم و من شيعهم، و ملك الأرض، و استتب له الأمر، حتى ما بقي أحد يقاومه أو يدفعه، جعل لأعدائه من بني هاشم و من كان يخافه من قريش العطاء الجزيل، استكفافا لهم، و ليتم له ملكه، و ليستقيم له أمره و سلطانه. فكان يعطي الحسن و الحسين و عبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنهم لكل واحد منهم في كل سنة ألف ألف درهم، و يقضي حوائجهم، و يتبع ذلك بغيره من الألطاف و الهدايا. و أبو بكر رضي اللّه عنه لم يعطهم شيئا من ذلك، بل كان يعطيهم
__________________________________________________
(1) في الأصل: منعموه
(1/618)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:568
على قدر الحاجة، و يسوي بين الناس كلهم في العطاء.
و لما اتسعت الأموال في زمن عمر، و دوّن الدواوين، و أعطى من شهد بدرا،/ و سوّى بين الموالي و العرب ممن شهدها في ذلك، سألوه الصحابة في أن يجعل للحسن و الحسين مثل ذلك، و كان مقدار خمس مائة دينار، تقربا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و برا به صلّى اللّه عليه و سلم فقد كان يحبهما، فأشاروا عليه بذلك، و أذنوا له فيه، فجرى أمر عمر على ذلك، و عليه عمل عثمان، و عليه عمل أمير المؤمنين حين صارت الخلافة اليه.
و لقد سأل خالد بن المعمر السدوسي أمير المؤمنين في أن يزيدهما رضي اللّه عنهما في عطائهما فلم يفعل، و راجعه، فغضب أمير المؤمنين فقال: ما كنت لأزيدهما على ما فرض لهما عمر، و سأله عبد اللّه بن جعفر في أن يزيد عائشة و هي بالبصرة فقال: ما كنت لأزيدها عما فرض لها عمر. و سأله أخوه عقيل ليزيده على ما فرض له عمر فلم يفعل، و راجعه فلم يفعل. و سأله جعدة بن هبيرة المخزومي و هو ابن أخته أن يعطيه فما زاده على ما فرض له عمر، و قال له أتريد أن يكون خالك سرّاقا. و كان رضي اللّه عنه لا يأخذ في خلافته و سلطانه إلا ما فرض له عمر، و مثل هذا كثير.
فإن قيل: و لم لا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أئمته و أزواجه أنهم لا يرثونه فكانوا لا يحتاجون أن يسألوا أبا بكر؟ قيل لهم: الذي يلزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يقيم الحجة، و يقول، و قد فعل، و عند حاجة أهله إلى ذلك عرفوه و وجدوه قد قاله و علموا ذلك، و من كان الحق طلبته ففي أقل قليل مما ذكرنا كفايه، و لو لم يكن إلا فعل أمير المؤمنين رضي اللّه عنه و شبهه.
و قد علم أهل التحصيل أن فاطمة و أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أحبّ إلى أبي بكر و عمر و عثمان و أولئك السابقين من أولادهم و أسماعهم و أبصارهم، و هم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:569
(1/619)
فتحوا الدنيا و دعوا/ أهلها إلى حب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بني هاشم، و سلموها اليهم. و لم نقل هذا من طريق حسن الظن بهم، و لكن بدلائل العقول التي قد تقدم ذكرها في غير موضع من هذا الكتاب.
و قد سأل موسى أخاه هارون عليهما السلام و أخذ برأسه يجره اليه، ثم رجع اليه حين عرف الجواب عند حاجته اليه. فعير منكر أن تعرف فاطمة و أهل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ما احتاجوا اليه من أبي بكر.
و لم يكن لقائل أن يقول: فلم لا عرف اللّه موسى الحال قبل مصيره إلى أخيه فكان لا يحتاج أن يجر برأس أخيه و يعاتبه ذلك العتاب، و لم لا عرفه وجه الصواب في حرق السفينة و قتل الغلام و إقامة الجدار، فكان لا يحتاج إلى أن يلقى العبد الصالح الذي كان يتعلم منه بذلك الجفاء ثم يعتذر اليه بأنه نسي. و لم لا عرف سليمان عليه السلام حال المرأة الملكة، و لم لا أغناه عن تعريف الهدهد و مساءلته و طول مراجعته؟ و لكن من وضع هذا غرضه ما قدمنا، و عنده أن أبا بكر و عمر و عثمان و أمثالهم و أشباههم من المهاجرين و الأنصار، ما صحبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم للإعلام التي كانت معه، و لا لبصيرة في دينه، و ما اعتقدوا قط نبوته و لا صدقه، و لا انطووا على تعظيمه و إجلاله، و لا عرفوا له قدرا و لا أقاموا له وزنا، و إنما كانوا يراؤونه و يرائيهم، و ينافقونه و ينافقهم، و إنما كان غرضهم الدنيا و العاجلة، و كانوا يتربصون به و ينتظرون موته ليكونوا ملوكا بعده، و أنهم قد اغتصبوا مصلاه و مقامه في حياته و في جوف بيته، و نحّوا خليفته و وصيّه في حياته و بعد موته، و ضربوا/ بنته و قتلوا جنينها في بطنها.
و قد علمت رحمك اللّه على أي وجه كانت إجابتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و متى أجابوه و مالقوه في إجابته، و قد علمت بما تقدم لك في دلائل العقول أنهم قد اعتقدوا نبوته و صدقه، و أن المتأمل يعلم ذلك قبل العلم بنبوته، و يعلم أنه
(1/620)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:570
كان يحبهم، و أنه قد فرض موالاتهم و محبتهم كما فرض بغض أولئك الذين قدمنا ذكرهم، و علمنا أنه لم يكن له حرص في الإمارة إلا بمقدار القيام بحدود اللّه، و أن كل واحد منهم قد تمنع وود أن غيره قد كفاه، فقد امتنع أبو بكر منها و اجتهد أن يكون في غيره فأكرهوه عليها، و لم يكن لعمر فيها رغبة و لا منه لها طلب فاختاره أبو بكر و أدخله فيها، و عاتبه طلحة و غيره على ذلك و قالوا له: عمر رجل مهيب فاستعمل علينا أحمد طريقة في حسن الخلق منه، فقال:
لا، هو خير لكم و أقواكم عليكم. و قال: اللهم إني وليتهم و لم أرد بذلك إلا صلاحهم، و خفت عليهم الفتنة، و قد حضرني من أمرك ما حضر، اللهم عملت فيهم بالعدل جهدي، و آثرت محبتك على محبتي، و اجتهدت لهم الرأي، فوليت عليهم خيرهم لهم، و أقواهم عليهم، و أحرصهم على رشدهم، و لم أرد به صحابة عمر و أنا خارج من الدنيا داخل في الآخرة، فاخلفني فيهم فهم عبادك، و نواصيهم بيدك، أصلح لهم ولاتهم، و اجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبيه نبيّ الرحمة صلّى اللّه عليه و سلم، و هدى الصالحين بعده، و أصلح له رعيته، و أسلم لعمر أن لا يكون تلبس من هذا الأمر بشي ء، و ذلك أن الفارغ من أمر الناس يقبل على شغل نفسه، و أن والي الناس يتعرض فيما لا يدري ما يختم له به في آخر عمره، فإن هذه الدنيا قد/ غرّت من كان قبلكم و تنافسوا فيها فأوردتهم موارد الهلكة، فندموا حيت لا تنفعهم الندامة، قد انقطعت الآمال، و عاينوا أعمالهم، فلا يقبل من محسن عمل و لا من مسي ء نزوع عن خطيئة، فمن استطاع أن يقدم عملا يعيذه اللّه به من مساوى ء يوم القيامة فليفعل.
فما حقد عمر على طلحة ما قاله و لا تنكر له ساعة قط، و لقد جعلها عمر شورى في ستة من غير رغبة كانت من واحد منهم اليه في ذلك و لا مسألة، و لم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:571
(1/621)
يقل أحد من أولئك السابقين الذين لم يدخلهم في الشورى لم لا أدخلتنا فيها، و لا قالوا هذا بعد موته، و لا عيب أحد عليه، و قد جعلهم كلهم لصهيب رعية و هو مولى، فصلى بهم ثلاثة أيام إلى أن استخلفوا عثمان، فما أنكروا ذلك.
لتعلم زهدهم فيها، و أنهم كانوا يرونها مع الكلف الثقيلة، فإذا وجدوا من يقوم بحقوقها و يحمل أثقالها استراحوا اليه و تمنوا مكانه.
و لما دفن عمر، و أخذ أهل الشورى في الانصراف، ناداهم المهاجرون و الأنصار إلى أين أيها الرهط، أما سمعتم عهد أمير المؤمنين، اجلسوا و اختاروا واحدا منكم، فجلسوا ناحية يتشاورون، فقال أبو طلحة الخزرجي: أبرموا أمركم أظنكم تتنافسونها، لقد كنت أرى أنكم تتدافعونها، فتبرؤا من المنافسة فيها، و أنهم إنما يديرون الرأي في واحد منهم.
فتعلم من ذلك أن أمرهم الزهد فيها، و أن الطريف الغريب أن يرغبوا فيها، فردوا الأمر إلى عبد الرحمن ليختار واحدا منهم، فأخرج نفسه و ابن عمه منها، و أخرج الجماعة و اختار عثمان و قال: قد شاورت و نظرت، فما رأيت الناس يعدلون بعثمان أحدا، فبايعه الناس و عبد الرحمن/ و بايعه عليّ بعده، فما أنكر ذلك أمير المؤمنين و لا طلحة و لا الزبير و لا سعد بن أبي وقاص و لا تعتّبوا، و لهذا كان يقول عثمان للذين تنكروا له في آخر عمره: أدخلت في الشورى من غير طلب مني و لا رغبة، ثم اجتمع الناس عليّ من بين أهل الشورى من غير طلب و لا رغبة فبايعوني، فعملت فيهم بما يعرفون و لا ينكرون متبعا غير مبتدع.
و أما أمير المؤمنين رضي اللّه عنه فقد عرضت عليه، و عرضها عليه «1» العباس و بنو هاشم و بنو عبد مناف يوم وفاة النبيّ و بعد عثمان فأباها وردها،
__________________________________________________
(1) في الأصل: على
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:572
و اختلفوا اليه أياما كثيرة فامتنع منها، و مد يده فقبضها و قال: اختاروا غيري أبايعه و تبايعونه.
(1/622)
و ما كان من طلحة و الزبير من المصير إلى البصرة فلم يكن للرغبة في الإمارة و لكن للطلب بدم عثمان، فقد كان حرقوص بن زهير و تلك الجماعة أفحشوا فيما أتوه، و قد كانوا شكوا إلى طلحة عمال عثمان فأعانهم على عثمان، و ظن أنهم صادقين، فتجرؤوا على عثمان بمعاتبة طلحة له و معونته إياهم عليه.
فلما اغتالوه و قتلوه، ندم طلحة أشد الندم على ما كان منه إلى عثمان. و لما نزل هو و الزبير و عائشة و من كان معهم حين ساروا إلى البصرة الجفير أرسل عثمان ابن حنيف الأنصاري عمران بن حصين و أبا الاسود الدؤليّ إلى عائشة فقال:
انطلقا فاعلما علمها و علم من معها، فقالا: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا أعهد عهده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أم رأي رأيتيه، فإن أميرنا بعثنا اليك، فهل أنت مخبرتنا؟ قالت: «1» بلى هو رأي رأيته و اللّه ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، و لا يعطى لبنيه الخمر، إن الغوغاء من/ أهل الأمصار و نزاع القبائل غزوا حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأحدثوا فيه الأحداث و آووا فيه المحدثين، و استوجبوا لعنة اللّه و لعنة الرسول، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا تره، و لا عذر أنا نقمنا عليه ضربة السوط، و موقع النحاية المحماة، و إمرة الوليد و سعيد، فعدوا عليه فاستحلوا منه الحرم الثلاث: حرمة البلد، و حرمة الخلافة، و حرمة الشهر الحرام، بعد أن مصناه كما يماص الإناء «2» فركبوا هذه منه ظالمين، و مزقوا الأعراض و الجلود، و أقاموا بدار قوم كارهين لمقامهم، ضارين غير نافعين و لا مبقين، لا يقدرون على الامتناع و لا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم
__________________________________________________
(1) في الأصل: قال
(2) ماص الإناء: غسله، و في حديث عائشة رضي اللّه عنها في عثمان رضي اللّه عنه، مصتموه كما يماص الثوب ثم عدوتم عليه فقتلتموه. اللسان، مادة ماص
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:573
(1/623)
ما أتى هؤلاء القوم، و ما فيه الناس و راءنا، و ما ينبغي لهم أن يأتوا، و قرأت:
«لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ» «1» إلى آخرها، ثم قالت: غضبنا لكم من سوط عثمان فما أنصفنا عثمان إذ لم نغضب له من سيفكم، فهذا شأننا، معروف نأمركم به و نحضكم عليه، و منكر نحثكم على تغييره و ننهاكم عنه.
فخرجا من عندها فأتيا طلحة فقالا له: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قال: أو لم تبايع عليا؟ قال: بلى، و ذكر شغب المصريين- الذين غزوا عثمان- في البيعة، و قولهم للناس: من لم يبايع قتلناه، ثم قال: و ما أستقيل عليا إن هو لم يحل بيننا و بين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فسألاه، فقال مثل ما قال طلحة سواء. فهذا الذي أخرجهما لا طلب الإمارة و المنافسة فيها. ثم أقاما بالبصرة و ترددت الرسل بينهم و بين أمير المؤمنين، و تقرر الأمر بينهم على أن يقدم أمير المؤمنين عليهم البصرة، و يكون الأمر له، و يستقبلون النظر فيمن غزا المدينة، فأفسد الأمر عليهم ابن السوداء/ و أمثاله، كما تقدم ذكره.
فإن قيل: كيف تقولون ما كان لهم في الإمارة رغبة و هذا عثمان قد قال له عبد الرحمن بن عدس في المصريين ليملأ الكتاب الذي وجدوه عن عثمان إلى عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح في ضرب المصريين المتظلمين و حبسهم، و أن لا يسلم الأمر إلى محمد بن أبي بكر الصديق و لا يلتفت على الكتاب الذي معه، فقالوا له: إمام المسلمين يكتب بضرب المسلمين و حبسهم و يظهر شيئا و يبطن خلافه، فقال: ما كتبت و لا أمرت و لا علمت، قالوا: نصدقك، و لكن تختلع لضعفك عن القيام بها، و لخبث بطانتك. فقال: لا أنزع قميصا قمصنيه اللّه، فما خلعها «2» حتى قتل.
__________________________________________________
(1) النساء 114
(2) في جعلها، في الأصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:574
(1/624)
و هذا علي قد خولف عليه، و رجع أصحابه عنه الذين صاروا خوارج، و أرادوه أن يتوب عن الحكومة أو يعتزل الأمر فما فعل، و قاتلهم و قتلوه و ما نزل عن الخلافة. و قد سأله أهل الشام أن يعتزل لينظروا في الأمر، و فيمن قتل عثمان، ثم يولون الأمر بعد ذلك من يرون، فما اعتزل، و قد خلعه رسوله و صاحبه الذي أرسله حكما في دومة الجندل فما قبل حكمه.
و قد تولاها الحسن فما اعتزل حتى اضطهده معاوية، و قد أرسل الحسين إلى أهل الكوفة و طلبها، و خرج اليهم لأجلها، فلما أحاط به عدوه أرادوه أن ينزل على حكم عبيد اللّه بن زياد و على حكم يزيد بن معاوية و يبايعه و يقر له بالخلافة و يبرأ من الخلافة، فما فعل حتى قتل، فأية رغبة تكون أشد من هذه الرغبة.
قلنا: الذي عمله عثمان و عليّ و الحسن و الحسين هو الصواب، و ما كان يحل لهم أن يختلعوا، و لو فعلوا لعصوا ربهم، لأنهم كانوا أحق بالأمر ممن ينالهم الاختلاع، و هو فرض قد تعين عليهم القيام به، و قد كانوا أدخلوا فيه/ و صحت البيعة لهم، و إنما قلنا إن المهاجرين الأولين لم يكونوا يرغبون فيها إذا وجدوا من أمثالهم من يقوم بها، فأما بعد دخولهم فيها فلا يحل لهم الافراج عنها و تركها لأجل الجهال الذين خالفوهم فيها، بل يجب عليهم مجاهدتهم إذا وجدوا أعوانا، فإذا لم يجدوا كان لهم أن يعتزلوها إلى أن يجدوا أعوانا كما فعل الحسن رضي اللّه عنه حين أسلمه أهل الكوفة.
و ما يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلالة و ولاة الجور إذا وجد أعوانا و غلب في ظنه أنه تمكن من منعهم من الجور كما فعل الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، و كما فعل القرّاء حين أقاموا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:575
مروان، و كما فعل أهل المدينة في وقعة الحرة، و كما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية، و كما فعل عمر بن عبد العزيز، و كما فعل يزيد ابن الوليد بن عبد الملك، فيما أنكروه من المنكر.
(1/625)
و بزهد المهاجرين الأولين في الخلافة كان يضرب المثل كما قد تقدم ذكر ذلك، و عثمان و عليّ رضي اللّه عنهما فما عهدا في أحد البتة و أبو بكر و عمر لما عهدا لم يكن العهد في أحد من أولادهما و لا من أهلهما.
و لما عزم معاوية في العهد لابنه يزيد فرق الأموال، و أخذ له على أهل الشام، و أرسل إلى المدينة و كان أميرها من قبله مروان بن الحكم و أبا زرعة روح بن زنباع الجذامي، ففرق الأموال، و قام مروان في الناس خطيبا و قال لهم: إن أمير المؤمنين معاوية قد جعل لكم ملجأ تلجئون اليه بعده و هو ابنه يزيد فقوموا و بايعوا، فلكم كذا و كذا، و ذكر ما لمن أطاعه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: يا بني أمية إن هذا الأمر كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد كان في أهله من لو جعله فيه لكان أهلا فلم يفعل، و كان لأبي بكر/ و كان في أهله من لو جعله فيه لكان له أهلا، و قد كان في عمر و قد كان في أهله من لو جعله فيه لكان له أهلا فلم يفعل، فأعدتموها يا بني أمية أعجمية، كلما هلك هرقل قام هرقل، فانفلّ الجمع، فقال له مروان: أنت الذي أنزل اللّه فيك: «وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» «1» إلى آخر القصة، فسمعت عائشة من وراء الحجرة فقالت:
كذبت، في غيره نزلت، و أما أنت فقد لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أباك و أنت في ظهره.
فاعرف كم في هذا من معنى و دلالة من وجوه كثيرة منها: أن ولد أبي
__________________________________________________
(1) الأحقاف 17
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:576
(1/626)
بكر و غيرهم ينطقون بالحق في زمن الجبابرة الذين قد أفنوا الأمم بالسيف و مما يكاد أحد ينطق إلا بما يهوون و يريدون، و منها إدلال هؤلاء بصحة إمامة أبي بكر و عمر و براءتها من كل عيب، فما نطق مروان و لا أحد من بني أمية بعيب مع حاجتهم إلى ذلك، و فيهم الملك و لهم الامر، و الذي قد غاظهم و أغضبهم ولد أبي بكر.
و لما حج معاوية أخذ من كان يصلح للإمامة من قريش و من كان يخافهم مثل الحسين و عبد اللّه بن الزبير و ابن عمر، فقال لهم: بايعوا ليزيد، فقال له ابن الزبير: ارض منا بسيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فإنه ترك الناس فاختاروا لأنفسهم بعده من رأوه أهلا لها، أو بسيرة أبي بكر فتنص على رجل مرضيّ عند الأمة ليس من أهلك، أو كما فعل عمر فتجعلها شورى من قوم مرضيين معروفين ليس فيهم أحد من أهلك، فلك و لنا بهؤلاء أسوة. فغضب معاوية، و هددهم، و توعد الناس و قال: لستم في زمن أبي بكر و عمر و إنما هم بنو أمية، من عصاهم أوجلوه السيف، فلاذت تلك الجماعة بعائشة و خافوه على أنفسهم فأرسلت اليه فجاءها و كلمته في أمرهم/ و قالت له: قد كان لمن يقدمك بنون ما ابنك مثلهم، فما رأوا في بنيهم ما رأيت في ابنك، فما زال يخرجها من باب و تخرج معه حتى أيبست ريقه انقطاعا في يديها، إلى أن قالت: إنما هو ملك بباطل تجعلونه بني أمية فيمن تهوونه.
و في هذا مثل ما في الذي قبله و أكثر، قال قائل من الإمامية: أنتم تزعمون أن عليّا كان يرضى سيرة أبي بكر و عمر و قد قال له عبد الرحمن بن عوف في الشورى: أوليك هذا الأمر على أن تقضي بكتاب اللّه و بسنة رسول اللّه و سيرة أبي بكر و عمر قال: أما بكتاب اللّه و سنة رسول اللّه فنعم، و أما سنة أبي بكر و عمر فلا، فما الذي يبقى بعد هذا؟
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:577
(1/627)
قيل له: هذا يبطل من وجوه منها: أنكم تقولون أن عليا رضي اللّه عنه «1»، كان في زمن هؤلاء في تقية و خيفة، يمتثل أمرهم و لا يجسر يردّ عليهم و لا يظهر خلافهم، و كذا كان بعد موتهم، و في سلطانه و خلافته و معه مائة ألف سيف، يقولون: ما جسر أن يظهر مخالفتهم و لا عيبهم و لا الرد عليهم، لأن أعوانه و من كانوا معه كانوا يتدينون بخلافة أبي بكر و عمر و عثمان، فلو عابهم أو اتهموه بعيبهم لقتلوه.
قلتم: إنه خرج من الدنيا و ما أظهر ما في نفسه، و إنه سار في أموال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في خلافته بسيرتهم، و قرأ هذا القرآن، و صلى التراويح، و حيا الأرض كما حيوها، و مدحهم على منابره بالمدح العظيم الذي قد امتلت الكتب به، و إذا سألناكم قلتم: هذا كله صحيح قد فعله عليّ و قاله، إلا أن باطنه فيه خلاف ظاهره، و إنما قاله تقربا إلى أنصاره و أعوانه لأن ذلك كان يعجبهم، و يرون إمامة هؤلاء فقاله خوفا منهم و تقربا اليهم، فكتب أسلافكم مملوءة بأنه قد فعله تقية و خيفة، و الآن تذكرون بأنه قد كاشف في البراءة منهم و من أفعالهم في زمن عثمان و قبل/ أن تصير الخلافة اليه، فأنتم لا تعملون على تحصيل، و لقلة حيلتكم و أنه ليس معكم حجة في مذهبكم (ما) «2» تأتون بالشي ء تظنونه حجة لكم فتنقضون به على أنفسكم من حيث لا تشعرون، ففي هذا كفاية.
[عليّ رضي اللّه عنه استن بسنن أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما و عمل بها]
و منها: أنه قد علم كل من سمع الأخبار أن عليّا رضي اللّه عنه قد استن بسنن أبي بكر و عمر و عمل بها، و أطاعهما حياتهما، و نفذ وصاياهما بعد موتهما، فأطاعهما حيّين و ميتين ألا ترى أنه بايع أبا بكر و عمل له على أموال
__________________________________________________
(1) في الأصل: علي
(2) كذا في الأصل، و نظنها زائدة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:578
(1/628)
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و عمل له على الاتعاب بالمدينة و ضبطها له، و غزا معه، و أشار عليه، و نفذ وصيته في عمر، و أطاعه أحسن طاعة، و خلفه على المدينة غير مرة، و صاهره، و أتى في طاعته و مزضاته ما يطول ذكره، و أدخله في الشورى فدخل، و جعله رعية لصهيب فقبل، و ردّه إلى عبد الرحمن فرجع، و غير ذلك مما يطول شرحه؛ فكيف يقول: لا أسير بسيرة أبي بكر و عمر، أو يصدق عاقل سمع الأخبار مثل هذا الظن؟ و من ذا الذي يدع المعروف المشهور بالمكاتبات و يرجع عن المعروف بمجهول التأويل.
و إنما قال ذلك «1»، لأن كتاب اللّه و سنة نبيه لا يحتمل الزيادة و لا النقص البتة.
و سنة الخلفاء الراشدين أبي بكر و عمر الذي قال له عبد الرحمن هو اجتهادهما في الدين و حياطته و حفظه، و الزهد و العفاف الذي هو مشهور عنهما، فلو قال نعم للزمه الدخول في ذلك من غير زيادة و لا نقص، و قد لا يجد الشخص من نفسه القيام بما يقوم به غيره، ثم الفتيا في المسائل التي ليس فيها نص كتاب و لا سنة و العمل فيها بالقياس و الاجتهاد من الإمام ما كان يمكنه التقليد فيه و ترك نفسه من الاجتهاد، و لهذا المعنى أشار، و له أراد، هذا لا يشك فيه من له فطنة و لا دراية، و اللّه أعلم./ و أيضا فليس ها هنا إلا أنه قيل إن عبد الرحمن قال لعلي تقضي بسنة أبي بكر و عمر.
لأنه جاء أن عمرو بن العاص أتى عليّا ليالي الشورى فقال له: إن عبد الرحمن رجل مجتهد، و إنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك، و لكن الجهد و الطاقة فإنه أرغب له فيك، ثم لقي عمرو بن العاص عثمان فقال
__________________________________________________
(1) كتب في الأصل: حاشية
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:579
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:579
له: إن عبد الرحمن رجل مجتهد، و ليس و اللّه يبايعك إلا بالعزيمة، فاقبل.
(1/629)
قال: فلما قال عبد الرحمن لعليّ: هل أنت يا عليّ تبايعني على كتاب اللّه و سنة نبيّه و فعل أبي بكر و عمر، قال له عليّ: اللهم لا، و لكن على جهدي من ذلك و طاقتي، و من يطيق ذلك. فقال لعثمان هل أنت مبايعي على كتاب اللّه و سنة نبيّه و فعل أبي بكر و عمر، فقال: نعم، فبايعه. فقال عليّ، خدعة، يعني أن ابن النابغة خدعه، فهكذا جاء الحديث، فإن كان صحيحا فاقبلوه، فأنتم أول من يقول لا يجوز أن يقال لأمير المؤمنين بكتاب اللّه و سنة رسول اللّه فيقول هذا القول «1»، و لا يجوز أن يخدعه عمرو بن العاص فأنتم لا تقبلون ما قد ذكر، و إذا دعيتم اليه نفرتم عنه، ثم تدّعون ما لم يكن و تجعلونه أصلا تنصرفون به عن المعروف من اتباع أمير المؤمنين لهؤلاء القوم و تصويبه لهم؟ على أن الذي ثبت عند العلماء أن عبد الرحمن قال لأهل الشورى: إني قد نظرت و شاورت و استخرت فما وجدت الناس يعدلون بعثمان أحدا.
و أيضا فقد كان في الصحابة من يخالف أبا بكر و عمر في مسائل الاجتهاد.
و لا يحتشم ذلك، و لا ينكر أبو بكر و عمر ذلك، و قد خالفهما ابن مسعود، و أبي، و معاذ، و زيد بن ثابت، و ابن عباس، و غيرهم. فتعلم أن ما يتعلق به هؤلاء باطل.
و من عجيب ما يدعونه أن عمر احتال على عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه/ حتى أدخله في الشورى، و قال: إنه يصلح للخلافة، و أنه قال إذا صار أهل الشورى ثلاثة و ثلاثة فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، و أن عبد الرحمن كان عدوا لعليّ و صرفها عنه إلى عثمان، و أن عمر إنما قال هذا حرصا على أن ينصرف عن عليّ و يصير إلى عثمان.
__________________________________________________
(1) لعل هنا نقصا بعد كلمة أمير المؤمنين تقديره: هل تعمل، و ذلك حتى يستقيم المعنى.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:580
(1/630)
و ليس معهم في هذا دلالة و لا برهان، إنما هو البهت و الفرية و ظنون كاذبة كغيرها من أقاويلهم، و قد تقدم لك الدلالة على أنه لم يكن بين عليّ و أبي بكر و عثمان و عبد الرحمن و تلك الجماعة عداوة، بل كان بينهم من الموالاة و المودة في الدين و الإسلام ما فيه كفاية.
ثم يقال لهم: لو أرادها عمر لعثمان وحده أو لعبد الرحمن أو لأحد يريده لنص عليه كما تقدم النص من أبي بكر أو كما نص هو على صهيب في الصلاة، فكان الناس يمتثلون ذلك و قد استراح مما ادعيتموه، و لم يكن عليه خوف، كما لم يكن على أبي بكر خوف.
و العجب أنكم تقولون: إن أبا بكر وثب بمقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقام فيه في حياته و في بيته و بحضرته و بحضرة جميع بني هاشم و المهاجرين و الأنصار، اغتصابا و قهرا، و تم له ذلك، و اغتصبهم بعد موته، و ساعده الناس، و نصّ على عمر فقبلوا منه فأنفذوا وصيته، و لم يقبلوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لم ينفذوا وصيته، و قبلوا من عمر في الشورى و في كل ما وصى به، و لم يقبلوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وصيته و نصه على وصيّة علي رضي اللّه عنه، و قد بين لهم الفرض في ذلك، و هو من فرض الكافة.
و ها هنا يقولون: إن عمر خاف و لم يكشف ما أراده و أخفاه و دلّسه، كصنيع المغلوب المقهور الخائف المترقب، فأقاويلكم يكذب بعضها بعضا، و أنتم تنقضون مذاهبكم و أصولكم بأيديكم، و تبعثون/ خصومكم على النقض عليكم، فلستم ممن يستقر له قول و لا يتقرر له مذهب.
و قد علمت رحمك اللّه في الجملة أنه ما كان يجري في ذلك الزمان و بحضرة أولئك السابقين و لا يقبل و لا يمتثل إلا الصواب، و إن من أتى بغيره ردّوه و أنكروه، و قد تقدم لك بيان ذلك و برهانه، فكلما بلغك عنهم مما له ظاهر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:581
(1/631)
تنكره، فأما أن لا يكون له أصل البتة، و أما أن يكون إن كان حقا المراد به و النية فيه و القصد غير الظاهر الذي أنكره الخصم و أوّله، فقد علمت حالهم في تمسكهم بدين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و وصاياه و القيام على نصوصه و عهوده، و أن أبا بكر و عمر و عثمان و عليا لو أرادوا في سلطانهم أن يغيروا نصا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في امرأة أرملة ذمية لما تمكنوا منه، و إن سلطان هؤلاء لم يكن كسلطان معاوية و من بعده من الملوك.
فاحفظ هذا الأصل و ارجع اليه فيما ذكروه عن عمر في قتل أهل الشورى، و في ادعائهم على أبي بكر أنه أمر خالد بن الوليد بقتل عليّ بن أبي طالب ثم بدا له فقال لا تفعل، بحضرة المهاجرين و الأنصار، و أنه وجّه بالنعمان بن بشير، و المغيرة بن شعبة فقاتلا سعد بن عبادة الأنصاري، و أن أبا سفيان و بني أمية كانوا في زمن عثمان يظهرون بين الناس بتكذيب النبيّ، و أنه ما ها هنا معاد و لا جنة و لا نار، و لهم في هذا روايات كثيرة عن الصحابة من الرجال و النساء، و ذكرها يطول، غير أنك تعلم كذبهم فيها بالدليل الذي تقدم من تمسك المهاجرين و الأنصار بدين النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و أن الغلبة في زمانهم كانت للمقيمين على دينه و للمعتقدين على تصديقه.
على أن هذا الانكار و التكذيب له و بالبعث/ و النشور و الحساب و الجنة و النار و ما أشبه ذلك، ما كان أحد يجسر على إظهاره في زمن معاوية و أئمة الجور من بني أمية، و لا في زمن ملوك بني العباس و حيث كان الملوك منهم، فإن الملوك من بني أمية و بني العباس ما كانوا ملحدة و لا زنادقة و لا أعداء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بل كانوا على ملة الاسلام و يحبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و دينه، و يبرؤون من أعدائه و إن شابوا ذلك بحب الدنيا و بإيثار العاجلة و قتل من يأمرهم بالقسط من الناس، و غير ذلك من الكبائر و المناكير التي ارتكبوها.
(1/632)
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:582
فقل كان لهم تعظيم القرآن و جهاد العدو و عمارة الثغور، و قد كانوا كلهم يعيبون المسرفين منهم، و قد كانوا في مجالسهم يتذاكرون أعلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و آياته، و كانت أظهر و أقهر من أن يعتقدوا خلافها، و قد كانوا يوصون أولادهم بالإسلام.
و لم نقل هذا فيهم من طريق حسن الظن بهم، و لكن إذا اعتقدوا عداوته أو تكذيبه أو عيبه أو عيب شي ء من طرائقه و أخلاقه و مذاهبه صلّى اللّه عليه و سلم لظهر ذلك و لبدا في أخلاقهم و طرائقهم و فلتات ألسنتهم و في سقطات أعمالهم، فبهذا جرت العبرة و العادة سيما و هم ملوك.
و لقد تفاءل الوليد بن يزيد بن عبد الملك و هو خليفة و ملك جبار، و هو أغنى بني مروان «1»، فخرج له في المصحف ما يكرهه فرمى بالمصحف من يده و تسخط ما خرج له، فقام اليه ابن عمه فضرب عنقه في هذا المقدار، و جعله حجة في قتله، و أنت تتبين ذلك و أن مثله لا يخفى بمثل ابن العميد وزير ركن الدولة، و بأبي جعفر بن بانو السجزي ملك سجستان، و أبي علي بن إلياس ملك كرمان، و أمثالهم، فإن هؤلاء وقعت عليهم الباطنية فما زالوا بهم/ حتى خرجوا من الإسلام، و ما أمكنهم المجاهرة و المكاشفة بعداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، غير أن ذلك بدا في فلتات ألسنتهم و سقطات أعمالهم و إن اجتهدوا في كتمانه.
[الرد على دعوى القرامطة أن الصحابة أخروا عليا لكراهتهم له ]
فأما من بالأحساء و مصر و المغرب فما يظهر منهم من عداوته صلّى اللّه عليه و سلم و القصد إلى إطفاء نوره و إماتة شريعته فعظيم، و كان مما ادّعوه على المهاجرين و الأنصار أنهم كانوا ممن يبغض أمير المؤمنين لقتل من قتل من المشركين، قالوا فلهذا
__________________________________________________
(1) في الأصل: «و هو أغنى بني مروان»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:583
(1/633)
أخروه و لم يقلدوه الخلافة، قالوا و مع هذا فحسدوا بني هاشم أن يجتمع فيهم الخلافة و النبوة جميعا.
و هذا كأمثاله من الافتراء الذي لهم على المهاجرين و الأنصار، فقد علمت أحوالهم و كيف أجابوا النبي عليه السلام من تلقاء أنفسهم تصديقا له و إيمانا بما أتاه، و قد كان لهم بمكة و بالمدينة و بأرض الحبشة ما قد تقدم ذكره لك، و يشهد عندك ببطلان هذه الدعوى.
و بعد فقد علمت ما كان للمهاجرين و الأنصار من الخوض في باب الإمامة في حياة النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و في مرضه، و بعد موته، و قبل دفنه. و فيما جرى بين أبي سفيان و العباس و بني هاشم، و في السقيفة، و عند استخلاف عمر، و في الشورى، و في غير ذلك. فما ذكر ذاكر أن هذا يكرهه لأنه قتل الآباء و الأبناء و لا بألا يحب أن تكون النبوة و الخلافة جميعا في بني هاشم، و ما نطق أحد من خلق اللّه بحرف من هذا و لا خطر ببالهم.
و قد دخل أمير المؤمنين رضي اللّه عنه في الشورى فما أنكر أحد دخوله، و لا نفر أحد، و لا نطق أحد في ذلك بحرف، بل رضي الناس كلهم بذلك كما رضوا بغيره ممن كان في الشورى، و قد تبادر الناس اليه بعد عثمان، و أكبوا عليه و مدوا يده، فقبضها مرة بعد مرة/ و حرصوا به و أحبوا خلافته و بيعته، فما نطق أحد بحرف مما يدّعيه هؤلاء، و في كل هذا تكذيب لدعاويهم و فريتهم. و قد علمنا أنه لم يكن له رضي اللّه عنه في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و لا في زمن أبي بكر و عمر و عثمان عدو من المهاجرين و لا من الأنصار، حر و لا عبد، و لا ذكر و لا أنثى، لأن ذلك لو كان كذا لظهر، و لكان العلم به كالعلم بغيره من الأمور، و كالعلم بمن قعد عنه، و كالعلم بمن عاداه من أهل الشام، و كالعلم بمن رجع عنه من أصحابه كما قد تقدم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:584
(1/634)
و ليس معاداة من عاداه بعد ذلك و برى ء منه دليلا على أنهم قد كانوا أعداءه في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و زمن أبي بكر و عمر و عثمان فقد عادى قوم عثمان رضي اللّه عنه و خالفوه و نازعوه في آخر أيامه، و لا يدل هذا على أنهم كانوا عدوه في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و لا فرق بين من ادّعى هذا أو ادعى أن الخوارج إنما خالفوه و أكفروه لأنه قتل المشركين، و لأنه كسر الأصنام، و لأنهم كرهوا أن تكون النبوة و الخلافة في بني هاشم. و كذا أهل الشام في خلافهم عليه، و هذا كله بهت و اختلاط ممن ادعاه، بل الأمور التي لها و من أجلها خالفه من خالفه من أهل الصلاة معروفة، كما أن الأمور التي لها و من أجلها خولف عثمان معروفة.
و بعد فإن المهاجرين و الأنصار، إنما كانوا يقدمون من قتل المشركين و يجلونه و يعظمونه و يعظمون من كانت و طأته على المشركين أشدّ، و لهذا جلّ عندهم من شهد بدرا و المشاهد التي كانت في قتال المشركين و قتلهم، و لم تكن منزلة غيرهم من مسلمة الفتح و من أسلم بعد الفتح منزلتهم، و كان مما يجل به عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه احتز رأس أبي جهل/ و كان مما يجل به عمر عندهم أنه يوم بدر ما أسر أسيرا و أن كل من وقع بيده من المشركين قتله، و كان فيمن قتله العاص بن هشام و كان خاله، و طلب خاله الحارث ابن هشام فأفلت من يده، و مما كانوا يقدمونه فيه أنه يوم بدر أشار على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بقتل الأسرى و قال له: سلم كل رجل منهم إلى أقاربه و أهل بيته فليضرب عنقه، فهم رؤوس الشرك، و هم كذبوك و أخرجوك، فسلم عقيلا إلى أخيه عليّ ليقتله، و فلانا إلى فلان، و لقتل المشركين تقدم عندهم الزبير، و أبو دجانة، و بنو عفرة، و البراء بن مالك و أمثالهم. كما قد كان يتقدم عندهم من جمع القرآن و حفظه، بل كان من كانت نكايته في المشركين
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:585
(1/635)
أشد تقدما عندهم ممن جمع القرآن و قرأه، و ما دعوى من ادعى هذا إلا كمن ادعى أن المهاجرين و الأنصار كانوا يبغضون عليا لقراءته القرآن و لصلاته الطويلة و لكثرة ما كان يقول لا إله إلا اللّه.
و قد كان هناك من المهاجرين و الأنصار من قد قتل القتل الكثير غير من ذكرنا، و هم أكثر مما يحصون، و ما كان هناك أحد من مسلمة الفتح ممن قتل له أمير المؤمنين قتيلا إلا أبو سفيان صخر بن حرب، فإن أمير المؤمنين قتل ابنه حنظلة يوم بدر، و أبو سفيان فهو الذي كان أشد الناس حرصا يوم مات النبي صلّى اللّه عليه و سلم أن تكون الخلافة في بني عبد مناف، و أن يكون عليّ بن أبي طالب هو الخليفة دون أبي بكر و قد تقدم لك ذكر ذلك.
فأما المهاجرون و الأنصار و السابقون فهم كانوا يتولون قتل أحبابهم و أهليهم، و لقد برز أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى أبيه يوم بدر ليقتله فمنعه النبي صلّى اللّه عليه و سلم من ذلك، و قال له: دعه يقتله غيرك، فقتل أبوه و عمه و أخوه و ابن أخيه و غير واحد/ من أهله و هو صابر راض يشكر اللّه على ذلك و بما وهبه اللّه لرسوله من النصر، و هذا من أولاد سادات قريش و من أسلم بمكة و هاجر إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة، و كم مثله فيهم رضي اللّه عنهم.
فإن قالوا: و ما حرص أبي سفيان أن تكون الخلافة في عليّ؟ قلنا: لأنه من رهطه و بني عمه فأحب أن تكون الخلافة في بني عبد مناف، و كذا أحب العباس و خالد بن سعيد بن العاص، و غير هؤلاء من بني هاشم. غير أن خالد ابن سعيد لم يكن من مسلمة الفتح بل كان ممن أسلم بمكة و هاجر إلى أرض الحبشة و إلى المدينة، و قد تقدم لك ذكر إسلامه، فتعلم بطلان دعاويهم من كل وجه.
فإن قالوا: فإنا لا نصدق أن أبا سفيان حرص في أن تكون في عليّ دون
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:586
(1/636)
أبي بكر، قلنا: لا فرق بين من ادّعى هذا فيه أو في العباس، و أنه جرى بينه و بينه في ذلك قول و لا خوض و لا مراجعة، و لا فرق بين من أنكر هذا أو أنكر السقيفة و الشورى، و يمثل ما علمت أنه لم يكن لعلي و لا لعثمان في المهاجرين عدوّ و لا مخالف منهم و لا من غيرهم، تعلم أنه لم يكن لأبي بكر و لا لعمر و لا لأولئك السابقين عدو من المهاجرين و لا من الأنصار و لا من بني هاشم و لا من أحد من الصحابة و لا من السابقين و لا من سائر المسلمين إلى أن حدث من أمر هشام بن الحكم و أمثاله ما حدث، فاعرف ذلك فإنه لو كان يعرف الناس الحال فيه كما عرفوه في غيره مما قد تقدم ذكره من شأن من خالف على عثمان و عليّ و عاداهما، و ما كان من شأن سعد بن عبادة فإن من ادّعى هذا كمن ادعى أنه قد كان في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و زمن أبي بكر رافضة و خوارج لتتأكد لك المعرفة من كل وجه ببطلان دعاوى هؤلاء على القوم/ الخلاف يوم موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى غير ذلك من دعاويهم. و قد تقدمت لك أدلة العقول قبل أدلة القرآن بمحبة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لهؤلاء، و أنه قد فرض محبتهم على الأولين و الآخرين من أمته.
فأما دعوى عبد اللّه بن سبأ و أصحابه فلم تكن من دعوى هشام بن الحكم بسبيل، إنما كان في التفضيل، ثم كان من إنكار أمير المؤمنين ما هو مذكور ثم خرجوا إلى ما خرجوا إليه هؤلاء، و ما هم من المهاجرين و لا الأنصار و لا من التابعين، و لا يعرفون بشي ء من الخبر البتة.
و قد تقدم لك شدة تمسك المهاجرين و الأنصار بدين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و حفظ شريعته بعده، و لقد خرجوا إلى حرب مسيلمة و أهل الردة مبادرين للإنكار عليهم من مخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، لا يملكون أنفسهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:587
(1/637)
غضبا على من خالفه أو خرج من دينه حتى يقول الأخ منهم لأخيه و الوالد لولده إذا قال أحدهما لصاحبه أقم أنت حتى أخرج أنا، فيقول الآخر: أنا أريد من الشهادة و الجهاد مثل ما تريد، فيودعون الأهل و الأحباب و يقولون لعلنا لا نرجع إليكم، و لا يلوون على شي ء من الدنيا. و لقد التقوا مع مسيلمة فانكشفوا، فقالوا عوّدنا الاعراب الفرار، ما هكذا كنا نقاتل مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و قالوا لخالد بن الوليد و هو أميرهم أخلصنا بعدونا فأخلصهم، و حفروا الحفائر و ثبتوا فيها يقاتلون إلى أن ظفروا، و قتل مسيلمة و قتل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، و سالم مولى أبي حذيفة، و ثابت بن قيس، و زيد بن الخطاب، و غيرهم من المهاجرين و الأنصار نحو أربعمائة، فيهم من حفّاظ القرآن سبعين رجلا، و فيهم ممن شهد له النبيّ عليه السلام بالجنة و أنه يقتل شهيدا، و هذا من آياته و كلهم قتل في طاعة أبي بكر.
و لأجل هذه القضية و هذا الزحف اجتمع الصحابة/ إلى أبي بكر و قالوا له: اجمع القرآن في مصحف واحد ليناله كل أحد، فقد قتل في هذا الزحف خلق كثير ممن حفظ القرآن، و لا نأمن زحفا مثله يقتل فيه آخرون ممن قد جمع القرآن، فيذهب منه أو يضيع، و هؤلاء ما يملكون أنفسهم، و لا يصبرون عن الجهاد و لا عن الموت في طاعة اللّه، [و للموت في طاعة اللّه ] «1» أحب إليهم من الحياة، أفعلى هؤلاء يدّعى أنهم كانوا يعادون من قتل المشركين، أو أنهم تغيروا بعد نبيهم.
و لقد انطلق أبو الجهم بن حذيفة العدوي يوم اليرموك يطلب ابن عم له و معه شي ء فيه ماء، فإن كان به رمق سقاه و مسح بالماء على وجهه. فأتاه فقال له: أسقيك؟ فما كان به طرف يتكلم، فأشار أي نعم، فإذا صوت
__________________________________________________
(1) زيادة مني على الأصل اقتضاها السياق
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:588
(1/638)
رجل يقول: أوّه، فأشار ابن عمه إليه أن انطلق إليه و اسقه، فأتاه فإذا هو هشام بن العاص بن وائل السهمي، فقال له: أسقيك؟ فسمع آخر يقول:
أوّه و ما بهشام طرف يتكلم فأشار هشام أن انطلق إليه، فجاءه فإذا هو قد مات، فرجع إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم أتى ابن عمه فإذا هو قد مات.
و كم مثل هذا لو أخذت أذكره لطال ذلك، و أنت تجدها في أماكنها.
و هؤلاء هم الذين كانوا أعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في أول أمره حين دعا إلى اللّه عز و جل و أولاد أعدائه.
و انظر إلى مسلمة الفتح. فهذا الحارث بن هشام، و عكرمة بن أبي جهل، و عباس بن أبي ربيعة، فإنهم هجروا الأوطان، و فارقوا الأهلين، و رفضوا الأموال، و أقاموا على الجهاد، حتى أسعدهم اللّه بالشهادة، و أوجب لهم الكرامة.
و لقد استلحموا، و جلت عنهم المعركة و قد أصابهم أشد العطش من حر السلاح، فمد الحارث يده يستسقي، و مد عكرمة يده، فقال الحارث:
اسق عكرمة، فمد عياش يده فقال عكرمة: اسق عياشا/ فلم يصل إلى أحد منهم حتى مات الآخر مما كان بهم من الطعن و الضرب و حرّ الحديد، فكيف يتوهم على هؤلاء الحقد و الضغن، و هل شي ء يؤمن من ذلك إلا و قد كان معهم؟ و هؤلاء قد قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أباهم و أبناءهم و إخوانهم و آذوه و حاربوه قبل إسلامهم، فلما أسلموا أخلصوا، و كان هؤلاء و أمثالهم أشد الناس على أهل الردة و على جميع أعدائه صلّى اللّه عليه و سلم.
و مثلهم سهيل بن عمرو، و المهاجر بن أبي أمية، و عتاب بن أسيد، و جبير ابن مطعم، فهؤلاء من ردّ الردة، و قتل مسيلمة، و أسر طليحة، و قتل أهل ردة عمان، و رجال أسد و غطفان، و ما قنعوا بقتلهم حتى أحرقوهم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:589
(1/639)
بالنار غضبا لرسول اللّه و حمية لدينه، و هم كانوا أشد الناس عليه، و لكن لما أسلموا زال ذلك كله، و أخلصوا أشد الاخلاص. و هؤلاء و أمثالهم قد كانوا عرفوا الحق فمنعهم من الدخول في الاسلام الحمية و حب الرئاسة، و قد كانوا علموا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لا يقدمهم على الفقراء و الموالي الذين سبقوا إلى الاسلام كما قد تقدم ذكر ذلك لك، فلما قهرهم الحق و جاء الفتح أسلموا، و كانت نفوسهم أبية يأنفون من النفاق و الفسق و الغيبة، فأسلموا و هذه أخلاقهم فأخلصوا و نصحوا.
و قد تقدم لك ما قاله الحارث بن هشام حين خرج من مكة مهاجرا في سبيل اللّه، و لهذا المعنى قال أبو جهل لابن مسعود حين أكب عليه ليجهز عليه: ألست رويعيا بتهامة، لقد ركبت مركبا صعبا. و قد تقدم لك للاسباب نزول قوله عز و جل: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ».
و لقد ذكر سهيل بن عمرو، أن الحمية و الأنفة و حب الرئاسة مما منعهم من الدخول في الاسلام، و كان يقول: و أبو سفيان يعرف من هذا/ الحق ما أعرف، و لكنّ حسد بني عبد المطلب قد ختم على قلبه. و قد كان أبو سفيان يتحدث بمثل ذلك فيقول: خرجت و أمية بن أبي الصلت الثقفي، و طليق بن سفيان بن أمية تجارا إلى الشام «1»، و كان أمية بن الصلت يأتي النصارى و يسمع من علمائهم، فقال لي: هل لك في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتب تسأله عما بدا لك؟ قلت: لا أرب لي به، و اللّه لئن حدثني ما أحب
__________________________________________________
(1) كلمة سفيان ليست واضحة في الأصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:590
(1/640)
لا أثق به، و لئن حدثني ما أكره لأوجلن منه. فأقام عندهم أمية ثم رجع كئيبا حزينا، فلما سرنا قال لي [: هي عن عتبة بن ربيعة يجتنب المحارم و المظالم، قلت إي و اللّه، قال و يصل الرحم و يأمر بصلتها، قلن نعم، قال و محوج، قلت نعم، قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه، قلت لا و اللّه ما أعلم، قال:
كم أتى له قلت: سبعون هو لها هو ابنها] «1». قلت: و أنت قائل شيئا فقله، قال: و اللّه لا تذكر حديثي حتى تأتي منه ما هو آت، قلت لا أذكره، قال: إني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء، فأخبرني عن نبيّ من العرب منتظر، و أنه من أهل بيت يحجه العرب، قال:
قلت فينا بيت تحجه العرب، قال: لا، هو من إخوانكم و جيرانكم قريش، قال: فأصابني و اللّه شي ء ما أصابني مثله قط، فكنت أرجو أن أكون أنا هو، قلت فإذا كان ما كان فصفه لي، قال: شابّ، حين دخل في الكهولة بدأ أمره، إنه يجتنب المحارم و المظالم، و يصل الرحم و يأمر بصلتها، و هو محوج، ليس بذارع الشرف، كريم الطرفين في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة. قال: قلت: ما آية ذلك؟ قال: قد رجف الشام منذ هلك عيسى ثمانين رجفة كلها فيه مصيبة عامة و بقيت رجفة عامة فيها مصيبة، نخرج على أثرها. قال أبو سفيان: قلت: إن هذا و اللّه هو الباطل، لئن بعث اللّه رسولا/ إلا شريفا مسنا، قال: ثم رحلنا حتى إذا كان بيننا و بين مكة ليلتان، أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول: أصابت الشام رجفة دمرت أهلها و أصابتهم فيها مصيبة عظيمة، قال أمية: كيف ترى يا أبا سفيان؟ قلت: و اللّه ما أظن صاحبك إلا صادقا.
و قدمنا مكة فتفضيت مما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة
__________________________________________________
(1) الكلام بين القوسين غير منسجم إذا اتصل مع ما قبله و ما بعده، و لذا وضعته بين قوسين على أن الكلام مستمر بين كلمة: سرنا و كلمة: قلت.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:591
(1/641)
تاجرا فكمثت بها خمسة أشهر ثم أقبلت حتى قدمت مكة، فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي حتى جاءني آخرهم محمد بن عبد اللّه و عندي هند جالسة تلاعب صبية لها، فسلم عليّ و رحّب بي و سألني عن سفري و مقدمي ثم انطلق، فقلت: و اللّه إن هذا الفتى للعجب، ما جاءني أحد من قريش له معي بضاعة إلا سألني عنها، و ما بلغت، و اللّه إن له معه لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني عنها، فقالت هند أو ما علمت شأنه؟ قلت: و فزعت: ما شأنه؟ قالت: و اللّه إنه ليزعم أنه رسول اللّه.
فذكرت قول النصارى، و وجمت، حتى قالت لي: مالك؟ فانتهيت، فقلت: إن هذا و اللّه لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا، قالت بلى و اللّه إنه ليقول، و إن له لصحابة على أمره معه، قال: قلت: هذا الباطل فخرجت؛ فبينما أطوف إذ لقيته فقلت: إن بضاعتك قد بلغت و كان و كان فيها خير، فأرسل اليها فخذها، و لست آخذ فيها ما آخذ من قومك. قال: فاني غير آخذها حتى تأخذ مني ما تأخذه من قومي، قال: قلت: ما أنا بفاعل، قال: فو اللّه لا آخذها، فأرسلت إليها و أخذت منها ما كنت آخذه من غيره، و بعثت إليه ببضاعته.
و لم ألبث أن خرجت تاجرا إلى اليمن، فقدمت الطائف، فنزلت على أمية فتغديت معه،/ ثم قلت: يا أبا عثمان، هل تذكر حديث النصراني؟ قال:
أذكره، قلت فقد كان قال: و من هو، قلت محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب.
ثم قصصت عليه خبر هند، قال فاللّه يعلم أنه تصبب عرقا، ثم قال: و اللّه يا أبا سفيان لعله قال. و مضيت إلى اليمن فلم ألبث أن جاءني هناك استهلاله، فأقبلت حتى قدمت الطائف، فنزلت على أمية، قلت: قد كان من أمر هذا الرجل ما قد بلغك و سمعت، قال: قد كان، قلت: فأين أنت؟ قال:
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:592
و اللّه ما كنت لأومن لرسول ليس من ثقيف، قال: و أقبلت إلى مكة فوجدته هو و أصحابه يضربون و يقهرون، فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟
و دخلني ما دخل الناس من التعاسة.
(1/642)
و لهذا نظائر من حديثهم، و قد كان معاوية يتحدث به في زمن ملكه و سلطانه، و يتحدث به عنه مروان بن الحكم، و يتحارون الأسباب التي أبطأت بهم عن الهجرة من الأنفة و الرجال الذين كانوا يصدون عن ذلك من بني أمية، مثل عقبة بن أبي معيط، و مثل الحكم بن أبي العاص، و مثل أبي سفيان من بني أمية، و من كان كذلك من بني مخزوم، و ما كان يلحق من أسلم منهم من الأذى من هؤلاء.
كما كان يتحدث بذلك سهيل بن عمرو، و عمرو بن العاص، و غيرهم، و يذكر بعضهم بعضا في حياة النبيّ عليه السلام و بعد وفاته و بعد مضي الخلفاء الراشدين، فتعلم بصائر مسلمة الفتح و الذين أبطؤوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و إذا تأملت وجدت لبني أمية، و بني مخزوم من المهاجرين منهم، و من مسلمة الفتح آثارا كثيرة عظيمة في نصرة الاسلام في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و الذي لهم بعد وفاته أعظم. و لم يكن الخلاف الذي كان بين أولئك القوم و بين أمير المؤمنين رضي اللّه عنه لشك في النبوة و لا لضعف/ بصائر هم فيها، لأن ذلك لو كان لبان كما قدمنا الدلالة على ذلك، لأنه لا يمكن أن تقول إن عبد اللّه ابن وهب الراسبي و أصحابه من الخوارج إنما خالفوا أمير المؤمنين و أكفروه و قاتلوه لبغضهم لرسول اللّه و لا لشكهم في نبوته، و قد كانت لهم عبادة و قراءة القرآن و صوم و أمور كثيرة حسنة، جميلة، يطول تفصيلها، غير أنهم أحبطوا ذلك كله. بمخالفتهم لأمير المؤمنين.
و كذلك معاوية، قد استعمله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و استعمله غير واحد من
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:593
الخلفاء بعده على ثغور الروم، فضبطها و فتح الفتوح و غزا معه في تلك المغازي خلق كثير من المهاجرين و الأنصار و البدريين و كانت فيه عفة عن أموالهم.
(1/643)
و كان عمر رضي اللّه عنه كثير التصفح لأحوال العمال و الاستبدال بهم، فما وجد عليه و لا استبدل به، فلما مضى عثمان فكان من أمر معاوية ما كان من الخلاف على أمير المؤمنين رضي اللّه عنه انصرف عنه البدريون، و صاروا في حملة أمير المؤمنين، و لم يبق معه منهم أحد من البدريين خاصة، و أقام على خلاف أمير المؤمنين فأحبط عمله و ضل ضلالا بعيدا. فليس أحد من هؤلاء خالف أمير المؤمنين لشكه في النبوة، و مع هذا فما سار أمير المؤمنين في قتال هؤلاء سيرة من شك في النبوة، و لا أخرجهم من أن يكونوا من أهل الصلاة و أهل القبلة، و ما زاد على تضليلهم.
و قد دعا عبد اللّه بن الزبير إلى نفسه بأمرة المؤمنين، و أقام على حرب بني أمية تسع سنين و تفانوا بالقتل، و قتل بنو أمية آل الزبير و أفنوهم و صلبوهم و لم يكن ذاك لشك من أحد الفريقين، في النبوة و العجب أن عبد اللّه بن وهب الراسبي و أصحابه أكفروا أمير المؤمنين فما أكفرهم هو و لا زاد على تضليلهم/ و كذا سار القراء و التابعون الذين قاموا مع ابن الاشعث و أنكروا شأن عبد الملك و الحجاج، فإنما أنكروا فسقهم و جورهم لا أن أحد الفريقين شك في النبوة، و مثل هذا كثير فاعرفه، فإن قوما قد دخلوا بين الناس و ألقوا إليهم مثل هذا لشدة عداوتهم للنبي صلّى اللّه عليه و سلم، حتى قالوا في العباس ابن عبد المطلب انه كان عدوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يمقته، و كان اذا سلم عليه لا يرد عليه و يقول له: لعنك اللّه و لعن أبا لهب، و أنه لم يكن من بني هاشم و لا ولد عبد المطلب، و أنه لتلك العداوة التي كانت في نفسه صارت في ولده، فلهذا قتل أبو جعفر المنصور من ولد أبي طالب من قتل، و كذا غيره من بين العباس.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:594
و أهل المعرفة يعلمون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم كان يعظمه و يجله و يقول فيه:
(1/644)
ما كان لي أن أرفع صوتي بحضرة عمي و يجعله بما لا يتهيأ له إحصاء لطوله في هذا الموضع، و قد كان أمير المؤمنين يجلّه و يعظمه و يقدمه و لا يقطع أمرا دونه، و كان ولده هم خاصة أمير المؤمنين و بطانته، و خلفاء على رعيته كما هو معلوم.
و كذا كان ولده عليه السلام مع ولد العباس بعده، و كلمتهم واحدة، إلى أن وقع الخلاف بين عبد اللّه بن حسن بن حسن و بين أبي جعفر، و راموا أخذ الأمر منه و انتشبت العداوة منذ ذاك بينهم، «1» لا لشك في النبوة و لا لعداوة قديمة كانت بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و بين أبيهم، و لا بين عليّ و العباس، و ها أنت تجد بني العباس يثب بعضهم ببعض، و يقتل بعضهم بعضا، يقتل الأخ أخاه و العم ابن أخيه، أتراها لعداوة في الأصل أو في الآباء و الأجداد، و تجد من ولد أبي طالب مثل ذلك، ألا ترى إلى من بطبرستان و بلاد الديلم منهم كيف/ يثب بعضهم ببعض، و يقاتل بعضهم بعضا، و كذا من منهم بصعدة من أرض اليمن، و كذا من منهم بالعراق، يقتتلون في الرئاسة لا لعداوة كانت في الآباء و الأجداد، و إنما أكثرنا من ذكر هذا و شبهه و ما تعلق بالامامة لأن أكثر الملحدة من هذا الباب يدخلون في خديعة المسلمين و إفسادهم في الدين.
و قد تقدم لك ذكر أوائلهم.
[حول أقوال الباطنية و وسائلهم في استدراج المسلمين الى التخلي عن حقائق الايمان و الفرائض ]
و في هذا الزمان منهم مثل أبي جبلة إبراهيم بن غسان، و مثل جابر المتوفي، و أبي الفوارس الحسن بن محمد الميمديّ و أبي الحسين أحمد بن محمد بن الكميت، و أبي محمد الطبري، و أبي الحسن الحلبي، «2» و أبي يتيم
__________________________________________________
(1) يقصد الخلاف الذي نشب في خلافة أبي جعفر المنصور بينه و بين عبد اللّه بن علي المطالب بالخلافة
(2) جاء في هامش الاصل: «في ذكر كبار أئمة الشيعة في زمان صاحب الكتاب»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:595
(1/645)
الرلباى، و أبي القاسم النجاري، و أبي الوفا الديلمي، و ابن أبي الديس، و خزيمة، و أبي خزيمة، و أبي عبد اللّه محمد بن النعمان، فهؤلاء بمصر و بالرملة و بصور، و بعكا و بعسقلان و بدمشق و ببغداد و بجبل البسماق. و كل هؤلاء بهذه النواحي يدّعون التشيع و محبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته، فيبكون على فاطمة و على ابنها المحسن الذي زعموا أن عمر قتله، و يذكرون لهم تبديل القرآن و الفرائض، و يذكرون ما قد تقدم ذكره من أن خلافهم له و قتالهم إنما هو لعداوته صلّى اللّه عليه و سلم و للشك في نبوته «1»، و يقيمون المنشدين و المناحات في ذلك، و يأخذون على الناس العهود، و يحلفونهم بالأيمان الغليظة، فإذا حصلوا كذلك قالوا لهم: إياكم و مجالسة الفقهاء، و استماع الحديث من أصحاب الحديث، و استماع القرآن من العامة، و عليكم برواية الخاصة، فقد قال جعفر بن محمد كتابة: حديث العامة يعمي القلب، و إياكم و فقه أبي حنيفة و مالك و الثوري و الحسن البصري و أمثالهم فإنهم كفرة و أعداء أهل البيت، و الرشد كله في خلافهم، و إذا عمى على أحدكم الصواب فلينظر ما عليه الفقهاء فيعمل/ بخلافه فإنه يصيب الحق.
ثم يأخذونهم في مجلس يسمى مجلس التغذية بأن لكل شي ء باطنا علمه عند مولاكم العزيز باللّه، يظهره لكم إذا ترقيتم الدرجات في طاعته، ثم يأخذونهم بأن يقولوا لهم: لم صلاة الصبح يجهر بها و الظهر لا يجهر فيها، و لم حوصة سعفة النخلة طويلة، و ورقة الكرم مستديرة، و ورقة الموز طويلة عريضة، فإذا سألوهم الجواب قالوا لهم: أنتم من المجربين و من المبتدئين، و المبتدى ء كالطفل يغذى باللبن ثم بعد اللبن بما هو أقوى منه، و يقولون لهم: أ ليس قد
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل: «و ما دعواتهم في التشيع و محبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته و ما قولهم».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:596
(1/646)
قال اللّه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» و نحن و أنتم لا نأكل لحم الذبيحة حتى تموت، و لا نأكل السمك حتى يموت، و إنما معنى هذا ان النبي صلّى اللّه عليه و سلم قد مات و حرام أن تقام شريعته «1»، و ينبغي أن يمتثل أمر العزيز مولانا الذي هو حجة اللّه، و هذا علم الخاصة. و لكن الفقهاء الحمير و أهل الظاهر لا يعرفون هذا، لذهابهم على إمامهم وليّ اللّه و حجة اللّه على خلقه.
و يقولون لطائفة أخرى: ما عليكم صلاة ما دام في الدنيا لكم عدوّ يمنعكم من التمكن في الأرض، فإن اللّه يقول: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» «2» و يقولون لآخرين الصلاة شخص، و الصلاة عذاب على أهل الظاهر و يرقون الناس بحسب طبقاتهم و احتمالهم للشك و الحيرة، و هذه مجالس الترقية كما هو مذكور لهم و مرسوم في البلاغ السابع و الناموس الأعظم، ثم يرقون من يثقون به بأنه لا يحرم عليه أمه و لا بنته و لا أخته، و لا خمر و لا خنزير و لا زنا و لا لواط و لا ربا، و لا شي ء البتة، و أنه لا يحل لك أن تمنع أخاك و من هو مثلك في البلاغ السابع/ و العلم الباطن من زوجتك فإنها تحل له كما تحل لك، و الاشتراك في الزوجات كالاشتراك في الطعام، و الكريم هو الذي «3» تنكح زوجته بحضرته كما يؤكل طعامه بحضرته، و قد قال افلاطن الغيرة شحفي الطبيعة.
فيقال لهؤلاء الدعاة: قد ادّعيتم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و على إخوانه من الأنبياء أنهم كذابون محتالون طلاب دنيا و رئاسة، و نحن فقد ذكرنا لكم مجيئه و سيرته و طرفا من آياته و أعلامه، و أن أهل الأرض بأسرهم قد خاصموه
__________________________________________________
(1) في الأصل «حرام» و قد أضفنا الواو قبلها لأن سياق الكلام يقتضي ذلك.
(2) الحج 41
(
(1/647)
3) أثبت في الأصل بعد كلمة الذي «هو» و قد حذفناها لأنها زائدة.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:597
و طلبوا عثرة تكون له فما وجدوا، و لو كان كما قد ادعيتم لكانت سبيله سبيل أئمتكم، فقد علمتم حال سعيد، «1» الذي زعم ان ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه بن ميمون القداح بن ديصان بن سعيد الغضبان الخرميّ، و أبو القاسم بن الأبيض العلويّ، و غيره من أهل هذه الدعوة و يزعمون «2» ان سعيدا هذا ليس هو ابن الحسين و إنما هو ابن امرأة الحسين هذا، و أبوه يهوديّ حدّاد من أهل سلمية من أرض الشام، و أن الحسين لما تزوج بأمه حظيت عنده، فأحب ولدها سعيدا هذا، و إنما رغب فيها لفرط جمالها و كمالها.
[كيف ظهرت الباطنية و قامت دولتهم في المغرب ثم في غيرها]
و كان سعيد ابنها هذا يشبهها في الجمال، و كان له ذكاء و فطنة، فتولى الحسين زوج أمه تربيته و تعليمه و تخرجه على ما يحب و يختار، فقبل منه و أخذ عنه، فعرفه حال هذه الدعوة و رجالها و أسرارها و دعاتها، و أين هم و كم هم، و كيف كان أولها و ابتداؤها، و زوجة الحسين زوج أمه بنت أبي الشلعلع، و أبو الشلعلع هذا من ولد عبد اللّه بن ميمون القداح، و كان ذلك، فولدت لسعيد ابن فسماه عبد الرحمن.
ثم صار سعيد إلى سجلماسه/ من أرض المغرب «3»، و تسمى بعبيد اللّه «4» و اكتنى بأبي محمد، و ادّعى أنه من نواحي الأهواز و من بناتها و رؤسائها و أنه هرب هو و أبوه من جور عمرو بن الليث، و أن ضياعهم بكور الاهواز كثيرة، و لهم بها «5»، و أن المواد تأتيه منها، و كان يقول لمن يثق به و يأنس به في
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل: «ابتداء ظهور الفاطميين في المغرب بدعوى التشيع».
(2) في الأصل: «يزعمون»
(3) سجلماسة مدينة في جنوب المغرب، في طرف السودان
(4) في الأصل: «تسمى».
(5) يظهر أن هنا نقصا في العبارة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:598
(1/648)
ابنه عبد الرحمن أنه يتيم في حجره، و أنه وصيّ أبيه، و أن أباه من أهل البيت، و كان يحتال على اليسع ابن المدرار أمير سجلماسة و على أهل بيته بالدعاوى.
فلما تمكن و أمكنته الحيلة بأبي عبد اللّه الحسين بن احمد بن زكريا الكوفي الداعية غدر ببني المدرار، و قد كانوا اجاروه و أحسنوا إليه، فغدر بهم ذلك الغدر الفاحش، فقال له أبو عبد اللّه: قد كانت كتبك و رسائلك تأتيني بأنك مع بني المدرار بكل خير و أنك ما نزلت بأكرم منهم، و قد قتلتهم فما أبقيت منهم رجلا، حتى قتلت صبيا من صبيانهم و استبحت أموالهم و نساءهم فقال له: هو كما كتبت إليك، و لكن اليسع ما ألعقني لعقة عسل إلا و معها لعقة صبر، و أما هذا الصبيّ، فإنه جاءني برسالة من عمه، أحمد بن المدرار جافية، فكانت هذه أول فضائحه و لها تفصيل طويل.
و سمى ابنه عبد الرحمن الحسن، ثم لما تمكن و ملك قال هو ابني، و سماه محمدا، و كناه بأبي القاسم.
و لما أراد الرحيل من سجلماسة إلى القيروان و أفريقية من أرض المغرب دخل المغاربة أصحاب أبي عبد اللّه لإخراج رجله، فوجدوا ملابس الحرير و الديباج و أواني الذهب و الفضة و خصيان رومة و آثار الانبذة، فأنكروا ذلك في أنفسهم مع بلادة البربر، و سألوا أبا عبد اللّه الداعية عن ذلك، و إنما/ أنكروا ذلك لأن أبا عبد اللّه هذا كان مقيما سنين كثيرة في كتامة يدعوهم إلى المهديّ الذي هو حجة اللّه و يزعم أنه صاحبه، و كان أبو عبد اللّه يتقشف و يلبس الخشن و يأكل الخشب، و يعدهم عن المهديّ بمثل ذلك، فلهذا أنكروا و سألوا، فقال لهم أبو عبد اللّه هذه الآثار لأصحابه و أتباعه و كان معه أتباع كثير.
ثم إن أبا عبيد اللّه بعد قتل أبي موسى هرون بن يونس شيخ المشايخ،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:599
(1/649)
و أبي عبد اللّه الحسن بن احمد بن زكريا الداعية، و أخيه أبي العباس محمد بن أحمد بن زكريا، و أبي زاكى تمام بن معارك و كان من كبار الشيعة، بعد قتله لهؤلاء و تمكنه بالمغرب، استصفى أهل الثروة و أخذ أموالهم كلها، و أرسل ابنه و جعله وليّ العهد بعده و الخليفة، و سماه القائم، فكان ينزل في العساكر على بلد بلد فيستصفي أمواله، و يهدم حصونه و قلاعه، و يأخذ ما فيه من الأسلحة و الأمتعة، و يقتل الرؤساء و الوجوه و الفقهاء و أصحاب الحديث، و يتخذ جهالهم و يجعل لهم الاحوال و الأموال، و يسلطهم على أهل الفضل، و يضع المكوس و الضرائب، و يتوصل إلى ازالة النعم، و التضييق على المسلمين بكل ما يقدر عليه و ما يطول شرحه.
و كان يرسل على الفقهاء و العلماء فيذبحون في فرشهم. و أرسل إلى الروم و سلطهم على المسلمين. و كان الشيعة ببغداد، مثل بني بسطام، و بني أبي البغل، و آل الفرات، يرجفون أن المهدي قد ظهر بالمغرب، و هو هناك يحيى الموتى و يقف على المقبرة فينادي الموتى فيقومون من قبورهم، و كان أبو الحسن محمد بن احمد النسفى صاحبهم بخراسان، فذكر لنصر بن أحمد مثل ذلك، و أبو حاتم أحمد بن حمدان يذكر مثل ذلك بالريّ لأسفار بن شيرويه.
/ و كثرت الروايات عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و أهل بيته في أن المهدي يظهر بالمغرب و يملك الأرض كلها من أولها إلى آخرها، و ينفذ أمره فيها و أحكامه على أهلها في سنة ثلثمائة للهجرة، و هو معنى ما جاء في الحديث من طلوع الشمس من مغربها، و كم كان لهم من الخطب المنسوبة إلى أمير المؤمنين بأن ولده المهدي يظهر من المغرب و يملك الأرض في سنة ثلثمائة للهجرة، و أن هذا موجود في الملاحم.
و صدرت رسل بني بسطام و غيرهم من الشيعة إلى المغرب: بادر فإن
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:600
(1/650)
الأرض كلها لك و الخليفة ببغداد يومئذ جعفر المقتدر باللّه، و هو صبي و نحن أجلسناه، و له اثنتا عشر سنة، و أولياؤه و من حوله شيعته، من آل الفرات و آل بسطام و آل القاسم بن عبد اللّه و آل أبي البغل و الكرخيين و آل نوبخت، فسير ابنه في سنة ثلثمائة في عساكر عظيمة من البر و البحر، و عنده أنه يظهر على الأرض كلها بسبب ما تقدم ذكره، و لأجل من بخراسان و البحرين من أهل هذه الدعوة.
فقدم مصر و نزل عليها في سنة اثنين و ثلثمائة، و إذا أبو سعيد الجنابي قد قتل بالبحرين و قد ظهرت الفضيحة بها، و لقيه بظاهر مصر القاسم بن سيما الفرغاني في سبعة الاف فردّ تلك العساكر كلها و رجع ابن عبيد اللّه إلى أبيه بالمغرب بالخيبة و الهزيمة، و ذهبت تلك الاموال، و جاءت جواسيسه إلى الشيعة المقدم ذكرهم بالعراق تعنفهم فيما كان من إطماعهم له و ما كان من القاسم بن سيما الفرغاني، فاعتذروا إليه و قالوا له: ارجع، فرد ابنه في سنة سبع و ثلثمائة بأكثر من تلك الجيوش في البر و البحر، فنزل على مصر سنين متوالية، و نزل على/ عسكره في الماء ثممل الخادم من طرسوس في ثمانية عشر مركبا فهزمهم، فرجع إلى أبيه بالخيبة و الهزيمة، ثم ردّ العسكر إلى مصر. و قد قتل المقتدر، فرجع بالخيبة و الهزيمة. و كان مع هذه الحال يشتد على أهل القيروان و ما يملكه من أرض المغرب بالجور و قتل الرجال و استصفاء الأموال و قصد الفقهاء و العلماء، و قد كان بثّ دعاته فيها يدعون الناس إليه و إلى طاعته، و يأخذون عليهم العهود، و يلقون إلى الناس من أمره بحسب عقولهم و احتمال كل طبقة منهم، فمنهم من يلقون إليهم أنه المهدي ابن رسول اللّه و حجة اللّه على خلقه، و منهم من يلقي أنه رسول اللّه و حجة اللّه، و منهم من يلقي أنه اللّه الخالق الرازق، فكان إذا ضج الناس من هذا و ظهر منهم الانكار يأخذ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:601
(1/651)
الدعاة، فمرة يحبس بعضهم، و مرة يقتلهم، و يقول: ما أمرت بهذا، و يقول الدعاة هو أمرنا و بأمره فعلنا، و له أن يمتحننا. و كان من جوره و كذبه و فضائحه ما يطول، فإنه مكث في ملكه نيفا و عشرين سنة.
و لما هلك، قام ابنه الّذي قد تقدم ذكره مقامه، و تسمى بالقائم أمير المؤمنين، و زاد شره على شر أبيه أضعافا مضاعفة، و جاهر بشتم الأنبياء، فكان ينادي في أسواق أفريقية و المهدية و هي مدينة كان بناها أبوه و حصنها، فكان يقال: العنوا عائشة و بعلها، العنوا الغار و من حوى، و قتل الفقهاء و العلماء القتل الذريع، و استولى من بلدان المغرب على أكثر ما استولى عليه أبوه، فإن بلدان المغرب واسعة عظيمة و هي تشبه بخراسان في السعة و كثرة الرجال و هي في يد عدة من الملوك، و كانوا «1» يقولون في هذا أنه هو الذي يظهر و يملك الأرض، و أنه هو الحجة و المهدي، و كتب إلى أبي طاهر القرمطي المقيم بالبحرين البلاغ/ السابع و الناموس الأعظم، و هو سر الدعوة و حقيقتها، و بعثه على قتل المسلمين، و احراق المساجد و المصاحف، و كان قد كتب هذا في الكتاب في حياة أبيه، و كان أبوه في أول أمره يقول: إن هذا يتيم في حجري و هو علوي من ولد اسماعيل بن جعفر بن محمد، و كان في أول أمره يظن أنه لا يتم له أمر الملك فلما تمكن و فعل هذا قال: هذا ابني و هو علويّ. و شرح ظلم هذا القائم و قسوته و فجوره يطول، و هو أكثر مما أتى أبوه.
و كان لهذا الذي يسمى بأمير المؤمنين القائم بن المهدي ابن يقال له القاسم، و كان قد تأدب و قال الشعر، و كان فارسا، فاستخلفه و نصّ عليه، و قال:
هذا القائم الامام الذي أمر باستخلافه عليكم، و هو القائم بعدي، فاسمعوا له و أطيعوا. فمات هذا القاسم في حياة أبيه، فكان يقال بالقيروان ما أكثر كذب هؤلاء المشارقة.
__________________________________________________
(1) في الأصل: «كان»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:602
(1/652)
و لكثرة ما كان من جور هذا و قتله للناس و استصفائه الأموال، اجتمع قوم من أهل الجبل بالمغرب على رجل من الأباضية يقال له أبو يزيد مخلد بن كيداد فبايعوه، و كان شيخا كبيرا ضعيفا لا يمكنه لضعفه أن يستمسك على فرس. فكان يركب حمارا، و كان له وزير يستشيره أعمى، فأنفذ اليه هذا الذي تسمى بالقائم بن المهديّ بعسكر فكسره و ردّه، و تسامع به الناس، و أنه ينكر المنكر، فاجتمعوا إليه و أتوه، و سار من الجبل إلى الأمصار، و لقيته العساكر فكسرها كلها، و دخل أفريقية، و أزال الظلم و المكوس، و ملك كل ما كان في أيدي هؤلاء القرامطة من أرض المغرب إلا المهدية، فإنه حاصرهم فيها، و الاسقلية و طرابلس من أرض المغرب. و مات هذا المتسمي بالقائم بن المهدي في الحصار و عرض له وسواس و زال عقله مما نزل به من الذل،/ و قتل الرجال، و زوال الملك، و جوع من بقي معه بالمهدية بالحصار.
و قام بعده ابنه أبو طاهر إسماعيل، و ضمن للناس تغيير سيرة أبيه و جده، و أنه لا يتعرض لدياناتهم، و حلف على ذلك، و أكد و اشهد، و استعان بأبي الحسين بن عمار، فأشار عليه بهذه الأمور. و قد كان أبو يزيد مخلد بن كيداد ملك خمس سنين، و كثرت عساكره، فانتشر عليه أمره، و أظهر أصحابه دين الأباضية، فكرهه الناس و خرج أبو طاهر إسماعيل و حاربه و كبسه في صحراء و أخذه و سلمه و صلبه، و وفى للناس بما وعد، و عدل و أنصف و أخذ الدعاة الذين كانوا لهم فحلق لحاهم، و نفاهم، و قال لأهل القيروان: من سمعتموه ينال من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فاقتلوه فإني معكم و من ورائكم. و أطلق المحدثين في الحديث، و الناس في إقامة التراويح، و أطلق الناس في غزو الروم، و أذلوهم، و أعزّ المسلمين و الثغور على يدي أبي القاسم ابن أبي الحسن بن عمار، و الثغور في يد أولاده إلى هذه الغاية، و هم قوم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:603
(1/653)
مسلمون فيهم خير كثير، و الشرك مقموع بهم هناك، و لهم سيرة حسنة طويلة مذكورة.
و اشتغل اسماعيل بأهل الجبال يقتلهم و يشردهم خوفا من أن يثور عليه ثائر مثل أبي يزيد مخلد بن كيداد، و تقدم إسماعيل إلى الفقهاء بأن يتركوا له حلقة في الجامع خاصة له يقعد فيها أصحابه تكون حلقة لجعفر بن محمد، فجلس فيها جماعة لا يختلطون بالفقهاء، و كانوا يتذاكرون في حلقهم ذكر أفلاطن و بطليموس و أرسطو، فقال الناس: هؤلاء ملحدة و زنادقة و أعداء الأنبياء فكيف تكون هذه الحلقة حلقة جعفر بن محمد، و إذا نية إسماعيل غير صافيه في الاسلام، و إنما أظهر الرجوع عن سيرة أبيه/ وجده خوفا مما جرى.
و كان لإسماعيل أخ يقال له يوسف، و كان ينظر في الكتب و يسأل العلماء، و كان فيه فضل، و كان يقول: إنا أولاد النبيّ و لا نعظم إلا أعداء الأنبياء من الفلاسفة، و دعاتنا كل سفلة كذاب، ركاب لكل فاحشة، و لو كنا من أولاد الأنبياء و نحب الأنبياء ما كانت هذه حالنا، ثم يسمى الدعاة واحدا واحدا و يذكرهم بما فيهم، فقد كان فيهم أبو الأسود و كان ينكح بنته.
و قصة يوسف هذا معروفة و مات بأحدابيه في مصيره إلى مصر، و فيما أظن أن ولده بمصر إلى هذه الغاية. ثم إن اسماعيل استخلف ابنه أبا تميم معدّا و جعله وليّ عهده، و سماه بالمعز لدين [اللّه ] «1». و مات إسماعيل في سنة إحدى و أربعين و ثلثمائة، و قام أبو تميم بعده، و سار سيرته، و رفق بالناس و تمكن، وصفت له المغرب فما تحرك عليه أحد، و اتسع ملكه و جبى الأموال. ثم تغيّر و قرّب الدعاة فقالوا: هذا هو المهديّ، و هو الذي يملك، و هو الشمس التي
__________________________________________________
(1) زيادة مني اقتضاها الكلام
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:604
(1/654)
تطلع من غربها. و اتفق أن الروم أخذت ثغور المسلمين من طرسوس و أذنة و المصيصة و عين زربة و غيرها في أيامه، و احتوت عليها، فاشتد طمعه في الاسلام، و سره المصائب التي نزلت بالمسلمين، و بلغه أنه قد كتب على المساجد ببغداد لعن خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فطار سرورا بهذا و طغى و تجبر، و همّ بغزو مصر لأن فيها شيعة كثرا، و إنما سلطانها خصيّ أسود مولى لموالي بني العباس و قال: عقله عقل امرأة، و الذين معه من الجند أسوأ حالا منه، قد اعتادوا الترفه و الأكل و الشرب، و ليست لهم بالحرب عادة، و من بها من الشيعة يكاتبنا و يهون أمر هذا الخصيّ، و الثغور فقد ذهبت، و ما بقي للاسلام سلطان و لا/ ملك، و الديلم الذين بالعراق و الجبال شيعة لنا و من قبلنا. فكان يقول له من حوله مثل ولد أبي الحسين بن عمار و جعفر بن فلاح بن مرزوق، و محمد بن سليمان: يا أمير المؤمنين، مصر قد أفنت رجالكم و فرغت بيوت أموالكم، و قد طمع فيها آباؤك مرة بعد مرة فما تم ما أرادوا. و كان الدعاة يقولون: إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز لدين اللّه الأرض كلها، و بيننا و بينكم الحجر الأسود، و ليس هذا كغيره، فإن لم نملك هذه الأرض كلها فكلما نقول لكم باطل. يعنون بالحجر الأسود كافورا الخصيّ الأسود أمير مصر.
فمات كافور في سنة ست و خمسين و ثلثمائة، و اختلف العسكر بمصر، و كان أميرهم ابن عبيد اللّه بن الأخشيد و كان شيعيا قد دخل في الدعوة، و كان رخوا مخنثا، فقال له أبو جعفر بن نصر. أيها الأمير، أمير المؤمنين أبو تميم المعز لدين اللّه هو لك كالوالد، و الجند فقد طمعوا فيك، فإن شئت أن تدع الأمر له حتى يدبره لك، فإنه أبصر بتدبير الجند و أقدر، فقال:
إي و اللّه أريد الراحة منهم، و أقبل على أبي يعقوب بن الأزرق الكاتب الأنباري
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:605
(1/655)
فقال له: يا أبا يعقوب، قد جعل هؤلاء الجند في فؤادي كل دودة مثل هذه، و أشار إلى إصبعه، و أخذ ابن نصر كتابه إلى أبي تميم بذلك.
فأرسل أبو تميم صاحبه و هو عبد كان لهم من الروم يقال له جوهر، فخرج في مائة ألف فوافى مصر و دخلها بلا حرب و لا قتال و لا خلاف في في سنة ثمان و خمسين و ثلثمائة، و استولى على الكنوز و بيوت الأموال، و خرج أميرها أبو محمد الحسن بن عبيد اللّه بن الأخشيد فأقام بالرملة، فخرج إليهم جعفر بن فلاح في عسكره فكبسه و أنفذه/ إلى جوهر، فأنفذه إلى المغرب «1»، إلى أبي تميم. فلما حصل عنده أظهر له البشر و البشاشة و قال له: أنت ولدي و لحمي و دمي، و إنما أنفذت جوهرا لنصرتك و طاعتك، و اللّه يا بني ما حصل جوهر بقلشانة حتى لزمني عليه أربعة ألف ألف دينار و خمس مائة ألف دينار، و قلشانة هو منزل بالغرب من أفريقيه. فطن أبن عبيد اللّه أن الأمر كما قال، فقعد يسعى بجوهر و القواد الذين استأمنوا إليه من المصريين، مثل نحرير الأزغلي، و نحرير شويزان، و شمول، و غيرهم من القواد و الأمراء، و كان كل واحد منهم كقارون في الغنى، فكتب المعز إلى جوهر فقبض عليهم و غدر بهم أجمعين، و حملهم إلى المغرب و قبض نعمهم و كنوزهم. و حصلوا بالمغرب مع ابن عبيد اللّه بن الأخشيد فما يعرف لهم خبر إلى هذه الغاية. و وافى أبو تميم معدّ بن اسماعيل مصر في سنة اثنين و ستين و ثلثمائة.
و قد كان للقرامطة الذين بالأحساء عليه أتاوه و جزية يأخذونها منه عن أعماله و ما في يده، فأخرها عنهم و استطال عليهم و على الناس كلهم بملكه مصر. و قال جوهر و قد ذكرت له قرامطة الأحساء و الجزية التي لهم عليهم،
__________________________________________________
(1) في الأصل: «أنفذه»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:606
فقال: من هؤلاء الكلاب، الآن أنفذ كتامة إلى الأحساء فيشدون براذينهم على أبوابهم و يسبونهم.
(1/656)
و احتجب المعز بمصر، فكان لا يصل إليه إلا الواحد بعد الواحد من خواصه، و بث جواسيسه و عيونه و ثقاته من الرجال و النساء في الناس يتعرفون له أخبارهم، من الجند و العامة، و يأتون بها، و يلقون من الأراجيف في الناس ما يوصيهم به. و طال استئثاره حتى أرجف الناس بموته، و هو متوفر على التنعم و الأغذية التي تشحّم و تسمّن، و الأطلبة التي تنقىّ/ البشرة و تحسن اللون و الصورة. ثم ظهر للناس بعد مدة طويلة، و جلس لهم في حرير فائق رائق أخضر مذهب و عمامته منه، و على وجهه الجواهر و اليواقيت و هي تلمع كالكواكب، و أوهم أنه كان غائبا في السماء، و أن اللّه رفعه إليه، و كان يتحدث بما كان يأتيه به أصحاب أخباره في حال استتاره، و يوهم أن اللّه أطلعه على تلك الغيوب، و يعرض بالجمل دون التفصيل، و يقول: قوم:
قالوا كذا، و قوم قالوا كذا، و قوم عزموا على كذا، و بث الجواسيس بالأراجيف بأنه كان في السماء و أن اللّه استزاره و رفعه إليه، فامتلأت قلوب العامة و الجهال منه، و ظنوا ذلك، و أن كل ما يتوعد به و يعد به من تلك الأرض كلها حق.
و وافى العراق أبو عليّ الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنّابي من الأحساء في عسكر، و السلطان ببغداد أبو منصور بختيار بن معز الدولة، فسأله أبو عليّ هذا القرمطيّ أن يأخذ له عهدا و لواء من الخليفة المطيع للّه ولاية على مصر و الشام، و قال لهم: أنا أعرف بهذا الممخرق أبي تميم منكم، و أعرف أصله و أبوته و مخاريق عبد اللّه بن ميمون القدّاح و أولاده، و أن أبلغ به أقصى المغرب و أردّه من حيث جاء. فقال الخليفة المطيع للّه لبختيار و قد سأله ذلك: لا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:607
(1/657)
أفعل هذا، هؤلاء كلهم قرامطة، و هؤلاء قتلوا الحجاج بمكة، فإن تابوا من ذلك و برئوا ممن فعله و تركوا التسمي بالسادة وليتهم، و إلا لم أفعل. فثقل على أبي عليّ هذا و كان يعترف بالتقصير و بري ء من فعل إخوته و بنى عمه من من أبي سعيد و أبي طاهر و غير هما من آبائه و أخذ يعتذر لما صنعوا بمعاذير طويلة، و أنهم ما فعلوا ذلك عداوة للاسلام و لا خروجا عن طاعة الخلفاء من بني العباس، فما قبل/ ذلك المطيع، و أقام على منعهم. و طال خضوع أبي عليّ هذا فما أجابهم المطيع، فأشار عليه بختيار أو غيره بأن يذهب و يدّعي أن المطيع قد ولاك، و قيل له: العسكر الذين معك جندك و أهلك و أصحابك و من مالك تنفق عليهم، و لست تطمع في أن يعطيك المطيع شيئا من مال و لا جند، فقبل ذلك.
و ما كان رغبته في تقليد المطيع إلا لتقبله العامة بالشام و مصر، فلما لم يجبه المطيع إلى ذلك اتخذ هو لنفسه اعلاما سودا و رايات، و كتب عليها المطيع للّه أمير المؤمنين، و تحته: السادة الراجعين إلى الحق، ثم سار إلى الشام. فلقي عساكر أبي تميم و واقعهم و قتلهم، و قتل أميرهم ابن فلاح، و قتل أصحابه، و استولى على الشام، و أقام الدعوة للمطيع و لخلفاء بين العباس، و أظهر تعظيمهم و وجوب طاعتهم، و أخذ في لعن أبي تميم، و ذكر آبائه واحدا واحدا، و أنهم ولد القداح، و أنهم ما كانوا قط إلا كذابين ممخرقين أعداء الإسلام، يذهبون مذاهب الزنادقة. و أبو تميم قد انحجز مع عساكره بمصر، و مع هذا فيبذل له من الجزية و الاتاوة أكثر مما «1» كان يأخذ قبل هذا، و الحسن هذا يقرأ كتبه على الناس و يبين فيها عيّه و مخاريقه، و بلغ بأبي تميم الخوف منه إلى أن حصن مدينته بمصر و هي التي يسمونها القاهرة، و شيد سورها و أوثقه،
__________________________________________________
(1) في الأصل: «ما».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:608
(1/658)
و حفر خندقها و عمقه، و الحسن يبلغه ما ينادي به أبو تميم من فضائحهم تحريضا للناس عليه، فيقوم بالشام و ينادي بفضائحهم و عداوتهم للاسلام كما هو مذكور في كتبه و أشعاره فيهم.
و لكثرة ما قال و بيّن من ذلك، قال أبو بكر النابلسي/ رئيس الفقهاء بالشام: جهاد هؤلاء أولى من جهاد الروم، و غزو هؤلاء أولى و أوجب من غزو الروم، إذ الروم أهل كتاب و هؤلاء كفار مشركون ليسوا أهل كتاب بل هم أعداء جميع الأنبياء و جميع الكتب التي أنزلها اللّه، و الروم لا تكتم دينها بل تفضح بما تدعوا إليه، و هؤلاء يضمرون الشرك و يخدعون الناس بإظهار التشيع.
و سار الحسن هذا حتى نزل على خندق القاهرة و حاصر أبا تميم و أشرف على أخذه، فبذل أبو تميم الأموال لابن الجراح الطائي هذا الذي هو حيّ و هو كثير العشيرة، فغدر بالحسن هذا، و أخذ سواده من ورائه و شغله بنفسه، و أفسد تدبيره فانصرف عن الخندق و انهزم بمن معه، و لحق أبو تميم المنهزمين من أصحاب الحسن فأخذهم و أخذ أتباع العسكر و أهل السوق في العسكر، و أرسل إلى الشام و أخذ أبا بكر النابلسي الفقيه، و سأله عما بلغه عنه و ما أفتى فيه، فاعترف به و قال له ما هو أغلظ منه، فأمر بسلخه حيا فسلخ، و هذه عادة لهم في سلخ المسلمين أحياء، قد فعل ذلك سعيد و غيره، و أخذ من ظفر به من قرامطة الاحساء فأكرمهم و وصلهم و خلع عليهم و عاتبهم و ردهم مكرمين إلى الاحساء.
و ضمن أبو تميم لابن منجا القرمطي صاحب الحسن الأموال له خاصة إلى أن أصلح بينه و بين الحسن و بين أهل الاحساء فضمن ابن المنجا ذلك له، و كان
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:609
(1/659)
من الماسورين فأطلقه و أطلق غيره من الاسارى، فذهبوا و أصلحوا بينهم، و قبلوا الأموال و الأتاوة من أبي تميم و أجراها لهم في كل سنة، فكفوا عنه، و أخذوها منه في حياته إلى أن مات، و أخذوها من ابنه هذا المتسمى بالعزيز، و هو نزار أبو المنصور بن معدّ، إلى أن حاصر الأصفر العقيلي/ القرامطة بالاحساء و قتل من يخرج منهم، فهم إلى هذه الغاية ما يحرج لهم سرية خوفا من الأصفر «1».
و بادر نزار بن أبي تميم هذا فهادى الاصفر بهدايا كثيرة نفيسة، و حمل إليه أموالا عظيمة، و سأله أن يرسل إليه ثقة له، فأرسل الأصفر ابن أخته فأكرمه نزار الكرامة التامة، و حمل على سرج من ذهب، و قاد بين يديه الخيول، و أعطاه الأموال على أن يدعو خاله للدخول في دعوتهم على أن يقطعه البلدان العظيمة من أرض الشام. فمنع الأصفر من ذلك رجل معه من أصحاب أبي حنيفة يقال له أبو بكر محمد بن محمد النيسابوري، فقال له:
لا تغتر بما يظهره نزار من أنه من المسلمين و أنه يدعو إلى الإسلام و إلى الحق، فإنه شر من هؤلاء القرامطة الذين بالاحساء، و هم الأصل في الفساد الذي وقع في الاسلام، و خذ الاموال التي أعطوك فإنما هي هدايا أهدوها لك، و ابتدؤوك بها. فأرسل الاصفر إلى نزار في جواب الرسالة: إني لست أجيبك إلى قبول ما بذلت من الاقطاع بالشام إلى أن أفرع من الاحساء و أهلها و أعرفك ما عندي.
فيقال لهؤلاء الدعاة: قد تفرغتم لشتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أكثرتم الطعن فيما أتى به و التعجب من اتباعه و الاقامة على دينه، من غير أن تجدوا له كذبة أو عثرة أو زلة كما لم يجده أسلافكم من اعدائه قبلكم، و لو كان كما
__________________________________________________
(1) انظر الجزء الأول من الكتاب، الصفحة 107
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:610
(1/660)
تزعمون لافتضح كما تفتضحون في كل طرفة عين فضائح لا تحصى لكثرتها، و لو اعملتم النظر و التفكر و التدبر لعلمتم صدقه و نبوته، و كان علمكم بذلك يزيد على علم غيركم، فإنكم مع تستركم في ابتداء أمركم به صلى اللّه عليه، و إظهاركم الاعتصام بشريعته و الدعاء إلى المهديّ من ولده، و مع أخذكم له العهود و المواثيق بستر ما يلقونه إلى الناس،/ و مع كونكم في الاطراف و البوادي و معدن الجهل و الغافلة من المغرب، و مع تجنبكم الفطناء و الأدباء و أهل البحث و النظر قد افتضحتم هذه الفضائح، فلو كان كاذبا و محتالا كما تقولون لكانت سبيله سبيلكم.
قالوا: إذا حقت الحقائق و حصلنا مع من قد نظر و اعتبر اعترفنا بأنا مبطلون و محتالون، و أنا قد سخرمنا حين دعينا، و سخرنا من الناس بالتشيع، و خدعناهم كما خدعنا و ما ها هنا إلا مبطل.
قلنا: أما أنتم فقد صدقتم عن أنفسكم و ثبتت فضائحكم، فهاتوا له»
صلّى اللّه عليه و سلم هفوة أو زلة أو كذبة حتى يكون في مثل حالكم، فإنكم و من تقدمكم لا تجدون ذلك و لا تهتدون اليه.
فقال الزنجاني القاضي و هو رئيس من رؤسائهم و له أتباع، كتاب و رؤساء «2» فأين الشعر الذي هجى به.
قيل له: في الشعر الذي هجي به، الدعوى عليه بأنه كذاب و ساحر مثل
__________________________________________________
(1) في الأصل: لهذا
(2) يوجد هنا نقص في العبارة، و لعله كلام سقط من الناسخ، و لما كانت هذه النسخة التي نعمل عليها هي الوحيدة المعروفة حتى الآن لم يكن هناك مجال لمعرفة نص هذا النقص، لكن تقديره أن الزنجاني احتج بأن الرسول قد وجهت اليه تهمة عن طريق شعر قيل فيه، و يرد القاضي على احتجاجه هذا.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:611
(1/661)
ما تدعي أنت و أمثالك عليه، و في القرآن مما أدّعوه عليه أكثر مما في شعر أولئك الشعراء، من ادعائهم عليه أنه ساحر و كاهن، و أنه قد اكتتب أساطير الأولين و أعانه على ذلك قوم آخرون، و أحد لا يكون كاذبا بدعوى خصومه عليه كما لا يكون نبيّا بدعوى أوليائه له، و إنما يكون نبيا بالحجة كما قدمنا و يكون كاذبا بأن يشار إلى أكاذيبه و حيله، و تذكر و تفصل كما أشرنا إلى أكاذيبكم و حيلكم و فضائحكم و بيّناها مفصلة.
و إنما أشرنا إلى هذا الزنجاني القاضي لأنه كبير فيهم، و من اتباعه زيد ابن رفاعه الكاتب، و أبو أحمد النهرجورى، و العوقى، و أبو محمد بن أبي البغل الكاتب المنجم، و هؤلاء بالبصرة أحياء و غيرهم في غير البصرة./
و مما يلجئون اليه و يفرحون به و هو عندهم أكبر حجة لهم، قالوا: قلنا لأبي تميم: يا أمير المؤمنين: إن ابن رزام قد وقف على سر الدعوة و عرف أصولها، قال: أ ليس مع هذا قد صرنا جماعة و صارت لنا مقالة.
قالوا: فإذا كنا مبطلين و لنا من الحيل و الفضائح و الأكاذيب أكثر مما عرفه ابن رزام، و أكثر مما عرفه من بعده، و مع هذا فقد صرنا جماعة و صار لنا ملك و صار الخلق الكثير أتباعا لنا يدّعون لنا المعجزات و الآيات و الدلالات و أن صاحبنا المهدي و حجة اللّه على خلقه و إن كان لا أصل لذلك، فأمرنا من أدل الدليل على كذب كل من ادّعى النبوة و أطاعه الناس و كانت له جماعة و مقالة و شريعة.
و قد قال أبو تميم مرة: لا يهولنكم ما صنعه ابن رزام، فما تحوي الأرض كلها مئتي إنسان يعرف ذلك، فاستغلوا بطلب الملك فإن الناس في غفلة، فاذا ملكتم الناس قبلتم هؤلاء الذين يعرفون سرّ مقالتكم.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:612
(1/662)
قالوا: و هذا نزار يخطب له في الحرمين و المواسم، و ينادى في الحرمين أمير المؤمنين العزيز نزار صاحب الدلالات و العلامات و المعجزات، فلا ينكر ذلك منكر، و ما يعرف له من المعجزات إلا بيع الخمور و إقامة دور الزواني و القوادين و نكاح الذكران و أخذ المكوس. فإن قلتم لنا: إن السيف أسكت الناس عن الانكار، قلنا: و كذا حال من قبلنا من الذين ادّعيتم لهم النبوة.
قيل لهم: مع كونكم قاهرين غالبين و تمام حيلكم على الناس لستم تخرجون من أن تكونوا مبطلين مفتضحين، و إن قل من يعرف فضائحكم، و لو لم يكن واحد من الناس كلهم اشتغل بطلب عيوبكم/ لما خرجتم من أن تكونوا مبطلين مفتضحين، حتى لو رام كل عاقل في الأرض أن يعرف فضائحكم و كيف كان ابتداء أمركم لعرف ذلك، و لو طلبه لوجده و لأحاط به من أوله إلى آخره، فليس تمام حيلكم على من خدعتموه و سخرتم منه بجاعلكم من المحقين، و لو تمت حيلكم على أهل الأرض أجمعين، و لو أسكتهم خوفكم و سيفكم، و هو كما قال بعض الناصحين للملوك الظالمين: إنكم إن قدرتم على ختم أفواه الرجال فلا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح حسنا. و إن غلبتم الناس على ذات أيديهم فلن تغلبوهم على عقولهم، فما أثمرت غلبتكم و تمام حيلكم و وصايا أبي تميم لكم إلا الويل الطويل و الخزي المقيم الذي يسكت أولكم و آخركم، و ما أنتم في هذا إلا كمن خدع رجلا و عاهده و بذل له غليظ الأيمان أنه من أنصح الناس له، حتى وثق به و ائتمنه على نفسه و ماله. ثم وثب به فقتله و احتوى على نعمته، ثم أخذ يفتخر بما ملكه و احتوى عليه، فقيل له:
أنت و إن وصلت إلى هذا فلست تخرج من أن تكون كاذبا غادرا. و قولكم:
إن من ادّعى النبوة في مثل حالنا في الباطل، و قول رئيسكم: أفسد أمور الناس ثلاثة: راعي و طبيب و جمّال و أغيظهم لنا الجمّال «1» فإنه أفسد سائر
__________________________________________________
(
(1/663)
1) جاء في هامش الأصل «قول رئيس القرامطة أفسد أمور الناس ثلاثة»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:613
الناس، يعنون بالراعي موسى، و بالطبيب عيسى، و بالجمال محمد صلوات اللّه عليهم أجمعين، فهل معكم إلا الدّعوى و التكذب عليهم و الغيظ منهم.
و انظروا في أمر هذا الذي غيظكم منه أشد، فعهده أقرب، و أعلامه أظهر و هو ما قد ذكرناه لكم من القرآن ففيه أتم الحجة، و ما جاء مجي ء القرآن ففيه زيادة الحجة،/ فيجدون أول أمره كاخره، و ظاهره كباطنه، و سريرته كعلانيته، و كيف يفضح اللّه الطاعنين عليه من الأولين و الآخرين و لا تزداد حجته إلا قوة و لا برهانه إلا إنارة. و انظروا في أول أمركم و في آخره، و في ظاهره و باطنه، فإنكم تجدون ذلك في غاية الفضيحة، فإنكم في مبتدأ أمركم و ظاهره تدعون اليه و إلى التمسك بشريعته، و باطن أمركم خلاف ذلك، فما لبثّم أن افتضحتم تلك الفضائح.
و بعد، فلو صدقتم الناس عن دعوتكم و كاشفتموهم بها، كما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فيما دعا إليه و الأنبياء قبله، لما اتبعكم مسلم و لا يهودي و لا نصراني و لا مجوسي، و لا كان يتبعكم من يقر بالربوبية، فأمركم أصدق شاهد في سلامة النبوة من كل عيب، فتركتم هذا و قلتم: دعونا منه و خذوا فيما تم لنا و فيمن خدعناه و ان افتضحنا، و نحن فما قلنا: إن أحدا لا تتم عليه حيلة و لا يسخر منه و لا يخدع، و ان المبطل لا يتبعه أحد. و كانوا قديما إذا وعدوا الناس سرعة خروج المهديّ فأخلف ذلك عن ميقاته الذي ذكروه قالوا لمن يستبطي ء ذلك و يسأل عنه، فيقول: ألم تقولوا لنا إن الفرج يكون في هذه السنة و ما رأينا فرجا، فيقولون له: استغفر اللّه و تب اليه فهذا كفر، و يتلون قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي «1»
__________________________________________________
(1) الأعراف 187
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:614
(1/664)
و مثل قوله: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» «1» فيتحير ذاك اليائس و في عنقه أيمان قد قيدته عن الشكوى و لقاء العلماء و يخاف أيضا مما قد توعدوه به من أن جعفر بن محمد قال: من أفشى سرنا أذاقه اللّه حر الحديد في الدنيا و النار في الآخرة، و ربما قالوا قد سخط اللّه على أهل الأرض فبدا له من إظهاره/ في الوقت الذي وعد أن يظهر فيه، و اللّه يؤخر المقدم و يقدم المؤخر. و جواباتهم تحسب ما يرون في السائل من فطنة أو بلادة أو فقر أو غنى، أو عز أو ذل، فيورون عن فضائحهم بألوان الحيل.
فيقال لهم: قولكم أخر اللّه خروجه عن الوقت الذي وقّته لذنوب العباد و لسخطه عليهم، كل هذا سخرية و فضيحة لكم، فإن اللّه عز و جل لا يعاقب عباده بإخلاف مواعيده و بكذب إخباره، و إذا قال اللّه إنه يفعل كذا و كذا في وقت كذا و كذا، أو أن فلانا سيفعل كذا و كذا في وقت كذا و كذا، فإن ذاك يكون كما أخبر و كما قال في الوقت الذي قال لا يتأخر عن ذلك و لا يتقدم عليه، لأنه عز و جل عالم لنفسه لم يزل كذلك و لا يزال، يعلم ما سيكون قبل أن يكون و ما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون: و قولكم: هذا مما بدا للّه فيه، فإنما يجوز البداء على المخلوقين، و على من لا يعلم العواقب، و أما علام الغيوب و من يعلم ما يكون قبل أن يكون، فلا تعرض له البدوات، و لكن اللّه عز و جل أبدى للعباد كذبكم و أظهر بهذا فضائحكم، فأحلتم كذبكم على ربكم و برّأتم منه أنفسكم.
[حول بعض الشكوك التي يطلقها الباطنية عن أحاديث الرسول ص و تعليق واسع حول التداوي و الأدوية و استعمالها]
و مما يسألون عنه، ما جاء في الرواية من قوله صلّى اللّه عليه و سلم: «بيت لا تمر فيه جياع أهله». و هذا قصر مولانا العزيز ما فيه أحد يأكل التمر و لا يشتهيه، و ما هم جياع بل شباع «2» قلنا: قد علم هو صلّى اللّه عليه و سلم و أصحابه الذين قال لهم
__________________________________________________
(
(1/665)
1) لقمان 34
(2) جاء في هامش الأصل «تأويل قوله عليه السلام بيت لا تمر فيه جياع أهله»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:615
هذا أن ها هنا أمما كثيرة لا تجد التمر و فيهم من لا يشتهيه، و هم شباع، و إنما أراد بذلك أهل المدينة و أمثالهم من بلدان النخل، و القوم الذين هم أكلة التمر، و أقواتهم التمر، فحضهم على اتخاذ النخل لقوت عيالهم، و هذا من مسائل أهل الخيبة/ و الافلاس.
و مما يسألون عنه، ما جاء في الرواية من قوله: صلّى اللّه عليه و سلم «الشفاء في لعقة عسل أو شرطة حجام أو آية من كتاب اللّه» و قوله: «الكمأة من المنّ و ماؤها شفاء للعين» فقالوا: نحن لو أطعمنا العسل المحموم و المبرسم أضررنا به و ربما قتلناه، و كذا صاحب الصفراء، و لو حجمنا المفلوج و الملقو و صاحب الرطوبة لضره ذلك و أسقمه، قالوا: و قد يقرأ القرآن كله على العليل فلا يبرأ، و ربما مات، و لا يعرف الناس في أدوية العين ما الكمأة.
قلنا «1»: ما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم لا دواء إلا هذا و لا شفاء إلا في هذا، و إنما قال:
(1/666)
في هذا الشفاء، و قد صدق صلّى اللّه عليه و سلم. فإن الناس يجدون في العسل من الشفاء في الأدوية و الأغذية و المطاعم ما يعم نفعه و لا يمكن دفعه، و في الحجامة شفاء عظيم لخلق كثير، و لم يأمر صلّى اللّه عليه و سلم بذلك في كل مرض فيكون لقائل مقال، و قد قال صلّى اللّه عليه و سلم: ماذا في الأمرّين من الشفاء: الصبر و الشقاء. و ذكر صلّى اللّه عليه و سلم الشفاء في أشياء كثيرة من فواكه و نبات يطول شرحها، و نهى عن أكل أشياء كثيرة في أمراض، و نهى الرمد عن أكل التمر، إلى غير ذلك مما جاء عنه صلّى اللّه عليه و سلم مما يطول شرحه، و إن لم يكن معالجا طبيبا فما وجد في قوله مع كثرة ما قاله كذب، و قد علم هو صلّى اللّه عليه و سلم و الذين قال لهم هذا الذي أراده، و أن الناس قد يتداوون بهذه الأشياء و مع هذا فيموتون و يهرمون، و على أن هذه الأدوية
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل: «تأويل قوله صلّى اللّه عليه و سلم: الشفاء، في لعقة عسل أو شرطة حجام أو آية من كتاب اللّه، و قوله: الكمأة من المن و ماؤها شفاء للعين».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:616
(1/667)
لا تفعل الشفاء بل لا تفعل شيئا البتة لأن الفعل لا يكون إلا من الحيّ القادر و هذه الأدوية موات، و الشفاء لا يفعله إلا اللّه عز و جل، و قد يفعله بلا دواء و يفعل السقام مع التداوي، و لكنه/ عز و جل قد أجرى العادة بأن يفعل الشفاء عند التداوي في بعض الأحوال و الأوقات دون بعض، كما قد يفعل النبات عند البذر و السقي و قد لا يفعله مع ذلك، و قد ينبت ما لا يحرثه العباد و قد أجرى العادة بالشفاء من الأمراض المتفاوتة المتضادة بالدواء الواحد و هو القرآن فما كان للناس دواء في القديم غيره، حتى لا يكاد يحصى من شفاه اللّه بذلك لكثرتهم، و لا يحصي عددهم إلا اللّه وحده، و كانوا يستحيون من اللّه أن يصفوا أمراضهم للاطباء و المخلوقين و إن كان في ذلك رخصة، لأنهم قد علموا أن السقام و الشفاء من اللّه لا يفعله غيره و لا يقدر عليه سواه، فكانوا لا يشكون ذلك إلا إليه و لا يعرفون قارورة و لا ذكر طبيعة.
و لما مرض أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه قيل له: ألا ندعو لك طبيبا؟
فقال: لا الطبيب أمرضني. و لما مرض الربيع بن خيثم قيل له: ألا شاورت طبيبا؟ فقال: قد أردت هذا، ثم ذكرت عادا و القرون الخالية و قد كان لهم أطباء فماتوا و مات الأطباء.
و قال الحسن: أدركت أقواما و اللّه ما كانوا يعرفون الهليلج و لا التليلج «1» و هذا ماء زمزم و هو غليظ و هو لما شرب له، و لو جمع جميع من داواه المتطببون فماتوا عن علاجهم لما كانوا أشطر من وهب اللّه له الشفاء من علته عند شرب ماء زمزم وحده.
و على أن ذلك الماء وحده يصلح للامراض المتفاوتة المتضادة المختلفة، و هذا الذي ادّعينا في القرآن و في ماء زمزم هو ما كان عليه الصحابة في الصدر الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، إلى تابعي التابعين و الذين بعدهم، يعرفه
__________________________________________________
(1) ثمران يستعملان في العقاقير
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:617
(1/668)
كل من سمع أخبارهم و تصفح سيرهم، و خلق/ كثير على مثل طرائقهم في بلدان الاسلام يستشفون بالقرآن و بماء زمزم من أمراض متفاوتة.
و ربما ادّعوا ذلك عند سماع كلامنا، فيقولون: الترياق الكثير قد نعطيه في الأمراض المتفاوتة، و لو كان ذلك كما ادّعوا لكان آكد لما قلنا، و لكن ما يكاد يوجد ذلك في أدويتهم و أخلاطهم كما وجد الناس ذلك في القرآن و في ماء زمزم.
فأما قولهم ليس في أدوية العين ماء الكمأة فإن هذا قول من لا يعرف الربوبية و لا العادة و لا الطب و لا الأطباء، فان أدوية الأمم مختلفة غير متفقة، فطبّ الهند غير طبّ العرب، و طبّ الروم غير طبّ الفرس، و طبّ سكان المدن غير طب سكان القرى، و طبّ البوادي و سكان الجبال و بيوت الشعر و الوبر غير طب أهل القرى، و لحنين ابن إسحق كتاب ذكر فيه أدوية كثيرة لا يعرفها بقراط و لا جالينوس و لا ذكرها، منها: الجدريّ و الحصبة، و زعموا أنه لا يعرفها، حتى قال ابن زكريا الرازي: يشبه أن يكون قد عرفها. فإنه قال: العدس جيد لغليان الدم، فقيل له: كذا تظن أنت يا ابن زكريا. فإن قيل: مثل هذه الأمراض الهائلة العامة الشاملة حتى لا يكاد ينجو منها إنسان إلا القليل، و حتى صارت تعرض لبعض البهائم، و هي خطيرة، لا تقتصر من جالينوس و بقراط و طب الروم و اليونانيين على هذا المقدار مع كثرة كلام جالينوس في كتبه في صفة الأمراض و المرض و من داواه.
و كثير من بلدان خراسان يتداوون من الحمايات الحادة باللحمان و بالشواء و الاسفيداج و هو الشفاء عندهم، و أهل هراة/ و قاين و ما إلى ذلك، «1»
__________________________________________________
(1) قاين: بلد بين نيسابور و أصبهان، و هراة: من أمهات مدن خراسان معجم البلدان
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:618
(1/669)
يتداوون من الحمايات بتذويب الإلية و الشحوم و يتحسونه حارا و يستشفون به، و أهل نيسابور يتخذون من ورائهم في الحمايات بالسمن، و أهل طبرستان يتداوون من الأمراض بالثوم في الشتاء و الصيف و يقولون: هو في الشتاء حار و في الصيف بارد، و أهل جبال فارس يتداوون من الحمايات بالفراخ و لا يتدافعون انها باردة.
و حتى أن كثيرا من الادوية تنفع حينا ثم لا تنفع بعد ذلك بل يكون داء قاتلا، لا لشي ء أكثر من انهم وجدوه كذلك. ألا ترى أن جالينوس كان يعالج المقروحين و من في صدره قرحة السعال و حمى الدق بالفلفل و الزنجبيل و ما أشبه ذلك، و هذا عند غيره، و في هذا الزمان، و في هذه الأمراض من الادواء القاتلة.
و لقد عرض ببغداد في زمن موسى بن سنان، و إبراهيم بن بكس أبو ابن بكس هذا الضرير الطبيب، و الحسن اليهودي و أمثالهم من حذاق المتطببين ببغداد و هي إذ ذاك أعمر ما كانت، و هؤلاء القوم على البيمارستانات و خدمة الملوك، فعرض القفّاع و كثر، فقال موسى بن سنان لإبراهيم بن بكس خذ يا أبا إسحق الى ساعورك من هؤلاء المقفعّين مائة و تقاسموهم، فقال ابن بكس فرجعت في علاجهم إلى أدوية جالينوس و أوصافه، فما داويت أحدا منهم إلا مات، و ما زالت الجنائز حتى مات منهم ستون، فكففت عن علاج الباقي و هم أربعون، فما مات منهم أحد.
و الكتاب المعروف بالميمر لجالينوس و هو سيفه و تجاربه الذي كان يداوي به المرضى، لا يقربه المتطببون و لا يداوون أحدا به، و كذا الكثير من كتبه «1»،
__________________________________________________
(1) مكررة في الأصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:619
و قد كان أبو الحسن بن زهرون الصابي الحراني واحد الطب ببغداد و رئيسه يتسقط جالينوس في صناعة الطب و يستجهله لما ذكرنا من علاجه. و كان أبو الحسن بن/ نفيس و هو أحد رؤساء المتطببين. (و هو أستاذ ابن بكس هذا) «1».
(1/670)
يعتذر هو و غيره لجالينوس بأن الادوية ما تجري على سنن واحد، و أنها قد تنفع في أمراض بعينها في زمن من الأزمان ثم تضر في تلك الأمراض في زمن آخر.
و كانوا يقولون: اعتبروا بما وجدنا في سني نيف و ثلاثين و ثلثمائة لما حدث القحط و الغلاء ببغداد، و عدم أكثر الناس الاقوات و صاروا مرضى مطرّحين على الطرقات لا دواء لهم و لا غذاء، و نحن نتردد إلى المياسير و الملوك نداويهم و نصف لهم التفاح الشامي و البنفسج و يجدونه و يتداوون بما نصف لهم، و لهم من يمرضهم و يخدمهم فيموتون و يبرأ الكثير من أولئك الذين على الطرقات.
و اختلاف الأدوية كاختلاف الأغذية، ألا ترى أن أجناس الانعام و ذوات الحوافر تغتذي بالاحطاب و الأتبان و الحشائش المرة الكرهة القاتلة لحيوان آخر من الانس و بالنوى، فيصير هذا الحطب و غيره شحما و لحما و لبنا.
و السمك و الخنازير و الدجاج و كثير من الحيوان يأكل القذرة و يخلق اللّه بذلك في أجوافها شحما و لحما و لبنا، و النعام يغتذي بالحصا و النار و الحديد و يحمى له سيخ الحديد فيبلعها فتذوب في قوانصه و يخلق اللّه من ذلك شحما و لحما و بيضا و يدرق الثفل مثل الماء الجاري، و الظبي يغتذي بالحنظل و يشرب ماء البحر، و الأرانب تغتذي بالأيهل و هو سمّ قاتل، و السقمونيا ترعاه البهائم
__________________________________________________
(1) في الأصل: «و هو أستاذ هذا ابن بكس»
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:620
و الاقنيمون الأقريطشي ترعاه البهائم و تحيا به و البيش تأكله البهائم التي هي على هيئة الفأر و هي معروفة به، و كل هذه سموم قاتلة لحيوان الانس، و الحيات يأكلها قوم، و يأكلها الأيّل و القنفذ و السنّور و غير هذا من الحيوان،/ و لا ينكر اختلاف الأغذية و الأدوية إلا جاهل.
(1/671)
على أن الطب ليس بعلم، و إنما هو شي ء وجد بالتجارب، ثم لا تدوم تلك التجارب و لا تمضي على طريقة واحدة، بل تختلف اختلافا كثيرا متفاوتا كما قد رأيت و سمعت، و ذلك من آيات اللّه و دلائل توحيده و إنما أجرى به عز و جل العادات و لا يديمه على طريقة واحدة بل يزيد فيه و ينقص منه و يجعله في وقت و لا يجعله في آخر، حراسة للحق، و لئلا يلتبس الدليل بما ليس بدليل، لأنه عز و جل لا يفعل الجهل و الضلال.
و قولنا في الطب ليس بعلم لأن كان علما لا يتغير قطّ، كالعلم بأن الفعل لا يكون إلا من فاعل، و لا بد من أن يكون قبل الفعل، و يكون حيا قادرا، و إن كان فعله منسقا محكما فلا بد أن يكون عالما.
و لهذا يقول حذاق الطب: إذا قيل لهم في مريض قد أجمعوا على دوائه بدواء معين، فيقال لهم: إن سقيناه هذا يعافى و لا بد؟ قالوا: لا ندري.
قيل لهم: فإن لم نسقه يموت لا محالة؟ قالوا: لا ندري، و نحن فقد يطيعنا القليل فنداويه و نرى أمارات الصلاح فيه ثم يرد من زيادة المرض ما لا نحتسبه، و قد يعصينا و نرى أمارات الهلاك و يرد من العافية ما لا نحسبه.
هذا معروف مذكور في كتبهم، و لسنا مع ذلك ننهي عن التداوي، بل سبيل كل أحد أن يرجع إلى اللّه عز و جل و يستشفي بالقرآن و بماء زمزم و بالصدقة فمن شاء أن يقتصر على ذلك فعل، ثم إن كانت له عادة بالتداوي
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:621
تداوى بعد أن يقدم ما ذكرنا، فقد جاءت الرخصة بالتداوي بما يحل من الشريعة لأنه قد جاء في الأثر: «ما جعل اللّه شفاءكم فيما حرّم عليكم، «1»» و جاء: «عود بدنا ما اعتاد» «2».
ثم ليس إلى السلامة/ سبيل و إن دامت الصحة، و قد قال صلّى اللّه عليه و سلم اللّه كفانا بالسلامة داء، و هذه كلمة قصيرة كثيرة المعاني، فإن الانسان و إن دامت صحته فهو معها يهرم و يبلي و يتغير و إن كان طبيبا حاذقا مقتدرا، و كان أبو عثمان عمرو عبيد كثيرا ينشد قول القائل:
(1/672)
يهوى البقاء فان مدّ البقاء له و صادفت نفسه فيه أمانيها
أبقا البقاء له في نفسه شغلا مما يرى من تصاريف البلى فيها
و قال آخر:
إذا مات المعالج من سقام فأحرى بالمعالج أن يموتا
و قال آخر:
يعيش راعي الضأن في جهله عيشة جالينوس في طبه
و ربما كان راعي الضأن في جهله أدوم صحة و جلدا و بقاء من جالينوس و من حذاق الأطباء، و أنت تجد هذا عيانا من الرعاة و الملاحين و الزبالين و أشباههم، و قل ما يوجد طبيبا حاذقا سليما من الأمراض، هذا أبو الحسن بن بكس عرض له الرمد و أبوه حيّ و بالغ في علاجه، فذهبت احدى عينيه، ثم طب و حذق و زادت صناعته و ذهبت الآخرى بعد ذلك، و المعروف بالتلميذ،
__________________________________________________
(1) جاء في هامش الأصل من حديث ابن مسعود، و روي مرفوعا من حديث له.
(2) جاء في هامش الأصل تعليقا على هذا: «هذا من كلام الطبيب الحارث بن كلدة: و من رفعه إلى رسول اللّه أخطأ».
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:622
به فتق و غيره من الأمراض، و ابن سابور قد عرضت له في خصيتيه أذرة قد أثقلته لا يمكنه أن يركب، و سنان الصابي ء أكثر أسقاما، و تلميذه أبو عبد اللّه بن المعلم ها أنت تشاهده أصفر سقيما قد نهكته البواسير، و ابن المهزول و أبوه طبيب حاذق مات و ما بلغ ثلاثين سنة، و ابن بنت أبي الحسن ابن بكس امرأة أبي الحسين الطبيب عرض لها مرض أشب ما كانت، و أبوها طبيب، و زوجها طبيب، و عمها طبيب، و حموها طبيب، قد اجمعوا على علاجها فماتت بأسرع من ذاك.
(1/673)
و هذا بيت بني زهرون/ الصابئين و محلهم في الطب و العلم بصنعته المحل العظيم، و لهم من القيام على أنفسهم و المراعاة للطب و توفيته حقه، و هم خلق كثير و منزلتهم في الجانب الشرقي من سويقة عباسه، و أمراضهم و أسقامهم تكاد تزيد على أمراض الجهال الفقراء الذين تقل مبالاتهم بالحياة و الصحة، و أكثرهم يموتون في الشباب و الكهولة، و يقل فيهم من تعلو سنه و يهرم، و الذي بلغ منهم نيفا و ثمانين سنة هو أبو الحسن بن هرون أبو أبي الخطاب، و ابنه أبو الخطاب دفنه شابا في حياته، و هذا أبو الحسن بن أبي الخطاب يحيا و هو شاب و به مرض عظيم، و هؤلاء حذاق الطب و أبناء الحذاق.
و لم تعيرهم بالأمراض فإنها من فعل اللّه و مما يبتلي به عباده، و لكن ذكرنا هذا للاعتبار و التنبيه على آيات اللّه عز و جل و هو المبتلي و المعافي، و لأن أكثر هؤلاء الأطباء يعتقدون أن الأدوية تفعل، و لها طبائع تفعل الصحة، و تنفي الأمراض، و غير ذلك من الجهالات، و ينكرون النبوات، و يكذبون الانبياء و يستجهلون المسلمين و أهل الشرائع، و ينكرون الربوبية و البعث و النشور، و عندهم من الحمق و الجهل و العجب ما لا يبالون بمن قتلوا من المرضى و أسقموا من الأصحاء، و يقولون في أنفسهم و فيما بينهم إن التقينا فاقتصوا منا كيف
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:623
شئتم، و إلى غير ذلك من جهلهم و حمقهم و إرصادهم للمسلمين بما يطول شرحه.
(1/674)
و قد عرفت حال من تقدم في زمانك من أسلافهم و تجريدهم في الإلحاد مثل قسطا بن لوقا، و حنين بن اسحق، و ابنه اسحق، و أشباههم. و قد عرفت مكاشفة ابن زكريا الرازي، فهذا كان نصرانيا بن نصراني، يتستر بالنصرانية و يذهب مذاهب الملحدة، ثم أظهر الإسلام و تسمى/ بمحمد، و كان اسمه يوحنا. و إنما فعل ذلك مكيدة للإسلام، و كان يقول: محال أن يقدر اللّه أن يخلق الانسان من غير تناسل و يكمل له عقله و قوته ضربة، و أنه لو قدر على ذلك لفعله و لم يفعله كما نرى حالا بعد حال، و ليس ما يشاهده العقلاء من خروج الفروج من بيضته كاسيا كاسبا غنيا عن أبيه و أمه و عن أمثاله، و خروج فرخ الوز سابحا لا يحتاج إلى ما يحتاج اليه العقلاء من المعلمين للسباحة، و ما يبنيه النحل، و ينسجه العنكبوت و دود القز، و كل هذا ضربة واحدة، و قد تقدم لك ذكر أمثاله في المصباح.
و نسي ما خلقه اللّه ضربة واحدة من السموات و الأرضين و الجبال، و من بياض القطن و الطير و الخيل، و ما خلق اللّه ألوانه ضربة واحدة، و كذا طعومه و أرائحه، فإنه كان ينكر القدرة على خلق العنب و أمثاله ضربة، و كان يقول:
لا بد من أن يكون أولا حصرما أخضر، ثم بدت فيه بعد ذلك الحلاوة الحلاوة و السواد. و كان يقول في الشيب: إنه من تعفن الرطوبات في أصول الشعر، فيقال له: الخيول و الطيور و غيرها من المخلوقات بيضاء ضربة و لا رطوبة.
و كان يقول: ليس للّه نعمة في خلقهم، و ما خلق اللّه من الصحة و الاسماع و الأبصار و القول و الجلد و الشهوات و ما يجدونه من اللذات، و يقول: هؤلاء
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:624
الذين اعتقدوا هذا جهال حمير لا يميزون، و إنما الذي يجدونه من اللذة راحة من ألم فيهم و وجع يعتريهم، كالذي يجد من الراحة من أثقله بوله و غائطه حين يضعه، و كالذي يستريح بحك جربه و يضع المرهم على شجّته و جرحه.
(1/675)
و كل عاقل في الدنيا يفرق بين ما يلتذ به و بين ما يتداوى به من جرحه، و يتمنى بقاء ما فيه من شهوة و شباب و جلد و يحرص على اجتلا به،/ و يأسا على ما فاته منه، و يبكي و ينوح على ما فاته منه كما يبكي على فقد أحبابه، و لذهاب سمعه و بصره، و يتمنى ردّ ذلك عليه، و يستوصف الأطباء ما يقوي الشهوة و يعيدها و هو لا يتمنى الجرب ليحتك، و لا القروح و الجراح ليتداوى، و لا أثقال الغائط و البول له ليقعد لإخراجه. و هذا من الجهل الواضح الذي يعرف بالحس، و العجب أن لابن زكريا في مواضع من كتبه في الطب أبوابا في حفظ الشهوة و الصحة و الشباب و الجلد و القوة، و يوصي بذلك أتم الوصايا.
ثم فهم ينسون المشاهدات، و يدفعون الضرورات، و قد شغلهم الغيظ على من جعل هذه نعما من اللّه و وعد بأمثالها في الجنة، و يدعون لأنفسهم و لمن أطاعهم في ظنهم أنهم يبرّونه و يديمون صحته و جلده، و حالهم و حال الملوك الذين استطبوهم و أطاعوهم ما قد عرفه الناس.
و بنزار هذا الذي زعم أنه العزيز و فرعون مصر ظهرت بثرة في مشط قدمه قد أضنته و نغّصت عيشه و قد جمع لها حذاق الأطباء، و بذل لهم الرغائب، و هم حوله و معه لا يفارقونه، و هم آثر الناس و أوجبهم عنده، و ما يزداد مرضه إلا قوة، و هو جلد و سيم جسيم.
و قد كان سلطان بلخ عرض له مرض فوصف له ابن زكريا الرازي ما رغبه حتى رحل اليه، فاقترح على هذا السلطان مسألة أبي القاسم البلخي رحمة اللّه عليه إجابته عما يسأله، ففعل السلطان ذلك، و ألزم أبا القاسم هذا فأجابه،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:625
(1/676)
ثم قال لابن زكريا: قبل كل شي ء فما رأيت أحمق منك، فقال له ابن زكريا: ليس هذا من خلقك و أنت موصوف بالحلم و حسن الأدب، فقال له أبو القاسم رحمه اللّه: أنا أبين لك ذلك، أنت رجل تنكر ما يقوله المسلمون و أهل الشرائع/ في الربوبية و النبوات و تراه جهلا، و هم يرون ما أنت فيه كفرا يحل دم من ذهب اليه ورآه، و أنت بينهم و هم معك و حولك في ألوف فراسخ، و أنت تبدي ذلك و تناظر فيه و لست تحسب الأجر و الثواب في المعاد و لا في العاجل على ذلك لأنك لا ترى بالمعاد و الجزاء، فهذه واحدة. و أخرى، أنك تدعي صحة الكيمياء، و أنك تجعل الحجر و المدر ذهبا و فضة، و لك في ذلك كتب تنكر على من أنكر ذلك و كذّب به، و مع هذا فقد خاصمتك امرأتك في نفقتها و نفقة ولد لك و أحوجتها إلى أن رفعتك إلى الحكام ليفرضوا عليك كما يفعل ذلك بأفقر الناس و أقلهم حيلة، فهذه ثانية. و أخرى، أن ينصرك من الضعف، و يعينك من المرض اللازم ما هو بيّن، و أنت تدعي علم الطبائع و لك حذق في الطب و التقدم فيه و الازراء على من تقدمك من الأطباء، كابن ماسويه و غيره، و على أطباء أهل زمانك، فكان من عذر الرازي في سقم بصره حبّه الباقلاء و كثرة أكله له، و أنه يفضله على اللوز، و أنه أطيب منه، ثم من بعد هذا نزل الماء في عيني الرازي هذا و عمي، و كان يجي ء بمن يقدح الماء منه و يجي ء بمن عمي من نزول الماء في عينه فيستوصفهم كيف عموا، و متى نزل الماء في أعينهم، و ما كانت أغذيتهم، و يجي ء بمن يقدح الماء من عيونهم عنده و يدبرهم على أحوط ما يكون في ذلك ليجرب و ينظر كيف الأثر في ذلك. و كد و بذل و جمع الأطباء فما رجع عليه بصره، و مات أعمى. و قد كان يعرض له من وجع أذنه ما يقلق القلق العظيم، و يمنعه النوم و القرار، و يتداوى بكل ما ذكره المتطببون في ذلك و هو على كل حال/ يتقدم في صنعة الطب،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:626
(1/677)
كثير الكتب و المقالات في ذلك، حتى دخلت امرأة على امرأته و رأت ما به من القلق، فسألت امرأته عن ذلك فقالت: من وجع أذنه، فقالت المرأة الداخلة:
هذا و هو طبيب، و قد سمعت أن الخنفساء الميتة إذا أغليت مع دهن الورد و قطر في الأذن من ذلك الدهن منع من وجع الأذن، فقالت له امرأته ذلك، فقال: افعلوا و بادروا لعله ينفعنى، ففعلوا و قطروا في أذنه فزعم أنه نفعه.
و مثل هذا من الأدوية يحكيه جالينوس كثيرا أنه استفاده من القوابل و من الأكرة و من الملاحين، و كم قد عرض لحذاق الطب من الأمراض التي لا تظهر، و كم هي فيهم و بأي أمراض ماتوا، فنعوذ باللّه من الذهاب عن اللّه و من التوكل على غير اللّه، و إنما ذكرنا هذا لكثرة دعاوى هؤلاء الجهال.
و كم قد بقي الناس و هم لا يعرفون الفصد، و كانوا أطول أعمارا و أصح أجساما، و الروم لا تعرف اليوم لا الفصد و لا الحجامة، و لا الدواء المسهل و لا القي ء، و لا تتداوى بشي ء من ذلك، هذا الغالب عليهم، و أجسامهم صحيحة و صحتهم و جلدهم متصل حتى يقال إن أكثرهم إنما مرضهم مرض موته، و لو أراد المسلمون أن يستغنوا عن الأطباء بمعرفة صنعة الطب لفعلوا، و كان مطلب ذلك و الوقوف عليه أقرب و أيسر من معرفة اللغة و النحو و العروض، و هو أن يقرأ شيئا «1» من كتبهم، و طول مشاهدة المرضى، و لو تكلف هذا من قد عرف صنعة الكلام، و أن الفعل لا يكون من الجماد و لا من الموات، و لا يقع إلا من الحي القادر، و أنّ هذه الأدوية إنما هي بمجرى العادة، و أنه قد يكون و لا يكون، و ينفع و لا ينفع، و أراح المسلمين من هؤلاء/ الأطباء فإنهم جهال بالأصول، و الغالب عليهم الالحاد و القسوة و قلة
__________________________________________________
(1) في الأصل: شرا
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:627
(1/678)
المبالاة، و من كان منهم يظهر المجوسية فليس بمجوسي، أو يظهر النصرانية فليس بنصراني، أو يظهر اليهودية فليس بيهودي، أو يظهر الإسلام فليس بمسلم، هذا الغالب عليهم، و كذا وجدهم من خالطهم و بحث عنهم، فما أحوج الناس إلى من يجعل الطب في أمناء المسلمين الأتقياء، فإنها أمانة عظيمة، و إن كان ليس في البقاء مطمع، و لا إلى السلامة سبيل، و لكن يتخلص المرضى من تعذيب الملحدين لهم، و ممن يتمنى الاسقام ليأخذ أموالهم و تسؤه صحتهم و سلامتهم، فما في الأرض أغيظ من دوام صحة الناس من هؤلاء الأطباء، لما في ذلك من الاستغناء عنهم، و على أن الناس ممن هو طبيب نصراني و ليس بملحد في مكاره و كذا الصيدلاني و بائع الدواء إذا كان ذلك.
و قد كان الشيخ أبو عبد اللّه الحسن بن علي البصري رحمه اللّه «1» يذكر عن ثقة حدثه أن قوما من النصارى قالوا لعبد اللّه غلام إسرائل الصيدلاني النصراني، و كان في المخرم في الجانب الشرقي ببغداد، أن فلانا يؤذي النصارى و منك يشتري الأدوية فأكفيناه، فقال: أفعل.
و أبو الحسن بن كعب الأنصاري أحد علماء المسلمين، و كان صديقا للشيخ أبي بكر أحمد بن علي الرازي رحمهما اللّه، و كان بينه و بين الصابئين المتطببين خصومة في صنيعه، فدسوا إلى طبيبه و أعطوه مجمعا للمباضع ففصده و أشار بالفصد عليه فقتله.
و ذكر الشيخ أبو عبد اللّه عن حنون المتطبب و كان صديقه و صديق أبي الحسن الكرخي رحمه اللّه، و حنون هذا، هو أبو أبي الطيب المؤمل هذ الذي يحيا و أسلم.
__________________________________________________
(1) هو شيخ قاضي القضاة عبد الجبار الهمذاني توفي حوالى سنة 367
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:628
/ قال حنون قال لي المروزي الطبيب و كان أستاذي: يا حنون، اذهب إلى فلان فقل له: عني ينبغي أن تفصد، و افصده و لا تكثر فضولك، قال:
(1/679)
فذهبت و أبلغت الرجل هذا فقبل و فصدته و رجعت اليه، و قلت له: ما كان به حاجة إلى الفصد، فقال لي: كذا هو، و لكن كان لي عليه وظيفة من دراهم يحملها إليّ، و قد قطعها عني، فأردت أن يحتاج إليّ فقصدت إسقامه بالفصد.
و أما أبو هاشم بن أبي علي رحمهما اللّه «1»، فقتله أبو حسن اليهودي المتطبب لاعتراضه و نقضه لكتب أرسطاطالس، و كان جاره يؤنسه و يخالطه و يريه المحبة، فشكى اليه يوما شيئا يجده، فقال: المصلحة أن تفصد، فركن إلى قوله، و استدعى حسن أخاه موسى ففصده، فلما خرج الدم، قال له أبو هاشم هذا دم جيد صافي فلم تخرجه، فقال له موسى هو جيد الكيفية إلا أنه كثير الكمية، فمرض أبو هاشم عقيب ذلك و مات.
و كان حسن هذا ظاهر اليهودية و هو ملحد، و كان أحد أطباء الملوك ببغداد. أما موسى هذا، فذكر عنه أحد تلاميذه أنه دخل على عليل و سأله عن خبره فأخبره بما يتداوى به و بما يغتذى به فقال له موسى من أشار عليك بهذا قال فلان الطبيب، قال: نعم ما أشار عليك، و قام و خرج و ركب، قال تلميذه و هو يعقوب بن يوحنا هذا الواسطي، منزله الجانب الشرقي في دار الروم و في درب البصرى، فلما ركب موسى مشيت مع البغل و جاريته في أصل ذلك المرض من غير أن أشير إلى العليل، و استفتيه في أدويته فأفتاني بضد ما كان ذكر له ذلك المريض، فقلت له فهذا/ العليل هذا مرضه و قد أخطأ
__________________________________________________
(1) أبو هاشم هو عبد السلام الجبائي المعتزلي المشهور و يعرف أتباعه بالبهشمية و قد تأثر به قاضي القضاة كثيرا، حتى أنه يعتبر ممثلا لمدرسته في كثير من الأمور.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:629
عليه طبيبه و استصوبته أنت قال: نعم على عمد، قلت له: [قلت ] «1» و لم؟ قال: عليك بين طبيبين اقتل حتى يمر.
(1/680)
و كم لهم مثل هذا و لقد قال طبيب لسلطان كبير و هو موفق بن المتوكل، و كان جسيما و سيما أكولا، و هناك من يكره حياته، فأكل يوما ألبانا كثيرة في ألوان كثيرة، قال طبيبه و أنا واقف و هو يأكل و لا أنهاه و أقول في نفسي هذا يفلج اليوم، لأنه زمن و يأكل هذا لا محالة، فإن لم يفلج، فالطب باطل. فلما أكل و فرغ دخل الخيش و نام فيه، و صرت إلى منزلي، فلما كان بعد قليل سمعت قعقعة بغل البريد فقيل لي: أجب الأمير، فقلت في نفسي:
فلج لا محالة فركبت و حثيته؛ فإذا هو في حمى عظيمة مطبقة دموية، فاحتاج أن يفصد من يديه و يخرج من الدم أربعمائة درهم، فكان ذلك بالضد من صناعة الطب و قوانينه.
و من تدبر وجد العجائب من آيات اللّه في كل شي ء، و خيانات هؤلاء كثيرة، و قد أساء إلى نفسه من استعملهم في الطب و الجراح و ائتمنهم. و هذه الصفة مما ذكرنا أن هذه الصنعة ليست بعلم و إنما هي تجارب بحسب ما أجرى اللّه العادة.
و في الأفاعي ما يلسع بعضها بعضا فيموت الملسوع، و تلسع بعض الناس فتموت الأفاعي و لا ينال الملسوع مكروها، و قد تلسع الإبل و القنفد و السنّور و ابن عرس و غيرها فلا تضرّ، هذا عام في الحيوانات، فأما في الإنسان فنادر.
و زعم الكندي المتطبب «2»، أن الخليفة المعتصم استدعاه قال فقال لي من
__________________________________________________
(1) كذا في الأصل، و هي زائدة
(2) هو أبو يوسف يعقوب بن اسحق الكندي من أوائل الذين كتبوا في الفلسفة و الطب عند العرب
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:630
تكون: قلت: أنا يعقوب ابن اسحق الكندي، فقال لي: عندنا إنسان يرسل عليه الأفاعي فإذا لسعته/ ماتت و لم يضره، و أنا أحب أن تشاهد ذلك. قال:
فأتى برجل طوال نحيف أسمر خلاسيّ، ثم دعا بسلال الأفاعي فقال: يا فتى نرسلها عليك؟ فقال: على اسم اللّه، رسمى قبله. فأقبل عليّ المعتصم و قال:
(1/681)
رسمه علينا أن نطعمه الكباب و نسقيه النبيذ و تعطيه دينارا، أحسبه قال على كل أفعى. قال: ففعلوا ذلك، و أرسلوا عليه الأفاعي فأي أفعي لسعته ماتت مكانها و هو كأنشط ما يكون، فقال لي المعتصم: ما عندك في هذا؟ فقلت:
أنظر فيه و أعاود الفكر و أعرّف أمير المؤمنين، قال الكندي: و قد عمل رسالة في هذا الباب، فعدت إلى المعتصم فأخبرته أن هذه الأفعى قد طال مكثها و قد ضعف سمّها و شربت الماء، فهات الأفاعي التي ما شربت الماء قال الكندي: فجي ء بها و أرسلت عليه فمات.
و هذه غفلة من الكندي، هب الأمر كما قال و سمّها قد بطل أصلا فما السبب أنها تموت إذا لسعت، و قد كان ينبغي أن تجرب هذه الأفاعي في غير هذا الرجل، فإن لم تضر أحدا غيره فقد أصاب الكندي.
و عقارب الفاطول «1» يموت بعضها من لسع بعض و لا تموت عن لسعها غير العقارب، و من عجيب العقارب أنها تلسع الأفعى فتموت الأفعى، و قد تلسع أكثر الناس فلا تموت، و العقرب التي يحدث من لسعها الموت على غايته ضعف الخلقه، و لعلها أن تكون أضعف من العنكبوت الصغير و أبرتها كالشعرة، و هي توجد بالبنذنجيين «2» و برامهرمز و بعسكر مكرم من كور الأهواز، و الأطباء يرجعون في التداوي من لسعها إلى أهل تلك البلدان، فيقولون لهم:
__________________________________________________
(1) لعلها: الناطلين، انظر معجم البلدان، الجزء الخامس
(2) انظر معجم البلدان الجزء الأول
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:631
(1/682)
بأي شي ء جرت عادتكم بالتداوي من هذه العقارب، فيذكر شيوخهم و عجائزهم للاطباء،/ فيعلمونهم و يكتبونه في كتبهم. و عقارب () «1» قتالة، و ثم عقارب كبار تضرب القمقم و غيره فتحرقه بإبرتها و لا يكاد يموت أحد من لسعتها، بل ربما ماتت هي، و كل ذلك من آيات اللّه عز و جل. و في الحيوان من يعرض له عند لسع العقارب البرد و الخدر، و منهم من يعرض له الحمى و الالتهاب. و لقد لسعت العقرب رجلا مفلوجا فذهب عنه الفالج، و هي مشهورة ذكرها الأطباء في كتبهم. و كم يجدون في تجاربهم و ما يحدث على الأيام مما ليس في كتب المتطببين و لا في تجاربهم بل هو بالضد مما كتبوه فيكتبونه و يخلدونه و كل ذلك من آيات اللّه، و يزيدك علما أن الطب تجارب، و شي ء قد أجرى اللّه به العادة لقوم خلاف قوم، ثم لا يستمر كما قد تقدم لك بيانه. و من الناس من يأكل العقارب و الحيات.
و هذا الكندي هو أحد الملحدة الذين ظاهرهم الاسلام، و هو كوفيّ، و كان أحد المياسير، فأنفق أمواله كلها «2» في مكاره الاسلام و في الطعن على الأنبياء أجمعين، و له رسالة يدعي فيها أن سبب المد و الجزر إنما هو زيادة القمر، و في الأرض بحار كثيرة ليس فيها من المد و الجزر ما في بحر فارس، و كلها تحت السماء، و على جميعها يطلع القمر. و كم لهذا الكنديّ من الجهالات كما لابن زكريا الرازي في الخواص و الكيمياء، فاطلب كتبه في الكيميا وقف عليها و ما يحكيه عن نفسه و غيره، لتعرف غباء أعداء الاسلام و كذبهم و فضائحهم.
و الرازي يزعم أنه خرج إلى ملك بخارى ليعالجه و أن الثلج منعه في طريقه
__________________________________________________
(1) كلمة ممحية من الأصل
(2) في الأصل: «كله» و لعل الأصح ما أثبتناه
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:632
(1/683)
من الاجتياز، فنزل على رجل كبير واسع النعمة، و كان له ابن قد أضناه المرض فطال عليه فصار كالخيال لطول الضنا، قال/ فأرانيه و شاورني فيه، فلم يكن له دواء و لا فيه رمق، فيئست منه و أمرت بمداراته و الرفق به لقرب أجله، و خرجت إلى بخارى و أقمت طويلا، ثم عدت فنزلت عليه، و إذا بحضرته فتى ذكيّ حرك ظريف فأعجبني ذكاؤه و حركته، فسألته عنه، فقال: هذا هو العليل الذي كنت رأيته، فاشتد تعجبي، فقلت، كيف كان؟ و بأي شي ء داويتموه؟ فقال: ضاق صدره و أشتد ضجره، فقال لامرأة كانت ربته قد حمل إليها يوما سكباج: أطعميني، فأبت و بقى السكباج في الدار مكشوفا «1»، فأقبلت حية فأكلت ما في الصفحة ثم قذفته في الصفحة و تقايأته، فمشى الغلام الى الصفحة فشرب ما فيها و أكله ليقل المرض و لعله يستريح، ثم أن المرأة جاءت و رأت الصفحة فهمت تأكل ما بقي فيها فنهاها الغلام، و أخبرها الخبر فأرمت «2» القصعة ثم عرض للغلام عرق و ألقى من جلده كالنمشاء ثم أفاق و قام، و هذا كما ترى، فقال الرازي: أنا ما يدريني أن في دارك حية عمرها خمسة آلاف سنة.
فانظر إلى كذبه و قله تحصيله و قلة حيائه و تحرزه مما يتحرز منه العقلاء فيها، أنه لا يعلم ان الأمر كما أخبر الغلام و إن غلب الظن على صدقه، و أخرى أنه لو كان يعرف أن دواء هذا العليل في قي ء حية عمرها خمسة آلاف سنة لو صفه لهم لما رأى العليل، و أخرى إخباره بعمرها كأنه قد حصل ذلك و اضطر إلى العلم به، و ما يدريه لعل عمرها ثلاث سنين و لشبابها نفع سمها و لو كانت هرمة لما انتفع، فهو لا ينفصل من الدعاوي، و هذا من جنس قولهم: إن
__________________________________________________
(1) في الأصل «مكشوف»
(2) كذا في الأصل
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:633
(1/684)
أفعى و لغت في خمر و قذفته/ في وعائه، و أن رجلا مجذوما «1» شربه فبرى ء، و هو سبب إيجادهم أقراص الأفاعي. فإن كانوا صادقين فهذا من الجنس الذي أخبرنا عنه من آيات اللّه في إجراء العادة و ما تقدم من ذكر ذلك.
و يحيى بن خالد صاحب مربعة الأحنف يذكر أن العقارب لسعت أصحاب «2» ضروب من الحمايات فافاقوا.
و يحيى بن خالد هذا [كان ] «3» طبيبا حاذقا مأمونا معروفا بالصدق، و كان يعالج و لا يتكسب بصناعة الطب، و يحفظ له الناس من اللطائف و حسن التأني شيئا كثيرا.
و كم تجد منهم من يصف الدواء للعليل و هو حريص على برئه فيقول له:
إن قبلت رأيي و شربت هذا الدواء و فصدت عوفيت من ساعتك، فيطيعه فيموت. فإن قيل له في ذلك أخذ في التخريج و الدعاوي، و إذا قيل للعقلاء منهم: ما السبب أن الإنسان إذا صب عليه الماء الحار بوّله؟ قال: نريد عللا مشدودة بخوص إن أردتها ذكرناها.
و كذا قيل لهم ما السبب المثير للعطش عند أكل السمك و اللبن و الباقلاء و هذه كلها باردة رطبة بطبع الماء، و ما السبب في انقطاع العطش عند أكل الثوم و هو حار يابس و العطشان يدخل الحمام فينقطع عطشه و يدخله الريان فيحدث له العطش، فأما الجاهل الملحد المعاند فيأخذ في البهت و الكذب و الدعوى الباطله.
__________________________________________________
(1) في الأصل: «مجذوم»
(2) في الأصل: «صاحب»
(3) زيادة مني على الأصل تقتضيها صحة العبارة
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:634
(1/685)
و من جناياتهم انهم يرسمون في الطب و المدخل الى الطب الكذب الذي ليس من الطب بسبيل، كمسائل حنين في المدخل إلى الطب، أن أجسام هذه الحيوانات مركبة من الهواء/ و هو حار رطب، و العقلاء كلهم إذا أرادوا أن يبردوا شيئا أو يجففونه أبرزوه للهواء، ثم يقول: و من الأرض و هي باردة يابسة، و الأرض جسم من الأجسام تجوز عليه الحرارة و البرودة و كذا الماء و كذا النار يجوزان يغلبها اللّه و يخلقها شجرا و مدرا و ثلجا و يخرجها من أن تكون نارا، و حنين لا يدري أمن هذه الأشياء خلق اللّه السماء و غيرها من الأجسام أم من شي ء آخر أم من لا شي ء، كما خلق النار لا من نار و لا من شي ء، و كما خلق الماء لا من ماء و لا من شي ء، و كما خلق الأرض لا من أرض و لا من شي ء، و كما خلق الشمس لا من شمس، و كذا القمر و الكواكب خلقها لا من كواكب و لا من شي ء، و قد خلق السماء من دخان كما خلق كثيرا من الحيوان من الماء، و إنما فعل ذلك عز و جل ليعتبر العقلاء من الملائكة و الانس و الجن، و لو شاء أن يخلق كل ذلك لا من شي ء لفعل كما خلق ما قدمنا ذكره و ما لم يذكره لا من شي ء و لا لشي ء.
أما ترى الإنسان المدبر المصنوع كيف يفعل الاصوات و الحركات و التأليف و الإرادات و الاعتقادات و السكون لا من شي ء، فيكتب و يا بني و يصوغ و يخيط و ينسج و غير ذلك من أفعاله لا من شي ء، فكيف للقديم الأزلي سبحانه و تعالى الحيّ القادر العالم الحكيم الغنيّ عن كل شي ء الذي لم يزل و لا يزال. على أنه عز و جل. إن كان قد خلق الرمّان و التفاح و السفرجل و أشباه ذلك من النار و الماء و الهواء و الأرض أو من الكواكب و السماء فهو أبدع من خلق أعيانها لا من شي ء، و أدل على القدرة وسعة العلم، و لكن نحتاج في هذا إلى خبر منه عز و جل.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:635
(1/686)
فإن قالوا وجدنا في هذه/ الاجسام ماء و رطوبة، قلنا: غير منكر أن يخلق الماء الذي فيها لا من هذا الماء كما خلق هذا الماء لا من ماء بل خلقه لا من شي ء.
و إذا قيل لهم زعمتم أن الهواء حار رطب فتبردون البارد بالحار، و زعمتم أن الصفراء حارة يابسة و العقلاء يجدونها رطبة سيالة يطفأ بها النار، قالوا:
إنما قلنا الهواء حار رطب و الصفراء حارة يابسة بالطبع قلنا: فهذا طبع و قول يكذبه الحس و اللمس، و هذا كما قيل لابن عبد الوهاب الكاتب و كان قصيرا معجبا: أنت و إن كنت عند الناس قصيرا فأنت في الحكومة و الطبيعة و الحقيقة و عند اللّه طويل، و على أن القول: من أي شي ء خلق اللّه عز و جل هذه الاجسام؟ ليس من الطب بسبيل بل هو مشغلة عن الطب؛ و قد فطن لهذا حذاق الأطباء فانصرفوا عنه و توفروا على معرفة العادات و التجارب، و على أن فرط الجهل و الحيرة تحمل هؤلاء على الكلام في مثل هذا، و لفرط غيظهم من الأنبياء و المسلمين لقولهم: إن اللّه خلق الأشياء لا من شي ء، و اخترعها بغير شي ء.
و أنت تجدهم يغتاظون من تحريم الخمر و الأنبذة و لحم الخنزير، يشيرون بذلك على المرضى، فإن وجدوا مسلما يتوقى شرب الأنبذة كلها قالوا: الأنبذة من دوائك، و أهل العراق يبيحون لك. و إن وجدوا من يترخص و يأخذ بقول أبي حنيفة في الأنبذة، ذموا عنده التمر و ما يكون من التمر، فإن وجدوه يشرب مطبوخ العنب و يتوقى ما سواه قالوا: ليس المطبوخ بشي ء و إنما الشفاء في الذي لم تمسه النار، و لذا قال جالينوس: و بها تعجن الأدوية، كل هذا عداوة/ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يذكرون عن أفلاطن أنه قال: ما دخل جوف ابن آدم شي ء شرّ من الماء.
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:636
(1/687)
و كان أبو جعفر المنصور وجد مرضا، فذكر له طبيب بجند يسابور فأحضره، فمكث في داره زمانا و أقام فيها لعلاجه، فلما طعم طلب من الخدم خمرا، فقالوا له: ما في هذا القصر خمر و لا شي ء من الأنبذة و لا لك إلى هذا، سبيل فقال: أنا رجل ذمىّ و أستحله و به أحفظ صحتي، و ما شربت ماء مذ كذا و كذا خوفا من شرّه، و أنا أخشى إن عدمت الخمر أن أمرض و أموت، فقيل له: ما شاء فليصبك مالك إلى هذا سبيل، فشرب الماء على كره فلما أصبح أخذ قارورته فإذا هي كما كانت و هو يشرب الخمر، فاشتد تعجبه و ذكر ذلك لإخوانه.
و عندهم أن الحرارة الغريزية تقوى بشرب الخمر و تضعف بشرب الماء، حتى قال قائل منهم: و اللّه ما حرم نبيّ العرب الخمر و الأشربة على أتباعه إلا لفضل عقله، فانّ الأنبذة المسكرة مضرة بالعقل جدّا محيلة له و كذا الغناء، و ما شي ء أفضل من العقل، فكل ما أضر به و أثر فيه فخبيث ردي ء، و قد وجد في العسل و غيره ما ينوب عن الخمر و سائر الأنبذة في إسخان المزاج و تعديل الطبع مع سلامة العقل، فجناية الأشربة المسكرة في تغيير العقل أعظم الجنايات و أكبر الأمراض، و ليس الطبيب من داوى مرضا بدواء أعقب مرضا هو أعظم منه.
قال فأما ما يحدث لشارب السكر و سامع الغناء من الطرب و سرور النفس و النزاقة و الخفة فما هو إلا لنقصان عقله و لا فضلة لها و لا خير منها، فنبيّ العرب أطب الأطباء و أفطن العقلاء، هذا قول من كان له عدوا و مكذبا.
و قد ذكر الناس/ فضل عقول أكلة التمر و لحم الجزور على أكلة لحم الخنزير بما هو مذكور في غير هذا الموضع، و الناس يعاينون حياة الحيوان و النبات بوجود الماء و تلفهم مع عدمه، و لا يغنيهم عنه خمر و لا غيره، بل تزيد الخمر
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:637
في بلائهم، و هم، يذمون النخلة، و خيرات الدنيا مقسومة بين النخلة و النعجة و التمور من الأغذية الشريفة النافعة التي يحيا بها الحيوان الأنس و غيره.
(1/688)
و في التمر مع اللذة بأكله إخراج التعب و راحة للمكدود، و الملاحون يسمونه لأجل هذا مسامير الركب، و لما قيل للأعرابي: صف النخلة قال:
جذعها بناء و كربها صلاء و سعفها ضياء و ثمرها غذاء، و مقدار النعمة بالنخلة يضيق هذا المكان عنه و عن شرحه، و لأبي عثمان عمرو بن بحر رحمه اللّه «1» كتاب في فضيلة النخلة على كل نبات، و هو كتاب كبير حسن جدا، و جهل هؤلاء عظيم و جناياتهم لا تستقال، و لعل من قد قتلوه بأدويتهم مع حسن نيتهم فيه و حرصهم على برئه أكثر ممن أفاق عند علاجهم، و كم فيهم من قد غلط في نفسه و أولاده و أهله بعلاج هذا لحذاقهم فضلا عن المبتدئين.
و لهم إصابات في الحمايات إذا ابتدأت و كم تلبث و متى تنصرف و كم دور يكون و بأي شي ء يكون بحرانها، إما بالعرق أو بالرعاف أو بالقي ء أو بالبول أو بغير ذلك، هذا يعرفونه بالتجربة، و يغلب في العادة، و قد لا يكون.
كما يعرف الملاحون الريح متى تسقط و كم تلبث، يعرفون هذا في البحار و في الأودية و يعرفون أزمانه كما يعرفون أوقات المدّ و أزمان زيادته، و أوقات الجزر، و ينتظرون ذلك،/ و كما تعرف القوابل غيره من الحمل، و ذكر هو أو أنثى، و كم تلد أمه بعده من ذكر و أنثى مما يتفق لهن فيه إصابات حسنة، و كل هذه عادات و تجارب. فإن قيل: فاذا كان الدواء و السمّ لا يقتل، فلم تذمون الساقي لذلك و الشارب له؟ قلنا: نذمه و نؤثمه على ما حدث من فعله من الشرب و الإسقاء، و ان كان ما يحدث من الموت من فعل اللّه، لأن اللّه
__________________________________________________
(1) يقصد أبا عثمان الجاحظ
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:638
(1/689)
أجرى العادة بفعل الموت عند ذلك، و نذمّه كما يذم من إلقاء غيره إلى السباع، و كما يذم من سعى بالناس إلى الولاة و دل على أموالهم و إن لم يأخذه الولاة و لا أكلهم السباع، لأن الغالب من ولاة الجور أخذ الأموال و من السباع الأكل، كذا الغالب فيما أجرى اللّه به العادة: الموت عند شرب الدواء المسموم و السم، فليس لأحد أن يفعل ذلك، و كذلك لا تلم الساقي و لا الشارب إذا تناول ما جرت العادة بالسلامة معه و إن حدث عقيبه الموت، ألا ترى من أطعم غيره طعاما لذيذا ينفعه به فمرض عقيب ذلك و مات لم نلمه لأن الغالب في العادة السلامة.
و نلوم من سقى غيره سما قاتلا فعوفي و انتفع بذلك أتم منفعة، فإنا نلومه و نضلله و نؤثمه، و الرجوع في جميع ذلك إلى غالب العادة.
فان قيل: فلم ابيتم أن يقع الفعل من الجماد و الموات بالطبع، قلنا: لو وقع الفعل بأيّ وجه كان من الجماد و الموات و من ليس بحي و لا قادر لكان لا اعتبار بأن يكون الفاعل حيّا قادرا، و لا حاجة بالفعل إلى أن يكون فاعله حيا قادرا، و لوجد البناء و الكتابة/ و الصياغة و غير ذلك من الانسان و إن جهل و إن عجز و إن اجتهد في أن لا يقع ذلك منه و ان مات، فلما لم يقع ذلك منه و هو ميت، و قد علمت و تيقنت أن الفعل لا يقع إلا من الحيّ القادر، و إن كان متسقا محكما ففاعله لا بد عالم.
و لو وقعت الافعال من الجماد و الموات بالطبع أو بغير ذلك، لوقع من الحجارة و السحر و الماء و النار و الهواء و غير ذلك البناء و الصباغة و النجارة و الكتابة على أن هذه الأشياء كلها دون ما أضافوه إلى الأدوية و السموم من الأفعال، لأن الموت و الحياة و العافية و السقم أعظم من الخياطة و الكتابة و جميع ما ذكرنا، و العجب لجهل هؤلاء إجازتهم وقوع الحياة و الموت و الصحة و السقم من الجماد
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:639
بالطبع و لا يقع منها كتابة ثلاثة أسطر و لا نساجة بارية طولها ثلاثة أذرع.
(1/690)
فإن قيل: إنكم قد دفعتم الضرورة بقولكم إن الفعل لا يقع من الجماد و الموات فنحن نجد الشبع يأكل الخنزير و يزول معه الجوع، و كذا الريّ عند شرب الماء و كل هذا معلوم باضطرار.
قيل له: المعلوم باضطرار زوال الجوع بأكل الخبز و العطش بشرب الماء، هذا لا ينكر و لا ينكره عاقل، فأما من ادّعى أن الفعل للخبز و الماء، و أنه قد علم ذلك باضطرار، فقد ركب جهلا، لأن الحيّ الناطق العاقل المستطيع ليس يعلم ما يقع منه من الكتابة و البناء أن فعله باضطرار، و إنما يعلم ذلك باستدلال.
ألا ترى أن العقلاء يختلفون في ذلك، فيقول المنجمون ان من وقع منه الوفاء و العدل فذلك من فعل/ المشتري، و من وقع منه الجور و الغدر فذلك من فعل المريخ فيه، و يقسمون الأفعال كلها على ذلك، و يجعلونها لغير من ظهرت منه.
و كذا تقول المنانية، فتجعل ذلك للنور و الظلام، و يقولون آخرون إنه لحملة الفلك و الكواكب في حيوان الأرض، و يقول المجبرة: إنه من فعل اللّه فيهم، فإذا كان فعل الحيّ القادر العالم ليس يعلم أنه هو الفاعل له باضطرار، فكيف صرتم أنتم تعلمون باضطرار أن الاحراق فعل النار، و الشبع فعل الخبز، و الذي فعل الماء و العافية فعل الدواء بالضرورة، و هذا قول من لم يعرف فعلا و لا فاعلا قط.
و ان كان حكم النار مخالفا لحكم الدواء و الخبز و الماء، لأن النار قد خلق اللّه فيها الحرارة و الاعتماد صعدا، فهي اله للعباد في الاحراق و التقطيع،
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:640
و الانسان المثير لها هو المحرق بها لا هي، كما أن القاتل بالسهم الذي يرميه و ينفذه في المقتول هو القاتل لا السهم، و كذا الضارب بالسيف و القاتل به هو المفرق لأجزاء المقتول بالسيف لا السيف، و كذا القاتل بالحجر هو القاتل به لا الحجر.
(1/691)
و قد قال أبو هاشم و غيره: إن العاقل يعلم باضطرار أن الجماد لا يقع منها فعل و لا تفعل، كما يعلم أنها لا تسمع و لا تبصر، و إن كان ماني القس الذي تقدم ذكره يقول إنها تسمع و تبصر و تحس.
و لكن لما وقع الاسهال عقيب شرب بعض الأشياء ظن هذا الجاهل أن ذاك فعل الدواء، كما ظن هذا عند صوت الخشبة إذا شقت و نشرت أن ذاك صحيح منها لتألمها، فاحتجنا أن ننبه على فرط جهلهم، و إن كان الأمر في الوضوح كما قال ابو هاشم/ و هم في هذا كمن قال للبيضة فعل الديك، و الحيوان فعل أبيه، لأن ذلك يؤخذ عقيب سفاد هذه الفحولة، كما أن الاسهال يكون عقيب شرب الدواء.
فإن قالوا: فقد يكون السفاد و لا يكون الولد و قد يكون و لا يكون، قيل له: و قد يكون الاسهال عقيب الدواء و قد لا يكون، حتى أن الطبيب يعطي لمن بدنه مملوء بالصفراء دواء ليسهله عشر مجالس فقد لا يسهله، و قد يريد يسهله مجلس واحد، فربما جاءه عشرة مجالس، و ربما أسهله مائة، و قد وجدنا الحنظال و السقمونيا يأكلها كبير الحيوان فلا يقتلها و لا يسهلها. بل يغذوها و يحييها كما قد تقدم شرح ذلك.
و كذا قال أبو علي رحمه اللّه للفلكيين و المنجمين حين قالوا: إن النبات فعل الشمس لأنا نجدها إذا طلعت على الأرض ظهر نباتها، فقال لهم: و لم
تثبيت دلائل النبوة ،ج 2،ص:641
إذا كان ذلك وجب أن يكون هذا الفعل و هذا الأثر للشمس، ثم قال: و قد تطلع على جميع الأرض و الجبال و أكثرها لا ينبت شيئا، و قد تغيب الشمس عن الأرض مثل مقدار طلوعها عليها من الزمان، فلم وجب أن يكون هذا الأثر لطلوعها دون أن يكون لغيابها، و النبات بحاله.
(1/692)