للشيخ علي بن خضير الخضير
شرح كتاب التوحيدالمعتصر
كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، وقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36] الآية، وقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23] الآية.
وقوله: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } [النساء: 36] الآية، وقوله: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } [الأنعام: 151]. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } إلى قوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ... } [الأنعام: 153] الآية. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال لي: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» [أخرجاه في الصحيحين].
قال الشارح:
ابتدأ المصنف كتابه بالبسملة، وجاء في بعض النسخ أنه بدأ بالحمدلة أيضًا، وذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله أنه رأى بخط المصنف البداية بالحمدلة.
المسألة الأولى: حكم البداية بالبسملة في التصانيف والتآليف والخطابات.(1/1)
جاء حديث عبد أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» ذكره الخطيب البغدادي في الجامع، والرهاوي في الأربعين؛ إلا أن الحديث ضعيف فيه أحمد بن عمران وهو ضعيف، وفيه أيضًا محمد البصري وهو ضعيف، وهذا الحديث ضعفه ابن حجر والسيوطي والألباني رحمه الله، وذهب بعض أهل العلم إلى تحسين هذا الحديث منهم ابن الصلاح والنووي رحمهما الله؛ فإنهم ذكروا تحسين هذا الحديث، لكن المضعف معه زيادة علم،
ثم ضعفه مفسرًا، فلذلك فالأقرب للحديث أنه ضعيف.
لكن مع ضعف هذا الحديث فهل يزول الحكم؟
لا. نقول: البداءة بالبسملة سنة في التصانيف والرسائل والخطب، وليس اعتمادًا على هذا الحديث، وإنما اعتمادًا على ما جاء في البخاري ومسلم من قصة هرقل، وهذا فعل والأصل في أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها تدل على السنية.
المسألة الثانية: الحمدلة:
جاء حديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع»، وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه لكن الحديث فيه رجل واسمه قرة المعافري، وهو رجل ضعيف، وأشار أبو داود إلى أنه مرسل، وضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح، وضعفه أيضًا الألباني، فيكون الحديث ضعيفًا.
لكن ذكر ابن القيم أنه صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبتدئ خطبه بالحمد لله رب العالمين، فتكون البسملة والحمدلة في بداية الخطب والتآليف سنة.
قال المصنف: "كتاب التوحيد".
كتاب: مصدر بمعنى اسم المفعول بمعنى مكتوب، وهو مضاف، والتوحيد: مضاف إليه.
وقوله: "كتاب التوحيد".
فيه مسائل:
1- تحليل الترجمة:
تعريف التوحيد: التوحيد: مصدر والمصدر ما يجيء ثالثًا في تصريف الفعل كما قال صاحب الآجرومية، وحد يوحد توحيدًا.
لغة: جعل المتعدد واحدًا فهو الإفراد.(1/2)
شرعًا: إفراد الله بما يستحقه من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.
وهنا نلحظ قاعدة عامة في التعريفات هي: أن التعريف اللغوي أوسع من التعريف الشرعي.
المسألة الثانية: قصد المؤلف في الباب الأول:
أراد المصنف أن يبين حكم التوحيد، وحكم التوحيد واجب، وهو فرض عين على
كل مكلف.
ما هو الدليل؟ ذكر المصنف خمس آيات وحديث كلها تدل على وجوب التوحيد.
المسألة الثالثة: مسائل في الإعذار في الشرك:
الحالة الأولى: الإكراه فلو أكره الإنسان على ترك التوحيد أو بعضه؛ فإنه لا يكون واجبًا عليه حينئذ. الدليل على ذلك: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [النحل: 106].
أما شروطه:
1- أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان (كارهًا لما أكره عليه).
2- أن يكون الإكراه ملجئًا والإكراه الملجئ بأن يُضرب أو يُسجن أو نحو ذلك.
وهل الإكراه لا بد أن يكون بالضرب والسجن أو يكفي التهديد بذلك؟
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم. الجمهور على أنه يكفي التهديد إذا كان من رجل قادر على أن يفعل ما هدد به.
استدلوا بعموم الآية: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ } .
وذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يكفي التهديد؛ بل لا بد أن يُمس بعذاب ثم بعد ذلك يُعد إكراهًا، ولذلك أنكر الإمام أحمد على من أجاب في خلق القرآن، ولما جاء يحيى بن معين إلى الإمام أحمد أعرض عنه ولم يكلمه، قال يحيى بن معين: حديث عمار، أي نحن نستدل به، فلم يرد عليه الإمام أحمد حتى خرج فقال: يستدلون بحديث عمار وقد قيل لهم سوف نضربكم وعمار ضربوه.(1/3)
وهناك قول وسط في المسألة: أنه يفرق باعتبار الأشخاص؛ فإن كان من العلماء والذين يفتتن الناس بقولهم فهؤلاء لا يجبيون حتى يمسوا بعذاب، وإن صبروا حتى يقتلوا فهذا أفضل، وعليه يحمل حديث خباب بن الأرت أنه أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان متوسدًا بردة فقال خباب: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه...» الحديث.
وهذا كان في أول الدعوة. ففي أول الدعوة لا بد من المصابرة والمجاهدة ولا تنبغي الموافقة، أما من كان من سائر الناس فيجيب في التهديد بالقول، وهذا في حقه جائز.
هل هناك فرق بين الإكراه على القول والإكراه على الفعل؟ هذه مسألة خلافية:
فمن العلماء من يقول: لا يجوز إلا في القول، ومنهم من يجوِّز الإكراه في القول والفعل، إلا إذا تضمن الإكراه تعديًا على الغير، كمثل لو أكره على الزنا أو القتل فهذا لا يجوز وهذا هو الراجح.
وجاء في حديث عند ابن ماجه بسند صحيح: «لا ضرر ولا ضرار»، هذا بالنسبة لما يتعلق بالإكراه.
الحالة الثانية: الجهل هل هو عذر في الشرك الأكبر أم ليس بعذر؟
وهذه مسألة من أشد المسائل، وهي مسألة عويصة، وهي من أصعب المسائل في التوحيد، وهذه المسألة كثر فيها الخلاف وفيها التباس كثير:
أما عند المتأخرين فالجهل عذر (ويقصد بالمتأخرين من عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما بعده إلى وقتنا هذا).(1/4)
يستدلون على ذلك بأدلة منها قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقوله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [التوبة: 115]، فمن لم يتبين له يعذر، وقوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } [النساء: 115]، الدليل مفهوم المخالفة، واستدلوا بحديث الرجل الذي خاف من الله وقال لأهله: إذا أنا مت فحرقوني... رواه البخاري. فقالوا: لولا جهله لعذب.
القول الثاني: أن الجهل ليس بعذر في باب الشرك الأكبر، وهذا الذي عليه القدماء قبل حدوث الخلاف وعدم العذر مجمع عليه ومن أراد بسط هذه المسألة فيراجع كتاب الجمع والتجريد ورسالة المتممة لكلام أئمة الدعوة وكتاب التوضيح والتتمات على كشف الشبهات (وكل هذه الكتب للشارح).
وقول الله تعالى: يجوز في (قول) الرفع والجر، لكن إن ابتدأت بالرفع فعليك أن ترفع البقية، وإذا جررت الأول فعليك أن تجر البقية.
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]: هذه الآية تدل على وجوب التوحيد، إذ أن الثقلين ما خلقوا إلا لغاية واحدة، فلا بد أن تكون هذه الغاية
واجبة وهي التوحيد.
وقوله: { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } جاء عن ابن عباس (يوحدون) وهذا تفسير صحابي، وهذا التفسير تفسير الشيء ببعض أجزائه؛ لأن العبادة ليست هي التوحيد فقط، والتوحيد جزء، وتفسير الشيء ببعض أجزائه جائز وقد جاء عن السلف. مثل: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [الأعلى: 14] قال: "صلى".
ليعبدون: (إلا ليتذللوا لي ويخضعوا لي بالذل والطاعة)، وهذا هو تفسير أهل السنة والجماعة.
وذهب أهل البدع إلى أن معنى يعبدون أي: إلا ليخضعوا لأوامري القدرية، وهذا غير صحيح إذ ليس هنالك أحد خارج عن أمر الله القدري.(1/5)
وأما الآية الثانية: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36 ].
وجه الدلالة: اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، إذ أن "اعبدوا" أمر، والأمر يدل على الوجوب.
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء: 23]:
وجه الدلالة: "قضى"؛ لأن قضى بمعنى أوجب وألزم، وهذا القضاء هو القضاء الشرعي؛ إذ أن الله له قضاءان: قضاء شرعي كما في هذه الآية، وهذا القضاء قد يتخلف، والقضاء القدري والكوني يجب وقوعه: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ } [فصلت: 12]، { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ } [الإسراء: 4]... الآية.
وجه الدلالة: "اعبدوا" إذ أنه أمر والأمر يدل على الوجوب.
الآية الثالثة: تدل على أن الشرك حرام، فبالتالي ضده واجب وهو التوحيد.
"قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: هذا يسمى في الاصطلاح موقوف؛ لأنه قول صحابي، وقد حسن هذا الأثر الترمذي والأرناؤوط في جامع الأصول، وذهب بعض المعاصرين إلى أن هذا الأثر ضعيف؛ لأن فيه داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف، فعلى كل حال فالاستدلال في الآية لا في قول ابن مسعود.
حكم الإساءة إلى الوالدين محرمة، وهذا يدل عليه مفهوم المخالفة.
ضد الإحسان:
1- الإساءة. ………2- ترك الإحسان.
والإحسان ينقسم إلى قسمين: 1- إحسان قولي. …2- إحسان عملي.
أما الإحسان القولي: فمثل الكلام اللين معهما، والقول الكريم مع الوالدين، والدعاء لهما، ويدل عليه قوله تعالى: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } [الإسراء: 23]، { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 24].
والإحسان العملي مثل النفقة عليهما إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع، ومثل الخدمة، ومنها المصاحبة، والطاعة وكل هذه الأمور واجبة؛ لأنها تدخل ضمن قوله تعالى: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء: 23].(1/6)
حكم طاعة الوالدين:: طاعتهما واجبة بشروط:
1- ألا يكون في معصية الله، فإن أمرا بشيء فيه معصية فلا تجوز طاعتهما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الطاعة في المعروف»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وضد المعصية ثلاثة أمور:
1- أن يأمرا بطاعة واجبة.
2- أن يأمرا بمستحب.
3- أن يأمرا بمباح.
ب- أن لا تتضمن طاعتهما ضررًا عليك سواء كان ضررًا دينيًا أو ضررًا دنيويًّا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار» أخرجه ابن ماجه بسند صحيح.
ما حكم طاعتهما في الشبهات؟
مثل: لو أمرا بأمر وهو أن تأكل من أكل فيه شبهة، أو أن تسكن في مكان فيه شبهة؟
في حكم طاعتهما قولان:
1- أنه يجب طاعتهما في المشتبه؛ لعموم الأدلة في وجوب طاعة الوالدين.
حديث معاذ: هذا الحديث هو الذي يدل على وجوب التوحيد.
رديف: هو الذي يركب خلف الشخص، فيدل على جواز الإرداف؛ لأن هذه الهيئة جائزة إذا كانت معتادة في البلد.
والنبي هو: من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، وهذا المشهور في الاصطلاح؛ إلا أن هذا التعريف عليه انتقادات، والأقرب أنه من أوحي إليه وأمر بالتبليغ، ويدل عليه قوله تعالى في سورة الحج: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } [الحج: 52]، فدلت الآية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل فهو مأمور بالتبليغ.
الدليل الثاني: قوله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } وجه الدلالة: أن الله ذكر بعث النبيين وأنهم جاءوا بالبشارة والنذارة.
الدليل الثالث: ما جاء في الحديث الصحيح عن جابر مرفوعًا: «كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة». وجه الدلالة: أنه ذكر أن النبي يبعث.
ما حق الله على العباد؟ هذا هو الشاهد.
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا: فدل على وجوب التوحيد؛ لأن الحق هو الواجب.(1/7)
العباد: أل: تدلُ على العموم.
مسألة:: الرجوع إلى بعض الآيات في الباب الأول.
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء: 23] قضى بمعنى أمر وألزم.
والرب هو: الخالق المعبود، وهذا تفسير الرب عند الإطلاق، فيدخل فيه الألوهية، وكذلك الله عند الإطلاق يدخل فيه الربوبية، أما عند الاقتران فالله يطلق على المعبود، والرب يطلق على الخالق، وتكون هاتان الكلمتان مثل المسكين والفقير.
الدليل على أن الرب هو الخالق: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [الأعراف: 54]، والدليل على أن الرب هو المعبود { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [البقرة: 21].
تعبدوا إلا إياه: أي: لا تتذللوا وتخضعوا إلا لله سبحانه وتعالى.
«وبالوالدين إحسانًا»: أي: قضى بالوالدين إحسانًا، وحكم الإحسان إلى الوالدين الوجوب.
2- أنه لا يجب؛ لحديث النعمان بن بشير: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه».
وفي حديث الترمذي: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
ما حكم طاعتهما في ترك النافلة؟
إن كان أحيانًا فهذا يطيع ويجيب؛ لأن الطاعة واجبة، ولقصة جريج في البخاري، فإنه كان في نافلة فدعت والدته عليه فأجاب الله دعاءها.
وأما إن تضمن أمرهما ترك النافلة مطلقًا، فهذا عند بعض المالكية أنه لا تجب الطاعة لحديث: «ومن رغب عن سنتي فليس مني»، والترك المطلق رغوب عن السنة.
هل يجب الاستئذان من الوالدين للخروج؟
السفر ينقسم إلى قسمين:
1- سفر واجب، فهذا لا يجب الاستئذان فيه لكن يستحب لقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ... [التوبة: 24] الآية.(1/8)
ومثل السفر الواجب: تأدية الحج الواجب، أو طلب العلم الواجب، أو الجهاد الواجب، أو طلب الرزق.
بقي أن نجيب على الحديث (ففيهما فجاهد): فهذا يُحمل على الجهاد المستحب.
2- أما إذا كان السفر مستحبًا وهما بحاجة إليه أو يضرهما الفراق فيجب الاستئذان. وهل يلزم الاستئذان في الخروج العادي الذي ليس فيه غيبة طويلة؟ لا يلزم الاستئذان إلا إذا وجد عارض.
مسألة: على من يجب بر الوالدين؟
هو فرض عين على كل ولد، لكن إن كان الأب مكتفيًا بواحد من الأبناء فيعتبر في حق البقية فرض كفاية.
وهل النفقة واجبة على الوالدين؟
أما النفقة على الأب أو الأم فهي واجبة بشروط:
1- أن يكون الأب أو الأم فقيرًا ومحتاجًا.
2- أن يكون الابن قادرًا على النفقة.
وهل السكن مع الوالدين واجب؟
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحق الناس بحسن صحابتي؟» قال: أمك، ثم قال في الثالثة: «أباك».
والمصاحبة من الملازمة، لذا فالسكن معهما واجب إذا كانا يحتاجان إليه ولم يكن هناك مانع من السكن معهما، وأما إذا كان الأب يسمح بهذه الصورة غالبًا، فلا مانع من سكن الابن بمفرده.
وبالوالدين: هل يشمل (الجد)؟
في باب البر لا يدخل فيه الجد والجدة فيكونان مثل الأب والأم بل هما أقل رتبة منهما، وإنما الواجب فيهما (الجد والجدة) أكثر مما يجب في الأقارب، لكنهما أولى الأقارب لأن البر معلق بعلة لا يدخل فيها الجد، وهي الحمل والولادة.
وهل يدخل الوالد من الرضاع؟
لا يدخل؛ لأنه كسائر الناس لا يجب بره فهو كغيره من المسلمين، ويُكافأ على بره وإحسانه من باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه».
عند التعارض بين بر الأب وبر الأم
يقدم بر الأم لأنها أولى.
وقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النساء: 36].
تشركوا: تجعلوا لله ندًا في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.
شيئًا: نكرة في سياق النهي فهي عامة، فالشرك كله محرم.(1/9)
الآية: دائمًا منصوبة، التقدير: أكمل الآية.
من أراد: جاء عند الطبراني: من سره.
سبب قول ابن مسعود: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مرض الموت، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم شيئا» فلم يوص النبي - صلى الله عليه وسلم -).
قال جابر: من يبايعني على هذه الآيات يريد { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ... } [الأنعام: 151] الآية؟
حمار: هل الحمار نجس أو ليس بنجس؟
مذهب الحنابلة: الحمار نجس حتى سؤره وعرقه، واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر: «فإنها رجس».
واختار ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: أن عرق الحمار وسؤره طاهران، واستدلوا بحديث قتادة قياسًا وسنده صحيح: «إنما هي من الطوافين عليكم» فخفف فيه لمشقة التحرز منه وهو الراجح.
فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ هذا سؤال: ويستحب للعالم والمدرس أن يطرح بعض المعلومات على وجه الاستفسار.
العباد: الألف واللام للعموم.
الله ورسوله أعلم: هذه الكلمة هل يجوز أن يقولها من لا يعلم؟
بعض العلماء يقول: إنها خاصة في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما بعد زمنه فيقال: الله أعلم، ومنهم من قال: إنه يفرق باعتبار موضوع السؤال، فإن كان السؤال عن الأمور الشرعية فيقال: الله ورسوله أعلم، وإن كان السؤال في أمور قدرية أو كونية؛ فهذا لا يجوز.
مثال لو قال لك فلان: هل يقدم غدًا؟ هذا لا يجوز أن يُقال فيه: الله ورسوله أعلم.
والقول الأول أقرب وأسلم وأكثر احتياطًا، ولأن الصحابة لم يكونوا يقولونه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
وهل الواو تقتضي المساواة؟ وما الفرق بين قولنا الله ورسوله أعلم وبين قول ما شاء الله وشئت؟ وهل بينهما فرق؟
هناك فرق، فقولنا: (ما شاء الله وشئت)؛ لأنه جمع بينهما في فعل واحد وهذا هو اختيار صاحب تيسير العزيز الحميد.(1/10)
أما في العلم فلم يجمع بينهما في فعل واحد بل عطف فعلاً على فعل ويأتي مزيد توضيح إن شاء الله في باب ما شاء الله وشئت.
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا: حق الله على العباد أن يأتوا بعبادة لا شرك فيها.
وحق العباد على الله: هذا حق تفضيل من الله أوجبه على نفسه، وليس ذلك حق
عوض، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.
والدليل: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54].
والمعتزلة يقولون: إنه حق واجب على الله لا حق تفضل.
أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا: فيه حذف، فالمنفي هنا من أتى بالعبادة وليس فيها شرك، وأما مجرد ترك الشرك فليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود ترك الشرك والإتيان بالتوحيد.
ومفهوم الحديث: أن من يشرك يُعذب، وهذا يسمى مفهوم مخالفة؛ لأنه يخالف المنطوق، فإذا جمعت هذا المفهوم مع قوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48]. اتضح لك أن الشرك لا يغفر.
قلت: يا رسول الله ! ألا أبشر الناس؟! أل في الناس للعهد الحضوري.
قال: لا: نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبشير وذكر له علة وهي: فيتكلوا؛ لأنه يخشى أن يعتمدوا على هذه البشارة فيتركوا العمل، وهذا يدل على جواز ترك بعض العلم غير الواجب مثل علم الفضائل والرقائق والمبشرات لا كل علم. إذا كان نشره يتضمن مفسدة أكبر.
مسألة:
ما الجمع بين هذا الحديث وآية آل عمران: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»؟
نقول: الكتمان نوعان:
1- الكتمان المطلق أو الكتمان لغير مصلحة وفائدة، فهذا لا يجوز.
2- الكتمان للمصلحة ولم يجب، وهذا جائز.(1/11)
جاء رجل إلى ابن عباس فقال: هل للقاتل توبة؟ فقال: لا. واستغرب بعض من عنده فسأله، فقال: رأيت في عينيه شررًا، فهو أتى يريد القتل.
لقد: اللام موطئة للقسم.
بعثنا: أرسلنا:
الرسول: من أوحي إليه وأرسل إلى قوم، ولا يلزم أنه ينزل عليه كتاب، فإسماعيل عليه الصلاة والسلام قال تعالى عنه: { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم: 54]، وإسماعيل لم يكن عنده كتاب، وإنما كان على كتاب أبيه إبراهيم عليه السلام.
الطاغوت: صيغة مبالغة مأخوذة من الطغيان، وصح عن عمر أنه قال: الطاغوت هو الشيطان.
وصح عن جابر أنه قال: الطاغوت هو الكاهن.
وكلا التعريفين صحيح، فهما تعريفان للطاغوت بالمثال.
وعرفه ابن القيم: كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82] الآية.
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»، أخرجاه، ولهما في حديث عتبان: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله».
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال موسى: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله» [رواه ابن حبان، والحاكم، وصححه].(1/12)
للترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة».
قال الشارح:
فضل التوحيد: الألف واللام يراد بها العموم، فيعم جميع أنواع التوحيد الثلاثة.
وما يكفِّر من الذنوب: هذا من عطف الخاص على العام، فتكفير الذنوب من فضائل التوحيد، وأفرد بالذكر للأهمية.
يكفر: يقصد به: التغطية. فالتوحيد يكفر: أي يغطي ويزيل الذنوب.
وقوله: الذنوب: يدل على أن التوحيد يكفر الذنوب.
وهل هي للعموم؟ لا إنما الذنوب المتعلقة بحق الله تعالى.
المصنف ذكر خمس فضائل للتوحيد، وهو بذكره لا يقصد الحصر.
وقوله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82].
الكلام هل هو صفة ذات أم صفة فعل؟
ومعنى صفة الذات هي: التي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى.
ومعنى صفة الفعل هي: التي تتعلق بالمشيئة، وصفة الكلام صفة ذاتية فعلية أي قديمة النوع حادثة الآحاد.
تعالى: إثبات صفة العلو لله - سبحانه وتعالى-.
{ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82].
هذا أول فضل من فضائل التوحيد، وهو: أن الموحد له الأمن التام والاهتداء التام.
فالشاهد: قوله: { أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82].
الأمن: بمعنى الأمن من الزيغ، والانحراف، وسوء الخاتمة، والأمن من العذاب.
الاهتداء: يهتدي إلى الحق في العقائد والمسائل، ويهتدي على الصراط، ويُهدى إلى الجنة والدخول فيها.
مسألة: هل اهتداؤه تام أو ناقض؟
هذا حسب التوحيد، فإن كان توحيده تاما فاهتداؤه تام، وإن كان توحيده ناقصًا فاهتداؤه ناقص.
شرح الآية:
الذين آمنوا: وأسلموا أيضا، فأتوا بالإيمان المعروف بالقلب وأتوا بالإسلام بالأركان العملية.
لم: نافية.
يلبسوا: يخلطوا.(1/13)
الظلم هنا: هل يقصد به الظلم المطلق أو مطلق الظلم؟ الصحابة فهموا أن المراد مطلق الظلم أي أصل الظلم، كظلم الإنسان لنفسه بالمعاصي، ففهم الصحابة أن الذي يخلط إيمانه بظلم وهو المعصية ليس له اهتداء.
ففسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه الشرك، وقال: «ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم».
وإذا أتى بالمعاصي دون الشرك فهذا يؤثر؛ لكن ليس كتأثير الشرك.
لهم الأمن وهم مهتدون: عبر بالجملة الاسمية وهذا يدل على الثبوت والدوام.
فأمنهم واهتداؤهم ثابت ودائم، هذا هو الفضل الأول.
مسألة: الأمن ينقسم إلى قسمين:
1- الأمن المطلق: أي الأمن الكامل، وهو الذي لا يشوبه خوف، وهو أن يأمن من الخلود والدخول في النار.
2- مطلق الأمن: أي أن يأمن الخلود في النار، والموحد إن كان توحيده كاملاً فأمنه كامل، وإن كان توحيده ناقصًا فأمنه ناقص.
الفضل الثاني في الحديث الأول حديث عبادة:
رضي الله عنه: خبر ودعاء، أما الدعاء فواضح، وأما الخبر فقد أخبر عنهم الله عز وجل أنه رضي عنهم، وخصوصًا أصحاب الشجرة، والعشرة المبشرون بالجنة.
وفي قوله: رضي الله عنه: إثبات صفة الرضا لله عز وجل.
مسألة: وهل هي صفة ذات أم صفة فعل؟
هي متعلقة بالمشيئة فهي صفة فعل، والصفات الذاتية: هي التي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى، كالسمع والبصر، وفي الحديث ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - خمسة أشياء.
من: شرطية، وهي من ألفاظ العموم، فعل الشرط: شهد.
جواب الشرط: أدخله الله الجنة.
الشهادة تطلق على عدة معان:
1- الإقرار. ……2- والاعتراف. ……3- والعمل.
فيقر ويعترف بمدلول هذه الكلمة ويعمل بمقتضى هذه المعرفة. وعلى ذلك فالعمل يدخل في مسمى الشهادة والإيمان.
ولا يمكن أن يسمى شاهدًا وهو لا يعمل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.(1/14)
المرجئة لا يدخلون العمل في مسمى ذلك؛ بل يقولون: يكفي المعرفة في القلب والنطق باللسان. وأما الكرامية فعندهم أن النطق يكفي، وجعلوا شهادة التوحيد تكفي في الدخول في مسمى الموحدين باللسان.
أن لا إله إلا الله:
لا: نافية للجنس، حرف مبني يعمل عمل إن.
إله: اسم "لا" مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف تقديره عند أهل السنة: حق.
وأما الأشاعرة فإنهم يقدرون الخبر المحذوف بـ: خالق أو رب، وعلى ذلك فمن أقر واعترف بربوبية الله وشهد أنه الخالق، فهو قد قال لا إله إلا الله، وأتى بتوحيد الألوهية، ولا شك أن هذا انحراف كبير.
وهذا الذي كان يعتقده الكفار من أن الله هو الخالق: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان: 25]، هذا أخطر انحراف عند الأشاعرة.
وأما الفلاسفة وأهل وحدة الوجود: فإنهم يقدرون الخبر المحذوف (بموجود)، فمن أثبت وجود الله فهو موحد، ويلزم من كلامهم أنه ليس هناك مشرك؛ لأن الكل يعترف بوجود الله.
وأما "لا": فهي حرف استثناء، وهل يسمى أداة أو حرف؟ لا مانع من التسمية، وأهل اللغة يقسمون الكلام إلى ثلاثة: اسم وفعل وحرف.
الله بدل عن مرفوع.
أركان هذه الجملة ركنان:
ركنان: 1- نفي.……2- إثبات.
النفي:: نفي عبادة ما سوى الله، وموضعه (لا إله).
الإثبات: إثبات عبادة الله وحده، وموضعه (إلا الله).
ولا نواقض تكلم عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب والفقهاء في حكم المرتد. ولها شروط ذكرها العلماء فلتراجع.
لا شريك: تأكيد للنفي.
وحده: تأكيد للإثبات.
وأن محمدًا عبده ورسوله.
الواو: عاطفة: أي: وشهد لمحمد بالعبودية والرسالة، ومقتضى الشهادة: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
والرسول: عبد فلا يعبد، ورسول فلا يكذب.
وأن عيسى عبد الله ورسوله: أي ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، فيشهد له بالعبودية والرسالة.(1/15)
وكلمته: أي عيسى أي: كان بكلمة (كن)، وليس هو الكلمة.
وهل الإضافة هنا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أو المخلوق إلى الخالق؟
إذا كان المضاف إلى الله عين قائمة بذاتها فهذا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق. وهذا مثل: عيسى، وبيت الله، ورسول الله.
من: هل هي تبعيضية أو ابتدائية؟ هي ابتدائية أي: روح مبتدأة من الله، كما قال تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [الجاثية: 13].
وليست تبعيضية إلا على مذهب النصارى، إذ يقولون: إنه جزء من الله، وثالث ثلاثة.
والجنة: معطوفة على اسم إن، والألف واللام للعهد، والجنة موجودة الآن وهي دار المؤمنين.
والنار: بأنها موجودة، وأنها الدار التي يعذِّب بها الكافرين، ومن شاء من العصاة.
أدخله الله الجنة: هذا هو جواب الشرط. وهذه الأعمال سبب لدخول الجنة وليس عوضاً لها.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله...».
أدخله الله الجنة: هذا على حسب تفسير العمل، ولذلك الدخول إلى الجنة ينقسم إلى قسمين:
دخول كامل: وهو من أتى بالتوحيد الكامل ولم يأت بشيء من الشرك أو المعاصي.
فيفسر العمل هنا بأنه العمل الصالح.
وإن قلنا مطلق دخول: فإن "العمل" يكون: العمل الصالح والفاسد، خلا الشرك والمكفرات، فهذا ينتهي إلى الجنة.
أخرجاه: أي البخاري ومسلم.
وهذا هو الفضل الثاني من فضائل التوحيد، وهو: دخول الجنة.
ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم: أي: منع.
على النار: المعروفة.
من قال لا إله إلا الله: «من» موصولية بمعنى الذي.
وقال هنا: هل يقصد بها قول اللسان فقط؟
لا. المقصود قول القلب بالاعتقاد، وقول اللسان وهو النطق، وقول الجوارح وهو العمل.
وهل العمل يطلق عليه قول؟
نعم. كما جاء في حديث عمار بن ياسر في التيمم وهو في الصحيحين، قال: وقال بيده، وحديث عائشة في الصحيح: وقال بيده هكذا في الأرض.(1/16)
وأما أهل البدع فيقتصرون على القول باللسان.
يبتغي بذلك وجه الله: الجملة في محل نصب حال من فاعل قال. وهذا قيد في صحة من ينتفع بلا إله إلا الله، وجاءت قيود أخرى غير هذا كما في الصحيح.
صدقًا من قلبه: وجاء عند مسلم نفي الشك (غير شاك)، وجاء (مستيقنًا بها قلبه)، وهناك شروط أخرى كالعلم بها، والعمل، والمحبة، والانقياد، والقبول.
وجه الله: هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا فيه إثبات صفة الوجه لله عز وجل، وهي صفة ذاتية تثبت لله عز وجل من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، وأما المعطلة فيؤولون الوجه إلى الثواب.
الفضل الثالث: الموحد محرم على النار:
مسألة: هل التحريم تحريم خلود أو تحريم دخول؟
هذا على حسب التوحيد، فإن كان توحيده كاملاً فالتحريم تحريم دخول.
وأما إن كان توحيده ناقصًا فالتحريم للخلود، والدخول تحت المشيئة.
حديث أبي سعيد الخدري.
صحة الحديث ودرجته: أخرجه ابن حبان والحاكم وصححه، لكن الحديث بهذا السند ضعيف، قال الهيثمي: رجاله وثقوا وفيهم ضعف.
الضعف أتى من رجل اسمه دراج بن سمعان وكنيته أبو السمح، وهذا الرجل له مناكير، روى عن أبي الهيثم، وحديثه عن أبي الهيثم ضعيف، ولذلك قال أبو داود: دراج بن سمعان مستقيم الحديث إلا في حديثه عن أبي الهيثم.
لكن الحديث له شواهد تقويه سندًا:
له شاهد عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نوح أنه أوصى ابنه، وصححه الألباني في السلسلة.
ويشهد له أيضًا حديث صاحب البطاقة، رواه الترمذي وحسنه، فيكون الحديث مقبولا.
وعلى ذلك نشرح الحديث.
موسى بن عمران: نبي من الأنبياء.
علمني شيئا: يريد شيئا خاصًا له، وأراد بهذا الشيء أن يكون ذكرًا ودعاءً في نفس الوقت.
أذكرك: إذا قلته ذكرت رحمتك وعظمتك وقدرتك.
وأدعوك: الواو عاطفة والعطف يقتضي المغايرة.
وأدعوك: دعاء مسألة؛ لأن العبادة في "وأذكرك".(1/17)
به: الباء للتوسل، والتوسل لله بأسمائه مما جاء به الشرع، وكذلك صفاته.
والممنوع دعاء الصفة، أما الدعاء بالصفة فهذا مشروع.
كل عبادك: يقصد المؤمنين؛ لأن عباده الكفار لا يقولون: لا إله إلا الله.
لو أن السماوات السبع: هذا عددهن.
وعامرهن غيري: المقصود بالعمارة عمارة سكن وعبادة، والمقصود بهم الملائكة.
واستثنى ذاته سبحانه وتعالى. أي: لو أن هناك ميزانًا وضعت في إحدى كفتيه السماوات السبع وعامرهن سوى الله والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة أخرى مالت بهن لا إله إلا الله.
ويلاحظ عدم ذكر عُمّار الأرض، ليس المراد هنا: أنه ليس لها عمارا.
مسألة: هل الأرضون مثل السماوات في الشكل؟
قول الجمهور وذكره القرطبي في تفسير سورة الطلاق أن الأرض كالسماء في العدد والكيفية.
واستدلوا على ذلك بآية { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق: 12].
والمثلية تقتضي المساواة في كل الوجوه؛ بخلاف الشبه.
واستدلوا بأثر رواه ابن جرير عن ابن مسعود، بسند حسن "غلظ كل أرض خمسمائة عام".
وجاء عند الترمذي أن بين كل أرض وأرض مسيرة خمسمائة عام.
القول الثاني: أنها ملاصقة ليس فيها فراغ ولا هواء، واستدلوا على ذلك بالحديث المتفق عليه: «من اقتطع شبرًا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين».
وجه الدلالة: أن مغتصب الأرض يعتبر مغتصبا لما بعدها، فدل على أنها ملتصقة وإلا لما نسبت الأرض السفلى للأرض التي فوقها.
هذا هو الفضل الرابع: «أن لا إله الله حسنة عظيمة تزن السماوات والأرض وأنها تثقل ميزان الإنسان يوم القيامة».
الحديث الأخير: ذكر الفضل الخامس من فضائل التوحيد.
حديث أنس أصله في مسلم وخصوصًا الجزء الأخير، وهو من حديث أبي ذر.(1/18)
الحسن عند الترمذي: ليس فيه متهم ولا يكون شاذًا ويأتي من وجه آخر (انظر العلل لابن رجب). والحديث له شاهد عند أحمد من حديث أبي ذر، وله شاهد عند الطبراني من حديث ابن عباس.
قال الله تعالى: هذا يسمى حديث قدسي، وهو: ما رفعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الله تعالى، وهو أرفع من الحديث النبوي.
يا ابن آدم: هذا من باب التغليب، والمراد العموم أي كل الناس.
قراب: ملء.
خطايا: ما دون الشرك الأكبر والمكفرات.
ثم: للترتيب والتراخي.
لقيتني: لقاء الموت أي: مت على التوحيد وأنت مذنب وعندك معاصي دون الشرك.
شيئا: نكرة فتعم كل شرك.
الشرك هنا: المراد به الشرك الأكبر والأصغر.
بقرابها مغفرة:
هذا هو الفضل الخامس: وهو أن الموحد تغفر له ذنوبه إذا تخلص من الشركين الأكبر والأصغر، وعندنا ثلاثة أصناف:
1- رجل مات وهو يشرك شركًا أكبر، فهذا لا يغفر له بالإجماع.
2- رجل مات وهو لا يشرك بالله شركًا أكبر، وإنما هو ملم بالشرك الأصغر، فهذا دون الأول ويؤخذ بشركه الأصغر.
3- رجل مات وليس عنده لا شرك أكبر ولا أصغر وعنده معاصٍ، وهذا مقصود الحديث.
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب(1/19)
وقول الله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل: 120] وقال { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون: 59] عن حصين بن عبد الرحمن، قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت: قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة "، قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه. فقال: " هم الذين لا يَسْتَرْقُون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " أنت منهم " ثم قام رجل، فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال " سبقك بها عكّاشة ».
قال الشارح:
المسألة الأولى:
التحقيق لغة: هو التخليص والتصفية.
فمعنى حقق أي: خلّص وصفَّى.
والتعريف الشرعي: هو تخليصه وتصفيته من الشرك والبدع والمعاصي وما ينافي التوكل.
وينقسم تحقيق التوحيد إلى قسمين باعتبار الحكم:(1/20)
1- تحقيق واجب: وهو تخليصه من الشرك والبدع والمعاصي، وهذا يجب على المكلف أن يسعى فيه، والدليل على هذا التحقيق هو الآية الأولى، والآية الثانية في الباب.
2- تحقيق مستحب: وهو تخليص القلب من التعلق بالمخلوقين وسؤال ما فيه مذلة أو منة.
وهذا دليله الحديث حديث ابن عباس (لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)، وحكم هذا التحقيق مستحب، وضابطه أن يترك استعطاف الناس وسؤالهم الأمور المباحة. فتترك الحاجة إلى المخلوقين.
وقوله: دخل الجنة: هذا جواب "من" الشرطية.
بغير حساب: فلا يحاسب لا حسابًا عسيرًا ولا يسيرًا.
وقوله: "تعالى": صفة فعل الله عز وجل، فهو متعال قهرًا وقدرًا وذاتًا.
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] أي: إمامًا.
قانتا: القنوت: هو دوام الطاعة.
لله: هذا فيه بيان إخلاص إبراهيم عليه السلام وأنه لله.
حنيفًا: صفة ثانية، والحنيف هو المائل، وهو مائل عن الشرك إلى التوحيد.
ولم يك من المشركين: نفي أن يكون من المشركين.
والمشركون: هم الذين يجعلون لله أندادًا في الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات.
وهذا هو معنى الشرك: أن يجعل لله ندًا.
ونفى الله عن إبراهيم الشرك، فهل هو في الاعتقاد أو العمل أو المكان؟ من المعلوم أن اعتقاده ليس اعتقاد المشركين، وأيضًا ولا عمله عملهم، وهو ليس من المشركين سكنًا ومكانًا أيضًا.
مسألة: السكن مع المشركين، فهذه المسألة لها حكم تفصيلي:
فمن كان بين ظهراني المشركين يدعوهم إلى الله، مبغضًا لهم جاهرًا بدينه ومستطيعًا
على ذلك، فهنا له أن يساكن.
وأما مجاورة المشركين ومساكنتهم وهو لا يأمن على نفسه، فهذا لا يجوز.
أو يأمن على نفسه ولكن لا يستطيع التصريح بدينه، فهذا أيضا يجب عليه الهجرة مع الاستطاعة.(1/21)
وأما مناسبة هذه الآية للباب: فإن إبراهيم قد حقق التوحيد، وذلك بميلانه عن الشرك ميلاً كليًّا، وقد أمرنا بالاقتداء بهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } [الأنعام: 90].
وأما بالنسبة للآية الثانية: { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون: 59].
فلا: نافية، نفت عنهم الشرك وقوادح التوحيد كالبدع والمعاصي، فإن الآية في معرض المدح لهم.
حديث ابن عباس:
حصين بن عبد الرحمن: تابعي والتابعي من رأى الصحابي.
وهم ثلاث طبقات: كبار وأواسط وصغار.
سعيد بن جبير: من كبار التابعين، ويروي عن ابن عباس.
فقال: أي: سعيد.
أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فسعيد يسأل عن ظاهرة سماوية وهي سقوط كوكب، وهذا يدل على اهتمام السلف بالآيات الكونية والاعتبار بها.
فقلت أنا: الكلام لحصين.
ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة: وهذا جائز أن يخشى الإنسان أن يظن فيه شيء فيبادر في نفيه، كقول الإنسان: "لن آكل ولست بصائم" وليس هذا من باب الرياء.
صلاة: نكرة، فهل نفي صلاة الفرض أو صلاة الليل؟ نفي جميع الصلوات؟ لأنها نكرة في سياق النفي فيدل على العموم لكن سياق الكلام خاص في نفي الصلاة في الليل، واقتصر على الصلاة؛ لأنها غالب فعل الناس في الليل.
لدغت: لسعت، أصابته لدغة عقرب. فهو مستيقظ لأنه مريض.
قال: ارتقيت: وفي لفظ لمسلم: استرقيت: أي: طلبت من يرقيني؛ لأن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى.
وهنا شاهد لتحقيق التوحيد المستحب؛ لأنه طلب من غيره.
فما حملك على ذلك: هذه محاورة جميلة بين علماء، فهو هنا يسأله عن مستنده: ما دليلك؟
والمستندات: 1- آية.…2- أو حديث. …3- أو إجماع. …4- أو فتوى عالم.
الشعبي: تابعي أيضًا.
بريدة بن الحصيب: صحابي.
لا رقية إلا من عين أو حمة.
خبر لا: محذوف تقديره أولى أو أنفع أو أشفى.
إلا من عين أو حمة: ومعنى الحديث أن أنفع ما يعالج به العين واللدغة هي الرقية.(1/22)
وليس هو العلاج الوحيد، فالحصر هنا حصر إضافي، فالعلاج من العين له عدة علاجات أنفعها القراءة، وكذلك اللدغة لها عدة علاجات وأحسنها القراءة، وقد تعالج بأدوية مستحدثة إذا كانت مباحة.
فاستدل حصين بهذا الحديث.
قال سعيد بن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع: فنلاحظ أن سعيدًا لم يخطئ حصينًا؛ لأنه عمل بما عنده من الأدلة فيعتبره محسنا.
ولا ينبغي أن نلزم الناس أو نجبرهم على اجتهاد واحد، فالمسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف فيها سعة.
مسألة: من سمع كلام الناس فعمل به لم يحسن؛ لأن الناس ليسوا مستندًا للأحكام الشرعية.
لكن: حرف استدراك، فأراد أن ينقله من حالة إلى أخرى.
النبي: هل هو اسم مفعول أو اسم فاعل؟
كلاهما فهو مُنبِّئ ومُنبَّأ ومُخبِر ومُخَبر، والنبي مبعوث ومنذر أيضًا قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ... } [الحج: 5].
{ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } [البقرة: 213].
الأمم: اللام للعموم.
رأيت النبي ومعه: هذه المعية معية اتباع الذين معه على منهجه.
الرجل والرجلان: للتقليل.
إذ رفع لي سواد: أي أشخاص. ولكن لبعدهم لا أعرف أشخاصهم، وإنما أعرف كثرتهم.
فظننت أنهم أمتي: لأنه - صلى الله عليه وسلم - يعرف أن أمته أكثر الأمم، وهذا فيه جواز الإخبار بالظن إذا دلت عليه القرائن.
أمتي: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قسمان:
1- أمة دعوة، وهذه تشمل كل الناس من بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - «والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة» [رواه مسلم].
2- أمة الإجابة، وهم المسلمون.
فقيل لي هذا موسى وقومه: الواو عاطفة، وقومه معطوف على موسى من باب عطف العام على الخاص. والمقصود بقومه ليس قوم النسب، وإنما المراد الذين آمنوا به من بني إسرائيل واتبعوه.(1/23)
فنظرت فإذا سواد عظيم: هذا السواد أعظم من الأول؛ لأنه في رواية قد سد الأفق.
هذه أمتك: أمة الإجابة التي آمنت بك.
ومعهم سبعون ألفًا: وهؤلاء السبعون لهم ميزة وهي أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وزاد أحمد (مع كل ألف سبعون ألفًا)، وعند مسلم (مع كل واحد سبعون ألفًا).
وربما أنهم ثلاث طبقات:
الأولى: سبعون ألفًا.
الثانية: أكثر، وهم الذين جاءوا في رواية أحمد (مع كل ألف سبعون ألفًا).
الثالثة: أكثر من ذلك كما في حديث مسلم (مع كل واحد سبعون ألفًا).
وجاء عند أحمد وصفهم: (أن وجوههم مضيئة كإضاءة القمر ليلة البدر).
ونفى عنهم شيئين: الحساب والعذاب.
لكنهم يحضرون مع الناس الحشر؛ لكن إذا بدأ الحساب ذهب بهم إلى الجنة. وهذا فضل عظيم لأن العمل عظيم.
فلا يحاسبون ولا يعذبون: لا في القبر، ولا في الموقف، ولا في النار.
ثم نهض: من مجلسه، أو درسه وحلقته.
فخاض الناس: هذا فيه النقاش في المسائل العلمية، وهذا أمر مطلوب؛ لأنه من مدارسة العلم.
الناس: أل للعهد الحضوري... أي الناس الحاضرين، فهو عام مخصوص.
في أولئك: محل النقاش هم السبعون، وليس المراد عددهم وإنما عملهم.
صحبوا: المقصود الصحبة الخاصة، فأرادوا الصحبة المطلقة، وليس مطلق الصحبة؛ لأن الذين يتكلمون هم من الصحابة.
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام: ولم يعاصروا الجاهلية فلم يتلطخوا بشيء منها.
يسترقون: يطلبون من أحد أن يرقيهم.
والرقية مباحة أو محرمة؟
بل هي مباحة، فيتركها الإنسان توكلاً على الله، لا خجلاً ولا عجزا.
وهل هذا خاص في الرقية؟
لا. بل يدخل فيه غيره من المباحات التي يتركونها توكلاً على الله، كسؤال المال وغير ذلك إذا كان غير قادر على التكسب لمرض أو غيره.
وهل طلب القرض من هذا الباب؟
لا. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقترض، والقرض يرد بدله.
والقرض ليس فيه منة أو استعطاف، بخلاف استهداء الناس أو استيهابهم.(1/24)
وهل منه الذهاب إلى الطبيب للعلاج؟
إن كان الطبيب يعالج بالأجرة وأنت دفعت له أجرة من أجل علاجك، أو كان هذا
الطبيب قد وضعه الوالي فليس هذا من هذا الباب لعدم المنة والاستعطاف.
وأما إن كان يعالجك مجانًا فهو من هذا الباب.
فمن كمال التوحيد عدم سؤال الناس شيئًا. ولذا بايع بعض الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عدم سؤال الناس شيئًا؛ حتى إن بعضهم كان سوطه يسقط منه ولا يطلب من أخيه أن يعطيه.
وهل منه طلب الإنسان من المعلم تعليمه العلم الشرعي أو طلب الكتب الشرعية؟
الظاهر أنه غير داخل فيه؛ لأن المذموم طلب الأمور الدنيوية ولقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } وليس منه طلب حق من حقوقك كما لو طلبت الزوجة حقها المالي من الزوج أو العبد من سيده. وليس منه الطلب من الوالي حقك من بيت المال، وليس منه طلب ديونك التي على الناس أن تطلب سدادها فكل ذلك ليس من الطلب المذموم لأنها حقوق أو ديون لك.
ولا يكتوون: أي لا يطلبون من أحد أن يكويهم؛ لأن المسترقي والذي يطلب الكي سائل، والإنسان غالبًا ما يستعبده المعروف. وهذا هو المذموم في هذا الباب؛ لأن في هذا تعلق للقلب بأحد، ولذا يقول أحد الأعراب: (ما أدخلت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له).
يتطيرون: لها باب خاص.
يتوكلون: هذه الصفة الجامعة للصفات السابقة. فكل الأعمال السابقة تركت توكلاً على الله، ولذا احرص على أن من عمل لك عملاً أن تكافئه، حتى لا يكون في قلبك ذل له، وقيل إن قوله { يَتَوَكَّلُونَ } ليست صفة جامعة لما سبق بل هي صفة مستقلة وهي الصفة الرابعة لهم.
عُكَّاشة: بضم العين وتشديد الكاف.
ادع الله: هذا دعاء مسألة.
سبقك بها عكّاشة: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يسد الباب.
الشاهد فيه: تحقيق التوحيد بترك الأمور المباحة وسؤالها الناس والتوكل على الله.
باب الخوف من الشرك(1/25)
وقول الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48].
وقال الخليل عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]، وفي حديث: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، فسئل عنه فقال: (الرياء) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار» [رواه البخاري]، ولمسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار».
قال الشارح:
فذكر الآية الأولى: وهي تدل على أن الله لا يغفر الشرك وإذا كان الشرك لا يغفر فيجب الخوف منه.
ومعروف أن الشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48].
وأما الشرك الأصغر فهل يغفر بغير التوبة أو لا؟
القول الأول وهو المذهب: أن الشرك الأصغر يغفر بغير توبة، فيغفر بكثرة الحسنات والمصائب وغير ذلك، فعندهم أن الشرك الأصغر كسائر الكبائر، وهذا هو أحد أقوال ابن تيمية وهو المذهب.
القول الثاني: أن الشرك الأصغر لا يغفر إذا مات صاحبه مصرًا عليه ولم يتب منه، واستدلوا بالآية { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48].
فقالوا: أن يشرك. أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، فتكون (إن الله لا يغفر شركا) فيكون نكرة في سياق النفي فيعم الأصغر والأكبر.
وهذا هو الراجح عندي، وهو أحد أقوال ابن تيمية.
وهل يلزم من عدم المغفرة دخول النار؟
لا يلزم؛ لأن المغفرة معناها الستر والتجاوز، مأخوذة من المغفر، وهو الذي يستر به الناس الرأس.(1/26)
فمعنى ذلك أنه يؤاخذ ويعذب، ولكن لا يلزم أن يعذب في النار، فقد يعذب في القبر أو في عرصات المحشر أو غير ذلك.
ما دون ذلك: يقصد به ما دون الشرك من الذنوب كالكبائر ولكنها متعلقة بالمشيئة، وأما الشرك فلا يغفره الله إلا بالتوبة.
وقال الخليل – عليه السلام -: هنا أيضًا لم يذكر الصلاة، ومع ذلك فيشرع عند ذكر الأنبياء الصلاة والسلام، ونقل النووي الإجماع على ذلك.
وذكر ابن القيم في جلاء الأفهام أن بعض المالكية لا يرون الجمع بين الصلاة والسلام على غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وخُرَّج بأنها لا تشرع على وجه المساواة.
واجنبني: اجعلني في جانب والأصنام في جانب آخر، وهذا منتهى الابتعاد.
نعبد: نذل ونخضع.
الأصنام: جمع صنم وهو ما عبد من دون الله.
علاقة الآية بالباب:
إذا كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام خاف على نفسه وعلى بنيه الشرك فغيره من باب أولى.
الشرك: أن تجعل لله ندًا في الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات.
أو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.
أما أهل البدع والضلال فيعرفون الشرك بأنه: عبادة الأصنام أو عبادة الحجر، ويقصدون بالأصنام ما كان على عهد الجاهلية، ولا شك أن هذا خطأ وضلال. وبعضهم قال: الشرك: اعتقاد الربوبية لغير الله وهذا خطأ، فقصر الشرك على توحيد الربوبية لا يكفي، وهذا لا يقع حتى من المشركين، بل إنهم يعتقدون أن الله هو الخالق الرزاق.
حديث (أخوف ما أخاف) هو حديث عمرو بن لبيد، هذا الحديث رواه أحمد والطبراني والبيهقي بإسناد جيد، وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وصححه الألباني.
أخوف ما أخاف عليكم: أي: أيها الصحابة، ويدخل فيه المؤمنون جميعًا.
الشرك الأصغر: سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم.(1/27)
الرياء: هذا من باب المثال لا من باب الحصر إذ الشرك الأصغر أنواعه متعددة، كالحلف بغير الله، والرقية الشركية الصغرى مثل الرقية بآثار الصالحين تبركًا مثلاً وغير ذلك، ولبس التمائم في بعض أقسامها، وقول ما شاء الله وشئت.
تعريف الشرك الأصغر:
الجمهور: ما جاء في النصوص تسميته شركا ولم يبلغ حد الألوهية كقول ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًا، وأكثر أئمة الدعوة رحمهم الله يعرفون بهذا التعريف. وذهب الشيخ السعدي رحمه الله إلى أنه كل قول أو فعل يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر. فجعل وسائل الشرك الأكبر هي الشرك الأصغر، وتسمية وسائل الشيء باسمه هذا جاءت به السنة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - سمى النظر زنا (العينان تزنيان وزناهما النظر)، وعلى هذا فالتعريف الثاني أشمل من التعريف الأول، وأمثلته كثيرة، كالذبح لله عند القبور، والعبادة لله عند القبور، ولكن الأقرب من التعريفين السابقين قول الجمهور وأحسن من ذلك أن نعرّف الشرك الأصغر بأنه: جعل نصيب لغير الله ما لم يبلغ حد الألوهية، والتعريف الأخير الذي قلنا هو الراجح إن شاء الله.
علاقة الحديث بالباب:
إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاف على الصحابة الشرك فغيرهم من باب أولى، وإذا خاف الشرك الأصغر فما بالك بالشرك الأكبر؟
وقوله: الأصغر: قد يفهم منه بعض الناس قلة أهميته، وليس كذلك، ولكنه لما كان بمقابل الأكبر سُمي أصغر، وإلا فهو أعظم من الكبائر، يدل عليه حديث ابن مسعود (لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا).
فلا يجوز التهاون فيه لأن أمره عظيم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مات ...)
من: شرطية من ألفاظ العموم.
الموت: -معروف- مفارقة الروح للبدن.
وهو يدعو: الواو واو الحال فالجملة بعدها حالية.
يدعو لله ندا: هل معناه يعبد غير الله أو يسأل ندًا غير الله؟
المعنى: يعبد ويسأل فتشمل الاثنين.(1/28)
ندا: مثيلاً.
وهذا الحديث يدل على أن الشرك يُدخل النار، وعلاقته بالباب أنه إذا كان الشرك يدخل النار فهذا يوجب الخوف منه، وهذا هو الموجب الرابع.
حديث جابر:
من: شرطية.
لا يشرك به شيئًا: نكرة في سياق النفي فتعم، وهذا الحديث يدل على أن من مات سالمًا من الشرك يدخل الجنة، ومن مات مشركًا شيئًا دخل النار.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [يوسف: 108] الآية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خبر: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه». فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خير لك من حمر النعم». يدوكون: يخوضون.
قال الشارح:
وفي بعض النسخ: الدعوة إلى التوحيد.(1/29)
قصد المؤلف من هذا الباب أن يبين حكم الدعوة إلى التوحيد، بعد أن ذكر التوحيد وفضله والشرك والتحذير منه.
ما حكم الدعوة إلى التوحيد؟
ذكر هذه المسألة الإمام محمد بن عبد الوهاب في أول الأصول الثلاثة وقال: أربع مسائل يجب على كل مسلم تعلمها ذكر منها: الدعوة.
وذكر المحشي ابن قاسم في الحاشية على التوحيد أنها واجبة وهذا هو الصحيح. وأدلة ذلك حديث معاذ، وحديث علي بن أبي طالب (ثم ادعهم إلى الإسلام) فهو أمر والأمر للوجوب.
الآية الأولى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [يوسف: 108].
بينت حكم الدعوة إلى التوحيد، وأنه واجب؛ لأن هذا هو سبيل النبي الذي أمرنا بالاقتداء به { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].
وتجب الدعوة إلى التوحيد لمن كان قادرًا على ذلك عالمًا به.
وهناك مسألة يستحب فيها الدعوة إلى التوحيد، وهي عند قتال الكفار الذين بلغهم التوحيد، فيستحب قبل قتالهم دعوتهم إلى التوحيد.
هل وسائل الدعوة توقيفية أو اجتهادية؟
هذه المسألة فيها كلام قديمًا وحديثًا، فبعض العلماء يرى أنها توقيفية، وبعضهم يرى أنها اجتهادية، وبعضهم يرى أنها توقيفية، ولا مانع من الاجتهاد، ولا شك أن وسائل الدعوة ليست توقيفية فقط، فمنها توقيفية كخطب الجمع والمكاتبات وغشيان الناس في مجالسهم.
ولا مانع من استحداث وسائل أخرى شرعية كالشريط؛ لأنه شبيه بالكتابة. وهناك فرق بينها وبين وسائل الترغيب، فالهدية وغيرها من الوسائل وهي وسائل ترغيبية.
مسألة: كلمة (توحيد الصف قبل كلمة التوحيد). وهذه تعني أن الحديث في باب العقائد يؤجل بعد أن نجمع الناس وهذه كلمة خاطئة؛ بل لا بد من كلمة التوحيد أولاً.
مسألة: كلمة (التعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضها بعضا فيما اختلفنا فيه). وهذه الكلمة خاطئة؛ لأنه لا عذر ولا اتفاق مع أهل البدع المخالفين لأهل السنة.
شهادة: الشهادة الإقرار والاعتراف والعمل.(1/30)
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي... } [يوسف: 108].
الآية تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبيله:-
1- الدعوة إلى الله.
2- الإخلاص في قوله (إلى الله).
3- العلم في قوله (على بصيرة).
فهذه مقومات الدعوة في هذه الآية.
وحديث ابن عباس فيه نوع من أنواع البصيرة حيث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة المدعو: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب) ولا يخلو طبيعة المدعو من ثلاث:
1- مؤثر للحق، فهذا يُدعى بالحكمة.
2- مؤثر للباطل، فهذا يخوف ويرهب.
3- أن يكون معاندًا.
أهل الكتاب: سموا بذلك من أجل التعريف، فليست هذه التسمية تسمية مدح. وأهل الكتاب ثلاث طبقات:
1- من كان قبل التحريف، فهؤلاء يطلق عليهم أهل الكتاب وهم مسلمون.
2- من كان بعد التحريف، وهم يعلمون بالمحرف، وهؤلاء يطلق عليهم أهل الكتاب أيضًا، وهؤلاء عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3- هم المنتسبون إلى أهل الكتاب اسما وهم غير عاملين بالتوراة أو الإنجيل المحرفة ولا يعتقدون اعتقادهم وإنما ينتهجون العلمانية وهؤلاء لا تحل ذبائحهم ولا التزوج منهم؛ لأن التسمية لا تغير شيئًا إذا لم يصاحبها معتقد، كالمسلم إذا تسمَّى بالإسلام ولم يعمل.
فليكن: الأمر للوجوب.
وهذا يدل على أمرين:
1- وجوب الدعوة إلى التوحيد.
2- وجوب تقديم هذه الدعوة أي دعوة التوحيد.
فإن هم أطاعوك: الموافقة على وجه الاختيار.
فأعلمهم: الفاء للتعقيب. وأعلمهم: أخبرهم.
خمس صلوات: هي الصلوات الخمس المعروفة، وهذا يدل على التدرج في الدعوة لكن باعتبارات، فأول درجة أن يدعو إلى التوحيد ثم الدرجة الثانية إلى الصلاة، وهكذا بهذا بالنسبة لدعوة الكافر الأصلي.
وهذا الدليل يصلح صارفًا لوجوب الوتر وسنن أخرى.
صدقة: زكاة.
تؤخذ: مبني للمجهول، والآخذ: الإمام أو نائب الإمام، والذي تجب الزكاة عليه هو الغني، والغني في باب الزكاة غير الغني في باب الصدقات. فالغني في باب الزكاة: هو من يملك النصاب.(1/31)
الفقير: هو الذي لا يجد شيئًا أو يجد نصف كفايته، وتعريف الفقير عند الإطلاق يدخل فيه تعريف المسكين،وهذا يدل على جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد.
فقرائهم: هذا استدل به من يقول بعدم جواز نقل الزكاة، والراجح أنه يجوز نقلها... عند الحاجة والنفع، ومثلها صدقة الفطر.
فإياك: للتحذير.
واتق دعوة: دعوة بمعنى دعاء.
والمظلوم: الألف واللام للعموم، فيشمل حتى الكافر، لكن المظلوم هنا في هذا السياق أي المظلوم في باب الزكاة كما لو أخذ منه أكثر مما يجب عليه.
في الحديث لم يذكر الحج ولا الصيام فما السبب؟
أجاب ابن تيمية على هذه الأحاديث التي لا تشمل جميع أركان الإسلام فقال:
1- إما أنه تصرفٌ من الراوي فحذفت اختصارًا.
2- أنها لم تفرض بعد.
3- أو أن هذا حسب اقتضاء الحال.
حديث سهل بن سعد:
لأعطين: اللام موطئة للقسم.
يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله: فيه فضل علي بن أبي طالب، وفيه إثبات المحبة لله سبحانه وتعالى؛ خلافًا للمعطلة والمؤولة الذين يقولون: يحب بمعنى يثيب.
يفتح الله على يديه: فيه أن الأسباب تنسب إلى الله عز وجل.
يدوكون ليلتهم: فيه السهر في النقاش.
أين علي بن أبي طالب؟ فيه سر عظيم، وهو أن الراية أعطيت لمن لم يفكر فيها ولم
يحضر لأخذها.
فبصق في عينيه: عالجه بالبصاق.
ثم ادعهم: هذا هو الشاهد، والأمر يقتضي الوجوب.
إلى الإسلام: أي: والإيمان: أي: القول والعمل والاعتقاد.
الإسلام: بالمعنى العام: قول وعمل واعتقاد.
وبالمعنى الخاص: قول وعمل، وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص له من الشرك.
وهنا الإسلام بالمعنى العام.
وأخبرهم: بما يجب من حقه أي الإسلام كالصلاة والزكاة.
فوالله: جواز الحلف ولو بدون استحلاف.
يهدي بك: يرشد على يديك.
حمر النعم: خيار الإبل.
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله(1/32)
وقول الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء: 57] الآية، وقوله: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف: 26، 27] الآية. وقوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة: 31] الآية. وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة: 165] الآية.
وفي (الصحيح) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل».
قال الشارح:
المسألة الأولى:
معنى التفسير: الكشف والإيضاح.
وأما التوحيد: فالألف واللام – والله أعلم – ليست للعموم وإنما هي للعهد فالمؤلف أراد أن يبين توحيد الألوهية في هذا الباب.
ثم عطف بالشهادة، وهذا من عطف المترادفين. وأراد المصنف من هذا الباب أن يوضح معنى توحيد الألوهية بعد أن ذكر وجوبه وفضائله وضده وهو الشرك ناسب أن يعرفه هنا.
وهذه هي طريقة المؤلف احتذى حذوها حافظ أحمد الحكمي رحمه الله.
والمؤلف ذكر أربع آيات في تفسير التوحيد.
وقول الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [الإسراء: 57].
أولئك: اسم إشارة مبتدأ، ويُقصد به الصالحون المعبودون.
يدعون: يعبدونهم أو يسألونهم.
يبتغون إلى ربهم الوسيلة: أي أنهم صالحون.
ومعنى الآية: أن الذين تعبدونهم مع كونهم صالحين فهم محتاجون إلى الله سبحانه وتعالى.
وجه الدلالة:
تدل على أن دعاء الصالحين والأموات والاستغاثة بهم يُنافي معنى التوحيد.
وأما الآية الثانية:(1/33)
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف: 26، 27].
فتبرأ إبراهيم من عبادة غير الله وأثبت العبادة لله سبحانه وتعالى.
إلا الذي فطرني: وهو الله.
وهذه الآية مما يفسر التوحيد تفسيرًا مطابقًا، فإن توحيد الألوهية هو: البراءة من عبادة غير الله، والكفر بها، وإثبات العبادة لله سبحانه وتعالى.
ويأتي بإذن الله مع الحديث الأخير كيفية البراءة من غير الله.
الآية الثالثة:
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة: 31].
اتخذوا: أي أهل الكتاب اليهود والنصارى.
أحبارهم: هم علماؤهم.
رهبانهم: هم العباد.
أربابًا: الرب هو: المتصرف؛ بمعنى أنهم جعلوا العلماء والعباد يتصرفون في الشريعة، ويحلون ما شاءوا، ويحرمون ما شاءوا، ويتابعهم الناس على ذلك.
مناسبة هذه الآية:
أن طاعة العلماء والعباد والأمراء ونحوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال ينافي معنى التوحيد.
الآية الرابعة:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة: 116] من: تبعيضية.
أندادًا: نظراء ومساوون.
كحب: الكاف للتشبيه؛ بمعنى أنهم يحبون الأنداد كمحبة الله، وهذا أحد الأقوال في
تفسير هذه الكلمة { كَحُبِّ } .
مناسبة الآية:
على أن من أحب أحدًا كمحبة الله فإن هذا ينافي معنى التوحيد.
قال المصنف: وفي الصحيح: أي: صحيح مسلم.
عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه: «من قال لا إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله...».
من: شرطية، وهي من ألفاظ العموم.
قال: أي بلسانه وقلبه وجوارحه، تلفظًا واعتقادًا وعملاً بمقتضاها.
وأما المرجئة، فإنهم يكتفون بالاعتقاد والقول، ولا يدخلون العمل، وأما الكرامية، فإنهم يقتصرون على القول فقط.(1/34)
وكفر: أي لا يكفي العمل بالتوحيد والاعتقاد حتى يضم إلى ذلك شيئًا مهمًا وهو الكفر بما يعبد من دون الله.
حرم: جواب الشرط. وتتحقق له الحرمة إذا اجتمع فيه شيئان:
1- التوحيد.
2- الكفر بالطاغوت.
وهذا الحديث من أفضل ما يبين تعريف التوحيد؛ إذ هو عبادة الله والكفر بالطاغوت.
إذن تفسير التوحيد: هو إفراد الله بالعبادة والبراءة من الكفر وأهله.
البراءة:
معنى البراءة من الكفر: تكون بثلاثة أشياء:
1- بالقلب.……2- واللسان.……3- والجوارح.
1- أما براءة القلب من الكفر وأهل الكفر فهو كراهية الكفر وأهله، وبغضهم وتمني زوالهم، واعتقاد بطلان الكفر وتركه وهذا هو كفر القلب، وحكمه: فرض لازم.
وهل يسقط؟ لا يسقط في حال من الأحوال؛ لأنه لا يتصور فيه إكراه؛ لأن عمل القلب خفي.
2- براءة اللسان: وهو التصريح باللسان على أن عبادة غير الله باطلة، والتصريح
ببغض الكفار وبطلان عبادتهم، فيقول ذلك بلسان، وحكمه واجب. وهل يسقط؟
أما مع الإكراه وعدم الاستطاعة يسقط. لقوله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286] أما الدليل على أن التصريح واجب فقوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون: 1، 2]، وقول إبراهيم: { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا } [الممتحنة: 4].
وأهل البدع إن كانت بدعهم مكفرة فهي تدخل تحت هذا النوع من البراءة.
3- الجوارح: وبراءتها أن تكون بالجهاد وإزالة الكفر والكافرين وقتالهم. وهو مرتبط بالقدرة والمصلحة وأدلة ذلك كل آيات الجهاد. ومن براءة الجوارح تركها للكفر وأهله.
مسألة: بعد أن عرفنا أن بغض الكفار من التوحيد فما حكم موالاة الكفار؟
موالاتهم تنقسم إلى قسمين:
1- موالاة كبرى: وهذه حكمها كفر وتخرج من الدين، وهي أربعة أنواع:(1/35)
أ- محبتهم لدينهم، فإذا أحببت الكفار من أجل دينهم فهذا كفر، يدل عليه قول إبراهيم: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } [الزخرف: 26]، وفي الحديث «وكفر بما يعبد من دون الله»، وقوله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... } [المجادلة: 22].
ب- نصرتهم على المسلمين، فإذا نصرنا الكفار بالسلاح أو بالمال أو النفس وقاتلنا معهم المسلمين فهذه موالاة كبرى.
ج- متابعتهم وموافقتهم على كفرهم مثل أن نجعل برلمانات مثلهم وديمقراطية مثلهم.
د- التحالف معهم، لأن من معاني (ولي) أي حلف. كحلف ابن أبي سلول لبعض اليهود.
2- موالاة صغرى: وحكمها أنها كفر دون كفر أو كبيرة من كبائر الذنوب، فهي لا تخرج من الدين لكنها كفر أصغر أو كبيرة من كبائر الذنوب.
وهذا القسم شرطه بغض القلب لهم وعدم محبتهم، أما صوره:-
1- مثل اتخاذهم أصدقاء من غير محبة ولا مودة ومن غير تحالف ومناصرة وتولي وإنما صداقة فردية من أجل الدنيا ولا يدخل في ذلك صداقة الدول كما لو تصادقت
دولة إسلامية مع كافرة، فإن هذه ردة لأنها بمعنى التولي والحلف.
2- البشاشة لهم وطلاقة الوجه لهم من غير محبة ولا مودة ولا تحالف ولا نصرة.
3- التشبه بهم في أعيانهم لا في كفرياتهم.
4- مداهنتهم ومجاراتهم في غير المكفرات.
5- ومثل حضور أعيادهم الدنيوية لا الدينية فلها أمر آخر.
6- ومثل اطلاعهم على بعض أمور المؤمنين من غير محبة ولا مودة و لا عمالة ولا خيانة وهي غير ضارة بالمسلمين ومن غير مظاهرة ونصرة، ودليل ذلك قصة حاطب ابن أبي بلتعة.
7- ومثل إكرامهم، وتصديرهم المجالس وتقريبهم.
8- ومثل معاونتهم من غير مظاهرة وإنما معونة فردية يسيرة، والثناء عليهم.
9- ومثل اتخاذهم بطانة، واستشارتهم من غير تولي ولا مظاهرة.
10- ومثل اتخاذهم عمالة من غير ضرورة.(1/36)
11- ومثل السكن معهم، وتكثير سوادهم في غير التولي والمظاهرة والنصرة.
وذكر الشيخ سليمان ما يقارب من عشرين صورة في مجموعة التوحيد.
ويستثنى من هذه الصور ما كان بغرض الدعوة إذا كان بغض القلب موجودًا، ومن أمثلة الاستثناء جواز زيارتهم والإهداء لهم وما كان في معنى الزيارة والإهداء، أما الدليل على ذلك، فهو حديث المسيب في قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب حينما زاره للدعوة وكذا الغلام اليهودي.
حكم العمل عند الكفار؟
أما العمل المتضمن للكفر فهذا لا يجوز وهو كفر. أما العمل الدنيوي الذي ليس فيه كفر ولا مظاهرة وتولي لهم فيختلف ذلك بالنسبة إلى مكان الإقامة، فإن كان في بلدهم فيجوز العمل عندهم، كما في حديث علي أنه عمل عند يهودي؛ بشرط أن يبغضه بقلبه إلا العمل الدنيوي المتضمن لعزة الكافر فلا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً»، ولحديث: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه».
حكم السكن مع الكفار؟
السكن مع الكفار أقسام:
1- إن ساكنهم من أجل الدعوة والتأثير وهو آمن على دينه مظهرًا لدينه فيجوز له أو يستحب أو يجب، فهو دائر بين الأحكام الثلاثة.
2- إذا ساكنهم من أجل الدنيا، فهو محرم ولا يجوز، وهذا ينطبق عليه حديث أبي داود: «أنا بريء مِنْ مَنْ سكن بين ظهراني المشركين».
3- أن يساكنهم قهرًا فلا يستطيع الهجرة، فهذا يجوز مع الشرط المعروف وهو بغضهم في القلب لقوله تعالى { إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } [النساء: 98].
4- مسكانتهم لأنها بلده وهي كافرة، فهذا يجوز له البقاء إذا كان يأمن على نفسه ويستطيع التصريح بالدين.
ما حكم التجنس بجنسية الكفار؟
هذه ليس لها حكم مطلق؛ إلا أنها تنقسم إلى صور وكل صورة لها حكم:
1- إن أخذ الجنسية محبة لهم ولدينهم أو مظاهرة لهم وتولي، فهذا كفر أكبر.(1/37)
2- أن يكون مبغضًا لهم في قلبه، وأخذها ضرورة، فهذا أجازه بعض أهل العلم المعاصرين وهو مرجوح، هذا إذا كان تجنسًا، أما إذا كان البلد الكافر بلده فالحكم يختلف.
3- أن يأخذ الجنسية مختارًا لأجل الدنيا وهو يعلم معنى التجنس وأن له التزامات كفرية فهذا يكفر لأنه تولي ومظاهرة.
4- أن يأخذها مختارًا لأجل الدنيا لكن يجهل معنى التجنس ولم يلتزم بأحكامها فهذا يحرم ولا يكفر ويعذر بجهل الحال.
5- أن يأخذها من باب الإكراه فهذا يجوز. وهناك فرق بين الإكراه والضرورة.
وفي كل الأقسام إذا لم يصحب ذلك قسم بالولاء للدولة المجنسة. أما مع القسم مختارًا فهذا كفر أكبر.
وأما أخذ جنسية البلد المسلم، فهذا جائز من حيث الأصل.
مسألة: حكم الهجرة من بلاد الكفر؟
الهجرة من بلاد الكفر واجبة، فيجب أن يهاجر إذا كان لا يستطيع التصريح بالدين أو يخشى على نفسه.
إلى أي مكان يهاجر؟
1- ذكر بعض أهل العلم أن أفضل مكان يهاجر إليه هو مكة، فهي أفضل البقاع.
2- ومنهم من قال: أفضل الأماكن المدينة؛ لأنها مهجر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
3- أن أفضل مكان للهجرة هو الأنفع للشخص، وهذا هو الراجح.
مسألة: حكم لبس الصليب وهل هو من الموالاة؟
1- أما لبسه محبة له فهذا كفر أكبر؛ لأنه محبة لعبادة النصارى، ولم يكفر بما يعبد من دون الله.
2- وأما لبسه توليًا أو مظاهرة فهو كفر أكبر.
3- لبسه مجاملة فهذا كفر أكبر أيضًا لأنه يتضمن الرضا بالصليب والإقرار إذا كان يعرف أنه صليب والصليب من أعظم شعائر النصارى، أما لو لبس شيئًا هو صليب لكن جهل كونه صليبًا فهذا يعذر بجهل الحال.
مسألة: استخدام العمال والسائقين.
أما في جزيرة العرب فلا يجوز استقدام اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار بشتى أعمالهم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بإخراجهم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان».(1/38)
أما إن كان هناك ضرورة، كأن يكون العمل لا يقوم به أحد من المسلمين فهذا يجوز. أما خارج الجزيرة، فإقامتهم تجوز خصوصًا إذا كانوا من أهل البلد، لكن لا تجوز موالاتهم، وتبحث مسألة الجزية:
مسألة: حكم الإحسان إليهم والعدل معهم.
أما الإحسان إليهم فالكفار أقسام:
1- الذمي أو المعاهد أو المسالم.
فهؤلاء يجوز البر والإحسان إليهم؛ خصوصًا إذا كانوا جيرانًا أو أقارب أو فقراء
فإن عمر أهدى أخا له مشرك حلة.
وقال تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } [الممتحنة: 8].
والبر: هو أن تحسن إليهم.
2- أن يكونوا حربيين بيننا وبينهم حرب.
فهؤلاء لا يجوز الإحسان إليهم ولا البر لهم بل يحاربون.
وهل قبول الهدايا من غير الحربيين من الموالاة؟
لا. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية اليهودي.
مسألة: ما حكم الدخول في الأحزاب العلمانية أو الكفرية؟
هذا كله لا يجوز. فإن أعانهم على مسلمين فهذا تولي ومظاهرة، وهي ردة. وإن كان دخوله معهم دخول إقرار ورضى فهذه ردة.
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
وقول الله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [الزمر: 38] الآية.(1/39)
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذه)؟ قال: من الواهنة. فقال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبدًا» رواه أحمد بسند لا بأس به. وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرط). ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 106].
قال الشارح:
من: تبعيضية.
الشرك: يقصد به: إما الشرك الأكبر أو الأصغر على تفصيل يأتي إن شاء الله.
لرفع: اللام للتعليل، فعلة لبس الحلقة والخيط هي الرفع أو الدفع.
البلاء: يقصد به أشياء وهو:
اسم عام لكل ما يصيب الإنسان مما يكره، ويشمل العين، ويشمل المرض والحسد والفقر وأشباه ذلك.
وأراد المصنف أن يبين أن لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه من الشرك، وهو ينقسم إلى أقسام:
1- أن يلبس الحلقة ونحوها يعتقد أنها ترفع بذاتها وتدفع بذاتها، وهذا يعتبر شركًا أكبر. والسبب أنه أعتقد أن هناك خالقًا مع الله، والله عز وجل يقول: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3]. ومعناها لا خالق غير الله. وهذا الشرك في الربوبية.
2- أن يلبسها ويعتقد أنها سبب والله هو الرافع وهو الدافع، فهذا يعتبر من الشرك الأصغر.
وشرط هذا القسم أن يثبت أنها ليست بسبب لا من جهة الشرع ولا من جهة القدر.
شرعًا: كالعسل وماء زمزم، فإنه ثبت أنهما شفاء من جهة الشرع.
قدرًا: كأن يثبت علاجها من طريق التجربة.
ونحوهما: مثل أشياء كثيرة منها:-(1/40)
1- لبس الأسورة المغناطيسية، وهذه توضع على الركبة أو الساق، ويعتقدون أنها تدفع مرض الروماتزم، وهذه المسألة تكلم عنها الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأصدرت فيها اللجنة فتوى.
2- وضع جلد تمساح أو ذئب على البيت أو الدكان لدفع العين فإنه من هذا الباب.
3- وضع المصحف في البيت أو في السيارة لدفع البلاء أو العين.
4- تكرار آيات يعتقد فيها أنها تجلب الزبون.
5- وضع سكين عند الرأس عند النوم، ومثله الطفل إذا وُلِد حديثًا يضعون عنده حديدًا لمدة أسبوع لدفع الجن.
ومن أمثلة ذلك:
6- لبس خاتم معين لدفع الجن.
7- لبس ما يسمى بالكف، وهو شيء من النحاس يوضع على الكف لدفع الحسد.
8- تعليق حذوة الفرس ونعله، لدفع البلاء عن السيارة والمكروهات.
9- ما يسمى بالحظاظة -قطعة من الجلد توضع لجلب الحظ-، وذكر المحشي أيضًا بعض الحرزات، كحرز العصمة، وهو يعلق على الرقبة.
10- وضع جلد ذئب في البيت أو السيارة لطرد الجن أو العين.
11- وضع جلد صيد على الأطفال لمنع الحساسية.
12- وبعض الناس يعتقد أن الشبكة بين الزوجين تجلب لهم النفع والمحبة، وكذلك خاتم الزوجية.
ويدخل تحت هذه الأقسام كل خيط أو حديد يوضع على الإنسان لجلب النفع ودفع الضر.
وكل هذه الأقسام من الشرك، وهل هو أكبر أو أصغر؟
حسب ما يقوم بالقلب، وحسب التفصيل السابق.
13- ومنها ما يفعله بعض الناس في عقد اللحية وتشويهها لدفع العين.
وقوله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [الزمر: 38].
هذه الآية تدل على أنه لا يدفع ويكشف الضر إلا الله، فليس لبس هذه الحلق والخيوط يكشف من الضر شيئًا لا ذاتا ولا سببًا.
وعن عمران بن حصين هذا الحديث وقع خلاف في تصحيحه وتضعيفه، فصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان أيضًا، وحكم عليه المصنف وقال: لا بأس به.(1/41)
وذهب بعض الأئمة إلى أنه ضعيف، وهذا أقرب؛ لأن المضعف معه تفسير، فذكروا أن الحديث فيه رجل اسمه مبارك بن فضالة، وهذا الرجل حدث عن الحسن.
وجاء للحديث تابع عند الطبراني، قال: حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن. فالحديث ضعيف.
وله عن عقبة: الضمير يعود إلى أقرب مذكور.
المرفوع ينقسم إلى قسمين:
مرفوع حقيقة: وهو أن يصرح الصحابي بذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
مرفوع حكمًا: وهو أن يقول الصحابي أمرنا ونهينا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كقول جابر: «كنا نعزل والقرآن ينزل».
من: شرطية.
تعلق: أي بقلبه، ولا يلزم كونه متعلقًا، فلو كان تحت الوسادة أو في مكان آخر فهو داخل في هذا الحكم.
التميمة: كل ما يلبسه الإنسان يريد به إتمام الشفاء له.
فلا أتم الله له: هذا دعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن تعلق ودعة: الودعة شيء يُجلب من البحر كالخرزات يعلق على الصبيان أو
غيرهم لدفع العين، وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك». وهذا بيان أنه من الشرك. والحديث رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
يفيد الحديثان: أن من لبس تميمة أو ودعة لقصد رفع بلاء أو دفعه فإنه من الشرك، وهل هو أصغر أم أكبر؟ على حسب التفصيل السابق.
حديث حذيفة:
من: سببية.
أي: يلبسها بسبب مرض الحمى لترفعه أو تدفعه أو تخففه.
فقطعه: الفاء للتعقيب، وقطعه لأنه شرك، ففي هذا تغيير المنكر باليد إذا كان يستطيع ولا يترتب عليه مفسدة.
وتلا قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف: 106].
الإيمان في هذه الآية المقصود به الإيمان بالربوبية. وإن قال قائل: كيف جمع بين الإيمان والشرك؟ قلنا: وما يؤمن أكثرهم بالربوبية إلا وهم قد أشركوا بالألوهية.
باب ما جاء في الرقى والتمائم(1/42)
في (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» [رواه أحمد وأبو داود].
(التمائم): شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و(الرقى): هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العين والحمة.
و(التولة): شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا: «من تعلق شيئًا وكل إليه». [رواه أحمد والترمذي].
وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدًا بريء منه).
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) [رواه وكيع] وله عن إبراهيم(1) قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف الرقى:
جمع رقية، وهي شرعًا: آيات وأذكار وأدعية تقرأ على المريض مع النفث.
التمائم: جمع تميمة، وهي شرعًا: ما يعلق لرفع البلاء أو دفعه.
المسألة الثانية: حكم الرقى:
تنقسم باعتبار الحكم إلى قسمين.
1- رقى تجوز، وهي رقى شرعية، وهي ما كان من القرآن والأذكار والأدعية، فهذه جائزة، دليلها: حديث مسلم «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا».
__________
(1) فتح المجيد (ص133) هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي.(1/43)
2- رقى لا تجوز وتعتبر من الشرك، وهي الرقى التي ليست من القرآن أو الأدعية الشرعية، ويدل عليها عموم «إن الرقى والتمائم والتولة شرك»، ومفهوم حديث مسلم (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا).
المسألة الثالثة: شروط الرقية الشرعية:
1- أن تكون من القرآن أو الأذكار أو الأدعية الشرعية.
2- أن تكون باللسان العربي.
3- أن يعتقد أنها سبب والله هو المؤثر.
4- أن لا يعتمد عليها، وإنما يعتمد على الله { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23].
5- أن يكون الراقي ليس من أهل الشعوذة.
وهل يشترط سماع الآيات؟
لا يشترط. فإن كان الراقي من أهل الصلاح فهذه قرينة كافية، لكن إذا شك في الراقي فلا بد أن يطلب سماع الآيات.
المسألة الرابعة: هل الرقية أفضل؟
مر علينا أن هناك فرقًا بين الرقية والاسترقاء. والأفضل ترك طلب الرقية.
المسألة الخامسة: هل يجوز أخذ أجرة على الرقية؟
نعم يجوز، وجاء في حديث ابن عباس المتفق عليه. وجاء أيضًا في حديث «أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».
المسألة السادسة: أقسام الرقى باعتبار المحل:
قلنا: إن الرقى تنقسم إلى قسمين باعتبار الحكم، وتنقسم إلى قسمين أيضًا باعتبار مادتها وما تتكون منه:
1- رقية القراءة.
2- رقية الكتابة: كأن يكتب لك القرآن ثم تضعه في ماء ثم تشربه.
ورقية القراءة قسمان:
أ- قراءة على المريض مباشرة، وهذه لا إشكال في جوازها.
ب- قراءة في الإناء كالمائعات ثم يتناوله المريض، وهذه فيها خلاف:
1) لا تجوز، لأنها لم ترد.
2) أنها تجوز.
واستدل أهل الجواز بالآتي:
أ- بعموم قوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [الإسراء: 82] فالقرآن شفاء كما بينه الله.
ب- قوله تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [فصلت: 44].(1/44)
ج- حديث أم سلمة أنه كان عندها جلجل من فضة فيه شعرات للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكانت إذا جاء المريض تضع الشعرات في الماء للاستشفاء، فإذا كان أبعاض الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباركة يُستشفى بها، فكذلك القرآن.
د- حديث عائشة، فلقد نقلت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه قال: فكنت اقرأ عليه وأنفث في يده وأمسح بها جسمه» فكانت تقرأ في اليد ثم تمسح، فيقاس عليه القراءة في الماء.
هـ- وجاء عن عائشة في الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى أحد وضع إصبعه السبابة في الأرض ثم رفعها وقال: «بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا» الشاهد أنه كان يضع إصبعه على الأرض.
و- عند أبي داود في الطب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ في إناء وصبه على مريض.
ز- جمع البصاق ونفثه على المريض.
ونقول من هذه الأدلة اتضح أن الأقرب جوازه، وذكر ابن القيم عن ابن عباس جوازه في زاد المعاد.
وكذلك لا مانع من القراءة على المائعات غير الماء كالفكس أو الأوراق الصفر، فهذه ليست قرءانًا؛ بل هي زعفران قُرئ عليه قرآن.
بقي وسائل أخرى هل تجوز أو لا؟
مثل كتابة آيات على العصا ويضرب بها المصروع، فهذه لم ترد عن السلف، بخلاف القراءة على الماء فقد ذكرت عن ابن عباس.
كتابة القرآن في خرقة ثم يطل بمن المريض أن يحرقها ويتبخر بها، وهذا ليس فيها سلف (وفيها إهانة للقرآن).
وبعضهم يكتب على الجلد شيئًا من القرآن كآية الكرسي، وهذه ليس فيها سلف، وهل القراءة على الطعام هي مثل القراءة على المائعات؟
الله أعلم أنه ليس هناك فرق.
المسألة السابعة: القراءة على المريض ما هي طريقتها؟ أي: كيفية الرقية.
لها عدة كيفيات كلها جاءت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الكيفيات ليست من التنوع؛ بل يستخدم كل حالة بأقرب الأشياء لها:-(1/45)
1- أن تقرأ على المريض مباشرة وتنفث في وجهه أو صدره أو في أذنه، وهذه الطريقة المنتشرة.
2- ليس فيها نفث؛ بل فيها المسك على موضع الألم مع القراءة أو المسح، وهذه الكيفية تكون مع الرجال، أما النساء غير المحارم فلا؛ لحرمة مس المرأة.
3- أن يقرأ في اليدين ويمسح المري بيديه على جسده أو موضع الألم.
4- أخذ شيء من الريق ووضعه على الأرض، ثم يؤخذ الريق وما التصق به من التراب ويوضع على موضع الألم مع الدعاء والقراءة.
5- أن يقرأ في الماء ثم يشربه المريض أو يدهن به أو يغتسل فيه.
حديث أبي بشير الأنصاري:
هو في التمائم وليس في الرقى، ويدل على التحريم، وهي محرمة مطلقًا، وهي شرك إلا تمائم القرآن، فهي محل خلاف والراجح أنها محرمة.
الوسائل الشرعية لدفع العين:
1- أحسنها القراءة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى في وجه جارية سفع فقال: استرقوا لها فإن فيها نظرة.
2- الاغتسال من ماء العائن؛ كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عامر بن ربيعة.
3- التعوذ عليه، كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين [البخاري].
4- ترك الزينة، قال به بعض أهل العلم، وليس معنى ترك الزينة التشويه وسيأتي. ومثله تفريقهم حتى لا يدخلوا جميعًا كما أوصى يعقوب عليه السلام بنيه { وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } على قول.
حديث ابن مسعود:
الرقى: الألف واللام هي للاستغراق أو العهد؟
الألف واللام هنا للعهد؛ لأن هناك رقى شرعية ورقى غير شرعية.
التمائم: الأقرب أن التمائم للعموم حتى تمائم القرآن، هذا بالنسبة للتحريم.
التولة: بالإجماع شرك.
دل هذا الحديث على أن الرقى الشركية وكذلك التمائم والتولة شرك لا تجوز.
روى الحديث أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه والألباني كذلك.
حكم التمائم:
أما التمائم التي فيها تعوذ بغير الله فهذه شرك بلا إشكال، أما التمائم التي من القرآن كمن يعلق خيطا مقروء فيه، فقد وقع الخلاف فيها:(1/46)
1- الحنابلة يجيزونها، وذكروها في باب دخول الخلاء، فهم يجيزون مثل هذه الأحراز.
2- الذي عليه أئمة الدعوة أنها لا تجوز وهذا هو الراجح، واستدلوا:
أ- عموم حديث ابن عباس.
ب- سدًا للذريعة.
حديث عبد الله بن عكيم:
من: شرطية وهي عامة في تعلق القلب ولو علقه تقليدًا.
شيئًا: يشمل كل شيء من القراءة.
قول المصنف: (من العين) من: سببية.
(على الأولاد): هذا على الغالب.
لكن إن كان المعلق من القرآن فقد رخص فيه بعض السلف: يقال إنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وبعضهم لم يرخص فيها مثل ابن مسعود رضي الله عنه.
التولة: من باب العطف لا الصرف، وهو من أنواع السحر.
حديث رويفع: سنده صحيح.
لعل: حرف ترجي له اسم وخبر.
الناس: أي الذين يحضرونك.
من عقد لحيته: له ثلاث معان:
1) تكبرًا.……2) تشبهًا بالكفار.……3) اعتقادًا.
والذي يهمنا من عقد لحيته لدفع العين.
هل يجوز التشويه من أجل العين؟
لا يجوز؛ لحديث رويفع.
أو تقلد وترا: هذه هي التمائم، وهي لا تجوز.
أو استنجى برجيع دابة أو عظم: هذا كله لا يجوز.
فإن محمدًا بريء منه: هذا الحديث من أحاديث الوعيد، ومذهب السلف فيه إمرارها كما جاءت، ولا يتعرضون لها لا بتفسير ولا بتوضيح إلا وقت الحاجة، كخوفهم أن يُرى مذهب الخوارج فيكفر أصحاب المعاصي.
أثر سعيد بن جبير «من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة»:
كان: الكاف للتشبيه: كأنه أعتق رقبة بالنسبة للأجر لا للإجزاء.
رواه وكيع وله عن إبراهيم: «كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن».
كراهية السلف تدل على التحريم وهذا قول ابن القيم، والراجح حسب السياق.
إذا قرأ على إنسان فطرفت عينه بسرعة، أو تثاءب بكثرة، أو ارتعش جسمه أو بكى، أو لم يفتح عينيه، فهذا فيه مس من الجن.
أما إن كان يرتاح فالغالب أن فيه العين.
المسألة الثامنة: تعليق القرآن من باب الزينة وكونه منظرًا(1/47)
فهذا لا يجوز لأنه يخالف مقاصد القرآن. أما تعليقه للذكرى وليس هناك قرائن تدل على أنه للزينة فهذا جائز والقرائن التي تدل أنه للزينة كون الخط الذي كُتب فيه القرآن فيه جمال أو إبداع ونحوه.
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [النجم: 19].
عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال - صلى الله عليه وسلم -: «الله أكبر! إنها السنن، قلتم – والذي نفسي بيده – كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم». [رواه الترمذي وصححه].
قال الشارح:
المسألة الأولى في معنى التبرك:
البركة مأخوذة من البركة وهي مجمع الماء، ويمتاز بالكثرة والاستقرار، فهي لغة كثرة الشيء وثبوته.
وشرعا: طلب البركة بفعل أو اعتقاد.
وطلب البركة إما بأمر شرعي، أو بأمر شركي، أو بأمر بدعي:
1- أما التبرك الشركي فينقسم إلى قسمين.
2- تبرك عبادة، وهذا ينقسم أيضًا إلى قسمين.
1- عبادة اعتقادية.………2- عبادة عملية.
أما العبادة الاعتقادية، فهو أن يعتقد بهذا الشيء أنه يعطي البركة، وأنه بركة بذاته، ولو لم يصحب هذا الاعتقاد عمل.
أما العبادة العملية، فهو أن يذبح لها، أو يطلب البركة بالذبح لها، أو دعائها، أو الاعتكاف، أو الطواف ليطلب منها البركة، فهذا كله شرك أكبر.
والدليل قوله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18] فهو قد صرف شيئًا من العبادات لغير الله، وهذا التبرك يفعله من ابتلى بعبادة غير الله.(1/48)
ب- تبرك وسيلة وواسطة: وهي أنه يذبح لله عندها، أو أن يصلي لله لكن عندها، فهذا يعتبر تبرك وسيلة.
وضابطه: أن يعمل عندها عمل لله.
ومن تبرك الوسيلة: أن يتمسح بشيء، كمن يتمسح بأعمدة المسجد الحرام أو الكعبة تبركًا، فهذا يدخل تحت الشرك الأصغر.
2- التبرك البدعي: وذلك كتقبيل المصحف تبركًا لا تعظيمًا، أما التعظيم فقد أجازه بعض الفقهاء، وذُكر عن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه رواه عبد الله بن أحمد في المسند 1/ رقم الأثر 110.
اعتقاد بعض الناس أنه إذا تزوج ليلة الجمعة أو عقد فإنه أبرك، فهذا من البدع، وكذلك العقد في المساجد تبركا من البدع.
النوع الثالث: التبرك المشروع:
وهو أن هناك أسبابًا مشروعة لحصول الخير والبركة، وهذا عدة أنواع:
1- التبرك بالذات، كالتبرك بأبعاض الرسول، وهذا خاص في رسول الله (في حياته).
2- أقوال وأفعال إذا جاء بها العبد حصل له خير وبركة، كقراءة القرآن، والشهادة فهي سبب للمغفرة.
3- هناك بعض الأمكنة مباركة فيطلب الخير بالذهاب إليها، فهذا من التبرك في الأمكنة، كالصلاة في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، فهذه تضاعف فيها الحسنات.
4- أزمنة مباركة، فتحري هذه الأزمنة وعمل الخير فيها مشروع، كرمضان، وعشر ذي الحجة، وشهر الله المحرم، ويوم الجمعة.
5- أطعمة مباركة، مثل العسل، وزمزم فشربه رجاء الصحة والعافية والشفاء من أمراض معينة هذا جائز. ومثله الحبة السوداء.
وهل يجوز نقل زمزم؟
نعم يجوز نقله، وهناك اعتقاد عند العوام أنه إذا نقل ذهبت مادته، وهذا غير صحيح.
هذه بعض الأشياء الشرعية التي ثبت أن فيها بركة. هناك من الناس من يقصد الصلاة في مساجد فيها أناس مقبورون كمسجد زيد وغير ذلك، فهذه من باب التبركات الشركية، وسيأتي بيان هذه المسألة في باب من عبد الله عند قبر رجل صالح.
مسألة: تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - المكانية هل هي جائزة؟(1/49)
إذا كان ذلك من باب التبرك فهو غير جائز وهو من باب البدعة، وأما ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب "الجبلة" فقد كان ابن عمر يفعل ذلك من شدة المتابعة والاقتداء، وأنكر عليه الصحابة ذلك. وممن أنكر تتبع آثار الأنبياء عمر بن الخطاب، وهذا مثل من يذهب إلى غار حراء، أو غار ثور ويجلسون فيه.
وهل يدخل فيه زيارة الأماكن الأثرية؟
أما زيارة الأماكن الأثرية التي تعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة فالراجح أنها لا تجوز سدًا للذريعة، كالذهاب إلى أماكن الغزوات؛ إلا ما استثنى كأحد وقباء، فإن النبي كان يزوروه، وقد تكلم في هذه المسألة ابن باز رحمه الله في رسالة صغيرة موجودة في مجموع الفتاوى ردًا على محمد أحمد جمال.
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما:
كالبقعة والزاوية والمشاهد والمواطئ والآثار وغيرها، وكذلك التبرك بثياب الصالحين وأدواتهم وآثارهم وعرقهم. أما التبرك بآثارهم فيجب التشديد فيه؛ لأنه يؤدي إلى تعظيمهم وعبادتهم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه من الشرك الأصغر (أي التبرك بآثار الصالحين).
وذهب ابن حجر والشوكاني إلى جوازه، مستدلين بتبرك الصحابة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا قياس مع الفارق وهو قول ضعيف.
مسألة:
هذه من بركاتك يا فلان، أو فلان كله بركة، أو تباركت علينا يا فلان
فما حكم هذه الألفاظ؟
هذه الألفاظ على قسمين:
"هذه من بركاتك يا فلان أو بركات فلان" فهذه جائزة، ويدل عليه حديث أسيد بن
حضير في البخاري (ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر)، وحديث عائشة الذي رواه أبو داود: (ما رأيت امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية). فيجوز مثل هذا، ولأن الله أخبر أن بعض الناس مبارك، كالصالحين كما في حديث الجليس الصالح، (إما أن يحذيك أو تبتاع منه).
ولكن ينبغي أن لا يكون فيها مبالغة كـ (زارتنا البركة).(1/50)
أما كلمة (كله بركة) ففيها مبالغة، فالإنسان ليس كله مباركا. وأما كلمة (تباركت علينا يا فلان أو قوله تباركت) فلا يجوز، لأن تبارك من خصائص الله عز وجل أشار إلى ذلك ابن القيم في البدائع.
أيضًا إذا نزل المطر عند مجيء شخص لا يجوز أن يقول هذه من بركات فلان؛ لأن سبب نزول المطر هو الله وحده.
وقوله تعالى: أفرأيتم: المشهور من تفسيرها: أخبروني، وهو تفسير باللازم وليس تفسير بالمطابق، وهو تفسير صحيح.
اللات: صنم يعبد من دون الله، وهو حجر، وأصله رجل كان يلت السويق للحاج فمات فدفن، ومع طول الزمان عُبدت الحجارة التي عند قبره.
العزى: شجر يعبد من دون الله.
مناة: حجر يعبد من دون الله.
وكانوا يعتقدون أن هذه الآلة عندها بركة ذاتية، أو تعطي البركة أو تشفع في الحصول على البركة، فهم يتبركون عندها تبركاً شركيًا، فهذا دليل النوع الأول.
حديث أبي واقد الليثي:
حنين: غزوة حنين.
حدثاء عهد بكفر: كلمة قالها من باب الاعتذار. وهذا العهد هو الذي جعلهم لم يكفروا حينما طلبوا ما طلب بنو إسرائيل، وهذا أقرب الأقوال وعند المصنف في المسائل أن المانع أنهم لم يفعلوا.
فالمانع من تكفيرهم: حداثة عهدهم أو عدم الفعل أو كلاهما.
وللمشركين: اللام إما للملك أو الاختصاص.
الملك: الكتاب لزيد، والاختصاص: اللجام للفرس، وهي هنا من باب الاختصاص.
يعكفون: الاعتكاف: طول المكث، هدف اعتكافهم: رجاء البركة ورجاء الخير أي يتبركون بالاعتكاف، وهذا تبرك عبادة عملية.
ينوطون: يعلقون، وتعلق الأسلحة يختلف باختلاف النية.
وما هي البركة التي يرجونها من تعليق أسلحتهم عليها؟ هي بركة القوة، وذكر ابن إسحاق أنهم يأتونها كل سنة، فهو تبرك حولي.
اجعل: الجعل قسمان:
جعل شرعي: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ.... } [المائدة: 97] الآية.
جعل قدري { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف: 189] وفي هذا الحديث جعل شرعي.
كما: الكاف للتشبيه.(1/51)
الله أكبر: فيه التكبير عند التعجب والاستنكار.
والذي نفسي بيده: أقسم النبي أن قولهم مثل قول بني إسرائيل، ورواه أيضًا أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة، وهو كما قال الترمذي.
ومثل التبرك كمن يبدأ الخطبة أو الكلمة بـ (باسم الوطن، باسم الملك)، "أنا أكبر من الله، وأنجس من الكلب، وأطهر من الكعبة". هذا دارج على ألسنة الصغار، واللفظة الأخيرة فيها تبرك بالكعبة.
ينبغي ترك لفظة "واعزاه" أو "واعزيلي" وغيرها مما يشابهها من الألفاظ التي يقولها العوام قال تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [النجم: 19]. وقلنا ينبغي، وإلا لو كان لها معنى لغوي أو عرفي صحيح فلا مانع.
مسألة: من التبرك المذموم تجد الناس إذا نزل المطر واختلط بالأرض يدهنون به أجسادهم ووجوههم على وجه البركة. وهذا غير ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل المطر تعرض له وقال أنه حديث عهد بربه.
ومن الناس من يتعرض للماء النازل من ميزان الكعبة، أو الماء المغسول به الكعبة ونحوه يتبرك بذلك فهذا من البدع. ومثله التبرك بكساء الكعبة ولباسها.
باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ } [الأنعام: 162، 163] الآية، وقوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر: 2].
عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غير منار الأرض» [رواه مسلم].(1/52)
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب» قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: «مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئًا، فقالوا لأحدهما قرب قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا له: قرب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة» [رواه أحمد].
قال الشارح:
المصنف هنا لم يذكر الحكم في الترجمة، وليس ذلك لأن الأمر فيه خلاف فالحكم واضح.
أما الذبح لغير الله، فالذبح ينقسم إلى قسمين:
1- ذبح عادة.…………2- ذبح عبادة.
ذبح العادة كالذبح للأكل، فهذا عادة باعتبار الأصل؛ لأنه مباح، والمباح تجري فيه الأحكام الخمسة. فإن قصد فيه إكرام الضيف فهو مستحب، وإن قصد النفقة على العيال فهو واجب، وهذا لم يقصده المؤلف. وسمي ذبح عادة لأنه لم يقصد به التقرب ولا الثواب أو التعظيم.
والثاني: ذبح عبادة كذبحها للصدقة والإهداء، والجامع لذلك: أن يذبحها تقربًا لله. وهذا القسم -أي الذبح- صدقة مستحبة، وأما الهدي فهو واجب، والأضحية سنة على
قول الجمهور، وهذا كله تقربًا لله.
وأما الذبح تقربًا لغير الله فهذا من الشرك الأكبر. وهذا هو مقصود المؤلف.
تقربًا: إما أن ترجو منه نفعًا كجلب خير أو دفع ضرر، ومن صوره: كالذبح للجن تقربًا إليهم، أو تخلصًا من شرهم، أو لكي يساعدونه، فهذا من الشرك الأكبر.
ومثل ذلك: ما يفعله بعض الناس إذا أراد أن يقيم بيتًا يذبح عند عتبات البيت دفعًا لأضرار الجن وأذاهم، وكذلك من يحفر بئرًا، وكذلك الذبح للسلطان تقربًا إليه أو تعظيمًا عند طلعته.
أما الذبح ضيافة له فهذا جائز.
مثال ثالث: الذبح لأصحاب القبور والأضرحة، فهذا من الشرك الأكبر.
مثال رابع: الذبح في مولد النبي أو ولي من الأولياء تعظيمًا لصاحب المولد، فهذه كلها صور شركية.(1/53)
وهل ينقسم الذبح إلى شرك أكبر وإلى شرك أصغر؟
لا. الذبح ليس فيها شرك أصغر، لأن الذبح عبادة وتأله والعبادة تألهًا ليس فيها شرك أصغر.
وذكر بعض المشايخ أن الذبح لطلعة السلطان أنه من الشرك الأصغر، وقال أنه قد ذكره الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وهذا ليس بصحيح بل هو مما أهل به لغير الله كما قال صاحب تيسير الحميد ونقل الإجماع عليه من علماء بخارى.
القسم الثاني: أن يذبح ولا يذكر اسم الله عند الذبح، فيقول: باسم الشعب أو باسم المليك أو باسم المسيح، فهو لم يذكر اسم الله وذكر اسم غيره، وكذلك إذا ذكر اسم الله ومعه اسم غيره فهذا من الشرك الأكبر.
إذا ترك التسمية متعمدًا فالجمهور يرون أن ذبيحته حرام، وأما إذا تركها ناسيًا فالجمهور يرون الجواز.
الذبح: إزهاق الروح بقطع الودجين.
اللام: للتعليل.
{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي } [الأنعام: 162] الخطاب: للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى كل من يصح له الخطاب.
الصلاة: أي: الشرعية المعروفة.
نسكي: أي: ذبحي، كما جاء عن سعيد بن جبير ومجاهد { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196].
محياي: أي أعمال حياتي.
مماتي: ما أموت عليه من الإيمان.
وهذه الآية تدل على وجوب الإخلاص في الذبح، وأن يكون لله سبحانه وتعالى. وقوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر: 2] وهذه الآية تدل على أن النحر عبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهنا أمر بها فهو يحبها لأنها عبادة، فالنحر عبادة فإن صُرف لله فهو عبادة شرعية، وإن صُرف لغير الله فهو شرك أكبر.
وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: أي بأربع جمل.
الأولى: لعن الله من ذبح لغير الله.
اللعن: هو الطرد والإبعاد، ولعن الله: أي: طرد الله، فهو من الله طردّ وإبعاد، ومن الخلق دعاء.
من: موصولية.
واللام: للتعليل.(1/54)
لغير الله: أي: تقربًا وتعظيمًا، فهذا ملعون مطرود من رحمة الله.
واللعن ينقسم إلى قسمين:
1-لعن أكبر، كما في الذبح.
2- لعن أصغر، كالمثال الثاني، لعن الوالدين والأكبر: طرد من الرحمة. والأصغر: طرد عن كمال الرحمة.
لعن والديه: إما بالمباشرة، كأن يواجه والديه باللعن، أو بالتسبب، كأن يعلن والدي رجل آخر.
لعن الله من آوى محدثًا: آوى: ضم وحمى.
مُحدثًا: المقصود به حدث الدين، كالهارب من الحدود، فهو كل من توجه عليه حق له أو للخلق ثم وجد من يحميه فهو ملعون، وهذا من كبائر الذنوب.
لعن الله من غير منار الأرض: منار: هي العلامات التي تفصل ما بين الناس، فتغييرها من كبائر الذنوب.
وهذا الحديث يدل على أن الذابح لغير الله ملعون لعنًا أكبر مخرجًا عن الملة.
حديث طارق بن شهاب: رواه أحمد، وذهب بعض العلماء إلى تضعيفه؛ والإمام أحمد رواه في كتاب الزهد فهذا الانتقاد الأول.
طارق بن شهاب: قالوا إنه بالاتفاق لم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد اختلف في صحبته.
وقيل الحديث صحيح؛ لأنه قد رواه ابن أبي شيبة من غير طريق الأعمش، من طريق مخارق عن طارق بن شهاب.
ومخارق هذا أخرج له البخاري والترمذي وعده ابن حبان في الثقات.
أما طارق بن شهاب فقد أثبت ابن حجر أنه رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ثبتت صحبته لم تشكل علينا قضية السماع؛ لأن الصحابة عدول.
في: سببية بمعنى الباء.
صنم: ما عبد من دون الله على هيئة إنسان.
الوثن: ما عبد من دون الله على غير هيئة إنسان فالأشجار أوثان. وقضية الصنم والوثن مثل الإسلام والإيمان، فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
لا يجوزه أحد حتى: انتهاء الغاية.
يقرب: هذه أهم كلمة في الحديث.(1/55)
إذا قام في قلب الإنسان جواز التقريب فقد أشرك سواء فعل التقريب، أو لم يفعله، فإذا فعل على وجه التقريب فقد جمع كل السيئتين، والكفر يتفاوت كما قال تعالى { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [التوبة: 37].
فقرب ذبابًا: طواعية لا إكراهًا.
فدخل النار: أي فمات فدخل النار.
لماذا نقول إنه غير مكره؟ لأن الله أخبر أنه دخل النار والله ليس بظلام للعبيد، ولو كان مكرهًا لكان عذرا في عدم دخول النار.
مسألة: وقد يقال لماذا عوقب؟
فالجواب:
1- إما أن يقال إنه في شريعة من قبلنا لا يعذرون بالكفر بالإكراه.
2- أو يقال إن لديه طواعية، وعدم ممانعة، وإن كانت الصورة صورة إكراه.
دخوله النار هل هو عقبة أو خلود؟ ظاهره الخلود.
وأل في النار والجنة: للعهد.
مسألة: من أمثلة الذبح لغير الله أيضًا: مثل لو أمره الساحر أن يذبح ولا يسمي. مثلاً. أو يذبح للجن. أو كبشًا صفته كذا. ومثل ذبح الاسترضاء وهو ذبح القاتل لولي المقتول أمامه لكي يرضى. ومثل ذبح الصلح وهو أن يذبح أمامه لكي يصالحه. ومثل الذبح لدفع العين. أو ذبح لكي يسلم البيت الجديد.
مسألة: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رد على أخيه سليمان لما قال أن الذبح لغير الله شرك أصغر وبين أنه أكبر.
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } [التوبة: 108] الآية.
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟» قالوا: لا. قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم» قالوا: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» [رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما].
قال الشارح:(1/56)
أراد المصنف هنا أن أماكن المعصية أو أماكن الشرك لا يتعبد لله فيها، وأنه غير جائز. لا يذبح: لا ناهية، وقيل نافية.
بمكان: الباء ظرفية بمعنى في والدليل { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } [التوبة: 108] فلا: ناهية والدليل نزل في مسجد الضرار، وهو ليس خاصًا به، وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهنا تدخل في العموم المعنوي.
فالصلاة في الكنائس لا تجوز لهذه الآية، وورد حديث عن عمر: «لا تدخلوا على الكفار في معابدهم فإن السخطة تنزل عليهم» والمسألة خلافية.
الصلاة في مساجد الرافضة: لا تجوز من هذا الباب؛ لأن مساجدهم أماكن شرك.
إذا كانت بيوتًا معدة للزنا أو لشرب الخمر فلا يجوز التعبد لله فيها. وهل يدخل في ذلك البنوك الربوية؟ نعم؛ لأنها أماكن معصية فلا يتعبد لله فيها، والصلاة فيها صحيحة مع الإثم.
هل النوادي من هذا الباب؟
أما النوادي فمن رأى أنها أقيمت من أجل هذا الغرض فيجعلها من هذا الباب وهو الصحيح، ومن رأى أنها أقيمت على أساس مباح ولكنه طرأ عليه الشر وغلب عليها فهذه أخف باعتبار التعبد فيها لكن لا تجوز أيضًا لأن العبرة بالأعم الغالب. أما التلفزيون فالراجح أنه من مساجد الضرار ويحرم وأشد من ذلك ما يسمى بالفضائيات
فهي أشد من مساجد الضرار لذا الخروج فيها داخل في قوله تعالى { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } علمًا أن فيه مفسدة أخرى وهي إعطاء الشرعية لها بخروج الدعاة فيها مما يؤدي إلى مفاسد.
إذا ذبح لله في أماكن الشرك: فهو شرك أصغر، والذبيحة صحيحة.
وعن ثابت بن الضحاك:
نذر: النذر لغة: الإلزام، شرعًا: إلزام المكلف نفسه طاعة ليست واجبة، وستأتي أحكامه إن شاء الله.
ببوانة: الباء بمعنى في.
هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟
هذا السؤال الذي سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل حتى يتصور المسألة.
وثن: يشمل الصنم.
الجاهلية هل هي نسبة زمن أو نسبة حال؟(1/57)
ليس لها زمن معين، وإنما هي باعتبار الحال. هذه إنما هي جهل أو جهالة كقول النبي لأبي ذر: «أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية».
قالوا: لا: يمكن أن يكون قاله واحد والبقية وافقوا، والموافق ينسب له الفعل، كما قال تعالى: { فَعَقَرُوهَا } والعاقر واحد.
النحر للإبل: والذبح لغيرها، والنحر: أن تضرب في الوهدة وهي قائمة.
يعبد: يذل ويخضع له بالطاعة.
فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟
عيد: مأخوذ من العود وهو التكرار وقال أبو العباس «اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه المعتاد».
والعيد الشرعي: ما حوى عبادة وعادة.
عبادة: كالصلاة والنسك. عادة: التزين باللباس والزينة، وما يحصل فيه من اللعب المأذون فيه لمن ينتفع باللعب عادة كالجواري الصغار، ومثاله ما يحدث في عيد الفطر
وعيد الأضحى.
والأعياد تنقسم إلى قسمين:
1- أعياد مكانية.……2- أعياد زمانية.
والأعياد المكانية قسمان باعتبار:
أ- أعياد مكانية شرعية.
ب- أعياد مكانية بدعية.
والأعياد المكانية: هي ما يتكرر العود إليها، فالشرعية: كالحرم والمسجد النبوي ومنى وعرفات ومزدلفة.
وأما الأعياد المكانية البدعية: تكرير العود إلى المكان بقصد القربة والطاعة، كمن يذهب كل جمعة إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو تكرار الذهاب إلى غار حراء، وتكرار المجيء إلى قبور الأولياء بقصد الطاعة والقربة لا بقصد الزيارة الشرعية.
الأعياد الزمانية: فهو ما يعود على وجه الزمن مع التقرب إلى الله فيه، فيُهتم به ويعظم.
وهو قسمان:
1- شرعي.……2- بدعي.
1- أما الشرعي كالجمعة، وعيد الفطر، والأضحى، ورمضان، وعشر ذي الحجة، والأيام البيض.
2- أما البدعي: الاهتمام بيوم معين كصيام النصف من شعبان، وكالأعياد الوطنية، فهو من البدع، ولا يذهب الحكم تسميتها بيوم الوطن.
مسألة: وهل الأسابيع من الأعياد الزمانية؟(1/58)
أما أسابيع المساجد فنعم؛ لأنه تعمل فيه عبادات وطاعات، وكذلك يوم الأم فهو يقع فيه شيء من العبادة. أما الأسابيع الأخرى، كأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور، فهي ممنوعة من جهة التشبه.
بدعة المولد بدعة زمانية.
فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟
إما زماني أو مكاني، وهنا يقصد المكاني، أي: هل هذا المكان يتكرر المجيء إليه؟
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أوف بنذرك» ويفهم منه أنه لو كان فيها عيدٌ أو وثن لمنعه النبي من أن يتعبد في هذا المكان، وهذا الشاهد من الحديث.
رواه أبو داود وإسناده على شرطهما: ورواه الطبراني وصححه ابن حجر في تلخيص الحبير، وصححه الألباني.
ولا فيما لا يملك ابن آدم: كأن تنذر أن تُعتق عبد فلان.
باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [الدهر: 7]، وقوله: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة: 270].
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».
قال الشارح:
من: تبعيضية.
الشرك: يقصد به الأكبر.
النذر: مصدر، وهو ما يأتي ثالثًا في تصريف الفعل نذر ينذر نذرًا.
لغة: الإلزام، شرعًا: إلزام المكلف نفسه طاعة غير لازمة تعظيمًا للمنذور له. ما هي صورة النذر لغير الله؟ (واللام للقصد، ويقصد به نذر التقرب والتعظيم والتذلل).
أن يقول للولي الفلاني: له نذر علي، أو للقبر. أو قال: إن شفى الله مريضي فلفلان الولي أو قبر فلان كذا من الغنم أو العجل أو الزيت، فهذه صورة شركية؛ لأنه قصد بالنذر غير الله.
ومثله لو قال: إن نجح ابني فللولي الفلاني كذا من المال. فهذا من النذر لغير الله أيضًا. أو قال: إن وجدت ابني الضائع فللولي الفلاني كذا من المال.
نذر الشرك هل فيه كفارة، وهل كفارته كفارة يمين؟(1/59)
كفارة اليمين لا تكفره، وإنما كفارته التوبة إلى الله.
وقال تعالى: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [الإنسان: 7] هنا مدح الله تعالى من يوفي بالنذر.
وقال تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة: 270] الله هنا جازى الناذرين.
فدل على أن النذر عبادة؛ لأن الله يحب الوفاء به ويجازي بالنذر، فيدل على أن النذر عبادة، فالشرك فيه شرك أكبر.
يوفون بالنذر: أي بما وجب عليهم من أصل الشرع، أو بما أوجبوه على أنفسهم لأن الموفي يمدح.
هل ابتداء النذر ممدوح؟
النذر ابتداءً على أقسام:
نذر شرك: وهذا لا يمدح الإنسان عليه مقصودًا.
نذر طاعة: وينقسم إلى قسمين:
أ- نذر طاعة خالصة لله عز وجل غير معلق بشيء مثل «لله علي أن أصوم ثلاثة أيام، أو أن أحج، أو أعتكف، فهذا يجب الوفاء به وليس فيه كفارة يمين».
ب- نذر طاعة: أن تُعلق الطاعة بحصول مرغوب للإنسان، وهذا يسمى نذر المجازاة، ويسمى نذر المعاوضة، ويسمى نذر التعليق.
مثاله: أن تقول: إن نجحت فلله علي أن أصوم ثلاثة أيام. سمي مجازاة؛ لأنه كأنك تجازي بالنجاح بصيام هذه الثلاثة أيام.
أما الوفاء بنذر الطاعة بقسميه فواجب، ويمدح الإنسان بالوفاء به. وأما ابتداؤه ففيه خلاف، والمشهور أنه يكره ابتداؤه، واختار ابن تيمية أنه يحرم الابتداء به مستدلاً بحديث (إنما يستخرج به من البخيل)، وهذا ذم وهو يقتضي التحريم، وباعتبار الواقع: فكثير من الناس ينذر ولا يفي، ويعرض نفسه للعقوبة.
مسألة: لو نذر طاعة فيها كلفة ومشقة فما الحكم؟(1/60)
مثل لو قال: «لله علي أن أصوم يومًا وأترك يومًا، أو أصوم أربعة أشهر متوالية وهكذا». إذا كان نذر الطاعة فيه شيء من المشقة فالراجح أنه مع المشقة لا يلزم الوفاء، مستدلاً بعمومات الأدلة { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286].
وهل يكفر جبرًا للنقص؟ نعم.
قال تعالى { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة: 270] أي يجازي عليه، وليس هذا من التأويل، ونحن نثبت العلم لله، ولكن ذكره هنا مُرتبًا عليه الجزاء مع أن الآية من آيات الصفات ويثبت فيها العلم لله مع ذكر المجازاة على النذر.
قال في الصحيح: أي البخاري.
اصطلاح المصنف: إذا ذكر المصنف الحديث وقال في الصحيح فهو: في أحد الصحيحين إما البخاري أو مسلم.
من نذر: من شرطية، وجوابها: فليطعه.
وألفاظ الشرط من ألفاظ العموم: فيدخل فيه المسلم والكافر. والكافر مخاطب بفروع الشريعة، قال تعالى: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [المدثر: 42، 43]، وقال تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ... } فصلت: 6، 7].
ويدل عليه حديث عمر «إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أوف بنذرك»، لكن الكافر لا يصح منه لو أداه وقت كفره.
من نذر أن يطيع الله: هذا نذر الطاعة ويدخل فيه المعلق.
ما الحكم لو نذر طاعة مخالفة، كمن قال: لله علي أن أصوم الدهر؟ هذا نذر معصية وليست بطاعة.
ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه: هذا هو النوع الثالث: نذر المعصية، ويحرم فيه الوفاء، وفيه كفارة يمين.
القسم الرابع: نذر المباح، مثاله: لله علي أن ألبس هذا الثوب أو أن آكل هذا الطعام، فهذا فيه تخيير، فهو مخير بين الوفاء والكفارة.(1/61)
القسم الخامس: نذر اللجاج والغضب: وهو أن يقصد من النذر المنع أو الحث، مثاله: إن كنت صادقًا فلله علي كذا، أو إذا تركت هذا الأمر فلله علي كذا، وهذا حكمه كالمباح إما أن يفي به أو يُكفر.
القسم السادس: النذر المطلق أن يقول: (لله علي) ويسكت، أو (علي نذر) ويسكت، فهذا فيه كفارة يمين.
وكفارة اليمين إما:
1- عتق رقبة مسلمة سليمة من العيوب قادرة على العمل.
2- أو يطعم عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
3- أو يكسو عشرة مساكين، وكسوتهم: أن يعطيهم ما يُجزي في الصلاة، فالرجل ثوبٌ، والمرأة يغطيها خمار. فإذا لم يستطع أحد الثلاثة ينتقل إلى:
4- الصيام ثلاثة أيام متتابعات، وهذا على قراءة ابن مسعود، وهو مذهب الحنابلة. وهل يجزي أن يطعم مسكين عشر مرات؟ لا.
وهل كل مسكين يطعم ولو لم يبلغ؟ نعم.
وهل يُجزي أن يُغديهم أو يعشيهم؟ عند الحنابلة لا يجزئ إلا إذا ناولهم بيده – أي لا بد من التمليك -، ويرى ابن تيمية أنه جائز.
ومن القضايا المعاصرة في النذر لغير الله ما يُسمى بصندوق النذور الموجود عند القبور المعظمة، فإذا نذر نذرًا لصاحب القبر جعله في ذلك الصندوق وهذا من الشرك الأكبر.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب رد على أخيه سليمان في مفيد المستفيد لما قال إن النذر شرك أصغر بل بين أنه أكبر.
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [الجن: 6].
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك» [رواه مسلم].
قال الشارح:
من: للتبعيض.
الاستعاذة: لغة: الالتجاء والاعتصام مأخوذة من العوذ، فتكون هي: طلب الالتجاء والاعتصام، لوجود السين التي تفيد الاستدعاء، شرعًا: الالتجاء والاعتصام بالله سبحانه وتعالى.(1/62)
تنقسم الاستعاذة إلى أقسام:
القسم الأول: الاستعاذة والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا حكمه: شرك أكبر.
مثاله: الاستعاذة والاستغاثة بالأموات، أو بالرسول لقضاء الحجة وكشف الغمة، أو الاستغاثة بالغائب لكشف البلاء أو دفعه، وما أشبه ذلك. وله صورتان:
1- مثلاً يا رسول الله أغثني.
2- يا رسول الله أو يا فلان (المقبور) ادع الله لي أن يغيثني.
القسم الثاني: الاستعاذة والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه مع الاعتماد على المخلوق، وهذا يعتبر شركًا أصغر، وهنا سبب كونه شرك هل لكونه استعاذ أو استغاث أو لأنه اعتمد؟
الثاني: لأنه اعتمد، ولذا فجعل هذا القسم في باب التوكل أنسب، وهذه هي الصورة الأولى.
الصورة الثانية: أن يستعيذ بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق بصيغة: أستعيذ بالله
وبك، أو أستغيث بالله وبك، فهذا يعتبر شركًا أصغر، والسبب الصيغة.
القسم الثالث: الاستعاذة والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه مع الاعتماد على الله بصيغة جائزة، وهذا حكمه جائز، وهو ما يسمى بالاستجارة.
مسألة: ما حكم الاستعاذة بميت؟
وهذه يمكن إدخالها في القسم الأول.
سؤال الميت قسمان:
1- أن يستعاذ بالميت فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا من القسم الأول، فهو شرك أكبر بالإجماع.
2- أن يُستعاذ بالميت في أشياء يقدر عليها غيره، ولكن الميت هنا لا يقدر عليه، فهو شرك أكبر.
مثل لو قال: يا فلان -يريد الميت- أنقذني من اللص -أو يا فلان- يريد الميت -ادع الله أن ينقذني من اللص.
أما سؤال الميت سؤال المخاطب كأن تقول: "ماذا تتمنون؟"، أو "ماذا فعل بكم؟": هذه جاءت عن بعض السلف أنهم كانوا يفعلون ذلك من باب العبرة لا من باب الاستخبار، فهذه أمور جاءت بعض الآثار عليها، فهي باعتبار الأصل جائزة، لكن هل تُشرع أو ينبغي أن يفعلها الإنسان؟
الأقرب أنه لا ينبغي وأن يقتصر على ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - من السلام عليهم والدعاء لهم.(1/63)
ما حكم الاستعاذة بالعاجز الحي فيما يقدره الإنسان؟ هذا يعتبر من السفه ونقص العقل.
ما حكم الاستعاذة بالغائب؟
أما الاستعاذة به فيما يقدر عليه هذا جائز إذا كان يسمع كما في الهاتف، أما إذا كان غائبًا عنك في مكان ولا يسمع، فهذا من جنس الاستعاذة بالأموات فيما يقدره الأحياء. وهو من الشرك الأكبر.
والغائب إما أن يكون غائبًا زمانًا أو مكانًا.
الزماني: هو الذي قد مات. المكاني: هو من كان في مكان آخر.
ما حكم قول القائل "وامعتصماه" أو "يا رسول الله لو كنت حاضرًا ورأيت..." أو "أين أنت يا صلاح الدين"؟
هذه الألفاظ لا يقصد بها النداء الحقيقي.
فإن قصد بها النداء الحقيقي واعتقد أنه يسمعه وينفعه، فهذا لا شك أنه من الشرك الأكبر. أما إذا كان لا يقصد بها النداء وقصد بها استثارة الهمم، فلا ينبغي استعمال هذه الألفاظ الموهمة التي يمنع منها سدًا للذريعة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } [البقرة: 104]. وللشيخ عبد الله (أبابطين) كلام حولها لو قيلت من باب الشعار في الحرب بالجواز راجح تأسيس التقديس تأليف أبابطين ص152.
حكم الاستعاذة والاستغاثة بالكفار؟
هذه المسألة بحثها الفقهاء تحت باب الاستعانة بالكفار، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع فلن نستعين بمشرك» لذا فلا يجوز الاستعانة بهم.
الاستعاذة: تكون قبل وقوع الشيء أو الشر، فقبل وقوع المخوف تستعيذ، فهي هرب من شيء تخافه لم يقع.
أما الاستغاثة: فهي طلب رفع شيء مضى أو وقع، فنداء الغريق والحريق استغاثة. إذا خاف الإنسان من شيء مخوف هل يستحب أن يستعيذ أو يسن تركه؟ هذه المسألة متعلقة بتحقيق التوحيد، أما الجواز فجائزة.
وقوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [الجن: 6]. هذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن من أعمال الجاهلية.(1/64)
ما حكم الاستعاذة والاستغاثة بالجن؟ لا يجوز، وعلاقته بالتوحيد أنه يعتبر شركًا أكبر؛ حتى ولو كانوا يقدرون على هذا الشيء كما في هذه الآية.
مسألة: يقول بعض العوام للأطفال: "خذوه" للجن. وهذه لا تجوز.
1- لأن فيها ترويع للمسلم.……2- أن فيها مشابهة لأعمال الجاهلية.
ويقول بعض العوام إذا ضاع له شيء: «يا إبليس فك الكيس ما هو حقي حق الناس».
فهذه مثل الكلمة الأولى، ويخشى أن يكون فيها اعتقاد.
ما حكم مخاطبة الجن؟
المخاطبة قسمان:
1- أن تكون مخاطبة عن حضور معلوم بأحدى القرائن، كمخاطبة المصروع، ومثل ما جاء في الحديث الصحيح أن أبا هريرة حاور الشيطان، فهذا جائز.
2- أما إذا لم يكن عن حضور ولا قرائن، فلا شك أنه يحرم، كقولهم «أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه» وهذا من جنس فعل المشركين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» وهو من الشرك الأكبر.
خولة بنت حكيم: سيأتي حكم التسمية "بحكيم".
فقال: الفاء للتعقيب، أي يكون محل الذكر بعد النزول، وإن نزل ونسيه يقضيه ما دام نازلا.
وقال: يقصد به قول القلب واللسان.
أعوذ: ألتجئ.
هنا استعاذ بصفة من صفات الله وهي الكلمات، والاستعاذة بالصفة كالسؤال بالصفة، وهذا جائز، والممنوع سؤال الصفة.
كلمات الله: من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، والجهمية والمعتزلة والأشاعرة يجعلونه من باب إضافة الخلق إلى الخالق.
من شر ما خلق: ولم يقل مما خلق. والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر؛ لأن هناك مخلوقات لا شر فيها.
لم يضره: نفى الضر، ولكنه لم ينف الإصابة، فقد يصيبه شيء ولكنه لا يضره، إلا إن تخلف شيء بسبب الاعتقاد.
حتى: لانتهاء الغاية.(1/65)
مسألة: بعض الصغار عند الخوف أو إذا فاجأه شيء قال (يا أمه) وبلغة العوام (يمّه). وهنا لا يريد الاستغاثة إنما هي تعبير عن الخوف فقط ولحديث: «إنما الأعمال بالنيات». وهي مثل كلمة لا أم لك ليست دعاء إنما هي كلمة تذمرّ ومثل تربت يداك ليست على حقيقتها وهكذا وهذه مثلها.
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقوله تعالى: { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } [يونس: 106، 107]. الآيتان. وقوله: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } [العنكبوت: 17] الآية. وقوله: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأحقاف: 5] الآية. وقوله: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل: 62].
وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل».
قال الشارح:
أقسامه مثل أقسام الاستعاذة تماما وقد سبقت فراجعها.
يستغيث: طلب الغوث، وهو طلب إزالة الشيء.
أو يدعو: من عطف العام على الخاص.
هناك من عباد القبور من يستدل ببعض الأدلة:
«يا عباد الله أعينوني»، «يا عباد الله أجيبوا».
والأول: حديث منقطع، رواه الطبراني.
والثاني: قال ابن عدي: إنه حديث منكر.
هناك حديث آخر مرفوع «إن لله خلقًا خلقهم لحوائج الناس...».
قال ابن عدي: حديث ضعيف جدًا، بل إن فيه رجلاً متهمًا بالوضع.
ولا تدع: يشمل الاستغاثة والاستعاذة.
لا ينفعك ولا يضرك: بذاته ولا بالشفاعة.(1/66)
الظالمين: أل للعموم. الظلم يقصد به الأكبر؛ لأنه شرك.
وقال تعالى: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [العنكبوت: 17].
الشاهد منه: { اعْبُدُوهُ } .
وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ } [الأحقاف: 5].
ومن أضل: أي لا أحد.
يدعو: سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة.
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ... } [النمل: 62].
أمن يجيب: أي لا أحد.
وروى الطبراني: وهذا الحديث فيه ابن لهيعة، وهو رجل ضاعت كتبه واختلط.
فالحديث ضعيف، ورواه أحمد، ولكن فيه نفس الرجل.
باب قول الله تعالى
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191].
وقوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13] الآية.(1/67)
وفي الصحيح عن أنس قال: شج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم»؟ فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [آل عمران: 128]، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: «اللهم العن فلانًا وفلانًا» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمد، ربنا ولك الحمد» فأنزل الله تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [آل عمران: 128] الآية، وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام، فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] قال: «يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من المال ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا».
قال الشارح:
هذا الباب عقده المصنف ليذكر أدلة وبراهين عقلية تدل على بطلان الشرك وعبادة غير الله وخصوصًا عبادة الرسول بالذات؛ لأن هناك من يستغيث بالرسول ويدعوه، فبين المصنف أن الرسول لا ينفع ولا يغني عن أحد شيئًا، فإذا كان كذلك فكيف يعبد؟
الكلام: باعتبار الأصل فهو صفة ذات، وأما باعتبار الآحاد فهو صفة فعل متعلق بالمشيئة.
وأما المعطلة من الجهمية والمعتزلة: فهم ينفون الكلام والقول عن الله سبحانه وتعالى، وأن الكلام مخلوق، وأما الأشاعرة: فيثبتون ما يسمى بالكلام النفسي.
الله: هو المألوه المعبود.
تعالى: صفة فعل، علو ذات وقدر وقهر.
الآية الأولى:(1/68)
الآية دلت على بطلان عبادة غير الله، لأن الله ذكر صفات من يعبدونه من دون الله، فذكر صفتين كلتيهما تدلان على بطلان عبادته.
1- أنه مخلوق والمخلوق لا يكون شريكًا، وهذا عقلاً.
2- لا يستطيعون لهم نصرًا؛ بل ولا ينصر نفسه. ومن كان عاجزًا عن النصر فكيف يُعبد؟
أيشركون: الاستفهام إنكاري، كيف تجعلون لله شريكًا عاجزًا؟
الآية الثانية:
في الآية دليل عقلي على بطلان عبادة غير الله، فذكر حال المدعو أنه لا يملك حتى أقل الأشياء، حتى القطمير، وهو: قشرة نواة التمرة لا يملكونها ملك استقلال، ولا يمكنهم التصرف فيها، والذي لا يملك لا يُعبد.
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ } هل هو دعاء مسألة أو دعاء عبادة؟ كلاهما دعاء العبادة والمسألة، كسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله.
فيشمل "سؤالهم مطلقًا وهم أموات".
الحديث: متفق عليه عن أنس.
الشجة: هي الجرح يكون في الرأس والوجه، والشج: هو الشق، وهو هنا في الوجه.
يوم أحد: سمي اليوم بالمكان، وهذه التسمية جائزة أن تسمى بعض الوقائع بأحداثها كالأحزاب، وأماكنها كبدر وأحد، فهذا جائز إذا لم يكن في الاسم سب أو تنقص، كاليوم الأسود، ويوم النكسة، وهذا من باب سب الأيام وسيأتي إن شاء الله.
يوم أحد: هل يجوز تعظيمه؟
لا. لا يعظم ولا يحزن عليه لوقوع المصيبة.
كسرت رباعتيه: هي ما بعد الثنية.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقعت له حوادث خاصة كتساقط بعض الأسنان وشج الوجه.
فقال: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم» حيث فعلوا أشياء لم يفعلها غالب الكفار.
فنزلت: الفاء سببية.
وقوله: نزلت: فيه إثبات العلو لله عز وجل.
ليس لك: اللام في "لك" تفيد الاختصاص والتصرف.
من الأمر: أي أمر الله، وهو أمر التصرف والحكم، فأل للعهد، أي أمر الربوبية، فنفت الأمر المطلق، وهذا موضوع الشاهد من الحديث للباب. فإذا كان أمر الربوبية والتصرف ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يُعبد ويذبح له وغير ذلك؟
الحديث الثاني:(1/69)
سمع: يدل أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر بالقنوت، وهذا الحكم حتى في الصلاة السرية.
إذا رفع رأسه من الركوع: هذا موضع القنوت.
والقنوت يكون بعد الرفع من الركوع بعدما يرفع رأسه، ويرفع ظهره: بدلالة اللزوم.
وهل يجوز القنوت قبل الركوع؟ نعم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت قبل الركوع. وأيهما أفضل؟ يجوز هذا ويجوز هذا، والأغلب أن يكون بعد الركوع، ويكون في الركعة الأخيرة.
وهذا فيه استحباب القنوت عند النوازل.
ومن الذي يقنت؟
1- القنوت يكون للإمام، ذكره الحنابلة.
2- كل إمام جماعة، وهو الراجح { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].
3- كل مصل له أن يقنت، وهو قول ابن تيمية.
مسألة: وفيه قضية معاصرة وهي أنه درج بعض المعاصرين على منع القنوت إلا بإذن الإمام هذا قول مرجوح مسيس يخدم الحكام وهو خلاف عمل الصحابة فقد جاء عن خمسة من الصحابة أنهم قنتوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم ليسوا أئمة ولا نوابا للإمام كأمثال أبي هريرة والبراء ومعاوية في الشام.
اللعن: الطرد والإبعاد من رحمة الله، ومن المخلوق الدعاء.
حكم الدعاء على الكافر؟
أما على وجه العموم فهذا لا خلاف فيه { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود: 18]. أما لعن الكافر المعين، المصنف وغيره قالوا: يجوز لعن الكافر وهو الراجح فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على رعل وذكوان ولعنهم شهرا وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن أبا جهل وعقبة والوليد ونفرا من أئمة قريش.
حكم الدعاء لهم؟
ذكر أهل العلم أن الدعاء للكافر على قسمين:
1- الدعاء له بالهداية، وهذا جائز «اللهم اهد دوسًا» في غير المحارب وإنما فيمن دلت القرائن على قبوله ورغبته في الإسلام.
وجاء في السير «اللهم اهد أحب العمرين إليك».(1/70)
2- الدعاء له بالرحمة والمغفرة والجنة، لا يجوز { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [التوبة: 113] وجاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن الله أن يدعو لأمه فأبى.
لذا من الخطأ ما يقع في الجرائد من قول "المرحوم" إذا مات نصراني.
دعاؤه: هل الكافر له أن يدعو الله؟
قال تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتق دعوة المظلوم».
وفي الحديث جواز ذكر المدعو لهم أو عليهم بأسمائهم في الصلاة، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس». فهذا إذا كان على وجه المخاطبة.
مسألة: ما حكم لعن المعين؟
لعن المعين جائز بشرطين، وكذلك تبديع المعين وتفسيقه وتنفيقه:
1- وجود الأسباب: أن يقوم فيه الكفر أو الفسق أو البدعة أو النفاق.
2- انتفاء المانع: كالجهل والإكراه ونحو ذلك.
هل يجوز التبديع والتفسيق باعتبار الهوى؟
لا يجوز، وإنما المعتبر ما كان من جانب الشرع.
التأويل هل هو مانع أو غير مانع؟
إذا كان التأويل له حظ من النظر ومعتبر عند أهل السنة والجماعة في غير الشرك الأكبر والمسائل الظاهرة فهذا مانع، فتأويل الأشاعرة مانع من التكفير، لكنه غير مانع من التبديع والتفسيق، أما الجهمية فهم كفار بإجماع السلف.
ربنا ولك الحمد: لها أربع صور:
1- ربنا لك الحمد.………2- ربنا ولك الحمد.
3- اللهم ربنا ولك الحمد.……4- اللهم ربنا لك الحمد.
فأنزل: الفاء سببية.
صفوان: هؤلاء؛ لأنهم رؤساء الكفار يوم أحد.
هل استجاب الله دعاءه؟
هؤلاء الثلاثة تاب الله عليهم فأسلموا.(1/71)
سب الكفار الأموات: جاء حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» "أل" في الأموات الأقرب أنها للعهد، ويقصد بها أموات المسلمين وذلك قوله تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [المائدة: 78] وقوله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] وكذلك لعن الله فرعون.
فسب الأموات غير جائز إذا كانوا مسلمين، ومع الكفر يجوز.
وأما بالنسبة للمسلمين فيجوز عند الحاجة، كبيان حاله وجرحه وغير ذلك ويستثنى في سب الأموات فيما لو سب الكافر الميت يقصد بهذا السب قريبه المسلم الحي فهذا لا يجوز لأنه توصل بسبب الكافر الميت من أجل أذية قريبه المسلم الحي فإن سبب الحديث «لا تسبوا الأموات» أن بعضهم كان يسب أبا جهل إذا رأى ابنه عكرمة لكي يؤذي عكرمة فمنع من أجل ذلك، أما لو سب الكافر الميت لمقاصد حسنة فلا مانع فقد دل على ذلك أدلة أخرى.
حين: ظرف زمان.
قام: قيام خاص، يقصد به الدعوة والإنذار.
حين أنزل عليه: أصبح قيامه تطبيقًا لقوله تعالى { أُنْذِرَ } .
يا معشر قريش: هذه كلمة جامعة، وعند البخاري يا بني عبد مناف، والظاهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمّ وخصّ.
لا: نافية شيئًا: نكرة، فنفى رسول الله الغناء عن أحد شيئًا، فإذا كان كذلك لماذا يذبح له، أو يستغاث به، أو يستعاذ به؟ وهذا محل الشاهد.
داود بن جرجيس(1) المبتدع قال:إن في الحديث محذوفًا وهو إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله وقد رد عليه (أبا بطين) رحمه الله.
سليني من مالي ما شئت: هذا هو الذي قدر عليه - صلى الله عليه وسلم -، أما دفع عذاب الله ورفعه عنها فهذا لا يستطيع عليه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) ومن الردود على هذا المبتدع ابن جرجيس: يقال وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: لا أغني عنك من الله شيئًا مع أنها تقول لا إله إلا الله، فانتقض تقديره بالحذف.(1/72)
مالي: أي الذي أملكه.
باب قول الله تعالى
{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } [سبأ: 23].
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله: كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع – ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – وصفه سفيان بكفه فحرقها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء».
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة – أو قال رعدة – شديدة خوفًا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدًا. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل».
قال الشارح:
هذا الباب مثل الباب الذي قبله يبين بطلان الشرك بالله وعبادة غير الله. وهو معقود في عبادة الملائكة خاصة، وهؤلاء الملائكة يخافون ويفزعون، فالذي يخاف ويفزع لا يصلح أن يكون معبودًا.
ويدل أيضًا على بطلان عبادة الصالحين، إذا كان هذا حال الملائكة فحال غيرهم من باب أولى.
والباب الذي بعده قريب من نفس الفكرة.
الآية:(1/73)
فزع: أزيل وفرغت قلوبهم من الفزع.
عن: حرف جر يدل على المجاوزة، حتى إذا جاوز الفزع قلوبهم.
من هم الذين فزع عن قلوبهم؟ المسألة خلافية بين علماء التفسير.
اختار ابن جرير وابن كثير على أن الضمير يعود على الملائكة، وذكر بعضهم أن الضمير يعود على المشركين، وهذا اختاره السعدي في تفسيره، ومال إليه بعض المفسرين، وروي عن بعض السلف، وذلك بدلالة السياق والراجح الأول.
قال تعالى في أول الآيات: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } [سبأ: 22] أي: أيها المشركون، فقول ابن جرير وابن كثير أقرب؛ لأنه يسنده حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو اختيار المصنف.
ما هو سبب فزع الملائكة؟ يأتي في الحديث.
قلوبهم: يدل على أن الملائكة لهم قلوب، وذكر الله أن لهم أجنحة، وأن الملائكة تفزع.
قالوا: قال بعضهم لبعض.
ماذا قال ربكم؟ استفهام.
الحق: مفعول به لفعل محذوف، قال: القول الحق.
وهل سمعوا ما قال الله أم هي كلمة إجمالية؟
الظاهر الثاني مع أنهم سمعوا كلام الله لكن يفزعون ويصعقون.
العلي: في ذاته، وهو عليٌ ذاتًا وقدرًا وقهرًا.
الكبير: اسم، والله هو الكبير الذي لا أكبر منه.
في الصحيح: الحديث في البخاري.
قضى: هنا المراد به القضاء الكوني؛ لأن سياق الحديث يدل على أنه قبل البعثة، فيكون قضاءً قدريًا كونيًا.
الأمر: القدري.
والأمر المقضي هنا قال القرطبي: مثل قضاء الله أن هذا العام يكون فيه كذا وكذا في السماء.
ضربت الملائكة بأجنحتها: إثبات الجناح للملائكة. وأل في الملائكة للعموم. خَضعانًا: ويجوز خُضعانًا: وهو مفعول لأجله، وقيل إنه حال: حالة كونهم خاضعين.
كأنه سلسلة: يحتمل في ضمير كأنه أمور هي:
1- صوت الرب: فتكون الكاف للتشبيه تعالى الله عن ذلك.
2- ضرب الملائكة: فيكون صوت ضرب الملائكة أجنحتها مثل صوت السلسلة.
3- الفزع الذي يحصل في قلوب الملائكة مثل الفزع الذي يحصل حين جر السلسلة على حصاة ملساء.(1/74)
4- كأن السماع، فيكون تشبيه السماع بالسماع.
أما الاحتمال الأول فهو مشكل ولا يجوز؛ لأن الله عز وجل يقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فصوت الله لا يُشبّه.
وأما الاحتمال الثاني والثالث فكلاهما محتمل، وعادة الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، وأما الاحتمال الرابع فقد اختاره بعض أهل العلم وهو تشبيه السماع بالسماع، لحديث أبي داود.
«إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة» وهذا الاختيار مثل مسألة تشبيه الرؤية بالرؤية في حديث «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر...» الحديث وهو الراجح.
صفوان: حجر أملس.
ينفذهم ذلك: يمضي في الملائكة هذا الصوت حتى يبلغ فيهم كل مبلغ. الحديث يبين لنا سبب بالفزع: وهو سماع الملائكة كلام الله.
وظاهره: أن الفزع يشمل جميع أهل السماوات.
فيسمعها: يعود على الأمر المقضي.
ومصدر سماعه: من الملائكة، أيُّ الملائكة؟ ملائكة العنان، وهو السحاب كما جاء
في البخاري.
زمن السمع للجن: الله أعلم أنه قبل البعثة.
لأن مسترقي السمع كانوا كثيرًا قبل النبوة، أما لما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكونوا يسمعون. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عما كان قبل البعثة.
والسماع على أحوال ثلاث:
1- كثير قبل البعثة.
2- لا يوجد استماع أثناء البعثة.
3- قليل بعد البعثة.
ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض: هل هو مُدْرَج أم لا؟
الأصل أنه غير مدرج إلا إن ثبت ذلك.
بعضه على بعض: أي متراكبين.
بددّ: فرّق.
فيسمع الكلمة: أل للعهد الذكري: أي الكلمة المذكورة.
فيلقيها إلى من تحته: الظاهر أنها بدون نقص أو زيادة.
على لسان الساحر: هذا يدل على سرعة استجابة الساحر حتى تخرج من لسانه.
أو: للتنويع.
فربما أدركه الشهاب: الشهاب هو جزء من النجم؛ لأن النجم لو نزل على الأرض أحرقها.
الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع.
مائة كذبة: بفتح الكاف، وهذا للمبالغة.(1/75)
قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!
تصديق الساحر: من الكفر وسيأتي إن شاء الله.
الشاهد من الحديث: أن الملائكة تخضع وتفزع فكيف تعبد ويستغاث بها وهي كذلك؟ وإذا كانت الملائكة كذلك فالصالحون من باب أولى.
حديث النواس بن سمعان: رواه ابن جرير من طريق الوليد بن مسلم، وهو يروي
عن نعيم بن حماد، وقد اختلفوا فيه، وأهل التحقيق على أنه ضعيف، وقد ضعف الألباني الحديث في تخريج السنة.
باب الشفاعة
وقول الله تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [الأنعام: 51]. وقوله: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر: 44] وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255] وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم: 26] وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } [سبأ: 22] الآيتين.
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفي أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفع.(1/76)
وقال أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
قال الشارح:
المسألة الأولى: في تعريف الشفاعة:
الشفاعة: مصدر شفع يشفع شفاعة مأخوذة من الشفع: وهو ضم الواحد إلى الواحد، وهو ضد الوتر.
وأما التعريف الاصطلاحي: طلب الخير للغير، فإذا طلبت له خيرًا أو أن يُدفع عنه
شر فهذه هي الشفاعة.
المسألة الثانية:
هذا الباب يعتبر من الأبواب المهمة في كتاب التوحيد؛ لأن التعلق في مفهوم الشفاعة كان من أسباب وقوع الشرك، خصوصًا بين من يقول لا إله إلا الله، وقولنا بمفهوم الشفاعة: أي المفهوم الخاطئ.
والمصنف عانى كثيرًا من هذه المسألة، ولذا ألف كتابًا أسماه (كشف الشبهات)، ومعظم هذه الشبهات تنطلق من الشفاعة والتوسل.
فالمصنف اهتم بهذا الباب لأنه من الشرك، وأراد إقامة الحجة على أن من طلب شفاعة أحد دون الله فهذا من الشرك الأكبر.
المسألة الثالثة: أقسام الشفاعة:
1- شفاعة منفية.
2- شفاعة مثبتة.
أما الشفاعة المنفية: فهي التي تُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وسميت منفية لأنه جاء نفيها في القرآن، وذكر المصنف بعض الآيات في هذا الباب.
الشفاعة المثبتة: وهي التي تُطلب من الله، وهذه لا تكون إلا لأهل التوحيد.
ما هي شروطها؟ شرطان:
1- الإذن للشافع أن يشفع.
2- رضاه عن المشفوع له.
المسألة الرابعة: ما حكم طلب الشفاعة من الحي القادر؟(1/77)
1- إن طلبت منه أمرًا مباحًا يقدر عليه فهذا فيه مساعدة، دل عليه قوله تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } [النساء: 85].
2- وإذا طلبت منه ما لا يقدر عليه لوجود مانع من العجز والضعف ويقدره غيره، فهذا يعتبر من باب السفه.
3- أن تطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا من الشرك الأكبر.
المسألة الخامسة: بعض الشبهات التي يتعلق بها عُبّاد القبور، ويعتقدون أنها تبيح لهم طلب الشفاعة من المقبورين والصالحين.
الأولى: استدلوا بحديث عثمان بن حنيف في التشفع بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، والحديث هو ما يعرف بحديث الضرير أو الأعمى، وهو أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن شئت دعوت لك فبرئت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فطلب منه الدعاء، فقال له: توضأ ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -».
والرد على الحديث من جهتين:
1- من جهة السند: ضعيف فيه عيسى بن أبي عيسى، قال الحافظ: والأكثرون على تضعيفه.
2- أن يقال: (أن قوله أتوجه إليك بنبيك محمد) المقصود فيه دعاء نبيك محمد؛ لأنه في أول الحديث قال: إن شئت دعوت لك، وطلب منه أن يدعو ليستجيب الله لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالمُسشفَع به هو دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثانية: حديث رواه الطبراني «يا عباد الله أعينوني، يا عباد الله احبسوا» والحديث منكر ومنقطع. قال ابن عدي: «وفي إسناده معروف بن حسان وهو منكر».(1/78)
الثالثة: قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } [النساء: 64] ففيها أن الرسول يملك الاستغفار، والآية في حياته - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد موته فلا، وما كان الصحابة ولا التابعون يفعلون ذلك.
الرابعة: يستدلون بحديث رواه الطبراني «إن الله خلقا خلقهم لحوائج الناس يُفزع إليهم» قال ابن عدي في الكامل: هذا حديث ضعيف جدًا فيه رجل مشهور بالوضع.
الخامسة: قالوا أن الاستشفاع بالأنبياء يجوز؛ لأنكم تقولون إن الاستشفاع بالحي جائز، والأنبياء أحياء، فنحن نستشفع بأحياء، فإذا كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فالأنبياء فمن باب أولى.
الجواب على هذه الشبهة:
1- أن الله أخبر في القرآن أنهم ماتوا وانقطعت أعمالهم { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر: 30]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...» فليس له عمل بعد الموت.
2- أن الله منعك أن تسألها من غيره.
أما كونهم أحياء فنعم، ولكنها حياة برزخية غير هذه الحياة.
السادسة: أن طلب الشفاعة ليس شركًا بدليل أن إبراهيم عرض عليه الشفاعة جبريلُ، ولو كانت شركًا ما عرضها.
فنقول: جبريل حيٌّ قادر عرض على إبراهيم ما يقدره، ونحن نتكلم عن الاستشفاع بالأموات، ومجيء القبور وسؤالها.
السابعة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة – ويسوقون لك حديث الشفاعة العظمى -، ونحن نطلب منه ما يقدره.
الجواب عليهم:
1- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطيها يوم القيامة.
2- اطلب الشفاعة من الذي أعطاها الرسول، وليس من الرسول.(1/79)
{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر: 44] مُلكًا واستحقاقًا، وقوله تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } [النساء: 85] ففيه الحثُ على الشفاعة للغير لمن كان يقدرها في الدنيا.
«راجع كشف الشبهات والدر السنية في الجواب على عباد القبور».
المسألة السادسة: أقسام الناس في الشفاعة:
1- منهم من يثبتها إثباتًا مطلقًا، وأن الأولياء يشفعون، فيجِّوز طلبها منهم، وهؤلاء عباد القبور والصوفية.
2- من ينكر بعض الشفاعات، كالخوارج والمعتزلة، فإنهم ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر.
3- أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون الشفاعة المثبتة وينفون المنفية.
الآيات:
أنذر: هو الإعلام المقترن بالتخويف به.
به: أي القرآن.
الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. هذا إنذار خاص خص به هؤلاء؛ لأنهم منتفعون بالقرآن.
يحشروا: الحشر هو الجمع، وشرعًا: هو جمع الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد.
إلى ربهم: إلى خالقهم ومعبودهم.
وفي الآية نفي الشفاعة، ويقصد بها الشفاعة التي لا تجوز.
{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر: 44].
اللام في لله: للملك والاستحقاق، فهي ملك لله وعطاء من الله. إذن فكيف تطلب من غير الله، وممن لا يملكها كالأولياء والصالحين؟!
{ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255].
هذا فيه ذكر شرط الإذن في الشفاعة، وهو أحد شروطها، والاستفهام للإنكار.
{ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا... } [النجم: 26]:
هذا فيه الشرط الثاني من شروط الشفاعة الشرعية وهو الرضى، وهذه الآية نفت شفاعة الملائكة والصالحين. إذن فكيف تُطلب من غير الله؟
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } [سبأ: 22].
هذه الآية نفت أربعة أشياء كما قال ابن تيمية:(1/80)
1- لا يملكون مثقال ذرة: نفت الملك.
2- وما لكم فيهما من شرك: نفت الشراكة.
3- وما له منهم من ظهير: وليسوا أيضًا معينين.
4- ولا تنفع الشفاعة: نفى أن يكونوا شفعاء.
لماذا نفى الله هذه الأربعة؟
لأن من تطلب منه الشفاعة فلا بد أن يكون مالكًا لأحد هذه الخصال الأربع.
قال أبو العباس: هو ابن تيمية، وهذا هو المشهور من كنيته.
وهو ليس له ابن، وهذا أمر جائز – التكني دون أن يكون له ولد -.
وقولنا: أبو العباس، أو ابن تيمية أفضل من قولنا (شيخ الإسلام) ويأتي إن شاء الله في أبواب لاحقة.
«من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه».
من: شرطية.
قال: يقصد به قول اللسان والقلب.
خالصًا: حال.
هل يكفي أن يقولها خالصًا من قلبه دون التصديق بالرسول والإتيان بالأعمال الأخرى؟
لا يكفي، فيجب أن يكون عاملاً بمقتضاها، ومقتضاها ما ذكرنا.
باب قول الله تعالى
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56].
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله عز وجل { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 113] الآية. وأنزل الله في أبي طالب: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص: 56].
قال الشارح:
المسألة الأولى:
قصد المؤلف رحمه الله من إيراد هذا الباب أن يبين أن الرسول لا يملك هداية أحد، هداية توفيق وقبول، ولا يملك الاستغفار لغير الموحدين.(1/81)
وكذلك غيره من الأولياء والصالحين الذين يُدعون من دون الله من باب قياس الأولى. فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك أن يستغفر لأحد أو يهدي أحدًا، فالصالحون من باب أولى، ففيه الرد على عُبّاد القبور، وإذا كانت هذه فكرة الباب، فإنه قد سبق أن ذكرها المصنف في باب { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191] فإنه عرض لنفس الفكرة.
المسألة الثانية: في شرح الترجمة:
إنك لا: لا: نافية، والمنفي عدم الهداية، فكيف نجمع بينها وبين قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]؟
قبل أن نذكر الجمع هناك قاعدة «إذا تعارضت النصوص بالنسبة لطالب العلم فهي تتعارض باعتبار نظره لا باعتبار الواقع».
فما هو العمل؟
الجمع لأن الجمع فيه إعمال للنصين بقدر الإمكان. قال تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7].
والجمع له عدة طرق:
1- أن يحمل أحد النصين على شخص والآخر على شخص، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس من البر الصيام في السفر»، وثبت من فعله أنه صام في السفر، فيحمل عدم الصيام على العاجز، والذي يصوم هو القادر.
2- أن تحمل هذه على حالة، وهذه على حالة.
3- العام والخاص، فيعمل بالعام ويخرج منه أحد أفراده بالدليل الثاني.
ومثله المطلق والمقيد، فيعمل بالمطلق؛ إلا في الجانب الذي فيه التقييد.
فإذا تعذر الجمع بهذه الطرق، فإننا نلجأ إلى النسخ، فيؤخذ أحد النصين ويترك الآخر بشرطين:
1- أن يتعذر الجمع بوجه من الوجوه.
2- أن يعلم المتقدم من المتأخر.
فإذا لم نعرف التاريخ انتقلنا إلى الترجيح، والترجيح تأخر عن النسخ، ونتيجته باعتبار الواقع مثل النسخ، فأنت تترك نصًا وتأخذ الآخر، وكذا في النسخ معك حجة أقوى؛ لأنك تركت أحد النصين.
وجوه الترجيح كثيرة:
1- أن يكون أحد الحديثين أصح من الآخر، فيؤخذ ما كان أقوى باعتبار السند من الثاني.(1/82)
2- أو يكون أحدهما صاحب القصة والآخر راويًا عنه، كقصة زواج ميمونة وقولها أن النبي تزوجها وهو حلال، فرُجَّح على قول ابن عباس أنه تزوجها وهو حرام.
ثم بعد ذلك يتوقف.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52] فهنا نجمع ونحمل الهداية المثبتة على هداية البيان والإرشاد.
فالهداية المنفية هي هداية التوفيق والقبول والإيمان بالقلب.
وقوله: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي } فالمثبت هنا هو هداية الإرشاد والدلالة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يملك أن يدل ويرشد، ولكن لا يملك أن يدخل الإيمان في القلب. وقال تعالى: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7].
من: موصولية بمعنى الذي.
وقوله: { أَحْبَبْتَ } أي: أحببته يا محمد.
ولكن هل هو الذي تحب ذاته وعينه أو أحببت هدايته؟
قولان للعلماء:
فالأول: من أحبه لعينه وذاته، وهذا يترك سؤالاً، وهو: هل يجوز محبة الكافر؟
نقول: إنها محبة طبيعية كما يحب قريبه مثل أبيه وأمه.
والثاني: من أحببت هدايته، وهذا أقرب وذكره الشنقيطي في التفسير؛ لأن السياق يدل عليه، والقصد كذلك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حرص على هدايته وزاره.
في الصحيح: لما حضرت أبا طالب الوفاة، ما المقصود بحضور الوفاة؟ هل المقصود مقدمات الموت وأعراضه، أو الغرغرة وهي النزع؟
الأقرب أن المقصود مقدمات الموت وأعراضه؛ لأن الثاني يعارض، وقوله: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ } [النساء: 18].
ولما كان لقوله - صلى الله عليه وسلم - فائدة؛ لأن التوبة عند حضور الوفاة غير مقبولة.
والجمع بينهما أن نقول: إن حضور الموت في الآية يقصد به النزع والغرغرة.
أما الحديث: فيقصد به أعراض الموت.(1/83)
ولماذا لا نقول: إن حضور الموت في الحديث على بابه، وأن هذا خاص بأبي طالب، كما أنه خص بتخفيف العذاب؟ الجواب أن يقال: الأصل عدم الخصوصية.
جاءه: أي زاره. فيدل على جواز زيارة الكافر وعيادته بقيود:
أن لا يحبه بقلبه، فلا تكون الزيارة من أجل الأنس والمحبة.
ويجوز إذا كان من أجل الدعوة وترجو إسلامه، فيخرج إذا يئسنا من شخص، أو
غلب على الظن عدم إسلامه فغير جائز.
عبد الله بن أبي أمية: هذا أسلم، أبو جهل: هو فرعون هذه الأمة.
يا عم: يجوز أن يقال للكافر يا عم، ومثلها يا أبي ويا أمي.
والنسب لا ينقطع بالكفر، وإنما تنقطع المودة والمحبة، وينقطع الميراث.
قل: فعل أمر. وهل هو للإلزام، أو للإرشاد؟
الأصل في الأوامر أنها للإلزام، وهنا يرد علينا قوله تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة: 256] ولذا فإن الأظهر أن الأمر للإرشاد.
قول: «لا إله إلا الله» هل ينتفع الإنسان بها، أم لا بد من العمل بمقتضاها؟
الثاني، ولكن إن لم يبق برهة بعد قوله لا إله إلا الله فهذا يدخل في الإسلام.
أما إذا بقي فلا بد من العمل.
فهذه الكلمة يستحب أن تقال للكافر عند حضور الوفاة والمسلم من باب أولى.
كلمة: بدل من لا إله إلا الله.
أحاَج: أجعلها حجة أي يوم القيامة. وأشهد بها أنك أسلمت، وهذا يدل على مدى اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على هداية أبي طالب، ويدل أيضًا أنه إذا وُجد كافر يهتم بالمسلمين ويناصرهم فيحرص على دعوته أكثر من غيره.
عند الله: أي يوم القيامة، فأجعلها حجة.
فقالا له: الضمير يعود على عبد الله بن أبي أمية وأبي جهل.
أترغب: استفهام إنكاري.
وما هي ملة عبد المطلب؟ هي الشرك بالألوهية، وهي تضاد لا إله إلا الله المدعو بها أبا طالب.
فأعاد عليه: يدل على جواز التكرار، وهذه إعادة، والإعادة غير الابتداء.
فأعادا: أي أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية.(1/84)
هو على ملة: هذا من كلام الراوي أخذًا باعتبار تصريح أبي طالب، وهو تصرف من الراوي استقباحًا للقول، مع أن حكاية الكفر ليست بكفر، ولكن فعل هذا تأدبًا.
لأستغفرن: اللام موطئة للقسم والنون للتوكيد.
الاستغفار مأخوذ من: المغفر، وهو لباس يستر الرأس.
والمغفرة هي: الستر والتجاوز.
ما لم أنه عنك: قيده الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ما كان - صلى الله عليه وسلم -: خبر بمعنى النهي، وفيه دليل على تحريم الاستغفار للمشركين، ويدل على تحريم موالاتهم.
والدعاء على الكافر: تقدم.
المشركين: المشرك على قسمين:
1- مشرك شركًا أصليًا، وهذا لا يجوز أن يستغفر له الرسول ولا أحد من المسلمين.
2- مشرك شركًا طارئًا، وهذا لا يجوز أيضًا، وهذا هو المسلم إذا ارتد بوجود خصلة من خصال الشرك الأكبر.
تخفيف العذاب عن أبي طالب ثابت، أما الرحمة والمغفرة فهي منفية عنه.
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم
وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله عز وجل: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } [النساء: 171].
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح: 23] قال: «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت».
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» [أخرجاه].
وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».(1/85)
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف الغلو:
لغة: مجاوزة الحد، مأخوذ من غلا القدر إذا زاد.
وأما شرعًا: فهو مجاوزة الحد مدحًا أو قدحًا.
المسألة الثانية: أقسام الغلو:
أولاً: باعتبار الحكم ينقسم إلى قسمين:
1- غلو عبادة: وهذا يعتبر شركًا أكبر، وضابطه: هو أن يجعل للمخلوق شيئًا من حقوق الله تعالى، مثل: الدعاء والذبح والتصرف في الكون، أو مشابهة الله في
الأسماء والصفات.
2- غلو وسيلة: وهذا باعتبار الحكم دائر بين الشرك الأصغر أو الكبائر، وضابطه: أن ترفع المخلوق فوق منزلته التي جعلها الله له، لكن دون الأول أي: دون العبادة.
كالصلاة لله عند القبور فهذا غلوٌ، ويعتبر من الشرك الأصغر، وكذبحه لله عند القبور، ومثل التعصب للصالحين، ومثل مدحهم المدح الزائد بالألفاظ.
ثانيًا: باعتبار المحل أو الموضوع.
وينقسم إلى ثلاثة أقسام:-
1- إما في العقيدة.
2- أو في العبادات.
3- أو في العادات.
1- غلو العقيدة: مثل غلو المعطلة في التنزيه، حتى أنهم غلو وأنكروا صفات الله. وكغلو الخوارج حتى كفروا بالمعصية، وكغلو النصارى حتى جعلوا عيسى ابن مريم إلهًا، وكغلو الروافض في آل البيت، وكغلو المشبهة في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، وكغلو اليهود حتى جعلوا عيسى ولد بغي، وهذا غلو في باب القدح.
2- غلو عبادات: وهو أن يرى أن الإخلال في شيء من العبادات يعتبر كفرًا، كما فعل الخوارج الذين يكفرون بالمعصية، أو يغلو في السنن فيجعلها مثل الواجبات، فيجعل تركها مما يحرم ويعاقب الإنسان عليه، وينكر على من يتركها.
3- الغلو في العادات: هناك من يغلو في العادات؛ حيث يتمسك بالعادات المخالفة للشرع ويتعمق فيها، كبعض العادات في الزواج والعزاء وغير ذلك.
وأما إذا كانت العادات غير مخالفة للشرع فالاستمرار عليها جائز؛ بل إنه يستحب للإنسان أن يفعل ما اعتاده قومه.(1/86)
المسألة الثالثة: تحليل الترجمة:
السبب لغة: ما يتوصل به إلى غيره.
السبب اصطلاحًا: ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم، كدخول الوقت بالنسبة للصلاة.
والسبب المستقل: هو الذي لزم من عدمه العدم، أما إذا لم يكن كذلك فقد يقع سببًا آخر، كمثل الزواج سبب للإرث، ولكن لو لم يقع الزواج لأمكن أن يرث بأسباب أخرى.
الكفر لغة: الستر والتغطية، وسمي الزُّراع كفارًا؛ لأنهم يغطون الحب، كما قال تعالى: { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح: 29].
شرعًا: جحد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بعضه، أو تركه بعض الأشياء المخصوصة وهو قول أو فعل أو اعتقاد يُخرج من الملة.
الصالحين: جمع صالح، وهو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات، فترك خوارم الدين وخوارم المروءة.
المصنف جعل من عواقب الغلو أمرين:
1- الكفر.
2- ترك الدين، وهذا أعم من الكفر؛ لأن الكفر ترك بعض الدين.
أهل الكتاب: اليهود والنصارى ومن تبعهم وسار على منهجهم.
لا تغلوا: أي لا تتجاوزوا الحد في دينكم.
الدين: يقصد به العمل، أي لا تتجاوزوا الحد في أعمالكم وعبادتكم، كما قيل: «كما تدين تدان» أي: كما تعمل تجزى، أما النصارى فغلوا في عيسى حتى جعلوه إلهًا، واليهود غلوا في عزير حتى جعلوه ابنًا لله.
مناسبة الآية: تحذير هذه الأمة أن تعمل مع نبيها أو مع صالحيها كما فعلت اليهود والنصارى؛ حيث غلوا في ذلك.
في الصحيح: الحديث في البخاري.
وهذا يسمى تفسير صحابي، وتفسير الصحابي له حكم الرفع، فيكون مرفوعًا حكمًا. ذكر ابن عباس قصة أول شرك وقع في الأرض، وأول كفر وقع في الأرض، وأول تغيير للدين وقع في الأرض.
فذكر ابن عباس القصة، وابن عباس ذكر مرحلتين لوقوع الشرك على وجه الاختصار
وإلا فإنه وقع في ثلاثة مراحل أو ثلاثة أجيال.
قال ابن القيم:(1/87)
لما ماتوا عكفوا على قبورهم: هذه المرحلة الأولى، فالقصة أول ما ابتدأت ببدعة وهي العكوف عند القبور، وهذا الذي كان يفعله الجيل الأول. ولم يقع الشرك إلى الآن؛ لأنهم لم يكونوا يعبدونهم، وإنما دافعهم التنشيط على العبادة.
والعكوف: هو طول المكث.
ثم: للترتيب والتراخي، فانتهى الجيل الأول وجاء الجيل الثاني، وكان انحرافه في التصوير والتماثيل. قال: ثم صوروا تماثيلهم وسموها بأسمائهم: حتى تكون أقرب للذهن، وهنا زادوا في البدعة فارتكبوا أمرًا محرمًا آخر، وكان قصدهم التأسي والذكرى، ولكن لم ينفعهم قصدهم الحسن.
ثم طال عليهم الأمد: هذا هو الجيل الثالث.
عودة إلى كلام ابن عباس:
أسماء رجال: ليخرج النساء.
من قوم نوح: كانوا قبل نوح بجيلين، فنوح بعث في الجيل الثالث.
فلما هلكوا: الواو في هلكوا تعود إلى الجيل الأول المبتدع.
أوحى إليهم: وحي الشيطان الوسوسة وحديث النفس.
الشيطان: مأخوذ من شطن إذا بعد، ومن الشاطئ وهو: البعيد عن وسط البحر. وهل سمي شيطانًا لأنه بعيد عن رحمة الله؟ أو لأنه مبعد عن رحمة الله؟ كلا الأمرين.
والشيطان: علم على متمردي الإنس، وعلم على متمردي الجن.
ويقصد به هنا: مردة الجن.
أنصابًا: أي تماثيل.
حتى إذا هلك أولئك: أي الجيل الثاني.
ونُسي العلم: أل للعهد، فهم لم ينسوا كل العلوم.
ما هو العلم الذي نسي؟ هل هو مقصود الجيل الثاني أو علم التوحيد؟
المقصود به علم التوحيد، وأن التماثيل محرمة، والبدع محرمة، والعكوف على التماثيل محرمة.
ومن آفات العلم: النسيان، وعدم العمل، وعدم الدعوة والتذكير.
وفي رواية عند البخاري «فلما نسخ العلم» وهذا يدلنا على أهمية علم التوحيد، فهو لما نسي هنا عبد غير الله سبحانه وتعالى.
عُبدت: خُضع لها بأنواع الطاعات فأصبحت يذبح لها وينذر لها.
وتفيدنا هذه القصة: أن الغلو في الصالحين سبب للكفر، وقد لا يقع الكفر في أزمان متقاربة؛ بل قد يمتد تدريجيًا إلى أجيال متعددة.(1/88)
كان بين آدم ونوح عشرة قرون:
القرن هل يعرف بالكمية أو بالكيفية؟ يعرف بالكيفية، فالقرن هم الجماعة المقترنين بصفات معينة، فهؤلاء يسمون قرنًا.
وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - اعتيد اعتبار قرنها بأنه كل (100 سنة)؛ لأن أعمارها ما بين الستين والسبعين.
حديث عمر:
لا تطروني: الإطراء هو: الغلو والمبالغة في المدح.
كما: هل المقصود بها التشبيه أو التعليل؟
على مذهب البوصيري أن الكاف للتشبيه، أي: لا تطروني كإطراء النصارى، ولذا قال: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم.
والصحيح أن الكاف للتعليل، أي: لا تطروني فيؤدي إطراؤكم لي أن تكونوا مثل النصارى، وعلى ذلك فلا تمدحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مدحًا زائدًا. ولذا قال «إنما أنا عبد».
النصارى: في هذا رد على من يسميهم المسيحيين.
إنما أنا عبد: أي لست إلهًا.
في هذا الحديث: تحريم إطراء الرسول، ومدحه المدح الزائد عن منزلته، فيؤدي هذا الغلو فيه إلى رفعه فوق منزلته.
حديث «إياكم والغلو» هو حديث ابن عباس، رواه أحمد والترمذي، وصححه ابن
تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم.
إياكم: للتحذير.
الغلو: مجاوزة الحد في الاعتقاد والعمل والعادة.
وإنما أهلك: بين - صلى الله عليه وسلم - أن الغلو سبب للهلاك.
وهل هو هلاك دين أو بدن؟ كلاهما.
البدن يناله من العذاب على هذا الغلو، وهلاك الدين معروف.
هنا حصر الهلاك في الغلو، وجاءت أحاديث أخرى في حصر الهلاك بغير ذلك. فهلاك الدين سببه الغلو. هذا الذي يحمل عليه الحديث.
«إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه... الحديث». وهذا فيه: هلاك الحقوق وانتهاكها يكون بالتفريق بين الشريف والوضيع.
وكذلك تُحمل الأحاديث الأخرى: كل حديث بحسبه.
حديث ابن مسعود:
المتنطعون: المتعمقون. والتعمق إما أن يكون تعمق ألفاظ، ويكون هذا بالفخر والتشدق والتفيهق.(1/89)
وتعمق العادات: كمن يتنطع في بعض العادات المخالفة للشريعة.
وتعمق العبادات: كما مر.
وهذا الحديث فيه: أن التنطع سبب للهلاك.
الأمور المباحة: إن تركت تدينا فهذا من باب التنطع، وأما إذا تركت من باب الزهد وتربية النفس فتجوز إذا كان الأمر يحتمل ذلك.
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله
عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» فهؤلاء جمعوا بين فتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها قالت: «لما نُزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال – وهو كذلك - : «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا» [أخرجاه].
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».(1/90)
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن – وهو في السياق – من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدًا، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا». ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» [رواه أبو حاتم في صحيحه].
قال الشارح:
المسألة الأولى: تصوير مسألة «عبد الله عند قبر رجل صالح».
المسألة لها عدة صور: والعبادة فيها كلها لله.
1- الصلاة عند القبور أو القبر.
2- الصلاة في مسجد فيه قبر أو قبور.
3- الصلاة في مسجد مبني على القبر أو القبور.
ويمكن تحويل هذه الصور الثلاث إلى ست باعتبار القبر أو القبور.
4- الصلاة في مسجد حوله مقبرة.
المسألة الثانية: تحليل الترجمة:
التغليظ: أي التحريم وهذا الذي قصده المؤلف، وهذا واضح من الحديث الأول من قوله - صلى الله عليه وسلم - «أولئك شرار الخلق».
وفي الحديث الثاني: قال - صلى الله عليه وسلم -: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثالث: «فإني أنهاكم عن ذلك».
فذكر المؤلف ما يقارب من خمس صور من صور التغليظ.
فيمن: من موصولية بمعنى الذي.
عبد الله: تذلل وخضع لله بنوع من أنواع الطاعة.
وكونه "عبد الله" أعم من كونه صلى لله، لأن الصلاة بعض العبادة، وإن كانت الأحاديث كلها في الصلاة، ولكن يندرج فيها الذبح لله عند القبور، وقراءة القرآن عند القبور.
عند قبر: بالإفراد، فما بالك لو كانت أكثر من قبر لكان التغليظ أشد.
صالح: من أتى بالواجبات وترك المحرمات وخوارم المروءة.
كيف: للإنكار. المروءة: فعل ما يجمله ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه.(1/91)
وهذا الباب سوف نجعله في الحديث عن الصلاة عند القبور، أما باقي العبادات فسبق أن تكلمنا عنه.
المسألة الثالثة: ما علاقة عبادة الله عند القبور بالتوحيد؟
هي منقصة للتوحيد، وفاعلها ناقص التوحيد، وعلاقتها بالشرك أنها من الشرك الأصغر.
المسألة الرابعة: ما حكم الصلاة في الصور السابقة؟
الصورة الأولى: الصلاة عند القبور أو القبر: هذه لا تجوز ولا تصح الصلاة في أي جهة كان القبر سواء كان عن يمينه أو شماله أو أمامه أو خلفه، بشرط أن يكون منسوبًا إليه فيقال: «صلى عند قبر».
الأدلة:
حديث أبي مرثد في مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تصلوا إلى القبور» وجاء في الحديث الآخر: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام».
معنى كلمة لا تصح في باب العبادات: لا تبرأ به الذمة ولا يسقط به الطلب.
عدم الصحة في باب المعاملات: ما لا يترتب عليه أثر.
فالصلاة عند القبر لا تصح، ومن الطبيعي أنها لا تجوز.
وهل هذا عام في كل صلاة؟
ظاهر حديث أبي مرثد أنه عام في كل صلاة، ولكنه مخصوص «إلا صلاة الجنازة»، لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما صلى على المرأة السوداء "أي صلاة الجنازة". ومذهب الفقهاء أنه يمتد إلى شهر؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صلى على قبر أم سعد بعد ما قدم من سفر وقد مضى شهر "رواه الترمذي".
الصورة الثانية: الصلاة في مسجد مبني على قبر أو قبور، فالسابق هنا القبر والطارئ هو المسجد.
والصلاة في هذا المسجد لا تصح، لأنه مقبرة، ويدل عليه عموم الحديث السابق. وفي هذه الصورة يجب هدم المسجد، فهو شبيه بمسجد الضرار، والأموات قد سبقوا إلى هذا المكان، ومن سبق إلى شيء فهو أحق به، وهذا زاحمهم.
الصورة الثالثة: أن يصلي في مسجد فيه قبر، فهنا المسجد هو السابق.
أما في هذه الصورة: فالصلاة فيها مسألة خلافية:
القول الأول: أن الصلاة لا تصح؛ للأحاديث السابقة حديث أبي مرثد وغيره.(1/92)
القول الثاني: تصح مع الإثم والنقصان؛ وهذا هو المذهب.
وإن كانت المسألة ينبغي التشديد فيها فالقول الأول أقوى، وفي هذه الصورة لا فرق بين أن يكون القبر عن يمينك أو شمالك أو أمامك أو خلفك، وهذا القبر يجب نبشه، ولو أوصى صاحب المسجد فهذه وصية جائرة، فينبش ويدفن في مقابر المسلمين. والمنع لعموم حديث «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» في إحدى الصور.
مسألة: ما الحكم لو كان القبر في غرفة مستقلة؟ لا فرق.
1- إما أن تكون هذه الغرفة التي فيها القبر لا يدخل منها ولا يخرج إلا من طريق المسجد، فهذه حكمها حكم المسجد سواء.
2- أن تكون الغرفة لها بابان، باب من جهة المسجد، وباب من غير جهة المسجد والسور واحد، فهذه أيضًا لا تصح، ويجري فيها الخلاف.
3- أن يدخل ويخرج إليها من خارج المسجد، فهذه إما أن يكون سورها وسور المسجد واحد وهذه حرام، ولكنها أخف من الصورتين السابقتين، أو أن يكون سورها غير سور المسجد فهذه بالنسبة لصحة الصلاة تصح الصلاة في المسجد؛ لكن الواجب أن تبعد عن المسجد بمقدار ممر، بشرط ألا تكون في قبلة المسجد. ولذلك ينبغي التنبه لمن يذهب إلى مساجد فيها قبور ويصلي فيها.
مسألة: إذا كانت المقبرة في قبلة المسجد فما الحكم؟
إن كان سور المقبرة ملتصق بسور المسجد فيمنع من ذلك، أما إن كانت غير ملتصقة وبينها ممر فهذا جائز.
مسألة: اتفقنا أن الطارئ يزال سواء من المساجد المبنية على القبور أو القبور المبنية على المساجد، فمن يقوم بهدمها؟ يقوم بهدم المساجد أولياء الأمور.
وإذا كان هناك جماعة لهم شوكة ومنعة فهل لهم إزالتها؟
إذا كانوا في غير بلاد إسلام وخلا فعلهم من المفاسد فيجوز لهم هدم ذلك. وأما إن كانوا في بلاد الإسلام فعليهم مناصحة أولياء الأمور.(1/93)
واختار بعض أهل العلم: أنه إذا كان الإمام ضعيفًا وهناك من له شوكة ومنعة فله أن يغير بدون إذن الإمام الضعيف، كما فعل ابن تيمية في بعض تغييراته، وإذا امتنع ولي الأمر من التغيير فلأهل المنعة والشوكة التغيير إذا أمنت المفاسد.
في الصحيح: صحيح البخاري ومسلم، وهو حديث متفق عليه.
الكنيسة: هي معبد النصارى، وقوله "رأتها": أي رأت الكنيسة ولكن هل رأتها عن دخول أو مرور؟
غير واضح ذلك في الحديث.
ما حكم دخول الكنيسة؟
أما دخول الكنيسة فلا يخلو من ثلاث حالات:
1- أن يدخلها للتعبد والصلاة.
2- أن يدخلها للفرجة والمصلحة الدنيوية (للدنيا).
3- أن يدخلها للدعوة.
وفي الصورة الأولى: لا يصح دخوله، ويحرم قال تعالى: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } [التوبة: 108] وقال عمر: «لا تدخلوا على المشركين في معابدهم فالسخطة تنزل عليهم»، ولأنها مأوى الشياطين، وقول عمر: رواه البيهقي بسند صحيح.
وأما الدخول للفرجة والمصالح الدنيوية فيحرم، ويشمله حديث عمر موقوفًا عليه، رواه البيهقي.
«لا تدخلوا على المشركين في معابدهم» وسدًا لذريعة التشبه بهم ومحبتهم، وأما إن دخلها للدعوة، فيجوز إذا أمن على نفسه، ولم يكن هناك مفسدة.
أولئك: بالكسر؛ لأنه خطاب لأم سلمة.
أو العبد: شك من الراوي.
بنوا على قبره مسجدًا: هذه أشد الصور.
أولئك شرار الخلق: هذا وعيد وتهديد، وشرار جمع شرير، وهذا تغليظ.
بنوا على قبره مسجدًا: أي مكان سجود الصلاة.
ولهما: الضمير يعود على مشتهر وهو هنا البخاري ومسلم مثل قوله تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] الضمير في { عَبْدِه } يعود على مشتهر.
نُزل: مبني للمجهول، والمقصود به نزول ملك الموت لقبض روحه - صلى الله عليه وسلم -.
طفق: أي أخذ.
خميصة: كساء له أعلام.
على وجهه فإذا اغتم: أي من شدة معالجة الموت.(1/94)
فقال وهو كذلك: أي على تلك الحالة، فيدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال هذا القول في آخر حياته.
لعنة: تقدم أن اللعن قسمان: لعن أكبر، ولعن أصغر، وهو الطرد والإبعاد من الله، ومن المخلوق: الدعاء بالطرد والإبعاد.
وهل يجوز لعن اليهود والنصارى؟ نعم ... للعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم.
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: جملة تعليلية، فعلة اللعن اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
قبور: ليس هناك فرق بين القبر والقبور في الحكم، فالعدد هنا لا مفهوم له.
مساجد: صور اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، له صورتان:-
الأولى: أن تبنى المساجد على القبور.
الثانية: الصلاة عندها، فإن الصلاة عندها من اتخذها مساجد، ولو لم تكن هناك بناية.
يحذّر ما صنعوا: قال بعض أهل العلم: إنه مدرج من كلام عائشة، أي: يحذر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
واللعن هنا داعيه هو التحريم والتحذير من فعلهم.
ولولا ذلك: أي تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لأُبرز قبره: وهذا أحد الأسباب في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفن في بيته، فذلك خشية أن يبنى عليه مسجد، أو يتخذ قبره موضعًا للسجود، السبب الثاني: ما جاء في حديث «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض».
لأُبرز: أي لأصبح بارزًا، وهل يقصد البروز هنا بروز ارتفاع أو بروز مكان؟
المقصود بروز المكان، أي لولا تحذيره لدفن في البقيع، ثم جاء هذا الحديث فعضد وقوى أنه يدفن في البيت.
إشكال في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكونه في المسجد؟
يجاب على هذا بأربعة أجوبة:
1- أن مسجد الرسول لم يبنَ على القبور، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي بناه، وأخبر عنه سبحانه وتعالى بأنه أول مسجد أسس على التقوى.
2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدفن في المسجد كما يفعل هؤلاء.(1/95)
3- أن إدخال بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ليس باتفاق العلماء، بل هو خطأ من رجل لا يعتبر من العلماء، وهو الوليد بن عبد الملك فهو الذي أدخل قبره في المسجد، وأنكر عليه العلماء منهم سعيد بن المسيب، وكان ذلك في سنة 94هـ. والوليد ليس ممن يُقتدى به خصوصًا مع إنكار العلماء عليه، علمًا بأنهم وضعوا احتياطًا في قبره - صلى الله عليه وسلم -، حيث بنوا عليه ثلاثة جدران فلا يكون المصلي مستقبلاً له. مع أن هذا لا يغني إذ العمل من أصله خطأ. والمسجد النبوي ليس حجة لأحد ممن يفعل ذلك من إدخال القبور في المساجد.
لماذا لا تمنع الصلاة في المسجد النبوي؟
لا تمنع، بل بإجماع المسلمين أنهم يصلون من ذلك العهد فكيف نقول لا تجوز مع هذا التواتر على صحة الصلاة في المسجد النبوي وثبوت الفضل.
ونقول: إن الصلاة فيه كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد؛ إلا المسجد الحرام.
إلا أننا نقول: أن من صلى في المسجد النبوي بقصد بركة القبر، أو لأن القبر فيه، فهذا لا تصح صلاته. فأصبحت صحة الصلاة لا تعود على المكان، وإنما تعود على الاعتقاد والنية.
من تقصد أن يصلي خلف حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
هو مثل من قصد الصلاة عند القبر في الحكم وقد سبق.
خُشي بالفتح يكون الفاعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت بضم الخاء فيكون الفاعل الصحابة.
قال المصنف في هذا الحديث (أخرجاه) بعد أن قال (ولهما) ويمكن أن يكون هذا من باب التأكيد.
مسألة: ما حكم الدفن في البيوت؟
لا يجوز، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا»، ومن معاني الحديث: أي لا تدفنوا
الموتى من بيوتكم؛ بل يدفن مع المسلمين في مقابرهم.
«قبل أن يموت بخمس» أي: بخمس ليال، وهذا حديث جندب، وهو غير حديث عائشة، فيدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كرر هذا الأمر وأعاد عليه.
خليل: الخليل: هو المحبوب غاية الحب.(1/96)
اتخذني خليلا: إثبات المحبة لله عز وجل.
أمتي: أمة الإجابة.
ألا: حرف تنبيه واستفتاح.
لا تتخذوا: لا: ناهية، والنهي يقتضي التحريم.
فإني أنهاكم عن ذلك: هذا نهي مرة أخرى.
فقد نهى عنه في آخر حياته: هذا من كلام أبي العباس ابن تيمية.
والصلاة عندها من ذلك: هذه صورة من صور الاتخاذ.
وإن لم يبن مسجد: الصورة الثانية: أن يُبنى مسجد، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا، هذا لغة.
أما المسجد اصطلاحًا: فهو المكان المعد للصلوات الخمس إعدادًا عامًا، ولا يلزم أن يكون فيه إمام راتب، فعلى هذا فالمساجد التي على الطرقات وفي الأرياف تعتبر مساجد لها أحكام المساجد. وأما المساجد في المدارس فهي مصليات؛ لأنه لا يصلي فيها إلا بعض الصلوات. هذا أولاً.
ثانيًا: أنها لم تُعد إعدادًا عامًا، فليس لها التحية، ويجوز دخول الحائض والجنب لها، ويجوز فيها البيع والشراء.
أما مصلى العيد فيعتبر مسجدًا، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الحُيّض باعتزال مصلى العيد، فدل على كونه مسجدًا.
وهل يشترط في المسجد الوقفية؟
الظاهر أنه لا يشترط، فلو أن جماعة مسجد أرادوا تجديد وتوسيع مسجدهم فاستعاروا أرضًا يصلون فيها تلك المدة صح وأخذت حكم المسجد.
جُعلت: هذا هو الجعل الشرعي، ومنه قوله تعالى { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ } [المائدة: 97] وقوله: - صلى الله عليه وسلم - { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [الزخرف: 28].
الأرض: أل: هل هي للعموم أو العهد؟
فقهاء الحنابلة يجعلونها للعهد، أي: التراب.
والقول الثاني: للعموم، فكل الأرض يتطهر بها، الجبال والأحجار وغير ذلك.
مسجدًا: هذا يحتاج إلى تخصيص؛ لأن في الأرض حشوشًا وحمامات وأماكن نجسة وغير ذلك.
حديث ابن مسعود: المرفوع قسمان: حقيقي وحكمي.
من شرار الناس: هذا من التغليظ.
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين
يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله(1/97)
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [النجم: 19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» [رواه أهل السنن].
قال الشارح:
هذا الباب شبيه بالباب الذي قبله، وبالنظر إلى عناوين البابين فإن هذا الباب يتحدث عن الغلو في القبور، والذي قبله يتحدث عن الغلو في الصالحين، وأن الغلو في قبور الصالحين هنا يجعلها أوثانًا، وهناك الغلو في الصالحين يجعلهم آلهة.
المسألة الأولى: تحليل الترجمة:
الغلو: سبق أن تحدثنا عن معنى الغلو.
في قبور: ليس هناك فرق بين القبر والقبور.
الصالحين: جمع صالح، والصالح هو الذي قام بحقوق الله وحقوق العباد. وهل كلمة الصالح مرادفة لكلمة المؤمن؟
لا. هي هنا يقصد بها أخص من كلمة المؤمن.
والمؤلف رحمه الله من محبته للأمة ونصحه لها كرر التحذير من الغلو في الصالحين في ثلاثة أبواب متتابعة، ولأن طبيعة العصر الذي نشأ فيه المؤلف فيها مظاهر من الغلو في قبور الصالحين أو ذواتهم.
يصيرها: يحولها.
أوثانًا: الوثن له تعريفان:
1- تعريف مع الإفراد.……2- تعريف مع الجمع مع كلمة الصنم.
التعريف العام مع الإفراد، فإن الوثن: ما عبد من دون الله على أي هيئة كانت.
وأما الوثن بالمعنى الخاص – وهو مع الجمع مع الصنم – فإن الوثن يطلق على: ما عبد من دون الله على غير هيئة إنسان.
تُعبد: يُخضع لها ويتذلل.(1/98)
وقوله تُعبد: قيد لبيان الواقع، فليس هناك أوثان لا تعبد، وهذا مثل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } [البقرة: 21].
معنى الترجمة: أننا إذا تجاوزنا الحدود الشرعية في القبور فإنها تتحول إلى أوثان تعبد من دون الله.
وهذا يثير سؤالاً: ما هي الحدود الشرعية للقبور؟
أن يكون قبرًا عاديًا مسنمًا بمقدار شبر، ليس عليه بنيان؛ سواء كان البنيان قبة أو مسجدًا، وليس عليه شيء من مظاهر التعظيم ولا الكتابة، فقد ورد النهي عنها، ولا يُجصص.
معنى الأحاديث:
ما رواه مالك: وهو رواه مرسلاً، والمرسل: ما منه الصحابي سقط. أو: ما رفعه التابعي، ووصله الإمام أحمد رحمه الله في المسند عن أبي هريرة بسند صحيح.
اللهم: بمعنى يا ألله، حذفت الياء وعوضت عنها الميم فأصبحت اللهم.
لا تجعل: لا: ناهية ولكن لا يقصد به حقيقة النهي، فإنه وإن كان صيغته صيغة نهي، فإنه يسمى دعاء؛ لأنه طلب من الأسفل إلى الأعلى.
وثنا: الوثن لا يلزم منه قيد الرضى؛ بخلاف الطاغوت فهو من عبد من دون الله وهو راض، فالشجر تسمى أوثانًا ولا يتصور منها الرضى.
وهنا سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الله ألا يكون قبره وثنًا يعبد.
ذكر ابن القيم ووافقه غيره من العلماء أن الله استجاب دعاءه، ولذلك فقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس وثنًا يُعبد، وليس فيه شيءٌ من مظاهر الوثنية، فلا يطاف حول قبره، ولا يذبح
عند قبره، ولا يتمسح بقبره، فقد حفظه الله.
وهناك فرق بين اتخاذ قبر الرسول وثنًا وبين اتخاذ الرسول إلهًا، فإن الأخير قد وقع، فهناك من عبد الرسول واستغاث به. أما قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمحفوظ، فلا يستطيع أحد أن يطوف به، ولو طاف من وراء الحجرات فلا يسمى طوافًا بالقبر.
اشتد غضب الله: هذه الجملة جملة تحذيرية وتعليلية في نفس الوقت.
غضب الله: غضب مضاف ولفظ الجلالة مضاف إليه. والإضافة نوعان:(1/99)
1- إضافة الصفة إلى الموصوف.
2- إضافة المخلوق للخالق.
ضابط إضافة المخلوق للخالق: أن يكون المضاف عينًا قائمًا بنفسه، مثل: بيت الله، وكعبة الله، وخليل الله، وكلمة الله، وقد تكون هذه الإضافة للتشريف، كما في بيت الله، وربما تكون لغير ذلك، مثل "هذا خلق الله".
أما إذا كان المضاف معنى لا يقوم بنفسه؛ فإنه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. مثل الغضب هنا: والغضب: 1- صفة من صفات الله.
2- وهي من صفات الأفعال، فهي صفة فعل متعلقة بالمشيئة.
أما المعطلة من الجهمية والأشاعرة فيفسرون الغضب بالانتقام، وهذا من الانحراف. فالانتقام من لازم الغضب ومن آثاره وليس هو الغضب.
أنبيائهم: جمع نبي.
إما مسجد البناية أو مكان السجود.
مناسبة الحديث: أن الغلو في قبور الأنبياء يجعلها أوثانًا، ولذلك تعوذ الرسول من أن يكون قبره على نفس المصير.
ولابن جرير: إمام من أئمة التفسير.
سفيان: هو الثوري.
منصور: هو ابن المعتمر.
مجاهد: من كبار التابعين، وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ويعتبر من فضلاء تلاميذ ابن عباس.
وهذا التفسير تفسير تابعي، وهو يسمى في المصطلح مقطوعًا.
أفرأيتم: أخبروني، وهذا من باب تفسير اللازم؛ لأن السؤال عن الرؤية وليس عن الخبر، والمقصود هنا ما بعد الرؤية.
يلت: أي يخلط.
لهم: جاءت مبهمة، وجاء في أثر ابن عباس أنهم الحجاج.
السويق: هو الشعير إذا حمس وطحن وخلط بالتمر فيسمى سويقًا.
واللام في لهم: إما للتمليك وإما للإباحة.
فمات: الفاء ليست سببية، وإنما لمجرد العطف.
والموت: هو مفارقة الروح للجسد.
فعكفوا: اهتموا بقبره؛ لأنه صالح وغلوا في قبره حتى أصبح وثنًا يسمى وثن اللات.
والعكوف: هو الملازمة وهو طول المكث.
وهل مكثهم عند قبره هكذا أو معه اعتقاد؟
مكثهم معه اعتقاد إما للبركة أو رجاء الشفاعة، ولذا تحول إلى إله يُعبد من دون الله ولكن الحكم معلق بالفعل لا بالاعتقاد.(1/100)
مناسبة الأثر: أنهم غلو في قبر رجل صالح حتى أصبح وثنًا.
وكذا: الكاف للتشبيه.
عن ابن عباس: هذا يسمى موقوفًا، وهذا رواه البخاري في التفسير.
والحاج: صفة لمن حج بيت الله، وهذه الكلمة عند بعض البلدان أصبحت علمًا على كل شخص، فأصبحت ترادف كلمة شخص.
وهل يجوز الإطلاق على الشخص كلمة حاج؟
هذه اللفظة أتت من الأعاجم. وهذه من الكذب، فليس كل شخص قد حج، فقد تكون إخبارًا بخلاف الواقع. وأيضًا ففيها تزكية "الراكب كثير والحاج قليل". لكن
إن قصد منها مجرد العلمية فهذا جائز.
وقول ابن عباس: يسمى تفسير صحابي، وتفسير الصحابي له حكم الرفع بشرطين:
1- ألا يُعرف بالأخذ من الإسرائيليات.
2- ألا يكون تفسيره مما يقبل الاجتهاد.
فيكون مرفوعًا حكمًا.
حديث ابن عباس:
قال: رواه أهل السنن: وضعف بعض أهل العلم الحديث، وبعضهم صححه وقبله، كالترمذي وابن تيمية. وهو الراجح.
لعن: هو الطرد والإبعاد، وهو هنا دعاء لأنه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
واللعن قسمان كما سبق.
زائرات: جمع زائرة، وهي التي تخرج قاصدة المقبرة.
وهذا الحديث يدل على: تحريم زيارة النساء للقبور، وهذه مسألة خلافية على قولين:
1- الجواز: واستدلوا بأدلة منها حديث عائشة «أنها زارت أخاها عبد الرحمن» رواه الحاكم ووافقه الذهبي. فُسئلت فقالت: «نُهي عن زيارة القبور ثم أُمر بزيارتها» واستدلوا بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».
واستدلوا بحديث المرأة التي مر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي جالسة تبكي عند قبر فقال لها: «اتق الله واصبري» فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي.
2- تحريم الزيارة: وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية وجماعة. واستدلوا بحديث الباب، وفي لفظ عند أحمد «زوارات القبور»، وذكروا حديث أم عطية قال: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» وهذا استدلال بالقياس على أن الاتباع أخف من الزيارة.(1/101)
والأقرب هو: القول الثاني، وهو أنها تحرم على النساء.
والرد على أدلة القول الأول:
زوروها: صيغة للمذكر فلا تشمل الإناث، وأما فعل عائشة، فهو فعل صحابي،
فيعتذر لها ولا يحتج بفعلها، وأما قولها «وأُمر بزيارتها» هذا أيضًا للرجال، وأيضًا باعتبار المعنى، فالمرأة ضعيفة وعاطفية فلا تتحمل.
وهل هذا في كل القبور؟
الحنابلة قالوا: إلا في قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيستحب للنساء كما يستحب للرجال.
والأقرب أنه لا فرق بين قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبر غيره.
المسألة الثانية:
جاء عند أحمد (زوارات) وهي صيغة مبالغة تقصد التي تُكثر الزيارة.
فهل النهي متعلق بالمتكرر أو بالمرة الواحدة؟
نقول: إن رواية الإمام أحمد لا تخصص (الزائرات)؛ بل اللعن واقع مع الزيارة الواحدة، فإذا كررت الزيارة كثر اللعن.
المسألة الثالثة: قوله (زائرات)
أخرج المارّات، وهي التي تمر من عند المقبرة ولم تقصد الزيارة، وعليه يحمل إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة كما في الصحيح قولي: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ...» الحديث، ولا يجوز لها أن تقف.
وهنا لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، وهل كل من فعلت هذا الفعل تُلعن؟
إذا عُلم من الزائرة العلم بالحكم وتعمدت ذلك، فإنها تُلعن بلعن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إلا من فعلت ذلك متأولة.
والمتخذين: أي ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتخذين.
عليها: أي القبور. وهنا صورة واحدة للاتخاذ، وهي البناء عليها.
السرج: جمع سراج وهو معروف.
والسرج هنا هل هي موضوعة للرؤية أو موضوعة للتعظيم؟
هنا موضوعة للتعظيم، فاستحق الواضع اللعن.
وهل يجوز وضعها من باب الزينة أو العلامة؟
لا. لا يجوز ذلك.
وهل منها الكشافات التي توضع في المقابر؟
إن كانت هذه الأنوار وضعت للشارع وجاء النور للمقبرة من غير قصد فلا بأس، أما إذا كانت موضوعة على المقابر فلا تجوز.(1/102)
وعند الحاجة يؤتى بأنوار تضيء المكان ثم تزال ولا تتعدى وقت الحاجة.
باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } الآية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» [رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات].
وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم» [رواه في المختارة].
قال الشارح:
هذا الباب نفس فكرة الأبواب التي قبله، والمصنف من نصحه للأمة يعيد هذه القضية ويكررها.
المصطفى: من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعناها: الاختيار. قال - صلى الله عليه وسلم - «واصطفاني من بني هاشم، وقال: أنا خيار من خيار».
جناب: أي جانب.
فحمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع أنواع التوحيد الثلاثة.
وقول الله تعالى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } [التوبة: 128].
اللام: موطئة للقسم.
وقد: للتحقيق.
جاءكم: الكاف يقصد بها العموم، أي جاءكم أيها المخلوقون، وقيل يقصد بها المؤمنون.
من أنفسكم: جاءت قراءة { مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي نفيسًا.
والقراءة الأولى: أي من جنسكم أيها الأنس، أو يا معشر قريش، أو العرب.
مناسبة الآية للباب: تدل على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، ومن حرصه أنه يسد كل طرق الشرك.
ما عنتم: أي ما يشق عليكم.
حديث أبي هريرة:(1/103)
لا تجعلوا بيوتكم قبورًا: لها معنيان:
1- لا تخلوها من الصلاة بحيث تعطلوها من السنن والنوافل.
2- لا تدفنوا فيها موتاكم.
وكلا المعنيين حق. وقد يرد علينا دفن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيته، ولكن هذا خاص في الرسول - صلى الله عليه وسلم - لدليل «ما من نبي إلا دفن حيث قُبض».
وأما صاحباه: فيقال فيه أيضًا أنه خاص بهما، ودليله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان دائمًا يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر»، وذكر ابن القيم أنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال هكذا نبعث».
ولا تجعلوا قبري عيدًا:
لا: ناهية، والنهي يقتضي التحريم، والتحريم هنا إما لكونه من الشرك الأكبر، أو لكونه من الشرك الأصغر، أو من الكبائر. على حسب الصور التي سنذكرها الآن.
عيدًا: أي لا تعتادوا المجيء إلى قبره من غير سبب وهذا على قول الجمهور. والقيد "من غير سبب" مهم.
ولذلك فالمجيء إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين:
1- مباح.
2- بدعي.
أما القسم البدعي فله عدة صور:
أ- شد الرحل لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا من اتخاذه عيدًا، وهو لا يجوز، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشد الرحال إلا لثلاثة مساجد»، وهذا يؤخذ من مفهوم المخالفة.
وهل على هذا يقال: لا تشد الرحال إلى زيارة أخيك؟
هذا النهي مخصوص فيما إذا كان يقصد المكان للتعبد، وأما إذا كان غيره فجائز، كزيارة الأقارب مثلاً، والممنوع الشد إلى أماكن على وجه التعبد.
ب- اعتياد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزمن مخصوص، كأن يزوره كل جمعة، أو كل فجر، أو كل عيد، وهذا من البدع ولا يجوز، وهو داخل في النهي.
ج- أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما دخل المسجد، فهذا من اتخاذه عيدًا، وهذا لا يجوز.
وهل هناك فرق بين الأفقي والمقيم؟(1/104)
الأفقي: هو من يأتي من خارج المدينة من غير أهلها.
وهذا عام فلا فرق بين الأفقي وغيره، فإذا جاء الأفقي وسلم أول قدومه، فإن تكراره بعد من اتخاذه عيدًا.
د- تكرار زيارة أهل المدينة لقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
هـ- زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - للدعاء عنده، وهذا من اتخاذه عيدًا، يدل عليه حديث علي بن الحسين، وهذا من البدع، وهو من الشرك الأصغر.
و- أن يدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من البدع، وهو من الشرك الأكبر.
ز- المجيء إلى قبره لمجرد الصلاة عليه فقط، أي قول: اللهم صلِّ على محمد.
2- مجيء مباح: هو المجيء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند القدوم إلى المدينة للسلام عليه، سواءً كان القادم أفقيًا أو مقيمًا. وهذا عند الجمهور، وبعضهم يجعله مستحبًا فهذه الصورة الوحيدة الجائزة، ويشترط أن يكون قدومه لغير شد رحل إلى القبر، ولا يكون قدومه من مسافة قصر، وبعد السلام الأول لا يكرر.
والصحيح عندي أنه خلاف هدي الصحابة ولم يكونوا يفعلونه أن يأتوا إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله إلا ابن عمر على خلاف طريقة من قبله هذا بالنسبة للمجيء إلى القبر. أما الآن فلا يمكن المجيء إلى القبر إنما الحجرة. وهذا لم يفعله حتى ابن عمر. ولذا السلام من وراء الحجرة ليس عليه أمر الصحابة كلهم ولذا نرى أنه بعد غلق الحجرة وعدم التمكن من الدخول فلا ينبغي المجيء وزال حتى حكم الإباحة فمن جاء للسلام أو الصلاة عليه من وراء الحجرة فهذا ليس عليه هدي الصحابة بل ولا على
طريقة حتى ابن عمر، وإن أطبق الناس على هذا فليس العبرة بعمل الناس المخالف لهدي الصحابة كلهم بل يرد لحديث «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
وهل يسن السلام عند الخروج؟
لا. بل هو من البدع، فالسلف لم يكونوا يفعلون ذلك بل حتى ابن عمر ما كان يفعل ذلك.
ما حكم قول القائل زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟(1/105)
هذه اللفظة كرهها الإمام مالك، وهذا في حق من زاره الزيارة المباحة.
وسبب كراهة مالك: سدًّا للذريعة، ولئلا يُفهم من هذه الكلمة معنى فاسد.
ما هي الصفة المباحة للسلام على قول الجمهور؟
1- أن يكون قادمًا من سفر.
2- أن يأتي إلى القبر ويسلم عليه موجهًا وجهه إلى القبر؛ لأن المؤمنين يدفنون إلى القبلة.
3- تُسلم عليه السلام المعروف كسلام الحي (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وقال بعض أهل العلم: وتنوه بفضله، كأن تقول: بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة. ولا يرفع يديه عند السلام بل مجرد التلفظ، ولا يقف؛ بل يمضي ويسلم على أبي بكر وعمر.
والسلام لا بد أن يكون عند القبر لا من وراء البيت، كما هو الآن وسمينا ذلك زيارة مباحة ولم نقل زيارة شرعية أو مستحبة؛ لأنه ليس فيه إلا فعل ابن عمر مع خلاف غيره له، ولا يمكن أن يسمى فعل صحابي مع خلاف غيره له أنه مستحب أو شرعي بل غاية ما يقال فيه الإباحة.
وصلوا علي: صلوا: صيغة أمر والأمر يقتضي الوجوب.
والأمر: طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وهل يقصد به هنا الوجوب؟ الجمهور على أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - سنة وليست بواجب وعند الحنابلة إلا في الصلاة، كما هو اختيار المذهب، فإنها واجبة، وأما في خارجها فهي سنة. والصارف هنا هو ما مر معنا في كتاب التوحيد مثل قول ابن مسعود: من
أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه ولم يذكر الصلاة عليه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: في حديث أبي هريرة: «يا فاطمة بنت محمد ...» ولم يذكر الصلاة.
وذهب إلى الوجوب خارج الصلاة ابن بطة من الحنابلة والصحيح أن الصلاة عليه في الصلاة واجبة أما خارجها فهي سنة.
أفضل صيغة للصلاة على النبي: ما جاء في صيغة الصلاة الإبراهيمية، ويُجزئ أي صيغة وردت في السنة.
وهل يجمع بين الصلاة والتسليم في خارج الصلاة؟
الأولى الجمع؛ لأنه أكمل.
صلوا: الأصل اللغوي في الصلاة هو الدعاء.(1/106)
والمجيء عند قبر النبي للصلاة عليه فقط فهو من اتخاذه عيدًا.
فإن صلاتكم تبلغني: هنا مسائل.
ما هي وسائل بلوغ الصلاة؟
الوسيلة هي الملائكة، فهي التي تُبلغ، لحديث «إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام» والصلاة مثله، وما جاء في حديث ابن مسعود: «إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام» [رواه أحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].
مسألة: زمن العرض:
هو يوم الجمعة، كما جاء عند أبي داود بسند صحيح «فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ»، وجاء عند البيهقي من حديث أبي أمامة قال - صلى الله عليه وسلم -: «فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة» قال المنذري: إسناده حسن، وضعفه الألباني في الجامع، فدل هنا على أن الصلاة تبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم تكن عند قبره.
رواه أبو داود بسند حسن ورواته ثقات: الحديث صحيح، رواه أيضًا أحمد، وحسنه ابن تيمية، والحافظ ابن حجر.
وهل الحسن حكم أبي داود أو حكم المصنف؟
حكم المصنف أو نقله.
ثقات: جمع ثقة وهو: العدل الضابط.
وعن علي بن الحسين: هذا يسمى "زين العابدين"، وهو من علماء التابعين وأفضلهم.
رأى: أبصر.
فرجة: الكوة في الجدار، وهي أقرب ما تكون بالنافذة.
فيدخل فيها: إذا كانت كوة بمعنى النافذة، فإن الدخول لبعض الجسم إلا إذا كانت واسعة.
فيها: الظاهر أنه منها.
فيدعو: يدعو الله، وهذه صورة من صور اتخاذ قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عيدًا.
وقلنا: يدعو الله؛ لأنه الغالب في هذا الزمان لقربه بعهد النبوة.
ويدعو الله هنا؛ لأنه يعتقد أن فيه معنى من معاني التبرك.
فنهاه: نهي السلف يحمل على التحريم على قول لابن القيم.
أحدثكم: يُحتمل أنه أحدثك، أو أن يكون مخاطبًا لجماعة حالة الإنكار، أو أنه أسلوب من أساليب الدعوة.
الحديث: ما رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقدير أو صفة خَلقية أو خُلقية.(1/107)
قبري عيدًا: أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - القبر إليه وهو لم يُمت.
هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيٌ في قبره؟
نعم الأنبياء كلهم أحياء في قبورهم، لكنها حياة برزخية، كما جاء في حديث أنس عند البيهقي وأبي يعلى بسند صحيح. قال - صلى الله عليه وسلم -: «الأنبياء أحياء يُصلون في قبورهم».
تسليمكم: ذكر هنا التسليم وأخبر أنه يبلغه، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «ما من أحد يُسّلم عليّ إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه السلام». رواه البيهقي وأحمد بسند صحيح، وظاهر الحديث أنه يسمع إذا سلم عليه عند القبر.
والجمع بين الأحاديث أن نقول: إن التسليم نوعان:
1- تسليم مسموع: وهو تسليم التحية الذي يُلقى على الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند قبره، وهذا أشار إليه ابن عبد الهادي في كتابه المنكي، وهذا التسليم يسمعه الرسول ويكافئ عليه بالرد عند القبر لا من وراء الحجرة.
2- تسليم معروض: وهو كل تسليم ليس عند قبره.
أما الصلاة فلا تنقسم، ولكن لو صلى وسلم عند قبره فإن الصلاة تكون مثل السلام.
جزاء التسليم: هذا على حسب التسليم، فإن كان التسليم مسموعًا فيكافئه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرد، وأما التسليم المبلغ المعروض فجزاؤه من الله «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا».
رواه في المختارة: صاحب المختارة هو الضياء المقدسي.
قال ابن تيمية: هي أعلى رتبة من مستدرك الحاكم اختارها الضياء المقدسي فيما زاده على الصحيحين.
مسألة:
في حديث علي بن الحسين، وفيه: «وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم» وهذا فيه شيء ملفت للنظر وهو قوله (وصلوا علي) ثم قال (فإن تسليمكم) والأصل أن يقال: «وصلوا علي فإن صلاتكم» وليس تسليمكم أو يقال «وسلموا علي فإن تسليمكم» وهذا فيه إشكال والجواب:
1- إما أن يقال إن الحديث فيه حذف ويكون «وصلوا علي وسلموا فإن صلاتكم وتسليمكم يبلغني».(1/108)
2- أو يقال أصل الحديث «وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني» فحصل الخطأ فقال تسليمكم بدل صلاتكم وهذا يؤيده الحديث الذي قبله فإنه ذكر الصلاة فقط ولم يذكر التسليم.
3- أو يقال إن قوله «فإن تسليمكم» هي بحسب اللفظ تسليم ويقصد بها الصلاة لكن لما كان كثيرًا ما تقترن الصلاة بالسلام جعلت كالكلمة الواحدة.
وأقرب الاحتمالات في ذلك القول الثاني ويؤيد ذلك ما رواه سعيد بن منصور في سننه بسنده إلى الحسن بن الحسن بن علي وفيه «وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني» وأيضًا حديث أبي هريرة الذي معنا في الباب «وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني».
ولكن مع هذا الترجيح نظرًا لألفاظ الأحاديث إلا أنه يبقى إشكال وهو: كيف يُرشَد إلى الصلاة عند القبر مع أن الصلاة في كل مكان وإنما الأنسب إذا ذكر القبر أن يذكر السلام لأن السلام هو الأنسب عند القبر لا الصلاة والمعروف أنه يجاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
للسلام أصلا والصلاة تدخل تبعًا لا أنه يأتي للصلاة والسلام هو التابع فإذا نظرنا إلى هذه الحيثية كان الأولى في حديث علي بن الحسين أن يقال «وسلموا علي فإن تسليمكم يبلغني» لأن الحديث سبق لرجل جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى كل حال فأما بالنسبة للصلاة إذا جاء ذكرها لوحدها في حديث أو قدمت على السلام فهذا يدل على عدم المجيء إلى القبر، وإذا ذكر التسليم لوحده أو قدم على الصلاة فدل على المجيء إلى القبر والأخير لم يكن يفعله الصحابة لا للسلام ولا للصلاة وإنما فعله ابن عمر ربما متأولاً لأحاديث السلام ولذا كان يجيء ليسلم.
والصحيح هدي الصحابة في ترك المجيء إلى القبر فضلا عن الحجرة للسلام أو الصلاة.
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان(1/109)
وقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء: 50]، وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [المائدة: 60]، وقوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف: 21].
عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» أخرجاه، ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة وألا أسلك عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا» ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».
قال الشارح:
قوله: بعض: هذا من الاحتراز، أي ليس الكل.(1/110)
هذه الأمة: يقصد به أمة الإجابة، أما أمة الدعوة ففيها أصلاً عبادة الأوثان، لأنه يدخل فيها الكفار من اليهود والنصارى والمشركين.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «فوالذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة ثم لا يؤمن بالذي أُرسلت به إلا دخل النار» [رواه مسلم].
يعبد: يذل ويخضع.
أوثان: جمع وثن، وهنا يُعرف بالتعريف العام وهو: كل ما عبد من دون الله على أي هيئة كانت.
هدف المصنف:
أراد المصنف أن يبين أن بعض أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تقع في الشرك، لأنه يمكن للمسلم أن يشرك، ولا يكفي قول لا إله إلا الله. وأفرد المصنف هذا الهدف بباب مستقل لعدة أسباب:
1- الرد على بعض الجهال الذين يقولون إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة؛ لأنها أمة معصومة.
2- الرد على من قال إن الشرك لا يقع في جزيرة العرب.
3- الرد على من قال إن من قال لا إله إلا الله يرتفع عنه الشرك، ولا يجتمع الشرك مع قول لا إله إلا الله، ويستدلون على ذلك بحديث «إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب»، ولا شك أن هذا من الجهل.
فرد عليهم المصنف بهذه الآيات والأحاديث.
الرد على حديث «إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب» من وجهين:
الأول: أن هذا إخبار عن يأس الشيطان، ويأس الشيطان وقع في زمن مخصوص وهو لما انتشر الإسلام، فهذا إخبار عن ظن إبليس ويأسه في زمن مخصوص، فلا يبعد إذا عاد الناس إلى الشرك أن يرتفع بأسه، فالشيطان لا يعلم الغيب.
الثاني: أن الألف واللام في (المصلون) للعهد، ويقصد بهم الصحابة، فيئس من الصحابة، ولا يعني أن غيرهم يئس منهم الشيطان.
وهناك وجه ثالث: وهو أن تكون أل للعموم، فيكون يأسه في اجتماع الناس كلهم على عبادته.
الآية الأولى: قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء: 50].
ألم: للاستفهام ويقصد به التعجب.(1/111)
تر: تنظر، فالرؤيا هنا بصرية؛ لأنها تعدت بـ إلى، والنوع الثاني من الرؤية هي العلمية، ويراد به العلم.
أوتوا: أُعطوا.
نصيبًا: أي جزءًا.
من الكتاب: من: تبعيضية.
والكتاب: يقصد به التوراة والإنجيل.
يؤمنون: يصدقون ويطمئنون.
بالجبت والطاغوت: الواو عاطفة والعطف يقتضي المغايرة.
الجبت: يطلق على الصنم، وعلى الكاهن، وعلى الساحر، وعلى السحر، وعلى الشيطان، وعلى الأصنام، فيكون لفظ مشترك بين عدة معاني.
الطاغوت: أيضًا أُطلق على ما مضى، فبعض أهل العلم يرى أنه مرادف للجبت، وهذا أحد الأقوال.
الجبت عند الإطلاق يدخل فيه الطاغوت، والطاغوت إذا أُطلق دخل فيه الجبت، وأما عند الاجتماع فيفترقان فلكل منهما معنى.
الجبت لغة: الشيء الذي لا خير فيه.
وأما معناه شرعًا إذا اجتمع مع الطاغوت فمعناه: عبادة غير الله، كالشرك، أو ادّعاء ما لله وما هو من خصائصه. وتطلق على الاعتقاد، أي: ما يقوم بالقلب مما يكفر به الشخص.
وأما الطاغوت فتحمل على الشخص، فيكون هو الساحر، والكاهن، والمُطاع، والمتبع.
- فيكون الجبت: معان، والطاغوت: الأشخاص.
- عبادة غير الله: جبت، والمعبود: طاغوت.
- القوانين: جبت الحاكم بها: طاغوت.
وهذا التقريب مشتق من تعريف عمر رضي الله عنه قال: «الجبت السحر، والطاغوت الشيطان». وهذا التفريق عند الاجتماع.
مناسبة هذه الآية: هي كما أن أهل الكتاب وقع فيهم عبادة الأوثان والجبت، فسيقع في هذه الأمة مثل ما وقع في من قبلها؛ لأن هذه الأمة تتبع سنن الأمم السابقة. وقول الله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [المائدة: 60].
هل: خطاب من الرسول لأهل الكتاب لما انتقدوا على المسلمين عقيدتهم ودينهم فقالوا: إنكم أيها المسلمون أشرٌ منا، فخاطبهم - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية.(1/112)
وذكر الله سبحانه وتعالى من صفاتهم أربع صفات:
1- من لعنه الله.…………2- ومن غضب عليه.
3- جعل منهم القردة والخنازير.……4- عبد الطاغوت.
ذلك: إشارة إلى ظن أهل الكتاب.
مثوبة: جزاءً.
لعنه الله: ويقصد به هنا اليهود، فإن اليهود لعنهم الله على لسان داود، وعيسى ابن مريم، وأيضًا كما لعن أهل السبت.
ولعنة الله بمعنى: طرده عن رحمته.
غضب عليه: وهذا فيه إثبات صفة الغضب لله سبحانه وتعالى، وهي صفة فعلية تليق بجلاله. واللعن والغضب من صفات الله تعالى.
جعل منهم: هذا جعل قدري.
منهم: من: للتبعيض.
فاللعن والغضب: عام. أما المسخ فكان لبعضهم، فهو خاص بأهل السبت قال تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } [الأعراف: 163].
هل مسخهم مسخ حقيقي أو مسخ معنوي.
الصحيح أنه مسخ حقيقي وهذا قول الجمهور، وخالف مجاهد فقال: مسخ معنوي. والصحيح قول الجمهور وهو: أنهم مسخوا مسخًا حقيقيًّا، ثم ماتوا ولم يتناسلوا؛ لحديث «ما مسخ الله أمة...» عند مسلم.
وعبد الطاغوت: الواو عاطفة على من لعنهم الله، وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير.
الشاهد: عبد الطاغوت، فقد وُجد في الأمم السابقة من يعبد الطاغوت، فسيوجد في هذه الأمة.
الطاغوت: صيغة مبالغة. وهو اسم جامع لكل معبود أو متبوع أو مطاع، ونفس العبادة والسحر والكهانة طاغوت؛ لأن المعنى عام.
قوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف: 21].
غلبوا: أي قال ذلك أهل الغلبة، ويقصد به الأمراء وعلماء السوء في هذه الآية.
مسجدًا: أي موضع عبادة، وهنا الظاهر أنهم أرادوا أن يبنوا عليهم؛ لقولهم { عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف: 21] وعلى للاستعلاء.
مناسبة الآية: أنه كما بنيت المساجد على قبور الصالحين في الأمم السابقة فسيوجد في هذه الأمة من يفعل ذلك.(1/113)
حديث أبي سعيد الخدري: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» الحديث.
لتتبعن: اللام: موطئة للقسم أي: والله لتتبعن. وهذا توكيد بالقسم، وأيضًا بنون التوكيد.
سَنن: أي طريقة في الدين، وفي العادات، وفي السياسة، وفي أمور كثيرة.
من: موصولية بمعنى الذي.
قبلكم: أي قبلكم زمانًا.
حذو القذة: حذو: أي تحذون حذوهم. والقذة: هي ريش السهم.
والقذة الثانية: هي ريش السهم، ودائمًا السهم تكون في مؤخرته أرياش، وتكون مساوية تمامًا للريشة الأخرى.
فقال - صلى الله عليه وسلم - «إنكم ستكونون مثلهم تمامًا».
حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه: لو: حرف امتناع لامتناع، وهذا بيان وتمثيل لشدة المتابعة.
والحديث واضح جدًا في أن الشرك واقع في هذه الأمة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن بعضنا يتبع اليهود والنصارى تمامًا، وهم قد وقع فيهم هذا الأمر وهو عبادة الأوثان.
مسألة: مشابهة الكفار نوعان:
1- مشابهة كفرية: وهي أن نعمل عملهم في المكفّرات، كالحكم بغير ما أنزل الله ووضع القوانين.
2- مشابهة دون ذلك: وهي من الكبائر، وهو التشبه بهم فيما انفردوا فيه مما لا يُكفّر.
ما هو محل التشبيه؟
1- الدين والعقائد.
2- الزي واللباس.
3- الكلام والنطق.
4- المشي.
5- نظام السياسة والحكم.
مسألة: حكم العمل الذي يعمله الكفار ولم ينفردوا به؟
إذا لم ينفردوا به ويفعله كل الناس فليس من التشبه.
مسألة: هل يزول التشبه بالتفشي؟
1- من العلماء من قال التشبه يزول بالتفشي.
2- ومنهم من قال لا يزول. وهو أقرب.
قال فمن: أي فمن القوم إلا هم.
أخرجاه: أي البخاري ومسلم.
حديث ثوبان:
زُوي: بمعنى جُمع. وهل هو جمع صوري أو حقيقي؟
هو جمع حقيقي، وهذا أولى بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُحمل على الحقيقة.
أما متى زُوي وكيف؟ فالله أعلم.
الأرض: هل هي كل الأرض أم بعضها؟(1/114)
الظاهر أنه الثاني، فزُوي له ما سوف تحكمه وتملكه أمته.
فرأيت: رؤية حقيقية.
مشارقها ومغاربها: هنا لم يذكر الجنوب ولا الشمال.
وإن أمتي: أي أمة الإجابة.
منها: تبعيضية، وهذا دليل على أن ما زُوي له - صلى الله عليه وسلم - بعض الأرض، وهو ملك أمته.
الأحمر: الذهب، واشتهر عند الروم.
الأبيض: الفضة، واشتهر عند الفرس.
وهذا دليل أنه سوف يملك أرض الفرس والروم، وهذا حصل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - المشرق والمغرب؛ لأن أمته توسعت شرقًا وغربًا ما لم تتوسعه شمالاً وجنوبًا.
سألت ربي: سأل ربه سؤالين.
لأمتي: أمة الإجابة.
ألا يُهلكها: هذا هو السؤال الأول، فسأل الله عدم الهلاك العام.
ألا يُسلط: هذا السؤال الثاني، فسأل الله ألا يُسلط عليهم عدوًا.
من سوى أنفسهم: أي من خارجهم وهم الكفار.
بيضتهم: بيضة القوم أصلهم. ومعناه: فيستبح جميع الناس.
يا محمد: هذا من الله عز وجل، أما من غير الله فلا يجوز أن تقول يا محمد خطابًا له، قال تعالى: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور: 63].
إذا قضيت قضاءً: هذا هو القضاء القدري الكوني.
والقضاء نوعان:-
1- قضاء قدري كوني، مثل هذا.
2- قضاء شرعي، مثل قوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء: 23].
لا يرد: هذه صفة القضاء القدري، أما القضاء الشرعي فقد يقع وقد لا يقع.
القضاء القدري: علم الله بالشيء، وكتابته، ومشيئته، وخلقه له.
والله سبحانه وتعالى أجاب سؤالاً واحدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عدم الإهلاك العام.
أما السؤال الثاني فإن الله أجابه بشرط:
فالله أعطاه أن لا يُسلط عليهم عدوًا في زمن الاجتماع، أما إذا تفرقوا وقاتل بعضهم بعضًا، فإن الله يُسلط عليهم الكفار.(1/115)
فسلط الله عليهم فيما مضى التتار لما افترقوا، وسلط عليهم الاستعمار لما افترقوا، وسلط عليهم الآن النظام العالمي الجديد.
الإمام: يقصد به من يُقتدى به.
المضلين: جمع "مضل"، وهو أبلغ من الضال؛ لأنه ضال في نفسه مُضل لغيره. فهنا يقصد به ثلاثة:
1- الأمير الضال المضل.…2- العالم الضال المضل.…3- العابد الضال المضل.
وقع عليهم السيف: وقع في زمن عثمان، ثم تطور في عهد علي، ثم تطور في عهد معاوية، ثم انفتح الباب.
الساعة: أل للعهد، ويقصد بها الساعة العامة، وهي التي تسبق القيامة، والساعة الخاصة هي موت الإنسان.
يلحق حي من أمتي: هذه أمة الإجابة، فبعض هذه الأمة يقع فيها الشرك.
تعبد فئام: تخضع وتذل طوائف من أمتي للأوثان.
وهذا الحديث أشد مطابقة للترجمة من غيره.
كذّابون: صيغة مبالغة. والكذب: الإخبار بخلاف الواقع.
ثلاثون: هم كل من كان له شوكة وأتباع، وإلا فالكذابون كثير الذين ادعوا النبوة، ولكن ليست لهم شوكة.
طائفة: جماعة.
أمتي: الإجابة.
على: للاستعلاء.
منصورة: صفة للطائفة.
لا يضرهم: ضرر عقيدة لا ضرر بدن وأيضًا لا يضرهم ضرر استئصال.
من خذلهم: هذا يدل أن لهم خاذل.
من خالفهم: هذا يدل أن لهم مخالف.
باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة: 102] وقوله: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء: 51].
قال عمر: (الجبت): السحر، (والطاغوت): الشيطان. وقال جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».(1/116)
وعن جندب مرفوعًا: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
وفي (صحيح البخاري) عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصح عن حفصة رضي الله عنها: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت، وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف السحر.
السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، ولذا سمي آخر الليل سحرًا لأنه خفي. وتسمى الرئة سحرًا لأنها خفية.
التعريف الشرعي: فالسحر هو رُقى، وعزائم، وتعاويذ، وأدوية، وعقاقير تؤثر على القلب والبدن بإذن الله.
الشرح: تؤثر في القلب، أي: في الحب والبغض، فيحب ما كان يبغضه، ويبغض ما كان يحبه.
وعلى البدن: بالمرض والضعف ومن البدن البصر والسمع والقوى (جمع قوة).
وقولنا بإذن الله: يقصد به الإذن القدري.
والإذن ينقسم إلى قسمين:
إذن قدري كوني: وهو هذا، قال تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة: 102].
إذن شرعي: وهذا هو المتعلق بمحبة الله، فهو الذي يحبه، قال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [الحج: 39].
وقولنا: عزائم ورقى: لما جاء في الحديث الذي رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر».
وقولنا: يؤثر: لقوله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ } [البقرة: 102] وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66].
وسمي الساحر بهذا الاسم: لأنه يعمل أشياء خفية وأسبابًا خفية تؤثر.
المسألة الثانية: أنواع السحر:
أنواع السحر تختلف باختلاف الاعتبارات.
القسم الأول: باعتبار الوسائل وعمل الساحر تنقسم إلى قسمين:
1- سحر الطلاسم، وبالعقد، وبالرقى، وبالتعاويذ.
الطلاسم: الكتابة المبهمة.(1/117)
الرقى: الكلمات مع النفث.
التعاويذ: بأن يذكر أسماء جن.
2- سحر بالأدوية والعقاقير: وهو أن يستخدم أدوية معينة تكون سببًا في سحر هذا الرجل.
القسم الثاني: باعتبار المحل والمكان ينقسم إلى خمسة أقسام:
1- على القلب: وذلك بالحب والبغض، وما يسمى بالصرف والعطف.
2- سحر البدن: وذلك بإضعافه شيئًا فشيئًا حتى يهلك، أو إمراضه حتى تختل صحته.
3- سحر الدماغ: وهو ما يؤدي إلى تصور أشياء على غير حقيقتها، ومنه المجنون والمعتوه.
4- سحر على الشهوة: وذلك بتبريدها أو تأججها.
5- سحر العين: وهو أن يُخيل إليه الأشياء على خلاف ما هي عليه، قال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66].
القسم الثالث: باعتبار المسحور إلى قسمين:
1- سحر حقيقي: وهو ما يؤثر على القلب والعقل، قال تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة: 102]، وقال تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } [البقرة: 102].
2- سحر تخييلي: بأن يُخيل إليه أشياء، وهذا ليس له حقيقة، وهو سحر سحرة فرعون، قال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66].
المسألة الثالثة: حكم السحر:
أما حكم السحر فهو كفر أكبر يدل عليه الآية الأولى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة: 102] وقوله: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [البقرة: 102] فإذا كان المعلم للسحر كافر فما تعلمه فهو كفر. قال تعالى: { حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } [البقرة: 102] ويدل عليه أيضًا الآية الثانية { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء: 50].
وهذا الذي قلنا بأنه كفر: هو سحر الرقى والتعاويذ، والطلاسم أي السحر الشيطاني.(1/118)
وأما سحر الأدوية والعقاقير فإنه وقع الخلاف في حكمه:
فالقول الأول: على أنه كفر؛ لعموم الأدلة التي ذكرناها قبل، ونزيد هنا حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات فذكر السحر».
الثاني: وذهبت الشافعية والحنابلة إلى أنه ليس بكفر مخرج من الدين؛ لأنه ليس فيه استخدام للشياطين. والأقرب الأول. لأن سحر سحرة فرعون كان بالشعوذة حيث
استغلوا خاصية الزئبق وحشوا العصى به فكانت تتحرك لذلك. وقد ذكره ابن كثير والقرطبي والشوكاني وصديق خان في تفاسيرهم. وابن حزم في الفصل (5/6)، كل أولئك من المفسرين ذكروا أن سحر سحرة فرعون بالشعوذة وليس بالشياطين حيث استغلوا خاصية الزئبق. وخالف ابن القيم فقال سحر سحرة فرعون سحر شيطاني.
المسألة الرابعة: حكم الساحر:
حكم الساحر يجري فيه الخلاف السابق:
1- فالقول الأول: على أنه كافر للآية الأولى والثانية. والسحر الشيطان كفر وفاعله كافر، أما سحر العقاقير فيأتي بعد قليل.
2- وقول الشافعية والحنابلة بالفرق، فإن كان سحره سحر بالطلاسم والرقى كفر، وإن كان سحره أدوية فلا يكفر.
والأقرب: أن الساحر سحر شيطاني كافر. أما سحر الأدوية والشعوذة والعجائب ففيه تفصيل وهو من المسائل الخفية. فلا بد من إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
حكم تعلم السحر الشيطاني؟
حكم تعلمه: كفر، قال تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } [البقرة: 102]، وقال تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [البقرة: 105]. فتعلمه وتعليمه كله كفر وكذلك استعماله.
ما حكم سحر الشعوذة والعجائب الذي ليس من الشياطين؟
الجواب: حكم تعلمه وتعليمه واستعماله كفر لكنه من المسائل الخفية فيقال تعلمه واستعماله كفر أما المتعلم والمستعمل فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة وتزول الشبهة.(1/119)
المسألة الخامسة: مذهب أهل السنة والجماعة في السحر:
يثبتون السحر بنوعيه: …1- السحر الحقيق.…2- السحر التخييلي.
وأن السحر يؤثر كما قال تعالى في كتابه، فأثبت أنه يفرق، ويضر، ويثبتون سحر التخييل لكنه لا يقلب الحقائق، فالعصا تُرى في العين أنها حية ولكن في الواقع والحقيقة أنها عصا.
وأما المعتزلة: فينكرون السحر، ولا يثبتون له حقيقة، وإنما هو تخييل للآية { يُخيل إليه
من سحرهم أنها تسعى } [طه: 66] ويرد عليهم بأن ما أثبتوه هو أحد نوعي السحر.
المسألة السادسة: كيف يعمل الساحر – وهو بشرٌ – هذه الأعمال التي ليست بمقدور البشر؟ فالسحر عمل من؟ هل هو عمل الساحر أو عمل الشيطان؟
نقول: السحر هو من الساحر ابتداءً، ومن الشيطان العمل والتنفيذ، فيكون العمل المؤثر تخييل الحقائق إنما هو من الشيطان، فالشيطان هو الذي يدخل في الإنسان ويبرد شهوته مثلاً، أو يقبح وجه امرأته في عينيه.
وكذلك الجني يدخل في الإنسان، ولا تقل كيف يدخل، فإن هذا له نظير؛ كما أن الماء يجري في الأغصان ولا يرى فكذلك.
المسألة السابعة: حكم إتيان السحر:
هذا فيه تفصيل لأنه على أحوال، وكل حالة لها حكم:
الأولى: أن يأتي إليه وهو يعتقد أنه يعلم الغيب، أو يسأله عن المغيبات، فهذا كفر أكبر لقوه تعالى: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65]. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد» رواه الأربعة. والساحر حكمه حكم الكاهن وحكم العراف.(1/120)
الثانية: أن يذهب وينفذ ما قال وما طُلب منه من الذبح لغير الله أو الاستغاثة بالجن، فهذا كفر أكبر أيضًا قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18]، وقال: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون: 117].
الثالثة: أن يأتي إليه ولا يعتقد علمه بالغيب ولا طاعته في الشرك، وإنما يأتي إليه لحل سحر فيه. وهذا بشرط: 1- ألا يصدقه بغيب.
2- ولا يذبح أو يستغيث بغير الله أو أي شرك.
3- وأن يعتقد بطلان السحر والسحرة ويكفر بهم.
وإنما أتى إليه ضرورة لحل السحر.
وهذا وقع فيه خلاف: فالمذهب يرون أنه يجوز ضرورة، ولكن هذا القول في غاية الضعف؛ بل إنه لا يجوز، وأي ضرورة تُحل مثل هذا؟ والصحيح أن هذا لا يجوز؛ بل
هو حرام ومن المهلكات، ولكن لا نقول بأنه يكفر كفرًا يخرجه من الدين لوجود الخلاف.
الرابعة: أن يأتي لمجرد الفرجة والترفه وهو لا يصدقهم بالغيب ولا يذبح أو يفعل شركًا، ويعتقد بطلان السحر والسحرة، ولكن من باب الترفه والفرجة، فهذا يعتبر حرامًا ومن كبائر الذنوب، ويدل عليه حديث حفصة عند مسلم أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى عرافًا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين».
ولحديث أبي هريرة حديث الباب «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها "السحر" ومثل ذلك حضور ما يسمى بالألعاب البهلوانية، والحضور عند السحرة للفرجة كل هذا من هذا الباب.
المسألة الثامنة: ما هي العلاقة بين الساحر والجني؟
هي علاقة معاوضة وعبودية، فهي من الساحر استغاثة وتذلل وخضوع، ومقابل ذلك يقوم الجني بعمل شيء من الخدمات لهذا الساحر، فهو إذن اتفاق وعقد بين طرفين، من الأول: العبادة، ومن الثاني: التسلط والتنفيذ.
المسألة التاسعة: هل سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟(1/121)
الجواب: نعم، كما جاء في البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.
ومن سحره؟ سحره رجل يهودي اسمه لبيد.
كيف سحره وهو رسول؟
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر كبقية البشر تعتريه الأمراض وهذا منها، علمًا بأن السحر لم يؤثر على رسالته ولا تبليغه؛ بل أثر على حياته الزوجية نوعًا ما، فكان يُخيل إليه أنه أتى الشيء ولم يأته، وما علم به إلا أقرب الناس إليه وأخصهم به زوجته عائشة.
ما هي الطريقة التي سحر بها لبيد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
الطريقة: أخذ لبيد شعرة من رأسه هو وأسنان من المشط مع وتر معقود، وعقده باثني عشرة عقدة ووضعه في بئر.
كيف انجلى السحر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
حينما شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأعراض في جسمه كان يكثر من الدعاء، كما ذكرت عائشة في البخاري، وهذه هي أول خطوات المسحور، وهي اللجوء إلى الله سبحانه، ثم بعد
ذلك أطلعه الله على السحر ومن سحره، بواسطة ملكين سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديثهما.
أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يستخرج السحر ويكسره فبطل السحر.
المسألة العاشرة: ما الحكم لو تعلم السحر من أجل أن يتقيه؟
هذا حرام ولا يجوز، فإن كان في أثناء تعليمه شرك أو كفر فقد كفر.
المسألة الحادية عشرة: ما حكم تعلم ما يسمى بالكيمياء؟
الكيمياء قديمًا لها معنى يختلف معناها في العصر الحديث، وقديمًا كانت عبارة عن علم تمويه ودجل أشبه بالسحر، ولذلك تكلموا عليها العلماء فحرموا الاشتغال بهذا العلم.
أما في الوقت الحاضر فهو معرفة مكونات بعض العناصر، وهو يختلف عن المعنى القديم لكن تعلم الكيمياء المعاصر اليوم ومثله الأحياء والجلوجيا وغيره من العلوم الدنيوية على أحوال:(1/122)
1- إن كان فيها شيء يخالف الشريعة وهو كفر مثل أن يقول إن الشمس ثابتة ولا تجري أو أن الأرض والشمس تكونت عبر ملايين السنين وأمثال ذلك، فهذا يحرم تعلمه ومن رضي به أو صدقه ينبه ويعلم فإن لم يقبل كفر؛ لأنه مكذب للقرآن.
2- أن يكون فيها شيء من المحرمات دون الكفر فهذه تعلمها محرم، أما تعلم لغة غير المسلمين لعموم المسلمين فهذا لا يجوز ولها مفاسد ومضار، وإنما هي من دروس التخصص التي ينتدب لها فئة صالحة.
3- ألا يكون فيها شيء يخالف الشريعة فهذا يجوز تعلمه لطائفة من المسلمين، أما أن يعلم جميع الطلاب وفي كل المراحل لهذه المواد الدنيوية فهذه طريقة جاهلية علمانية مخالفة للشرع وهذا الحكم عام في جميع العلوم الدنيوية، فإن إطلاق تعلمها على جميع أبناء المسلمين لكل من دخل مرحلة الثانوية مثلاً فهذه طريقة علمانية.
وإنما الطريقة الإسلامية في العلوم الدنيوية ألا تفرض على جميع أبناء المسلمين لا في المرحلة المتوسطة ولا الثانوية وإنما ينتدب لها أناس مخصوصون باختيار الإمام أو العلماء على قدر الحاجة وعلى قدر حاجة ونفع المسلمين يتعلمون هذه العلوم الدنيوية بعد أن يكونوا قد أتقنوا العلوم الشرعية، هذا بالنسبة للرجل، أما بالنسبة للنساء فلا حاجة لمثل
هذه العلوم إنما هذه طريقة بني علمان ومن قلدهم الذين يريدون للمرأة الفساد والإفساد لتعلمها علوما لا تحتاجها.(1/123)
وإنما الطريقة الإسلامية في التعليم أن تكون المرحلة الابتدائية والمتوسطة وهي ما بعد التمييز من بعد السنة السابعة إلى البلوغ فهذه يكون التدريس فيها للعلوم الشرعية من التوحيد والفقه والتفسير والحديث والقرآن وعلومه واللغة والحساب وأمثال ذلك من علوم الآلة المتممة للعلوم الشرعية، وتكون نسبة مواد الآلة 30% ونسبة 70% علوم شرعية، وهذا للرجال والنساء في مدارس غير مختلطة، وتزيد النساء دراسة الخياطة والطبخ وما تحتاجه في البيت وما يتعلق بالأمومة ثم بعد البلوغ تنتهي دراسة البنات وتعود إلى بيتها إلا بعض النساء تؤهل بطريقة شرعية لكي تدرس بني جنسها، وأما الرجال فينتخب منهم الصالح والمؤهل فيدرس ما يحتاجه المسلمون في العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والميكانيكا وصناعة الأسلحة والصناعات والاختراعات، بشرط تنقيتها مما يخالف الشرع، وبقية الطلاب في الأعمال الحرة والتجارة وجزء لأعمال الدولة المسلمة لخدمة المسلمين، وقسم يؤهل لتدريس أبناء المسلمين وقسم يتفرغ ويعد للجهاد في سبيل الله.
علمًا بأن الطريقة الإسلامية في الإشراف على التعليم عمومًا للمرأة والرجل يكون بيد العلماء ولا دخل للمفسدين والعلمانيين فيه.
والقاعدة في ذلك أن كل المواد الدنيوية غير المواد الشرعية أو ما كان متمما لها كل هذه المواد الدنيوية هي مواد تخصص لا تُفرض على جميع أبناء المسلمين، إنما يتخصص فيها طائفة منتخبة بعد إنهاء الدراسة الشرعية.
أما التعليم السائد اليوم فهو على الطريقة الغربية الاستعمارية، فلا نفع فيه إنما يُخرج الطالب قليل الدين أو عادمه، معظمًا للغرب وللعلمانيين، يُعدّ للدنيا فقط، مزاحمًا للمواد الشرعية بل مفضلاً عليها.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: وقول الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة: 102].(1/124)
علموا: تعود على اليهود، وهذا يدل على أنهم علموا بتحريم السحر، فهذا فيه
التعنت والتكبر.
اشتراه: أي السحر.
وقوله: "اشتراه" قرينة واضحة في الرضى والمحبة، وهذا يفيد اعتقادهم، وأنهم راضون بالسحر والسحرة لكن الحكم معلق بالفعل لا بالاعتقاد.
ماله في الآخرة من خلاق: المنفي هنا مطلق النصيب، وهذا دليل على كفر من اعتقد السحر أو رغب فيه أو رضي به أو فعله، والمؤمن ولو كان عاصيًا فله في الآخرة نصيب، وهذا فيه دليل على أن الرضى بالسحر كفر ومثله فعله.
وقوله: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء: 30].
يؤمنون: الإيمان: التصديق، وهو ليس تصديقًا مجردًا؛ بل مقرونًا بالاطمئنان، فيصدقون ويطمئنون.
والواو في { يُؤْمِنُونَ } تعود على اليهود.
بالجبت والطاغوت: أي بالسحر وبالساحر.
وقال عمر: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان".
هذا يعتبر موقوفًا، لأنه قول صحابي، وهنا عمر فسر الجبت بالسحر، وهذا تعريف بالمثال أو تفسير الشيء ببعض أفراده. وهذه أحد الأقوال في تفسير الجبت.
والطاغوت: الشيطان: وهذا احد الأقوال في تفسير الطاغوت.
الشيطان: الألف واللام تدل على العموم، فكل متشيطن بما يكفر به فهو طاغوت من الإنس ومن الجن.
وقال جابر: «الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد».
الكاهن: سيأتي بباب مستقل. وهو الذي يخبر بالمغيبات أو ما في الضمير. الشيطان: الألف واللام للعهد، ويقصد به شيطان الكاهن.
ينزل عليه: نزول تعليم وإخبار.
في كل حي: أي قبيلة.
وفسر جابر الطاغوت بالكاهن، وهو أحد الأقوال في تفسير الطاغوت.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات».
اجتنبوا: أي ابتعدوا بمعنى: أن تكونوا في جانب، وهذه الأمور في جانب.
السبع: هذا ليس للحصر، فالموبقات أكثر من سبع، ولكن من باب التعليم، لذا فمن السنة تقريب العلوم والأشياء بالتقسيم والتوضيح.(1/125)
اجتنبوا: أمر، والأمر يدل على الوجوب.
الموبقات: المهلكات.
والهلاك في هذا الحديث على قسمين:
1- الهلاك المطلق: وهو الإتيان بمكفر، وهو في هذا الحديث يشمل الأول والثاني: الشرك والسحر.
2- مطلق الهلاك: وهو الإتيان بكبيرة، وهي الخمس الباقية. والهلاك في هذا الحديث إما أن يهلك إيمان العبد كله فلا يبقى معه شيء من الإيمان، وإما أن يكون هلاك يجتمع معه أصل الإيمان، ولكنه يهلك كمال الإيمان الواجب، وهو في الخمسة الباقية.
الشرك بالله: أن تجعل له ندًا.
وهل يشمل هذا الشرك الأكبر أو الأصغر؟
يشمل الجميع، ولكن مع الشرك الأصغر لا يهلك الإيمان كله؛ وإنما يهلك كماله الواجب.
الله: الخالق المعبود.
السحر: الألف واللام للعموم، وهذا على أحد الأقوال أي: جميع أنواع السحر.
قتل النفس التي حرم الله: التي حرم الله صفة للنفس، فأصبحت اللام في النفس للعهد.
والأنفس المعصومة أربعة هي:
1- نفس المؤمن.…………2- نفس المستأمن.
3- نفس الذمي.…………4- نفس المعاهد.
خرج به: الحربي، والمرتد، والناقض للعهد أو الأمان.
إلا بالحق: أي إلا أن يوجد سبب شرعي يوجب القتل، والأسباب التي توجب
القتل مثل:
الزنا للمحصن، ومن قتل نفسًا معصومة والردة والنقض للعهد وأمثال ذلك.
الربا: هو الزيادة بأموال مخصوصة أو النسأ فيها – أي التأخير -، والربا من كبائر الذنوب، ولعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه خمسة:
1- الأكل.…2- الموكل.…3- الكاتب.…4- 5- الشاهدان.
وأكل الربا باعتبار الغالب، وإلا فعلى المذهب حتى المائعات يحدث فيها الربا، فالمائعات مكيلة.
"توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمد، واغتسل بالصاع" فهذا الحديث يدل على أن المائعات تُكال.
أكل مال اليتيم: هذا هو المهلك الخامس.
اليتيم: هو من مات أبوه ولم يبلغ. ولا تدخل الأم، ففاقد الأم لا يسمى يتيمًا.
وأكل مال اليتيم من كبائر الذنوب.
التولي: هو الهروب.
يوم الزحف: وقت المعركة.(1/126)
فإنه من الموبقات؛ إلا ما استثنى:
1- مُتحرفًا لقتال.……2- متحيزًا إلى فئة.
قذف المحصنات:
القذف: هو رمي الإنسان بالزنى أو اللواط بألفاظ مخصوصة.
المحصنات: هي الحرائر، وأما الأمة فلا يسمى قذفًا، وفيه التعزير.
المؤمنات: أخرج الكافرات، فلو قذفت لم يعتبر قذفًا شرعيًا، وفيه التعزير فقط في الذمية.
الغافلات: أي عن الزنى.
والحديث متفق عليه.
وعن جندب مرفوعًا "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الترمذي، وقال الصحيح أنه موقوف.
جندب: هو ابن كعب، وهو غير جندب البجلي، قاله الحافظ ابن حجر.
هنا الرفع حقيقي، أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
حد الساحر: حد الشيء: منتهاه، ويقصد به هنا العقوبة.
هذا ما استدل به الشافعية حيث قالوا: "حد الساحر"، ولا يلزم من الحد الكفر.
المسألة الثانية عشرة: وعقوبته هذه هل هي من باب الردة أو من باب الحد؟
المسألة خلافية على قولين:
1- أنه يقتل حدًا.……2- أنه يقتل ردة.
ونقول إن كان سحره سحر الشياطين فهذا يقتل ردة بالإجماع،وإن كان سحره ليس عن طريق الشياطين ففيه الخلاف السابق، والراجح أن يقتل ردة.
والفرق بينهما أنه إن قلنا يقتل ردة فلا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإن قلنا حدًا صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين.
المسألة الثالثة عشرة: هل يجب قتله؟
وذهب بعض أهل العلم أن للإمام قتله، ولكنه لا يجب، فإن رأى قتله قَتَله، وإن تركه فله ذلك. استدلوا:
1- بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل لبيدًا.
2- بأن سحرة فرعون لم يُذكر أنهم قُتلوا.
والأقرب أنه يقتل.
وأما سحرة فرعون، فإن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه ثم هم تابوا.
وأما لبيد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري: «إني كرهت أن أثير على الناس شرًا» فإما أن يقال: أن العقوبة قبل نزول الحكم، أو أنه حق للشخص كالقذف وله أن يسقطه.
المسألة الرابعة عشرة: هل يستتاب الساحر؟(1/127)
ظاهر حديث جندب وفعل عمر أن الساحر لا يستتاب؛ بل يُقتل بمجرد سحره، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه»، ولأن شره عظيم، ولأنه قد يُخفي سحره ويتوب خوفًا، فلا يدرأ سحره التوبةُ، وهذا بعد وصول أمره إلى السلطان.
والصحيح أنه موقوف، والحديث فيه إسماعيل بن موسى.
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال فقتلنا ثلاث سواحر».
أن اقتلوا: ظاهره عدم الاستتابة، وهنا الظاهر أن قتله كفرًا لا حدًا.
وصح عن حفصة أنها «أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت» كذا قال المصنف، والحديث رواه مالك وهو منقطع.
جارية لها: اللام للملك.
وكذا صح عن جندب: وهو الحديث الذي مرّ علينا.
قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إن تاب الساحر قبل أن يقدر عليه فتقبل توبته، لقوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } والدليل القياس.
المسألة الخامسة عشرة:
الألعاب البهلوانية من السحر التخييلي، من جنس سحر سحرة فرعون، كالذي يطعن نفسه بخنجر من باب الحيلة أو يدخل النار وقد دهن جسمه بعازل أو يقف على عصى صغير وأمثال ذلك، كل هذا من الشعوذة.
المسألة السادسة عشرة: ما يتعلق بهاروت وماروت:
لقوله تعالى: { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [البقرة: 102] وهاروت وماروت الصحيح أنهما ملكان أنزلهما الله عز وجل لامتحان عباده، ففعلا ما أمرا به وكلفا به امتحانًا للعباد. ولله أن يمتحن عباده بما شاء وكيف شاء، أما ما قيل أنهما ملكان مُسخا وغيرها من الأكاذيب، كما جاء في كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور" للسمرقندي؛ فهو باطل.
المسألة السابعة عشرة: علامات يُعرف فيها الساحر:(1/128)
يُعرف الساحر بأنه أحيانًا يدعي معرفة الأمراض بغير أسبابها المعتادة، وأحيانًا يطلب أشياء من المريض كبعض ملابسه أو شعره، وأحيانًا يسأل عن اسم أم المريض، وسبب سؤاله عن الأم لأن الساحر والشيطان منكوسي الفطرة فيعرفون الشخص بأمه.
المسألة الثامنة عشرة: من الذي يتولى عقاب الساحر؟
الذي يتولى ذلك الحاكم والعلماء ومن بيده سلطة التنفيذ وإن كان الحاكم أعرض عن ذلك أو كان ضعيفًا فعلى العلماء وأهل الشوكة أن يقيموا الحدود وقد مرت علينا هذه المسألة، ويجب على الرعية الإبلاغ عن المشعوذين والسحرة.
المسألة التاسعة عشرة:
إذا ثبت أنه قتل بسحره نفسًا معصومة حكمه يقتل. ذكرت هذه المسألة في زاد المستقنع باب الجنايات، فاجتمع فيه موجبان:
1- موجب القصاص.………2- موجب الردة.
حكم ما يفعله بعض الناس من الاجتماع على رجل ورفعه بأصابعهم؟
هذا إن كان من يفعله يستعين بالشياطين فإنه سحر، وأما إن كانوا لا يستعينون بالشياطين إن صح ذلك فهو محرم؛ لأنه تشبه بفعل السحرة، وسدًا للذريعة.
باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن ابن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت».
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض والجبت، قال: الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» [رواه أبو داود] وإسناده صحيح.
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه».(1/129)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس» [رواه مسلم]. ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من البيان لسحرًا».
قال الشارح:
أراد المصنف أن يذكر هنا شيئًا من أنواع السحر، فذكر هنا ستة أنواع من أنواع السحر، والمصنف لم يُرِد الاستيعاب فقال: بيان شيء.
وهي من أنواع السحر إما أكبر أو عملاً، فهو إما سحر أكبر مخرج من الملة، أو سحر عملي قد يخرج من الملة وقد لا يخرج من الملة.
قال المصنف: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت»:
ذكره للسند هنا على غير عادته، ويمكن أن يُقال أنه أراد أن يُحكم القارئ على السند من خلال معرفة الرجال، ولكي يخرج من العهدة.
والمصنف قال في آخره: وإسناده جيد.
تخريج الحديث: قال المصنف إسناده جيد، والأقرب أنه حكم على الحديث، والحديث حسنه النووي، وذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفه؛ بسب الاضطراب في شيخ عوف.
إن العيافة: كما قال عوف هي: زجر الطير، ومعناه: أي أنهم يرسلون الطير إذا أراد أحدهم سفرًا أو زواجًا أو تجارة، فيطير الطير، فإن اتجه في طيرانه جهة اليمين فإنهم يتفاءلون، ويمضي في السفر أو الزواج أو التجارة، وإن اتجه جهة الشمال فإنهم يتركون السفر.
وتعريفها اللغوي: مصدر من عاف يعيف. وشرعًا: التطير بالطيور وبالطيور خاصة؛ لأنه سوف يأتينا عطف الطيرة على العيافة.
والطرق: هو كما قال عوف: الخط يخط بالأرض، فيأتون إلى الرمال يستفتونه في السفر أو التجارة.
وطريقته: أنه يخط في الأرض خطوطًا بسرعة غير معروفة العدد، ثم يبدأ بمحو هذه الخطوط على خطين خطين، فإن لم يبق إلا خط واحد فإنه يتشاءم ويترك السفر والتجارة، وإن بقي خطان فإنه يتفاءل ويمضي.(1/130)
وأحيانًا يستعمل الحجارة بدل الخطوط، أو الأوراق، فيدخل فيه أي وسيلة تستخدم لمعرفة المستقبل.
والطيرة: الواو عاطفة، والعطف يقتضي المغايرة، فلا بد إذًا من التفريق بين الطيرة والعيافة.
فإذا قلنا: إن العيافة هي التطير بالطيور، فالطيرة هي التطير بالمسموعات والمعلومات والمرئيات غير الطيور.
المسموعات: أنه يُريد سفرًا، فيسمع رجلاً يقول: يا خاسر! فيرجع.
المرئيات: كأن يقابله رجل أعرج أو مشلول أول ما يخرج لطلب الرزق، فيتشاءم
ويرجع.
المعلوم: كالتشاؤم بالشهور.
من الجبت: من تبعيضية. والجبت: اسم جامع لكل معبود أو متبوع أو مطاع، فهو بمعنى الطاغوت عند الإطلاق، ويُراد به هنا السحر.
وفي هذا الحديث ذكر المصنف ثلاثة أنواع من أنواع السحر.
1- العيافة.…2- الطرق.…3- الطيرة.
ما وجه كونها من السحر؟
وجه كونها من السحر؛ لأنها دجل وشعوذة وليس لها حقيقة، وكذلك السحر دجل وشعوذة، فاجتمعا في باب الدجل والشعوذة، ولأنه تعلق بأمور خفية، والسحر كذلك.
وقوله: الخط يخط بالأرض: هذا على وجه الكهانة، وليس كل خط بالأرض من السحر، وإنما هو ما كان على هذا الوجه، وإلا فلو خط في الأرض للتعليم أو لغير ذلك جاز.
قال الحسن: هو الحسن البصري من أئمة التابعين وعلمائهم، وهذا القول مقطوع: وهو قول التابعي.
رنة الشيطان: قال بعض الشراح إن هذه الكلمة فيها تصحيف. وصحة الكلمة "إنه الشيطان" فيكون الحسن قد فسر الجبت بالشيطان. لكن الذي مشى عليه صاحب تيسير العزيز الحميد وصاحب فتح المجيد على كلمة "رنة" فقط.
ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه: أي أنهم لم يذكروا تفسير عوف؛ بل ذكروا الحديث.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» [رواه أبو داود، وإسناده صحيح].
من: شرطية، وهي عامة باعتبار المعنى، فتشمل كل من اقتبس سواءً كان مسلمًا أم كافرًا.(1/131)
اقتبس: أي تعلم.
شعبة: قطعة أو طائفة.
من النجوم: يقصد به علم النجوم أي من علمه، ويقصد به أيضًا ما يسمى بـ"علم التأثير" وهو: الاستدلال بالنجوم وسيرها على الحوادث الأرضية من قحط وزلازل ونصر وهزيمة.
وأما تعلم النجوم لمعرفة القبلة والزمان وأوقات الزرع ونحو ذلك، فهذا يسمى علم التسيير، وهذا أجازه أحمد وإسحاق، واستدلوا بقوله تعالى: { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل: 16].
فقد اقتبس: هذا جواب الشرط.
زاد ما زاد: أي كلما زاد في التعلم زاد في السحر.
وهنا ذكر المصنف النوع الرابع من أنواع السحر وهو التنجيم.
ووجه كونه من السحر: لأنه من التمويه والدجل، وكذلك السحر.
رواه أبو داود بإسناد صحيح: وقد صححه النووي والذهبي.
ولأن التنجيم استدلال بأشياء خفية، والسحر كذلك.
وللنسائي من حديث أبي هريرة «من عقد عقدة، ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وُكل إليه».
هذا الحديث وقع الخلاف في تصحيحه، فذكر بعض أهل العلم أنه ضعيف، وجاء عن المنذري أن الحديث فيه انقطاع، وحسن الحديث ابن مفلح في الآداب.
عقد: بمعنى لفَّ.
عقدة ثم: ثم للترتيب.
والحديث صوّرَ صورة من صور السحر.
وطريقته: أن يعقد عقُدة ثم ينفث، ثم يعقد عقدة أخرى ثم ينفث، وهكذا فيجعلون النفث بعد العقد، ومع النفث يستغيث ويدعو الجني ويذكر ما يريده من الضرر بالمسحور.
فقد سحر: جواب الشرط.
أشرك: أي شركًا أكبر؛ لأن سحر النفث والرقى والتعاويذ من الشرك الأكبر.
وهنا ذكر المصنف النوع الخامس من أنواع السحر وهو: سحر العقد والتعاويذ.
ومن تعلق شيئًا: التعلق إما أن يكون تعلق القلب أو تعلق العمل.
وشيئًا: نكرة في سياق الشرط، فتعم أي تعلق.
وُكل إليه: فإن تعلق قلبه بالله فقد فاز، وأما إن تعلق قلبه بغير الله فإن مآله ومصيره الخسران.(1/132)
وعن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس» [رواه مسلم].
ألا: حرف تنبيه وإثارة.
أنبئكم: بمعنى أخبركم.
العضة: بسكون الضاد.
وهي تطلق على السحر والكذب والبهتان، ثم فسرها فقال - صلى الله عليه وسلم - «هي النميمة» والنميمة: هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد.
القالة: الفاشية بين الناس، والألف واللام في الناس للعموم "المسلم والكافر".
وهنا ذكر المصنف النوع السادس من أنواع السحر وهو النميمة.
والنميمة سحر عملي غير مخرج من لملة وإنما هو من كبائر الذنوب؛ لأن عمل النميمة ونتيجتها مثل عمل ونتيجة السحر، وهو تفريق الناس، وتغيير القلوب، وصرف الإنسان عن بعض الأشخاص.
هل يُقال للنمام ساحر؟ لا.
هل حكم النمام مثل حكم الساحر؟ لا أيضًا، ولذلك النميمة سحر عملي فقط غير مخرج من الملة.
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من البيان لسحرا».
ولهما: أي البخاري ومسلم.
والحديث عند البخاري من حديث ابن عمر، وعند مسلم من حديث عمار.
إنّ من: من: تبعيضية أي بعض البيان.
فالبيان ينقسم إلى أقسام:-
1- منه ما هو سحر.
2- ومنه ما ليس بسحر.
3- بيان الإنسان عما في نفسه والتعبير للناس، وهذا يشترك فيه كل الناس، فكل الناس أعطوا من البيان ما يفصح عن مقاصدهم. قال تعالى: { خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [الرحمن: 3، 4].
4- بيان بمعنى الفصاحة والبلاغة، وهذه تنقسم إلى قسمين:
1- بيان قلب وتمويه، فيقلب الباطل إلى حق، وهذا هو السحر المقصود بالحديث، ووجه كونه كذلك لأن السحر يقلب الحقائق، كما قال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه: 66].
2- فصاحة وبلاغة لبيان الحق وتوضيحه، وهذا لا يسمى سحرًا بالمعنى الشرعي، وإن كان يسمى سحرًا بالمعنى اللغوي.(1/133)
المصنف ذكر أنواعًا ستة من أنواع السحر، وسنذكر غير ذلك:
1- الألعاب البهلوانية وهي: إيهام الناظر أن هناك شيئًا يتحرك وليس كذلك.
2- صب الرصاص وهو: أن يأتي الساحر فيصب ماءً أو رصاصًا في إناء فيظهر فيه وجه الذي سحره.
3- تحضير الأرواح وهو: عبارة عن استحضار جني يُدعى بأدعية وتعاويذ ينقل من خلالها الأخبار.
4- التنويم المغناطيسي وهو: بعضه سحر وبعضه ظلم واعتداء، فجاء عن بعض أهل العلم من المعاصرين أن التنويم المغناطيسي سحر، وهو تسليط الجني على الإنسي ليتكلم بلسانه، وهذا من السحر، وبعض التنويم المغناطيسي استخلاص بعض الأسرار، فيقومون بوسائل معينة تؤدي إلى تنويم الشخص، ثم بعد ذلك يسألونه أسئلة فيُجيب عليها وهذا ظلم واعتداء. والنائم مرفوع عنه القلم كما جاء في الحديث، فكيف يؤخذ منه؟!!
والتنويم المغناطيسي: هو تنويم الإنسان بغير إرادته بوسائل، كتسليط الإضاءة عليه. وإذا كان في التنويم المغناطيسي جن يتكلمون فهذا من السحر.
هل يجوز تسمية بعض الأشياء الجاذبة أو الجذابة سحرًا؟ وإذا أعجبك كلام أحد هل
تقول إنه سحر؟
أما من الناحية اللغوية فجائز، وهذا الذي يسمى السحر الحلال إذا لم يكن فيه نصر للباطل، لذلك ذكر ابن عبد البر عن عمر بن عبد العزيز أنه جاءه رجل فطلب مسألة فأحسن في الكلام، فقال عمر: إنه السحر الحلال، وذكر شيئًا من ذلك ابن القيم في "النونية".
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» رواه أبو داود.(1/134)
وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن أبي هريرة: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد -- صلى الله عليه وسلم --» ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه : «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تُكهن له أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد -- صلى الله عليه وسلم -»[رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى..."إلخ.
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف الكهان:
الكهان جمع كاهن: وله تعريفان.
1- تعريف بالاجتماع مع العراف.
2- تعريف بالاستقلال.
والكاهن بتعريفه العام: من يدعي معرفة المغيبات ويخبر عنها.
والخاص: الكاهن هو الذي يخبر عما في المستقبل عن طريق الجن والشياطين.
وقولنا "المغيبات" أوسع من قولنا "المستقبل".
ونحوهم: مثل المنجم والرمّال والعرّاف والعائف.
المسألة الثانية: ما هي مصادر الكاهن في الإخبار عن المغيبات؟
له ثلاث مصادر:
المصدر الأول: عن طريق مسترقي السمع، وهذا مرّ في باب { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } [سبأ: 23]، وهؤلاء يخبرون عن الغيب الذي لم يقع في الأرض، من الوحي العام الذي يُراد إيقاعه في الأرض كهزيمة ونصر وقحط.(1/135)
المصدر الثاني: قرينة من الجن أو رئيه من الجن، وهذا يخبره بالوقائع التي تقع في الأرض، ولكنها غابت عن الآخرين، وهذا ما يُسمى بالغيب النسبي، ويدل عليه ما رواه البخاري أن عمر بن الخطاب سأل رجلاً وكان كاهنًا قبل أن يُسلم فقال له: ما أعجب ما جاءت به جنيتك؟ ... الحديث.
وكما جاء عند البيهقي بسند جيد من حديث عائشة قالت: أول ما جاء خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما بُعث إلى المدينة، أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع، فجاء في صورة طائر ووقع على حائطها، فقالت المرأة: انزل تخبرنا ونخبرك. فقال: «إنه بُعث بمكة نبي».
المصدر الثالث: عن طريق الحدس والتخمينات، فيخبر حدسًا وتخمينًا.
المسألة الثالثة: هل كل من يُخبر عن الِياء الغائبة يُسمى كاهنًا؟
لا. فيها تفصيل:
من أخبر بما يُدرك عن طريق الحس كالإخبار عن الكسوف والخسوف ليست من الكهانة؛ لأنها تُدرك بالحساب.
- الإخبار عن الأمور الباطنية – معرفة ما في باطن الأرض من المياه، ليس من
الكهانة إذا عُرف بالآلات المحدثة؛ إلا إذا كانت عن طريق الجن.
كما لو أخبر الطبيب عن نوع المرض بالوسائل الحديثة، ومنها الفراسة، فليست من الكهانة "اتقوا فراسة المؤمن". وعمر كان يتفرس في بعض الرجال، وأخبر مرة عن رجل أنه كاهن، فهذه من باب الفراسة وليست من باب الكهانة.
ما هو الموقف من الإخبار عن الكسوف والخسوف؟
يُجعل كأحاديث بني إسرائيل لا تُصدق ولا تُكذب ولا يُجزم بوقوعها، وإن من استعد لها وتوضأ فإنه يعتبر مصدقًا لذلك، فلا يفعل شيئًا حتى يقع، ويُنكر على من فعل ذلك، فإن هذا من التصديق.
ما يسمى بالمَرَّي:(1/136)
هو من يستدل على السرقة بوسائل معروفة كآثار القوم وغير ذلك، واستبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قال مجزز المدلجي لما رأى أقدام زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن هذه الأقدام لمن بعض. فلس هذا من الكهانة، فإنه يستدل على السرقة بالأثر الحسي، أما لو استدل على السرقة بآثار غير مرئية ولا حسية فهذه كهانة أو عرافة.
المسألة الرابعة: أقسام الغيب:
1- غيب المستقبل مما لم يسمعه مسترقي السمع أو الغيب المطلق، وهذا لا يعلمه إلا الله { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] وهذا لا يعلمه حتى الجن قال تعالى: { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ: 14] وقال تعالى: { عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الأنعام: 73].
2- غيب الماضي ويسمى الغيب النسبي، وهو ما وقع في الماضي وغاب عنك، فهو بالنسبة لك غيب نسبي، وهذا أكثر مما يحدث عنه الكهان، ,هو الغيب النسبي.
3- وغيب المستقبل مما لم يحدث وفي طريقه للحدوث مما سمعه مسترقي السمع.
المسألة الخامسة: المقارنة بين تعريف الكاهن وتعريف غيره:
فهناك أشخاص يشتركون مع الكاهن في الإخبار عن المغيبات ولكن يختلفون في الوسيلة.
فمن أخبر عن الغيب بطريق الجن، فهذا كاهن.
ومن أخبر عن الضالة والمسروق بطُرق خفية، فهذا العرّاف.
من أخبر عن الضالة بالخطوط في الأرض، فهذا يسمى الرمال.
ومن أخبر بالغيب عن طريق النجوم، فهذا يسمى المنجم.
قال المصنف: وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا».
عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -:هذه جهالة عين لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجهالة الصحابي لا تضر.(1/137)
من أتى: من لفظ عموم سواءً كان رجلاً أو امرأة مسلمًا أو كافرًا.
أما الصغير فلا يدخل في الحكم؛ لأنه خرج بحديث «رفع القلم عن ثلاثة وذكر الصبي حتى يبلغ».
من أتى: هذا باعتبار الغالب، وإلا فلو راسله أو هاتفه أو كاتبه لدخل في الحكم.
فسأله: السؤال هنا سؤال لسان فقط مع عدم تصديق القلب ولا اطمئنان؛ بل مع البغض للعراف بالقلب.
سأله عن ماذا؟
سأله عن أمور مباحة كعلاج ونحوه.
شيء: نكرة، ولكن يقصد بها الأشياء التي لا يكفر بسؤالها.
فصدقه: ليست عند مسلم؛ بل هل عند أحمد في المسند.
والوعيد في هذا الحديث مترتب على مجرد السؤال.
مسألة: ما حكم سؤال العراف؟
سؤال العراف ينقسم إلى قسمين:
1- سؤال مجرد ليس معه تصديق لادعائه الغيب، وإنما يسأله أمرًا مباحًا أو علاجًا مباحًا، وهذا حكمه كبيرة من كبائر الذنوب، ويدل عليه الوعيد في الحديث الأول.
2- أن يسأله ويصدقه وهذا أقسام:-
القسم الأول: أن يسأله ويصدقه أنه يعلم الغيب المطلب، فهذا كفر مخرج عن الدين.
القسم الثاني: أن يسأله ويصدقه أنه يعلم غيب المستقبل، فهذا كفر مخرج عن الدين.
القسم الثالث: سؤاله مع التصديق بأنه يعلم الغيب النسبي، فيعلم الضالة والمجهول، وهذا فيه خلاف على ثلاثة أقوال:
1- أنه بهذا التصديق لا يخرجُ من الدين، وإنما هو كفر دون كفر، وهذا رواية عن أحمد.
2- أنه كفر مخرج عن الدين، ويدل على الحديث الثالث في الباب "فقد كفر".
3- التوقف، وهذا هو أشهر الروايات عن الإمام أحمد. فلا يُقال يخرج ولا، لا يخرج، والأقرب: القول الثاني لدلالة الحديث "فقد كفر".
لم تقبل:لم: حرف نفي، والمنفي القبول وليس الصحة، فالصحة صحيحة مجزئة يسقط بها الطلب لكنه لا يُثاب عليها، فلا يلزمه الإعادة إجماعًا، فأصبح النفي نفيًا للثواب، فتكون هذه السيئة قابلت حسنات الصلاة أربعين يومًا فأحبطتها.
صلاة: نكرة في سياق النفي، فتعم جميع الصلوات التي يؤديها في الأربعين.(1/138)
وغير الصلاة من الأعمال مسكوت عنه في الحديث، فيكون جاريًا على الأصل وهو أن الإنسان يُثاب على عمله { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة: 7].
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» [رواه أبو داود].
من: اسم شرط فيعم جميع المكلفين الذكر والأنثى، ولا يشمل الصغير؛ لأنه مرفوع عنه القلم، وأما الجاهل فإن اعتقد أنه يعلم الغيب فالجهل بهذا ليس بعذر؛ ولكن إن كان في الغيب النسبي فيعذر بالجهل لوجود الخلاف بين العلماء ولأنها مسألة خفية.
الجهل ليس عذرًا في الأمور الظاهرة المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، أما الأمور الخفية فإنه يُعذر بالجهل فيها.
كاهنًا: هنا بالمعنى العام أي: مُدعيًا للغيب.
فصدقه: أي نسبه إلى الصدق.
وضابط تصديق الكاهن ثلاثة أشياء:
الأول: التصحيح لما قال والموافقة عليه، وهذا تصديق اللسان.
الثاني: الارتياح لما قال والاطمئنان به، وهذا تصديق القلب.
الثالث: العمل بقوله؛ لأن العمل جزء من التصدق، ولذلك يُدخل أهل السنة والجماعة العمل في مسمى الإيمان، وهذا تصديق الجوارح، وكل هذه الثلاثة يطلق عليها تصديق، فإن فعل أي واحد منها فقد صدقه.
بما يقول: أي بالذي يقول.
وهل هو مطلق القول؟
لا. إنما هو بما يقوله من الكهانة، فليس المقصود تصديق كل أقوال الكاهن، وإنما المقصود: ما تعلق منها بالكهانة ومعرفة المغيبات سواء أكانت مستقبلاً أم غيبًا ماضيًا.
فقد: للتحقيق. وهنا أخبر بأن المصدق كافر.
وقلنا بأن تصديق الكاهن ينقسم إلى أمرين:
1- تصديقه بالغيب المطلق أو المستقبل، وهذا كفر مطلقًا، وهو تكذيب للقرآن قال تعالى: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65].
2- تصديقه بالغيب النسبي: وهو ما كان غيبًا عنك أنت، ولمن وقع له في الأرض حضورٌ وشهادة.(1/139)
وهذا اختلف في حكمه:
القول الأول: أنه كفر أكبر مخرج من الدين لهذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة "فقد كفر"، و"قد" إذا سبقت "كفر" دلت على الكفر الأكبر كما ذكر ذلك ابن تيمية ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم، وهذا الحكم لمن كان عالمًا متعمدًا، وأما الجاهل فيعذر.
القول الثاني: أنه كفر دون كفر فلا يخرج من الملة، وهذه رواية عن الإمام أحمد.
القول الثالث: التوقف، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد.
لكن التوقف هل هو في التسمية أم في الحكم؟
التوقف في الحكم، أما التسمية فيُقال له: فقد كفر، ولكن لا يُقال يخرج من الملة ولا، لا يخرج من الملة.
والأقرب: القول الأول بشرط التعمد والعلم.
بما: ما: موصولية بمعنى الذي.
أنزل: مبني للمجهول أي: أنزل الله وهو القرآن.
وهل هو كافر بكل القرآن أو ببعض القرآن؟
هو في الأصل كافر ببعض القرآن أي: في الآيات التي تذكر وتبين أن الغيب خاص بالله لا يعلمه إلا هو. ولكن من كفر ببعض القرآن كفر به كله، فهو باعتبار الواقع كافر ببعض القرآن، وباعتبار النتيجة كافر بكل القرآن.
أنزل: فيه تقرير مذهب أهل السنة والجماعة في أن القرآن منزلٌ غير مخلوق، وعند المعطلة مخلوق لم يتكلم الله به.
وفيه دلالة على علو الله عز وجل على خلقه.
والمعطلة: لا يثبتون العلو لله.
مسألة: حكم الكاهن؟
أما حكمه فإنه كافر؛ لأنه يدعي علم الغيب، ويدل عليه هذا الحديث بدلالة قياس الأولى، ووجهة أنه إذا كان المصدق كافرًا فما بالك بالكاهن، فهو من باب أولى.
وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن أبي هريرة: «من أتى عرافًا أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -».
الأربعة: يقصد بهم أهل السنن: الترمذي، أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وأخرجه أحمد والبيهقي وهو صحيح.
من: عامة إلا من استثنى، وهو من رفع عنه القلم، والجاهل المعذور باعتبار.(1/140)
أتى: باعتبار الغالب، وإلا فإنه لو هو أتى إليه أو راسله أو هاتفه فله نفس الحكم.
العراف: من يخبر عن الضالة ومكان المسروق ونحوهما بطرق خفية.
الكاهن: من يخبر عن الغيب عن طريق الشياطين.
فصدقه: المصدق من قام به خصلة من خصال التصديق الثلاث وهي اللسان أو القلب أو الجوارح.
صلى الله عليه وسلم: التسليم هنا من النوع المبلغ أو المعروض.
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفًا.
الموقوف: هو قول الصحابي.
وعن عمران بن حصين مرفوعًا «ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -». [رواه البزار بإسناد جيد].
المرفوع هنا: مرفوع حقيقة.
ليس منا: هذا من أحاديث الوعيد التي تُمرُّ كما جاءت؛ إلا إذا احُتيج إلى تفسيرها.
والأصل في هذا التعبير: نفي الحقيقة أي: ليس مسلمًا. وقد يأتي النفي لكمال الواجب إذا دل عليه دليل، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - «من غشنا فليس منا».
تكهن: أي فعل الكهانة بأن أخبر عن المغيبات، فقال: سيحدث في الشهر القادم كذا، أو زواجك سعيد، أو نحو ذلك.
تُكهن له: طلب من الكاهن إخباره عن الغيب.
وفي كلا المسألتين فإن "ليس منا" على بابها أي: ليس مسلمًا.
أو سحر أو سُحر له: مرت في باب السحر.
وقوله أو تطيّر: تأتي إن شاء الله في باب الطيرة.
ورواه الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عباس، دون قوله { ومن أتى } إلى آخره.
قال البغوي: هنا ذكر المصنف خلاف أهل العلم في مسمى العراف والكاهن، فذكر قول البغوي.
العرّاف: الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
وهذا تعريف بالمعنى الخاص أي: مع الاجتماع مع الكاهن.
وقوله بمقدمات: الباء سببية، وهذه المقدمات هل هي محسوسة أو خفية؟ لا. هي خفية.
وهل هي حقيقة أم وهمية؟ لا. هي وهمية.(1/141)
يستدل بها: القاعدة العامة أنه يُخبر عن الأشياء الغائبة، والمسروق معروف، ومكان الضالة معروف.
ونحو ذلك: أي كالمدفون والكنز.
وهناك فرق بين العراف وبين القافي "المري":
والفرق بالوسيلة، فالمري بوسائل حسية، والعراف بوسائل وهمية.
وقيل: هنا هي صيغة تنويع.
هو الكاهن: أي الذي يُخبر عن المغيبات.
فعرّف البغوي العراف بأنه: من يُخبر عن مكان الضالة، أو هو من يُخبر عن المغيبات. فأيهما أولى؟
هذا حسب الاجتماع مع الكاهن وعدمه.
قال ابن تيمية: العراف اسم جامع لكل من يدعي المغيبات، فيكون تعريفًا بالمعنى العام. ويدل عليه الاشتقاق فإن "عرّاف" صيغة مبالغة. وكل من يُخبر عن المغيبات بأي وسيلة يسمى عرافًا.
وقال ابن عباس في قوم يكتبون "أبا جاد" وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
وفي سنده خالد بن يزيد، قال في الفتح: إسناده ضعيف.
هنا وسائل من الكهانة ويُدّعى بها الغيب، وهي وسائل معاصرة موجودة في المجتمع منها.
1- ما يسمى بقراءة الكف: وهي وسيلة من وسائل استطلاع ما في الغيب، وحكمها حكم الكهانة.
وطريقة هذه الوسيلة تعتمد على تفسير خطوط الكف، فينظر الكاهن إلى كفك وما فيه من تعرجات ومقاطع، ثم يُخبرك عن شيء من الغيب.
2- قراءة الفنجان: وهي أن يجعلك الكاهن تشرب في الفنجان، ثم يديره عدة مرات إذا فرغت من الشرب، ثم ينظر بما علق في جدرانه من الصور التي رسمت ببقايا القهوة، فإن تشكل ما يشبه الثعبان أخبرك بشيء من الشرور، وإن تشكل ما يشبه الوردة أو نحو ذلك أخبرك بالسعادة.
3- قراءة النار وهو: الإخبار عن الغيب عن طريق تصوير لهب النار، فإن شكل لهيب النار صورة فأس أو مطرقة قال: إنه كارثة، وإن كانت شجرة أو نحو ذلك قال:
إنه سعادة.
4- فتح الكتاب: وهو أن يأتي بكتاب أو قرآن فيفتحه ويقرأ أول ما فيه، فيستدل به على المغيبات.
5- ما يُسمى "أنت وحظك": وهذا يوجد في بعض المجلات وغيرها، وهذا من الإخبار عن المغيبات.(1/142)
6- سحاب الجُمّل: وهي المقصودة بقول ابن عباس يكتبون "أبا جاد" وهو على قسمين:
أ- تعلم الجمل للقراءة والحساب كالرياضيات، فهذا جائز.
ب- أن يُخبر عن طريق الجمل بالمغيبات، وهذا النوع يفعله الكهان لبيان مستقبلك وسعادتك وشفائك.
وطريقتهم: أن تحسب عدد حروف اسمك واسم أمك، وتقسم مجموعها على شهور السنة على "12"، والنتائج هو خبر المستقبل، ولا يهم الناتج "ناتج القسمة" بالضبط، لكن عندهم جدول مرَّقم، فإن كان ناتج القسمة عشرة فارجع إلى جدول عشرة، وإن كان ناتج القسمة ستة فارجع إلى جدول ستة.
ما حكم استخدام هذه الكلمة "ما هي تكهناتك عن المستقبل"؟
هذه تجري على ألسنة بعض الناس، وهذه لا تنبغي؛ لأنها تشبه بألفاظ الكهان، ويستبدل عنها بالتوقع. ماذا تتوقع؟
باب ما جاء في النشرة
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان» رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
وفي "البخاري" عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤّخَّذ عن امرأته، أُيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. اهـ.
وروى عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
إحداهما: حل يسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، ويبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف النُشرة:
النشرة لغة: الفك والحل. وأما شرعًا: فهي علاج الممسوس.
وقولنا: الممسوس: أعم من قولنا: المسحور، فهي ليست فك السحر عن المسحور فقط، ولكن حتى من به صرع ونحو ذلك.
العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي:(1/143)
سمي علاج الممسوس نشرة؛ لأنه يفك ويحل ما خامره من الداء.
المسألة الثانية: قبل أن نعرف كيف نفك السحر من المسحور نسأل كيف يدخل السحر في المسحور؟
هذه مرت معنا في باب السحر وقلنا: بأنه يُسلط جني على المسحور بواسطة الساحر، أو يتسلط جني على أنسي فيحدث الصرع والمس. وقد ذكر الله في القرآن ما يدل على
أن الجن يدخلون في الإنس، قال تعالى: { لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [البقرة: 275]، فذكر الله أن الشيطان يتخبط الإنسي. والتخبط: هو فقدان الإدراك والتوازن سواء أكان بالحركة أو في الفكر أو في العقل، وقد أنكر بعض الناس دخول الجني الأنس، وقد رد عليهم سماحة الشيخ ابن باز في مقال سنة 1407هـ.
المسألة الثالثة: أنواع المس:
أما باعتبار المكان فينقسم إلى قسمين:
الأول: مس كلي يصيب الجسد كله مثل: الصرع والتشنج غير العضوي.
الثاني: مس جزئي، وهو أن يصيب عضوًا من أعضاء الإنسان كاليد والرأس واللسان بالثقل.
المسألة الرابعة: أنواع المس باعتبار الزمن:
ينقسم إلى قسمين:-
الأول: مس دائم، وهو أن يستمر الجني في الجسد مدة طويلة.
الثاني: مس طائفي، وهذا يطوف على الإنسان فترة ثم ينقطع، وقد لا يستغرق المس أحيانًا إلا دقائق.
المسألة الخامسة: كيف يُعرف أن الإنسان ممسوس؟
الجواب: إذا ظهرت فيه علامة من علامات المس، فإنه يكون ممسوسًا.
والعلامات كثيرة، منها ما يكون في حالة النوم أو مقدمات النوم، ومنها ما يكون في حالة اليقظة.
القسم الأول: حالة النوم أو مقدمات النوم:
1- الأرق: تجده إذا نام عنده أرق شديد، ويهمنا منه الأرق الطبيعي، فيخرج ما إذا كان الإنسان قد نام كثيرًا، أو إنسان عنده مشكلة، ولكن المقصود هو أن لا يأتيه النوم بلا سبب.
2- الأحلام المفزعة في النوم: وهي غير متناسقة.
3- الضحك أثناء النوم.
4- البكاء والصراخ أثناء النوم.(1/144)
5- ثقل في الصدر عند النوم، وهذا ما يسمى بـ"الجاثوم".
6- أو يُحس بخنق واختناق عند النوم، وهذا في الحلق.
القسم الثاني: حال اليقظة مثل:
1- الصداع الدائم غير العضوي، وهو الذي يعجز عن معرفته الأطباء.
2- الصرع والتشنج الكلي غير العضوي، فهناك صرع معروف عضوي وهذا أسبابه طبية.
3- تبريد الشهوة، فيكون الإنسان راغبًا في الجماع، وإذا أتى إلى زوجته بردت شهوته.
4- تخيلات، فيتخيل أشياء غير حقيقية وتكثر عنده الأوهام.
5- رؤية إحساسات غريبة في العين أو في بعض الأعضاء، ولكن عجز الطب عن معرفتها.
6- كراهية سماع القرآن.
7- إطالة البقاء في الحمامات والأماكن القذرة والمهجورة والارتياح في ذلك.
8- محبة العزلة والانفراد من غير سبب.
9- التثاؤب الكثير عند قراءة القرآن.
10- كون المرض له زمن معين، فلا يأتيه إلا في الليل مثلاً.
11- كون المرض متنقلاً مرة في الظهر، ومرة في الرجل، ومرة في اليد اليمنى، ومرة في اليد اليسرى.
12- كراهية شيء كان يحبه من دون سبب، أو العكس.
13- كثرة البكاء ومحبته من دون سبب.
هذه علامات تدل على أن الإنسان فيه مس سواء كان دائمًا أو طائفيًا.
المسألة السادسة: عرفنا الآن ظواهر المس، ولكن ما هي أسباب المس؟
1- الهوى والعشق والشهوة؛ لأن الجني قد يهوى بعض الإنس ويعشقهم، ومنه بعض أنواع الصرع، فإذا عرفنا أنه يمكن أن يقع بين الجني والإنسي عشق، فهل يمكن أن
يقع الزواج بين الجني والإنسي؟
ذكر بعض أهل العلم ممن ألف ودرس هذه الأمور أنه يقع بينهم زواج، فإذا أراد الإنسي جماعها فإنها تشكل بشكل امرأة، ولكنهم ذكروا أنه لا يقع تناسل لاختلاف الجنسين.
2- الاعتداء: وهو اعتداء الإنس على الجن، كأن يعتدي الإنسي على الجني، كأن يصب عليه ماءً حارًا أو يلقي عليه شيئًا، فإن الجن ينتقمون. وهذا يدل على الظلم الكثير الموجود عند الجن، وقد يكون الاعتداء ابتداءً من الجن على الإنس، أو يكون ردة فعل وانتقام.(1/145)
3- العبث: وهذا يفعله سفهاء الجن، كما يقع من سفهاء الإنس من الاعتداء عبثًا، فتراهم يرمون هذا ويضربون ذاك.
4- تسليط الساحر الجني على المسحور.
5- الابتلاء من الله سبحانه وتعالى، إما لتكفير سيئات الممسوس، أو لرفع درجته.
6- قلة الطاعة والذكر.
المسألة السابعة: أوقات المس:
إذا وُجدت أسباب المس، وانتفت الموانع، فإن المسألة تكون مسألة وقت، فيتخير الجني الوقت المناسب للدخول، والقاعة: أن أوقات المس هي أوقات الضعف بالنسبة للإنسان، فيتخير الجني عليه فيها، ومنها:
1- الغضب الشديد؛ لأن الشيطان يتسلط عند الغضب الشديد بخلاف الغضب المعتاد.
2- الخوف الشديد، فإذا خاف الإنسان خوفًا شديدًا أصابه المس.
3- الانفعال الشديد.
4- الفرح الشديد، كالرقص والطرب.
5- عند النوم؛ لأن النوم استرخاء بالنسبة للإنسان فيضعف.
هذه أسباب طارئة، وهناك أسباب دائمة مفتوحة ما دام الوصف موجودًا:
1- كالجهل، وليس المقصود بالجهل عدم القراءة والكتابة، أو أمية الحرف، وإنما
المقصود الجهل بالعقيدة والتوحيد.
2- الكفر والمعاصي وترك الصلوات.
أما باعتبار الأشخاص فمن كثرت فيه هذه الأشياء كثر تعرضه للمس، ولذلك يكثر في النساء وأهل البادية والجُهال.
المسألة الثامنة: كيف يدخل الجني في الإنسان، أو كيف يدخل جسم في جسم؟
نقول: باعتبار العقل واقع وله نظائر، فالماء يدخل في العود والشجر، والماء والغذاء يدخل في الإنسان، والكهرباء تجري في الأسلاك، وكما قال: «فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
المسألة التاسعة: من يقوم بعملية المس؟
الجواب: أنواع من الجن:
1- خادم الساحر من الجن.
2- العاشق من الجن.
3- المؤذي من سفهاء الجن.
4- القرين.……وهل يحصل منه مس أم لا؟
هذه المسألة تحتاج إلى بحث، فإن كل إنسان له قرين من الجن.
المسألة العاشرة: حكم معالجة الممسوس؟
هو فرض كفاية على القادرين, وحكمه كحكم الطب، فالمعاجلة بالطب فرض كفاية على القادر.(1/146)
وهل تجب بالطلب؟ بمعنى لو أتاك الممسوس وأنت قادر هل يجب علاجه؟
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».
والممسوس مظلوم بالاعتداء عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله»، فلا ينبغي للقادر أن يترك أخاه.
ومن هو القادر؟ هو من يعرف طريقة المعالجة.
المسألة الحادية عشرة: حكم تداوي الممسوس؟
حكمه: هو جزء من الكلام عن حكم التداوي عمومًا، فذهب بعض أهل العلم إلى أن التداوي سنة، وهذا قول الجمهور.
والقول الثاني: إذا كان المرض يؤدي بالإنسان عادة إلى الهلاك، فيجب التداوي لقوله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لنفسك عليك حقًا».
والقول الثالث: أنه مباح.
المسألة الثانية عشرة: ما حكم أخذ الأجرة على النشرة الشرعية؟
هذه المسألة سبق ذكرها في باب الرقى والتمائم.
المسألة الثالثة عشرة: ما الفرق بين كون الرجل ممسوسًا أو به عين؟
إذا كان مع القراءة يشعر بارتياح فهذا مصاب العين، وإذا كان يتعب أو يشتد عليه حال القراءة فالغالب أن ممسوس؛ لأن الجن يكرهون القرآن.
وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن النشرة فقال «هي من عمل الشيطان» رواه أحمد بسند جيد وأبو داود، وقال: سُئل أحمد عنها؟ فقال: «ابن مسعود يكره هذا كله».
الألف واللام في النشرة: للعهد، ويقصد به نشرة الجاهلية.
وكيفية نشرة الجاهلية؟ هي فك السحر بأسحار مختلفة واستخدامات شيطانية.
وعلى ذلك فالنشرة تنقسم إلى قسمين:
الأول: نشرة جاهلية، وهي التي من عمل الشيطان، ويدل عليها الحديث الأول.
القسم الثاني: نشرة شرعية، وهي التي ذكرها المسيب، وأيده ابن القيم على ذلك.
من عمل الشيطان: من: تبعيضية.
الشيطان: الألف واللام هل هي للجنس أم للعهد؟(1/147)
هي للعهد، ويقصد بها هنا المسلط من الساحر، وإن كانت في غير هذا الحديث تشمل المؤذي من الجن.
وقولنا: الشيطان: هو من شطن إذا بعد، وقد مر.
والشيطان: اسم لم خبث وتمرد من الجن، وكذلك الإنس، فإن زاد في التمرد سمي ماردًا، فإن زاد في التمرد سمي عفريتًا.
رواه أحمد بإسناد جيد: هذا حكم المصنف، وحسنه الحافظ في "الفتح"، وابن مفلح في "الآداب الشرعية" ورواه أيضًا أبو داود، ورواه الطبراني، والبزار عن أنس:
وقال: أي أبو داود.
أحمد: هو ابن حنبل إمام أهل السنة.
عنها: أي نشرة الجاهلية.
والإمام أحمد قال هذا الكلام لأنه يرى رأي ابن مسعود في المنع منها.
فقال: ابن مسعود يكره ذلك كله:
فيه مسألتان:
1- لم يذكر المصنف هنا الترضي عن الصحابي، وهذا يجوز، ولكن الأفضل الترضي عنهم لفظًا وكتابة.
2- يجوز أن يقول للصحابي «ابن مسعود أو ابن عمر» وليس هذا من سوء الأدب معهم.
يكره: الكراهية عند قدماء السلف بمعنى التحريم على قول لابن القيم، وقيل حسب القرائن.
هذا: أي حل السحر بالسحر الذي هو من عمل الجاهلية.
وللبخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: «رجل به طب أو يُؤخذ عن امرأته أيُحلُّ عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه».
هذا الأثر ذكره البخاري معلقًا مجزومًا به.
والمشهور في المصطلح: أن تعليقات البخاري التي بصيغة الجزم صحيحة، ولكن ليست على شرطه.
عن قتادة: هو قتادة بن دعامة السدوسي، هذا من صغار التابعين أي الطبقة الثالثة منهم.
لابن المسيب: هو سعيد بن المسيب، وهو من الطبقة الأولى وهم كبار التابعين.
رجلٌ به طب: هذا قول التابعي، ويسمى مقطوعًا.
طب: هذا لفظ مشترك بين العلاج والمرض مثل: "القرء" لفظ مشترك بين الطهر والحيض.
والقاعدة: أن الألفاظ المشتركة تجري على معانيها إلا إن تعذر ذلك، ومثله كلمة "طاهر" فإنها لفظ مشترك بين الطاهر من الحدث الأصغر والطاهر من الحدث الأكبر.(1/148)
ولذا في حديث عمرو بن حزم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا يمس القرآن إلا طاهر» أي من الحدث الأصغر والأكبر ومن الشرك.
ولكن في كلمة (طب) يتعذر حملها على كل المعاني، فهي هنا يراد بها المريض بالسحر، وسمي المريض بالسحر مطبوبًا من باب التفاؤل، كما يسمى اللديغ سليمًا.
قال أو يُؤخذ: أو حرف عطف، وهذا من باب عطف المترادف.
ويُؤخذ: بتشديد الخاء أي يُحبس عن امرأته، وهذه ما تسمى بعملية الربط يقال: فلان مربوط عن أهله.
كيف تتم عملية الربط بالسحر؟
أولاً: العملية الجنسية لا تتم دون انتصاب الذكر.
ثانيًا: عدم الانتصاب له سبب عضوي، وهذا لا يعنينا هنا، وهذا يُعالج طبيًا، وهو ما يُعرف بالعجز الجنسي، وهذا لا علاقة له بالسحر.
ثالثًا: أن الانتصاب لا يتم إلا بعد إشارة عصبية من الجزء الخاص بأعضاء التناسل في المخ، فإذا أثر أي مؤثر على هذا الجزء فلا ينتصب الذكر، وقد يكون هذا المؤثر غضب أو جوع أو تمركز الجني في هذا الجزء، وهذه هي عملية الربط بالسحر.
وهو: تسلط الجني على أعضاء التناسل في المخ فيفقد قدرته الجنسية أو الرغبة في الجماع، ولكن إذا جاء أهله بردت شهوته.
أيُحل عنه أو يُنشر: ي أيُعاجل معالجةً شرعية في فك هذا السحر؟
قال سعيد: لا بأس: هذه فتوى بالجواز لفك السحر بالأشياء الجائزة.
ودليل الفتوى: هو المصلحة، قال: إنما يريدون الإصلاح.
قد يقول قائل: لماذا حملتم كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة مع أن السؤال عام؟
الجواب لقوله: إنما يريدون به الإصلاح، فأما السحرة فلا يريدون الإصلاح لقوله تعالى: { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس: 81].
يُنهى: مبني للمجهول، ويُقصد به الشارع.
وهذا هو القسم الثاني من النشرة: وهو حل المس بالأدوية الجائزة.
مسألة: ما هي طرق علاج الممسوس؟
هناك عدة طرق:(1/149)
1- طريق رقية القرآن والقراءة على المريض بالكيفيات الخمس التي مرت معنا في باب الرقى، وقد يستمر العلاج والقراءة بالقرآن ستة أشهر، فلا يعجل المسحور.
2- استخراج السحر وإتلافه، فإذا أتلف السحر أو حرقه بطل، كما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
لكن كيف يُعرف مكان السحر؟
أمّا عن طريق السحرة والكهنة فلا يجوز، ولكن قد تتهم شخصًا بالسحر وتراه يدور حول أماكن خربة أو بيوتًا مهجورة أو في صناديقه وأثاثه، فيعرف حينئذ، فإذا أحرقت أو قُطعت بطل السحر.
3- بعض النباتات مثل: السدر، فإذا جئت إلى سبع ورقات من السدر ثم دُقَ وبعد ما يُدق يوضع في إناء، ثم يقرأ عليه آيات السحر، فيغتسل بمائه ويتوضأ، والسبب: لأن السدر مكروه عند الجن، ولذا يتضايق الجني ويخرج، وهذا ذكره بعض السلف وأيده الشيخ ابن باز؛ لأنه علاج مجرب.
4- ما يسمى بعود القسط الهندي، وهذا ذكره البخاري في كتاب الطب، وذكره مؤلف كتاب «الطرق الحسان في معالجة أمراض الجان».
وطبيعة هذا الدواء أنه حار، فُيدق ويستنشقه المريض، فإذا استنشقه فمن حرارته يصعد إلى الدماغ مكان تركز الجني، فيتضايق ويخرج.
5- التخويف ببعض الحيوانات، كالتخويف بالذئب، وهذا يستخدمه بعض القراء إذا كان الإنسان مصروعًا، فيأتي بالذئب أو ببعض أجزاء الذئب. أما حمل جلد الذئب لدفع الجن أو العين هذه تميمة لا تجوز وفرق بين هذا وهذا.
وهذه خاصية في الذئب، كما أن الحمار إذا رأى الشيطان نهق.
6- بعض المأكولات كتمر المدينة؛ لأنه جاء في صحيح مسلم «من تصبَح بسبع تمرات من عجو المدينة لم يضره سحر».
7- عن طريق الحجامة في الرقبة أو في الموضع الذي يشعر أن فيه مس، وهذا ذكره ابن القيم في كتاب "الطب النبوي"، ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو في عروق الدم.(1/150)
8- الضرب، وهذا يستخدمه بعض القراء بأن يضرب الممسوس في أماكن تجمع العروق كالكتف والركبة، ولكن هذا العلاج فيه ضرر بالممسوس ويترك تشويهات في جسمه، فينبغي العدول عنه.
9- وبعض القراء يعرف السحر بسؤال الجني سؤال مخاطبة في الممسوس إذا شد عليه في القراءة وتكلم الجني سأله عن مكان السحر فهذا يجوز لكن ينبغي أن يعرف أن الجن لديهم كذب وخداع فقد يكذبون أو يظلمون أحدًا لأنه هو الذي سحره وليس كذلك، قال تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } فكيف بالجني الظالم. أما بالنسبة للعلاج بالقرآن فتستحب الطرق التالية.
أولاً: يستحسن أن يكون القارئ والمقري عليه متوضئين.
ثانيًا: إذا كان المريض عليه شيء من التمائم فيجب قطعها، وإذا كانت امرأة متبرجة تتحجب، وإذا كان عليه معاصي يُنصح ويتوب عنها.
ثالثًا: يبدأ بالقراءة ومحلها في الصدر أو الوجه أو مع الأذن، هذا إذا كان المرض عامًا، وأما إذا كان في عضو معين فيقرأ على العضو.
يقرأ ما شاء من القرآن لقوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ } [الإسراء: 82].
إلا أنه يستحب الآيات التالية:
1- الفاتحة.………2- أول البقرة.……3- آية الكرسي.
4- آخر سورة البقرة.……5- أول آل عمران.…6- آخر الحشر.
7- سورة الجن.………8- أول الصافات.…9- المعوذات.
10- قصة موسى مع السحرة.…11- آيات السحر.
فإذا كان الجني ضعيفًا أو سفيهًا ليس له هدف فإنه في الغالب يخرج، وقد يتكلم، وقد يخرج ولا يتكلم.
رابعًا: قد تحدث أشياء مع القراءة تدل على أنه ممسوس، فإذا ظهرت هذه العلامات يواصل القراءة، وقد ينطق الجني وقد لا ينطق.
خامسًا: بعد ما يواصل القراءة يقرأ له في إناء ويُشربه إياه ويوصيه بسماع القرآن، لأنه غالبًا ما يُنهك الجني من هذه الإجراءات، ثم يعود إليك من الغد إلى أن يبرأ.
قال: وروُي عن الحسن أنه قال: «لا يحل السحر إلا ساحر».
رُوي: صيغة تمريض.(1/151)
لا يحل السحر إلا ساحر: القول هذا فيه عموم يحتاج إلى تقييد؛ لأن السحر يحله غير الساحر بالطرق الشرعية.
قال ابن القيم: «النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل بسحر...».
النُشرة حل السحر على المسحور: هذا تعريف نشرة الجاهلية لا مطلق النشرة.
وهي نوعان:
أ- حل بسحر مثله: وهذا تبين له أنه نوعان:
1- حل السحر بتقرب من الناشر والمنتشر إلى الشيطان، وهذا لا شك أنه شرك أكبر.
2- حل السحر عن طريق الساحر مقابل مال يدفعه إليه، ولكن المسحور لا يعمل شيئًا يتقرب به إلى الشيطان، وإنما التقرب من الساحر فقط، والمسحور لا يعمل شيئًا من الشرك، وهذا هو الذي جاء عن الحنابلة بأنه يجوز من باب الضرورة، بشرط ألا يشرك المسحور بفعل، وهذا قول ضعيف جدًا؛ بل الصحيح الذي لا شك فيه أنه حرام، لكن لا يقال إنه كفر لوجود الخلاف وهذه المسألة سبقت في باب ما جاء في السحر.
العلاجات التي ذكرها ابن القيم للنُشرة هي:
1- الرقية.…2- التعوذات.…3- الأدوية.…4- الدعوات المباحة.
باب ما جاء في التطير
وقول الله تعالى: { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 131]. وقوله: { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } [يس: 19].
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى، ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر» أخرجاه. زاد مسلم: «ولا نوء، ولا غول».
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة».
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».(1/152)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا(1)، ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك».
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف التطير:
لغة: التطير مصدر من تطير يتطير تطيرًا. والمصدر ما يجيء ثالثًا في تصريف الفعل.
مأخوذ من الطير، وأصله معرفة الخير والشر بدلالة الطير، وهو التشاؤم بالطيور.
شرعًا: التشاؤم بكل مسموع أو مرئي أو معلوم، وهذا تعريف ابن القيم.
وليس كل المسموعات أو المرئيات أو المعلومات، ولكن المكروه منها.
المسألة الثانية:
يُلاحظ هنا أن التعريف الشرعي أوسع من التعريف اللغوي، وهذا خلاف المعتاد، وهذا جاء في التطير والرضاع، فإن الرضاع لغة: مص الثدي، وشرعًا: مص الثدي أو شربه، وكذلك جاء في الإيمان.
المسألة الثالثة: أقسام التطير:
ينقسم التطير إلى أقسام:
القسم الأول: أن يعتقد في الطير ونحوه من كل مسموع أو مرئي أو معلوم أن له تأثيرًا في جلب النفع ودفع الضر، وأنها تفعل بذاتها، وهذا شرك أكبر من باب الربوبية؛ لأنه اعتقد أن هناك خالقًا مع الله، قال تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ } [فاطر: 3]، وهذا استفهام بمعنى النفي، وأيضًا شرك في الألوهية؛ لأنه تعلق قلبه بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
__________
(1) في الحديث حذف يعرف بالقرينة، أي إلا ويقع في نفسه شيء من التأثير بحسب العادة والوراثة، ولكن الله يذهبه من قلب المؤمن لإيمانه بأن حركة الطير لا تأثير لها في سير المقادير. اهـ. من مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ) ص35.(1/153)
القسم الثاني: أن يعتقد أنها سبب للخير أو الشر، والله الفاعل وهذا من الشرك الأصغر، والسبب أنه جعل ما ليس سببًا لا شرعًا ولا قدرًا سببًا.
وهذه أغلب تقسيمات العلماء، وهناك قسم ثالث وهو:
أن يجعلها علامة يخبر بها عن الغيب، وهذا من الشرك الأكبر؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، وادعاء علم الغيب بأي وسيلة يعتبر من الشرك الأكبر. وهذا كما يفعله العائف الذي يزجر الطير، أو ذات الشخص إذا استدل بحركات الطيور على علم الغيب.
المسألة الرابعة: شرح التعريف الشرعي:
أما قولنا: التشاؤم بالمسموعات مثاله: كأن يسمع كلمة يا سالم أو يا ناجح، فيعتقد السلامة والنجاح في سفره وفي تجارته، وهذا بالخير.
وبالشر كأن يسمع إذا أراد أن يُسافر أو يتزوج يا خاسر أو يا كسير، فيتشاءم ويترك السفر والزواج.
وقولنا: أو المرئيات: كأن يريد سفرًا أو عملاً ما فيرى رجلاً أعمى أو أعزر أو يرى طير الغراب، فيعدل ويرجع عن سفره أو عمله، أو يرى الظباء فينشط.
وقولنا: المعلومات: هي ما ليست مسموعة ولا مرئية، كالتشاؤم بالشهور، أو في بعض الأزمنة والأيام، أو في بعض الأرقام المعدودة، وكذلك الأحلام المزعجة الغير منتظمة. وأما الرؤية الصالحة فليست من التطير، هذا بالنسبة لتحليل التعريف.
وهناك مسائل واقعية هي من باب التطير:
1- قولهم: "خير يا طير" للشيء الجديد، وهذه من ألفاظ الجاهلية أنكرها بعض السلف لما سمعها وهجر عليها.
2- قولهم للمسافر: "على الطائر المأمون" فهذه من لوثة التطير.
3- ذلك قولهم: "ما طار طيره" وهذه تحتاج إلى مزيد بحث.
4- قولهم: "الطير الأخضر ترى يا زينة، والطير الأسود ترى يا شينة"، وهذا من التشاؤم بالألوان.
5- وكذلك إذا شعر بحكة في يده اليمنى، فهي علامة خير.
6- وإذا شعر بحكة في يده اليسرى، فهي علامة شر.
7- وكذلك إذا طنت أذنه، استدل على أنها علامة شر.(1/154)
8- وكذلك التشاؤم في بلد أو بيت، كأن يسكنه ويموت له ميت فيه فيتشاءم منه، فهذا تطير؛ لأنه لا علاقة بين الموت والسكن.
9- كذلك تشاؤم الآباء إذا سموا أبناءهم بأسمائهم، ويقول: إنها من علامة قرب موته.
10- وكذلك حركة العين أو رفّة العين، فيقولون في اليمين: خير، وفي اليسرى: شر.
11- ومن أمثلة ذلك: بعض أهل التجارات يبيع في أول النهار بأي سعر ولا يرد أول زبون، فإذا رده فيسمى هذا اليوم شؤم.
12- ومن أمثلة ذلك أيضًا: إذا رأى نعلاً على نعله، فإنه يتفاءل بالسفر، وإذا وقع روث طائر على ثوبه، فإنه يتشاءم في السفر.
13- ومن ذلك ما يسمى بفتح الآيّ، فهم يفتحون المصحف ويتفاءلون في أول آية، فإذا فتحوا ووجدوا آية رحمة أو جنة تفاءلوا وسافروا، وإذا رأوا آية نار أو عذاب فإنهم
يتشاءمون.
مسألة: الرحيل من أماكن الخطر هل هو تطير؟ وكذلك القدوم على بلد الخطر هل هو من باب التشاؤم.
الجواب: لا؛ بل إنه من باب اتقاء الأخطار وفعل الأسباب؛ إلا إذا كان البلد مصابًا بالطاعون، فإنه جاء عن الصحابة أنهم «لا يخرجون منها ولا يقدمون إليها»، وأما غير ذلك فليس من باب التطير، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث: «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يورد ممرض على مصح».
وقول الله تعالى: { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 113].
ألا: حرف تنبيه. وأول الآية { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [الأعراف: 131].
طائرهم: بمعنى التطير ومعناه: ما قضي وقُدر عليهم، وهذا تفسير ابن عباس وهو تفسير الصحابي.
وسمي ما قُضي وقُدر عليهم بلفظة طائر؛ لأنها حالة سيئة، فيكون المقدور والمقضي هو الحالة السيئة التي كانوا عليها.
عند الله: بمعنى من الله.(1/155)
وهو من الله قدرًا وخلقًا ومشيئة، وهو منهم سببًا وإرادة.
فيكون سبب حالتهم السيئة هو معاصيهم وكفرهم، وهذه تعتبر عقوبة قدرية من الله.
والشاهد من الآية: أن هؤلاء الكفار تطيروا بموسى والمؤمنين معه؛ لأن من عادة الجاهلية التطير بالأشخاص والذوات.
وهو مثل ما يقول العلمانيون في هذا العصر عندما يكون هناك رخاء يقولون: هذا بسبب تخطيطنا وتنظيمنا. وإذا حصلت نكسات أو تدهور في الحالة المعيشية قالوا: هذا بسبب الأصوليين.
مسألة: حكم التطير والتشاؤم بالأشخاص؟
أما حكمه ففيه تفصيل.
1- فأما التشاؤم بأهل الخير، فهذه عادة جاهلية وعلمانية، وهي محرمة.
2- التشاؤم بالذوات مطلقًا مع عدم كونها سببًا معقولاً للشر، فهذا محرم.
3- التشاؤم بالأشخاص إذا كانوا سببًا معقولاً للشر، فهذا جائز, وهذا معنى ما جاء في الحديث «الشؤم في ثلاث، المرأة، والدابة، والدار»، وفي رواية: «والفرس».
وهذه الأمور الثلاثة كانت مشئومة؛ لأنها كانت سببًا ومفتاحًا للشر.
مثاله: أن تكون زوجة الرجل سليطة اللسان مبذرة، ويأتيه منها شر زائد غير معتاد ومستمر، فإنها مشئومة، والعلاج في ذلك تركها.
وشؤم الدار: أن يكون جيرانها أهل سوء، فيأتيه منهم الشر والمشاكل، ويأتي الأولاد أيضًا، فهذه يجوز التشاؤم بها، والحل تركها والانتقال عنها.
والدابة: قد تأكل ماله بأن يكثر عطلها، فهذه مشئومة، والحل تركها.
وشرط هذه الأمور أن تكون المشاكل والشرور التي جاءت منها زائدة غير معتادة وكثيرة أيضًا، أما الشر القليل فلا يخلو منه إنسان، ولذا قال ابن منظور في لسان العرب: والشؤم ضد اليمن، ورجل مشئوم إذا جر الشر" اهـ.
وكما نقول: رجل مبارك أو امرأة مباركة إذا كانت تعين على الخير وتفعله، فكذلك امرأة مشئومة إذا كانت بعكس ذلك.
وهل هذا الأمر خاص بالثلاثة؟
الجواب: لا. فكل من سبب شرورًا كثيرة غير معتادة؛ فإنه يكون مشئوما سواء كان أخًا أو صديقًا أو بلدًا أو غير ذلك بالشروط السابقة.(1/156)
وهل يجوز أن نطلق على هذه الأشياء أنها مشئومة؟
نعم يجوز.
ما الفرق بينها وبين التطير وتشاؤم الجاهلية؟
هناك فروق:
1- أن هذه الأمور الثلاثة سبب قدري للشر، وأما تشاؤم الجاهلية فهو بأشياء ليست
بأسباب، كأن يمر الطير من جهة الشمال فيتشاءمون، فليس هناك علاقة بين الطير والشر.
2- أن التشاؤم بالمرأة وما عطف عليها وقعت بعد تجربة وبعد حوادث، أما تشاؤم الجاهلية المسموع أو المرئي فهو من أول وهلة.
3- أن التشاؤم بالمرأة وما عطف عليها حقيقي، وأما تشاؤم الجاهلية فأوهام وتخيلات.
أما العمل مع الذوات إذا كانت أسبابًا للشر، فيجوز عمل يتعلق بالقلب، وعمل يتعلق بالجو راح.
فأما ما يتعلق بالقلب فهو كراهية هذا الشيء، وأما ما يتعلق بالجوارح فهو الترك والانتقال.
الآية الثانية: قوله تعالى: { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } [يس: 19].
طائركم: أي ما قدر وقضي عليكم.
معكم: بسببكم، فما حصل لكم من شرور ومن حالة سيئة فهو سبب معاصيكم.
ومن الآيتين نستنتج أن عادة الجاهلية هي التشاؤم بالأشخاص الذين ليسوا سببًا للشر.
حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر» أخرجاه.
زاد مسلم «ولا نوء، ولا غول».
لا: نافية للجنس تحتاج إلى اسم وخبر.
عدوى: اسمها، وخبرها محذوف تقديره: هذا يترتب على معرفة دلالة النفي، هل هو للتأثير أو للوجود؟
والتقدير هنا: لا عدوى مؤثرة بذاتها، فالمنفي: التأثير الذاتي والسببية المستقلة.
أما كونها سببًا إذا شاء الله فهذا صحيح، وأما أنها سبب إذا شاءت هي فهذا ليس بصحيح.
وليس النفي للحقيقة.
ولذا جاء عند البخاري معلقًا مرفوعًا «فر من المجذوم فرارك من الأسد» وجاء في
الصحيح «نهى أن يورد ممرض على مصح» وما ذلك إلا أنها تؤثر؛ ولكن إذا شاء الله.
وأما عادة الجاهلية فكانوا يعتقدون أن العدوى تنتقل بذاتها، فنفي هذا الاعتقاد.(1/157)
وهنا إشكال وهو: أليس باعتبار الواقع إذا جاء سليم وصاحب مريضًا انتقل المرض وهي العدوى؟
الجواب: ليس دائمًا، بل أحيانًا ينتقل وأحيانًا لا ينتقل. فلو كانت مؤثرة تأثير استقلال لكانت دائمًا ناقلة للمرض.
مسألة: هل يجب الانتقال من أماكن الخطر؟
بحثنا أن الفرار من أماكن الخطر ليس من التطير لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فر من المجذوم فرارك من الأسد».
لكن هل يجب الخروج من الأماكن الخطرة؟
نقول: الخروج جائز ومباح، ويجوز لمن وثق بنفسه وقوي توكله يجوز له البقاء، ويجوز الإقدام على الأماكن الخطرة. لا سيما إذا كان هناك مصلحة عامة أو خاصة، ولذا جاء عند أحمد وأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد المجذوم وأكل معه وقال: «باسم الله ثقة وتوكلاً على الله» وخالد بن الوليد شرب السم، وكان في ذلك مصلحة عامة في دخول بعض الناس في الإسلام.
ومشى سعد بن أبي وقاص على البحر.
إلا أنه يستثنى الطاعون، فلا يقدم على بلدة هو فيها ؛ لفعل الصحابة في طاعون عمواس.
وهل هو خاص بالطاعون أم أنه يقاس عليه أسباب الشهادة إذا انعقدت، كما ورد في المجاهد يقف في الصف للقتال، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ... } وهل هو يشمل الأمراض والأوبئة العامة الخطرة قياسا على الطاعون؟
الظاهر أنه ليس خاصًا بالطاعون بل هو يشمل الطاعون والأمراض والأوبئة العامة. أما أسباب الشهادة فالغرق والحرق والمبطون وأمثال ذلك غير الطاعون، والأوبئة العامة فهذا لا يدخل بل يفعل أسباب السلامة من الغرق والحرق والمبطون وأمثاله.
ولا طيرة: لا: نافية للجنس، وتقدير خبرها: لا طيرة حقيقة، فهو نفي للحقيقة والوجود، فمن باب أولى أن يكون نفيًا للتأثير، فالطير ليس مؤثرًا ولا حقيقة له.(1/158)
ولا هامة: الميم جاء تخفيفها وتشديدها. هامة وهامة.
والهامة: نوع من الطير، إذا قتل الشخص مظلومًا وقفت على قبره وصاحت حتى يؤخذ بثأره، وهذا هو اعتقاد الجاهلية، وقيل: إنها علامة على الموت، فإذا وقفت على دار شخص وصاحت علم أنه ميت فاستعد.
وهل النفي هنا للمعنى الأول أو الثاني؟
قال النووي: النفي لكلا المعنيين.
وهل النفي للحقيقة أو التأثير؟
أما الحقيقة فموجودة، فهي طير موجود، ولكن النفي للتأثير، والهامة نوع من الطير، فهو هنا من باب عطف الخاص على العام.
ولا صفر: له ثلاث معان:
الأول: حية في البطن أو داء في البطن يصيب الإنسان، فيجعله أصفر اللون من شدة المرض، وهذا هو المشهور.
الثاني: شهر صفر المعروف، وكانوا يعتقدون أنه شهر الآفات والشرور، فيتشاءمون به.
الثالث: أنه بمعنى التأخير والنسيء، فكانوا يؤخرون المحرم إلى الصفر، وأقرب المعاني الأول ثم الثاني.
أما في النوع الأول وهو الداء، فيحمل النفي على التأثير المستقل، فيكون بمعنى العدوى.
وأما على المعنى الثاني وهو تشاؤمهم بشهر صفر، فيكون نفيًا لصحة هذا الاعتقاد، وتأثير هذا الشهر بالشر.
ويقاس على شهر صفر التشاؤم ببقية الأشهر والأيام، كأن يكون هناك أشهر معلومة أو أيامًا وقع فيها الشر، وكانوا يتشاءمون أيضًا بالنكاح في شهر شوال.
وهناك قول ثان: أن "لا" في الحديث ناهية، فيكون المعنى: لا تتطيروا ولا تعتقدوا أن العدوى تنتقل بذاتها، قال ابن القيم: وهي تحتمل النهي وتحتمل النفي.
زاد مسلم: «ولا نوء ولا غول».
ولا نوء: لا: نافية للجنس، والمنفي: التأثير ليس الحقيقة.
النوء: يقصد به النجم، وبعض العرب يتشاءمون في بعض النجوم، فيقولون: هذا نجم نحس، وهذا نجم شقاء. وبعض النجوم يتفاءلون بها ويقولون: نجم خير.
فالحديث هنا نفي التأثير عن النجم بالخير أو الشر.
"ولا غول":(1/159)
الغول: قال أبو السعادات: الغول هي: جنس من الشياطين، فهي متشيطنة الجن، تظهر على الناس بشكل أشخاص فتضلهم عن الطريق، إما أنها تسير بطريق مخالف فيتبعونها، أو أنها تقول لهم: من هنا الطريق فيصدقونها، فهي تضلهم بالقول أو الفعل، فنفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأثيرها: وقيل إن الغول هي: زعم كانت تزعمه العرب، فيكون على القول الأخير نفي للحقيقة.
وأما إذا قلنا إنها نفي للتأثير، فهي لا تؤثر إذا جاء الإنسان بالأسباب كقراءة الأذكار، وكذلك التعوذ منها.
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل» قالوا:وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة.
ويعجبني: أي يسرني، من السرور.
الفأل: ذكر أبو السعادات: أنه لفظ مشترك لما يسوء أو لما يسر، فيكون من الأضداد.
وظاهر الحديث أن الفأل من الطيرة، وهذا على ما يعتقده العرب، فإن مذهبهم أن الفأل والطيرة واحد. فأثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفأل واستحسنه، وأبطل الطيرة.
فيكون الفأل لغة: يطلق على الخير والشر على ما يسر وما يسوء، وشرعًا: هو الكلمة الطيبة. ومعنى الكلمة الطيبة أي: الكلمات الطيبة، أو الأسماء الطيبة.
فمحبة الكلمات الطيبة والنشاط بها، ومحبة الأسماء الطيبة والنشاط بها من الفأل، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحب سماع كلمة الفوز والنجاح والفلاح والسلام وما يشتق منها من أسماء، كالفائز والفالح والناجح.
كما أنه يكره الكلمات الخبيثة والأسماء الخبيثة وتنفر نفسه، كما أن الإنسان يكره
الرائحة الخبيثة وينفر منها.
مسألة: جاء في بعض الأحاديث كما عند أبي داود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أرسل رسولاً وكان اسمه حسنًا فرح، وإذا كان اسمه قبيحًا رُؤي كراهية ذلك في وجهه. وروى مالك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال مرة: «من يحلب لنا؟ فقام رجل. فقال: ما اسمك؟ قال: حرب. قال: اجلس».
والفروق:(1/160)
1- أن الفأل شيء طيب وتحبه النفوس الطيبة، فهو عبارة عن أسماء وكلمات طيبة.
2- أنه عندما يسمع يا سالم لا يعتقد أنه سيسلم، وإذا سمع يا خاسر لا يعتقد أنه سيخسر، ولكن ينشط بكلمة سالم ويتقوى، وكلمة خاسر لا ينظر إليها ولا تؤثر عليه، فيكون الفأل مجرد تقوية ونشاط، وليس معه اعتقاد بالسلامة والخسران.
ولذا لو سافر معه شخص اسمه سالم لا يعتقد السلامة وإنما يفرح به.
وإذا حلب له رجل اسمه قبيح فلا يعتقد الشر في هذا اللبن.
مسألة: الرسول - صلى الله عليه وسلم - غيّر بعض الأسماء القبيحة لا لأن لها أثرًا في المسمى، ولا لأن لها أثرًا في المقارن والمصاحب لها؛ وإنما لأنها تنفر منها الفطر السليمة. وقوله: "الكلمة الطيبة" لها مفهوم وهو أن الكلمة السيئة أو الاسم السيئ لا يسره.
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
هذا الحديث صححه المصنف، والجمهور على أنه ضعيف، وسبب الضعف أن فيه انقطاعًا.
قال المصنف: عقبة بن عامر، والصواب: عروة بن عامر قاله صاحب تيسير العزيز الحميد.
وله من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه أبو داود والترمذي، وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
هذا الحديث رواه الترمذي وصححه، وهو كما قال. وهذا الحديث يبين حكم الطيرة.
شرك: هنا نكرة، فهل هو شرك أكبر أو أصغر؟
هذا حسب الاعتقاد، فمن اعتقد أنها تفعل بذاتها أو علامة على المستقبل فهذا شرك أكبر، ومن اعتقد أنه سبب فهو شرك أصغر.
وما منا إلا ...: هذا مدرج من كلام ابن مسعود.
والإدراج: إدخال الكلام في كلام آخر من غير فاصل، والذي حكم عليه بالإدراج البخاري والترمذي والمنذري.(1/161)
وما منا إلا: أي إلا وقع في قلبه، وهذا لا يضرك.
ولأحمد من حديث ابن عمر: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك. هذا الحديث مختلف في تصحيحه، فبعضهم ضعفه بسبب ابن لهيعة، وعندهم أن ابن لهيعة ضعيف مطلقًا. وبعضهم صححه لأنه وإن كان فيه ابن لهيعة إلا إن الذي روى عنه ابنُ وهب، وهو أحد العبادلة.
من: عام حتى الكافر.
ردته الطيرة: هذا هو ضابط الشرك في الطيرة؛ أن ترده أو تجعله يمضي باعتقاد.
فقد أشرك: المعتاد من هذه اللفظة أنها في الأكبر فتكون بمعنى الألف واللام: الشرك والكفر.
فإذا كانت للشرك الأكبر، فهذا ردته باعتقاد أنها فاعلة، أو يخبر بها عن الغيب.
حديث الفضل بن العباس: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك».
هذا الحديث ضعفه ابن مفلح في الآداب الشرعية؛ لأن فيه مجهولاً وانقطاعًا، أما من ناحية المعنى فمعناه صحيح.
ما حكم قول القائل: «فأل الله ولا فألك؟»
قال بعض أهل العلم أنها تجوز، أي: أنا متفائل بالخير من الله سبحانه وتعالى.
باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث:
-زينة للسماء …-ورجومًا للشياطين…-وعلامات يهتدى بها.
فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. اهـ.
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم» رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف التنجيم:(1/162)
التنجيم: تفعيل مأخوذ من النجم. اصطلاحًا: الجمهور على تعريف التنجيم أنه: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وهذا تعريف أبي العباس ابن تيمية، واختاره كثير من الشراح؛ إلا أن هذا التعريف لا يشمل التنجيم عمومًا، وإنما هو لنوع من أنواع التنجيم، والمطلوب في التعاريف أن تكون عامة.
ولذا فالأقرب في تعريف التنجيم بشكل عام أنه:
الاستدلال بالنجوم على الحوادث الأرضية والأشياء الحسية كالزرع، وقلنا ذلك حتى يدخل علم التسيير في التعريف بالإضافة إلى علم التأثير فشملهما التعريف.
المسألة الثانية: أقسام التنجيم:
ينقسم التنجيم باعتبار موضوعه ومادته إلى قسمين:
1- علم التأثير.
2- علم التسيير.
المسألة الثالثة: أقسام علم التأثير:
المقصود بالتأثير: هو تأثير النجوم على الحوادث، وهو أنواع:
النوع الأول: أن يعتقد أن النجم فاعل ومؤثر أي: أنه يخلق الأحداث، وهذا حكمه:
كفر أكبر بالإجماع.
قال تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3] وهل هنا للاستفهام بمعنى النفي أي: لا خالق غيره، فهذا شرك في باب الربوبية.
الثاني: أن يستدل بحركات النجوم طلوعًا وغروبًا واجتماعًا وافتراقًا على الغيب، أي على ما سوف يحدث. مثاله: من ولد في نجم الجوزاء فسيكون سعيدًا، ومن تزوج في برج السنبلة مثلاً سيفشل زواجه، ومن حارب في نجم كذا أو سافر وهكذا، أو سينزل المطر إذا طلع النجم الفلاني وهكذا.
وحكم هذا القسم أنه كفر وشرك أكبر؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] وهذا ادعى علم الغيب، وحكمه هنا حكم الكاهن والعراف، وقد مرّ بنا هذا الباب.
النوع الثالث: أن يعتقد أنها سبب والله الفاعل: فيجعلها سببًا للحوادث، فإذا وقعت الحوادث نسب السببية إلى النجم.(1/163)
والفرق بينه وبين الذي قبله: أن الذي قبله إخبار لما سيحدث في المستقبل، فهو متعلق بالزمن المستقبل، وأما هذا النوع فالحوادث وقعت، ولكن يعلق سببيتها بالنجم.
مثال ذلك: إذا سلم الزرع من الهلاك، فينسب السلامة إلى نجم الثريا مثلاً على أنه هو السبب لسلامتها.
مثال آخر: إذا نزل المطر نسب نزوله إلى خروج النجم الفلاني، أو إذا هبت الريح نسب هبوب الريح إلى طلوع نجم أو غيابه، وأما لو قال: سوف ينزل المطر فهذا من الثاني.
حكم هذا القسم: محرم ومن باب الشرك الأصغر؛ لأنه ليس فيه دعوى الإخبار بالغيب إنما هو مجرد نسبة إلى أشياء ليست ذات سببية.
ويشترط في هذا القسم: أن تكون نسبة السببية غير صحيحة لا شرعًا ولا قدرًا، أما لو كانت النسبة صحيحة من جهة الشرع أو القدر فيجوز إن كان إخبارًا.
مثلا ذلك: لو قال إن هذا الزرع اشتد وقوي لسطوع الشمس عليه، فهذا يجوز؛ لأن حرارة الشمس سبب قدري في نمو النبات وقوته، لكن اشترطناه في باب الإخبار كأن
يخبر عن ذلك، أما لو كان في باب الإنشاء أي قاله مدحًا وثناءً فهنا يجب أن يقول: هذا من الله ثم من السبب الحقيقي، لما جاء عن ابن عباس بسند حسن رواه ابن أبي حاتم عنه قال في قوله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 22] قال: هو مثل قول القائل: لولا البط في الدار لأتانا اللصوص، فجعله من الشرك الخفي.
المسألة الرابعة: النوع الثاني من علم التنجيم وهو:
علم التسيير: وهو: الاستدلال بسير النجوم على المصالح المباحة.
وهو ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الاستدلال بالنجوم على المصالح الدينية، كالاستدلال بالنجم على القبلة، وعلى ثلث الليل الآخر، وعلى دخول أوقات الصلاة، فهذا حكمه فرض كفاية، ويستحب للمحتاج كمن أراد السفر – أن يتعلمه، وهذا ليس محل نزاع.(1/164)
النوع الثاني: الاستدلال بالنجوم على المصالح الدنيوية كالاستدلال بالنجوم على الجهات الأربع، وعلى الفصول الزراعية، وعلى فصول السنة إلى غير ذلك من المصالح الدنيوية.
هذا النوع وقع الخلاف بين السلف في تعلمه على قولين:
القول الأول: وهو قول قتادة ومن وافقه أنه يكره تعلمه، ودليل قتادة: من باب سد الذريعة؛ لأن علم التنجيم قد ظهرت بداياته في عصره.
وأول ما انتشر علم التنجيم "المحرم التأثير" في القرن الثالث، وازداد رواجه في القرن الرابع والخامس في دولة بني العباس، فأفتى بالمنع من علم التسيير سدًا للذريعة؛ حتى لا يتوصل به إلى علم التأثير.
القول الثاني: هو قول الإمام أحمد ومن وافقه أنه يجوز، واستدلوا على الجواز بقوله تعالى: { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل: 16] هذه الآية عامة في الاهتداء أي: يهتدون دنيا ودين، ويدل عليه أيضًا الأصل؛ لأن الأصل الإباحة، ويدل عليه أيضًا المصلحة، فإن فيه مصالح للناس، وكما مر علينا من كلام ابن المسيب «وأما ما ينفع فلم يُنه عنه».
وأقرب الأقوال عندي: أنه يمكن الجمع بين القولين، أنه يجوز تعلم علم التسيير في
المصالح الدنيوية؛ إلا زمن كثرة الافتتان بعلم التأثير أو التنجيم المحرم، فيحمل كلام قتادة على زمن، ويحمل كلام الإمام أحمد على زمن.
المسألة الخامسة:
وقفه مع أصحاب المجلات: يوجد في بعض المجلات من يروج لعلم التأثير، فتجد في آخر صفحة عنوان «أنت وحظك»، ويضعون بروج السنة، ويضعون فيها تنبؤات وتكهنات، ويقولون: من ولد في برج كذا فإنه هذا الأسبوع سوف يخسر، أو من ولد في برج كذا فلا يسافر هذا الأسبوع، وهذا من الشرك الأكبر، وهذه المجلات تكون ممن يُروج الشرك، فيجب مقاطعتها والإنكار عليها وعلى المتعاطي لها.
المسألة السادسة:(1/165)
يستدل بعض المنجمين ببعض الآيات على جواز علم التأثير وأن له أثرًا، مثل استدلالهم بقوله تعالى في إبراهيم: { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 88، 89].
فقال المنجمون: إن إبراهيم يتعاطى علم التنجيم، وأنه نظر إلى طالعه ونجمه لكي يعرف ويستنتج منه ما سوف يحدث. فإبراهيم عندهم يأخذ من النجوم، وهذا إفك عظيم على إمام الموحدين، وقد ناقش هذه القضية العلامة ابن القيم في كتاب «مفتاح دار السعادة» ص528.
ورد عليهم بجواب سديد ملخصه في نقطتين:
الرد الأولى: عقلي، قال: إن السقم والمرض لا يحتاج إلى استدلال من النجوم، فإن المرض يُعرف حسًا وفطرة، وكل إنسان يعرف حاله من الصحة والمرض بدون نظر في النجوم.
الرد الثاني: أن إبراهيم نظر إلى النجوم من باب التورية الفعلية، فإبراهيم استخدم المعاريض والتورية ليدفع قومه عن نفسه، ولذا قال تعالى: { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [الصافات: 90] وقاله ليدفعهم لما عزم على تحطيم الأصنام لا لكي يعرف من النجوم هل هو صحيح أم سقيم، وكما أنه استخدم المعاريض الفعلية استخدم المعاريض القولية أيضًا؛ لما قال لزوجته سارة "هذه أختي" لتخليصها من يد الفاجر.
وكما قال: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [الأنبياء: 63].
المسألة السابعة: ما حكم إخبارات الأرصدة الجوية بتوقع نزول المطر أو هبوب الريح؟
إخبار الإرصادات الجوية كتوقع نشوء سحاب أو نزول مطر. حكمه حكم الإخبار عن الكسوف والخسوف بأنه يجوز، إن كان مبنيًا على الآلات التي يرصدون بها وعلى التجارب المعتادة، وعما عرفوه من سنن الله الكونية، فهذا يجوز؛ لكنه مجرد ظن قد يخطئ وقد يُصيب، ولا ينبغي أن يبنى عليه أحكام. وهل هو من باب الكهانة؟ لا. ليس من ذلك.
المسألة الثامنة: ما موقفنا من أخبار الفلكيين والجغرافيين؟
هي مثل أحاديث بني إسرائيل على ثلاثة أقسام:(1/166)
1- ما كان منها مخالفًا للشرع، فهذا يُكذب ولا يجوز تصديقه.
2- ما كان موافقًا للشرع، فهذا يصدق؛ لأنه قول الشرع.
3- ما لا يخالف الشرع ولا يخالف العقل ولم يرد فيه شيء بالشرع ما يُصدقه، فهذا مثل أحاديث بني إسرائيل لا تُصدق ولا تُكذب. إلا إن دلت القرائن على صدقها فلا مانع.
المسألة التاسعة: هل النجوم والكواكب لها أثر على الحياة أم يُنفى أثرها ويُقال إنه من باب علم التأثير؟
النجوم والشمس والقمر وغير ذلك من النجوم على قسمين:
القسم الأول: لها أثر ثابت من جهة الشرع أو القدر، وهذا الأثر يُثَبت ويُعترَف به، وهو ليس داخلاً في علم التأثير المنهي عنه، بل هو من علم التأثير الجائز.
القسم الثاني: آثار وهمية لا حقيقة لها، وهذه تُنفى عن النجوم والشمس والقمر وغيرها.
ونبدأ بأثر القمر، فأثر القمر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الأثر الثابت شرعًا أو قدرًا.
كأثر الضوء، وأثر الاهتداء بالقمر، قال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [الفرقان: 61]، وقال تعالى: { وَعَلَامَاتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل: 16] وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [يونس: 5].
وهل له أثر في المد والجزر في البحار؟
هذا الأثر أثبته ابن القيم في كتاب "مفتاح دار السعادة" أن للقمر أثرًا في مد البحر وجزره. وفحوى كلامه – رحمه الله – أنه كلما قرب القمر من البحر بعدما يشرق ويغرب، فإنه يحدث المد، وإذا مال القمر إلى الغروب وابتعد حدث الجزر.
ومن الناحية العلمية ثابت بهذه الطريقة، وهذا مد وجزر يومي؛ لأن القمر يغرب ويشرق يوميًا، فإذا ثبت هذا من الجهة العلمية ولم يكن له معارض من الشرع فلا مانع من إثبات هذا الأثر؛ إلا أنه مرتبط بمشيئة الله وقدرته.
وهل له أثر على المائعات والرطوبات في غير البحار؟(1/167)
هذه أثبتها ابن القيم في نفس الكتاب في فصل المنجمين.
وقال: إذا زاد اقتراب القمر من الناس زادت الرطوبات في الجسم، وكان ظاهر الجسم أكثر رطوبة، فإذا ابتعد القمر غارت الرطوبات في الإنسان، وكان أكثر جفافًا.
بل قال: إن الإنسان إذا نام في ضوء القمر هاج عنده الزكام، وأثبت ذلك في ألبان الحيوانات؛ لكنه أثر شهري، وقال: بأنه في أول الشهر وكلما زاد الشهر إلى منتصفه كثرت الألبان في الحيوانات، فإذا أخذ القمر بالنقصان في آخر الشهر نقصت.
وذكر أثره على الزرع والغرس، وذلك أن الزرع الذي يغرس وفق قوة القمر وقُربه أكثر قوة وامتلاء من الذي يغرس وقت بُعده، هذه كلها أثبتها ابن القيم، وذكر أثره على الأسماك وعلى الطير.
وعلى كل حال نقول: إن ثبت ذلك علميًا وتجربه فلا مانع من إثبات هذا الأثر. هذا على سبيل المثال، فإن ثبت شيء علميًا أن القمر له أثر آخر لا يُخالف الشرع فلا مانع من إثباته.
القسم الثاني: وهي الآثار المعنوية للقمر، كأن يُقال: إن له أثرًا في الهزيمة أو النصر، أو السعادة، أو الشقاوة، أو الرزق والفقر، أو القبح والجمال، أو إن له آثارًا نفسية على الآخرين، كالذكاء والسرور والآلام وحسن الخلق، أو آثارًا على مصير الإنسان من الحياة
والموت أو الولادة، أو الطول والقصر إلى غير ذلك من الآثار المُدعاة.
أما الدليل على أن هذه الآثار المذكورة منفية، فهو ما ثبت في الصحيح لما كسفت الشمس عند موت إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قالوا: كسفت لموت إبراهيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته». الشاهد: قوله «لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته».
فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون للشمس أو القمر أثر على الحوادث أو ارتباطًا بها، وبين الرسول أنما هي آية من آيات الله.
المسألة العاشرة: أثر الشمس على الحياة:(1/168)
الشمس مثل القمر في الآثار، فآثارها تنقسم إلى قسمين:
1- آثار ثابتة من جهة الشرع أو القدر.
2- آثار وهمية.
أما القسم الأول: الآثار الحقيقية: فمثل الحرارة والدفء، ومثل أثرها على المطر، فإن ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" ذكر أن من أسباب تكون مياه المطر أن الشمس تسطع على البحار، فتتبخر مياه البحر، فيصعد إلى السماء، ثم يتجمع وينزل، وكل ذلك بإرادة الله وتقديره، وهذا ثابت من الجهة العلمية أيضًا.
ومثل أثرها على بعض النباتات نموًا ونوعية:
أما النمو: فالنباتات التي تتعرض للشمس أكثر نموًا وقوة من التي لا تتعرض.
ونوعية: فإنك تجد النخيل ينبت في البلاد الحارة لسطوع الشمس عليه.
ومثل أثر الشمس على الحيوان: فحيوانات البلاد الحارة تختلف عن حيوانات البلاد الباردة.
وكأثر الشمس على الإنسان وعظامه وبدنه ولونه، وكأثر الشمس في الحركة.
ومعظم هذه الأشياء أشار إليها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة".
وهي ثابتة كما يحسها الناس وينظرون إليها، هذا ليس على سبيل الحصر، ولكن كل ما ثبت أثره شرعًا أو قدرًا فلا مانع من إثباته.
القسم الثاني: الآثار الوهمية المصطنعة، وهي كما قلنا في أثر القمر الوهمي تمامًا.
المسألة الحادية عشرة:
وينسحب هذا التقسيم الثنائي وهو الآثار الثابتة والآثار الوهمية على بقية النجوم والكواكب، وإنما أفردنا الشمس والقمر للأهمية، فما ثبت من جهة الشرع أو القدر أن له أثر فلا مانع من إثباته، أما الإدعاء بأن النجوم لها آثار معنوية، كالشقاوة والسعادة إلى غير ذلك، فهذا منفي ويدل عليه حديث «لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته»، فنفى الآثار المعنوية.
ولو قال قائل: الدعوى أعم من الدليل، فالدليل في الشمس والقمر، وأنتم قلتم في النجوم والكواكب؟(1/169)
نقول: فيه دليل يدل على الجميع، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة الذي مرّ علينا في باب التطير «لا عدوى ولا طيرة» زاد مسلم: «ولا نوء ولا غول» الشاهد قوله: «ولا نوء» فلا: نافية، والمنفي التأثير، أي: لا نوء مؤثر. ولذا لو اختلف مختلفان أحدهما يُثبت التأثير والآخر ينفي التأثير، فإن الدليل مع النافي لعموم قوله: «ولا نوء». أو شككنا في الأثر فالأصل النفي.
تنبيه: هناك ما يسمى «عبّاد الشمس» ويذكرون أنها تتبع الشمس، فهي تتأثر باتجاه الشمس، ومناقشة هذه القضية من ناحيتين:
1- إن ثبت هذا من الناحية العملية والواقعية فلا مانع من إثبات هذا الأثر، ويكون خروج الشمس سببًا في دورانه، مثل ما يلاحظ على بعض النباتات أن أوراقها إذا طلعت الشمس وسطعت عليها اتسع انفتاحها، وإذا غابت ضاق الاتساع.
2- تنازعهم في التسمية، فإن تسميته "بعباد الشمس" لا يجوز؛ لأنه لا يجوز تعبيد المخلوق لغير الله. كما قال ابن حزم: «اتفقوا على تحريم كل اسم مُعبِد لغير الله» فهذا النبات عبد الله سبحانه وتعالى، وجعله عبدًا للشمس هذا لا يجوز، وإنما يسمى باسم جائز، كاسم متتبع الشمس أو ملاحق الشمس أو دوّار الشمس ونحوها.
قال المصنف: قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: «خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ
وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به». اهـ.
هذا يسمى معلقًا في الاصطلاح، وصيغة التعليق: «قال قتادة»: وهذه من صيغ الجزم، وصيغة التمريض مثل "قيل". «وقتادة»: هو ابن دعامة السدوسي، وهو من صغار التابعين، وكلام قتادة يعتبر اصطلاحًا: مقطوعًا.
قوله: «خلق الله»: أي الخالق المعبود.
قوله: «هذه النجوم»: الألف واللام: للعهد الحضوري.
وقوله: «لثلاث»: اللام للتعليل، فعلة خلق النجوم ثلاثة أمور: وهي كونها زينة، ورجومًا، وعلامات.
وهل هذا حصر؟(1/170)
لا. ليس حصرًا. فإن ثبت فوائد وعلل أخرى فلا مانع من إثباتها.
العلة الأولى: زينة السماء.
والزينة: هي ما يدعو إلى النظر، وهي جمال.
وقوله "للسماء": يقصد السماء الدنيا لقوله تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [الملك: 5].
الثانية: رجومًا للشياطين: أي يقذف بها الشياطين، ويقصد بالشياطين هنا: مسترقي السمع.
الثالثة: علامات يُهتدي بها: أي: تكون هداية، ويُهتدى: مبني للمجهول، ويقصد بالمهتدى الناس.
وهل هو مطلق الاهتداء بمعنى يُهتدى بها في كل شيء؟
لا، إنما يُهتدى بها فيما أُبيح لهم بالاهتداء به، ولذا يقول بعض المنجمين: إن هذه الآية تدل على أنه يُهتدى بالنجم في سعادة الشخص أو شقاوته وقد كذبوا في ذلك، ونقول: إن باب السعادة والشقاوة ليست بعلامة له.
قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الأنعام: 97] لا في علم الغيب.
وقوله «فمن تأول فيها غير ذلك».
يقصد بالتأويل هنا: الزعم والكذب لا التأويل الاصطلاحي المعروف.
وحكم قتادة على الزاعم بثلاثة أحكام:-
الأول: الخطأ، وهو خطأ أكبر.
الثاني: ضياع النصيب، وهذا يُشعر بأنه كافر في هذا الزعم؛ لأن الذي ليس له نصيب في الآخرة هو الكافر، وأما المسلم ولو كان عاصيًا فله نصيب ما دام أنه موّحد.
الثالث: أنه تكلف ما لا علم له به.
وقوله: «وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يُرخَّص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما». الكراهية: عند السلف القدماء بمعنى التحريم هذا على اختيار ابن القيم، وهي غير الكراهية عند المتأخرين وهي التي بمعنى: ما نُهي عنه لا على وجه الإلزام.
وسبب كلام قتادة: أنه ظهر علم التأثير في زمانه، وإن كان أساس علم التنجيم وجُد في القديم عند اليونان وغيرهم، ولكن عند الأمة الإسلامية ظهر في القرن الثاني في زمن قتادة.
قوله: «تعلم منازل القمر»:(1/171)
منازل: جمع منزلة، وأضافها هنا إلى القمر، وسميت منازل القمر لأن القمر يجلس في كل منزلة ليلة، ونزوله بحسب رأي العين، لا أنه جلوس حقيقي، فالقمر يمشي لا يقف.
وعدد هذه المنازل ثمان وعشرون منزلة، ثم يختفي القمر ليلة ويخرج الليلة التالية إن كان الشهر ناقصًا، أو يختفي ليلتين إن كان الشهر وافيًا.
والمنازل هذه نجوم يمر القمر بقربها فتنسب إليه، والشمس أيضًا لها منازل.
المسألة الثانية عشر: وقفة عند منهج قتادة:
من الملاحظ أن قتادة استخدم «سد الذريعة» لما ظهر في زمانه علم التنجيم، ويستفاد منها: أنه إذا كُثر شيء من المباح وتوسع الناس فيه، فإنه يتوسع في سد المنافذ إليه بالمنع من بعض المباحات. وقال بعض أهل العلم: إن سد الذرائع ربع الدين، وهذه من السياسة التي ينبغي أن يهتم به العلماء وطلبة العلم.
وقوله: «ولم يُرخص ابن عيينة فيه» فيكون ابن عيينة وافق قتادة في المنع من تعلم
منازل القمر.
قوله: «رخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق» هذا القول الثاني في المسألة.
وأما حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر» [رواه أحمد وابن حبان في صحيحه].
تخريج الحديث: وقع اختلاف بين أهل العلم في تصحيحه، والجمهور على تصحيحه، وهو حديث حسن.
وأما قوله «ثلاثة»: فهو للتقريب، من باب تقريب العلم لا للحصر.
وقوله: «لا يدخلون»: لا: نافية، وهنا نفى دخولهم الجنة، فهل إنهم لا يدخلون أبدًا أم لا يدخلون أولاً مع الداخلين، ولكن ينتهون إلى الجنة؟
هذه عند السلف تسمى أحاديث الوعيد، ومذهب السلف: إمرارها كما جاءت وعدم تفسيرها إلا عند الحاجة.
وهنا نفسرها؛ لأن الحال حالة تعلم فنقول: حسب الاعتقاد للأول والثاني، فإن أدمن على الخمر وقطع الرحم مستحلاً ذلك، فهذا نفي لعدم الدخول مطلقًا فلا يدخل أبدًا.(1/172)
وأما إن كان غير مستحل ويعرف أنه عاص، ولكنه فعله هوى وشاء الله أن لا يغفر له، فلا يدخل أولاً مع الداخلين ولكن ينتهي إلى الجنة.
وأما الثالث: "تصديقه بالسحر" فيحتاج إلى تفصيل وشرح، ومرّ علينا باب كامل في السحر تجد الإجابة هناك إن شاء الله.
وقوله "الجنة": الألف واللام للعهد الذهني أي: الجنة المعروفة، وهي دار المؤمنين، وهي مخلوقة وموجودة الآن.
أما هؤلاء الثلاثة:
فالأول: مدمن الخمر، والمدمن هو كثير الشرب للخمر، إما باعتبار العدد أو باعتبار الزمان حتى يموت، والخمر هو كل ما خامر العقل وغطاه على وجه اللذة والطرب.
الثاني: قاطع الرحم.
القاطع: ضد الواصل، وسمي الذي لا يصل أقاربه قاطعًا لأنه قطع حبل الصلة الذي بينه وبينهم.
والرحم يقصد بها: القرابة، وهي على حدودها كالتالي:
الأول: الفروع: فروع الإنسان، وهم أبناؤه وأبناء أبنائه وأبناء بناته، فهؤلاء رحم يجب وصلهم.
الثاني: الأصول، وهم الآباء والأمهات والأجداد والجدات وإن علوا من جهة الأم أو من جهة الأب، وهؤلاء يجب وصلهم أيضًا.
فهذان القسمان يسمون: الرحم القريب.
الثالث: الحواشي، وهم قسمان:-
1- فروع الأب أو الأم: وهم الأخوة وأبناؤهم وإن نزلوا، وهؤلاء يجب صلتهم، كأخيك وأختك وأبنائهم.
2- فروع الجد والجدة: وهم الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناؤهم، وهؤلاء يجب صلتهم.
وهذان القسمان يسمون: الرحم المتوسطة.
الرابع: فروع جد الأب، وهم أعمام أبيك وأعمام أمك وأبناؤهم، وهؤلاء رحم يجب صلتهم.
وهذا القسم يسمى: الرحم البعيد، وهم منتهى حد الرحم.
أما ما بعد ذلك فلا يجب صلتهم.
ولذلك فحد الإنسان اسمه الرابع، وقلنا بهذا الحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى ذوي قرابته وكان حدهم هاشم، وهو الأب الثالث للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
المسألة الثالثة عشر: ما حد وصل الرحم وقطعه؟(1/173)
ليس له حد شرعي وإنما حسب العرف، فيختلف حسب العرف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فإذا تعارف الناس أن هذا الحد صلة فهو كذلك، وإن تعارفوا على أنه قطيعة فهو كذلك من الأشياء التي لم تحد في الشرع فيرجع إلى العرف.
وأقل الصلة: السلام إما بالمباشرة أو الواسطة، كأن ترسل له السلام عن طريق الهاتف وعن طريق شخص وغير ذلك، والدليل على ذلك ما رواه البزار والطبراني بسند حسن عن ابن عباس مرفوعًا: «بلوا أرحامكم ولو بالسلام»، أما أكثر الصلة فليس لها حد أو سقف.
أنواع الصلة:
1- مر علينا السلام وهو أقلها.
2- الزيارة.
3- حضور المناسبات لهم كالعيد ومناسبات الزواج.
4- عيادة مريضهم.
5- الإهداء إليهم.
6- النفقة عليهم، ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب.
7- مساعدة محتاجهم.
8- كف الأذى عنهم.
9- البشاشة في وجوههم.
إلى غير ذلك.
أما الثالث: وهو المصدق بالسحر:
فالمقصود بالسحر هنا: عموم السحر، ويدخل فيه التنجيم، فإن التنجيم سحر كما في حديث رواه أبو داود بسند صحيح: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر».
وقوله: - صلى الله عليه وسلم - «مصدق بالسحر»: أما إن كان السحر المعروف فإن التصديق بأثره ووجوده، وأن له حقيقة، فهذا واجب في أحد قسمي السحر وهو السحر الحقيقي.
أما بالنسبة للتنجيم الذي هو علم التأثير فلا يصدق بوجوده ولا أثره، والمصدق بوجوده أو أثره لا يدخل الجنة أما حكم المصدق بالتنجيم فهو كفر أكبر لا يدخل الجنة مطلقًا؛ إلا في مسألة أنه سبب بعد الوقوع والله الفاعل، فهذا تحت المشيئة.
والتصديق ينقسم إلى ثلاثة:
1- تصديق بالقلب، وهو أن يعتقد صدق المنجم، وهذا كفر لا يدخل الجنة مطلقًا.
2- تصديق اللسان، وهو أن يقول المنجم سيحدث كذا وسيحدث كذا، فيصدقه باللسان بغض النظر عن الاعتقاد القلبي، فهذا يكفر أيضًا.
3- تصديق جوارح وهو أن تعمل بما قال، ومعنى "مصدق" أي نسبه إلى الصدق قلبًا أو لسانًا أو عملاً.(1/174)
المسألة الرابعة عشر: حد المنجم.
حده حد الساحر والكاهن؛ لأنه يخبر عن المغيبات. وحد الساحر: ضربة بالسيف ردة.
المسألة الخامسة عشر: حكم المنجم:
حكم المنجم كحكم الساحر؛ لأن التنجيم فرع عن السحر، فهو كافر لأنه مكذب بالقرآن.
المسألة السادسة عشر: حكم الذهاب إلى المنجم:
حكمه حكم الذهاب إلى الساحر والكاهن، وقد مرّ بنا في باب السحر والكهانة.
باب في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة: 82].
عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة» وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب». رواه مسلم.
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب». ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } [الواقعة: 57] إلى قوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة: 82].
قال الشارح:
المسألة الأولى: قصد المصنف رحمه الله بهذا الباب:
أراد المصنف بهذا الباب أن يبين علاقة النجوم بالمطر، واعتقاد الناس في هذه العلاقة، فهو باب خاص بهذه المسألة بعدما ذكر باب التنجيم بشكل عام.
المسألة الثانية: علاقة هذا الباب بالباب الذي قبله.(1/175)
فيه تشابه بين هذا الباب مع الباب الذي قبله؛ لأن كليهما يتحدث عن النجوم وأثرها، إلا أن هذا الباب خاص بنسبة المطر إلى النجم، والذي قبله عام في الإخبارات المنسوبة إلى النجم.
المسألة الثالثة: شرح الترجمة.
قوله: «الاستسقاء»: هي طلب السقيا، فإن السين والتاء تدل على الطلب؛ لأن مادة استفعل تدل عليه، كما تقول: استرحم أي: طلب الرحمة، واستغفر: طلب المغفرة، واستعان: طلب الإعانة.
والأنواء: جمع نوء، وهو مصدر من ناء ينوء نوءًا أي: طلع وظهر، ويقصد بالنوء النجم، فالأنواء الطوالع وهي النجوم، وسمي النجم نوءًا لأنه ينوء أي: يظهر.
المسألة الرابعة: حكم الاستسقاء بالنجوم:
يختلف الحكم باختلاف الاعتقاد وهي كالتالي:
1- أن يعتقد أن النوء أي النجم هو المُوجد للمطر، والمُنزل للمطر، وهذا حكمه شرك أكبر في باب الربوبية، أما الدليل فقوله تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3]، فهذا استفهام بمعنى النفي أي: لا خالق غير الله.
وإذا قال: إن النجم يوجد المطر، فإنه اعتقده خالقًا، والدليل الثاني: الإجماع على تفرد الله بالخلق.
2- أن لا يعتقد أنها خالقة للمطر، ولكن يدعو النوء ويستغيث بالنجم لإنزال المطر، وهذا شرك أكبر في باب الألوهية؛ لأنه دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يقول: يا نوء اسقنا وأنزل علينا المطر وكان بعض العرب يدعو النجوم كما قال تعالى { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } .
والدليل قوله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18]، وقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون: 117].
3- نسبة سبب: أن يجعلها سببًا للمطر والله هو الفاعل، فيجعل طلوع النجم أو غروبه سببًا لهطول الأمطار بعد نزول المطر.(1/176)
وحكمه: أنه شرك أصغر، وباعتبار الكفر كفر أصغر، ويسمى كفر النعمة.
4- نسبة إخبار بالغيب، كأن يُحدّث أنه سوف ينزل مطر إذا طلع النجم الفلاني. وهذا شرك أكبر لأنه إخبار عن المغيبات، وهذا ما يفعله المنجم قال تعالى: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65] وهذا القسم يلحق بالباب السابق.
والفرق بين هذا القسم والقسم الذي قبله: أن هذا إخبار عن أمر سوف يحدث، أما القسم الثاني الذي قبله فهو إذا وقع المطر نسب نزوله إلى النوء أو النجم.
كما أن الفرق بينهما في الحكم أيضًا؛ بأن هذا أكبر، وهذا أصغر.
5- نسبة وقت وظرفية، بأن يجعل وقت نزول المطر خروج النجم الفلاني، فليس النجم سببًا ولا موجودًا، وإنما هو وقت هطول الأمطار خروج النجم الفلاني، كأن يقول: وقت نزول المطر عندنا وقت طلوع نجم الثريا، أو ينزل المطر إذا خرج سهيل، وهو نجم معروف.
أما هذا القسم فحكمه وقع فيه خلاف على قولين:-
أ- منهم من أجازه.
ب- القول الثاني: الكراهية. من باب سد الذريعة، وعلى القول الثاني هل الكراهة للتنزيه أو التحريم؟ على قولين أيضًا.
أما من باب الشرك فلا يعد فيه شيء منه.
المسألة الخامسة: هل التغيرات الجوية حكمها حكم نزول المطر مثل نسبة الحر أو البرد أو هبوب الرياح إلى النجم؟
الذي يظهر أن الحكم واحد يجري فيه الأقسام الخمسة.
المسألة السادسة: ما حكم لو نسب المطر لا إلى النجم ولكن إلى الأزمان كالشتاء والصيف أو إلى شهر معين؟
أما إن اعتقد أن الأزمان موجدة، أو دعاها أو جعلها سببًا، فهذا لا يجوز، وحكمه حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة، أما إن جعلها وقت نزول المطر فهذه تجوز مثل قولهم إن نزول المطر عندنا في الشتاء أو في المربعانية، وهي ليست مثل النسبة إلى النوء لحديث «لا عدوى ولا طيرة ولا نوء» أي: مُوجِد أو مسبب.(1/177)
المسألة السابعة: ما الحكم لو قال: إن النجم سبب في نزول المطر بإذن الله تعالى؟
هذا لا يجوز وهو من الشرك الأصغر؛ لأنه مر علينا في الأقسام أن نسبة السببية إلى النجم شرك أصغر، وأما قوله "بإذن الله" فهذا لا يغير الحكم؛ بل هذا زاد الكذب على الله، فإن الله ما أذن بالسببية.
المسألة الثامنة:
وهذه كثيرًا ما تحدث عند العوام، وهو أن ينسب نزول المطر إلى قدوم مُحب أو
مُعظم عنده، إذا وافق نزول المطر قدوم ملك أو أمير أو شيخ أو قدوم مُحب له كقريب أو صديق، فإنه ينسب نزول المطر إلى هذا القدوم. ومن ألفاظ العوام في هذا الباب قولهم: جئت وجاء على وجهك الخير، أو يقال: هذه من بركات جَيَّتك، أو نحو ذلك وهذا لا يجوز وهو من الشرك الأصغر، فهي ألفاظ شركية يجب إنكارها.
ويُقاس عليه التغيرات الجوية أيضًا لو وافق مجيئه هبوب ريح أو حدوث حرب فالحكم واحد.
المسألة التاسعة: هل الضغط الجوي كسطوع الشمس والرياح الموسمية لها أثرٌ في نزول المطر؟
أما بالنسبة للضغط الجوي أو ما يسمى بالمنخفض الجوي فيُذكر في الجغرافيا أنه من أسباب نزول المطر، ومثله الرياح الموسمية؛ لأن الرياح تنتقل من منطقة المرتفع الجوي إلى المنخفض الجوي مما يسبب نزوح الرياح والسحب، فيتسبب المطر.
وإجابتنا عليه من ناحيتين:-
الناحية الأولى: يُبحث هل هو فعلاً سبب قدري.
الناحية الثانية: إن ثبتت سببيته من جهة القدر فلا مانع من جعله سببًا، لكن بعد القول بفضل الله ثم بهذا السبب الصحيح إن ثبت.
أما مسألة سطوع الشمس على البحار فأشار إليها ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"، وهي أنه تُسلط الشمس أشعتها على البحار فيؤدي إلى سخونة الماء وتبخره ثم يرتفع إلى أعلى فيتكثف. اهـ. من معنى كلام ابن القيم. وإلى هذا الحد مقبول، لكن جعلها سببًا في المطر فيه نظر.
والصحيح أن سطوع الشمس سبب في التكثيف. أما نزول المطر بعد ذلك فهو شيء آخر، فيكون قد انتهى دور الشمس بالتكثيف.(1/178)
المسألة العاشرة: لو رأى الإنسان سحابًا داكنًا يحصل منه المطر عادة في وقت المطر وقال: أتوقع نزول المطر بناءً على هذه القرائن فما حكم ذلك؟
الجواب: يجوز؛ لأنه حكم مبني على قرائن معتادة إلا أنه لا يجوز الجزم. ومثله إخبارات الأرصدة الجوية عن نزول الأمطار والتغيرات الجوية فهو جائز؛ لأنه يُدرك بالآلات الحديثة إلا أنه لا يجوز الجزم به، وإنما يرتبط بمشيئة الله.
المسألة الحادية عشرة:
يوُجد في بعض التقاويم قولهم: هذا نوء صادق، أو نوء قلّ ما يُخلف، وغيره من الألفاظ إذا ذكروا نجمًا معينًا.
وهذه الألفاظ لا تجوز، وقد تكون شركًا أصغر، وقد تكون شركًا أكبر. أما لو قال: إن النجم هذا وقت المطر فهذه المسألة مرت علينا في حكم نسبة الوقت.
المسألة الثانية عشرة:
شرح الآية { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة: 82]. الواو في { وتجعلون } تعود على المشركين.
وتجعلون تنصب مفعولين { رزقكم } المفعول الأول، و { أنكم تكذبون } المفعول الثاني.
وموضع الشاهد من الآية قوله: { رزقكم } اختلف السلف في تفسير الرزق هنا، فجاء عند الترمذي مرفوعًا من حديث علي بن أبي طالب أنه: فسر الرزق بالشكر { وتجعلون رزقكم } أي شكركم، فيكون هذا تفسير نبوي للآية.
وذكر عن بعض السلف أنهم جعلوا الشكر محذوفًا أي: تجعلون شكر رزقكم.
وذكر بعضهم أن { رزقكم } بمعنى "حظكم"، وهذا اختلاف تنوع، فالكل يدخل في تفسير الآية.
ويكون الرزق المقصود هنا المطر، والتكذيب في الآية يقصد به نسبته إلى النوء بالنسب الثلاث "نسبة إيجاد، ونسبة دعاء، ونسبة إخبار".
وهل يدخل فيها السببية؟
نعم. السببية أيضًا تدخل، فأصبحت النسب أربع، وأصبح التكذيب يدخل في النسب الأربع.
ووجه الشاهد من الآية: أن الله يذم من ينسب المطر إلى النجوم، وهذه الآية يأتي بقيتها في آخر الباب من حديث ابن عباس.(1/179)
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» [رواه مسلم].
فيه مسائل:
المسالة الأولى: قوله "أربع في أمتي".
هنا ذكر العدد ولا يراد به الحصر، فإن القاعدة أن العدد لا مفهوم له، فإن أمور الجاهلية أكثر من أربع، ولكن يقصد من العدد التسهيل، ولذلك يُستحب تقسيم العلم حتى يسهل فهمه وحفظه.
المسألة الثانية: قوله "أمتي":
الأمة يقصد بها هنا أمة الإجابة لا أمة الدعوة؛ لأنه قال من أمر الجاهلية، وأساس الأمور الجاهلية موجودة في أمة الدعوة؛ لكنها تنتقل إلى أمة الإجابة، فهذا تحذير أن تنقل ممن هي فيه وهي أمة الدعوة إلى أمة الإجابة التي هي ليست فيها.
المسألة الثالثة: قوله: "من أمر الجاهلية".
هنا نسب الأمر إلى الجاهلية، والياء ياء النسب.
وهل هي منسوبة إلى الحال أو منسوبة إلى الزمن؟
أما على مذهب العلمانيين فإن النسبة نسبة زمن، وعندهم: الجاهلية ما قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمعنى أنه زمن حصل وانتهى، وهذا خطأ.
بل النسبة هنا نسبة حال، وهي منسوبة إلى الجهالة والسفه، والجهالة هي فعل الشيء الممنوع مع العلم به، ولكن هوى كما قال تعالى: { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } [النساء: 17].
ومنسوبة أيضًا إلى الجهل الذي هو ضد العلم، وهو عدم الإدراك.
على كل حال فالجاهلية اسم جامع لكل ما يُخالف الشرع.
"لا يتركونهن": لا: نافية، وهنا نفت الترك لكن باعتبار الجملة.
وهل كل الأمة تقع في الأربع؟
لا. إنما هذا في الجملة لا بالجملة. لأن بعض الأمة على الحق، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ...».
الأول من هذه الأربع: الفخر بالأحساب.(1/180)
والفخر بمعنى: التعالي والتعاظم.
والباء: للسببية، أي أن الأحساب هي سبب الفخر، وأما الأحساب فهو جمع حسب. وهو ما يحتسبه الإنسان من شرف في الآباء ومآثر وفضائل فيه، وما في قبيلته من شجاعة ومروءة.
وكون الفخر بالأحساب من أمر الجاهلية لسببين:
1- لأنه افتخر وتعاظم بأشياء لا يجوز التعاظم فيها؛ لأنها ليست محل التعاظم على الناس، وإنما هذه الفضائل والمآثر محل ثناء أما أن يفتخر فلا.
2- لأنه افتخر بعمل غيره.
الأمر الثاني: الطعن في الأنساب:
الطعن: العيب والتنقص.
الأنساب: جمع نسب، ويقصد به أصل الإنسان وقرابته، كأن ينتقص شخصًا برداءة نسبه، أو يعيره لقرابته أو قبيلته، كما جاء في الحديث المتفق عليه من تعبير أبي ذر بلالاً أنه قال له: يا ابن السوداء.
كقول: ابن الدباغ على وجه الطعن، كله حرام لا يجوز.
كيف الإجابة على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».
هذا من باب التعريف، ويجوز في باب التعريف ما لا يجوز في باب الفخر أو يقال إن باب الحرب يختلف عن غيره لأنها كانت في غزوة حنين.
الأمر الثالث: الاستسقاء بالنجوم:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هل الاستسقاء هنا يقصد به نسبة الإيجاد أم نسبة الوقت أم نسبة الدعاء أم نسبة السبب أم نسبة الإخبار؟
نقول: يحدد المقصود كلمة أمتي في الحديث، فلما كان المقصود بالأمة هنا أمة الإجابة فإن النسبة تكون بما لا يخرجه عن الأمة، فتكون النسبة للسببية.
فالباء في قوله (بالنجوم) للسببية.
المسألة الثانية: هل الباء بمعنى "في" فتكون نسبة ظرف؟
الجواب: لا؛ إلا عند من رأى الظرفية للتحريم.
الأمر الرابع: النياحة:
والنياحة: مأخوذة من نوح الحمام، وتعريفها اصطلاحًا: رفع الصوت بالندب على الميت بغض النظر هل معه بكاء أم لا؟
وأما الندب فهو: تعداد محاسن الميت، فأصبحت النياحة رفع الصوت بتعداد محاسن الميت على وجه الفخر أو التسخط.(1/181)
المسألة الثالثة: هل النعي في الصحف من النياحة؟
أما النعي: فهو الإخبار بموت فلان.
وأما نعي الجاهلية: فهو الإخبار عن موت شخص بطريقة فيها تعظيم، فإذا مات الميت أركبوا رجلاً يُنادي على فرس أن فلانًا مات تعظيمًا له.
وغالبًا ما يفعلونه في الأشخاص المهمين، وعلى ذلك فكل إخبار عن موت فيه تعظيم فهو من النعي المحرم سواء كان بالصحف أم في غيرها.
أما الإخبار المجرد بموت فلان حتى يصلوا عليه ويترحموا له، وحتى إذا كان له أو عليه من الحقوق أن يعلم ذلك فهذا جائز؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نعى موت النجاشي ليصلوا عليه».
المسألة الرابعة:
يُلاحظ في بعض الصحف إذا أعلن عن موت رجل أشياء تخالف الشرع، كأن يجزموا أنه من أهل الجنة، أو يذكروا آيات تدل على أنه من أهل الجنة، ومن أهل الاطمئنان كقوله تعالى: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } [الفجر: 28] وهذا يُخالف مذهب السلف؛ لأن أهل السنة والجماعة لا يجزمون لأحد بجنة إلا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وإنما يرجون أو يخافون.
المسألة الخامسة:
وأما الحداد على الأموات فإنه خاص بزوجة الرجل مدة معلومة، ولغيره من النساء ثلاثة أيام، وأما حداد الرجال وحداد الدول فهذه من البدع.
المسألة السادسة: هل البكاء على الميت من النياحة؟
الجواب: لا. فبكاء العين جائز كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في ابنه إبراهيم.
المسألة السابعة: قولهم هذه جنازة هل هو من النعي؟
لا. النعي هو الإخبار بموت الميت، وهذا إخبار عن الجنازة.
المسألة الثامنة: كيف الإجابة على حديث فاطمة «يا أبتاه إلى جبريل ننعاه» وهل هذا من النياحة في قولها «يا أبتاه»؟
يُقال مثل هذا يسير يُعفى عنه وأنها أخطأت من شدة الهول مثل الذي أخطأ من شدة الفرح.
وقوله: النائحة، أي: التي تنوح.(1/182)
إذا لم تتب، أي: إذا لم تقلع وتندم وتعزم على ألا تعود، وهذه شروط التوبة الثلاثة.
قبل موتها: هذا موضع قبول التوبة باعتبار النهاية؛ لأن آخر فرصة هي ما قبل الموت، ويدخل وقت التوبة ابتداء من فعل المعصية إلى ما قبل الموت. ويقصد بالقبلية هنا: ما قبل الغرغرة أيضًا.
قال تعالى: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ } [النساء: 18].
الموت: هو مفارقة الروح البدن، وظاهر الحديث أن ذنب النياحة لا يُكفّره إلا التوبة، لكن دلت النصوص الأخرى على أنه تحت المشيئة إن شاء الله عذب وإن شاء عفا، قال تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48].
ودلت النصوص الأخرى أيضًا على أن الذنوب تُكفّرُ بغير التوبة أيضًا، كالمصائب والحسنات، ذكر في الطحاوية عشرة أسباب في تكفير الذنوب.
قوله: تُقام يوم القيامة أي: تُقام من قبرها يوم القيامة إذا شاء الله أن يعذبها.
وعليها: الواو حالية أي: تقام حالة كونها على هذه الصفة.
السربال: الثوب السابغ.
من: بيانية.
قطران: هو النحاس، بمعنى أنها تلبس نحاسًا فيكون لها كالثوب، وهذه إحدى العقوبتين.
والعقوبة الثانية: أن جلدها كله يجرب حتى يكون كأنه درع أو ثوب، فتلبس شيئًا من نحاس وجرب. الجرب: مرض معروف.
ومناسبة هذا الجزاء أنه من جنس العمل؛ لأنها مزقت ثيابها عند المصيبة فلبست ثيابًا أخرى.
ولهما: أي البخاري ومسلم.
عن زيد بن خالد الجهني قال: «صلى لنا».
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اللام في لنا بمعنى الباء أي: صلي بنا، فكان إماما لنا.
صلاة الصبح: مضاف ومضاف إليه، والإضافة بتقدير في.
المسألة الثانية: بالحديبية، الباء بمعنى: في.
المسألة الثالثة: على إثر سماء: أي عقب مطر، وسمي السماء مطرًا من باب تسمية الشيء بمحله، فالمطر جاء من السماء أي من العلو.(1/183)
المسألة الرابعة: كانت من الليل. من بمعنى: في.
فلما انصرف: أي سلّم، فالمقصود بالانصراف: الانصراف من الصلاة، وهو يكون بالتسليم.
أقبل على الناس: أل: للعهد الحضوري.
أتدرون: استفهام، وهذا السؤال من باب الإثارة والتشويق.
ماذا قال ربكم: فيه إثبات القول لله.
ربكم: الخالق المعبود، وليس له مفهوم مخالفة بأنه ربكم وليس رب الآخرين، إنما هذا لبيان الواقع، لأنها ربوبية خاصة باتباعهم.
قالوا: الله ورسوله أعلم: مرت هذه العبارة في الباب الأول، وبحثت هناك.
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر.
عبادي: يقصد عموم العباد.
فأما: للتفصيل.
من قال: بلسانه وقلبه.
مُطرنا بفضل الله ورحمته: الباء سببية وإيجاد أيضًا.
فضل الله: فضل مضاف من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
ورحمته: الواو عادة للمغايرة، وعليه فالرحمة غير الفضل، فذكرَ هنا صفتين.
رحمته: من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وأما تفسيرها بالإنعام فهو مذهب المعطلة. وهل نقول: إنها من إضافة المخلوق إلى الخالق بدليل الحديث الآخر «هذه رحمة الله»؟
فأما رواية حديث «هذه رحمة الله» فهذه اسم إشارة يشار بها إلى المطر، والمطر مخلوق، فهو من باب إضافة المخلوق إلى الخالق. وأما في حديث المتن فهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
والرحمة يكون بها الإنعام، وليست هي الإنعام.
فذلك: أي من نسب نزول المطر إلى الله فهذا مؤمن بالله.
ويلزم من إيمانه بالله أن يكون كافرًا بالكواكب، لأن الإيمان والكفر ضدان لا يجتمعان ولا يفترقان، وكونه كافرًا بالكواكب. هل هو كافر بتأثيره وسببيته أو وجوده؟
الجواب: الأول.
وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا: والباء في نوء للسببية والإيجاد.
بنوء: أي: بنجم، ويكون النجم إما مُوجدًا للمطر أو سببًا فيه.
فذلك كافر: ما المقصود بالكفر هنا هل هو الكفر الأكبر أم الأصغر؟
إن اعتقد أنه مُوجد فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد أنه سبب بعد الوقوع فهذا كفر نعمة.(1/184)
مؤمن بالكواكب: أي بتأثيره إيجادًا أو سببًا.
ولهما: هكذا قال المصنف نسبه إلى البخاري ومسلم، وذكر الشراح أنه في مسلم فقط من حديث ابن عباس بمعناه.
لقد صدق: اللام موطئة للقسم.
والصدق: مطابقة الواقع، وكانوا يعتقدون أنه مؤثر إيجادًا أو سببية.
فأنزل الله: الفاء: سببية أي: سبب نزول الآية هذا الكلام.
باب قول الله تعالى
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 165].
وقوله: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } إلى قول تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 24] الآية.
عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» وفي رواية: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ...» إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ومن أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا. رواه ابن جرير، وقال ابن عباس في قوله تعالى: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } [البقرة: 166] قال: المودة.
قال الشارح:
المسألة الأولى: اسم هذا الباب؟
«باب ما جاء في المحبة»
المسألة الثانية:
المصنف ابتداءً من هذا الباب وستة أبواب بعده كلها أبواب تتعلق بأعمال القلوب، ابتدأها بالمحبة ثم الخوف والتوكل وهكذا.
المسألة الثالثة:(1/185)
في هذا الباب تحدث المصنف عن محبة الله، ومحبة رسوله، والمحبة الشركية،
والمحبة في الله، والبغض في الله.
المسألة الرابعة: تعريف المحبة:
وقع خلاف كبير ومتنوع وكثير في تعريف المحبة، وأشار إلى التعريف ابن القيم في «روضة المحبين».
ولكن الاختلاف يرجع إلى أن كل واحد عرّف المحبة بآثارها، وأما آثارها فكثيرة. والأصل أن الشيء يُعرف بحده وحقيقته لا بآثاره.
وأما تعريفها فهو: وصف قائم بالقلب يؤدي إلى السرور وغيره من المقتضيات كالطاعة واللذة.
المسألة الخامسة: أنواع المحبة ومتى تكون شركًا؟
النوع الأول: المحبة الشركية، وهي المحبة المستلزمة للذل والطاعة والخضوع، والمؤدية لفعل الكفر أو الشرك.
مثال ذلك: أن تدفعك محبة شخص إلى طاعته في الكفر الأكبر والشرك الأكبر، ودليله الآية الأولى، أو تدفعك محبته إلى عبادته، كالذبح له والسجود له والاستغاثة به، وهذا النوع شرك أكبر.
النوع الثاني: من باب الكفر، وهي محبة الكفار لدينهم، أو محبة دينهم. فهذا كفر. قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة: 51] وقال - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع من أحب». وهذه المحبة تعتبر من باب الكفر لا من باب الشرك.
النوع الثالث: محبة جائزة في الأصل.
وهي أنواع:
الأول: محبة طبيعية، كمحبة المال والزوجة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب».
الثاني: محبة إجلال وتقدير، كمحبة الولد لوالده، ومحبة الطالب لمعلمه.
الثالث: محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، ومحبة المسكين والمريض.
الرابع: محبة أُلفٍ وأُنس: أي للألفة والمؤانسة، كمحبة المشتركين في صنعة، ومحبة الذين من بلد واحد في الغربة.(1/186)
وهذه المحاب جائزة في الأصل لقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ.. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة: 24]. وجه الدلالة: أنهم ذُموا في الآية؛ لأنهم أحبوها أكثر من محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله؛ لا لأنهم أحبوها. وهذه المحبة تجري فيها الأحكام الخمسة، والأصل فيها أنها مباحة.
النوع الرابع: محبة محرمة.
وضابطها: أن تدفعك المحبة الجائزة إلى فعل محرم أو ترك واجب، كشراء التلفاز محبة للأولاد والزوجة، وحلق اللحية محبة للزوجة مثلاً. هذا في فعل المحرم، وفي ترك الواجب: كأن تترك صلاة الجماعة محبة للمال، أو تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة للمنصب، وهذه كثيرة الشيوع بين المسلمين إلا من رحم الله. وهل هو شرك أم لا؟
فيه خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أنها محرمة.
القول الثاني: أنها شرك أصغر، ودليل كونها شركًا: حديث أبي هريرة في الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة ... إلى أن قال: إن أُعطي رضي...» فسماه عبدًا.
فالأقرب عندي هو أنها شرك أصغر.
ودليل التحريم هو الآية الثانية.
الفرق بين هذه المحبة والمحبة الشركية التي ذُكرت في النوع الأول:
كلاهما يشترك في أن الدافع في ارتكاب ما حرم الله في القسمين هو المحبة.
أما الافتراق: فإن المحبة الأولى تدفعه إلى فعل الكفريات، وهذه تدفعه إلى فعل المحرمات وترك الواجبات التي لا يكفر من فعلها أو تركها.
المسألة السادسة: لو دفعته المحبة إلى فعل المكروهات وترك المستحبات؟
هذه ليست من القسم الأول ولا من القسم الأخير، وإنما تأخذ حكم ما دفعتك إليه، فتكون مكروهة بحسب ما ترتب عليها.
المسألة السابعة: محبة المعاصي هل هي من باب المحرم فقط أم من باب الشرك؟
مثاله: من أحب الزنى مثلاً أو الخمر.(1/187)
الجواب: هذا يعتبر من القسم المحرم لا من باب الشرك الأصغر، وإلا للزم أن تكون المعاصي التي هي من الكبائر من الشرك الأصغر، وهذا لم يقل به أحد، وإنما المعاصي منها ما هو كبائر ومنها ما هو صغائر.
وأيضًا فمحبة المعاصي مثل فعلها بالجوارح، فمحبة الزنى مثل أن تزني، وهذا إذا همّ وعزم.
والفرق بينها وبين الشرك الأصغر: أن محبة الشرك الأصغر هي أن يحب شيئًا على شيء كحب الولد جعله يفعل المحرم. ففي الشرك الأصغر أطراف ثلاثة: مُحب ومُحَب ومعصية، أما هذا فليس فيه أطراف أو شيء أحب من شيء، إنما فيه مُحَّب ومعصية.
الآيات:
قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ.. } [البقرة: 165].
المسألة الأولى:
من: تبعيضية.
والناس: للعهد بمعنى: بعض الناس.
من يتخذ: من: موصولية بمعنى الذي.
المسألة الثانية: أندادًا.
جمع ند، وهو الشبيه والنظير.
المسألة الثالثة: { يحبونهم } الضمير يعود إلى الأنداد.
كحب الله: الكاف للتشبيه أي: كحبهم لله، وهذا اختيار ابن تيمية وهو أحد الأقوال في المسألة.
بمعنى أن الكفار يحبون الأنداد محبة مساوية لمحبة الله. والتشبيه في الكاف من حيث النوعية كالقوة، ومن حيث الكمية كالكثرة.
وهنا أثبت لهم محبة الله.
مناسبة الآية: تدل على أن من أحب أحدًا مثل محبة الله فقد اتخذه ندًا ووقع في الشرك الأكبر. وهذا مقيد بمن دفعته محبته إلى فعل الكفريات أو الشركيات.
وقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ.. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [التوبة: 24].
المسألة الأولى: سبب نزول الآية.
نزلت في المسلمين الذين كانوا في مكة، لما أمروا بالهجرة تعلق بعضهم بالأهل والولد والمال فلم يُهاجروا.
وسبب النزول هنا يعتبر كالمثال، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(1/188)
المسألة الثانية: قل: هذه للخطاب: أي قل يا محمد ولمن يصح له الخطاب. وذكر في الآية ثمانية أمور محبوبة: الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة، والأموال، والتجارة، والبلاد، والمساكن.
أحب إليكم: أفعل تفضيل، ففيه مفاضلة بين طرفين بين هذه الثمانية، وبين الله ورسوله.
ولاحظ أنهم ما عُوتبوا على أصل محبتهم لهذه الأشياء الثمانية، ولكن عُوتبوا على تفضيل هذه المحاب على محبة الله ورسوله.
مسألة: متى تكون هذه المحاب محرمة؟
إذا تُرك من أجلها الواجب أو فُعل من أجلها المحرم، أما إن فُعل من أجلها الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر، فهذه من القسم الأول.
مسألة: محبة الزوجة إذا كانت نصرانية أو الأخ إذا كان كافرًا؟
أما إذا كانت الزوجة نصرانية فأصل المسألة يُنازع فيه، ولكن لو كانت مثلاً من أهل
الكتاب فأحبها، فهل هذه المحبة من القسم الطبيعي؟
أما أصل المسألة هو التزويج من أهل الكتاب، فهذه تجوز من حيث الأصل لقوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [المائدة: 5] أما في هذا العصر ففي التزوج من أهل الكتاب مفاسد من مسئولية الأولاد ... فنرجح جانب المنع.
أما من ناحية المحبة: فهذا إن كان يحبها من أجل أن يسكن إليها ويستمتع بها مع بغضه لدينها، فهذه المحبة الطبيعية، وهو أحد قولي العلماء في قوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56] وكذلك الأخ مثل الزوجة. وأما من أحبها لدينها، فهذا يعتبر كفرًا مخرجًا من الملة.
مسألة: هل هذا خاص بهذه الثمانية؟ لا. وإنما يُقاس عليها غيرها.(1/189)
مسألة: هذه الثمان ومثلها المحبة الجائزة بالنية تتحول إلى محبة مستحبة، فالزوجة إذا أحبها لأنها زوجته، فهذه محبة طبيعية، وإذا أحبها لدينها فهي محبة دينية، والعسل والدباء إذا أحبه لأنه لذيذ فهذه محبة طبيعية، وإن أحبه لأن الرسول يحبه فهذه محبة دينية.
قوله: { فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة: 24].
هذه تسمى آية وعيد، وقد سبق ذكر مذهب السلف في آيات الوعيد.
وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» أخرجاه.
لا: نافية، والأصل في النفي: نفي الوجود بقسميه، الوجود الحسي كـ «لا رجل في الدار»، والوجود الشرعي كـ «لا إله إلا الله».
وإن كان المنفي موجودًا حسًا فيكون نفيًا للصحة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف».
فإن كان الشيء صحيحًا شرعًا فيكون النفي للكمال.
والكمال نوعان: كمال واجب، وكمال مستحب. مثاله: «لا يؤمن أحدكم ...» الحديث أعلاه.
والمقصود بالآية { لَا يُؤْمِنُ } [يونس: 40] الإيمان الكامل الواجب؛ لأن الأدلة دلت على أن الإنسان مع المعاصي صحيح الإيمان ولكن إيمانه غير كامل. ولأنه قد دلت أدلة أخرى على أن المنفي في الحديث هو الكمال مثل ما أخرجه أحمد «لا يجد أحدكم صريح الإيمان» وعند ابن حبان «لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان».
وهل يدخل فيه الإسلام؟ فنقول: «ولا يسلم إسلامًا كاملاً»؟ نعم. لأن هناك قاعدة أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
أحدكم: الكاف لخطاب المؤمنين.
حتى: لانتهاء الغاية.
أحب: أفعل تفضيل أي: حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه مما ذُكر، ومحبة الرسول هي طاعته، وهذا تفسير بالمقتضى، وهذا من باب التسهيل؛ وإلا فمحبة الرسول وصف قائم بالبدن يقتضي طاعة الرسول واتباعه.(1/190)
ولده: هنا بمعنى اسم المفعول أي: المولود، وهذا هو المعنى في الكتاب والسنة، وأما العرف فيطلق الولد على الذكر.
ووالده والناس: الواو في "والناس" عاطفة، والعطف هنا من باب عطف العام على الخاص، وأفرد الولد والوالد لأنه الغالب في المحبة.
أجمعين: تأكيد للعموم في "والناس".
مناسبة هذا الحديث: تحريم تقديم محبة الولد ونحوه على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يعتبر من الشرك الأصغر إن قدمه في الواجبات والمنهيات، ومن الأكبر إن قدمه في الكفريات.
ولهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقده الله منه كما يكره أن يقذف في النار».
المسألة الأولى: المصنف هنا قال: ولهما وقبله قال: أخرجاه.
هل هناك فرق بينهما؟
أما أن المؤلف صرح له باصطلاح فهذا لا أذكر فيه شيئًا. والمسألة تحتاج إلى مزيد بحث.
عنه: أي أنس.
ثلاث: العدد يقصد به التقريب لا الحصر.
كن: بمعنى وجدن، ومحل كونها في القلب، ولها آثار على الجوارح، وأما محل الحلاوة فهو القلب.
بهن: الباء سببية. فهذه الثلاث الأمور المذكورة من أسباب كمال الإيمان.
حلاوة: حلاوة الشيء طعمه، وحلاوة الإيمان طعمه، وهو أمر زائد على أصل الإيمان، والحلاوة المبنية على الإيمان إذ لا بد أن يكون أصل الإيمان موجودًا. هذا سبب.
والسبب الثاني: أنه لو لم توجد هذه الأمور الثلاثة لبقي مؤمنا، فدل على أن المقصود كمال الإيمان.
حلاوة الإيمان: الإضافة بتقدير اللام.
وقوله الإيمان: والإسلام أيضًا.
ويقصد ما يجده الإنسان في قلبه من الفرح والسرور والانشراح، فالحلاوة معنوية. الأولى من هذه الأمور: تقديم محبة الله ورسوله على ما سواهما.
ورسوله: يقصد به أوامره ونواهيه.(1/191)
سواهما: هل يقصد به كل شيء ما عدا الله ورسوله؟ لا. وإنما المقصود ما تُباح محبته وهي المحبة الطبيعية.
وقلنا ذلك من قوله "أحب"؛ لأن الأمور الطبيعية تُحب، أما المحرمة فلا تُحب، وموضع التقديم: عند التعارض.
الثاني: أن يُحب المرء لا يحبه إلا الله:
المرء: أل فيه للعهد: أي من قام به موجب المحبة وهو المؤمن.
لا يُحبه إلا الله: لا يُحبه من أجل الدنيا أو غير ذلك؛ بل تكون محبة خالصة لله عز وجل.
مراتب محبة الأشخاص:
المرتبة الأولى: المحبة الخالصة، بأن لا يُحبه إلا لله، وهذا هو المقصود في الحديث؛ لأن فيه نفيًا وإثباتًا، والنفي والإثبات من أقوى أساليب الحصر.
المرتبة الثانية: أن يحبه لله وللمنافع والمصالح التي يحصلها من ورائه، وهذه المصالح والمنافع مباحة ليست محرمة وهذه المرتبة جائزة؛ إلا أنها لها مراتب: أحيانًا يكون حب الله أكثر، وأحيانًا تكون محبة المنافع أكثر، وأحيانًا تتساوى.
المرتبة الثالثة: أن يُحبه للمصالح فقط، وهذه لا تجوز لما يأتي في آخر الباب من حديث ابن عباس، وقد صار: «عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا».
وأكمل هذه المراتب المرتبة الأولى: أن يُحبه محبة خالصة.
أما الكافر فلا تجوز محبته، ومحبته دائرة بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر.
هل تدخل المرأة في قوله "المرء" أم لا؟
الأصل: العموم فلو أحب امرأة من أجل ما فيها من إيمان وصدق لدخل في هذا الباب.
الثالث: أن يكره الكفر كرهًا شديدًا ككره من كره الإلقاء في النار.
وصور كراهية الكفر أربع:
الأولى: أن يكره الكفر، وهذا ضروري ولازم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله فقد حرم دمه وماله ...» الحديث. وهذه غير مرادة في الحديث، وذهابها يُذهب أصل الإيمان.
الثانية: أن يكره الكفر أشد من الإلقاء في النار، وهذه المرتبة يدلُ عليها الحديث بقياس الأولى.(1/192)
وجاء عند البخاري في الأدب المفرد «أن يقذف في النار أحبُ إليه».
الثالثة: أن يكره الكفر كراهية مساوية لكرهه أن يقذف في النار، وهذا ما يدل عليه الحديث.
الرابعة: أن يكره الكفر ولكن كراهية أقل من كراهية الإلقاء في النار، فتكون كراهية الإلقاء أشد، مما يؤدي إلى أن يُوافق على الكفر أحيانًا.
وقوله في الحديث: «أن يعود في الكفر» هذا للكافر الأصلي الذي أسلم، خرج من الكفر فيكره أن يعود له.
وبالنسبة للمسلم الأصلي: يكره الكفر لا العودة إليه.
ومتى تكون الحلاوة في هذه المسألة؟ إذا كانت كراهيته للكفر مساوية لكرهه الإلقاء في النار، فإذا كانت أشد فالحلاوة أشد.
مسألة: هل الضرب والقتل مثل كراهية الإلقاء في النار؟
يكون مثله، ولذا عقد البخاري في صحيحه بابًا بعنوان «من اختار الضرب أو القتل أو الهوان على الكفر» لكن الضرب المبرح غير المحتمل.
يعود في الكفر: أل في الكفر يقصد به الكفر الأكبر.
بعد إذ أنقذه الله منه: نسب الإنقاذ إلى الله، فلما كان الله هو الذي أنقذه فما يقابله يكون من باب الشكر.
الكراهية هنا: هي البغض في القلب.
مسألة: إذا كانت محبة الله ورسوله مساوية لما سواهما؟
هذه من الشرك.
ولكن لو كانت محبة الله أكثر؛ إلا أنه يترك الواجب أحيانًا من أجل محبوب، فهذه من الشرك الأصغر.
وكونه يُحب المرء محبة خالصة هذه توجب حلاوة الإيمان، وأما غيرها فهي جائزة. أن يُلقى في النار: النار المعروفة في الدنيا.
يُلقى: مبني للمجهول.
وفي رواية: لا يجد حلاوة الإيمان حتى ... إلى آخره. هذه رواية البخاري.
وعن ابن عباس قال: «من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صار عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا». رواه ابن جرير.
هذا موقوف، والموقوف هو: قول الصحابي.(1/193)
والموقوف هذا ضعيف؛ لأن مداره على ليث بن أبي سليم.
قال الحافظ: صدوق تغير. ولم تتميز أحاديثه.
لكن يُغني عنه ما رواه أبو أمامة مرفوعًا «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» [رواه أبو داود].
شرح حديث أبي أمامة:-
أحب لله: هذه مرت علينا ومرت بأسلوب أقوى، فيه نفي وإثبات، فهذا الحديث دليل على جواز أن يُحبه لله مع المصالح الجائزة.
وأبغض لله: البغض هو: معنى في القلب يؤدي إلى البعد والمحاربة لكن له آثار على الجوارح.
والبغض لله: يكون للأشخاص، والأماكن، والأعمال.
مسألة: حكم بغض المسلم؟
فيه تفصيل: إن كان لأسباب دنيوية فهذا حكمه بحسب الأسباب، فإن أبغضته لأنه اعتدى عليك أو ظلمك فهذا بُغض طبيعي، إذا قام في قلب الإنسان لا يُؤاخذ عليه ما لم يكن له آثار على الجوارح، بأن تظلمه كما ظلمك. أما دليل عدم المؤاخذة: قوله - صلى الله عليه وسلم - «عُفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم».
أما لو أخذت حقك منه عن طريق السلطان فهذا لا مانع فيه { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: 40].
وأما إن كان البغض لإسلامه فهذا حرام ولا يجوز؛ لأنه بغض للإسلام.
أما لو أبغضته لأنه لم يعطيك شيئًا من المباح كالقرض فهذا لا يجوز. مع ملاحظة أن أصل محبته لكونه مسلمًا موجود، لكن الجهة هنا منفكة باعتبار الأعمال، ولذا لو ذهب عنه وصف الإسلام لحدث بغض آخر.
وقال ابن عباس في قوله: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } [البقرة: 166] قال: المودة.
هذا أيضًا موقوف على ابن عباس، وفي نفس الوقت تفسير صحابي، وتفسير الصحابي له حكم الرفع إذا لم يكن معروفًا بالأخذ من الإسرائيليات، وليس الحكم مما للاجتهاد فيه مجال. وهذا الموقوف صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقوله: بهم: أي الكفار.
الأسباب: فسرها ابن عباس بالمودة، وهذا من باب التفسير بالمثال؛ لأن اللفظ عام(1/194)
والتفسير خاص. وإلا فالذي يتقطع بينهم أشياء كثيرة كالعبادة، والتوسل، والشفاعة.
هذا الأثر يدل على أن المحبة المبنية على غير الله لا تنفع، ويدل على أن المحبة من أجل الدنيا مذمومة قال تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].
باب قول الله تعالى:
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175].
وقوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } [التوبة: 18] الآية. وقوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [العنكبوت: 10] الآية.
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «إن من ضعف اليقين: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره».
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» [رواه ابن حبان في صحيحه].
قال الشارح:
هذا الباب يسمى باب الخوف، وقد تحدث فيه المصنف عن حكم الخوف وعلاقته بالتوحيد، ولا زال المصنف يتكلم بما يتعلق بأعمال القلوب.
والخوف هو العمل الثاني من أعمال القلوب.
المسألة الأولى: لماذا ذكر المصنف باب الخوف بعد باب المحبة؟
لأن العبادة مرتكزة عليهما، فالغالب في الطاعات والأوامر أنها تفعل محبة، وفي النواهي والمعاصي أن تُترك خوفًا، وقد يكون الحامل على الجميع المحبة أو الخوف.
المسألة الثانية: تعريف الخوف:(1/195)
وصف قائم بالقلب يؤدي إلى فعل الأوامر وترك النواهي.
المسألة الثالثة: هل يغلب جانب الخوف أم جانب المحبة؟
فيه ثلاثة أقوال أوسطها التفصيل بحسب الأحوال أو الأوقات، فمع الطاعة يغلب جانب الرجاء، ومع المعصية يغلب جانب الخوف، وفي الصحة يغلب جانب الخوف،
وفي المرض يغلب جانب الرجاء.
والقول الثاني: يغلب جانب الرجاء.
والقول الثالث: يغلب جانب الخوف.
المسألة الرابعة: ما هو الخوف النافع؟
هو ما ردك عن المعاصي والمحرمات ومن باب أولى الكفريات والشركيات.
أما الخوف الذي يرد عن المكروهات هذا لا يَرد؛ لأن فعل المكروهات ليس فيه خوف، والخوف يتعلق بما تُعاقب عليه، والمكروهات لا عقاب فيها.
المسألة الخامسة: أقسام الخوف وعلاقته بالتوحيد:
الأول: خوف السر، وهو أن يخاف من المخلوق كما يخاف من الله، كمن يخاف من الوثن والطواغيت.
وهو أنواع:
أ- أن يخاف ممن لا يملك أصلاً ولا يؤثر، كالخوف من الجمادات كالوثن وغيره ممن لا يملك شيئًا.
ب- أن يخاف من الأموات.
وهذان النوعان ليس فيهما قيد «فيما لا يقدر عليه إلا الله»، فمجرد الخوف هذا شرك أكبر.
ج- أن يخاف من الأحياء (1)، وهذا فيه شرط وهو: أن يخافهم أن يصيبوه فيما لا يقدر عليه إلا الله.
مثاله: كأن يخاف من المخلوق أن يقطع نسله، أو يخاف من المخلوق أن يدخله النار، أو أن يقطع رزقه، أو أن يصيبه بأمراض.
د- الخوف من الجن، وهذا مقيد بما قيد به الذي قبله، وجميع الأنواع الأربعة حكمها واحد وهو: شرك أكبر، ويدل على هذا القسم عموم الآية الأولى.
الثاني: أن يترك ما يجب عليه أو يفعل ما يحرم عليه خوفًا من المخلوق فيما يقدر
عليه المخلوق، وهذا القسم يعتبر من الشرك الأصغر؛ لكن بشرط أن يكون من غير إكراه، أما لو أكرهه إكراهًا ملجئًا بشيء لا يحتمله فترك الواجب أو فعل المحرم، فهذا جائز في الأصل.
أمثلة هذا القسم:
__________
(1) المقصود بالأحياء هم عامة الإنس.(1/196)
أن يحلق لحيته خوفًا من انتقادات الناس، أو يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حماية لعرضه من الكلام. وهذا القسم متفش بين الناس وخصوصًا ترك الأمر والنهي، وهذا لا يجوز أي: أن يترك الأمر والنهي خوفًا على منصب أو عرض.
وهذا القسم من أهل العلم من ذهب إلى التحريم.
والقول الثاني: أنه من باب الشرك الأصغر، وهذا أقرب، لما روى الإمام أحمد «أن الله يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر ألا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس، فيقول الله: إياي كنت أحق أن تخشى» فهذا وجه كونه من الأصغر، وهذا الدليل منسحب أيضًا على ما قلنا في باب المحبة. والحديث «تعس عبد الدينار» فسماه عبدًا وهذا في الخوف والمحبة.
الثالث: الخوف الطبيعي، كالخوف من الحيوانات المفترسة أو من اللصوص، وهذا جائز في الأصل.
قال تعالى: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } [القصص: 21].
المسألة السادسة: شرح الترجمة:
قول الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 175].
إنما: أداة حصر. الشيطان: قيل إنه علم على إبليس.
وقيل إنه عام، فيكون اسمًا عامًا لمن وصف بالشيطنة، ويدخل تحته أنواع:
1- إبليس.
2- كل مؤذ من الجن.
3- كل مؤذ من الإنس.
بدليل قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام: 112].
يخوف أولياءه: يخوفكم بأوليائه.
فلا: لا: ناهية.
تخافوهم: نهى عن خوفهم، والنهي يقتضي التحريم، وهذا يشمل القسم الأول والثاني من الخوف بالنسبة لعموم ألفاظ الآية. أما بالنسبة لسبب الآية فهي للقسم الثاني.
وخافون: هذا أمر فيه وجوب إخلاص الخوف لله سبحانه وتعالى.
إن: شرطية.
كنتم: فعل الشرط، وجوابه محذوف.
تقديره: إن كنتم مؤمنين فخافون.(1/197)
والتخويف الذي حصل من الشيطان في الآية، هو قوله: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } [آل عمران: 173].
نوع التخويف هنا: تهديد بالكلام ليصدهم عما يجب من الجهاد الواجب وهي نزلت في غزوة حمراء الأسد، وأراد أن يوقع في قلوبهم ذلك. وهذا التخويف غير سائغ لأنْ يصد؛ فهو تهديد بالكلام وهو لا يضر، فدل على أن الخوف الغير ملجئ من الشرك أن تضمن ترك ما يجب أو فعل ما يحرم.
الآية الثانية: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } [التوبة: 18].
إنما: أداه حصر.
يعمر: سواء كانت عمارة حسية بالبناية أو عمارة معنوية بالطاعة.
مساجد الله: الإضافة بتقدير اللام.
من: اسم موصول في محل رفع فاعل.
آمن بالله: ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات.
ولم يخش إلا الله: هذا هو الشاهد.
لم: حرف نفي.
إلا: إثبات.
فالأسلوب أسلوب حصر، والخشية نوع من الخوف ولكنه أخص منه.
الآية الثالثة: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [العنكبوت: 10].
من: تبعيضية.
من يقول آمنا: أي بلسانه وبقلبه هذا هو الظاهر، لكن الإيمان الموجود أصل الإيمان لا كماله؛ لأنه أثبت له الذم فدل على أن إيمانه ناقص.
أوذي: تعرض للأذية.
في الله: أي بسب الله أي: لأنه مؤمن.
فتنة الناس: المقصود أذيتهم ومحنتهم وعراقيلهم.
كعذاب الله: الكاف للتشبيه، شبه الفتنة بعذاب الله، فكما أن عذاب الله يصد كانت فتنة الناس تصده، ففعل المعصية خوف الأذية، وتركَ الواجب خوف الأذية.
المسألة السابعة: هل كل أذية معتبرة أم لا؟
الأذية مراتب:(1/198)
الأولى: أذية شديدة غير محتملة وهو الإكراه، وهذه يجوز أن يترك الواجب ويفعل المحرم بشرط ألا يكون بفعله للمحرم تعديًا على الغير، والدليل قصة عمار قال تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [النحل: 106].
وهذا الذي يسمى الإكراه الملجئ، وهو باعتبار الأصل جائز لكن يختلف باختلاف الأشخاص، كأن يكون شخصًا يقتدى به كالعالم وطالب العلم، وبين أن يكون شخصًا لا يقتدى به، ومرت هذه المسألة في الباب الأول.
الثانية: أذية محتملة وفيها مشقة.
الثالثة: أذية قليلة محتملة، كأذية الكلام والشتم.
الرابعة: الوهم والجبن، فيكون عند الشخص تصورات ذهنية لا حقيقة لها.
الخامسة: الضرورة وهذه تبيح أشياء مخصوصة كالميتة لمن خاف الموت أو كشف العورة لضرورة المرض ونحو ذلك.
والنوع الثاني والثالث والرابع لا يجوز أن يترك من أجلها واجبًا أو يفعل محرمًا.
مسائل في الإكراه:
المسألة الأولى: الفصل من الوظيفة هل هو عذر في ترك ما يجب عليه؟
ليس عذرًا في ترك ما يجب إن وجب عليه هذا الأمر.
ومثلها لو خوََّف بقطع الرزق.
المسألة الثانية:
الخوف من الشياطين كالخوف من الإنس، فإذا خاف الإنسان منهم ما يقدرونه وانعقدت القرائن، فهذا كالخوف من الإنسان فيما يقدره، وإن خافهم فيما لا يقدرونه فهذا من الشرك الأكبر. لقوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ... الآية } وقد سبقت.
المسألة الثالثة: الخوف من العاجز:
يعتبر من الحمق والسفه.
المسألة الرابعة: التهديد هل هو عذر؟
إن كان من قادر، وهدد بما لا يُحتمل، فهذا يجوز وإلا فلا.
المسألة الخامسة: الخوف من الميت؟
هذه مرت علينا، وهي من باب الشرك الأكبر، وهي كالخوف من الجمادات.
مناسبة الآية الثالثة: فيها مدح وثناء لمن خاف الله سبحانه وتعالى.(1/199)
وأما الآية الثانية: ففيها تحريم ترك ما يجب خوفًا من الناس بلا عذر.
مسألة: إذا خاف إنسان من موقفه أمام الناس للكلام؟
الخوف من الموقف(1) من الخوف الطبيعي، لكن إن ترك ما يجب من أجله فهذا يدخل في القسم الثاني، وهو من الشرك الأصغر.
مسألة: لو ترك الإنسان ما يجب عليه هل هو من باب الخوف الشركي؟
لا يعتبر من هذا الباب؛ لأن ترك ما يجب له أسباب كثيرة، بعضها يجوز وبعضها لا يجوز.
فالأول: لو ترك ما يجب عليه خوفًا من الناس بلا عذر فهذا لا يجوز، وهو المقصود هنا.
الثاني: أن يكون الدافع المصلحة، فيترك ما يجب عليه من باب المصلحة؛ لأنه إن فعل ما يجب يترتب عليه مفسدة أكبر، فهذا يجوز؛ لكن قد يقع خلاف في هل هو مصلحة أم لا؟
مثال ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فإن تركه الإنسان في قضية معينة لأنه يؤدي إلى مفاسد أكبر من ذلك، فهنا يترك الإنكار ويقال: ترك ما يجب، وهذا من باب التنزل وإلا الإنكار مع المفاسد ليس واجبًا.
الثالث: قد يكون مداراة، والمداراة أن يترك الإنكار مثلاً فترة معينة حتى يأتي الوقت المناسب فينكر عليه، ويدل عليه حديث رواه أبو داود وعبد الرزاق «أن رجلاً زنا فرُجم، فقال أحد الصحابة: انظر إلى هذا قد ستره الله ويأتي يفضح نفسه حتى يُرجم كالكلب». وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع هذا. قال الراوي: فسار النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة، فإذا بجيفة حمار فقال: «أين فلان ابن فلان ... ثم قال له: «انزل وكل من هذه الجيفة»، ثم قال بعد ذلك: إنك أكلت من أخيك أعظم من هذه» الشاهد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه فيما بعد.
الرابع: أن يترك ما يجب عليه كسلاً لا خوفًا من الناس، وهذا محرم.
حديث أبي سعيد مرفوعًا، وهذا الحديث ضعيف جدًا فيه محمد بن مروان متهم بالكذب.
__________
(1) الموقف مثل ما ينتاب الإنسان من الشعور والقلق والرجفان لو قام يتكلم أمام الناس ونحو ذلك.(1/200)
رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي.
حديث عائشة:
من التمس أي: طلب.
رضي الله أي: أسباب رضى الله. بدلالة السياق. وإلا فنحن نثبت الرضى لله صفة من صفاته.
بسخط الناس: الباء للعوض، فيكون معنى ذلك أنه فعل ما يرضي الله عوضًا عن سخط الناس.
قوله: بسخط الناس أي: ولو بسخط الناس.
الناس: الألف واللام فيما يبدو للعهد، ويقصد بهم الناس الذين يسخطون بفعل الطاعات لا كل الناس؛ لأن من الناس من لا يسخط بأسباب رضى الله.
رضي الله عنه: فيه إثبات الرضى لله، وأن الله رضي عنه، وأما المجازاة فهي من مقتضيات وآثار الرضى.
رضي الله عنه: هنا من باب إضافة الصفة للموصوف، فيكون جازاه الله بجزاءين:
1- إن الله رضي عنه.……2- رضي الناس عنه.
وقلنا جازاه من باب آثار الرضى وإلا فالمجازاة ليست هي الصفة بل من آثارها مع إثبات صفة الرضى لله.
وأرضى عنه الناس: الناس هنا هم الناس هناك.
ما معنى رضى الناس؟
هل هو بمعنى المحبة أي: حبوه، أو يقصد به الرضى القلبي؟
لا. لا يقصد به هذا وإنما جاء عند الترمذي قوله: «كفاه مئونة الناس»، وقال في رواية: «عاد حامده ذامًا» هذا في السخط، فيكون الرضى عاد ذامه حامدًا، فيكون الرضى بالمقابل.
وبالجمع بين الروايات يكون الرضى هنا بمعنى يعطونه ويفعلون به فعل الراضي.
قال: ومن التمس أي: طلب. …رضى الناس: الناس هنا بابها واحد.
بسخط الله: الباء: للعوض، فإن الله يعاقبه بعقابين فيكون عوقب بنقيض قصده.
العقاب الأول: أن يسخط الله عليه.
العقاب الثاني: سخط الناس عليه.
وسخط الناس يقصد به ذمهم له وأذيتهم له.
مناسبة هذا الحديث: وجوب تقديم رضى الله على رضى المخلوق، والوعيد لمن خاف الناس فآثرهم على رضى الله.
الحديث رواه ابن حبان وحكم عليه بالصحة وهو كما قال.
باب قول الله تعالى:
{ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23](1/201)
وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنفال: 2] الآية، وقوله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64]، وقوله: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3].
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حسبنا الله ونعم الوكيل». قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173] [رواه البخاري والنسائي].
قال الشارح:
هذا الباب هو باب التوكل، ويعتبر الباب الثالث في أعمال القلوب التي ذكرها المصنف.
المسألة الأولى: تعريف التوكل:
التوكل لغة: التفويض والاعتماد. أما شرعًا: فهو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23].
وينقسم التوكل إلى أقسام:
القسم الأول: الاعتماد على المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالاعتماد عليه في الشفاء والسلامة والحفظ والرزق والنسل. وهذا حكمه: شرك أكبر، ودليله الآية الأولى { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23]، وقوله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 22]، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون: 117]. فالتوكل من الدعاء؛ من دعاء العبادة.
القسم الثاني: الاعتماد على المخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، وهي مسألة الاعتماد(1/202)
على الأسباب، فهذا يعتبر من الشرك الأصغر إذا اعتمد إنسان على مخلوق أو اعتمد على الأسباب، فهذا من الشرك الأصغر.
أمثلة:
1- كالذي يعتمد على طبيب في حصول الشفاء، فيُعالج عند طبيب معين لمهارته ويعتمد ويثق بالشفاء.
2- الاعتماد على كثرة الجيش وقوة الجيش لحصول النصر.
3- اعتماد الطالب على المذاكرة في النجاح.
4- الاعتماد على السلطان والوظيفة في حصول الرزق.
5- الاعتماد على حذق سائق السيارة أو الطائرة للسلامة من الحوادث.
مسألة: ضابط الاعتماد على الأسباب:
الاعتماد على الأسباب يعرف بالآثار والعلامات واطمئنانه وثقته.
هذه علامة الاعتماد، ومثلها الثقة بالسبب، والثقة في ترتب المسبب أي حصول النتيجة. كل هذه علامات على الاعتماد.
أما الدليل على أنه شرك أصغر فهو الآية الأولى { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } [المائدة: 23].
وجه الدلالة: أن في الآية أسلوب حصر وهو تقديم ما حقه التأخير، وأما من السنة فحديث «من تعلق تميمة فقد أشرك» رواه أحمد.
والحديث وإن كان في التميمة، فإنّ تعلق قلبه بالسبب يدل على مسألتنا بالعموم المعنوي، وهو ما يسمى بقياس الشبه.
القسم الثالث: ما يسمى بالوكالة الجائزة أو الاستنابة.
وتعريف الوكالة هي: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
القسم الرابع: الاعتماد على الأموات والغائبين، فهذا شرك أكبر.
قد يقول قائل: لماذا لا تدخلوه في القسم الأول؟ نقول: القسم الأول وضعنا فيه قيد وهو فيما لا يقدر عليه إلا الله، فقد يكون هذا القسم -الاعتماد على الأموات- في شيء يقدرون عليه لو كانوا أحياء.
مسألة: ما حكم الألفاظ الآتية:
توكلت عليك، أو متكل عليك؟ هذا حسب ما مر علينا أن فيه خلافًا.
1- فمنهم من أجاز هذا القول وهو الغالب في المعاصرين.(1/203)
2- والقول الثاني: عدم جواز هذه اللفظ، وهذا هو الأقرب، وعليه تُهجر هذه الألفاظ وتُترك، ويدل عليه قوله: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } [المائدة: 23] بدلالة الحصر. وممن منع هذاه اللفظة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- وبعضهم منعها إن قال توكلت على الله وعليك أو متكل على الله وعليك ويكون سبب المنع لأنه جمع بينها بالواو مثل كلمة لولا الله وفلان وفي هذه الصورة الأخيرة وهي قول: توكلت على الله وعليك لا شك أنها من الشرك الأصغر ويأتي تفصيل ذلك في باب { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } لكن كلامنا عن جملة «توكلت عليك» أو «متكل عليك» فقط إذا جاءت مفردة وفيها الخلاف السابق.
مسألة: هل لو عطف يزول المحظور؟
كأن يقول: «توكلت على الله ثم عليك».
الجواب: لا يزول المانع؛ لأن المؤاخذة في اللفظ نفسه سواءً أفرده أو عطفه.
مسألة: الاعتماد على النفس، ومسألة الثقة بالنفس؟
أما الاعتماد على النفس فهذا لا يجوز، وهو من باب الاعتماد على الأسباب «من باب القسم الثاني»، ويدل عليه الآية { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } [المائدة: 23] أي: اعتمدوا على الله ولا تعتمدوا على غيره.
مسألة: ما حكم استعمال الألفاظ التي تدل على الاعتماد على النفس مثل قول القائل: اعتمد على نفسك أو يجب أن تثق بنفسك؟
هذه لا تجوز، ومر بنا أن الاعتماد على النفس لا يجوز، والتلفظ كذلك لا يجوز، ولما روى الإمام أحمد مرفوعًا من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين... الحديث».
مسألة الثقة بالنفس؟
إذا كانت بمعنى الاعتماد على النفس فلا تجوز، وأما لفظة الثقة في نفسها ففيه
تفصيل: فإن كانت الثقة بمعنى الاعتماد على النفس فهذه لا تجوز، وأما إن كان بمعنى أن الإنسان عنده قدرة وليس بخائف وعنده تجربة، فهذا يجوز. ومثله قولنا: «رجل موثوق ورجل ثقة» فهذه فيها تفصيل.
فإن كان ثقة بمعنى: يعتمد عليه، فهذا لا يجوز.(1/204)
وأما إن كان معنى ثقة بمعنى: أنه لا يخون، أو أمين، أو يجتهد بالقيام بالمهمات فهذا جائز.
قوله: "تعالى": هنا ثناء على الله سبحانه، ويستحب إذا ذكر اسم الله تعالى أن يثنى عليه بـ "تعالى" و "عز وجل" و "سبحانه" ذكر هذا النووي في مقدمة مسلم.
قوله: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } [المائدة: 23] أي: أفردوا الله بالتوكل وأفردوا الله بالاعتماد.
{ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [البقرة: 91] يدل على أن الإيمان مرتبط بالتوكل، ويدل بالمفهوم مفهوم المخالفة أن من لم يتوكل على الله فليس بمؤمن بدلالة المفهوم، لكن هل الإيمان المنفي أصله أو كماله الواجب؟
حسب الاعتقاد: إن كان الشرك الأكبر فالمنفي أصل الإيمان، وإن كان الشرك الأصغر فالمنفي كماله الواجب.
مسألة: يمر علينا في بعض الأحاديث أنه يعتمد على كذا، كما في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - «وكان يعتمد على ركبتيه» وفي بعض الأحاديث «كان يعتمد على قوس أو عصا إذا خطب» فهل هذا مثل مسألة الثقة بالنفس؟
لا ليس مثلها؛ لأن هذا في معنى الاتكاء والاستناد، وهذا هو المقصود في اعتمد، فهو اعتماد جوارح، والذي عندنا في الباب هو اعتماد القلب.
الآية الثانية:
وقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال: 2].
إنما: أداة حصر، وهذا أسلوب ثاني من أساليب الحصر.
المؤمنون: أي: والمسلمون، وهذا مدح وثناء.
وجلت: أي خافت.
وعلى ربهم يتوكلون: هذا هو الشاهد.
وهنا أيضًا حصر توكلهم على الله؛ لأنه قدم ما حقه التأخير.
مناسبة الآية: فيه المدح والثناء على من أفرد الله بالتوكل وأنه من صفات المؤمنين.
الآية الثالثة:
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ } [الأنفال: 64].
يا أيها النبي: هذا نداء للنبي.(1/205)
النبي: من أُوحي إليه وأُمر بالتبليغ وكان على شرع من قبله. والنبي أعم من الرسول.
حسبك: كافيك الله.
ومن اتبعك: الواو عاطفة، والمعنى حسبك الله وحسب أتباعك الله.
وتفسيرها: بـ «حسبك الله وحسبك أتباعك من المؤمنين» تفسير ضعيف. وسبب بالضعف: لأن المؤمنين ليسوا حسبًا للرسول.
مناسبة الآية: أن الله هو الكافي والمعتمد، فيجب التوكل عليه.
الآية الرابعة:
قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3].
يتوكل: يعتمد.
حسبه: كافيه.
مناسبة الآية: أن الاعتماد على الله كاف، ومعنى كفاية الله أي: الله يكفيه من الضرر، أما الأذى فقد يصل إليه ولكنه لا يضره، قال تعالى: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } [آل عمران: 111].
حديث ابن عباس:
هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن الإخبار عن قول إبراهيم لا يؤخذ بالرأي.
حسبنا الله: أي كافينا.
ونعم الوكيل: أي نعم المعتمد.
إبراهيم عليه السلام: هذه عادة المؤلفين، وهي التسليم على الأنبياء، والأفضل الجمع
بين التسليم والصلاة.
النار: يقصد بها النار التي أوقدت لإبراهيم، وهي غير النار الأخروية.
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [آل عمران: 173].
أي: فلم يخشوا الناس، وإنما زادوا اعتمادًا على الله سبحانه وتعالى.
وقالوا: فيه استحباب هذا القول عند المصائب والكرب.
وكان من كفاية الله لهم أن تراجع أبو سفيان ولم يحصل بينهم قتال، وهذا في «حمراء الأسد».
مناسبة الحديث: هذا الحديث فيه الاعتماد على الله سبحانه.
باب قول الله تعالى:
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99]، وقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [الحجر: 56].(1/206)
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر، فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله» رواه عبد الرزاق.
قال الشارح:
موضوع هذا الباب: حكم الأمن من مكر الله، والمصنف جعل هذا الباب بعد باب التوكل، ولو كان بعد باب الخوف لكان أنسب؛ لأن هذا الباب ألصق بباب الخوف لسببين:
السبب الأول: أن شدة الخوف تؤدي إلى القنوط واليأس، والقنوط تعرض له المؤلف.
السبب الثاني: أن عدم الخوف يؤدي إلى الأمن من مكر الله، وعلى ذلك فعدم وجود الخوف مشكلة وزيادته مشكلة.
المسألة الأولى:
المكر: هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر.
وأما مكر الله: فله تفسيران.
التفسير الأول: باعتبار أنها إضافة الصفة إلى الموصوف، وبهذا الاعتبار يكون مكر الله: صفة قائمة بالله تقتضي الإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر، وهي بهذا من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة، وهي من الصفات التي تطلق على الله بالتقييد، فيُقال: يمكر الله بالماكرين. وهذا التفسير هو تفسير أهل السنة والجماعة.
وأما المعطلة كالأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والجهمية فإنهم لا يثبتون صفة المكر.
التفسير الثاني: باعتبار أنها إضافة المخلوق إلى الخالق، ويقصد بها هنا: استدراج العاصين بالنعم.
والأقرب التفسير الأول أنها من آيات الصفات؛ لأن هذا هو الأصل.
المسألة الثانية: كيف يوصف الله بالمكر والمكر مذموم؟
إذا كان المكر في محله فهو مدح، وإن كان المكر في غير محله فهو مذموم، والموصوف به الله هو المكر في محله، والمستحقين له هم الماكرون.
المسألة الثالثة: حكم الأمن من مكر الله وعلاقته بالتوحيد:
حكمه: محرم وينافي كمال التوحيد الواجب، والدليل على ذلك الآية الأولى.
الآية الأولى:(1/207)
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99].
أفأمنوا: الاستفهام هنا يقصد به الإنكار، والواو تعود على أهل القرى، وهي القرى التي عصت الله مع وجود النعم عليها.
مكر الله: هنا بالمعنى الأول من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ومر علينا قبل قليل أن مكر الله وصف قائم في ذات الله يقتضي الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر.
فلا يأمن: دليل على أنه لا يجوز الأمن من مكر الله.
القوم: فاعل يأمن.
الخاسرون: هذه صفة وعقوبة الآمن من مكر الله أنه خاسر، وجاءت الخسارة هنا بالألف واللام، فهل هي الخسارة المطلقة أو مطلق الخسارة؟
الأصل في هذا التعبير أنه للاستغراق، وعلى ذلك تكون الخسارة المطلقة، ولذلك قال الشارح ابن قاسم: أنه ينافي التوحيد، لكن هذا يُحمل على أنهم أتوا بشيء فيه شرك أو كفر، فإن كان عدم الخوف من مكر الله يتضمن الاستخفاف بالله وأن الله لا يقدر، فهذه خسارة مطلقة، وإن كان عدم الخوف كما يحصل من المسلمين من فعل المعاصي وهم في نعم، فهذا ينافي كماله الواجب، فيكون مطلق الخسارة، ولذلك يجب على الإنسان أن يخاف من الله سبحانه وتعالى خصوصًا إذا أنعم الله عليه.
المسألة الرابعة: مواطن الخوف:
الخوف له مواطن يحمل عليها:
1- إذا نظر إلى ذنوبه وكثرتها خاف.
2- إذا نظر إلى شدة عقوبة الله خاف.
3- إذا نظر إلى عدل الله خاف.
4- إذا فعل الطاعة خاف عدم القبول بكونه مقصرًا.
5- عند المصائب والمكاره إذا كان عاصيًا خاف عدم التفريج.
وهذه مواضع للخوف محدودة.
الآية الثانية:
وقوله: { قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [الحجر: 56].
من: الاستفهام يُراد به هنا النفي.
يقنط: تعريف القنوط: استبعاد الفرج واليأس منه.
والقنوط عند الإطلاق يدخل في تعريفه اليأس، ولذا فالقنوط هنا استبعاد مع قطع.(1/208)
رحمة ربه: أما بالنسبة لصفة الرحمة فالله موصوف بالرحمة، قال تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } . وهو مذهب أهل السنة والجماعة، لكن "رحمة ربه" هل هي من إضافة المخلوق إلى خالقه والفعل إلى فاعله؟ أم من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؟ هنا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
فيكون المعنى: ومن يقنط من رحمة ربه التي اتصف الله بها.
فائدة:
الرحمة على مذهب أهل السنة والجماعة تأتي لمعنيين:
إذا أضيفت إلى الله تأتي بمعنى الصفة القائمة بذات الله، فإن كان المضاف عين قائمة مستقلة كالجنة، فهي من باب إضافة المخلوق إلى خالقه.
وإن كانت بمعنى لا يقوم إلا بالذات، فهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.
مثال ذلك: تأتي بمعنى الصفة القائمة بذات الله كما في يقوله: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، وقد تأتي بمعنى الرحمة المخلوقة كما في الحديث القدسي «أنت الجنة رحمتي».
إلا الضالون: الألف واللام الأصل أنها للاستغراق، فيكون قولنا هنا مثل قولنا في { الخاسرين } ، والآية قالها الملائكة لإبراهيم لما بشروه بغلام.
والشارح ابن قاسم ذكر أن إبراهيم لما ذكروا له البشرى أنه لم يستبعد الفرج، ولكنه قالها على وجه التعجب.
مناسبة الآية: تدل على أن القانط ضال، وهذا ينافي التوحيد أو كماله الواجب.
وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئُل عن الكبائر فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله».
درجة الحديث:
هذا الحديث أختلف فيه، فذهب ابن كثير إلى تضعيفه وقال: في إسناده نظر، والأشبه أنه موقوف.
وانتقدوه لأن في إسناده شبيب بن بشر، وذهب بعض أهل العلم إلى تحسينه منهم العراقي في تخريج الإحياء والألباني في الجامع، والأقرب أنه مقبول، ويعضده الحديث الذي بعده.
سئُل: مبني للمجهول ولا يهمنا تعيينه.
لكبائر: فيها مسائل.
المسألة الأولى: تعريف الكبائر.(1/209)
الكبائر: جمع كبيرة وهي: كل معصية محرمة متوعد عليها بوعيد.
المسألة الثانية: هل الكبائر تُعرف بالحد أم بالعد؟
لا. هي تُعرف بالحد، فهي كل معصية تُوعّد عليها، وأما العد فعددها كثير.
المسألة الثالثة:
الألف واللام في الكبائر ليست للاستغراق، فليس ما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هنا هي الكبائر فقط.
وإنما عد هنا الكبائر المتعلقة بالخوف والرجاء.
فاليأس: كبيرة في باب الخوف وهو شدة الخوف.
والأمن: كبيرة لأنها عدم الخوف.
أما الكبائر التي ذُكرت في الحديث:
الأول: الشرك بالله.
الثاني: اليأس من روح الله.
تعريف اليأس: استبعاد الفرج، وهو سوء ظن بالله تعالى.
وقوله: روح الله مثل قوله: رحمة ربه، وقد مرت.
الثالث: الأمن من مكر الله، مر علينا تعريف الأمن من مكر الله وتعريف مكر الله فليراجع في أول الباب.
مناسبة الحديث: يدل على أن اليأس من روح الله والأمن من مكر الله ينافي كمال التوحيد.
وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: «الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله» [رواه عبد الرزاق].
قال المصنف في بعض النُسخ (1): عن ابن عباس، والصحيح عن ابن مسعود.
ظاهر الحديث أنه موقوف لأنه لم يذكر الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والموقوف هو قول الصحابي.
أكبر الكبائر: هذا يدل على أن الكبائر تنقسم إلى قسمين:
1- كبائر.………2- أكبر الكبائر.
وبقي قسم ثالث وهو: الصغائر، وهي: كل معصية محرمة لم يذكر لها وعيد خاص، ويُقصد بالوعيد إما حدٌ في الدنيا أو لعن أو غضب أو عذاب أو إخبار بأن الله بريء منه أو ليس منا، فما وجد فيه شيء من هذا الوعيد فهو كبيرة.
وما لم يوجد فيه شيء من هذا الوعيد وإنما وجد فيه التحريم فقط فهي صغيرة، وليس معنى ذلك أنها لا تؤثر أو أنها شيء بسيط. لا. وإنما سميت صغيرة في مقابل النظر إلى الكبيرة.
__________
(1) كما في نسخة الشيخ وهي حاشية كتاب التوحيد بشرح ابن القاسم.(1/210)
وهذه الكبائر هي نفس العدد في الحديث السابق إلا أن فيه زيادة القنوط من رحمة الله. ومر معنا تعريف القنوط وحكمه، وبقي:
محل القنوط: محله إذا وقع في الكرب أو في شدة الخوف من الله.
علامة القنوط واليأس: علامته ترك المحاولات: والكسل، وترك الدعاء، كل هذا قرينةٌ على أنه قنط.
والقنوط على قسمين باعتبار محله:
1- ما يتعلق بالأشياء الأخروية، كأن يستبعد أن يغفر الله له، أو أن يستبعد أن يتوب الله عليه، أو يستبعد أن يتوب هو ويقلع عن الذنب.
2- ما يتعلق بالأشياء الدنيوية، كأن يستبعد الغنى، أو أن يستبعد الشفاء من المرض. وكلاهما محرم، والنوع الأول أشد.
مسألة: لو أنكر أو تعجب من أشياء ما جرت بها العادة، كما لو كان كبيرًا في السن واستكثر حصول الولد.
هذا فيه تفصيل:
إن كان ذلك بالنظر إلى نفسه وجريان العادة فهذا جائز، وهو الذي فعله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وأما إن كان بالنظر إلى فعل الله فهذا حرام ولا يجوز.
وقد جاء في الصحيح في قصة أصحاب الغار حينما جرى لهم ما جرى فما استبعدوا الفرج؛ بل دعوا وألحوا حتى فرّج الله لهم.
واليأس من روح الله: هنا عطف اليأس على القنوط، والعطف يقتضي المغايرة، فيفسر القنوط في هذا الحديث بقطع الرجاء، واليأس في هذا الحديث: استبعاد الرجاء لا قطعه.
مناسبة الحديث: فيه تحريم الأمن والقنوط واليأس وأنه يُنافي كمال التوحيد الواجب، ومن فوائد الحديث: أن يتعلق رجاء الإنسان بالله فيكون راجيًا لله سبحانه.
والرجاء له مواطن يُحمد فيها:
1- إذا نظر إلى عفو الله وفضله مع عدم العمل بالمعاصي وإلا أصبح غرورًا.
2- إذا ابتلي بمصيبة فتاب توبة نصوحًا رجا القبول.
3- إذا فعل طاعة ونظر على فضل الله رجا الثواب.
4- عند المكاره والمصائب رجا كشفها.
وهناك مواطن خاطئة:
1- أن يرجو وهو مقيم على المعاصي.
2- أن لا يخاف وهو عاصي مع النعم.
3- أن يخاف خوفًا يؤدي إلى القنوط واليأس.(1/211)
4- أن يرجو مع التقصير في الطاعة.
درجة الحديث:
المصنف قال: رواه عبد الرزاق. وقال الهيثمي: إسناده صحيح، وصححه ابن كثير.
مسألة: المصنف ذكر ما يتعلق باليأس والقنوط من باب المقابلة مع الأمن من مكر الله، حتى يعيش بينهما فلا يأمن ولا يقنط.
باب من الإيمان الصبر على أقدار الله
وقول الله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11].
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت».
ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».
وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» حسنه الترمذي.
قال الشارح:
من: تبعيضية.
مسألة: الإيمان هنا بالمعنى العام، أي: الإيمان والإسلام؛ لأن الصبر على أقدار الله إيمان وإسلام.
المسألة الأولى: تعريف الصبر:
لغة: الكف والحبس.
اصطلاحًا: حبس خاص، وهو: حبس النفس عن الجزع، وحبس النفس واللسان والجوارح.
وهذا الباب ضمن أعمال القلوب التي مرت علينا، وترتيبه الخامس.
على أقدار الله: الأقدار: جمع قدر، والإضافة هنا من باب إضافة المخلوق للخالق، ويقصد بها أقدار الله المؤلمة كالأمراض والأوجاع وجميع المصائب.
المسألة الثانية:
المصنف خص هنا نوعًا من الصبر وهو: الصبر على أقدار الله.(1/212)
وسبب ذلك: أن الصبر على المصائب هو الذي يتعلق في التوحيد؛ لأن من تمام الاعتراف بربوبية الله ومن تمام توحيد الله بالربوبية الصبر على ما قدر الله وقضى.
المسألة الثالثة: أقسام الصبر: ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صبر النفس، وهو حبسها عن الجزع، وما يقوم بالقلب من الصفات غير المرضية.
الثاني: حبس اللسان عن التشكي والنياحة.
الثالث: صبر الجوارح عن اللطم والشق.
المسألة الرابعة: هذه الأقسام باعتبار المحل وباعتبار الإنسان نفسه.
وينقسم أيضًا إلى ثلاثة أقسام أخرى:
الأول: الصبر على الطاعة.
الثاني: الصبر عن المعاصي.
الثالث: الصبر على الأقدار المؤلمة.
والقسم الأخير هو الذي عنى المؤلف لأنه الذي يتعلق بالتوحيد.
المسألة الخامسة:
المصنف قال: من الإيمان بالله الصبر ولم يقل الرضى؛ لأن هناك فرقًا بين الصبر والرضى.
الصبر على أقدار الله واجب مطلقًا، أما الرضى بأقدار الله ففيه تفصيل؛ لأن من أقدار الله ما يُرضى به ومنها ما لا يُرضى به.
ويقصد بأقدار الله هنا:
القسم الأول: ما قدره الله من الشرك والكفر، فهذا لا يرضى به قال تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [الزمر: 7].
القسم الثاني: من أقدار الله: كالطاعات، فهذه يَرضى بها، والرضى بها هنا واجب.
وأما المصائب التي تحدث للإنسان فالرضى بها مستحب، أما الصبر عليها فواجب بقي مرتبة ثالثة وهي الشكر، وهذه هي المسألة الآتية.
المسألة السادسة: موقف الإنسان من المصائب.
له أربعة مواقف:
أما الجزع فمحرم،وأما الصبر فواجب، وأما الرضى فمستحب، ومعناه: طمأنينة القلب وسكونه وهو عمل قلبي.
الرابع: الشكر وهو: الثناء باللسان عند المصيبة، كأن يحمد الله أنه لم يحصل أكبر منها، أو يحمد الله على أنه أنعم عليه بأكثر، أو يحمد الله على أنها لم تكن في دينه. أو مطلق الحمد وهو: عمل متعلق باللسان إذا اجتمع مع الرضى.
المسألة السابعة: أقدار الله هل يقصد بها القضاء أم المقضي؟(1/213)
هناك فرق بين المعنيين: فقدر الله بمعنى القضاء أو بمعنى أقدار الله التي هي فعله، فهذا كله خير ويرضى به؛ لأنه فعل الله، أما المقضي أو قدر الله بمعنى المفعول، فهذا ينقسم ولا يجب الرضى به كله.
فمثلاً قتل النفس ينُظر إليها باعتبارين:
1- من حيث أن الله كتبه وشاءه نرضى بها.
2- من حيث صدوره من القاتل وأنه باشره فلا نرضى به.
المسألة الثامنة: الصبر على أقدار الله قسمان:
الأول: أقدار لله لا صنع للعباد فيها، كالمرض والبرد وغير ذلك.
الثاني: أقدار من كسب العباد، وهي على قسمين:
القسم الأول: ما يصدر منهم عليك من أذية وضرب بقصد منهم وتعمد، وهل يجب الصبر هنا أم لا؟
لا يجب الصبر.
القسم الثاني: ما يصيبك منهم بغير قصد ولا تعمّد، وهذه لا يجب الصبر عليها لكنها أخف من التي قبلها، أما بالنسبة للآية فقد قال تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11].
من يؤمن: فسرها علقمة بأنه يرضى ويسلم، ففسر الإيمان هنا بالرضى والتسليم، وهذا من باب التفسير بالتضمن؛ لأن الرضى بعض الإيمان.
ولماذا لم يقل أن يصبر؟ هو داخل في كلامه؛ لأن الرضى صبر وزيادة.
والمصنف أتى بقول علقمة في تفسير الآية مع أن الباب باب الصبر والآية في الإيمان مما يدل على فقه المؤلف؛ لأن الدليل عام والدعوى خاصة، وهذا مقبول في الاستدلال.
يهد قلبه: الهداية هنا هداية توفيق أي: يزيده إيمانًا وتوفيقًا، ومن هداية الله الرضى والتسليم.
علقمة: من كبار التابعين،وهذا يسمى مقطوعًا لأنه من قول التابعي.
الرجل: هذا من باب الغالب وإلا فالمرأة كذلك.
المصيبة: ما يقع للإنسان مما يكرهه كالمرض ونحو ذلك.
فيعلم: العلم هو الإدراك.
أنها من عند الله: إيجادًا وتقديرًا ومشيئة، وأما من العبد فكسبًا.
فيرضى: الرضى أعلى من الصبر، فيدل على الصبر بالتضمن.
فمعناه: يصبر ويطمئن قلبه ويحمد بلسانه.
ويسلم: الواو للمغايرة، فهل التسليم بمعنى الرضى أم لا؟(1/214)
هذه مسألة تحتاج إلى بحث؛ إلا إن كان يقصد بالرضى ما يتعلق بالجوارح والتسليم ما يتعلق بالقلب.
مناسبة الآية وتفسير علقمة: يدل على أن الصبر سبب لهداية القلب، وأن من الإيمان الصبر.
مسألة: شكاية المريض هل تنافي الصبر.
فيها تفصيل:
إن كان إخبارًا فهذا جائز، كما جاء في الحديث حينما قالت عائشة: وارأساه، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: بل أنا وارأساه. وعلامة الإخبار أن يكون مبنيًا على السؤال أو ما يدل على الإخبار، وأما إن كان على وجه التبرم من المصيبة والتأفف منها فهذا يُنافي الصبر، خصوصًا إذا صحبه كلمات تدل على التأوه والتضجر.
مسألة: حكم الأنين:
أما الأنين فقد كرهه الإمام أحمد، وأظنه داخلاً ضمن التقسيم السابق، فإن كان من باب التنفيس عن النفس، فيجوز، وإن كان من باب التشكي فلا يجوز. أي: التسخط والتأفف.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت».
اثنتان: هذا للتقريب وليس للحصر.
الناس: الألف واللام للعموم فتشمل المسلم والكافر.
وهل يخرج الجن؟ بل الجن مكلفون ومخاطبون.
بهم: الباء سببية أي هما سبب كفرهم.
ما المقصود بالكفر في هذا الحديث؟
الكفر إن جاء معرفًا بالألف واللام فيدل على الاستغراق ويحمل على الكفر الأكبر، وأدخل بعض أهل العلم (قد) فهي أيضًا للاستغراق، لحديث «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».
وأما الكفر إذا جاء مُنكّرًا بدون الألف واللام فيدل على الكفر الأصغر، يكون المقصود بالكفر في حديث الباب: الكفر الأصغر.
وهل من قامت به يُقال له كافر؟
لا. وإنما يُقال له: قام به شعبة من شُعب الكفر الأصغر، أو خصلة من خصال الكفر الأصغر.
الأولى: الطعن في النسب، هذا مر بنا في باب الاستسقاء بالنجوم.
الثانية: النياحة على الميت، أيضًا سبق بحث هذه المسألة.(1/215)
الشاهد من الحديث: قوله: النياحة على الميت، فإنها تنافي الصبر، والواجب عند مصيبة الموت أن يصبر.
المناسبة: وجوب الصبر على أقدار الله وأنه من الإيمان، وأن نقصه يُنافي كمال التوحيد الواجب.
ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية».
مرفوعًا: الرفع هنا حقيقة.
ليس منا: هذا ضمن أحاديث الوعيد ومرّ بنا منهج السلف في التعامل مع نصوص الوعيد، فيمرونها كما جاءت ولا يفسرونها إلا إذا دعت الحاجة لذلك.
وتفسيرها هنا: ليس منا أي: من المؤمنين الكاملين. فالنفي لكمال الإيمان الواجب لا لأصله؛ لأن الإجماع منعقد على أن من فعل المعاصي والكبائر لا يخرج من الدين، ولكن يخرج من كمال الإيمان الواجب.
ضرب الخدود وشق الجيوب: هذه أمثلة على عدم صبر الجوارح، وتدل باللازم على عدم صبر القلب لحديث: «إن في القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله».
إلا أنه يعفى عن اليسير من الكلام، وهذا هو الجمع المناسب مع قول فاطمة «يا أبتاه إلى جبريل ننعاه» وهذا إذا كان القول صدقًا.
دعا بدعوى الجاهلية: كالدعوة للقومية والعصبية والتجمع للأحلاف على أساس المصالح.
وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له بالعقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة».
فيه مسائل:
إذا أراد الله: فيه إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى.
بعبده: هل يقصد بالإضافة العموم أم هي إضافة تشريف؟
المقصود هنا والله أعلم عبده المؤمن المتذلل له بالطاعة، فتكون الإضافة إضافة تشريف؛ بدليل أن المؤمن هو موضع الخير وهو الذي يحب الله له الخير، أما الكافر فإن الله لا يحب الكافرين.
الخير: هل المراد به هنا تكفير الذنوب أم رفع الدرجات والثواب؟
الذي يبدو لي: الأول أن المقصود بالخير هو تكفير الذنوب.(1/216)
المسألة الثانية: هل المصائب كفارات أم رافعة للدرجات؟
فيه تفصيل:
فقد تكون مكفرة فقط أو قد تكون رافعة. من جهة كونه يصبر فقط فهي مكفرة؛ بشرط ألا يتضمن ترك واجب أو فعل محرم.
أما من جهة ما تورثه المصيبة من رضى واستغفار وشكر فهي رافعة للدرجات. فيكون الخلاصة: أن المصائب مع الصبر مكفرة بشروطها، ومع الرضى والشكر رافعة. وكونها مكفرة يدل عليه حديث أنس، وكونها رافعة يدل عليه آخر الحديث، وكونها مكفرة للسيئات هو مضمون كلام ابن تيمية وابن القيم، ولذا فإن الخير هنا يراد به التكفير.
وقوله في الحديث «عجل له العقوبة».
اللام في «له»: للاستحقاق، وتدل أيضًا على الاختصاص؛ لأن المجرم يُؤاخذ بذنبه. وهل غيره يأتيه شيء من هذه العقوبة؟
الحديث قال: «له»: فأخرج غيره لقوله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام: 16] { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: 39] لكن الغير إن تسبب أو رضي أو أعان فهذا يعتبر كسبًا منه.
قوله: «العقوبة»: بمعنى البلايا والمصائب من مرض أو فقر فيصبر فيحصل له الخير.
وهل يدخل في ذلك العقوبات المعنوية، كالنفاق، والإعراض عن الخير، وضيق الصدر قال تعالى: { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 77]؟ الجواب: نعم.
ومن قوله: «العقوبة»: أيضًا هو الذي جعلنا نقول إن المصائب كفارات في هذا الحديث؛ لأنه بدل أن يعاقب في الآخرة عوقب في الدنيا، فكان عقابها مكفرًا، وحجابًا، وبدلاً.
ولم يبين في الحديث مصدر العقوبة هل هي البلايا التي من صنع الله؟ أو هي التي من فعل الناس إما بقصد أو بغير قصد؟
قد يكون الجميع، وقد مرّ بنا هذا التقسيم.
قوله: «في الدنيا»: هذا موضع العقوبة ولا يلزم من التعجيل أن يكون بعد الذنوب،
ولكنه في الدنيا من الذنوب إلى الموت، وقد يكون التشديد في الموت من الكفارات.
قوله: «وإذا أراد الله بعبده شرًا».(1/217)
عبده: هنا مثل عبده الأول، لكنه المسرف على نفسه بالمعاصي.
الشر: وهنا سؤال: هل معنى ذلك أن الله يريد الشر؟ وكيف نوفق بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - « والشر ليس إليك»؟
هنا سمى الإمساك عن العقوبة شرًا باعتبار العبد، وإلا باعتبار فعل الله فعدل.
أمسك عنه بذنبه: الممسوك عنه هي البلايا والعقوبة.
بذنبه: الباء سببية، بمعنى أنه ما عاقبه بسبب ذنوبه ولكن أمسك عنه العقوبة وقد تكون بمعنى الاستحقاق أي مع أنه مستحق بذنبه.
ونسب الذنوب إلى العبد: لأنها كسبه.
وهذه الذنوب هي ما دون المكفرات.
حتى: لانتهاء الغاية أي: إلى غاية أن يوافي به يوم القيامة.
وروى الحديث الترمذي وحسنه، والحاكم والطبراني.
مناسبة الحديث: وجوب الصبر على المصائب وأنها خير للعبد.
وهل كل مصيبة علامة خير؟
لا. إلا إن وُفّق إلى الصبر فهي علامة خير، وإن لم يصبر فهي علامة شر.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» حسنه الترمذي.
ظاهر صنيع المؤلف أنه حديث آخر مع أنهما حديث واحد. رواهما الترمذي عن أنس بسند واحد.
ومعلوم عند أهل العلم أنه يجوز تجزئة الحديث.
«إن عظم الجزاء»:
فإذا نظرت إلى هذه الكلمة «الجزاء» وآخر الحديث تبين لك أن في هذا الحديث دلالة على أن المصائب رافعة للدرجات.
«مع عظم البلاء»:
المعية هنا ليست معية مقترنة، وإنما الجزاء يأتي بعد البلاء؛ لأنه مترتب عليه. وهل الجزاء مع كل بلاء مطلقًا؟
لا. ليس كل بلاء معه جزاء إلا بشرطه، وشرطه هنا: أقله اثنان وأكثره ثلاثة: إما الصبر والرضى، أو الصبر والرضى والشكر.
وقوله: «مع عظم البلاء»: أي أن عظم البلاء معه عظم جزاء. هل هو باعتبار الكمية أو الكيفية؟ قد يكون هذا وقد يكون هذا.
«وإن الله تعالى إذا أحب قومًا»: فيه إثبات أن الله يحب. والمعطلة لا يثبتون المحبة لله تعالى.(1/218)
وقوله «قومًا»: هنا نكرة والمقصود بقوم: أي المؤمنين.
والدليل: أن الله لا يحب الكافرين، وهؤلاء القوم محبوبون.
قوله «ابتلاهم»: أي أصابهم ببلايا ومصائب ورزقهم ما يثيبهم عليها ويثبتهم. ويدل هذا الحديث بالمفهوم أن قلة الجزاء مع قلة البلاء.
قوله «فمن رضي»:
هنا ذكر الرضى فهو يدل على الصبر وزيادة.
وجاء في حديث محمود بن لبيد وقال المنذري: رواته ثقات.
قال: «فمن صبر ... الحديث» ولا يقيد هذا عموم الحديث فإن فيه زيادة الرضى.
وقوله: «فله الرضى» هذا جزاء رضائه أن يرضى الله عنه، فيترتب على ذلك كثرة الثواب.
«ومن سخط» أي: كره، وما تبع الكراهة من أعمال الجوارح.
«فله السخط» فهذا جزاءً وفاقًا، فلما سخط سخط الله عليه، فيترتب على ذلك العقوبة.
مناسبة هذا الحديث: فضل الرضى وأنه يزيد في الدرجات، ويزيد في التوحيد.
باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110] الآية.
عن أبي هريرة مرفوعًا: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [رواه مسلم].
وعن أبي سعيد مرفوعًا: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته، لما يرى من نظر رجل» [رواه أحمد].
قال الشارح:
المسألة الأولى: تعريف الرياء:
الرياء مصدر من رآى يرائي رياءًا وهو مشتق من الرؤية. وأما اصطلاحًا: فهو عمل الصالحات يريد مدح الناس وثناءهم.
ومنه ما يسمى بالسمعة، والسمعة رياء لكنها مختصة بالمنطوقات والمسموعات، كحسن القراءة لكي يمدحه الناس، وحسن الوعظ والتدريس لكي يمدحه الناس.
وأما الصلاة وهي عمل فهذا رياء.
وإذا اجتمع الرياء والسمعة اختص الرياء بالأعمال، واختصت السمعة بالمسموعات.
مسألة: حكم الرياء وأقسامه:(1/219)
القسم الأول: وهو ما يكون شركًا أكبر وهو أنواع:
النوع الأول: الدخول في الدين، فأساس دخوله في الدين رياء، فهذا يعتبر شركًا أكبر.
النوع الثاني: أن يرائي بالأعمال التي تركها كفر فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن هذه الأعمال إذا تركت من غير رياء فهو كفر، وكذلك إذا فعلها مع الرياء فهي باطلة فكأنه تركها، فعملُها مع الرياء عدمٌ. كالصلاة المفروضة: فالإنسان إذا ترك الصلاة كسلاً فإنه يكفر، وإذا فعلها رياءً فإنه يكفر، وعلة التكفير الترك حكمًا ونوعه رياء.
النوع الثالث: أن يكون الغالب على أعماله الرياء باعتبار الكمية، وهذا مفهوم من كلام ابن القيم رحمه الله مفهوم مخالفة؛ حيث إنه يعد يسير الرياء من الشرك الأصغر، فأصبح كثيره من الأكبر، وهذا إذا كان غالب أعماله الرياء، وهذا لا يصدر غالبًا إلا من منافق أو علماني.
القسم الثاني: وهو شرك أصغر. وهو أنواع:
النوع الأول: أن يكون العمل المعين لغير الله لكن هذا العمل ليس مما تركه كفر، فهذا يعتبر من الأصغر.
النوع الثاني: وهو ما يسمى بالرياء الطارئ وهو: أن يبتدئ العمل لله ثم يطرأ عليه الرياء، فهذا على أقسام:
القسم الأول: ألا يركن إليه، فيجاهده حتى يتخلص منه، فهذا لا يضره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عفى لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم».
القسم الثاني: أن يركن إليه ويسترسل معه، فهذا يحبط عمله، ويعتبر من الشرك الأصغر، ويدل عليه الحديث الأول حديث أبي هريرة، والشاهد منه قوله «تركته» أي جعلته متروكًا.
والقول الثاني: أن تبطل الزيادة. أما أصل العمل فيثاب عليه ذكر ذلك ابن رجب في جامع العلوم.
وفي الباب مسائل:
المسألة الأولى: لو خالط العمل غير الرياء؟
كما لو عمل عملاً صالحًا يريد الدنيا أو المنصب أو الجاه. هذا لا يدخل في هذا الباب، وإنما هو في الباب الذي بعده.
المسألة الثانية: لو طرأ عليه الرياء بعد العمل؟(1/220)
هذا لا يضره؛ لأنه بعد انتهاء العمل لا يتعلق بالعمل شيء، ويدل عليه مفهوم حديث أبي هريرة «أشرك معي فيه»، وأما بعد العمل فلا يتصور أن يرائي فيه، لكن قد يدخله الرياء من باب التحدث فيه وهي السمعة.
المسألة الثالثة: مدح الناس له وثناؤهم عليه دون قصد منه هل هو من الرياء؟
لا. ليس من الرياء لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئُل عن الرجل يعمل العمل فيحمده الناس؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» [رواه مسلم].
المسألة الرابعة: هل ترك العمل من أجل الناس رياء؟
المقصود بترك العمل كأن يعتاد الإنسان أن يقرأ قراءة جيدة ثم يترك إحسان قراءته من أجل الرياء، أو أن يعتاد صوم الاثنين فيعلم به بعض الناس فيترك الصوم، فهل هذا الترك يعتبر رياء أم لا؟
المسألة فيها قولان:
الأول: التفصيل في العمل المتروك، فإن كان العمل المتروك ليس واجبًا، وتركه لئلا يظن به ما يضره، أو ترك بعض النوافل عند بعض الناس خشية أن يمدحوه، أو يخشى على نفسه الفتة فليس رياء.
أما الواجب فليس له أن يتركه إلا لعذر شرعي. وهذه إجابة اللجنة الدائمة.
الثاني: أنه رياء، ولذلك قال الفضيل بن عياض: «العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء».
واستدل أيضًا بقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110] وحديث أبي هريرة: «من عمل عملاً» والترك عمل، والثاني هو الأقرب والله أعلم.
المسألة الخامسة: إذا عمل العالم أو طالب العلم عملاً ليس من عادته ولكن ليقتدي به الناس فهو من الرياء؟
لا. ليس من الرياء، ويدل عليه ما ثبت من حديث سهل المتفق عليه من أن النبي صلى على المنبر وقال: «فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي».
المسألة السادسة: لو عمل عملاً لأن تركه عيب أو فعله عيب فما الحكم؟
هذا على قسمين:(1/221)
إن كان عبادة فهذا لا يجوز؛ لأنه يعمل من أجل السلامة من عيب الناس وذمهم فعلاً أو تركًا.
وإن كان عادة من العادات الدنيوية فلا مانع.
المسألة السابعة: الرياء خاص في الأعمال الصالحة.
ولذا لو عمل الأعمال الدنيوية ليمدحه الناس فهذا ليس من الرياء، مثال ذلك: لو حسن بيته أو مركبه ليمدحه الناس، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد من حديث شداد بن أوس أنه قال: «من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق ...» فذكر الأعمال الصالحة فقط.
المسألة الثامنة: لو أن هناك إنسان لم يعتد على عمل صالح كالصيام مثلاً وحضر عنده ناس يصومون فصام معهم فهل هو من الرياء؟
لا. لأنه ما صام يريد مدحهم، ولكنه نشط لهذه العبادة لما جالسهم، يدل على ذلك حديث حنظلة: «كنا نكون عندك كأنا نرى الجنة فإذا خرجنا عافسنا الأولاد والضيعات ونسينا كثيرًا».
المسألة التاسعة: ما الحكم لو كان في الخلوة ينقص الصلاة وإذا كان عند الناس أكمل الصلاة هذا من الرياء؟
المسألة العاشرة: ما الحكم لو صلى لوحده وإذا فاتته الصلاة خفف وإذا صلى إمامًا طول؟
هذا ليس من الرياء؛ لأنه يطول لمصلحة الجماعة لا لمدحه، ولحديث «صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية» ولاحظ "لنا".
المسألة الحادية عشرة: لو سئُل عن أعماله الصالحة فهل الإجابة عنها من الرياء؟
لا. هذا ليس من الرياء؛ لأنه بعد العمل وهو إخبار أيضًا. أما لو استرسل وفرح فهذه تحتاج إلى تأمل.
المسألة الثانية عشرة: لو تحدث بعمله الصالح ليُنشط الناس ويُفيدهم؟
هذا جائز، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة».
المسألة الثالثة عشرة: كيف الإجابة على حديث أبي موسى لما استمع له الرسول
وهو يقرأ القرآن حينما قال: «لو علمت لحبرته لك تحبيرًا»، فهل هذا من باب الرياء؟(1/222)
لا. ليس من باب الرياء .ويُستفاد منه أنه يجوز إتقان العمل المتعدي نفعه لمصلحة السامع أو المستفيد إذا كان العامل مخلصًا. مثل لو تشرح درسًا علميًا ولما علمت أن بعض الناس يستمع فقلت: لو علمت لفصلت وشرحت؛ بخلاف الصلاة فإن نفعها قاصر غير متعدي.
المسألة الرابعة عشرة: لو ترك القراءة الجيدة وغيرها من الأعمال مخافة العين فهل هو من الرياء؟
تحتاج إلى بحث. والذي يبدو لي أنه ليس من الرياء إن كان هنا قرائن للخوف من العين، وإن كان مجرد وهم فهذا لا يجوز؛ لأنه من السفه.
المسألة الخامسة عشرة: ما حكم لو ترك إخبار الناس مقدار حفظه من القرآن أو السنة مخافة العين؟
هذا جائز { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة: 271] لكن لا يخبر بخلاف الواقع.
المسألة السادسة عشرة: لو ترك المعصية من أجل الناس هل هو من الرياء!
أما ترك المعاصي فواجب ولكنه لا يُثاب على هذا الترك، فإنه ما قصد به وجه الله، كما لو ترك المعصية عجزًا. جاء في حديث عمر: «إنما الأعمال بالنيات».
المسألة السابعة عشرة: هل هناك علاج للرياء؟
أما علاج الرياء:
1- أن يترك النظر والاهتمام بالناس لا فعلاً ولا تركًا، ويعوّد نفسه على أن تكون عبادته واحدة في بيته وعند الناس.
2- بالنسبة للأذكار، فقد جاء حديث أبي بكر «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلمه».
شرح الآية:
قل: الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
إنما: أداة حصر.
أنا بشر: هنا نفى عنه الألوهية.
مثلكم: أي مثلكم في البشرية.
يُوحى إليّ: الوحي: لغة: الإعلام بصوت خفي. شرعًا: ما يعلم به النبي أو الرسول من خير الله تعالى.
إنما إلهكم: أي خالقكم ومعبودكم.
الشاهد: { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } .
لا: ناهية.(1/223)
مناسبة الآية: أن العمل المخلوط بالرياء ليس صالحًا، وهذا مما يعضد أن ترك العمل من أجل الناس رياء، لأن الترك عمل صالح.
عن أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [رواه مسلم].
مرفوعًا: الرفع هنا حقيقي.
قال الله تعالى: هذا يسمى حديثًا قدسيًا.
أنا أغنى الشركاء: أي لا يقبل من الأعمال إلا الخالص منها، وهذا دليل على كمال غناه.
الشرك: أل للعموم: الشرك الأصغر والأكبر.
من: نكرة في سياق الشرط. فهل تعم؟
لا. المقصود به من عمل عملاً من الأعمال الصالحة، لحديث شداد بن أوس: «من صلى يرآى فقد أشرك ...» فأصبح خاصًا بأعمال الطاعات لكنه عام في جميع الطاعات، فهو عام في الأفراد خاص بالجنس.
عمل عملاً: هل ابتدأ العمل يريد الناس أو طرأ عليه هذا الطارئ؟ كلاهما.
فيه: أي أثناء العمل، فخرج ما كان بعد العمل؛ لأنه لا يكون من باب الرياء وإنما هو من باب السمعة إذا تحدث به يريد المدح.
تركته: هل الترك هنا للعمل أم العامل؟
أما إن كان في الشرك الأصغر فالترك للعمل، وإن كان في الأكبر فإنه يدخل العامل
في العمل.
وعلى هذا يكون الترك هنا: أي لم أجازه على العمل الذي أشرك فيه، فيترك إثابته عليه.
مسألة: ومن معاني "تركته": أن عمله يكون باطلاً, على ذلك فيلزم الإعادة إن كان في الواجبات والفرائض.
مسألة: هل يحبط العمل كله أو بعضه؟
إن كان ينبني بعضه على بعض فإنه يبطل كله، كما لو صلى أربع ركعات فراءى في اثنتين وأخلص في اثنتين، أما إذا أمكن التجزئة فما قارنه الرياء يبطل، كما لو تصدق بمائة ريال أخلص بنصفها ورآى في النصف الآخر.
وعن أبي سعيد مرفوعا: «ألا أخركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل» [رواه أحمد].
مرفوعًا: حقيقة.
ألا: أداة عرض وتنبيه.
بما: ما موصولية.(1/224)
عليكم: الكاف في عليكم يعود إلى الصحابة، ويدخل فيه جميع المؤمنين.
وفائدة الخطاب: أن هذا الرياء الذي ذكر في الحديث غالبًا ما يصيب الصالحين، وهو ما يسمى بالشرك الخفي.
المسيح: أل للعهد، أي المسيح المعهود.
هل هي بمعنى اسم الفاعل؟ أو بمعنى اسم المفعول؟ كلاهما. فإنه ممسوح العين اليمنى، ومعنى كونه ماسح: أنه يتجول في الأرض فيمسحها إلا مكة والمدينة.
الدجال: صيغة مبالغة من الدجل.
وتعريفه هو: رجل مموه من علامات الساعة يفتن الناس.
أما زمنه: فقبل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام.
وهل هو موجود أو غير موجود؟
المسألة فيها قولان:
1- أنه غير موجود وإنما يخلقه الله فيما بعد، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد».
2- أنه موجود، كما جاء في صحيح مسلم من حديث تميم الداري أنه كلمه في حديث الجساسة المعروف.
هل هو من بني آدم؟ فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه من بني آدم.
القول الثاني: أنه شيطان من الجن.
القول الثالث: أن أباه من بني آدم وأمه من الجن.
والذي تطمئن إليه النفس القول الأول أنه من بني آدم.
قالوا: بلى: قال الشرك الخفي: ويأتي المقصود بالشرك الخفي، ولكن سمي خفيًا باعتبار المكان؛ لأنه عمل قلب يخفى. ثم ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثالاً يبين طبيعة الشرك الخفي الذي خافه على المؤمنين فقال: يقوم الرجل ...
يقوم الرجل: هذا باعتبار الغالب ولذا فتدخل النساء هنا.
فيصلي: يدل على أنه أراد الله أولاً ثم طرأ عليه الشرك؛ لأن تزيين الصلاة هو تحسين بعض صفاتها، كالطمأنينة ورفع اليدين وطول القيام، وهذا أشد شيء على الصالحين، ولذا ليس على الصالح الخوف أن يبدأ العمل لغير الله، وإنما الخوف عليه طرء الرياء.
صلاته: من باب المثال وإلا تدخل جميع العبادات.
لما: اللام للتعليل أي: علة التزيين هو ما يرى، وهذا هو الباعث على الرياء.(1/225)
رواه أحمد وابن ماجه، والحديث حسن.
لم يذكر هنا بطلان العمل، ولكنه معروف من حديث أبي هريرة السابق.
وهذا الحديث يدل على أن الرياء من الشرك الخفي، وعلى أن الرياء الطارئ هو ما يُخاف على الصالحين منه.
مناسبة الحديث: أن الرياء يعتبر من الشرك.
مسألة: ذكر هنا الشرك الخفي ومر علينا الشرك الأصغر والأكبر، فهل هذه أقسام الشرك؟
المسألة فيها قولان:
الأول: أن الشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام:-
1- الشرك الأكبر.…2- الشرك الأصغر.…3- الشرك الخفي.
وهذا اختيار العلامة محمد بن عبد الوهاب. فيكون على ذلك الشرك الخفي قسيم للشركين.
القول الثاني: أنه ليس قسيمًا إنما قسم، وعليه فالشرك نوعان:
1- شرك أكبر.………2- شرك أصغر.
والأكبر ينقسم إلى شرك أكبر ظاهر، وشرك أكبر خفي. ومثله الأصغر، وهذا هو الراجح.
مسألة: كيف يكون بعض الشرك الأكبر خفي؟
سمي خفيًا باعتبار مكانه؛ لأنه لما كان محله القلب كان خفيًا مثل شرك الرياء الذي يكفر به، ومثل العمل لأجل الدنيا، ويأتي إن شاء الله في الباب بعده ما يُكفر ويخرج من الملة منه.
مسألة: وتعريف الشرك الخفي في هذا الحديث: هو ما يقوم في قلب العابد من طلب المدح بالعمل الصالح.
باب من الشرك
إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [هود: 15، 16] الآيتين.(1/226)
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع».
قال الشارح:
من: تبعيضية.
الشرك: يأتي بمعنى الأكبر ويأتي بمعنى الأصغر، فتكون الألف واللام للعموم.
إرادة الإنسان: الألف واللام للجنس.
بعمله: يراد به هنا العمل الصالح.
المصنف رحمه الله حكم في الترجمة عن حكم عمل الصالحات يريد الدنيا، وجعله من الشرك.
المسألة الأولى: حكم إرادة الإنسان بعمله الصالح الدنيا؟
ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يدخل في الإسلام من أجل الدنيا، وهذا شرك أكبر.
النوع الثاني: أن يكون الغالب على أعماله الصالحة إرادة الدنيا، وهذا شرك أكبر.
النوع الثالث: أن يعمل العمل الذي تركه كفر يريد به الدنيا فقط، وهذا شرك أكبر.
القسم الثاني: أن يعمل العمل الصالح المعين يريد به الدنيا، وهذا العمل ليس تركه كفرًا، فهذا شرك أصغر. وكذلك إذا كانت إرادة الدنيا في بعض أعماله وهي يسيرة، فهذا أيضًا من الشرك الأصغر.
القسم الثالث: أن يعمل العمل الدنيوي يريد به الدنيا، كأن يجتهد في عمله الدنيوي يريد المرتبة.
ومثل لو استأجر رجلاً ليعمل له عملاً فأتقن هذا الرجل من أجل زيادة الأجرة، فهذا لا بأس به.
المسألة الثانية: أمثلة للأعمال الصالحة من أجل الدنيا.(1/227)
مثل الجهاد من أجل الدنيا فقط، والهجرة من أجل الدنيا فقط، والأذان من أجل الراتب فقط، والإمامة من أجل الراتب فقط، وقراءة القرآن من أجل المال فقط، وطبع المصاحف من أجل المال وكسب الربح فقط، وتطبيق الحدود يريد به الأمن فقط، وصلة الرحم يرد به طول العمل وكثرة الرزق فقط، الصلاة من أجل المال فقط، الدراسة الشرعية من أجل المال فقط والتفقيط مقصود هنا.
وعلامة أنه أراد الدنيا فقط في الأمثلة السابقة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أُعطي رضي وإن لم يُعط منها سخط».
المسألة الثالثة: أيهما أشد الرياء أم العمل لأجل الدنيا؟
الشارح ابن قاسم رجح أن العمل من أجل الدنيا أعظم لعدة أسباب منها: أن العمل من أجل الدنيا يسري ويمتد، وأما العمل رياء فإنه في عمل دون عمل، ولهذا سُمي طالب الدنيا عبدًا، أما المرائي فما جاءت فيه هذه التسمية.
شرح الآية:
من: هنا شرطية وهي لفظ عام فيدخل المسلم والكافر والرجل والمرأة.
يريد: الأداة هنا بمعنى القصد والطلب.
لكن ممن يريد؟ يختلف الحكم: فإن كان عمل العمل الصالح يريد ثوابه من الله في الدنيا، كمن وصل رحمه ليطول عمره في الدنيا فقط، أو صلى لدفع الأمراض والآفات
عنه فقط، وكمن زكى لينمو ماله فقط، فهذا العمل ليس خالصًا وقد يثاب في الدنيا وقد لا يثاب، والسبب لأنه إعراض عن الآخرة، لكن لا يدخل في حد الشرك لأن العمل لله، لكنه تعجل الأجر في الدنيا، فهذا يكون غير خالصًا ولا يصل إلى حد الشرك.
الثاني: أن يريد من الناس، كمن يقرأ القرآن يريد الأُجرة من الناس فقط، أو جاهد للمغنم فقط، فهذا من الشرك الأصغر.
الحياة الدنيا: أي الثواب.
وزينتها: الواو عاطفة والعطف يقتضي المغايرة، فالزينة غير الحياة الدنيا، فالزينة تشمل المال والنساء والبنين لقوله: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } [آل عمران: 14]. الآية.
نوفَّ: جواب الشرط.
والتوفية: بأن يُعافيهم أو يعطيهم مالاً.(1/228)
فيها هذا مكان التوفية وهو في الدنيا. إلا أن عموم هذه الآية مخصوص بآية الإسراء { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ } [الإسراء: 18].
فيكون المعنى أنه لا يلزم أن يوف الله في الدنيا كل إنسان؛ بل إن شاء الله وفاه في الدنيا وإن شاء لم يحصل له.
وهم فيها: أي في الدنيا.
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار. هذا أسلوب حصر.
والحصر هنا بالنفي والإثبات. وهذا حكمه في الآخرة.
وهل لهم نار على وجه الخلود أم لهم نار يُعذبون فيها ثم يخرجون؟
على حسب التقسيم السابق، فإن كان أكبر فليس له إلا النار خالدًا فيها، وإن كان أصغر فليس له إلا المؤاخذة أولاً ثم ينتهي إلى الجنة.
حبط ما صنعوا فيها: أي حبط في الآخرة ما صنعوا في الدنيا.
وباطل: العمل في نفسه باطل فلا يؤجر عليه.
المسألة الرابعة: ما هو أثر إرادة الدنيا على العمل؟
على قسمين:
الأول: الحبوط، وهذا إذا أراد الدنيا فقط.
الثاني: النقصان، وهذا إذا أراد الدنيا والآخرة على تفصيل يأتي.
المسألة الخامسة: لو قال قائل هذه الآية في المشركين فكيف سحبت على المؤمنين؟
يقال: اشتركوا معهم في وصفهم فأصبح الحكم واحدًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن تشبه بقوم فهو منهم».
المسألة السادسة: نجد بعض من يتكلم عن العبادات يُركّز على فوائدها الدنيوية، فإذا تكلم عن الصلاة مثلاً قال: إنها رياضة للأبدان.
هذا لا ينبغي الاهتمام به لوحده؛ لأنه يفتح على الناس الاهتمام وإرادة هذه الأمور، أما لو ذكرت كأمر ثانوي فهذا له حكم آخر.
المسألة السابعة: لو طلب الدنيا بأسبابها الدنيوية كطلب الريح عن طريق البيع في الزراعة؟
هذا لا شيء فيه؛ بل يؤجر عليه الإنسان إذا أخلص لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات».
حديث الباب: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة...».(1/229)
هذا الحديث قسم الناس باعتبار الإرادة في العمل الصالح إلى قسمين، وبدأ بالقسم الأول: وهو من كان يريد بالعمل الصالح الدنيا فقط.
تعس: دعاء على من ذل للدنيا وخضع.
عبد: العبد هو من ذل وخضع، والعبودية هي الذل والخضوع.
عبد الدينار: عبد مضاف والدينار مضاف إليه، والإضافة هنا على تقدير اللام، واللام للتخصيص. والمعنى أنه ذل وخضع للدينار، ومن مظاهر خضوعه: إن أعطي منه رضي وإن مُنع منه سخط، فحبه وبغضه ورضاه وسخطه تابع للدينار والدينار: عملة قديمة.
عبد الدرهم: الكلام عليها مثل الكلام على ما سبق: إلا أن الدرهم: قطعة من الفضة. وهذان المثالان خضوع للمال والنقود.
الخميصة: نوع من الثياب.
الخميلة: نوع آخر من الثياب.
وهذان مثالان لمن أراد أعراض الدنيا.
وليس خاصًا بالأربعة بل يُقاس عليها من ذل وخضع لشيء من أمور الدنيا المادية أو المعنوية، كمن يسهر للتجارة ويترك صلاة الفجر في وقتها أو جماعة، ثم ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضابط والمقياس لمن ذل للدنيا «إن أُعطي رضي وإن لم يعط سخط».
أُعطي: مبني للمجهول سواء كان العطاء من الله لا صنع للإنسان فيه، أو أعطاه الإنسان.
رضي: هذا أبلغ من قوله سكت أو شكر؛ لأن الرضى عمل قلبي فيدل على أن قلبه امتلأ رضى.
تعس وانتكس: هذه الجملة يحتمل أن تكون دعاءً عليه أو إخبارا، فإن كانت إخبارًا فهو بمعنى انه لم تصفُ له الدنيا.
وإذا شيك فلا انتقش: ليس المراد الشوكة ذاتها؛ بل إنه إذا وقع في أي مصيبة ولو يسيرة فتجده عاجزًا وحيرانًا، وهذا المقطع من الحديث يدل على أن من كانت الدنيا همه فقد عبدها.
والقسم الثاني في الحديث: من كان يريد وجه الله والدار الآخرة فقط، وهذا ذُكر في آخر الحديث.
طوبى: قيل اسم تفضيل أي ما أطيبه، وقيل: الجنة، وقيل: شجرة في الجنة.
وذكر الشارح ابن قاسم حديثا عند أحمد «أنها شجرة في الجنة».(1/230)
والتفسير النبوي أقرب، وإذا حصلت له الشجرة في الجنة حصلت له الجنة، وكان من أطيبه وما أفضله.
آخذ بعنان فرسه في سبيل الله: هذا أول وصف لهذا القسم، فهو مجاهد بل ومستعد للجهاد؛ لأن الآخذ بزمام الفرس دليل على الاستعداد.
في سبيل الله: أي ليس في سبيل غيره من القومية والوطنية.
أشعث رأسه مغبرة قدماه: هذه هي الصفة الثانية ومعناها: أن وقته كله مشغول
بالجهاد، وليس معنى هذا أنه لا يريد النظافة ولا يهتم بنظافة شعره، لا. بل ليس عنده وقت لها، وإلا فالنظافة مطلوبة شرعًا «إن الله جميل يحب الجمال».
ولهذا الحديث تجد بعض المجاهدين يحب المشي على الأقدام من أجل تغيرها.
وهل هذا الوصف في كل زمنه؟ أي أنه أشعث الرأس مغبر القدمين.
لا. بل هو وصف في حال الجهاد وزمن الطوارئ.
الصفة الثالثة: أنه متقن لعمله ولو وضع في أي عمل، إن كان في الحراسة فيحرس الجيش من أن يهجم عليه أحد فيتقن المراقبة، وإن كان في الساقة -أي مؤخرة الجيش- فإنه يتقن عمله، ومثله أي عمل في الجهاد.
الصفة الرابعة: مكانته عند الناس، فليس له جاه عند أهل الدنيا؛ لأنه ليس من أهل الدنيا.
بقي قسم ثالث بين القسمين السابقين وهو:
من أراد الدنيا والآخرة، وهو ما يسمى بالمخلط بينهما، وهذا على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يكون الغالب عليه إرادة وجه الله، ويريد أيضًا الدنيا في نفس العمل، وهذا في الأصل جائز، ولكن ينقص الأجر، كما جاء في حديث عند مسلم في الذين غنموا قال: «تعجلوا ثلثي أجرهم».
- ومثله المؤذن إذا أراد الآذان وأراد الراتب أو بيت المجسد، فهذا ينقص أجره ولا يعتبر من الشرك.
- ومثله لو حج يريد الوقوف بعرفة والدعاء ويريد أجرة الدنيا.
- ومثله لو درّس العلوم الشرعية يريد العلم والفائدة، ويريد المال.
- والأمثلة كثيرة، ولكن شرط هذا القسم أن يكون الغالب إرادة وجه الله.(1/231)
والدليل على هذا القسم قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة: 198].
النوع الثاني: أن يكون الغالب عليه والأكثر إرادة الدنيا، وهذا محرم ومن الشرك إن أراد الدنيا من الناس.
النوع الثالث: أن تكون الإرادتان متقاربتين، أو متساويتين، فهذا محل خلاف
والأقرب عندي أنه محرم ويلحق بالشرك.
مسألة: لو أن الإنسان طلب علم الشريعة فدخل في كلية الشريعة وأصول الدين يريد الدنيا فقط "هذا شرك"، لكن لما توظف بها تاب إلى الله فهل تحرم عليه الوظيفة؟
وهل يكون حكمه مثل حكم من غش في الامتحان ثم نجح غشًا؟ ومثال آخر: لو أن إنسانًا بنى مسجدًا وأراد به الدنيا ثم تاب بعد ذلك فما الحكم؟
أما للأول فلا تكن الوظيفة عليه حرامًا إذا كان متقنًا لها. وأما المثال الثاني فبالنسبة للمسجد فالصلاة فيه صحيحة وبالنسبة للباني فلعله بعد التوبة يؤجر وأما قبل التوبة فلا لحديث «أسلمت على ما أسلفت من خير» فكان يعمل للدنيا ولما أسلم وتاب أُجر على هذا الخير وهذا مثله من باب قياس التوبة على الإسلام.
مسألة: جاء في بعض الأحاديث الحث على الأمور الصالحة بأمور دنيوية، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل قتيلاً فله سلبه» فيدل على أن من قتله لأجل السلب جاز،ومثل حديث «من أحب أن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه» فلو وصله من أجل أن ينسأ له في أثره جاز، إلى غير ذلك من الأحاديث.
نقول: في هذه الأحاديث ليس المقصود أن يكون الباعث للعمل الصالح الأمر الدنيوي فهذا لا يجوز، أما لو كان حافزًا ومنشطًا فهذا جائز، وهو المقصود بهذين الحديثين.
مسألة: تابعة للدرس الماضي:
عرفنا أنه إذا قرأ القرآن يريد الدنيا فهو شرك، فما حكم تعليم القرآن؟
أما تعليم القرآن فيجوز ولو أخذ عليه شيئًا من الدنيا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله» ومثله العلاج بالقرآن.(1/232)
مسألة: لو عمل العمل الصالح يريد وجه الله ثم طرأت عليه إرادة الدنيا؟
هي مثل حكم ما إذا غلب عليه إرادة وجه الله وشيء من الدنيا، هذا إذا استرسل وأما إن جاهد فأخلص الإرادة فهو كمن عمل عملاً يريد وجه الله فقط.
مسألة: لو كفئ على عمله الصالح شيئًا من الدنيا فما الحكم؟
حكمه: كما مر علينا في الرياء، وكما مر علينا في مدح الإنسان على عمله الصالح، وهذه عاجل بشرى المؤمن.
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله
أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله
وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة: 31] الآية. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟» فقلت: بلى. قال فتلك: عبادتهم. رواه أحمد، والترمذي وحسنه.
قال الشارح:
هذا الباب والباب الذي بعده يعتبران من أصعب الأبواب؛ لأن لهما تعلقًا بالواقع.
المسألة الأولى:
المصنف حكم على أن من أطاعهم فقد اتخذهم أربابًا.
المسألة الثانية:
موضوع هذا الباب يتحدث في الطاعة وأحكامها.
المسألة الثالثة: شرح الترجمة:
من: شرطية تفيد العموم، فهي عامة في كل من أطاعه.(1/233)
والطاعة: الموافقة على وجه الاختيار، فخرج به الإكراه والإلزام، فإنه لا يدخل معنا في هذا الباب، فهو خاص فيمن يوافق مختارًا بدون ضغوط، أما لو أكره على تنفيذ الأوامر فهذا يدخل في باب الإكراه.
قوله "العلماء": للعموم، فتشمل حتى علماء السوء؛ لأن الذي يخالف الشرع ويحلل ويحرم هم من علماء السوء.
وقوله "أمراء": جمع أمير، ويقصد به من شأنه الأمر والطاعة.
وذكر المصنف هنا صنفين هما: العلماء والأمراء، ويُقاس عليهم الأصناف الأخرى، كالعباد، ورؤساء العشائر، وكل ما من شأنه الطاعة كالوزراء.
قوله: «في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم»: ذكر المصنف هنا تحريم الحلال وتحليل الحرام.
وهي عدة صور:
أما بالنسبة للحلال:
فالصورة الأولى: تحليل الحلال.
الصورة الثانية: تحريم الحلال.
الصورة الثالثة: إيجاب الحلال.
الصورة الرابعة: استحباب الحلال.
الصورة الخامسة: كراهية الحلال.
فتجري في الصور الخمس الأحكام الخمسة، لكنها تتفاوت في الحكم.
أما تحليل الحلال فهذا واجب «وأما تحريم الحلال فهو الذي معنا في البحث، ومثلها إيجاب الحلال إذا كان معنى الإيجاب الحكم الشرعي – لا الإيجاب بمعنى الأمر، أما الكراهية والاستحباب فهي محل بحث وهناك فرق بين الحكم الشرعي الذي هو الإيجاب والتحريم ... وبين الحكم السلطاني الذي منه المنع والإلزام ونحوه».
وقوله: تحليل الحرام: تجري فيه الأحكام الخمسة السابقة تمامًا.
وأما الإلزام بالحلال والحرام فهذه لا تدخل؛ لأنه مسألة الإكراه، كما لو أُكره على حرام.
وباعتبار الكمية؛ فالثاني أكثر عند العلماء والأمراء وهو تحليل الحرام كما ذكر المصنف.
فقد اتخذهم: هذا جواب الشرط والفاء رابطة.
أربابًا: جمع رب، والرب هو المتصرف، فيكون المعنى: اتخذهم متصرفين، لكنه تصرف شرعي لا تصرف قدري.
فالتصرف نوعان:(1/234)
1- تصرف شرعي، كما قال تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [الشورى: 13].
2- تصرف قدري، وهو التصرف في الكون إماتة وإحياء.
المسألة الرابعة: حكم طاعة العلماء والأمراء؟
تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يطيعهم وهو يعلم أنهم مخالفون "عامدًا"، مع أنه يرى أن ما أحلوه حرامًا وما حرموه حلالاً. وهذا على نوعين:
النوع الأول: في الأمور المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة وهي المسائل الظاهرة، فهذا يعتبر كفرًا وشركًا أكبر.
مثال ذلك: لو أطاعهم في الذبح لغير الله أو كل ما هو من الشرك الأكبر، فهذا كافر ومشرك شركًا أكبر وهو شرك في باب الطاعة ومثله لو أطاعهم في ترك أحد المباني الأربع وهو يعلم أنهم مخطئون.
النوع الثاني: أن يطيعهم في المسائل الخلافية (1)، كأن يفتي بجوار التصوير، أو بجواز قص اللحية، ويعلم أن فتواهم خاطئة لكن تابعهم هوى، فهذا يعتبر محرمًا وكبيرة من كبائر الذنوب (2).
القسم الثاني: أن يطيعهم وهو لا يعلم مخالفتهم فهذا على قسمين:
النوع الأول: المسائل المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة وهي المسائل
الظاهرة، فهذا يكفر إلا ما استثني وهو حديث العهد، ومن نشأ في بلاد الكفر أو في البادية البعيدة.
__________
(1) المسائل التي لها حظ من النظر.
(2) هناك مسألة تحت هذا القسم، وهو لو أطاعهم فيما يعلم أنه محرم وذلك في المسائل الخلافية ولكن للمصلحة في زعمه إما للدعوة أو غير ذلك، فهذه حكمها لا تجوز أيضًا، بل قد تكون أشد مما لو اتبع هواه، لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها، ومثاله: من قص لحيته حتى يتولى منصبًا ويصلح في منصبه.(1/235)
كما لو أجازوا الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أو كل ما هو من الشرك الأكبر وتابعهم على ذلك وهو لا يعلم أنهم مخطئون، فقد اتخذهم ربًا، ويعتبر من الشرك الأكبر ومثله لو أطاعهم في أحد المباني الأربع وهو لا يعلم أنهم مخطئون وهو عائش بين المسلمين وليس حديث عهد.
النوع الثاني: المسائل الخلافية التي لها حظ من النظر، فهذا يعذر إذا أطاعهم وهو لا يعلم مخالفتهم.
القسم الثالث: أن يطيعهم عالمًا معتقدًا أن لهم التحليل والتحريم فهذا يكفر، وهذا القسم فيه زيادة مسألة الاعتقاد.
قواعد تلاحظ في حكم طاعة العلماء والأمراء:
1- أن الأمور المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة وهي المسائل الظاهرة فإن المطيع يكفر فيها سواء كان عالمًا أم جاهلاً؛ إلا ما استثني في مسائل الجهل في غير الشرك الأكبر والمستثنى وهم ثلاثة حديث العهد ومن نشأ في بلاد الكفر أو البادية البعيدة.
2- أن المسائل الخلافية لا بد أن يكون لها حظ من النظر – مبنية على آية أو حديث أو إجماع أو قول صحابي.
3- المسائل الخلافية التي لها حظ من النظر يختلف الحكم فيها باختلاف الشخص، إن كان متعمدًا وخالف هوى أو مصلحة فإنه يحرم، وإن كان جاهلاً غير متعمد فإنه يعذر، ومثله المجتهد لا شيء عليه.
4- كونه يعلم أنهم مخطئون له أثر في المسائل الخلافية.
بقي مسألة من المسائل الخلافية وهي التي ليس لها حظ من النظر، فهذه تحتاج إلى بحث، وأما التحريم والمنع فثابت، وأم التكفير فيحتاج إلى بحث.
وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
هذا جواب لحوار دار بينه وبين من كان حوله، فإن ابن عباس يرى وجوب نسك
التمتع في الحج، ويستدل على ذلك بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعنده في المجلس من يرى أن الإفراد أفضل، ويستدل بفعل أبي بكر وعمر، فقال له هذا القول.
يوشك: أي يقرب.(1/236)
عليكم: الكاف للمخاطبين عنده الذين عارضوا فعل الرسول بقول أبي بكر وعمر.
مناسبة هذا الحديث: تحريم تقديم قول أحد على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يستحق هذا الوعيد.
وهذا الأثر فيه فوائد:
1- أن من بلغه الدليل ورده تقليدًا لإمام فإنه ينكر عليه بغلظة.
2- لا يلتفت إلى رأي يُخالف الكتاب والسنة.
3- تحريم التقليد مع وضوح الدليل.
المسألة الخامسة: حكم التقليد؟
يحرم في مواضع ويجوز في مواضع.
أما مواضع التحريم:
1- عند وضوح الدليل، فالتقليد يحرم ويسمى التقليد الأعمى والعصبية المذهبية. بقي لو كان الدليل غير واضح؟ تحتاج إلى بحث.
2- تقليد إمام معين يقلده في كل شيء.
أما المواضع التي يجوز فيها التقليد:
1- العامي، فإن فرضه التقليد { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].
2- طالب العلم والعالم إذا لم يتضح له الدليل ويحتاج إلى الفتوى وإلى العمل، فإنه يقُلد، وهذا محله في المسائل الخلافية.
وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
الإمام يأتي لمعاني كثيرة وهو هنا: المتبع والمقتدى به في الخير. عجبت لقوم: العجب هنا عجب إنكار.
وقوله قوم: وصفهم بصفتين؛ لأن الوصف يقتضي المغايرة:
الأولى: أنهم يعرفون الإسناد "رجال السند".
الثانية: أنهم يعرفون التصحيح "الحكم عليه بكونه صحيحًا أم لا".
ومعنى ذلك أنهم علماء وطلبة علم.
يذهبون إلى رأي سفيان: هكذا قال: رأي، ولم يقل دليل سفيان.
سفيان: هو الثوري.
ومناسبة الأثر: الإنكار والتعجب من العلماء وطلبة العلم العارفين بالحديث تصحيحًا وتضعيفًا أن يذهبوا إلى رأي سفيان وغيره.
وخرج بقول أحمد "يعرفون الإسناد وصحته" صور:(1/237)
الصورة الأولى: من لم يعرف الإسناد والتصحيح؛ فإنه يذهب إلى رأي سفيان أو غيره.
الصورة الثانية: من شك في التصحيح، فإنه يذهب إلى رأي سفيان.
الصورة الثالثة: من عرف الإسناد ولم يعرف التصحيح "معنى الإسناد" أي حفظ رجاله وليس لديه ملكة في التصحيح وقواعده.
الصورة الرابعة: من عرف الصحة ولم يعرف الإسناد، هذا لا يمكن إلا أن يكون مقلدًا في الصحة، وإذا عرف الصحة بطريق صحيح فهذا كافي؛ لأن الأصل معرفة الصحة.
والله تعالى يقول: ذكر الآية من باب الاستدلال على قوله في عدم جواز تقليد العالم الذي معه الدليل، وهذا من أحسن الأمور أن يكون الحكم الشرعي مصحوبًا بالدليل.
وهنا مسألة: حكم ذكر الأدلة عند ذكر الأحكام؟
هذا من باب الاستحباب، وأما بناء الأحكام على الأدلة فواجب.
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [النور: 36].
فليحذر: هذا تحذير ووعيد.
أمره: أي أمره الشرعي.
أن تصيبهم: أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر، فليحذروا إصابة الفتنة، ثم فسر الإمام أحمد الفتنة بأنها: الشرك.
أو يصيبهم عذاب: أصبح المخالف لأوامر الله معرض لشيئين:
1- أن يتدرج به الأمر إلى أن يقع في الشرك.
2- أن يصيبه عذاب أليم.
بعض قوله: أي قول الله وقول الرسول، فدل على أن رد قول الرسول سبب لزيغ القلب، ويترتب على زيغ القلب الهلاك.
حديث عدي بن حاتم:
وقع فيه خلاف في تصحيحه، فحسنه الترمذي كما ذكر المصنف، وذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفه والحديث حسن كما قال الترمذي.
عدي بن حاتم: كان نصرانيًا ثم أسلم.
يقرأ هذه الآية: والملاحظ أنه لم يذكر الاستعاذة ولا البسملة، وهذا الحديث وأمثاله صارف لوجوب الاستعاذة والبسملة، ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى دخل الجنة»، ولم يذكر البسملة ولا التعوذ.
أحبارهم: هم العلماء.
رهبانهم: العباد.
أربابًا: مشاركين لله في التشريع.(1/238)
والمسيح ابن مريم: هذا هو الصنف الثالث من الأمور التي اتخذوها؛ إلا أن اتخاذهم للمسيح بن مريم اتخاذ عبادة وتقرب. وأما الأحبار والرهبان فاتخذوهم اتخاذ طاعة.
فقلت: هذا قاله باعتبار ما كان من أمره في النصرانية.
لسنا نعبدهم: يريد الصنفين الأولين الأحبار والرهبان.
نعبدهم: نسجد ولا نركع لهم، فظن أن العبادة مقصورة على التقرب بالسجود والذبح والصلاة، ففسر العبادة ببعض صورها.
أليس: استفهام إنكاري.
يُحرّمون: يجعلونه حرامًا، والتحريم هو المنع.
ما أحل الله: ما: موصولية بمعنى الذي.
ويستفاد من قول أحل الله: دليل العلم؛ لأنهم يعرفون أنه حلال أي: يحرمون ما تعلمون أنه حلال، ففيه إشارة إلى أنهم متعمدون.
فتحرمونه: الفاء للتعقيب، فيدل على مسارعتهم في اتباع الأحبار والرهبان.
قوله فتحرمونه: أي توافقونهم على التحريم على وجه الاختيار.
وهل يحرمونه اعتقادًا أم عملاً؟ كلاهما. أما الاعتقاد فواضح ويكون باللسان والقلب أما العمل فإنكم تعلمون ما قالوا مختارين، وفي الثاني مناط الحكم العمل.
أي فتعتقدون تحريمه، أو تعملون عملاً به أو تقولون إنه حرام فهذه ثلاثة أمور، و"أو" هنا للتنويع.
ويحلون ما حرم الله: الذي حرم الله، وتعرفون أن الله حرمه فتحلونه اتباعًا لهم.
ومن أمثلة ما أحوله:
أ- لحم الخنزير، فإنه كان حرامًا ثم أحله الأحبار واتبعوهم على ذلك، فبدءوا يعتقدون أنه حلال، أو يقولون أنه حلال بناء على فتوى الأحبار ومثله الاتباع عملاً وطاعة.
ب- ومثله إسقاط الختان.
ج- والصلاة إلى المشرق.
د- اتخاذ الصور في الكنائس.
هـ- تعظيم الصليب.
هذه خمسة أمثلة مما أحله الأحبار وتابعهم الناس على ذلك، ومثله عند اليهود تبديل عقوبة الرجم بالتحميم، وهو: تسويد وجه الزانية والزاني.
فتلك عبادتهم: أي عبادة الطاعة، لأن موافقتهم على ما يقولون ذل وخضوع، وهذه عبادة طاعة.
وسمّى الرسول الطاعة على هذا الوجه عبادة، فتبين أن الطاعة أوسع من العبادة.(1/239)
وهذه مسألة: أيهما أوسع الطاعة أم العبادة؟
أشار إليها الشيخ ابن باز رحمه الله في المجلد الخامس من الفتاوى ص17.
قال: «والذي أرى أن الطاعة أوسع من العبادة، فكل عبادة لله موافقة للشرع تسمى طاعة، وليست كل طاعة بالنسبة لغير الله تسمى عبادة ... ثم قال بعد كلام: وبيان ذلك أن من أطاع الأمراء وغيرهم في معصية الله لا يسمى عابدًا لهم إذا لم يعتقد جواز طاعتهم فيما يخالف الشرع، وإنما أطاعهم خوفًا من شرهم أو اتباعًا للهوى وهو يعلم
أنه عاص، فهذا يعتبر عاصيًا بهذه الطاعة لا مشركًا إذا كانت الطاعة في غير الأمور الشركية، مثل: لو أطاعهم في ضرب أحد من غير حق، أو قتل أو أخذ مال بغير حق، هذا ذكره الشيخ ردًا على أبي الأعلى المودودي رحمه الله».
في حديث عدي مسائل:
المسألة الأولى: من شرح الحديث اتضح أن الطاعة تنقسم إلى قسمين:
الأولى: طاعة اعتقادية، وهي أن يعتقد حل ما أحلوه وتحريم ما حرموه مع أنه يُخالف الشرع، فهذا يكفر بمجرد الاعتقاد ولو لم يعمل، وهذا القسم ليس مقصودًا في الباب؛ لأنه لو اعتقد من نفسه بدون فتوى حل حرام أو تحريم حلال فإنه يكفر لكن نوع الكفر هو كفر اعتقاد أما لو تابعهم فنوع الكفر كفر طاعة أو شرك طاعة.
الثانية: طاعة عملية لسانية، وهي خاصة بالأقوال، بأن يُحلّوا حرامًا فتقول أنت بأنه حلال بناءً على فتواهم، فإنك أشركت شرك طاعة قول.
الثالثة: طاعة عملية بالجوارح وهو أن يتابعهم على ذلك ويطيعهم عليه بفعله كما لو أصدروا تشريعًا مجمع على مخالفته للشرع ثم تابعهم عليه ومشى عليه.
أمثلة:
المثال الأول: لو شرب الخمر وهو يعلم أنه حرام فهذا يعتبر عاصيًا، فإن شرب الخمر واعتقد أنها حلال فهنا يكفر كفر استحلال، فإن شرب الخمر يعتقد أنها حرام لكن قال: هي حلال بناء على فتوى أو نظام، فإنه أشرك واتخذهم أربابًا أو مشى عليه وتابعهم فيه وأطاعهم في ذلك فهذا هو التحليل هنا.(1/240)
المثال الثاني: وجوب الحج، فالحج واجب وهو ركن من أركان الإسلام، فإذا تركه وهو معتقدٌ لوجوبه ولكن تركه تهاونًا وكسلاً، فإنه يعتبر عاصيًا على المشهور، فإن أفتى عالم أو أخرج أمير نظامًا بأن الحج ليس بواجب فتبعهم على ذلك أو قال: ليس بواجب، فقد أشرك واتخذهم أربابًا سواءً كان اعتقاده لهوى أو خطأ، وشركه شرك أكبر وإن مشى على ذلك وتابعهم عليه وأطاعهم في ذلك فهذا هو التحليل هنا.
وإن اعتقد أن الحج ليس بواجب فقد كفر وعلى ذلك فاتخاذهم أربابًا في الطاعة هو قول أو عمل أو اعتقاد.
المسألة الثانية: الموقف من اجتهادات علماء أهل السنة والجماعة وطلبة العلم إذا خولفوا فيها:
الموقف الأول: أما محبتهم وموالاتهم فهذه واجبة.
الموقف الثاني: أما القدح والتكلم في أعراضهم في المجالس، فهذا لا يجوز.
الموقف الثالث: مراجعتهم ومناقشتهم والكتابة إليهم.
الموقف الرابع: لا يجب عليك موافقتهم فيما ترى أنهم أخطئوا فيه؛ بشرط أن يكون عرف خطأهم بناءً على معرفته بالأدلة، أو تقليد من هو أوثق عنده منهم؛ إذا كان المقلد من أهل السنة، فلا يترك ما عنده من العلم والتقليد الصحيح لاجتهادهم، وله أن يُفتي ويعلم ويعمل حسب اجتهاده، وإن أدى إلى مخالفتهم في اجتهادهم مع ما مضى من المحبة والموالاة.
المسألة الثالثة: الموقف من أخطاء الحكام:
الحكام على نوعين: كفار، وأهل إسلام:
أما الكفار منهم فيجب منابذتهم وبغضهم وتحرم ولايتهم، ويجب على كل قادر جهادهم.
أما إن كانوا أهل إسلام وأمروا بالمعاصي أمرًا خاصًا ليس عامًا أو تشريعًا فالموقف تجاههم:
1- أما الخروج عليهم بالمعاصي فهذا لا يجوز.
2- مناصحتهم.
3- عدم موافقتهم على ما أمروا به من المعاصي.
4- بقي مسألة الإنكار عليهم وعلانيته، فهذه محل خلاف: فمنهم من لا يرى الإنكار العلني على الولاة.(1/241)
والثاني: الإنكار العلني في الخطب والمجالس إن كان الأمر يتعلق بالناس ويحتاجونه، والثاني أقرب، وهو الراجح والأدلة.
1- لحديث معاوية مرفوعًا: «يكون أمراء فلا يرد عليهم يتهافتون في النار» رواه أبو يعلى بسند حسن، وسبب الكلام أن معاوية خطب في ثلاث جمع وتكلم بكلام، فقام إليه
رجل أنكر عليه علانية أمام الناس ومعاوية يخطب، ففرح به معاوية وبرده، وقال الحديث السابق.
2- ولعموم حديث أبي سعيد «فإن لم يستطع فبلسانه»، وقد أيد رجلاً أنكر على مروان علانية.
3- ولعموم حديث أم سلمة في مسلم بعد ذكر أئمة الجور قال: فمن كره فقد سلم، ومن أنكر فقد برئ.
وعموم: "أنكر" في حديث أبي سعيد وأم سلمة لا يخصصه "أخذ بيده" "أو عند" من حديث عياض بن غنم؛ لأن العام إذا ورد عليه خاص لبعض أفراده فلا يخصص، وإنما يؤكد، وما سبق هو عام في المكان، وأما حديث عياض بن غنم في النصيحة أنها سر لقوله أخذ بيده. فعندي أنه يحمل على الأمير الذي يقبل أمثال عياض بن غنم، لكن الجمع بين العلانية والسرية باعتبار الأمراء. أما أمثال الحجاج ومروان وغيرهما فعلانية (1).
ومن الأدلة على العلانية:
1- نصح الصحابي عائذ بن عمرو للأمير عبيد الله بن زياد أمام الناس وأصل الحديث في مسلم: «أن شر الرعاء الحطمة».
2- مراجعة المرأة لعمر بن الخطاب علنًا في آية { وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } قال ابن كثير أخرجها أبو يعلى عن مسروق بسند قوي.
3- وعلي بن أبي طالب خالف عثمان علنًا في مسألة التمتع في الحج.
__________
(1) وجاء عن الصحابي عبد الله بن جعفر المزني أنه أنكر على عبد الله بن زياد علانية أمام الناس، فقيل له! فقال: وددت أن داره وسعت أهل هذا المصر فسمعوا مقالتي وسمعوا مقالته. رواه الطبراني إلا أن الهيثمي قال: فيه ثابت بن نعيم لم أعرفه ... المجمع (5/312).(1/242)
4- والسلف والصحابة أنكروا البدع المروانية والأموية التي فعلها مروان وبعض بني أمية فخالفهم الصحابة في زمنهم وأنكروا عليهم علنًا مثل تقديم الخطبة على الصلاة في العيد والأذان للعيد. والأسرار في التكبير للأمام في بعض التكبيرات وغير ذلك.
5- وقصة عبد الله بن جعفر المزني في إنكاره على ابن زياد علانية.
أما الأدلة على السرية:
1- فقصة أسامة بن زيد لما امتنع أن يكلم عثمان في أمر الوليد علنًا إنما كلمه سرًا. وقال كلمته دون أن أفتح بابًا رواه البخاري.
2- حديث عياض بن غنم من رأى من أميره شيئًا فليأخذ بيده ... الحديث.
والصحيح الجمع فإن كان الأمير يقبل فهنا السرية، أما إن كان لا يقبل أو يقبل لكن في أمر عام لا بد أن يعرف الناس حكمه أو يخشى من ضياع حكم ما أو أمر له علاقة بالناس. أو أنه جُرّب مع هؤلاء الأمراء فإن نصحت سرًا لم يكترثوا أما إن أعلنت تجاوبوا وغيّروا فهذه علانية. وجاء عند أبي داود في الجار الذي يؤذي جاره فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - له: «أخرج متاعك» -لكي تصبح وسيلة ضغط عليه حتى لا يؤذي بعد إنكار الناس عليه-.
أما دعوى أن النصح السري هو مذهب السلف والعلانية بدعة فهذا ليس بصحيح بل هو جراءة على الصحابة والسلف الذين أنكروا علنًا كما سبق.
مسألة: من فوائد الإنكار العلني:-
1- يؤدي إلى تقليل المنكرات.
2- فيه عز وقوة للعلماء.
3- فيه نشاط لأهل الخير.
4- فيه خذلان وقمع لأهل الباطل والعصاة.
ومن مفاسد السري:
1- يؤدي إلى اتهام العلماء بعدم الإنكار والخوض فيهم.
2- يؤدي إلى تجرؤ الحكام.
مسألة: ما الحكم لو أمر الحكام المسلمين بمستحب؟
الجواب: يستحب طاعتهم لكن لا تجب؛ حتى لا تنقلب المستحبات واجبة بأمر الناس، كأن يأمرهم بصيام عاشوراء أو الاثنين والخميس «راجع صلاة الاستسقاء في كتاب زاد المستقنع وشروحه».
مسألة: ما الحكم لو أمروا بمحرم؟(1/243)
الجواب: تحرم طاعتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
مسألة: لو أمروا بمباح أو منعوا من فعله؟
إن أمروا بمباح أو منعوا فعله؛ لأن تركه أو فعله يؤدي إلى ضرر بالمسلمين فهنا تجب طاعتهم ما دام أن فيه مصلحة للمسلمين ولا يعارض شيئًا من الشرع، ويتفرع عن هذه المسألة فيما لو كانت المصلحة ليست للمسلمين عامة، وإنما هي خاصة لهم أو لمن يحبون، أو تكون لمصلحة الكفار، فهنا لا تجب طاعتهم. «استفدت ذلك من ابن جرير في تفسير آية: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ».
مسألة: إذا أمروا بأمر مختلف فيه وهو من مسائل الاجتهاد؟
فإن كانوا بنوا ذلك على علم أو عن فتوى فيجب طاعتهم على أحد الأقوال لأهل العلم والقول الثاني لا يجب وهو اختيار ابن تيمية وجماعة وهو الأرجح ويدل عليه الكتاب والسنة والإجماع قال ذلك ابن تيمية في الفتاوى في باب القضاء، وإن كان اختيار أحد الأمرين عن هوى فلا تجب طاعتهم، فيكون حكمه حكم من فسر القرآن بغير علم فقد أخطأ ولو أصاب. أما القاضي إن حكم بالخلاف كما ذكر الفقهاء في كتاب البيع أن حكم الحاكم يرفع الخلاف في القضية المعينة أما القضية العامة فليس حكم العالم أو الأمير يرفع الخلاف بل هذا خلاف الإجماع كما قاله ابن تيمية كما أن فتوى المفتي العام لا يرفع الخلاف إلا في الفتوى الخاصة فقط.
المسألة الرابعة: كيف يعرف أنهم قد حكموا هوى، أو عن علم؟
هذه مثل مسألة الشك في الحاكم إذا أمر بقتل المجهول، فذكر فقهاء الحنابلة في كتاب الجنايات "لو أمر الحاكم بقتل مجهول فالمذهب تجب طاعته لعموم الأدلة".
القول الثاني: ينظر إلى حال الحاكم، إن غلب عليه العدالة وعدم الظلم فيُطاع، وإن غلب عليه الظلم والجور فإنه لا يطاع في المجهول حتى يتبين أنه محق وهو الراجح.
المسألة الخامسة:(1/244)
والمصنف هنا تكلم عن حكم طاعة العلماء والأمراء، ولم يتكلم عن العالم أو الأمير الذي يحلل أو يحرم اكتفاءً بالنصوص التي ذكر؛ لأنها تدل على الحكم الآخر، فأي حكم في المتبع فهو في العالم والأمير أولى.
مسألة: وهل للحكام والأمراء ورؤساء القبائل وكل من له طاعة عامة أن يلزم الناس
بمذهب فقهي معين أو بقول عالم معين؟
الجواب: ليس له ذلك وقد ناقش هذه المسألة ابن تيمية في الفتاوى في باب القضاء في أول فصل منه. وذكر أن ذلك لا يجوز كما اختاره أيضًا ابن القيم في «إعلام الموقعين». وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة بأنهم كانوا ينهون الناس عن تقليدهم فكيف يلزمون الناس به وهو مذهب ابن عباس حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة ... فأنكر على من رأى مذهب الخليفة وهو مذهب علي بن أبي طالب حينما خالف الخليفة (عثمان) في مسألة التمتع في الحج وهو مذهب عمران بن حصين وأبي موسى حيث خالفوا مذهب عمر في متعة الحج، وهو مذهب حذيفة في مخالفته لعمر في مسألة نكاح الكتابيات، والسلف المعاصرون في بني أمية خالفوا الحكام لما كان مذهبهم تقديم الخطبة على صلاة العيد والأذان للعيد وأنكروا عليهم ذلك وقد رفض الإمام مالك لما طلب منه الرشيد أن يلزم الناس بكتاب الموطأ فمنع من ذلك مالك، وكل من نهى عن التقليد فإن مذهبه عدم الإلزام إذ كيف ينهى عن التقليد ثم يلزم بتقليد الحاكم أو المفتي العام!!
مسألة: وهل للعلماء والمفتين أن يلزموا الناس بفتواهم. فيقولوا هذا قولنا ويقول المفتي العام هذه فتواي ويمنع القول بغيرها أو مخالفتها؟
الجواب: لا يجوز وقد ناقش ابن تيمية هذه المسألة في الفتاوى وذكر أنها خلاف الإجماع. فكيف إذا عاقب على من خالفه أو سجنه أو منعه من الفتيا.
مسألة: فلو قال قائل فماذا تفعلون بما كان يفعله عمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهما من إلزام الناس بقول واحد في مصلحة المسلمين؟(1/245)
قلنا أولاً: ينبغي أن يُعرف أنهما فعلا ذلك في مصلحة المسلمين لا في هوى أو مصلحة الحكم أو الكرسي.
ثانيًا: غاية ما يدل على الإباحة، أما الوجوب فلا وأما أن يعاقب عليه ويسجن ويمنع المخالف أن يفتي مطلقًا فهذا حاشاهم، ذلك فما كان الصحابة يمنعون أحدًا من العلماء منعًا عامًا بعدم الإفتاء إنما هذه من الحكم بغير ما أنزل الله، وحتى لو فرض المنع فإنهم يمنعون في مسألة معينة فقط علمًا بأن ما فعله عمر وعثمان خالفهم غيرهما من الصحابة.
مسألة: هناك مسألة في الطاعة الخاصة من شخص خاص معين ليس له صفة العموم ليس كالأمراء والملوك والعلماء. مثل طاعة الزوجة مثلاً في تسمية الابن عبد الرسول أو عبد الحارث؟
فهذه من الشرك الأصغر وتأتي إن شاء الله في باب: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ... الآية } .
باب قول الله تعالى
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } [النساء: 60] الآيات. وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11]، وقوله: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف: 56] الآية. وقوله: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [المائدة: 50] الآية.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.(1/246)
وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة؛ فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة- وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود -لعلمه أنهم يأخذون الرشوة- فاتفقا أن يأتيا كاهنًا في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } الآية.
وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.
قال الشارح:
المسألة الأولى: موضوع هذا الباب.
هو الحكم والتحاكم إلى غير ما أنزل الله.
المسألة الثانية: علاقة هذا الباب بكتاب التوحيد.
لأن التحاكم والحكم ينافي توحيد الربوبية.
المسألة الثالثة: شرح الترجمة:
ألم: الاستفهام إنكاري.
تر: بمعنى تعلم.
إلى الذين يزعمون: أخبر عن إيمانهم بأنه زعم.
بما أنزل إليك: أي من الكتاب، ومثله السنة فحكمها مثل حكم الكتاب في وجوب الاتباع.
يريدون أن يتحاكموا: بمعنى يرغبون ويميلون، وهذه الكلمة لها دلالة عظيمة في فهم الآية، فمن أحب أو رغب في التحاكم إلى الطاغوت فهو ممن يزعم أنه آمن.
الطاغوت: صيغة مبالغة من الطغيان، وعرفه ابن القيم «كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع».
المسألة الرابعة: حكم التحاكم أو الحكم بغير ما أنزل الله؟
ينقسم إلى قسمين:
الأول: الشرك الأكبر وهو ستة أنواع:
1- أن يجحد حكم الله.
2- أن يحكم أو يتحاكم بغير ما أنزل الله على أنه أحسن من حكم الله.
3- أن يعتقد أنه مثل حكم الله.
4- أن يعتقد أنه يجوز التحاكم أو الحكم بغير ما أنزل الله.
5- وضع محاكم قانونية، أو وضع تشريعات تُخالف الشرع، وهذا خاص بالحاكم.(1/247)
6- التحاكم إلى الأعراف والسلوم عند التنازع والخصومات، كما يفعل بعض أهل القبائل من التحاكم إلى رؤساء عشائرهم، وهذا خاص بالتحاكم.
القسم الثاني: كفر أصغر فهو كفر دون كفر، وهو أن يتحاكم أو يحكم في قضية معينة بما يُخالف الشرع من غير قانون أو تشريع أو عرف مع أنه يعرف أنه مخطئ وآثم.
وقولنا: القضية المعينة خرج بها لو كان هذا ديدنه، أو يغلب عليه الحكم بغير ما أنزل الله ولو كان اعتقاده سليمًا وخرج القضايا العامة التي تشمل الناس أو أكثرهم.
مثال ذلك: لو أن قاضيًا عرض عليه سارق فحكم بأن السرقة حرام وعاقب السارق بالقطع، وهذا هو الغالب على أفعاله، لكن قد يعرض عليه سارق معين فنظرًا للصداقة
التي بينهما أو لمنفعة ولنحو ذلك يترك الحكم عليه بالقطع، ويلتمس له المعاذير كي يفلت من العقوبة، فيكون حكمه بأن السرقة حرام وحكمه بالقطع لأغلب السراق، فهذا يدل على أن اعتقاده سليم، وحكمه على هذا السارق المعين بعدم القطع يعتبر كفرًا دون كفر بشرط أن يعترف أنه مخطئ ولم يحكم بناء على قانون أو نظام أو تعميم ونحوه.
وقد أمروا أن يكفروا به: أمروا: مبني للمجهول، والآمر هو: الله ورسوله.
يكفروا به: أي الطاغوت.
والكفر بالطاغوت مرَّ علينا في تفسير التوحيد. أي قلبًا ولسانًا وجوارحًا.
ويريد الشيطان: أل للعموم، شيطان الإنس والجن.
المسألة الخامسة: متى لا يكفر من تحاكم أو حكم بغير ما أنزل الله؟
إذا اجتمعت فيه شروط:
1- أن يكون اعتقاده سليمًا، يرى وجوب التحاكم ويشعر أنه عاصٍ.
2- أن يكون في المسائل القليلة، أما إن كان ديدنه التحاكم أو الحكم بغير الشرعية فهذا يكفر.
3- أن لا يكون عن قانون أو عرف أو تعميم.
4- أن يكون في القضية المعينة وليس عامًا.
والإنسان إذا توفر فيه شيئًان: إرادة جازمة، وقدرة كاملة، تحقق الفعل بإذن الله، وإن لم يتحقق الفعل فلضعف الإرادة أو وجود العجز.(1/248)
المسألة السادسة: إذا أكره على التحاكم على القوانين فهل يكفر؟
الجواب: لا يكفر بشرطين:
1- أن يعتقد بطلان ما تحاكم إليه، ويكون قلبه مطمئنًا بالإيمان.
2- أن يكون الإكراه ملجئًا.
وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11].
الإفساد في الأرض ينقسم إلى قسمين:
1- إفساد حسي، كهدم البيوت والتخريب.
2- إفساد معنوني، ويكون بالمعاصي أو الكفر، ويكون بالحكم أو التحاكم إلى غير ما أنزل الله.
مناسبة الآية: أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر الفساد في الأرض.
وقوله تعالى: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف: 56].
هذه الآية بنفس معنى الآية التي قبلها.
وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [المائدة: 50].
الهمزة: هنا للتوبيخ.
الجاهلية: نسبة حال، مأخوذة من الجهل والجهالة.
والجاهلية: هي ما خالف الشرع باعتبار الأحكام، وهي مأخوذة من الجهالة، وهي المخالفة مع العلم أو عدم العلم وهو الجهل.
عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به».
الحكم على الحديث: المصنف نقل تصحيح النووي.
والقول الثاني: أنه ضعيف؛ وممن ضعّف الحديث ابن رجب في جامع العلوم؛ إلا أن ضعفه غير شديد، ويعضده قوله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ... } [النساء: 65].
لا يؤمن: لا: نافية.
يؤمن: الأصل في النفي أن يُحمل على نفي الوجود، فإن تعذر فيحمل على نفي الوجود الشرعي وهو الصحة، فإن تعذر فيُحمل على نفي الكمال الواجب، وهنا يُحمل على نفي الكمال الواجب.
لا يؤمن: إيمانًا كاملاً كما قال الشارح ابن قاسم، ويدل عليه حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».(1/249)
والزاني ليس هواه في هذه المسألة تبعًا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48].
أما إن كان كارهًا لما جاء به الرسول؛ فهذا يكفر، ولذا من نواقض الإسلام بغض ما جاء به الرسول.
قول الشعبي: ذكر المصنف هذا القول بأنه سبب نزول الآية الأولى.
رواه ابن جرير وابن المنذر؛ إلا أن هذا السبب ضعيف الإسناد؛ لأن فيه انقطاعًا.
السبب الثاني: قال المصنف: وقيل نزلت في رجلين.
قيل: صيغة تمريض.
والقول الثاني أضعف من القول الأول؛ بل حكى بعض أهل العلم أنه موضوع؛ لأنه من طريق الكلبي وهو كذّاب، والشارح ابن قاسم قَبِل هذه الرواية على أنها سبب نزول وقال: إنها مشهورة متداولة تغني عن الإسناد.
ولكن الصحيح في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه الطبراني والواحدي عن ابن عباس: أنا أبا بردة الأسلمي الكاهن كان يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه نفر من المسلمين فنزلت هذه الآية. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
لو قال قائل: إن النفر من المسلمين الذين تحاكموا إلى الكاهن ظاهره أنهم كفروا بالتحاكم مرة؟
الجواب: ليس الكفر لأنه مرة هنا، ولكن لأنهم فعلوا التحاكم مختارين، كما قال تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا } [النساء: 60] والإرادة دليل الاختيار.
ومن رغب وأحب الطاغوت وتحاكم إليه فإنه يكفر.
مسائل:
الأولى: التحاكم إلى الهيئات الدولية "كمحكمة العدل الدولية" أو "هيئة الأمم" أو غيرها من المحاكم الإقليمية.
فحكم التحاكم إليها كما مر علينا في حكم التحاكم إلى غير ما أنزل الله، فالتحاكم إليها مختارًا كفر أكبر مخرج من الدين.
الثانية: التحاكم إلى الغرفة التجارية والمحاكم المرورية ومكتب العمل والعمال.(1/250)
أما نظام العمل والعمال فقد انتقده بعض العلماء كالشيخ محمد بن إبراهيم في الفتاوى، ويذكر أن الشيخ ابن حميد له رسالة فيه. ومن الانتقادات على هذا النظام: أن دية المهندس أكثر من دية العامل، وهذا يُخالف صراحة شرع الله إلى غير ذلك؛ خصوصًا في مسائل الديات، فإذا كانت كذلك فالتحاكم إليها كما مر علينا مختارًا عالمًا
فإنه كفر اكبر.
أما الغرفة التجارية فقد تكلم فيها الشيخ ابن إبراهيم في الفتاوى في جزء القضاء، وأنكر هذه الغرفة، واعتبرها محكمة ينظر في أنظمتها، أما حكمها فباعتبار الواضع لهذه القوانين فإنه يكفر بمجرد الوضع، وأما المتحاكم إليها مختارًا عالمًا فإنه يكفر كفر ردة.
الحقوق المدنية: الذي أعرف عنها أنها تهتم بالصلح بين المتخاصمين، فإذا تخاصم اثنان حاولوا إجراء الصلح بينهما، وإن كان هناك شروط ألزموا بها لأنها جهة تنفيذية، فهذا جائز؛ بشرط ألا يخالف هذا الصلح الشرع، كما جاء في حديث الترمذي: «المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً» بشرط ألا يمنعوا من أراد الإحالة إلى الشرع، وينبغي أن يكون العاملون عليها ممن يعرف الصلح الشرعي وشروطه.
الثالثة: الرفع إلى المحاكم غير الشرعية.
لو حصل للمسلم خصومة في دار الكفر فهل يجوز أن يترافع إلى المحاكم الوضعية؟
الجواب: لا يجوز لقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [المائدة: 50] وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44].(1/251)
فإن كان حقه قليلاً فلو تركه لله عوضه الله خيرًا منه، وإن كان فيه كثرة فتصالحا هو وخصمه دون الرفع فهذا هو الواجب، وأما إن تعذرت المصالحة وكان حقه كبيرًا وعليه ضرر في تركه، فهذا لا يجوز أيضًا لأن الضرورة لا تبيح الكفر ولا تبيح التحاكم إلى الكفر. إنما يؤذن للمكره وليس للمضطر وبينهما فرق. ولم يأت في القرآن فعل الكفر إلا للمكره { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } أما الضرورة فتبيح بعض المحرمات كالميتة ونحوها ولا تبيح الكفر.
وهذا الحكم مبني إذا كان وقوع المسألة في ديار الكفر، وإذا كانت الديار أهلها مسلمون ومحاكمها وضعية، فتزيد أمرًا رابعًا عما سبق وهو: أن يجعلوا محكمًا أهلاً للقضاء يحكم بينهم، ولا يذهب إلى المحاكم الوضعية الكفرية.
الرابعة: لو أن خصمه رفع الخصومة إلى محكمة غير إسلامية ثم أُلزم بالمثول إلى هذه المحكمة.
فهذا يجري عليه ما يجري على المكره إن وصل إلى حد الإكراه جاز له إذا كان قلبه مبغضًا وكارهًا.
الخامسة: حكم الأنظمة الإدارية التي تُخالف الشرع؟
هذه لا يجوز الحكم بها أو التحاكم عليها أو التحاكم إليها والمطاوع فيها يكفر، مع العلم.
السادسة: حكم واضع القانون، وميزة واضع القانون أنه لا يلزم أن يحكم أو يتحاكم بل يضع فقط؟
حكمه: أنه كفر أكبر بدون تردد؛ لأن ما وضع القانون إلا وهو يرى أنه أحسن أو يجوز أو مثل وهذا كاف في تكفيره، ولأنه رأى أن له حق التشريع { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ } [الشورى: 21]. وحديث أبي داود: «إن الله الحكم وإليه الحكم» ومناط الحكم العمل فبمجرد وضعه للقانون يكفر كفر ردة بغض النظر عن اعتقاده أو قوله.
مسألة: ما حكم التحاكم بالنسبة للمحاكم العسكرية والمرورية التي تخالف الشرع؟
من تحاكم إليها عالمًا مختارًا فإنه يكفر كفر ردة.
مسألة: لو أُكره القاضي أن يحكم بالقوانين بين متخاصمين. فهل يعذر بالإكراه؟(1/252)
الجواب: لا. لأن هذا إكراه متعد. والرخصة جاءت في قصة عمار في قول الكفر له هو وليس متعد لغيره. بل الإجماع لو أُكره على قتل غيره ونحوه لم يجز لأن الإكراه تعد إلى نفس أخرى.
مسألة: لو قال قائل إن الدول اليوم إذا تحاكمت إلى المحاكم القانونية الإقليمية أو الدولية وهي مكرهة في ذلك أو مضطرة فما الحكم؟
أما دعوى الإكراه فليست صحيحة، وإذا لم تصح دعوى الإكراه فدعوى الاضطرار أولى لأنها أقل، والسبب: أنه لا يتصور الإكراه في الطائفة الممتنعة قال تعالى: { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } إنما الإكراه في حق الفرد والمستضعف، ولذا فهذه الدعوى باطلة ويكون الحكم أن التحاكم كفر وردة.
باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [الرعد: 30] الآية.
وفي صحيح البخاري قال علي: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟».
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً انتفض – لما سمع حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات، استنكارًا لذلك – فقال: «ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه» انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر: «الرحمن» أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم: { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } .
قال الشارح:
هذا الباب له علاقة بتوحيد الأسماء والصفات وحكم إنكارها.
من: موصولية بمعنى الذي.
جحد: بمعنى أنكر.
شيئًا: نكرة فتكون عامة.
المسألة الأولى:
أراد المصنف رحمه الله أن يبين حكم من أنكر شيئًا من أسماء الله عز وجل وصفاته وليس من جهل شيئًا منها.(1/253)
المسألة الثانية: ما حكم من أنكر شيئًا من الأسماء والصفات؟ «وليس جهل شيئًا منها».
ينقسم إلى عدة أقسام:
القسم الأول: إنكار جحود وتكذيب، وهو أن يكذب باسم أو صفة، كأن يقول: ليس لله اسم، أو ليس من أسمائه الرحيم وهذا كفر بالإجماع؛ لأنه مُكذبّ بالقرآن.
القسم الثاني: إنكار تأويل، وهو أن يثبت الأسماء والصفات كما جاءت في القرآن والسنة، ولكن يؤولها بأن يصرفها عن ظاهرها المراد.
وهذا أنواع:
الأول: أن يكون له مساغ في اللغة العربية، كتأويل اليد بالنعمة، فهذا يعتبر ضلالاً وابتداعًا. ويشترط في هذا النوع: عدم التنقص لله بهذا التأويل ويكفر إن عاند. وهذا ضمن قاعدة المسائل الخفية كمسائل الصفات فلا بد من إقامة الحجة وإزالة الشبهة. فإن عاند بعد ذلك فيكفر.
الثاني: ألا يكون له مساغ في اللغة العربية، كما لو فسر يد الله بالسماء أو الأرض، فهذا حقيقة التكذيب، فلذلك حكمه كفر أكبر كالقسم الأول.
المسألة الثالثة: طوائف الجحود بأسماء الله وصفاته.
الطائفة الأولى: الأشاعرة، وجحودهم جزئي؛ حيث أنهم يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات، ويجحدون البعض الآخر، فيثبتون سبع صفات وهي: الحياة، العلم، القدرة، الإرادة، الكلام، السمع، البصر.
وحكم هذه الطائفة: هي من الطوائف المبتدعة التي يحكم عليها بالضلال؛ إلا أنهم لا يخرجون من الإسلام، وجحودهم جحود تأويل له مساغ، والحكم عليهم بالضلال وعدم إخراجهم من الإسلام قول الجمهور وذهب بعض أهل العلم في تكفيرهم كابن حزم في الفصل والدستي وابن الجوزي وابن عبد الهادي المتأخر.
الطائفة الثانية: المعتزلة: وهؤلاء يثبتون الأسماء وينفون الصفات، وهؤلاء في حكمهم قولان:
1- تكفيرهم.………2- عدم تكفيرهم.
أما غلاتهم الذين ينكرون العلم فهؤلاء كفار، وهذا حكم المعتزلة الخالصة.(1/254)
وهناك طوائف أخرى دخلت في الاعتزال في باب الأسماء والصفات، كالخوارج المتأخرين والرافضة والزيدية، أما الروافض فهم كفار؛ لأنهم جمعوا مكفرات كالاستغاثة بغير الله.
وأما الزيدية والخوارج: فهم من أهل البدع، ويحكم عليهم بالضلال إذا لم يكن عندهم إلا الاعتزال في باب الأسماء والصفات، أما إن قام فيهم ناقض فإنه يحكم
عليهم بالكفر.
الطائفة الثالثة: الجهمية: وهم ينكرون الأسماء والصفات.
وهم كفار بإجماع السلف نقل الإجماع اللالكائي في شرح السنة وابن القيم في النونية. والقول بأن في تكفيرهم خلاف هو قول محدث فهمه بعض المعاصرين من بعض إطلاقات ابن تيمية وهو فهم غير صحيح.
قال ابن المبارك: إنا نحكي قول اليهود ولا نحكي قول الجهمية.
علمًا بأن اصطلاح الجهمية عند المتقدمين – كأمثال الإمام أحمد – يختلف عن اصطلاح الجهمية عند المتأخرين كابن تيمية وابن القيم، فالمتقدمون عندهم الجهمية اسم يجمع الجهمية والمعتزلة بالاصطلاح الخاص. ولذا فالإمام أحمد في كتابه «الرد على الجهمية» يقصد في كتابه أيضًا المعتزلة.
المسألة الرابعة: شرح الآية:
هم: يقصد به قريش.
الرحمن: أي اسم الرحمن لا بالمسمى وهو الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزخرف: 87].
مناسبة الآية: أن من أنكر اسمًا من أسماء الله إنكار تكذيب فإنه يكفر، وهذه الآية تصلح دليلاً للقسم الأول الذي حكم بتكفيره، ولمن أول تأويلاً غير سائغ.
وفي صحيح البخاري قال علي: «حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله» ذكره البخاري في كتاب العلم.
قال علي بن أبي طالب: هذا من الموقوف.
حدثوا: الحديث يُطلق ويُراد به الكلام سواءً كان في العقائد أو الأحكام.
الناس: الأصل أنها للعموم.
بما يعرفون: أي يمكنهم أن يعرفوه، فنستطيع أن تبلغه عقولهم؛ لا أنه الشيء المعروف عندهم، فهذا لا حاجة به للحديث فهو تحصيل حاصل.(1/255)
وذكر ابن حجر ضابطًا: أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد. إلا أنه ينبغي التنبيه أنه ليس المعنى أنهم لا يُحدثون بتوحيد الأسماء والصفات
وما يجب اعتقاده، كما يأتي في الحديث الذي بعده أن ابن عباس كان يُحدث العوام بالأسماء والصفات، ولكن مثل التوسع في باب الأسماء والصفات، كأن يُقال: إن الله ينزل، ثم يذكرون حالة العرش عند النزول مما ينبغي عدم ذكره، هذا مجرد مثال.
وفي باب الأحكام أن يترك ذكر أحاديث الرجاء عند العصاة أو أحاديث التخويف عند شديدي الخوف، أو من يخشى عليهم من القنوط.
أتريدون: الاستفهام للإنكار؛ لأنه سوف يئول إلى أن يُكذب الله ورسوله.
وهل من ذلك العمل بالسنة إذا لم يعرفها الناس واستنكروها؟ كأن يكون هناك سنن قد اندرست، وقد يؤدي العمل بها إلى نفور عند العامة وكثرة كلامهم؟
المسألة فيها تفصيل:
أما إن كان الشخص لديه قبول عند الناس، كأن يكون من العلماء ومن طلبة العلم المشهورين فهؤلاء عليهم أن يهتموا بإحياء السنن والحرص عليها وتطبيقها بالقول والعمل؛ لأن الفتنة في حقهم لا تحصل نظرًا لمكانتهم.
أما إن كان من غير الصنف السابق كالشباب ونحوهم، فهذا يتأنى في تطبيقها إن أدى إلى كلام؛ إلا إن دعّم فعله بأن هذا هو ما أفتى به العلماء، وأنهم يطبقون ويعملون بها، فلا مانع؛ لأنه تقل الفتنة به.
وهذا بالنسبة للسنن المهجورة مثل سنية السترة في الصلاة، وسنية رفع اليدين في التكبير. ورفع الصوت في التكبيرات المطلقة في عشر ذي الحجة وأمثال ذلك. وهذا غير العبادات التي جاءت بصيغ متعددة فهنا يترك الناس على ما اعتادوا من الصيغة الجائزة.
وقد روي عن الإمام أحمد أنه كان يترك بعض المسائل من باب تأليف الناس، ويستدل بحديث البخاري «لولا أن قومك حديث عهد...» هذا بالنسبة للسنن المهجورة.
تخريج أثر ابن عباس: ذكره ابن أبي حاتم في السنة وهو صحيح، ورواه عبد الرزاق في المصنف.
عن ابن عباس: هذا موقوف.(1/256)
انتفض: أي اهتز جسمه إنكارًا لا تعظيمًا.
وسبب هذه الانتفاضة: لما سمع أحاديث في الصفات.
لما: يقصد بها التعليل.
في الصفات: وهذا فيه جواز ذكر الصفات عند العوام.
استنكارًا: أي لمعنى هذه الصفات.
ما فرق هؤلاء: أي لماذا يخافون ويفزعون؟
يجدون رقة عند محكمه: أي: محكم القرآن.
والمحكم هو: المتضح المعنى.
ويهلكون عن متشابهه:
المتشابه: ما خفي معناه.
أما المتشابه في باب الأسماء والصفات فهو جهل الكيفية، وأما المعنى فهو معروف.
مناسبة هذا الحديث: أن من أنكر شيئًا من الصفات فإنه من الهالكين.
سبب نزول الآية:
رواه ابن جرير بسند ضعيف، وفيه إرسال أيضًا.
مسألة: عرفنا حكم من جحد شيئًا من الأسماء والصفات أو كذب بذلك فما حكم من جهل شيئًا من الأسماء والصفات؟
الجواب: إن كانت الأسماء والصفات ليست من المسائل الخفية مثل الحياة لله وصفة الوجود وصفة القدرة والألوهية أو الرزق ونحو ذلك فهذا كفر أكبر ولا يعذر بالجهل.
وإن كان الجهل لشيء من الأسماء والصفات التي هي في حكم المسائل الخفية فهذا يعذر بالجهل مثل صفة النزول والرؤية لله وصفة اليدين لله وهكذا.
باب قول الله تعالى
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [النحل: 83].
قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.
وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.
وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا.
وقال أبو العباس – بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: «إن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ...» الحديث، وقد تقدم – وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير.
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب والذي بعده في حكم إضافة النعم إلى غير الله.
المسألة الثانية: عنوان الباب:(1/257)
«حكم إضافة النعم إلى غير الله».
المسألة الثالثة: أقسام إضافة النعم إلى غير الله.
النوع الأول: إضافة إنكار وجحود: وهو أن ينسبها إلى غير الله إيجادًا وخلقًا، وهذا كفر أكبر، قال تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3].
النوع الثاني: نكران ترك وعدم القيام بالطاعة، وهذا ما يسمى بكفر النعمة، وهذا القسم محرم، وما ورد في النصوص بتسميته كفرًا ولم يبلغ الكفر الأكبر فهذا يسمى كفر نعمة، وأما ما كان من باب المعاصي والكبائر فهذا من باب المحرمات.
النوع الثالث: نكران تناسي لله سبحانه وتعالى: وهو أن يضيفها لأسبابها الشرعية والقدرية متناسيًا فضل الله عند الشكر والثناء. أما هذا فحكمه من الشرك الأصغر في الأقوال.
مثال ذلك: «على النوع الثالث» أن يضيف الشفاء إلى مهارة الطبيب، ولا يذكر فضل الله عليه بالشفاء.
وكقولهم: كانت الريح طيبة فحصلت السلامة، كما يأت تكملة ذلك في كلام أبي العباس ابن تيمية.
المسألة الرابعة: نسبة الأشياء إلى الأسباب على أقسام:
الأول: أن ينسبها إلى غير أسبابها الشرعية أو القدرية، كنسبة الشفاء إلى التمائم، ومر علينا جزء كبير في باب «لبس الحلقة والخيط» كاعتقاد أن الشبكة سبب الألفة بين الزوجين، أو يضع المصحف في السيارة لدفع العين، وهذا من الشرك الأصغر، وقد يكون من الأكبر، لو نسب إيجاد الولد إلى المقبورين فهذا من الشرك الأكبر، وعليه يحمل قول ابن قتيبة «هذا بشفاعة آلهتنا».
الثاني: نسبتها إلى أسبابها الشرعية أو القدرية، فالصلاة سبب لانشراح الصدر، والأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة، وهذه أمثلة للأسباب الشرعية.
أما أمثلة الأسباب القدرية، كالعلاج سبب للشفاء، والبيع سبب للرزق، وقوة الجيش سبب للنصر، وحراسة الكلاب سبب لطرد اللصوص ... إلى غير ذلك، فهذه نسبتها إلى أسبابها جائز لكن بشروط:(1/258)
الأول: أن يجعل رتبتها بعد رتبة فضل الله، فيقول: لولا الله ثم العلاج ما حصل الشفاء، ولولا الله ثم قوة الجيش لما حصل النصر، وهذا شرط في باب الثناء والمدح، فإذا قاله ثناءً ومدحًا فتشترط "ثم".
أما إن كان في باب الإخبار فلا يشترط ذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حق عمه: «لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» الحديث، فهذا قاله إخبارًا، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر ...» البخاري.
المسألة الخامسة: شرح الترجمة:
أما قوله: { يعرفون } فيقصد بالمعرفة هنا: العلم أي: يعملون، والضمير يعود إلى كفار قريش.
نعمة الله: نعمة: مضاف وهي مفرد، والمفرد المضاف يعم، أي: يعرفون أن جميع
النعم من الله تعالى.
وإضافتها إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف.
ثم ينكرونها: إما إنكار جحود، أو إنكار تناسي، وهذا كله حاصل.
ثم إن المصنف رحمه الله ذكر ثلاثة تفاسير للآية – بعضها من التابعين، وبعضها من غيرهم.
بدأ بتفسير مجاهد للآية، وتفسير التابعي ليس في قوة تفسير الصحابي إذ الغالب على تفاسير الصحابة أن لها حكم الرفع، وتفسير مجاهد هنا من باب التفسير بالمثال.
قال مجاهد ما معناه: هنا المصنف ذكر كلام مجاهد بالمعنى، ورواية الكلام بالمعنى يجوز لمن يعرف الألفاظ؛ بشرط ألا يعود على المعنى بالنقص أو التحريف.
وذكر الشارح لفظ كلام مجاهد أنه قال: «هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، يعرف هذا كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وعلى ذلك فإن قول القائل: هذا مالي ورثني إياه أبي؛ فإنه من نكران النعمة.
لكن في أي الأبواب: باب الخبر أم باب الشكر والثناء؟(1/259)
أما في باب الخبر فيجوز، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا فاطمة سليني من مالي ما شئت ...» وقال تعالى: { وَرِثَهُ أَبَوَاهُ } [النساء: 11]، فلو سألك شخص من أين لك هذا المال؟ فقلت: ورثته من أبي، فهذا جائز.
أما في باب الشكر والثناء فلا بد أن يقول هذا من فضل الله ثم ورثته من أبي، وعليه يُحمل قول مجاهد.
وقوله قول الرجل: هذا لا يخرج قول المرأة فالباب واحد.
مناسبة كلام مجاهد: أن من نسب النعم إلى غير الله فقط مثنيًا شاكرًا، فإنه مما يُنافي كمال التوحيد الواجب.
التفسير الثاني: قول عون بن عبد الله، وهو من التابعين.
والتابعي: من رأى الصحابي ومات على ذلك.
وهم ثلاثة طبقات:
1- من رأى الكثير من الصحابة وهذا من كبارهم.
2- من رأى النفر والنفرين والثلاثة وهذا من صغارهم.
3- ما بين ذلك وهذا من أوساطهم.
«لولا فلان لم يكن كذا»:
هذا نوع من أنواع نكران النعم، وهو الخاص بلفظ "لولا"، وفي هذه الصيغة أضاف النعمة إلى غير الله، وهذا أيضًا قاله على وجه الثناء والشكر، وأما هذا اللفظ فإنه من الألفاظ الشركية، وهو من باب الشرك الأصغر؛ لأنه لم يوحد الله بالنعم.
لولا فلان: يشترط أن يكون فلان المقصود سببًا شرعيًا أو قدريًا.
التفسير الثالث: تفسير ابن قتيبة:
يقولون: الضمير يعود إلى الكفار، كما قال الشارح ابن قاسم، ويقصدون بذلك النعم من الرزق وغيره سواءً كان في باب الخبر إن سُئِلوا، أو كان في باب الإنشاء.
بشفاعة: الباء سببية.
آلهتنا: جمع إله أي: معبوداتنا.
وكلامهم هذا هو شرك مطلقًا، ولا يُقال هنا خبر أو إنشاء؛ لأن الشفاعة ليست سببًا شرعيًا ولا قدريًا. فهنا جمعوا بين أمرين:
1- الشرك الأكبر.
2- نسبة النعم إلى غير أسبابها، والنسبة هنا نسبة جحود.
قال أبو العباس: هذه كنيته، ولم يتزوج وإنما هذا من باب الكنية.(1/260)
وتسميته أبي العباس أولى عندي من قول "شيخ الإسلام"؛ لأن الأخير فيه عموم، ويأتينا مزيد بحث في باب «التسمي بقاضي القضاة».
الشاهد: هو تعليق أبي العباس على الحديث حيث قال: «وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به».
وهذا ما يسمى بنكران التناسي ونكران الإضافة، فمن أضاف النعم إلى غير الله فقط مثنيًا شاكرًا فهذا لا يجوز.
وقد بين أبو العباس حكمه وأنه من الشرك.
لكن من أي الشرك؟ المسألة فيها تفصيل:
إن أضاف النعم إلى المخلوق واعتقد بأنه فاعل لها ومُوجِد، فهذا من الشرك الأكبر في توحيد الربوبية.
وأن أضافها إلى المخلوق على أنها سبب والله الفاعل، فهذا من الشرك الأصغر إن كانت سببًا، وإن لم تكن سببًا لا من جهة القدر ولا الشرع، فهذا من الأصغر لكنه جمع بين شرك أصغر مضاعف فهو زيادة في الشرك.
ثم ضرب أبو العباس أمثلة لمسألة إضافة النعم إلى غير الله:
المثال الأول: «كانت الريح طيبة فحصلت لنا السلامة» فنسب حصول السلامة إلى الريح ثناءً وشكرًا وبيان منزلة.
المثال الثاني: «كان الملاح حاذقًا فنجونا من الغرق» فنسب النجاة إلى حذاقة الملاح.
ومن الأمثلة الحديثة: «لولا أن قائد السيارة أو الطائرة منتبهًا لحصل لنا حادث».
ومنه: «لولا جدُّهُ ومثابرته في التجارة ما حصل الربح».
أو: «كانت المذاكرة قوية فحصل النجاح».
أو: «كان الجيش متدربًا فحصل النصر». ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير.
قوله: "ألسنة": أفادنا على أن المسألة ليس فيها اعتقاد في القلب، وإنما قالها على وجه العادة وجريان اللسان.
كثير: هذا من دقة الألفاظ، فإن التعبير بكثير أولى من التعبير بالعموم.(1/261)
وتجد أن بعض التجار ونحوهم إذا وصل إلى مرحلة من الغنى كبيرة، وسئُل عن قصة حياته التجارية أو كتب مذكرات عن حياته التجارية يذكر جهده ومثابرته وحرصه حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولا ينسب ذلك لفضل الله، وهذا من الشرك في النعم؛ لأنه تناسى فضل الله.
باب قول الله تعالى
{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 22].
قال ابن عباس في الآية: الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانًا هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا.
وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان» رواه أبو داود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
قال الشارح:
هذا الباب شبيه جدًا بالباب الذي قبله، إلا أن فيه زيادات مما يتعلق بالحلف بغير الله.
الثاني: مما يتعلق بالتسوية في المشيئة.
الثالث: مما يتعلق بالتسوية في صيغة الاستعاذة.
بالإضافة إلى كلمة: "لولا" إذا قيلت في الثناء.
والجامع لهذه الأمور الأربعة أنها شرك في الألفاظ.
المسألة الأولى: هذا الباب والذي قبله يتعلق بتوحيد الربوبية، وأنه يجب إفراد الله عز وجل بالنعم والمشيئة والتعظيم.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:(1/262)
لا: ناهية، والقاعدة أن النهي يقتضي التحريم.
أندادًا: جمع ند. أي: لا تجعلوا له نظيرًا أو مثيلاً.
وأنتم: الواو حالية، والجملة بعدها في محل نصب حال.
قال ابن عباس في الآية -أي في معنى الآية- وهذا يُسمى تفسير صحابي، وتفسير الصحابي له حكم الرفع إذا لم يكن معروفًا بالأخذ عن الإسرائيليات.
المسألة الثالثة: وصف هذا الشرك بأنه خفي، وسبب خفائه لعسرة التخلص منه. ولكن الأقرب أن يُقال إنه خفي؛ لأن الانتباه له والتحرز منه عسير لا التخلص منه.
الشرك الخفي هل هو قسيم الشرك الأكبر والأصغر أو أنه قسم؟
المسألة خلافية:
القول الأول: أنه قسيم، وعلى ذلك فيقسمون الشرك إلى ثلاثة أقسام أكبر، وأصغر، وخفي، وهذا اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
القول الثاني: أنه قسم، وعلى ذلك فالشرك قسمان: أصغر، وأكبر، فالشرك الأكبر قسمان أيضًا: ظاهر وخفي، والأصغر قسمان أيضًا: ظاهر وخفي، وهذا أقرب أنه قسم لا قسيم. وعلى كل حال لا مشاحة في الاصطلاح.
قد يقول قائل: كيف الشرك الأكبر يكون خفيًا؟
نقول: يعتبر خفيًا من باب المكان، فشرك القلوب يعتبر خفيًا.
أخفى من دبيب النمل: اختار النمل لشدة خفائه.
صفاة سوداء: أي الحجر الأملس.
في ظلمة الليل: هذا أشد خفاءً في كون النمل لا يُسمع ولا يُرى.
وضرب ابن عباس أربعة أمثلة للشرك الخفي.
المثال الأول: يتعلق بالحلف، وضرب له مثلاً بقوله: «والله وحياتك يا فلانة»(1) والحلف بغير الله من جعل الند لله، ويأتي تفصيل الحلف في الحديث الثاني.
المثال الثاني: لولا كليبة هذا، وهذا من نسبة الشيء إلى سببه الشرعي أو القدري، ولكن مع تناسي المنعم إذا قاله شاكرًا مثنيًا.
ووجه الشرك في هذا اللفظ: لأنه نسب السلامة من اللصوص إلى انتباه الكليبة. «ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص» نسب السلامة من اللصوص إلى انتباه البط.
__________
(1) في بعض النسخ يا فلان.(1/263)
وإنما الواجب أن يقول: لولا الله ثم كليبة هذا، ولولا الله ثم البط لأتى اللصوص، فذكُر كلمة "ثم" هنا واجب.
مسألة: هل في كل شيء يقال: لولا الله ثم كذا؟
هذا فيه تفصيل:
1- أما في باب المصائب فلا يقال: «لولا الله ثم السرعة لما انقلبنا».
2- في باب المعايب فلا يقال: «لولا الله ثم تخاذلنا ما انهزمنا» والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «والشر ليس إليك».
3- ما يتنزه الله عنه لا يقال فيها «لولا الله ثم كذا» فيما يتنزه الله عنه.
4- في باب الإخبار فإنه لا يلزم، كما جاء في الحديث: «لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».
5- باب الثناء والشكر فهذا يجب.
المثال الثالث: وقول الرجل لصاحبه: «ما شاء الله وشئت» وهذا من الشرك؛ لأنه ساوى مع الله في المشيئة، ويأتي باب مستقل لهذه المسألة.
المثال الرابع: «لولا الله وفلان».
وهذا من الشرك، لأنه جعل المخلوق مساويًا للخالق في السببية، وهو غير كلمة «لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص» لأن هذه فيها نسبة مع التناسي.
وقوله «لولا الله وفلان» فيها مساواة في السببية.
لا تجعل فيها فلانًا: لا: ناهية تدل على أن هذا اللفظ محرم.
لا تجعل فيها فلانًا: هذا ليس في كل الحالات، وإنما في الحالة التي فيها الواو، أما لو جعل فيها فلانًا مع ثم فهذا يجوز.
هذا كله به شرك: هذا حكم ابن عباس على الألفاظ السابقة.
وهل هو أصغر أم أكبر؟
كلمة شرك إذا جاءت منكرة فإنها تُحمل على الأصغر، فهذه الألفاظ شرك أصغر ما لم يضم إليها اعتقادًا أو ترتقي إلى الأكبر في الألوهية أو الربوبية ونحوه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» [رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم].
قال: عن عمر: والصواب أنه ابن عمر.
من: شرطية دالة على العموم؛ لكن يُستثنى الجاهل والناسي والمكره.
تعريف الحلف: تأكيد الشيء بمعظم.
وقوله بغير الله: كأن يحلف بالمخلوقات.(1/264)
مثال ذلك: كأن يقول: "والنبي" "والكعبة" أو "بشرفي"، فهذا من الحلف بغير الله.
ومن الألفاظ المعاصرة: ما يجري على ألسنة الأطفال من قولهم "بصلاتي"، "بعبادتي"، "بأمي وأبي".
وهل منها أن يقول: قسمًا بآيات الله؟ فهذه فيها تفصيل حسب المراد من الآيات: إن كان يقصد من الآيات القرآن فهذا يجوز؛ لأن القرآن كلام الله، وهو الجاري على ألسنة الناس اليوم، وإن كان يقصد بالآيات الآيات الكونية كالشمس والقمر، فهذا لا يجوز.
الحلف بصيغة "بذمتي":
إن كان يقصد أن "الباء" بمعنى "في" أي: في ذمتي عهد لك أن أصدق أو أفي، فهذا يجوز للحديث «ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك»، وإن كان يقصد الحلف، كما لو قيل له: احلف: فقال: بذمتي، فهذا لا يجوز.
ومنها لفظ "بالأمانة" ففيها تفصيل"
إن أراد بقوله "بالأمانة" يُريد أخبرني بالحقيقة بدون كذب ولا زيادة ولا نقص وتكون الباء للمصاحبة: أي أخبرني خبرًا تصاحبه الأمانة، فهذا جائز. وإن قصد اليمين فلا يجوز؛ لحديث «من حلف بالأمانة فليس منا» [رواه أحمد وأبو داود]، ولحديث ابن عمر في الباب.
إلا أنه ينبغي التنزه عن الألفاظ الموهمة التي في ظاهرها تشابه الشرك فيترك "بذمتي"، "وبالأمانة"؛ لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } [البقرة: 104]؛ ولحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، ولحديث النعمان «وبينهما أمور
متشابهات... فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».
"أي الحق" أو "أيم الله" هذه تجوز؛ لأنها من الحلف بالله فأصلها "يمين الله"(1)
لعمر الحق" أو "لعمر الله" فهذه تجوز؛ لأن العمر يقصد به الحياة (2).
__________
(1) لأنه أقسم بصفة من صفات الله، لأنه اختصار يمين الله.
(2) والحق هو الله.(1/265)
أما "لعمري" أو "لعمرك" فلا يجوز إن قصد بها اليمين. فإن لم يقصد بها اليمين فتجوز وتكون مثل كلمة تربت يداك ولا أمّ لك ونحوها مما لا يراد حقيقتها. وعليه يُحمل الآثار التي جاءت في لعمري.
كلمة "بوجهي" أو "بوجهك" هذه لا تجوز، وهي من الحلف بغير الله، وإن قصد أنها بمعنى الذمة فتجوز؛ وينبغي تركها لأنها من الألفاظ الملتبسة.
أحيانًا يأتي قَسَمٌ عند العسكريين والكشافة هذا نصه: «أعد بشرفي أن أبذل جهدي وأن أقوم بالواجب نحو الله والوطن والمليك» وهذا لا يجوز لسببين:
1- فيه حلف بغير الله.
2- فيه مساواة بين الله والوطن والمليك، وهذا لا يجوز وهو من الشرك وقد يكون أكبرًا وقد يكون أصغرًا حسب ألفاظ القسم.
فقد كفر: هذه الصيغة هل تدل على الكفر الأكبر أو الكفر الأصغر؟ المشهور عند أهل العلم أن "قد" إذا دخلت على الكفر فإنها تدل على الكفر الأكبر، وتكون في قوة الألف واللام أي: في قوة الكفر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» إلا أن هذه القاعدة ليست مطردة في كل الأحاديث. أما الحلف هنا فحكمه من الشرك الأصغر إذا لم يقترن به اعتقاد مساواة لله.
والدليل على أنه في الأصغر دلالة الاقتران من أثر ابن عباس السابق، فإنه قرنه بأشياء من الشرك الأصغر، والقول بأنه من الأصغر هو قول الجمهور.
وقوله: «أو أشرك»: أي فقد أشرك، والحديث حسنه الترمذي وصححه الحاكم.
مناسبة الحديث: يدل على أن من حلف بغير الله فقد اتخذه ندًا.
قضية معاصرة: ومن ذلك القسم على احترام الدستور عند الدخول للبرلمان، وهذا إن
أقسم عالما فيما في الدستور مختارًا فهذا كفر أكبر.
مسألة: ما ثبت في بعض الأحاديث من حلف الصحابة بغير الله مثل قوله: «أفلح وأبيه إن صدق» فإنه من الحلف بغير الله.
الإجابة عن ذلك: أجاب العلماء عن ذلك بخمس إجابات أحسنها وأسلمها القول بالنسخ.
لماذا حُمل على النسخ؟ لسببين:(1/266)
1- تعذر الجمع جمعًا صحيحًا.
2- أن الحلف كان موجودًا في الجاهلية.
واعتاد بعض الصحابة على ما كانوا يقولونه في جاهليتهم، ثم جاء الإسلام بالتوحيد وإفراد الله بالتعظيم في اليمين فكان النهي عن الحلف بغير الله، فيكون آخر الأمرين التوحيد، ويكون هذا الكلام بمنزلة المتقدم والمتأخر لا سيما وأنه يعارض الأحاديث التي فيها تحريم الحلف بغير الله.
قال ابن مسعود «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا».
هذا يسمى موقوفًا اصطلاحًا.
لأن أحلف بالله: هذا فيه الحلف بالله.
كاذبًا: حال منصوبة، فاجتمع هنا حسنة وسيئة: الحسنة الحلف بالله، والسيئة الكذب.
أحب إليّ من أن أحلف بغيره: هذه سيئة أعظم لأنه شرك.
صادقًا: حسنة.
وهذا الأثر يدل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، فهو أعظم من الزنى والكذب وشرب الخمر، علمًا بأن بعض الناس يظن أن الشرك الأصغر أخف من الكبائر، وهذا غير صحيح.
الأثر أخرجه الطبراني وهو صحيح.
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان» [رواه أبو داود بسند صحيح].
لا تقولوا: لا: ناهية.
ما شاء الله وشاء فلان: هذا اللفظ محرم، والسبب لأنه ساوى بين الله وفلان في المشيئة، وهو من الشرك الأصغر.
ولكن: للاستدراك.
قولوا: هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فصيغة «ما شاء الله ثم شئت» واجبة، وأكمل منها «ما شاء الله وحده».
رواه أبو داود بسند صحيح:
قوله: بسند صحيح: هذا حكم المصنف، وبعض أهل العلم يعبرون بقولهم حديث صحيح، وهذا أسلم. والحكم على السند يُشعر بالحكم على المتن.
مسألة: «ما شاء الله وشئت» تأتي في باب مستقل.
وجاء عن إبراهيم النخعي «أنه يكره أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا لولا الله وفلان».(1/267)
إبراهيم النخعي: من أتباع التابعين، وهو من تلامذة تلامذة عبد الله بن مسعود.
يكره: كراهية السلف المتقدمين تُحمل على التحريم على قول لبعض أهل العلم؛ بخلاف كراهية المتأخرين، وهنا كره صيغتين وأعطى البديل عنهما:
الصيغة الأولى: أعوذ بالله وبك. وهذه لا تجوز، وعلاقتها بالتوحيد أنها من الشرك الأصغر.
ويجوز: هذا فيه إشكال؛ بل إنه يجب؛ إلا أن يقصد بـ"يجوز" أنه ليس فيه تحريم.
سبب تحريم الصيغة الأولى: لأنه ساوى بين الله وغيره في التعوذ، ولذلك لما جعل رتبة فلان أقل من رتبة الله جاز، هذا إذا كان فلان يُستعاذ به، أما إن كان لا يجوز الاستعاذة به فهذا يُحمل تغليظًا على تغليظ، كأن يكون فلان ميتًا، وإن كان فلان عاجزًا فيكون من السفه.
الصيغة الثانية الجائزة: قوله: «لولا الله ثم فلان».
هذه جائزة بشرط أن يكون فلان سببًا صحيحًا.
الصيغة الثانية المحرمة: «لولا الله وفلان».
لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم.
علاقته بالتوحيد: أنها من الشرك الأصغر.
فلان: هذا سبب صحيح.
سبب التحريم: التسوية بين الله وفلان بالواو.
ولهذا فيكون قد مرّ معنا صيغتان في "لولا" محرمة.
الأولى: «لولا الله وفلان» هذه لا تجوز لا خبرًا ولا إنشاءً.
الثانية: قول: «لولا فلان» هذه محرمة في باب دون باب، فهي جائزة خبرًا محرمة إنشاءً. أي: مدحًا وثناءً.
روى الأثر عبد الرزاق وابن أبي الدنيا.
مناسبة الأثر: أن مثل هذه الصيغ المحرمة من جعلِ ندٍ لله.
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله» [رواه ابن ماجه بسند حسن].
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب له تعلق بتوحيد الربوبية، والمصنف جمع أبوابًا تتعلق بتوحيد الربوبية، وهذا هو الباب الثالث منها. وجمع الأشياء المتقاربة هذا جيد في التصنيف.(1/268)
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
يقصد بالترجمة أن من لم يقنع إذا حُلف له بالله، فإنه قد ارتكب فعلاً محرمًا لا يجوز لما جاء فيه من الوعيد.
المسألة الثالثة: ما حكم عدم الرضى والقناعة باليمين؟
فيه تفصيل:
القسم الأول: في باب الدعاوى والمحاكم والخصومات، فهنا يجب القناعة بيمين الحالف بغض النظر عن الحالف هل هو عدل أم فاسق؟ هل هو مسلم أم كافر ذمي؟ فلو اختصمت أنت ورجل وليس عندك بينة فليس لك إلا يمين خصمك، فيجب عليك القناعة.
لكن ما معنى القناعة هنا؟ هي ليست القناعة القلبية، وإنما بمعنى عدم الإنكار وعدم الرفض وعدم تجديد القضية، أما في داخل قلبك فلو لم تقنع داخليًا فلا بأس، والدليل عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»، من: عامة، كذلك اليهود في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يحلفون في الخصومات، كما حدث في مسألة القسامة.
القسم الثاني: باب الاعتذار والتهم التي لا خصومة فيها.
ففيها تفصيل باعتبار الشخص كالتالي:
أ- إن كان الشخص عدلاً ومعروفًا بالصدق أو يترجح صدقه، فهذا يجب قبول يمينه واعتذاره لنص حديث الباب «ومن حُلف له بالله فليرض».
ب- أن يكون الشخص معروفًا بالكذب أو يترجح كذبه، فهذا لا يجب قبول يمينه في التهم والاعتذارات، والدليل قوله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات: 6]. وهذه الآية تخصص عموم حديث الباب "من حلف" إلا الكاذب، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1]، وقوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [المنافقون: 2].(1/269)
ج- مجهول الحال، وهو الذي لا يُعرف بعدالة ولا كذب، فهذا إن نظرنا إلى عموم الحديث فإنه يدخل، وإن نظرنا إلى مفهوم الآية مفهوم المخالفة فيدخل أيضًا، وإن نظرنا إلى العلة فإنه لا يدخل إذ المقصود يمين العدل، فهي التي تُقبل، وهذا محل إشكال وتوقف.
د- يمين الكافر في الاعتذارات والتهم: لا تُقبل لمفهوم الآية { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } [الحجرات: 6] وهو مفهوم الموافقة أو مفهوم أولوي أو قياس الأولى.
هـ- مستور الحال، ويقصد بالحال الحالة الباطنية، وهو ما يسمى عند الفقهاء بظاهر العدالة.
فالعدالة قسمان:
1- العدالة في الظاهر والباطن، وضابطه: حكم المخالط له بالعدالة، والمخالط: كالزوج والأم والمسافر معه والشريك في التجارة.
2- عدالة ظاهرية: وهو تعديل غير المخالط، كمن تصلي معه في مسجد الحي. فمستور الحال تُقبل يمينه لعموم الحديث؛ إلا أنه في جميع هذه المسائل تُقبل ما لم يخالف اليقين وهو الرؤية، كأن رأيته يفعل شيئًا ثم اعتذر لك باليمين، فهذا لا يجب قبول يمينه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله» [رواه ابن ماجة بسند حسن].
لا تحلفوا: لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم، أي لا تؤكدوا الشيء بالحلف بآبائكم.
بآبائكم: خُصّ بالذكر لأنه الغالب في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويُقاس عليه مثله.
من حلف: من: شرطية وهي عامة في كل حالة ولكل شخص صغيرًا كان أو كبيرًا.
فليصدق: اللام لام الأمر، فيجب عليه أن يَصدُق.
والصدق: مطابقة الشيء للواقع. بمعنى أنه يجب أن يحلف وهو متيقن أو يغلب على ظنه.
أما الحلف بالله كاذبًا فهذه تسمى اليمين الغموس.
ومن: عامة.
والجملة الأولى باعتبار الحالف فيجب أن يكون صادقًا، والجملة الثانية باعتبار المحلوف له.
من: شرطية عامة، وهل هي عامة في كل شخص؟(1/270)
مر علينا ما يخصصها، ويقصد إذا كان الحلف عدلاً ظاهرًا أو باطنًا، أما إن كان فاسقًا أو كافرًا فلا يجب الرضى، ويدخل فيها أيضًا باب الدعاوي.
له: تدل على أن اليمين متوجهة لك.
فليرض: اللام لام الأمر، فالرضى واجب.
والرضى يختلف باعتبار الباب، فإن كان في باب الدعاوي فيقصد به الرضى السلبي وهو عدم الإنكار أو الرد لا الرضى القلبي؛ لأنك أحيانًا تعتقد كذبه، وإن كان في باب التهم والاعتذارات فالرضا قلبي وظاهري على حسب التقسيم السابق.
رواه ابن ماجة بسند حسن: وهذا حكم المصنف.
مناسبة الحديث: وجوب قبول يمين العدل في التهم والاعتذارات.
مسألة: التأويل في اليمين، وهو تعليق على قوله «من حلف بالله فليصدق».
تعريف التأويل باليمين: أن يحلف وهو يقصد خلاف ظاهر اللفظ.
مثال ذلك: كأن يطرق عليك أحد الباب ويسأل عن رجل وهو في البيت. فتقول: «والله ليس هاهنا» تشير إلى الجدار. ومثل إنسان يطلب منك قرضًا وأنت لا ترغب في إعطائه فتقول: «والله ليس معي» في أي جيبك، وإن كان يوجد معك مال كثير في
مكان آخر.
حكمها: فيه تفصيل:
أما في الدعاوي والخصومة فهذا يحرم التأويل فيه باليمين. ويُحمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يمينك على ما يُصدقك به صاحبك»، ويقصد بالصاحب: صاحب الخصومة والحق، وفيه تعليل أيضًا: أنه يؤدي إلى ضياع الحقوق.
أما إذا لم يكن في الخصومة والحقوق فإنه يجوز، كالقرض فإنه لا يجب عليك الإقراض، وكذلك العارية فهي لا تجب عليك، فتجوز التورية فيها، ما دامت لم تجب عليك، أما إذا وجبت عليك فلا تجوز التورية.
الدليل على جواز التورية في الأمور غير الواجبة:
حديث سويد بن حنظلة جاء قوم فأرادوا أن يأخذوه، فقال أحد الصحابة: هو أخي، فتركوه فأخذه - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنت أبرُّهم وأصدقهم. صدقت المسلم أخو المسلم» [رواه أحمد وأبو داود].
والقسم الثالث: ما لم يكن ظالمًا.
مسائل في اليمين:(1/271)
قول المصنف: من حلف بالله: هذا فيه وجوب الحلف بالله أو بصفة من صفاته.
واليمين التي بالله تنقسم إلى قسمين:
1- يمين حقيقة.………2- يمين حكمًا.
فيمين الحقيقة مثل أن يقول: والله وتالله وبالله، أن يأتي بلفظ الجلالة ويسبقه بحروف القسم الثلاثة "الواو، الباء، التاء".
الصيغة الثانية: أن يحذف حرف القسم. كقول: الله لأفعلن كذا، أو لله لأفعلن كذا.
القسم الثاني: اليمين الحُكمية وهي أصناف:
1- أن يذكر لفظ القسم والحلف، كأن يقول: قسمًا لأفعلن كذا، أو حلفت، فهذه في حكم اليمين إن نوى القسم.
2- الحلف بالتزام الواجبات، كأن يقول: إن فعلت كذا فعليّ الحج، أو إذا لم أفعل تصدقت بثلث مالي فهذه حكمها حكم اليمين، وتحلتها تحلة يمين.
3- الحلف بالعتق، فهذه يمين. كأن يقول: لأُعتقن عبدي إن فعلت كذا، أما إن قال: عبدي عتيق إن فعلت كذا فهذا عتق.
4- الحلف بالطلاق، كأن يقول: إن لبست هذا الثوب فامرأتي طالق، فهذا فيه خلاف، واختار أبو العباس وجماعة أنه يمين، والمذهب أنه طلاق.
5- الحلف بالبراءة من الإسلام، كأن يقول: هو يهودي إن فعل كذا، أو هو علماني إن فعل كذا، أو هو بعثي إن فعل كذا.
فهذه تعتبر يمين؛ إلا إذا رضي بهذه الملة فحلف تعظيمًا لها فهو كما قال.
6- الدعاء على النفس، حكمه حكم اليمين. كما لو قال: علي غضب الله وسخطه ألا أدخل هذا البيت.
7- التحريم، كأن يحرم على نفسه شيئًا. كأن يقول: العسل علي حرام إن دخلت هذا البيت، أو غيرها من المباحات، فهذا يمين، إلا تحريم الزوجة فالمذهب أنه ظهار.
8- يمين الإكراه، كأن يحلف عليه أن يجلس يريد إكرامه أو شرب شيء طيب، فاختار أبو العباس أنها ليست يمين لعموم «إنما الأعمال بالنيات»، والقول الثاني: أنها يمين.
وهذه الأيمان الحُكمية إن كانت على مستقبل فهذا هو المقصود، وإن كانت على ماضي فإن كان كاذبًا فهي الغموس.
مسألة: كلمة «الله يعلم» هل هي يمين؟(1/272)
حسب النية، فإن نوى الحث والمنع فهي يمين وإلا فلا.
مسألة: «أمانة الله» هل هي يمين؟
المذهب أنها يمين، وقول الشافعية أنها ليست بيمين، لأن الأمانة هي فرائض الله وما أوجبه الله.
ومثلها «حق الله» المذهب أنها يمين، والقول الثاني أنها ليست بيمين، لأنه حق الله
وطاعته، والأخير في كلا القولين أقرب.
مسألة: قوله «عهد الله وميثاقه»:
المذهب أنها يمين، والقول الثاني أنها ليست بيمين، لأنها فعل الله كما قال: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ... } [طه: 115].
قوله: «ومن لم يرض فليس من الله».
هذا وعيد، ومعروف مذهب السلف في أحاديث الوعيد، ويقصد به هنا التغليظ.
باب قول: «ما شاء الله وشئت»
عن قتيلة، أن يهوديًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: «ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت» [رواه النسائي وصححه].
وله أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، فقال: «أجعلتني لله ندًا؟ ما شاء الله وحده».(1/273)
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته قال: «هل أخبرت بها أحدًا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإن طفيلاً رأى رؤيا، أخبرها بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده».
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب له علاقة بتوحيد الربوبية والتصرف، وهذا الباب هو الباب الرابع فيما يتعلق بتوحيد الربوبية.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
قوله: «ما شاء الله»: فيه إثبات المشيئة لله.
والمشيئة: وصف قائم في ذات الله وهي صفة لله تعالى.
ومشيئة المخلوق مخلوقة، والله هو الخالق لها. وهي للعبد كسبًا وفعلاً يؤاخذ عليه بها.
ولذا قلنا: ما خلق الله فيه.
والمعتزلة يقولون: مشيئة العبد مخلوقة، ولكن الخالق لها هو العبد.
وعكسهم الجبرية: فليس للعبد عندهم فعل ولا اختيار.
المسألة الثالثة: حكم قول: «ما شاء الله وشئت».
تنقسم إلى قسمين:
الأول: أن يعتقد أن مشيئة العبد مثل مشيئة الله بالتصرف، فهذا شرك أكبر قال تعالى: { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء: 98].
الثاني: أن يعتقد أنها أقل من مشيئة الله لكن عطفها على مشيئة الله بالواو، فهذا شرك أصغر، وهذا هو المقصود في هذا الباب، ويدل عليه أحاديث الباب.
سبب كونه شرك أصغر: لأن الواو تقتضي العطف أو المساواة بالمشيئة، ومعروف أن مشيئة المخلوق رتبتها بعد مشيئة الله.(1/274)
الحديث الأول:
قتيلة: هذه صحابية.
أتى: إتيان عيب وقدح لا من باب النصيحة.
قال إنكم: الخطاب للمسلمين، وأكد ذلك بـ"أن" مما يدل على أن اليهود يعرفون الشرك، فليس عندهم جهل لكن عندهم عناد.
وانتقد المسلمين بمسألتين كلتيهما من الشرك:
الأولى: التسوية بين الله والمخلوق في لفظ المشيئة.
الثانية: الحلف بغير الله.
فأمرهم: الأمر" طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
إذا أرادوا أن يحلفوا: أي إذا حلفوا.
الشاهد: «وأن يقولوا ما شاء الله وشئت».
ووافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن قول ما شاء الله وشئت أنه من الشرك، ولكنه هنا من
الشرك الأصغر لأمرين:
1- نظرًا لاعتقاد الصحابة.
2- قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثالث: كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم، ولو كان من الشرك الأكبر لما تردد - صلى الله عليه وسلم - لأن الشرك الأكبر معروف النهي عنه.
قول: «ما شاء الله ثم شئت»:
هذه أحدى الصور، وصورها ثلاثة:
أكملها أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذه جاءت في الحديث الثاني والثالث.
الصورة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، وهذه هي الصيغة الواجبة لقوله: «فأمرهم أن يقولوا ما شاء الله ثم شئت».
الصورة الثالثة: ما شاء الله وشئت وهذه حرام.
مناسبة الحديث: قول ما شاء الله وشئت إذا لم يكن فيها اعتقاد أنه مساوٍ لله فإنه من الشرك الأصغر.
رواه النسائي وصححه: وهذا حكم على الحديث بالصحة.
وله: أي النسائي.
ما شاء الله وشئت: عطف بالواو.
أجعلتني لله ندًا: مثيلاً ومساويًا لله، وهذا من باب الإنكار على هذا القائل.
وأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا إلى أفضل الصيغ وهي أن يقول «ما شاء الله وحده».
وجه مناسبة الحديث: أن قول: ما شاء الله وشئت من جعل لله ندًا، لكنه ليس أكبر لقوله في الحديث بعده: كان يمنعني كذا وكذا، وبالنظر أيضًا إلى حال الصحابة فما كانوا يسوون بين الله وخلقه في المشيئة، فيكون من باب شرك الألفاظ.
الحديث الثاني:(1/275)
رأيت: هذه رؤيا منامية لقوله في آخر الحديث «كأني ...».
إنكم لأنتم القوم: هذا فيه إشكال؛ لأنه أسلوب مدح، لمنه لم يقصد المدح هنا لوجود مانع يمنع من مدحهم، ومعنى الكلام: لولا أنكم تقولون: عزيرٌ ابن الله لنعم القوم أنتم.
النصارى: سماهم نصارى، وهذا اسمهم في الكتاب والسنة، ومن الخطأ تسميتهم مسيحيين.
فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت: فيه جواز الإخبار بالرؤيا.
ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته: فيه اعتناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا لأنها من أقسام الوحي.
فحمد الله: أي خطب الناس وحمد الله: أي قال: الحمد لله.
الثناء: تكرار المحامد والأسماء والصفات.
أما بعد: هذه كلمة تُقال إذا أراد أن يدخل في الموضوع.
كان يمنعني كذا وكذا: جاء عند أحمد: كان يمنعني الحياء.
والحياء المانع هنا: ليس الحياء المانع من الحق ولكن الحياء من الله؛ لأنه لم يؤمر بشيء، فكان يكرهها في نفسه، ولكن كان يستحيي من الله أن يتقدم وينهى عنها قبل أن يأمره الله، فلما جاءت الرؤيا تقرر عنده النهي؛ لأن الرؤيا كانت من الوحي حيث أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه.
أن أنهاكم: أي أحرّم عليكم.
فلا تقولوا: لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم.
ما شاء الله وشاء محمد: يدل على أن هذه الصيغة محرمة، ولم يذكر هنا الصلاة والسلام مما يؤيد القول بعدم الوجوب.
ولكن: للاستدراك.
قولوا: ظاهر الأمر أن صيغة «ما شاء الله وحده» واجبة، وليس كذلك؛ بل الأمر هنا للاستحباب.
والصارف هو: حديث قتيلة: «فأمرهم أن يقولوا ما شاء الله ثم شئت».
مناسبة الحديث: أن قول ما شاء الله وشاء فلان أو محمد من الشرك الأصغر.
باب من سب الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } [الجاثية: 24] الآية.(1/276)
في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر».
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب يتعلق بتوحيد الربوبية وتعظيم الله سبحانه وتعالى. وهذا هو الباب الخامس.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
السب: هو الشتم والتقبيح وهو غير اللعن، وإن كان اصطلاح العوام أن السب هو اللعن.
مثال السب: أن يقول: قبّحه الله، أو يذكر فيه صفات قبيحة.
الدهر: يقصد به الزمان والليل والنهار.
فقد: الفاء واقعة في جواب الشرط.
آذى الله: أي أن السب يؤذي الله عز وجل لكن لا يضره، وهناك فرق بين الأذية والضرر. فهم يؤذون ولكن لا يضرون. قال تعالى { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } [آل عمران: 111]، { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب: 57] ومن سمع ما يكره فإنه يتأذى به.
المسألة الثالثة: لماذا مسبة الدهر أذية لله؟
لأنه يُنافي تعظيم الله، وفيه اعتراض على الله فيما أوجد في الدهر من الحوادث.
المسألة الرابعة: حكم سب الدهر؟
ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يسبه على أنه فاعل للحوادث، وهذا شرك أكبر يدل عليه الآية الأولى.
القسم الثاني: أن يعتقد أن الله هو الفاعل، ولكن يسبه لأنه وقعت في الدهر أمور مكروهة وحوادث مؤلمة، وحكمه: محرم.
مثل قوله: هذا يوم أسود على وجه التأفف، وقولهم: لا بارك الله في هذه الساعة، وقولهم: يوم مشئوم، وقولهم: طفشنا من هذا الحر، أو يسب البرد.
ومثل: الأيام الحالكة، أو أيلول الأسود، أو أيام النكسة ومثل ذلك: ما أقسى القدر، ورد على هذه اللفظة ابن باز رحمه الله في فتاويه.
أو قول: هذا زمان غدَّار.
ومثله: الشام شامك إذا الزمن ضامك، وهذا فيه نسبة الضيم إلى الزمان.(1/277)
القسم الثالث: أن يصف الدهر بالشدة أو الغلظة، ويقصد الخبر المحض دون اللوم والتأفف، وهذا جائز. قال تعالى: { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ } [يوسف: 48] على لسان يوسف، وقوله: { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة: 7] ومثال ذلك قوله: هذا يومٌ شديد الحر.
ودليل الجواب: أن يكون مبنيًا على سؤال أو يقصد به التحذير.
مثال: لو سأل عن الجو فأجبت بأنه شديد الحرارة، أو أوصى بأن لا يلبس الثياب الغليظة لأن الحر شديد، ودليل ذلك الآيات المتقدمة مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات».
المسألة الخامسة: قول القائل: عام الحزن، وعام المجاعة.
هذا من باب الإخبار وهذا جائز.
المسألة السادسة: متى زمن سب الدهر؟
عادة الهر يُسب عند النوازل، وعند الحوادث المكروهة.
الآية: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } [الجاثية: 24].
وقالوا: الواو تعود إلى كفار قريش.
ما هي إلا حياتنا: هذا أسلوب حصر، أي ليس هناك آخرة ولا بعث.
وما يهلكنا إلا الدهر: ما: نافية، وهذا الأسلوب من أقوى أساليب الحصر.
وهذا هو الشاهد: أي ما نموت إلا بسبب طول السنين، أو بسبب الأمراض والأوجاع لمن قصرت مدته.
مناسبة الآية: أن نسبة الحوادث إلى الدهر خلقًا وإيجادًا كفر.
الحديث: قال الله تعالى: «يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار» وفي رواية: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر».
هذا الحديث يسمى حديثًا قدسيًا.
والحديث القدسي: ما صُدّر بقول: قال الله تعالى.
يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر: هذه جملة تعليلية للإيذاء.
وأنا الدهر: أنا مقلب الدهر، يدل عليه ما بعده: «أقلب الليل والنهار».
هل الدهر اسم من أسماء الله؟
وقع خلاف بين العلماء، فأثبته ابن حزم، والصحيح أنه ليس من أسماء الله لأمور:(1/278)
1- أن السياق يأبى ذلك؛ لأنه فسره بقوله: «أقلب الليل .......».
2- أن أسماء الله حسنى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الأعراف: 180] والدهر اسم جامد لا يتضمن كمالاً.
3- لو كان من أسماء الله لكان كلام الكفار صحيحًا حينما قالوا: وما يهلكنا إلا الدهر.
وفي رواية: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر».
لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم.
تسبوا: السب هو الشتم والتقبيح والضجر والتأفف.
فإن الله هو الدهر: أي مقلب الدهر.
مسألة: ما حكم قول: «لم تسمح لي الظروف» أو «لم يسمح لي الوقت» هل هي مسبة للدهر؟
فيه تفصيل:
إن كان يقصد: لم يحصل وقت يتمكن فيه من الحضور، فهذا جائز.
وإن كان يقصد: أن الظروف لها أثر في المنع، فهذه لا تجوز.
مسألة: ما حكم قول: «تدخل القدر» أو «تدخلت عناية الله»؟
قوله «تدخل القدر» لا يجوز؛ لأنه يُوحي أن القدر مُعتدي، ويقصد بالقدر هنا فعل الله لأن الله هو المتصرف بالقدر.
وقوله «تدخلت عناية الله»: هذه فيها إيهام فلا تجوز. وفي كلا الحالين فلا تُنسب الحوادث إلى صفات الله إنما تُنسب إلى الله. ومثله شاءت قدرة الله. إنما يقول شاء الله.
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله».
قال سفيان: مثل «شاهان شاه».
وفي رواية: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه». قوله «أخنع» يعني أوضع.
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب له علاقة بتوحيد الربوبية والتعظيم، فيكون الباب السادس.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
التسمي: ومثله الاتصاف.
بقاضي: القاضي هو الحاكم.
القضاة: الألف واللام للعموم.
المسألة الثالثة: حكم التسمي بقاضي القضاة وأمثاله؟
على قسمين:(1/279)
القسم الأول: أن يكون الاسم قد تسمى الله به أو اتصف الله به، فلا يجوز إطلاقه على وجه العموم لغير الله، كالملك من أسماء الله فلا يجوز أن تقول: «ملك الأملاك» على وجه العموم والإضافة، فهذا فيه عدم تعظيم لله وعدم إفراده بالملك.
ومن أسماء الله السيد، فلا يجوز أن يُقال للمخلوق «سيد السادات» ودلالة العموم هي الإضافة.
والله يوصف بأنه عظيم { هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255] فلا يجوز أن تقول للمخلوق «عظيم العظماء» بالإضافة.
ومن هذا القسم: «قوي الأقوياء» و«كبير الكبراء» و«حاكم الحكام» و«سلطان السلاطين» و«حكيم الحكماء» ويقال عليها ما هو مثلها.
وضابطها: أن الله تسمى بها أو اتصف ثم يقولها لغيره على وجه العموم والإضافة.
حكمه: لا يجوز، وهو من باب الشرك بالألفاظ، وهو من الشرك الأصغر.
القسم الثاني: ألا تكون من أسماء الله ولا صفاته، ولكن تقال على وجه العموم، فهذه لا تنبغي. مثل: شيخ الإسلام، أو شيخ المسلمين؛ إلا أن يقصد به أبو بكر فهذا حق.
وشيخ الإسلام: "أل" فيها للعموم، فلا ينبغي إطلاقها على أبي العباس ابن تيمية ولا غيره من العلماء غير الصحابة وعندي الأفضل تركها.
1- لأن فيها تزكية.
2- تشبهة بالأعاجم.
3- لم ترد، ومثله: تاج الدين، وأما تقي الدين: فإن فيها تزكية أيضًا.
4- ولأن فيها اعتداء على الصحابة فإذا كان هذا شيخ الإسلام فماذا يكون أبو بكر وعمر وغيرهما.
5- ولحديث «أنزلوا الناس منازلهم» ومنازل العلماء أقل من منازل الصحابة.
6- واقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال «أحب أن ترفعوني فوق منزلتي» الحديث، فالتسمي بشيخ الإسلام رفع فوق المنزلة.(1/280)
أمير المؤمنين: يجوز إن قيدت ببلد معين وزمن معين، إلا أن قصد فيها أبو بكر وعمر أو من له إمارة عامة لجميع المؤمنين وإن قيلت على وجه العموم من باب الإغاظة للكفارة والمنافقين فلا مانع لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ولقوله تعالى: { وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } الآية.
أما حجة الإسلام، أو حجة الله، فهذه لا يجوز إطلاقها إلا على الرسل، فهم حجة الله على خلقه.
ومثل ذلك: عالم العلماء، وشيخ المشايخ، وأزهد الزهداء، وإمام الأئمة، وبطل الأبطال.
ما حكم كنية "صاحب الجلالة" و"صاحب السمو" و"صاحب الفخامة"؟
الجواب: هذه فيها تزيكة وتعظيم فلا تجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا
للمنافق سيد فإنكم إن قلتم ذلك أغضبتم ربكم» رواه الحاكم، ولأنه فيها كذب فإن كلمة صاحب تدل على المصاحبة وهذا إدعاء أن الجلالة مصاحبة لهم وأن السمو والرفعة مصاحبة لهم.
ما حكم قول: المفتي الأكبر.
هذه لا تجوز أيضًا للأدلة السابقة.
أما هذه الألفاظ لو قُيدت فإنها تجوز، كما جاء في الحديث «أقضاكم علي» أخرجه العراقي.
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أخنع اسم عند الله رجلٌ تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله».
أخنع: أوضع.
اسم: مأخوذ من السمة وهي العلامة، ومأخوذ من السمو وهو الارتفاع، وهو ما يطلق على الشخص يقصد به تميزه عن غيره.
وكان وضيعًا عند الله مقابلة للمتُسَمي بنقيض قصده، لأنه لما ترفّع وتعاظم بهذا الاسم كان وضيعًا عند الله، وهذا يدلنا أن الأسماء التي فيها تعظيم وجبروت أن الله يبغضها، ويدل في المقابل أن الأسماء التي فيها تذلل وخضوع لله فإنه يحبها، ولذا جاء في الحديث «أحب الأسماء إلى الله "عبد الله" و "عبد الرحمن"».
والأسماء التي فيها تعبيد لله على قسمين:
1- ما كان معبدًا لاسم خاص بالله، مثل: عبد الله، عبد الرحمن، عبد القدوس، عبد الرب، فهذا أكمل.(1/281)
2- ما كان يطلق على الله وعلى غيره، فهذه أقل منها رتُبةً مثل: عبد الملك، وعبد العزيز.
رجل: هل تدخل المرأة في هذا الباب إذا سُميت بتسمية الرجل هنا؟
هنا فيها قولان لأهل العلم:
1- لا. لا تدخل لعدم المشابهة في التسمي لا في اللفظ ولا في المعنى.
2- أنها تدخل على اختيار سفيان لأن المقصود المعنى وهنا يحصل المعنى.
ملك الأملاك: هذا من باب المثال، ويدخل ما هو في معناه.
لا مالك إلا الله: تعليل للمنع.
ولا: نافية للجنس، ومالك: اسمها، والخبر محذوف تقديره على كلام الشارح ابن قاسم "حق" لا مالك حق. أما غير الله فله ملك، لكنه ليس حقيقيًا وإنما هو ملك نسبي قاصر.
أما الدليل على أن الإنسان يملك فقوله تعالى: { مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النور: 33] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا فاطمة سليني من مالي ما شئت» والمقصود أن المخلوق يثبت له الملك، لكن لا يثبت له عمومية الملك، ولذا لا يُقال «ملك الأملاك» لأنه عموم.
قال سفيان: مثل شاهان شاه.
سفيان: هو ابن عيينة.
شاهان شاه: هذه عند فارس معناها ملك الأملاك، وهذا يدل على أن التحريم للمعنى بأي لفظ أو لغة كانت؛ حتى لو كانت باللغة الأعجمية والإنجليزية ومعناها العموم، فإنه لا يجوز. وهذا يدل أن اختيار سفيان أن المعنى سواء تشابه في اللفظ أو المعنى.
استدلال سفيان من باب القياس.
والقياس نوعان:
1- قياس الأولى.
2- قياس الشبه.
وقياس سفيان هنا من قياس الشبه. فمعنى شاهان شاه باللغة الفارسية: ملك الملوك.
وفي رواية: «أغيظ رجل».
مناسبة هذه الحديث: أن من تسمى بالأسماء التي تشبه أسماء الله على وجه العموم، فهذا لا يجوز.
علاقته بالتوحيد: أنه من باب الشرك الأصغر في الألفاظ، والمصنف بوب بـ"قاضي القضاة" مع أن الحديث في "ملك الأملاك".
فعنده أنها لا تجوز من باب القياس.
مسألة: تكملة للأسماء التي فيها عموم: وهي على قسمين:(1/282)
1- عموم باعتبار الأشخاص والمسلمين ونحو ذلك مثل: شيخ المسلمين، أمير المؤمنين، شيخ المؤمنين، زين العابدين، قال الثوري: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، وقيل عنه سيد المحدثين، ومثل سيد الشهداء قيلت في حمزة، وسيدا شباب الجنة قيلت في الحسن والحسين، مثل تاج المؤمنين، تاج العلماء، شيخ الموحدين، سلطان العلماء، شيخ المفسرين ونحو ذلك ...
2- عموم باعتبار المعاني وليس الأشخاص مثل شيخ الإسلام، شيخ التوحيد، زين العبادة، أمير الإسلام، أمير الإيمان، حجة الإسلام، مجدد الإسلام، مجدد التوحيد، صلاح الدين، تقي الدين، سيد الحديث، شيخ التفسير ونحو ذلك مثل أسد السنة تسمى به بعض العلماء ومثل قوّام السنة ومثل عز الدين وشرف الدين. والذي يظهر لي أنه ما ورد فيه من حديث أو أثر أو قول صحابي فلا مانع مثل سيد الشهداء وسيد شباب الجنة والمجدد لحديث «يجدد لهم دينهم» ولكن لا يسمى مجدد الإسلام بالعموم بل مجدد قرن كذا أو مجدد الدين في إقليم كذا لأنه قال «لهم دينهم».
مسألة: هناك أسماء وردت بها السنة مثل أسد الله قيلت لحمزة ومثل سيف الله قيلت لخالد بن الوليد ... وأما حجة الله فهذه خاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والخلاصة:
1- أن أسماء التعاظم والعموم الأفضل فيها عندي الترك والرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له سيدنا كره ذلك وقال لا يستجرينكم الشيطان. ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قول أطعم ربك وعبدي لما فيه من التفاخر والتعاظم.
2- والآية { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } .
3- ولأنها فيما أعلم ليس من هدي القرون المفضلة خصوصًا الصحابة.
وما ورد فيه النص فإنه يُكتفي بمن وردت فيه وتخصص به ويُحترم ذلك له.
باب احترام أسماء الله تعالى
وتغيير الاسم لأجل ذلك(1/283)
عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله هو الحكم، وإليه الحكم» فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال: «ما أحسن هذا فما لك من الولد؟» قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: «فمن أكبرهم؟» قلت: شريح، قال: «فأنت أبو شريح»، رواه أبو داود وغيره.
قال الشارح:
المسألة الأولى: شرح الترجمة:
الاحترام: يقصد به التوقير والتعظيم.
ومعناه هنا: ألا يتسمى بأسماء الله على التفصيل الذي سوف يأتي.
أسماء: جمع اسم، والاسم مأخوذ من السمة وهي العلامة، وقيل من السمو وهو الارتفاع. فيكون لفظ مشترك يدل على العلامة، وعلى التمييز وهو الارتفاع.
أسماء الله: الإضافة بمعنى اللام أي: الأسماء المختصة بالله.
وتغيير الاسم: هذا على الوجوب.
لأجل ذلك: اللام للتعليل أي: علة التغيير احترام أسماء الله.
المسألة الثانية: ما حكم التسمي بأسماء الله؟
على أقسام:
الأول: أسماء لا تصلح إلا لله، مثل "الرحمن، الله، القدوس، الرب"، إذا قطعت عن الإضافة رب العالمين. فهذه الأسماء يحرم التسمية بها، والتسمية بها من باب الشرك في توحيد الأسماء والصفات، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
الثاني: أسماء مبنية على ملاحظة الصفة، وهو أن يكون الاسم يتسمى الله به وسُمي به المخلوق بناءً على صفة قامت في هذا المخلوق، وهذا لا يجوز.
وهو المقصود في الحديث، فإن الحكم من أسماء الله، وهذا الرجل كُنيّ أبا الحكم؛
لأن التكنية مبينة على ملاحظة صفة فيه وهو أنه يحكم بين الناس، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
ومن أمثلته: لو أن رجلاً اشتهر بالرحمة فسُمي الرحيم أو رحيمًا، فهذا لا يجوز؛ لأن هذه التسمية مبنية على صفة تسمى الله بها.
مثال ثاني: رجل مشهور بالغلبة فسُمي الغالب، أو معروف بالقوة فسُمي القوي أو أبا القوة.(1/284)
أما لو أن رجلاً مشهور بالذكاء وسُمي ذكيًا بناءً على هذه الصفة، فلا يدخل؛ لأن اسم الذكي ليس من أسماء الله.
سبب المنع في هذا القسم: لأنه شابه أسماء الله؛ لأن أسماء الله تدل على أوصاف فهي أعلام وأوصاف، أما الخلق فإن أسمائهم للعلمية فقط، فإن كانت أعلام وأوصاف فقد شابهت أسماء الله.
علاقته بالشرك، هل هو من الشرك الأصغر؟
الجواب: نعم في باب الأسماء والصفات.
الثالث: أن تكون أسماء للعلمية المحضة، فلو سمينا شخصًا بالحكم لمجرد العلمية، أو سُمي حكيمًا أو سُمي رحيمًا لمجرد العلمية، فهذا جائز.
ولذا فإنك تجد أن بعض الصحابة يسمى الحكم ولم يغيره الرسول؛ لأن المقصود به العلمية المحضة، ولم يلحظ به الصفة، أما هذا فهو جائز.
الرابع: أسماء ظاهرها التزكية «وهذا القسم ذكرناه من باب الاستطراد والفائدة للمناسبة».
فهذه الأسماء إذا كان ملاحظًا بها الصفة عند التسمية فهذه لا تنبغي، وإن كان يقصد بها مجرد العلمية فهذه تجوز.
مثال ذلك: "صالح" لو سُمي صالحًا لمجرد العلمية فإنه يجوز، وإن سُمي "صالحًا" ملاحظًا بها الصفة بعد وجودها. فهذا لا ينبغي لأنه تزكية قال تعالى { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } .
ومثله: اسم إيمان. إن كان للعلمية جاز، لكن تكره من باب آخر لعدم تسمي السلف بذلك ولأنها قد يصحبها مفاسد مثل قولهم: هل عندكم إيمان يقصد «هل هي موجودة» يقال: لا، وهذا قبيح، ومثله: كامل، ومثله: "خالد" لو لوحظ فيه صفة الخلود مع أنها لا تكون فلا يجوز.
المسألة الثالثة: هذا في الأسماء وبقي الصفات.
فهل باب صفات الله مثل باب أسماء الله؟
الجواب: نعم.
الحديث: «إن الله هو الحكم، وإله الحكم».
أبو شريح: اسمه هاني بن يزيد الكندي، ويكنى بأبي الحكم، والكنية: ما صدر بأب أو أم.(1/285)
وهذه الكنية في أبي الحكم مبنية على ملاحظة الصفة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - منكرًا هذه التسمية «إن الله هو الحكم»، هذا من باب الإنكار، وفي نفس الوقت من باب بيان العلة، وهذا من أحسن الأشياء أن تبين علة الحكم.
هو الحكم: هو الحاكم الذي لا يرد حكمه سواء كان شرعًا أم قدرًا.
ويُقاس عليه أسماء الله كالقوي والعلي.
وقوله: وإليه الحكم: أي الفصل بين القضاء.
فقال: عن قومي: أي من أنتسب إليهم.
شيء: نكرة فتدل على العموم.
فحكمت بينهم: هذه الصفة التي لوحظت عند تسميته، ويُقاس عليها كل صفة لوحظت.
رضي كلا الفريقين: أي حصل الرضا بحكمه.
فقال الرسول: ما أحسن هذا: هذا ثناءً على فعله؛ لأنه كان يحكم بين الناس بالصلح، وهذا قبل إسلامه، وعلى هذا فيجوز الحكم بالصلح، وأن الذي يحكم بالصلح العادل فقد أحسن، ولو كان كافرًا كما أنه يكون نافذًا إلا الصلح المخالف للشريعة. وما يسمى صلحًا عند القبائل وهو في الحقيقة أعراف وعادات وسلوم
يحكمون بها فهذا شرك أكبر.
ما أحسن هذا: يؤخذ منها جواز الثناء على عمل الكافر غير الحربي إذا كان حسنا.
ومثله قوله: «أصدق كلمة قالها شاعر ...».
فمالك من الولد: اللام فيه كاللام في قوله «أنت ومالك لأبيك».
الولد: بمعنى المولود، وهذا الذي ورد في الكتاب والسنة، أما عند العامة فيخصونه بالذكر.
مسلم: هذا ملاحظ فيه العلمية.
فمن أكبرهم: أي سنًا، فيه أن السنة التسمية بأكبر الأولاد.
فأنت أبو شريح: لم يكنه الرسول بأفضل هذه الأسماء.
رواه أبو داود والنسائي، وقال ابن مفلح: إسناده صحيح.
مناسبة الحديث: أن الأسماء التي تشبه أسماء الله، إذا لوُحظ فيها الصفة فإنها لا تجوز، ويجب تغيير الاسم.
مسألة: بقي بعض الأسماء، كالمنتقم والقديم والباقي، فلو سمي بها شخصًا مع ملاحظة الصفة، فهل حكمها مثل حكم ما سبق؟(1/286)
الجواب مبني على أقوال أهل العلم فمنهم من يمنع أن تلك من أسماء الله فعليه يجوز وهذا مذهب المتأخرين. ومن العلماء من يجعلها من أسماء الله كابن منده وغيره فعليه يمنع من ذلك.
مسألة: التسمية بأم الحكم هل ه يمثل أبي الحكم؟
نعم. لأن العبرة بالمعنى وهذا مبني على اختيار سفيان في المنع من شاهان شاه لأن المعنى واحد.
ومثله: عم الحكم، وأخو الحكم، لأن أساس اسم الحكم لا يجوز، فكل ما سبقه من كنية أو إضافة فكذلك.
مسألة: اللقب لو لوحظ فيه الصفة فهل هو مثل الكنية؟
اللقب: هو كل ما أشعر بمدح أو ذم.
مثال اللقب: الصدق، الفاروق، زين العابدين، أما لقب الصديق والفاروق فهذا
ليس من هذا الباب؛ لأنها لا تطلق على الله علمًا بأنها تسمية نبوية. كما أن اللقب لا يطلق إلا بملاحظة الصفة.
مسألة: ما حكم العقيقة عند تغيير الاسم؟
لا يضر؛ لأن العقيقة ليست للاسم وإنما هي للولادة.
مسألة: هل يجوز قول "ولدي العزيز" "أو أخي الكريم" إذا كُتبت في الرسائل والمخاطبات؟
تجوز، لأنه لم يقصد التسمية بها وإنما قصد الوصف؛ لأنه عزيز عنده أو كريم ونحو ذلك، قال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [التوبة: 128] ولحديث «إنه الكريم ابن الكريم ...».
مسألة: ما حكم لو قال لشخص اسم عبد العزيز أو عبد الكريم ونحوه فقال له كريم أو عزيز أو عبد الحكيم فقال له حكيم؟
يجوز إذا قصد الشخص ولم يقصد اسم الله. ولأن اسم عزيز وحكيم يجوز التسمية بها ابتداءً إذا لم يلاحظ الصفة إنما هي للعلمية.
مسألة: ما حكم لو صغر ذلك فقال لمن اسمه عبد العزيز قال له عزيز أو عبد الرحيم رحيم أو حكيم قاله لعبد الحكيم بالتصغير؟
الجواب كالمسألة السابقة يجوز فإذا جاز اسم حكيم وعزيز له مكبرًا فيجوز التصغير من باب أولى. بشرط أن لا يقصد اسم الله والعياذ بالله.
باب من هزل بشيء
فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول(1/287)
وقول الله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [التوبة: 65] الآية.
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض-: أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء -يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القرّاء- فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة تنكب رجليه -وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب- فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [التوبة: 65] ما يتلفت إليه وما يزيده عليه.
قال الشارح:
المسألة الأولى: شرح الترجمة:
قول "هزل": ضد الجد ويقصد به السخرية.
شيء: نكرة في سياق الشرط فتعم، ويكون بأي شيء ولو قليل.
فيه ذكر الله: الأحكام الشرعية. وقلنا الأحكام الشرعية لأنه سوف يعطف على القرآن فلا بد من المغايرة ويدخل أيضًا الأحاديث.
أو: للتنويع.
القرآن: وهو كلام الله.
أو: للتنويع.
الرسول: الألف واللام للجنس، فيقصد به كل رسول ومن باب أولى رسولنا - صلى الله عليه وسلم -. وجواب الشرط محذوف تقديره: فقد كفر.
المسألة الثانية:
هذا الباب يتعلق بتعظيم الله وفي باب الربوبية، فإن المستهزئ مستخف بعظمة الله وربوبيته؛ لأنه يتنافى تعظيم شيء والسخرية به.
المسألة الثالثة: حكم الاستهزاء بشيء من ذكر الله ونحوه.
ينقسم إلى أقسام:(1/288)
القسم الأول: أن يقصد السخرية بما قال ويقصد ما تلفظ به من استهزاء. حكمه: هذا كفر أكبر سواء كان مازحًا أم جادًا.
دليله: الآية وما جاء فيها من سبب نزول، فإنهم كانوا قاصدين أن يسخروا بما قالوا.
الدليل الثاني: الإجماع، ذكره الشارح ابن قاسم.
مثال ذلك: أن يقصد السخرية بالطاعة ويعلم أنها من شريعة الله، كمن يسخر باللحية، أو برفع الثوب إلى ما فوق الكعبين، أو يسخر بآيات من القرآن أو أحاديث، أو عمل من الدين مازحًا وساخرًا بهذا العمل، كمن يؤدي الصلاة على وجه السخرية بها.
القسم الثاني: ما تسمى السخرية الشخصية وهي نوعان:
أن من سخر بالصحابة أو بالعلماء على وجه العموم، أو كان ديدنه السخرية بكل عالم فإنه يكفر كفر ردة.
ألا يقصد السخرية بما قال أو بما فعل، إنما أراد السخرية بمن قال أو بمن عمل.
مثاله: أن يقصد الإضحاك بغض النظر عن الكلام الذي قاله، كالذي يسخر ببعض العلماء وبعض طلبة العلم يقصد إضحاك من حوله، ويقصد بالسخرية ذات الشخص، وكذلك السخرية ببعض أهل البادية في قراءتهم للقرآن، أو قصص أهل البادية على أهل الحضر، فإن سخر بشخص وهو يحبه؛ لكنه لإضحاك الناس بأعماله الشرعية، فهذا يكون أراد الإضحاك وتزجية الوقت.
فإن كان بينه وبينه عداوة، فيكون سبب الإضحاك التشفي، وهو من هذا القسم أيضًا
إذا كان مادة الضحك شيئًا من الشرع.
وأحيانًا يقصد مجرد الإخبار ولا يريد السخرية بهذا الشخص ولا بما قال، فهذا لا يدخل لحديث «إنما الأعمال بالنيات».
وعلامة هذا القسم: أن الساخر تجده يحب أعمال المسخور به الشرعية؛ لكن أراد الإضحاك، وهذا يحدث كثيرًا، كالسخرية ببعض العلماء مع محبتهم، والسخرية ببعض الأئمة مع محبتهم.(1/289)
حكم هذا القسم: محرم؛ لأن السخرية بالأشخاص محرمة. قال تعالى: { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } [الحجرات: 11] إلا إن كانت السخرية ببعض العلماء أو بعض طلبة العلم أو بعض الآمرين بالمعروف من الهيئات والساخر مغموس عليه فهذا قرينة على النفاق ويأتي إن شاء الله مزيد بحث. وكل بحثنا السابق على كلمة بعض أما لو كان كل المتدينين أو أكثرهم فهذا من القسم الأول.
القسم الثالث: أن يكون ديدنه السخرية بالأشخاص المتدينين، كلما رأى عالمًا أو طالب علم سخر به، فهذا يلحق بالقسم الأول، لكن لاحظ أن السخرية هنا ديدنه بالأشخاص المتدينين.
أما لو سخر بما قالوا من الدين فهذا يكفر ولو مرة واحدة.
تنبيه:
المقصود بهذا الباب السخرية بالأمور الدينية، أما السخرية بالأمور الدنيوية، أو التي لا علاقة لها بالشرع فهذه لا تنقسم، وإنما هي قسم واحد. يدخل تحت عموم قوله تعالى: { لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } [الحجرات: 11]. كالسخرية بسيارة علام أو بيت طالب علم وهكذا.
مسألة: ما حكم لو قال في بعض السنن أنها قشور؟
إن قصد أنها ليست بجوهرية، وهناك ما هو أهم منها فهذا لا يعتبر سخرية بالنسبة لكن اللفظ لا يجوز.
وأما إن أراد السخرية بها فهذا من القسم الأول.
مسألة: إذا دعوت رجلاً للالتزام أو دعوت ابنه فقال: تريد أن تُعقَّده! فما الحكم؟
هذه فيها تفصيل باعتبار الشخص:
إن كان رجلاً يحب الدين ولكن قال هذا القول، فيكون حكمه حكم من أبغض بعض العلماء وبعض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لأنهم يمنعونهم عن شهواتهم ومعاصيهم.
وإن كان يقصد بغض بعض الشعائر، فحكمه حكم من أبغض شيئًا من الدين.
مسألة: حكم من يجعل طرائف على المتدينين كما تعمل بعض الصحف بوضع صور ساخرة عنهم؟(1/290)
هذا الغالب يفعله العلمانيون والمنافقون كما في قصة «ما رأينا مثل قراءنا هؤلاء أرغب بطونا ... الحديث»!!
مسألة: لو قال رجل من المتدينين لرجل آخر متدين منعه من شيء فقال: أنت من المتطرفين من باب المزاح. فما حكمه؟
هذا سخرية بمن يقول، بمعنى أنك تسخر بمن يقول هذه العبارات. كأنك سخرت بالعلمانيين الذين يقولون هذا الكلام. وهذا لا بأس، فليست هذه من قبيل المحرم.
الآية: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [التوبة: 65].
سألتهم: أي: يا محمد. والضمير يعود على القائلين كما ذكره الشارح ابن قاسم، أي: لماذا تكلموا بكلمة الكفر؟
ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب: أي أننا قصدنا السخرية بما قلنا؛ لكن لعبًا وخوضًا لا بغضًا.
مناسبة الآية: أن قَصْدَ السخرية بالقرآن أو الرسول أنه من عمل المنافقين وهو كفر أكبر.
مسألة: السخرية قد تكون باللسان وهذا نوع، وقد تكون بالعمل، كمد اللسان وغمز العين، وهذا مثل القول فله حكمه.
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة: ذكر صحابيًا وثلاثة من التابعين.
تخريج الحديث: هو حديث حسن من طريق ابن عمر، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم
أما الطرق الباقية فهي مرسلة، فيكون ذكرها من باب الشواهد مع أن فيه إشكالاً.
كيف يُدخل أحاديث مرسلة مع أحاديث مسندة من غير تمييز؟
لأن زيادة المرسل لا يُستفاد منها، وموافقة المرسل يُستغنى عنها في السند.
أنه قال رجل: قال الشارح من المنافقين، والصحيح أنه لم يكن منافقًا إلا بالقول.
في غزوة تبوك: هذا زمن القصة، وهي في السنة التاسعة.
ما رأينا: من الرؤية.
مثل قرائنا: فيه ملاحظة أنه سخر بالقراء لا بقارئ واحد. وهذا هو الدليل على أن من سخر بالعلماء فإنه يكفر كفر ردة لأن الكمية لها أثر.
أرغب بطونًا: أي أكثر أكلاً.
أكذب ألسنا: أي يخبرون بخلاف الواقع.
أجبن عند للقاء: أي فيهم خوف وهلع يمنع من الإقدام.(1/291)
فهو سخر بثلاثة أمور وليس المقصود العدد، فلو لم يذكر إلا أمرًا واحدًا لكفى.
وأيضًا فهذه الأمور الثلاثة كذب وليست حقيقة، فجمع بين السخرية والكذب.
هل القائل واحد؟ في الحديث أنه رجل واحد، وفي القرآن أنهم مجموعة. والجمع أن يقال: إن القائل واحد والباقون موافقون، والراضي كالفاعل قال تعالى: { فعقروها } والعاقر واحد. وقال تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 14] أي إذا قعدتم مع الرضى.
عوف بن مالك: هذا صحابي، وقالها من باب الحمية والغيرة.
كذبت: أي أخبرت بخلاف الواقع، وهذا فيه المبادرة بتكذيب من سخر أو استهزأ.
لكنك منافق: لكن: للاستدراك. لأنه لا يطلق هذه الألفاظ على أصحاب رسول الله إلا منافق.
وفيه جواز وصف الرجل لمن يظهر منه النفاق به، وذلك من باب الغيرة لا من با بالهوى.
وفيه جواز الحكم على المعين بالنفاق وبالكفر إذا توفرت الأسباب وانتفت الموانع.
لأخبرن: فيه جواز نقل الكلام إلى الإمام والعالم وكل من له أثر في تغيير المنكر، ولا يعتبر من باب النميمة، إذا ظهر من شخص النفاق أو المعصية أو شيئًا مخالفًا للشرع، فينقل خبره إلى الحاكم بالشيء الذي قاله، أو فعله.
القرآن قد سبقه: فيه جواز مثل هذا التعبير، ومثله: حَكَمَ القرآن، وتحدث القرآن.
إنما: أداة حصر.
كنا نخوض ونلعب: أثبت السخرية، وإنما تعذر بأنهم أرادوا قطع الطريق.
وعليه فمن أراد قصد السخرية بمن قال، فإنه يكون كافرًا سواءً كان جادًا أم هازلاً.
ثم يصف ابن عمر حال هذا الرجل وهو متعلق بناقة الرسول والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلوا الآية.(1/292)
مناسبة هذا الحديث: أن من سخر بالصحابة أو بالعلماء على وجه العموم، أو كان ديدنه السخرية بكل عالم، فإنه يكفر كفر ردة.
مسألة: ما حكم قول: "مصيحف" و"مسيجيد"؟
فيه تفصيل:
إن كان يقصد بيان الحجم فهذا يجوز، لكن الأولى ترك هذا التعبير؛ لأنه يوحي بالسخرية.
وإن قصد السخرية فيكفر.
مسألة: حكم السخرية بالعلماء وطلبة العلم وهل هو من السخرية بالدين؟
فيه تفصيل:
1- إن سخر بهم لدينهم فهذا كفر { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ } ولقوله تعالى: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا } .
2- إن سخر بهم لعداوة بينهم وبين بعضهم فهذا محرم قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ } .
3- إن كان ديدنه السخرية بكل عالم فهذا كفر ردة.
دليله «ما رأينا مثل قرائنا» وقوله تعالى { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا } .
باب ما جاء في قوله تعالى
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [فصلت: 50] الآية.
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي.
وقوله: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص: 78] قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.(1/293)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطى لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر – شك إسحاق – فأعطي ناقة عُشَراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعرًا حسنًا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدًا؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن, والمال، بعيرًا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى(1/294)
ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفر، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك» أخرجاه.
قال الشارح:
هذا الباب شبيه جدًا بباب { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [النحل: 83]، وبباب { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 22].
لأن هذا الباب يتحدث عن نسبة النعم لغير الله، ولذا فإن مباحث الباب تمامًا مثل المباحث السابقة، وسوف نتعرض لشرح بعض عبارات الباب.
شرح الآية: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [فصلت: 50].
أذقناه: الضمير يعود للمنعم عليه.
ضراء: يقصد به الشدة والبلاء والمرض.
وزمن المرض والبلاء: قبل أن يذيقهم الله رحمة من عنده، أي أصابه أولاً الضراء والبلاء، ثم بعد ذلك ذاق رحمة الله.
لي: اللام للاستحقاق. أي: أنا مستحقه.
وذكر المصنف رحمه الله ثلاث تفاسير لهذه الآية.
التفسير الأول: تفسير ابن عباس؛ وإن كان المصنف بدأ بتفسير مجاهد، وتقديم تفسير الصحابي أولى.
قال ابن عباس: "يريد من عندي": بمعنى أن هذه النعمة بجهدي وبكدَّي.
وتفسير مجاهد: هذا بعملي: معناه: بسبب عملي.
وأنا محقوق به: أي جدير به.
وعلى كلا القولين لم ينسب النعمة إلى الله، وإنما نسبها إلى جهده وعمله.
تفسير قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب، بمعنى قولك: إنه بجهدي.
وقال آخرون: ابن جرير والبغوي.
على علم من الله أني مستحق له.
والجامع للأقوال كلها، أنه نسب النعمة إلى جهده وعمله، وهذا يسمى نكران تناسي لفضل الله.(1/295)
وهذا أحد أنواع نكران النعمة التي مرت في باب { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ } [النحل: 83].
مناسبة هذه التفاسير: أن من نسب النعمة إلى نفسه متناسيًا فضل الله، فإن هذا من كفر النعمة وهو من الشرك الأصغر.
حديث أبي هريرة:
الأبرص: البرص: بياض في الجلد.
الأقرع: هو الذي ليس له شعر.
أراد الله: فيه إثبات الإرادة لله، وهي إرادة كونية.
يبتليهم: أي يمتحنهم.
ملكًا: بصورة آدمي، وهذا دليل على أن الملائكة تتشكل.
طلب الأبرص ثلاثة أمور، وهذا دليل على جشعه؛ حتى نفس الطلبات فيها جشع:
1- لون حسن.……2- جلد حسن.……3- ذهاب البرص.
فعافاه الله من ذلك وأُعطي ما أراد، وطلب من المال أغلاه، فطلب الإبل، وأهل الإبل فيهم جفاء فطلب من المال ما وافق طبعه. فأعطي الإبل وأُعطي ناقة حاملاً.
ثم أتى الأقرع فطلب طلبين:
1- شعر حسن.………2- ذهاب القرع.
وطلب من المال: البقر.
والثالث الأعمى، فطلب طلبًا واحدًا متواضعًا، وهو أن يرد الله إليه بصره فيبصر الناس. ولم يقل بصر حسن أو بصر قوي، فرد الله إليه بصره؛ لأنه طلب رد البصر من الله؛ بخلاف الأبرص والأقرع.
وطلب من المال الغنم، وأهل الغنم فيهم السكينة والوقار، فطلب ما يوافق طبعه، فأعطي شاة والدًا.
ثم جاء دور الامتحان. فجاء الملك إلى الأبرص بصورة أبرص، فاستدر عطفه بأن أخبره أنه مسكين وابن سبيل، وسأله بالله أيضًا، فاجتمعت فيه أمور كثيرة الواحدة منها تكفي بالتصدق عليه، ثم ذكّره أيضًا بماضيه، وطلب منه بعيرًا واحدًا، فكان الرد: الحقوق كثيرة، فجمع بين منع ما يجب عليه، وكذب أيضًا.
ثم ذكره الملك بأنه كان أبرصًا فقيرًا، فقال: إنما ورثت هذا المال كابرً عن كابر، وهذا هو الشاهد، فنسب وصول المال إليه من غير الله كذبًا.
وكذلك الأقرع نفس الحوار ونفس النتيجة.
ثم أتى الأعمى بصورته وهيئته: الصورة غير الهيئة.
فالصورة هي العمى، والهيئة هي الفقر.(1/296)
فأعطاه وقال: كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فنسب نعمة رد البصر إلى الله.
ومثله: لو عالج طبيب إنسانًا فنجحت العملية، فعليه أن يذكر أن هذه النعمة من الله، ثم يذكر السبب.
الشاهد من الحديث: أن نسبة النعم إلى الله واجبة، وأنها سبب لرضا الله، وأن نسبة النعم إلى جهد الإنسان وكده أنه من أسباب السخط.
ومثل ذلك: الطالب إذا نجح في الامتحان وقال: هذا بسهري ومذاكرتي وجدي واجتهادي، وهذه لا تجوز، وإنما يقول: هذا من فضل الله ثم بكذا وكذا.
أما لو رسب في الامتحان فلا يضيفه إلى الله، وإنما يقول: رسبت في الامتحان لأنني لم أذاكر.
ومثل ذلك ما يفعله بعض التجار ونحوهم إذا كتب في بعض المذكرات كيف حصوله على هذه الثروة الطائلة؟ قال: هذا بسبب جهدي وكدي وكدحي. ونحو ذلك.
باب قول الله تعالى
{ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } [الأعراف: 190] الآية.
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبّد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنه في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن –يخوفهما- سِّمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتًا، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطعياه، فخرج ميتًا ، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } [رواه ابن أبي حاتم].
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته، وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } ، قال: أشفقا ألا يكون إنسانًا، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
قال الشارح:(1/297)
هذا الباب شبيهٌ بباب { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ } [النحل: 83]، وباب : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 22]، وباب { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ } [هود: 10]، فهذه أربعة أبواب متشابهة إلا أن هذا الباب في نعمة خاصة، وهي نعمة الولد، والأبواب التي سبقت في النعم على وجه العموم.
الآية: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } [الأعراف: 190].
آتاهما: اختار المصنف أن الضمير عائد إلى آدم وحواء وهذا قول ضعيف. والصحيح هو ما اختاره ابن القيم وابن كثير أنه عائد على الجنس، أي: الذكر والأنثى على وجه العموم.
ولذا ما ذكره المصنف من أثر ابن عباس في سبب الآية ضعيف؛ بل قال الذهبي في الميزان: حديث منكر، وأعله ابن كثير في تفسيره بثلاث علل.
مسألة: هذا الباب في نعمة الولد.
إذا وهب الله إنسانًا ولدًا، فبعضهم يشرك فيما آتاه الله.
والإشراك في نعمة الولد أربعة أقسام:
الأول: أن ينسب نعمة الولد إلى غير الله إيجادًا وخلقًا، وهذا كفر أكبر؛ لأنه إثبات خالق مع الله، وهو يدخل في الآية.
الثاني: أن يضيفوا سلامته إلى الطبيب أو المولدة "القابلة"، وهذا أيضًا من الإشراك، ويدخل في الآية وهو شرك أصغر.
الثالث: أن يُقدّما محبة الولد على محبة الله، فيشركا بالله من أجل الولد، وهذا يدل عليه كلام قتادة وهو من الشرك الأصغر.
الرابع: أن يعبد الولد لغير الله في التسمية، فيسمى الولد عبد الرسول أو عبد الحسين، وغيره من الأسماء وهذا من الشرك الأصغر.
ويدل عليه قول ابن حزم.
قول ابن حزم.
اتفقوا: قال الشارح ابن قاسم بمعنى أجمعوا.
فتسمية عبد عمرو، وعبد الكعبة محرم بالإجماع، وهو شرك من الشرك الأصغر.
مناسبة كلام ابن حزم: أن من عبَّد ولده لغير الله في التسمية فهو من الإشراك.
مسألة: عبد المطلب؟
وقع فيها خلاف بين أهل العلم:(1/298)
1- الجواز، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب».
فقوله: أنا ابن عبد المطلب: إقرار.
2- أنه لا يجوز، وهذا هو الصحيح لقول ابن حزم: «اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله».
فيدخل في القياس على القاعدة، ولعموم الآية { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } [الأعراف: 190].
أما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - «أنا ابن عبد المطلب»، فهذا إخبار وليس إنشاءً، أما من أراد أن
يُنشأ التسمية فهذا لا يجوز.
فلو أراد الإنسان أن يعرف عن نفسه، وكانت تسمية أجداده محرمة، فذكرها فلا يدل على الإقرار.
وله: ابن أبي حاتم.
شركاء في طاعته، أي قدم طاعة الولد على طاعة الله.
ولم يكن في عبادته: أي لم يسجدوا أو يخضعوا للولد.
مناسبة أثر قتادة: أن من قدّم طاعة الأولاد على طاعة الله فإنه من الإشراك وهو من الأصغر.
وله: ابن أبي حاتم.
اشفقا: أي الممنوح لهما الولد من الذكر والأنثى لا آدم.
ألا يكون إنسانًا: أي الولد، فخافا أن يكون بهيمة.
فأشركا: ولم يبين نوع الشرك الذي وقعا فيه، لكن قد يكون بالتوسل؛ بأن يتوسلا لغير الله ليسلم الولد وقد يكون في الطاعة أو التسمية.
باب قول الله تعالى:
{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه } [الأعراف: 18] الآية.
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها.
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب يعتبر الباب الرابع فيما يتعلق في توحيد الأسماء والصفات. وسبق أن أخذنا باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات، وباب التسمي بقاضي القضاة، وباب احترام أسماء الله.
وهذا الباب يتحدث عن حكم الإلحاد في أسماء الله.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:(1/299)
قوله: "ولله": أي اختصاصًا واستحقاقًا وملكًا، وتقديم ما حقه التأخير يُفيد الحصر والاختصاص.
و"الأسماء": جمع اسم، وهو مأخوذ من السمة وهي العلامة، أو مأخوذ من السمو وهو الارتفاع.
"الحسنى": صفة للأسماء أي: البالغة الحسن في الكمال.
"فادعوه بها": أي دعاء عبادة أو دعاء مسألة.
دعاء مسألة: مثل: يا غفور اغفر لي، أو يا رحمن ارحمني.
دعاء عبادة: كالتسبيح وذكر الله، كقول: سبحان الله، ولا إله إلا الله، سبحان الله العزيز الغفور.
هذا كله من دعاء العبادة؛ لأن مقصود الذاكر أن يغفر الله له. كأنه قال: اللهم اغفر لي.
وقوله: "ادعوه": أمر والأمر يقتضي الوجوب، ويدل على تحريم دعاء غيره، أو التوسل بغير أسماء الله.
وقوله: "فادعوه بها" ولم يقل ادعوها، وهذه مسألة دعاء الصفة، ويأتي إن شاء الله في الباب حكم دعاء الصفة.
"ذروا": أي اتركوا ولا تسلكوا مسلكهم.
قوله: "يلحدون".
الإلحاد لغة: الميل، ومنه أخذ اللحد؛ لأنه مائل إلى القبلة؛ بخلاف الشق. شرعًا: الإلحاد في الأسماء الميل بها عمّا يجب لها.
المسألة الثالثة: أنواع الإلحاد في أسماء الله:
1- إلحاد تمثيل، وضرب له المصنف بقول ابن عباس فيما ذكر عنه ابن أبي حاتم. "يلحدون" بمعنى: يشركون فالإشراك هنا إشراك مماثلة؛ حيث سموا أسماء الله وأطلقوها على المخلوق، فسمّوا اللات من الإله، والعزى من العزيز.
وهناك تمثيل معاكس وهو: إطلاق أسماء المخلوق على الله، كتسمية النصارى لله أبًا ومثل قول يهود: إن الله فقير.
وهنا مسألة: هل من الإلحاد تسمية المخلوق بمثل العزيز والعليم والكريم والحليم مع أنها تطلق على الله؟
الجواب: أما إن سُمي بها المخلوق لمجرد العلمية المحضة فجائز.
أما لو سُمي بها مع ملاحظة الصفة، فإنها من الإلحاد في أسماء الله أو مع ملاحظة العموم فلا يجوز ومن الإلحاد فيها.
ومرت هذه المسألة في باب «احترام أسماء الله»، ولذا فأسماء الله على قسمين:(1/300)
أ- قسم لا يقبل المشاركة لا معنى ولا لفظًا، وهي الأسماء الخاصة بالله تعالى مثل "الله، رب العالمين، الخالق، القيوم، القدوس" فهذه مجرد تسمية المخلوق بها من الإلحاد.
ب- قسم يقبل المشاركة مثل "الملك، والعزيز، والكريم، والحكيم"، فيجوز إطلاقها على المخلوق للعلمية، ولا يجوز مع ملاحظة الصفة أو مع ملاحظة العموم، وهذا في
باب التسمية، أما أن المخلوق يوصف بأنه كريم أو ملك فلا مانع.
2- إلحاد تعطيل، وهو تعطيل أسماء الله عن معانيها وعن الصفات التي اشتقت منها، كفعل المعطلة الذين يقولون: أسماء الله مجرد أعلام.
3- إلحاد اختراع واستحداث. ذكره المصنف بقول الأعمش: «يدخلون فيها ما ليس منها». وهي تسمية الله بأسماء لم ترد في الشرع، كتسمية الله بالمخترع، والمهندس الأعظم. ومنها أن يشتق من أفعاله أسماء وهذا على اختيار ابن تيمية وابن القيم وجرى عليه المتأخرون. والقول الثاني وهو قول قدماء السلف أنه يجوز تسمية الله بصفاته وأفعاله وهو مذهب ابن منده في كتاب التوحيد والسفاريني والأصبهاني في المحجة. قال الترمذي بعد ما ساق حديث «إن لله تسعة وتسعين اسمًا» ونقل عن بعض العلماء أنه قول غير واحد من السلف ثم ساق 99 اسمًا منها الباقي والمحيي والبديع ... إلخ. وهذا هو الراجح.
4- إلحاد إفراد للأسماء التي لا تطلق إلا على الله بالمقابل، مثل: الماكر. من الإلحاد إطلاقها على الله بدون تقييد. فإن إطلاقها على الله ليس من الأسماء الحسنى، ومثله الكيد والاستهزاء ونحو ذلك.
المسألة الرابعة: أبحاث فيما يتعلق بأسماء الله.
هل هي أسماء أم صفات؟ وهل هي مترادفة أم متباينة؟ وهل هي نفس المسمى أم غيره؟ وهل هي توقيفية؟ وهل هي محصورة أم لا؟
كل هذه المباحث تراجع شرحنا على الواسطية.
المسألة الخامسة: سؤال الصفة والسؤال بالصفة؟(1/301)
بينهما فرق: أما سؤال الصفة كأن يقول: يا مغفرة الله اغفري لي، ويا رحمة الله ارحميني، وهذا لا يجوز، وهو من الشرك ويدل عليه الآية { فَادْعُوهُ بِهَا } أي: ادعوا الله لا أن تدعوا الصفة.
ذكر أبو العباس ابن تيمية في الرد على البكري أنها من الشرك.
أما السؤال بالصفة كأن يقول: اللهم إني أسألك بعزتك، أو اللهم إني أسألك برحمتك أن ترحمني.
والاستعاذة بالصفة مثل: السؤال بالصفة؛ لأن الاستعاذة سؤال خاص. ومر علينا في حديث «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» استعاذة بالصفة.
المسألة السادسة: ما حكم إضافة الحوادث إلى صفة من صفات الله؟
إذا قصد أن الحوادث من مقتضى الصفة فهذا لا بأس، كأن يقول: اقتضت حكمه الله أن يذل الكافر والعاصي، ويعاقب الظالم، أو اقتضت قدرة الله إيجاد المخلوق، أو شقاوة بعض العباد.
أما إذا أضيفت الحوادث إلى الصفة أي: أنها فعلتها، فلا يجوز كأن يقول شاءت القدرة لله.
المسألة السابعة: ما حكم إذا كان الشخص اسمه عبد الحكيم، أو عبد المجيد، أو عبد العزيز، وأطلق عليه حكيم أو مجيد أو عزيز اختصارًا؟
هنا نقول: إنّ قصد اسم الله بحيث يسمى المخلوق باسم الله يترك، فلا يُقال له حكيم، ولا مجيد، ولا عزيز أي قصد بالاسم ملاحظة الصفة فلا. أما إن قصد الشخص فلا مانع لأن أصل كلمة حكيم وعزيز للعلمية ابتداءً تجوز فهذا مثلها.
المسألة الثامنة: حكم تسمية ضيف الله، وجار الله، ونعمة الله؟
قال الشيخ ابن جبرين في الفوائد على شرح كتاب التوحيد أن هذه الأسماء يجوز إطلاقها على المخلوق؛ لأنها إضافة تشريف قلت وأحيانًا هي إضافة دعاء أو شكر. فنعمة الله أن نشكر الله عليه فهو نعمة من الله ومثلها عطاالله أي هو عطاء من الله ومثلها مدالله.
باب لا يُقال السلام على الله(1/302)
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام».
قال الشارح:
المسألة الأولى: علاقة هذا الباب بالتوحيد!
فيه تنقيص لتعظيم الله تعالى، فمن توحيد الله تعظيمه، وإثبات الغنى الكامل له.
المسألة الثانية: قوله "السلام":
مصدر من السلامة، وهي الدعاء بأن يسلم من النقص والعيب.
المسألة الثالثة: ما حكم قول السلام على الله؟
الجواب: حرام، ويُنافي كمال التوحيد الواجب لسببين:
1- لأنه يُوهم نقص الله؛ لأن فيه عيبا.
2- لأنه خالف الحقيقة، فالله يُدعى ولا يُدعى له، فلا يُدعى لله بالسلامة لأنه هو المسلِّم.
قال المصنف: في الصحيح: الحديث عند البخاري ومسلم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة: أي في آخر الصلاة، ويقصد به التشهد.
قلنا السلام على الله: أي ندعوا لله بالسلامة من العيب.
من عباده: من: ابتدائية.
عباده: إضافة تشريف، ويقصد المؤمنين أي: المتذللين الخاضعين له.
السلام على فلان وفلان: اللهم سلَّم فلانًا وفلانًا من العيب.
وجاء في رواية «أن فلانا وفلانا هم من الملائكة».
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يقل: لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم.
لا تقولوا السلام على الله: فدل على أن الدعاء بهذه الصيغة محرم.
ثم علل التحريم بقوله: فإن الله هو السلام: فإن الله هو السالم وهو المسلم.
ومناسبة هذا الحديث: أن قول السلام على الله حرام ويُنافي كمال التوحيد الواجب؛ لأنه يوهم نقص الله تعالى.
مسالة: البديل عن «السلام على الله» فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شرع عن السلام على الله لفظة "التحيات"، فشرع لهم أن يقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات.
كما جاء في حديث ابن مسعود.(1/303)
باب قول «اللهم اغفر لي إن شئت»
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له».
ولمسلم: «وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه».
قال الشارح:
المسألة الأولى: شرح الترجمة:
اللهم: بمعنى "يا الله"، حذفت الياء وعوض عنها بالميم.
اغفر لي: المغفرة هي الستر والتجاوز، وليس خاصًا بالمغفرة، فحتى لو قال: اللهم تب علي، اللهم ارحمني.
وصورة المسألة:
اللهم غفر لي إن شئت.
يا الله اغفر لي إن شئت.
أسال الله أن يغفر لك إن شاء الله.
أن يدعو شخص آخر مخاطبًا الله وهذا يؤمّن على دعائه بآمين وأحيانًا يقول إن شاء الله.
قوله: "إن شئت": هذا تعليق للمغفرة بالمشيئة.
المسألة الثانية: حكم قول «اللهم اغفر لي إن شئت»:
وقع خلاف بين أهل العلم في هذا المسألة:
القول الأول: باعتبار القائل، فإن قالها على وجه التبرك جاز استدلالاً بحديث المقابر «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، وحديث المريض «طهور إن شاء الله». وإن قالها شاكًا أو فاترًا أو مُشعرًا نقص الله فلا تجوز، وعليه يحمل حديث الباب.
القول الثاني: أن قوله اللهم اغفر لي إن شئت ليست محرمة، ولكن تكره كراهة تنزيه، والصارف عن التحريم حديث زيارة المقابر «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»،
وحديث عيادة المريض «طهور إن شاء الله».
القول الثالث: أنه في الدعاء يحرم قولها، فإذا دعا الله وقال: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، فلا يجوز أن يقول "إن شئت"، وعليه يحمل حديث الباب.
وإن قالها على وجه الخبر أو التبرك فيجوز، وعليه يحمل حديث المقابر وحديث المريض.
والقول الثالث هو اختيار المصنف؛ حيث ذكر في المسائل أنها لا تستثنى في الدعاء وهذا هو الراجح.
إلا أن المسألة تحتاج إلى تفصيل أكثر فيقال:
- أما في باب الدعاء المحض، فهذه يحرم تعليق الدعاء بالمشيئة.(1/304)
الدعاء المحض: هو المبتدأ بقول القائل "اللهم" أو "يا الله" ونحوها، فهذا لا يجوز، ويحمل عليه حديث الباب.
- أما باب الخبر المحض الذي يقصد به التصديق أو التكذيب المبني على سؤال، فهذا يجوز تعليقه بالمشيئة؛ بل أحيانًا يجب، قال تعالى: { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [الكهف: 23، 24] ومثل حديث المقابر «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون».
- أما في باب الخبر الذي يتضمن الدعاء فهذا فيه تفصيل؛ لأنه ليس صريحًا في الدعاء ولا صريحًا في الخبرية، فلذا بحسب القائل، فإن نوى الدعاء فلا يجوز، وإن نوى الخبر فيجوز، وعليه يحمل حديث «طهور إن شاء الله»، ومثل قول القائل «مأجور إن شاء الله» لحديث «إنما الأعمال بالنيات».
لو قال قائل: «هل لي أجر إن فعلت كذا فقلت: إن شاء الله»؟ هذا خبر، وقد يقصد به الدعاء.
مسألة: من أمثلة ذلك ما يجري على ألسنة بعض الناس كقولهم «جعله الله في موازين حسناتك إن شاء الله»، وقوله «غفر الله لك إن شاء الله»، أو«هذه المحاضرة تكتب في موازينك إن شاء الله»، أو يقول أحدهم: «غفر الله لك فيقول الآخر: إن شاء الله» كل هذه الألفاظ جارية على ألسنة بعض الناس، وهي ألفاظ تجوز ولا بأس بها لأنها من باب الخير أو باب التبرك ولأنها ليست دعاءً مخاطبًا به الله بقوله اللهم.
قال المصنف: وفي الصحيح عن أبي هريرة: الحديث المتفق عليه.
لا يقل: لا ناهية والنهي يقتضي التحريم، وهذا هو الأصل، وحمله النووي على التنزيه، وهذا خلاف الأصل.
أحدكم: عام في الرجل والمرأة وفي غيرهم.
اللهم: يا ألله وهذه لفظة مهمة حتى يُفهم أن ذلك في باب الدعاء المخاطب به الله المصدّر بقولك اللهم أو يا الله ونحوه.
اغفر لي: ومثله اللهم اغفر لنا إن شئت، وهل مثلها اللهم اغفر لفلان إن شئت؟
كذلك: اللهم ارحمني إن شئت؟ مثلها.
هل هو خاص بالدعاء في الأمور الأخروية وهي الرحمة والجنة؟(1/305)
الجواب: حتى الأمور الدنيوية، فلا يجوز تعليق الدعاء بالأمور الدنيوية، كأن يقول: اللهم عافني من المرض إن شئت، اللهم نجحني إن شئت، فهو عام في الأمور الدنيوية والأخروية.
يعزم المسألة: هذا أحد أسباب المنع في الحديث، وهو أن تعليقه بالمشيئة يدل على الفتور وضعف الهمة، ولذا قال: ليعزم المسألة في الدعاء، أي: اسأل بعزم وقوة.
وجاء عند مسلم: ليعزم المسألة في الدعاء.
قال: فإن الله لا مُكر له: وهذا هو السبب الثاني؛ لأن تعليق الدعاء بالمشيئة يوهم أن الله له مكره، ويوهم النقص لله، فإن الله لا مكره له.
أما بالنسبة للاستجابة إذ دعا الإنسان فإنها قد تحصل وقد لا تحصل، لكن لا يعدم الداعي ثلاث مسائل:
1- إما أن يستجاب له.
2- أو يدخر له في الآخرة ما هو أحسن.
3- أو يدفع عنه مكروه.
قال: ولمسلم «وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه».
ليعظم الرغبة: أي ليعظم الطلب.
قال الله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82].
باب لا يقل عبد وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي».
قال الشارح:
المسألة الأولى:
هذا الباب يتعلق بتعظيم الله سبحانه وتعالى وإفراده بالتعظيم، كذلك في بعض جوانبه التنزه عن الأسماء المشابهة لأسماء الله، كاسم الرب، والسيد على تفصيل يأتي.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
لا يقل عبدي: لا: ناهية. والأصل في النهي التحريم. وهذا الخطاب موجه لسيد العبد المملوك.
اقتصر المصنف في الترجمة على حكم واحد، وهناك حكم آخر موجه للعبد؛ بأن لا يقل: ربي لسيده.
قال المصنف في الصحيح: الحديث متفق عليه.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: «لا يقل ...».(1/306)
لا: ناهية والأصل أن النهي يقتضي التحريم على خلاف يأتي.
قوله "يقل": القول هنا: النطق باللسان أي: لا يقل بلسانه نطقًا.
أحدكم: يقصد به ثلاثة أشخاص:
الأول: سيد العبد، فلا يقل هذا الكلام.
الثاني: أو أجنبي يخاطب العبد بهذا الكلام.
الثالث: أو العبد نفسه. لا يقولها؛ لكن بلفظ المتكلم أي: لا يقل العبد: سوف أطعم ربي ونحو ذلك.
أطعم: من الإطعام، وهو يشمل الطعام والشراب أيضًا، والشراب يطلق عليه طعام أيضًا قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } [البقرة: 249]
ربك: أي متولي أمرك.
وهنا نصل إلى مسألة وهي: حكم إطلاق كلمة الرب على سيد العبد، سواء من سيد العبد أو من أجنبي أو حتى من العبد نفسه؟
الحكم فيه تفصيل:
أما إطلاق كلمة الرب على سيد العبد إذا قطعت عن الإضافة؛ فهذا لا يجوز، كأن يقول: سوف أُطعم الرب أو أَطْعِم الرب، فهذه لا تجوز، وهذا من الإلحاد في أسماء الله؛ لأن كلمة الرب إذا قُطعت عن الإضافة فهي اسم خاص لله، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180]، ولحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيح «إن أخنع اسم رجل تسمى ملك الأملاك» أما إذا أضيفت كما في حديث الباب، كأن يقول سيد العبد لعبده: أطعم ربك، يقصد نفسه، أو يقول أجنبي للعبد: قم فأطعم ربك، أو يقول العبد: سوف أطعم ربي، فالرب هنا مضاف إلى الكاف أو إلى ياء المتكلم.
وهنا وقع خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أنها تكره كراهة تنزيه، ويحملون النهي في الحديث على التنزيه، ولم يقولوا بالتحريم؛ لأنه جاء ما يدل على جوازه كقوله تعالى: { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } [ويوسف: 42]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث «حتى تلد الأمة ربتها»، فقالوا إذن: السنة تركها.(1/307)
القول الثاني: أنه يحرم؛ لأن الأصل في النهي التحريم، أما الآية { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } [يوسف: 42] فهذه جاءت في شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يمنع من ذلك، وقد جاء في شرعنا النهي.
وأما حديث: «حتى تلد الأمة ربتها»، فهذا لا إشكال فيه؛ فإن ربتها لفظ مؤنث لا يوهم المشاركة، إلا أنه يرد على المسألة الأخيرة ما رواه أبو داود بسند صحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقولن المملوك ربي وربتي».
هذا إذا كان الخطاب للعبد، أما إن كان الخطاب على ما ليس عليه تعبد من الدابة والبيت، فهذا يجوز فيه أن يقول رب البيت ورب الدابة، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في
حديث اللقطة «رب الإبل».
وضئ ربك: هذه أمثلة، ومثلها: ساعد ربك، وقل لربك إلى غير ذلك.
وليقل سيدي ومولاي: من المنتظر في الحديث أن يقال: أطعم سيدك، أو وضئ سيدك، لكن التفت الخطاب إلى المملوك، وهنا ذكر البدل من كلمة أطعم ربك أن يقول: أطعم سيدك.
وهنا مسألة: ما حكم إطلاق كلمة السيد على مالك العبد؟
فيه تفصيل:
أما اسم السيد إذا قطع عن الإضافة فإنه لا يطلق إلا على الله، كما جاء في حديث أبي داود "السيد الله" فلا يقل العبد لمالكه: السيد. بهذا اللفظ، ولا يقل المالك لنفسه: السيد بهذا اللفظ إطلاقًا.
أما إذا أضيفت وقيدت فيجوز إطلاقها من الطرفين، ويدل عليه حديث الباب، وقوله تعالى: { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } [يوسف: 25] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا لسيدكم».
مسألة: ما الحكم إذا قالها الحر غير "المملوك"؟
إذا قالها الحر لرجل حر كما يكتب في الخطابات أحيانًا سيدي فلان، فهذه لا تجوز إن كانت بالإفراد، وأيضًا إن كانت بالإضافة، ولذا سئلت اللجنة الدائمة عن قول الجندي للضابط: حاضر يا سيدي.(1/308)
قالت اللجنة: لا يجوز، واستدلوا بحديث أبي داود عندما قالوا: "سيدنا. قال: السيد الله"، وأما حديث الباب فهذا في المملوك.
أما لو كان للحر سيادة على المتكلم، فتجوز لو قالها أجنبي، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا لسيدكم».
أما من له سيادة فلا يقول لمن تحته من الأحرار "أنا سيدكم"، أو هم يقولون: "أنت سيدنا". أما من الأجنبي، فيجوز بشرط أن يكون له سيادة، كأن يكون رئيسًا للقبيلة.
مسألة: كلمة السيد ولو مقيدة بالإضافة فلا يجوز أن تقال لمنافق ولا كافر، وهذا تخصيص من عموم الجواز الذي قلناه، أنها في حق المنافق والكافر لا تقال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قلتم للمنافق يا سيد فقد أسخطتم ربكم»، والمنافق: من ظهرت عليه علامة من علامات النفاق.
مسألة: هل يُقال للنساء السيدات؟
اعتاد الناس أن يطلقوا على المرأة السيدة والسيدات، ولذا يكتبون في بعض المجلات للسيدات، أو خاص بالسيدات، فهذا لا يجوز، لأن المرأة ليست بسيدة، إنما هي كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هن عوان عندكم» يعني: أسيرات. فتسييد المرأة يناقض هذا الحديث قال: «لا يقل أحدكم»: لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم.
وهنا مسألة وهي: حكم قول عبدي للملوك؟
ظاهر الحديث المنع من ذلك، ولكن محل النهي:
1- المخاطبة، أي لا تقل للعبد تخاطبه بذلك عبدي، لسببين:
أ- سدًا للذريعة في نفسية المالك فلا يتعاظم.
ب- بعدًا عن انكسار نفسية العبد.
بالإضافة إلى النهي في الحديث.
2- في الإنشاء والنداء، فلا يقل: يا عبدي تعال مناديًا، أما عند الإخبار فيجوز، كأن يقول: بعت عبدي، أو يقول هذا عبد لي من يشتريه، أو يسأل عن هذا فيقول عبدي، فبالإخبار يجوز.
قوله: وليقل فتاي وفتاتي: وهذا هو البديل عن قول: «عبدي وأمتي» فالرسول - صلى الله عليه وسلم - منع شيئًا وجعل له بديلاً.
مسألة: هل الخادمة تدخل في هذا الحديث؟
أي يقال لها: فتاتي وتقول هي: سيدي ومولاي؟(1/309)
أما الخادمة في عرفنا فلا تدخل؛ لأنها حرة وهي أجيرة.
مسألة: ما يقال عن آل البيت أنهم السادة وجرت تسميتهم بالسادة؟
فهذا ليس له أصل، ثم هو يخالف الواقع، فليس لهم سيادة على الناس، وإنما يقول ذلك أهل البدع والشعوذة؛ مع العلم أن آل البيت لهم مكانة في القلوب «المؤمن منهم».
مسألة: جاء في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيح «تعس عبد الدينار ...».
نقول: هذا ليس تسمية، وإنما هو ذم.
باب لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافأتموه». [رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح].
قال الشارح:
المسألة الأولى: شرح الترجمة:
لا: نافية.
من: بمعنى الذي.
سأل: يقصد سؤال الطلب،ومثله الاستعاذة والاستغاثة، كقوله: «أسألك بالله»، أو «بالله أسألك».
ومثله: أيُّ اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته.
المسألة الثانية: هدف المصنف من هذا الباب.
أنَّ رد من سأل بالله إذا وجب إعطاؤه تنقيص لتعظيم الله، وأن إعطاء من سأل بالله فيه تعظيم لله، فيكون داخلاً في باب تعظيم الله حق التعظيم.
المسألة الثالثة: حكم من رد من سأل بالله؟
قبل الإجابة عن حكم الرد ينبغي معرفة حكم ابتداء الطلب؛ سواء بالصيغة أو بدون: وهو ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسألك علمًا، وأحيانًا يكون بالصيغة فيقول: أسألك بالله أن تخبرني بحكم كذا، فابتداء سؤال العلم واجب في الواجبات والمحرمات، فيجب أن تسأل عن الواجبات والمحرمات، ويستحب أن تسأل عن المسنونات والمكروهات، لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [محمد: 19]، ولأن العلم واجب، وتحصيله يكون بالسؤال، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.(1/310)
القسم الثاني: أن يسأل مالاً، فهذا الأصل فيه التحريم، كما جاء في الحديث «يا قبيصة! إن هذا المال لا يحل إلا لثلاثة، رجل أصابته فاقة، ورجل تحمل حمالة ...» الحديث.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم». أما إذا اضطر إلى السؤال فيجوز أن يسأل مع الضرورة.
القسم الثالث: سؤال المعونة بالجاه والبدن، تسأله أن يساعدك جاهًا أو بدنًا، وهذا مر علينا في كتاب تحقيق التوحيد، وأن ابتداءه يكره لما فيه من المذلة والاستعطاف، لحديث «لا يسترقون»، وقد بايع الرسول نفرًا من الصحابة ألا يسألوا الناس شيئًا، رواه أحمد. ولكن مع الحاجة يجوز أن يسأل.
أما حكم إجابة من سأل بالله فهذا هو المقصود بالباب، وهو على أقسام:
القسم الأول: أن يسألك بالصيغة ما يجب له، وهذا تجب إجابته بدون الصيغة ومع الصيغة أشد، وعدم الإجابة محرم وينافي تعظيم الله. مثال ذلك: أن تقول زوجتك: أسألك بالله النفقة الواجبة عليك.
مثال آخر: إنسان يطلبك حقًا من ثمن مبيع أو قرض أقرضك إياه، فطلبك وقال: أسألك بالله حقي.
ومثل المدعي يطلب من القاضي حقه الذي ثبت بالبينة، فيسأله بالصيغة.
القسم الثاني: أن يسألك وهو مضطر وأنت قادر على مساعدته، فيسألك بالصيغة أن تساعده، كفقير سأل غنيًا قال تعالى: { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون: 7]، وظاهر حديث الباب وجوب إعطائه، لعموم «من سأل بالله فأعطوه» والآية المذكورة آنفًا، وحديث «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» رواه مسلم، وحديث جابر في الصحيح «من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له». فذكر أشياء حتى ظننا أن ليس لأحد حق في فضل. إلا أنه يشكل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه». وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» لكن الحديثين في غير الواجب والحقوق.(1/311)
ومثله: لو استغاث غريق وأنت تعرف السباحة فسألك بالله أن تنقذه، فيُقال: يجب إعطاؤه بشرط.
1- أن يكون مضطرًا.
2- ألا يكون عليك ضرر، لما روى ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ «لا ضرر ولا ضرار».
3- ألا يكون هنالك مانع من الإعطاء.
4- ألا يوجد غيرك.
ومما يدل على شروط هذه المسألة ما رواه الطبراني عن أبي موسى مرفوعًا «ملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله؛ ما لم يسأل هجرا» حسنه العراقي والسيوطي في الجامع.
أما كم يعطيه؟ الحديث لم يبين المقدار، ولذلك يعطيه ما تيسر.
القسم الثالث: أن يسأل ما هو محتاج إليه.
والفرق بينه وبين الذي قبله: أن الذي قبله مضطر، وهذا لم يصل إلى الضرورة لكنه محتاج؛ بمعنى أنه يشق عليه ولكن يتحمل، كالمعونة بالجاه، والمساعدة بالبدن وأنت قادر، فهذه تستحب لها الإجابة، لأن القول بالوجوب يؤدي إلى إيجاب ما لم يجب، ويبدأ كل إنسان يريد شيئًا يسألك بهذه الصيغة حتى يوجبه عليك.
أما سؤال العلم فالإجابة له واجبة مطلقًا؛ إلا إن سأل ما لا يحتاجه أو ليس بواقع، فلا يجب.
قال المصنف وعن ابن عمر قال: قال رسول الله «من استعاذ بالله» في بعض النسخ البداءة فيمن سأل بالله.
من استعاذ بالله: من شرطية عامة.
من استعاذ: أي طلب العوذ، وهي أخص من السؤال؛ لأن الاستعاذة سؤال من توقع المكروه أن يقع عليه.
حكم إعاذة من استعاذ بالصيغة؟
هي مثل حكم من سأل بالصيغة، فلو استعاذ في واجب وجب إعانته، ولو استعاذ لكيلا يقام عليه الحد حرم إعاذته؛ لحديث علي عند مسلم «لعن الله من آوى محدثًا».
قوله "فأعيذوه": أمر يقتضي الوجوب مع القدرة وعدم المانع.
«ومن سأل بالله»
من: شرطية عاملة عامة.
وهي باعتبار الصفة تشمل:-
1- المضطر.……2- صاحب الحق.
3- المحتاج.……4- سائل العلم.
قال تعالى: { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } [الضحى: 10] وقوله تعالى: { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى } [عيسى: 8-10].(1/312)
قوله "بالله" مثل قول: "أسألك بالله"، ومثله إذا سأل باسم من أسماء الله أو صفة، كأن يقول: أسألك بالذي خلقك، أو أسألك بوجه الله.
قوله "فأعطوه" هذا أمر والأمر هل يقتضي الوجوب؟
على التفصيل السابق، فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب.
وقوله "فأعطوه" لم يذكر مقدار العطاء، فهل هو الكفاية للسائل، أو الطاقة للمسئول، أو ما يقع عليه أقل مسمى العطاء؟
أما إن أعطى الكفاية فهذا أفضل، وإلا يعطيه قدر المستطاع، لقوله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286] أو يعطيه أقل ما يسمى، المهم ألاّ يرده.
"ومن دعاكم فأجيبوه" من: عامة، إلا أنها لا تشمل الكافر؛ إلا في التفصيل، فلو دعاك كافر فلا تجب إجابته؛ لأن إجابته مؤانسة تؤدي إلى المحبة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة: 1]، أما لو دعاك لكي تدعوه إلى الله وهو مقبل، فهذا يجب بشرط بغض القلب.
وذكر الحنابلة في إجابة العرس «وتكره إجابة الذمي»، بقي المسلم إذا دعاك هل تجيب دعوته؟
المسألة خلافية بين أهل العلم. أما الظاهرية فيقولون تجب إجابة دعوة المسلم لكل وليمة، لعموم هذا الحديث، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب إلا وليمة العرس، واستدلوا على ذلك بحديث «إن شر الطعام طعام الوليمة» قوله: "الوليمة": إشارة إلى وليمة العرس.
وحديث «إن شر الطعام طعام الوليمة» يخصص حديث «ومن دعاكم فأجيبوه» ويدل على التخصيص المشقة فإن إجابة كل دعوة فيها مشقة، ولذا فالأقرب والذي تميل إليه النفس قول الجمهور، أي: الواجب إجابة دعوة وليمة العرس فقط.
وعلى قول الجمهور أيضًا هناك شروط في إجابة الدعوة. راجع كتاب زاد المستقنع باب وليمة العرس وغيره من الكتب الفقهية.
ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه: من: عامة.
قال الشارح: "حتى الكافر".(1/313)
معروفًا: نكرة في سياق الشرط فتكون عامة.
والمعروف: اسم جامع للخير والمروءة، ويدخل فيه أيضًا معروف العلم الشرعي، فمن علمك قد صنع إليك معروفًا.
"فكافئوه": ظاهره الأمر، وهو أنه يجب المكافأة على المعروف، وهذه إحدى مراتب المجازاة لمن صنع معروفًا، وهي المرتبة الثانية.
ولم يذكر قدر المكافأة، ولكن المكافأة تكون إما المساواة أو المقاربة.
ويقصد بالمعروف هنا معروف التبرع لا الواجب.
أما من أعطاك ما يجب عليه فهذا أدى ما عليه، وإنما الكلام لمن تطوع.
قال «فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له»: هذه المرتبة الثالثة وهي الدعاء، وشرط الدعاء عدم وجدان ما تكافئونه به، لقوله «فإن لم تجدوا».
فأصبحت المراتب على الترتيب التالي:
أما المرتبة الأولى: الجمع بين أن تكافئه وتدعو له.
المرتبة الثانية: أن تكافئه من جنس معروفة أو ما يقارب معروفة.
المرتبة الثالثة: الدعاء، وهذا بشرط عدم القدرة على المكافأة.
المرتبة الرابعة: ترك المكافأة، وهي ألا تصنع له شيئًا، وهذه المرتبة لا تجوز إن قلنا بالأمر في "فكافئوه".
المرتبة الخامسة: الإساءة، وهي أن تسيء إلى من صنع إليك معروفًا، وهذه حرام، لقوله تعالى: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن: 60] هذا استفهام بمعنى النهي.
وقوله: "فإن لم تجدوا" ما مقدار عدم الوجدان؟
أي ألا يجد ما يكافئ جنس معروفه أو أعظم، فلو وجد بعض المكافأة فهي أولى من الدعاء. وزمن عدم الوجدان هل هو وقت المعروف أو فيما بعد؟ الأصل زمن المعروف.
قوله: "فادعوا له": الأصل أن الدعاء له، فإن دعا لوالديه أو لأبنائه فهذا زيادة.
ولم يبين صيغة الدعاء، وعلى ذلك يدعو له بأي صيغة مباحة، أما مقدار الدعاء هل هو مرة أو مرات؟
قال في الحديث: حتى تروا أنكم قد كافأتموه، فيكرر الدعاء حتى يغلب على ظنه أنه قد كافأه.
هل كلمة "جزاك الله خيرًا" تكفي؟(1/314)
جاء عند الترمذي وصححه مرفوعًا: «من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء» لكنها تكرر على قدر المعروف، لقوله: «حتى تروا أنكم قد كافأتموه».
متى يبدأ رد المعروف أو متى يدخل وقته؟
من حين المعروف. لذلك جاءت الفاء في قوله "فكافئوه". هل يكون دينًا في الذمة؟
نعم. لكن إما المكافأة أو الدعاء، وقوله: «فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له» دل على أن الدعاء ليس مكافأة، ولكنه بديل عنها.
قال: رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح، وصححه النووي وابن حبان والحاكم.
مسألة: فائدة المكافأة على المعروف؟
لها فائدة وهي فائدة نفسية، فإذا كافأت تخلصت من رق المعروف، وفيه عزة للنفس، وإذا لم تكافئه فتحس أنه أعلى منك وأفضل، ولذا فأهل القلوب العزيزة والنفوس العزيزة تسعى إلى دفع ما تستذل به، ولذا جاء عن الأعرابي أنه قال: ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له.
مسألة: ذكر المعروف على الشخص يخشى أن يكون من المنة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: 264] وجاء في الحديث ذم المنان.
مسألة: إذا كافأه بالدعاء هل يكون سرًا أم يسمع صاحب المعروف؟
الأفضل: أن يكون مع سماع صاحب المعروف.
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» [رواه أبو داود].
قال الشارح:
ذكر المصنف في هذا الباب حديث جابر رواه أبو داود.
والجمهور على تضعيفه؛ لأن فيه سليمان بن قرم بن معاذ، قال الحفيد في التيسير ص595 ضعفه عبد الحق وابن القطان.
قال الحافظ في التقريب: سيئ الحفظ. وهذه العلة في الضبط.
والحديث يدل على انه لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة.(1/315)
ويشهد للحديث ما جاء عن أبي موسى مرفوعًا: "ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا". رواه الطبراني وقال العراقي: إسناده حسن.
باب ما جاء في اللو
وقول الله تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [آل عمران: 154]. وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران: 168] الآية.
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
قال الشارح:
المسألة الأولى:
المصنف عرف لو هنا، مع أن "لو" حرف.
المسألة الثانية: ما حكم استعمال كلمة "لو"؟
المصنف هنا لم يقطع بحكم استخدام كلمة "لو"؛ لأنها تحتاج إلى تفصيل، وتفصيلها كالتالي:
1- إذا قيلت اعتراضًا على الشرع فهذا حرام ولا يجوز، وحكمها حكم الاعتراض على الشرع، وهو ينافي التوحيد. وكفر نفاق. وبالإجماع أن من أبغض شيئًا من الشريعة كفر ولأنه ينافي التسليم والانقياد { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
مثال ذلك: لو قال لو أن الله ما أوجب الحج، أو صلاة الفجر، أو الحجاب أو غيره من الشرائع، ودليل هذه المسألة الآية الأولى؛ لأن فيها اعتراضًا على الجهاد والخروج له، ولأنهم اعترضوا على رسوله.
2- أن تقال اعتراضًا على المقدور، كما لو سافر إنسان وأصابه شيء فقال: لو أنني لم أسافر لم يحصل الحادث، وأمثلته كثيرة.
ودليل هذا القسم الآية الثانية.
لو أطاعونا: أي سمعوا مشورتنا.
ما قتلوا: ما قدر عليهم القتل.(1/316)
3- أن تقال على وجه التمني، وهذا حسب المتمنى: فإن كان خيرًا جازت، كما جاء في الحديث «لو أن لي مالاً لفعلت كذا وكذا ...» يريد الخير والمعروف، وقوله - صلى الله عليه وسلم - «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي»، فتمنى التمتع المطلوب.
وكذلك قول: لو كنت مع الصحابة لجاهدت، أو لو كنت صغيرًا لحفظت كتاب الله، فهذه كلها أمان طيبة فتجوز، أما الأماني السيئة فلا تجوز، كقول: لو كنت حاضرًا لسرقت، أو لضربت يعني بغير حق، وأمثال ذلك.
4- إذا استخدمت "لو" لقصد التعليم أو التوبيخ فهي مثل لو استخدمت بقصد التمني، فإن كان التوبيخ على خير فتجوز، وإن كانت على ترك محرم فلا تجوز. ومثله: التعليم، يدل عليه قول ابن عمر في القدرية ... «لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ما قبله الله».
"يقولون": أي: المنافقون.
لو كان لنا: هذا هو الشاهد.
الأمر: أمر التدبير والرأي والمشورة.
ما قتلنا: أي ما قتل بعضنا؛ لأن المقتول لا يتكلم، ويقصد هنا الاعتراض على الخروج إلى الجهاد، والاعتراض على أمر الرسول إذ أمرهم أن يخرجوا.
وقوله "هاهنا": أي في أحد.
مناسبة الآية: أن الاعتراض على الشرع بكلمة "لو" من صفات المنافقين.
الآية الثانية: { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ } [آل عمران: 168].
لإخوانهم: يحتمل إخوانهم في النسب، ويحتمل إخوانهم في الإسلام، وهنا يكون باعتبار الظاهر؛ لأن المتكلم من أهل النفاق الاعتقادي.
وقعدوا: عن الجهاد.
لو أطاعونا: أي سمعوا مشورتنا بعدم الخروج "وهذا هو الشاهد".
والطاعة: هي الموافقة على وجه الاختيار.
ما قُتلوا: أي ما قدر عليهم القتل.
مناسبة الآية: أن الاعتراض على القدر بكلمة "لو" من صفات المنافقين.
في الصحيح: أي في مسلم.
احرص: الحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع.
وظاهر الأمر للوجوب، لكن فيه تفصيل:
1- الحرص على الواجب: واجب.
2- والحرص على الأمور المباحة والمستحبات: مستحب إذا كانت تنفع.(1/317)
3- والحرص على الحرام: محرم.
ما ينفعك: ما: موصولية بمعنى الذي. والنفع هنا دنيوي وأخروي.
واستعن بالله: الواو للعطف، ويقصد منها الجمع أي: اجمع الحرص مع الاستعانة بالله، ولم يقل "ثم" هنا، وذكر الاستعانة هنا حتى لا يعتمد على الأسباب.
أما حكم الاستعانة فهي واجبة.
والاستعانة مع الحرص هذا كمال في التوحيد.
والاستعانة مع ترك الأسباب هذا قدح في العقل.
ولا تعجزن(1): أمره بشيء ونهاه عن ضده، فأمره بالاستعانة والحرص ونهاه عن العجز.
وقوله "لا تعجزن": أي لا تفعل فعل العاجز وهو الكسلان.
أما حكم العجز، فإن أدى إلى ترك واجب فهذا حرام، وأما إن أدى إلى ترك ما لا إثم فيه فلا إثم فيه.
ولذا فإن "لا" ناهية.
فإن أصابك شيء: شيء نكرة فتعم.
ولاحظ أن الأمور مرتبة هنا، فيبدأ أولاً بالاستعانة ثم بفعل الأسباب.
وإذا حصل له شيء بعد ذلك فقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا يفعل.
فرتبة المكروه بعد الحرص والاستعانة.
ولا: ناهية والنهي يقتضي التحريم؛ لأن هذا فيه اعتراض على المقدور.
«لو أني فعلت لكان كذا» وهذا الشاهد على الاعتراض على المقدور.
وقوله: فلا تقل: هذا خطاب لمن أصابه شيء. بقي الطرف الثاني الذي لم يصبه شيء هل يقول لأخيه ذلك مثلاً فيقول لو أنك فعلت؟ حسب التقسيم السابق فحكمها حكمه.
وهذا الرجل اعترض على المقدور بعد فعل الأسباب وهذا مجرم، وأشد منه تحريمًا من اعترض على المقدور ولم يفعل شيئًا من الأسباب.
ولكن قل: "قدر الله":
ذكر الشيخ ابن جبرين في الفوائد أن المشهور عندهم قدر الله بدون تشديد، وقال: هكذا يضبطها مشائخنا، والظاهر أنها على الوجهين، تأتي بالتشديد وبدونه.
قدر الله: أضاف القدر إلى الله. من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ بمعنى أن هذا فعل الله وما قدره وكتبه.
وقوله "قدر الله": بمعنى المراتب الأربعة للقدر. بمعنى أن الله علمه، وكتبه، وشاءه، وخلقه.
__________
(1) في بعض النسخ (ولا تعجز).(1/318)
وما شاء فعل: هذا من باب عطف البعض على الكل؛ لأنه مشيئة الله بعض قدر الله، فالقدر له أربعة مراتب منها المشيئة. ويحتمل أنه عطف تغاير فيكون قدر الله أي فعل الله وخلقه ويحمل على آخر مرتبة وقوله ما شاء يحمل على مرتبة المشيئة بالمطابقة وتدل على العلم والكتابة باللازم.
وهذا الكلام له فائدة في النفس؛ بمعنى أن ما وقع ليس لنا فيه حيلة.
وقوله "قل": يقصد به قول القلب واللسان، ولذلك فإنه يجهر بها.
قل: هنا هل هي للاستحباب أو للوجوب؟
أما في القلب فواجب. أما اللسان فيحتمل هذا ويحتمل هذا.
ثم علل الرسول «المنع من كلمة لو».
قال: «فإن لو تفتح عمل الشيطان».
وعمل الشيطان هنا: ما يلقيه في القلب من التحسر والندم والحزن، والظاهر أن الشيطان هنا هو الشيطان الجني، وهو متشيطنة الجن.
والعمل هنا عمل خفي وهو الوسوسة في القلب. وفيه أن للشيطان عمل وتأثير(1).
مناسبة الحديث:
أن الاعتراض على المقدور بكلمة "لو" بعد الحرص والاستعانة وفعل الأسباب محرم ومن عمل الشيطان فكيف إذا كان مع ترك الأسباب فهو أشد؟ وإنما المطلوب من المسلم أن يفعل أو يعمل استعانة وحرصًا، ثم لا يجزع بعد ذلك من المقدور.
باب النهي عن سب الريح
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به» [صححه الترمذي].
قال الشارح:
المسألة الأولى: شرح الترجمة.
النهي: طلب الكف على سبيل الاستعلاء، والأصل فيه التحريم.
وقوله: "سب": هو العيب والقدح والذم واللعن.
وقوله سب الريح: هذا من الاعتراض على قدر الله، لكن بدون كلمة "لو"، وإنما بالسب المباشر.
__________
(1) كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [المجادلة: 10].(1/319)
الحديث: «لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به» [صححه الترمذي].
لا: ناهية، وهذا يعطينا حكم سب الريح وأنه حرام.
تسبوا: مرّ بنا معنى السب.
ومن أمثلة سب الريح: كأن يقول: «بئست هذه الريح»، أو «هذه ريح شريرة»، «الله يكره هذه الريح» ومثل قوله: «يا شين ها الريح».
أما علة النهي عن سب الريح؛ لأن سبها سب لخالقها، كما أخذنا في باب «سب الدهر».
مسألة: أحيانًا يكون سب الريح يخرج من الملة.
فيما إذا اعتقد أنها مستقلة بالفعل.
فسب الريح على قسمين:
1- أن يسبها ويعتقد أنها مخلوقة مأمورة فهذا محرم، وعليه يحمل حديث أبي.
2- أن يسبها على أنها فاعلة وهذا شرك في الربوبية، قال تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3].
"فإذا رأيتم": ومثله إذا سمعتم أو علمتم.
ما: موصلية بمعنى الذي.
وما يكره من الريح كشدة حرها أو شدة بردها.
فقولوا: الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولكنه هنا للاستحباب؛ لأنه مبني على الإرشاد والتعليم.
اللهم: أي يا ألله.
نسألك من: تبعيضية، وهذا يدل على أن الريح فيها خير وفيها شر.
فيسأله من خيرها: وخير الريح مثل: إزالة الروائح، أو دفع السفن.
وخير ما فيها: أي ما تحمل، ففي للظرفية. مثل ما تحمله من اللقاح { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } .
وخير ما أمرت به: مثل إثارة السحب.
فسأل الله ثلاثة أمور:
1- أمر يتعلق بها.……2- أمران فيما يتعلق بما تحمله وتُؤمر به.
ويقصد بالأمر هنا الأمر القدري، والآمر هو الله.
الاستعاذة: طلب العوذ.
من: تبعيضية.
وهنا استعاذ من شر الريح لا من الريح فلا يقول أعوذ بالله من الريح إنما شر هذه الريح.(1/320)
وهنا مسألة: ما حكم لو استعاذ من الريح، فقال: أعوذ بالله من الريح، أو أعوذ بالله من الهواء؟ هذا لا يجوز، فالاستعاذة من شرها لا منها، ولأن الاستعاذة منها مطلقًا قدح في تقدير الله. وهنا قال: الريح، ولو قال: الرياح فجائز.
وشر ما فيها: من الحر والبرد والميكروبات والحشرات وما تنقله من الأمراض والأتربة.
وما أمرت به: فإنها تؤمر بإهلاك قوم، كما حصل لقوم عاد، فإن الله أرسل عليهم ريحًا صررًا عاتية.
مسألة: ويقاس على تحريم سب الريح تحريم سب كل مخلوق مسير، كسب السحاب، وكسب الزلازل، فإنه لا يجوز كذلك.
باب قول الله تعالى
{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [آل عمران: 154] الآية. وقوله: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [الفتح: 6] الآية.
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.(1/321)
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
وإلا فإني لا أخالك ناجيًا.
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة.
قال الشارح:
المسألة الأولى: عنوان هذا الباب.
وجوب الظن الحسن بالله وتحريم الظن السيئ بالله.
المسألة الثانية: تعريف الظن اصطلاحًا:
هو الاحتمال الراجح، لكن هنا يقصد به اليقين أو ما يشبه اليقين.
المسألة الثالثة: الظن بالله على قسمين:
القسم الأول: أن يظن بالله خيرًا من ناحيتين:
الأولى: أن يظن بالله خيرًا فيما يفعله تعالى في الكون على وجه العموم، من خلق الجبال والشمس وأن الله فعله لخير، أو ما يحدث في الكون من نكبات وحوادث، وأنه يريد بها خيرًا، وأنها حكمته وعدله.
الناحية الثانية: ما يفعله الله فيما يختص بالناس، فيظن فيما يحصل له أو يحصل لغيره من الناس أنه خير كالمصائب.
القسم الثاني: أن يظن بالله شرًا من ناحيتين:
الأولى: فيما يفعله في الكون، وضرب له ابن القيم في الباب أمثلة كثيرة:
من أن الله لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، ومثل قول الإنسان: ما الفائدة من الشمس ومن الجبال، وأن البحار عبث.
الناحية الثانية: ما يفعله الله في الناس، كقوله: ما الفائدة من كون الإنسان أعرج أو أعمى؟ أو أن هذا الشخص لا يستحق ما حصل له من شر، وأن اختلاف الألوان لا حكمة فيه، وهذا الظن الأخير هو أكثر ظن السوء باعتبار الكمية، وأشار إليه ابن القيم كما سوف يأتي.
ومن أمثلته: أن يتوب ولكن ليست توبة نصوحًا، ويظن أن الله يقبلها، فهذا من الظن السيئ.
ومثله لو تاب توبةً نصوحًا وظن أن الله لا يقبلها فهذا ظن سوء بالله، وإنما الظن الحسن أن يتوب توبةً نصوحًا ويظن القبول.
أما باعتبار الحكم:
فالقسم الأول: واجب.(1/322)
والقسم الثاني: محرم، لكن بعضه ينافي التوحيد، وبعضه ينافي كمال التوحيد. الظن الذي يعود على أن الله ليس بحكيم ولا عدل فهذا كفر، وأما غير ذلك فهو ينافي كمال التوحيد الواجب.
مسألة وردت آثار عن الصاحبة والتابعين تدل على خوفهم من عدم قبول
طاعتهم فهل هذا من سوء الظن؟
الجواب: لا؛ بل هذا من باب اتهام النفس، والتقصير والخوف من ألا تكون مخلصة؛ مع أنهم يظنون ويعتقدون أن المخلص يجازيه الله ولا يضيع عمله، وهذا حسن ظن بالله.
شرح الآية:
يظنون: الضمير يعود على المنافقين.
غير الحق: أي الباطل، وهو الظن الذي لا يحصل من الله.
ظن الجاهلية: نسب الظن إلى الجهل والسفه.
وسميت ظنون الباطل ظن السوء لأنها في غير محلها.
وسوف يذكر ابن القيم أمثلة لظنون المنافقين.
مناسبة الآية: تحريم سوء الظن بالله وأنه دليل النفاق، وهو ينافي التوحيد أو كماله الواجب بحسب الظن.
الآية الثانية:
الظانين بالله ظن السوء: يقصد بهم ها المشركون. وذكر ابن القيم أمثلة تأتي في هذا الظن.
مناسبة الآية:
تدل على تحريم الظن السيئ وأنه من أعمال الكفار.
قال ابن القيم في الآية الأولى: هنا ذكر عدة أمثلة لظن الجاهلية كلها ظنون من جهة الإسلام والرسول، وظنون من جهة الدنيا،وما يحصل فيها من الكون أو في الناس أنه ينافي الحكمة.
المثال الأول: لا ينصر رسوله.
المثال الثاني: أن أمره سيضمحل.
المثال الثالث: أن ما أصابهم لم يكن بقدر، وهذا ظن المعتزلة.
المثال الرابع: أن ما أصابهم لم يكن لحكمة، وهذا ظن الأشاعرة لكنهم يردونه إلى المشيء.
المثال الخامس: إنكار أن يتم الله أمر رسوله ويظهره على الدين كله.
ونضيف بعض الظنون المعاصرة:
ظن العلمانيين أن الدين لا يصلح لهذا العصر، وأن الحدود قسوة ورجعية، وأن الإسلام وأتباعه في طريقهم إلى الاندثار.
ثم ذكر ابن القيم من الذي يظن ظن الجاهلية، وهم ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: المنافقون، ويدخل فيه علماني هذا العصر.(1/323)
الطائفة الثانية: المشركون.
الطائفة الثالثة: عُصاة أهل التوحيد، لكن في بعض أقسام الظن التي لا تخرج من الدين، كما لو ظن أن هذا الشخص لا يستحق هذه المصيبة، أو أن التوبة غير النصوح مقبولة.
وقول ابن القيم: «وإنما هذا ظن السوء لسبب وهو أنه غير لائق به سبحانه».
ومنه نأخذ قاعدة في الظن السيئ: أنه الظن الذي لا يليق بالله تعالى.
ثم عاد ابن القيم إلى ضرب أمثلة أخرى لظن الجاهلية فقال: «فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق» وهذا ظن المنافقين والمشركين.
«أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره» وهذا ظن المعتزلة «أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك بمشيئة مجردة» فهذا ظن الأشاعرة.
{ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص: 27]، علمًا بأن الظنون السابقة كفر، وبعضها لا يخرج من الملة كظن الأشاعرة والمعتزلة، فإنه يوجب التبديع والتفسيق، ولكن لم يكفروا لوجود التأويل.
قال ابن القيم: "وأكثر الناس".
من هنا القسم الثاني؛ وهو ظن الجاهلية، وهو ما يتعلق بالناس. قال: "وأكثر الناس" يؤخذ منه أن هذا الظن المشار إليه أكثر باعتبار الكمية؛ لأن أكثر الناس عندهم الاعتراض على القدر والمشيئة أكثر من الاعتراض على الحكمة وخاصة عُصاة الموحدين، «يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، كما لو أصابه شيء ظن أنه غير مستحق له».
وفيما يفعله بغيره: هذا هو القسم الثاني، فيما يختص بالناس. مثل شخص
مبخوس الحق مظلوم فيما يحصل له.
* ثم أشار ابن القيم بعد ذلك إلى مسألة: وهي [من هو الذي يسلم من سوء الظن بالله؟].(1/324)
الجواب: يسلم الموحَّد. قال ابن القيم «ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب والناصح بنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة عليه، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم».
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة.
وإلا فإني لا أخالك ناجيًا.
فأشار في آخر كلمته أن هذا أمر عزيز ونادر لا يسلم منه إلا من وفقه الله.
باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». [رواه مسلم].
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: «يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من مات على غير هذا فليس مني»».
وفي رواية لأحمد: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار».(1/325)
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: «لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار». قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.
قال الشارح:
المسألة الأولى: نبذة تاريخية عن منكري القدر:
وقعت هذه البدعة الاعتقادية بعد عصر الخلفاء الراشدين، وعاصرت متأخري الصحابة كابن عمر، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وهم الذين وردت أحاديثهم
في هذا الباب. وأول من أظهرها بالبصرة معبد الجهني، فهو الذي تبناها وانتشرت من بعده.
المسألة الثانية:
هذا الباب يتعلق بتوحيد الربوبية وهو خلق الله وتصرفه، ويتعلق بالأسماء والصفات في صفة العلم والمشيئة.
المسألة الثالثة: منكرؤ القدر على قسمين:
القسم الأول: غلاتهم، وهم الذين ينكرون القدر بمراتبه الأربع، فينكرون علم الله للأشياء، أي أنه لا يعلمها حتى تقع، ويلزم منه إنكار بقية المراتب. وهؤلاء هم الذين عاصروا ابن عمر وسئل عنهم، وهم الذين كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد.
وقالوا: ناظروهم بالعلم: فالألف واللام للعهد، أي علم الله بالأشياء هل يعلمها أم لا، كمناظرتهم بقوله تعالى: { إنَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمً } [الأنفال: 75] وقوله: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ... } [الأنعام: 598] ويوضعون بين خيارين: فإن أقروا بعلم الله خصموا، وإن أنكروا كفروا.
وأدلة هذا القسم هي الأحاديث التي ذكرت في الباب.
القسم الثاني: جمهور المعتزلة، وهم الذين أقروا بعلم الله، فأثبتوا المرتبة الأولى وهي العلم، وأثبتوا مرتبة الكتابة، ولكن أنكروا مرتبة الخلق والمشيئة.(1/326)
والظاهر أنه ليس في كل شيء، وإنما أنكروا الخلق والمشيئة فيما يتعلق بأفعال العباد فقالوا: عن أفعال العباد لم يشأها الله ولم يخلقها، وإنما خلقها الإنسان.
وهؤلاء بدّعهم الأئمة وفسقوهم وضللوهم، وفي تكفيرهم قولان للسلف.
المسألة الرابعة: شرح الترجمة:
قوله منكري: مر علينا أنهم على قسمين: إنكار كلي وهو إنكار غلاتهم، وإنكار جزئي وهو إنكار جمهور المعتزلة.
القدر: ما قدره الله وقضاه بعد ما علمه وكتبه وشاءه.
قال ابن عمر.......
حديث ابن عمر في وجوب الإيمان بالقدر وبيان مكانته.
والذي نفس ابن عمر بيده: هذه صيغة من صيغ القسم، وهنا أقسم بصفة من صفات الله.
لو كان لأحدهم: استخدام كلمة "لو"، وهي هنا جاءت للتعليم وبيان الحكم.
لأحدهم: يقصد غلاة القدرية، لأن السؤال وقع عنهم، وقد سأله بعض التابعين أن عندهم أناس يزعمون ألا قدر وأن الأمر أنف، فتبرأ منهم ابن عمر وقال كلامه هذا.
مثل أحد ذهبًا: التمثيل للتقريب.
ما قبله: ما نافية، فنفى قبول أعمالهم لأنهم كفروا.
وهذا ليس من التألي على الله، إنما هو من القسم على الأحكام الشرعية، فالكافر لا يقبل الله منه نفقة، { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27] ودلالتها بالمفهوم وقوله تعالى: { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } [التوبة: 54]. يؤمنوا: يصدقوا باطمئنان.
بالقدر: بعلم الله وكتابته ومشيئته وخلقه.
ثم استدل: ثم للترتيب والتراخي، وفيه أن الدليل يكون بعد الحكم وقد يكون قبل.
وفيه أيضًا ذكر الحكم مقرونًا بدليله، لكن هل يجب أو يستحب؟
مر علينا أنه يستحب، أما قيام الأحكام على الأدلة فهذا واجب.
ثم ساق حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والشاهد منه آخره «أن تؤمن بالقدر خيره وشره».
وفيه: ذكر الدليل أيضًا كله وإن كان الشاهد في بعضه.(1/327)
خيره وشره: يفهم منه أن القدر فيه شر لكن ليس على عمومه، فهو شر نسبي اعتباري، أما باعتبار فعل الله فليس بشر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «والشر ليس إليك»، وأما باعتبار المقدور والمخلوق فهذا يأتي منه خير ويأتي منه شر.
مناسبة الحديث: فيه كفر منكري القدر إن كان الإنكار لعلم الله.
مسألة: أي منهج ابن عمر في مقاومة أهل البدع الغليظة:
هنا ابن عمر تبرأ منهم وغلظ عليهم القول وشدد؛ لأن بدعتهم عظيمة وهي طامة كبرى وليس كمنهج المتأخرين من قولهم بسياسة الموازنات مع أهل البدع والاحتواء مع
أن هؤلاء الذين واجههم ابن عمر يعتبرون من القراء وممن عندهم علم ومع ذلك لم يفصل فيهم ابن عمر ويوازن بل تبرأ منهم.
ولو حصل مثل هذا اليوم لقالوا لا بد من التفصيل، فلا بد أن تقل هؤلاء علماء وفيهم كذا وكذا من الثناء ثم تقل ولكنهم اجتهدوا فأخطئوا، هذا المسلك مسلك مبتدع ومحدث، وإنما سياسة ابن عمر وغيره أن القراء والدعاة ومن عنده علم إذا ابتدعوا وأحدثوا أن يغلظ عليهم ويعزرون بالكلام من أجل صد الناس والعوام عن بدعتهم، وهذا المنهج ليس خاص بابن عمر بل فعله والده عمر مع صبيغ المبتدع وفعله علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة مع الخوارج العباد.
وطريقة العلماء مع عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وكانوا علماء ابتدعوا، ومع مرجئة الفقهاء وكانوا علماء وفقهاء لكن ابتدعوا ومع ذلك غلظ عليهم مالك والأوزاعي وشريك بألفاظ شديدة.
كل هؤلاء العلماء من الصحابة وغيرهم لم يسلكوا مسلك سياسة الموازنات والاحتواء وسياسة ترك الردود بحجة وحدة الصف أو بحجة أن هناك عدو خارجي أو بدعوى المصلحة أو بحجة أن هذا اجتهادي وهذا اجتهادكم دون دليل شرعي صحيح تحت غطاء فهم الواقع.
مسألة: هناك فرق بين الحوار مع أهل البدع ورد بدعتهم والتغليظ فيها.(1/328)
أهل البدع إذا نشروا بدعتهم وأظهروها فهذا يبادر في ردها والتغليظ فيها حماية للعوام وردعا لغيرهم، وهذا يسمى باب حماية وتعزير، ثم في نفس الوقت يحاورون ويناصحون لعلهم يرجعون ويعلنون رجعوهم ولا بد، وهذا باب آخر وهناك فرق بين البابين لأن الباب الأول لمصلحة الناس والثاني لمصلحتهم والجهة منفكة.
مسألة: حكم الإيمان بالقدر؟
الجواب: فرض ولازم، وهو أحد أركان الإيمان الستة كما جاء في حديث عمر السابق.
حديث عبادة بن الصامت:
موضوعه: كيفية الإيمان بالقدر.
أنه قال لابنه: فيه تعليم الابن للعقائد والأحكام، وأن مسئولية ذلك تقع على الأب قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6].
كيفية الإيمان بالقدر؟ أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيه استحباب ذكر الحكم مع دليله.
قوله "أول": ليست أولية مطلقة، فالصحيح أن العرش خلق قبل القلم وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم، ويدل عليه قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود: 7] وحديث البخاري: «كان الله ولا شيء قبله» وفي رواية: «ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء».
القلم: الألف واللام للعهد، ويقصد به القلم العام. وهناك قلم خاص وهو قلم التكليف، وهو يكتب على من ظهرت عليه إحدى علامات البلوغ، كما جاء في الحديث «رفع القلم عن ثلاثة».
وما ذكره عبادة بن الصامت إحدى مراتب القدر وهو مرتبة الكتابة، والقدر أربعة مراتب:
الأولى: العلم.………الثانية: الكتابة.
الثالثة: المشيئة.………الرابعة: الخلق والإيجاد.
فقال له: اكتب: هذا أمر.
فتكلم القلم وقال: ربي وماذا أكتب.
مقادير: جمع مقدار، والمقصود أن يكتب كل شيء إلى يوم القيامة.(1/329)
وهناك كتابات أخرى غير هذه الكتابة؛ إلا أنها تستند إلى هذه الكتابة، كلها كتابات نسخ ونقل من اللوح المحفوظ مثل:
1- الكتابة العمرية: وهي أن الملائكة تكتب إذا تخلق الجنين ونفخ فيه الروح، تكتب رزقه وأجله وعمله والشقاوة والسعادة، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في الصحيح.
2- الكتابة السنوية: وهي ما يكتب في ليلة القدر، وهو ما قدره الله مما يكون في هذه السنة. قال تعالى: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان: 4].
3- كتابة يومية: وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها، وهو التطبيق العملي والواقعي للكتابة السنوية. قال تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: 29].
كل شيء: شيء نكرة فيدل على أن كل شيء مكتوب.
حتى: لانتهاء الغاية حتى تقوم الساعة.
وهل له مفهوم مخالفة بمعنى أن ما بعد الساعة غير مكتوب؟
أما أن الله علمه وشاءه فهذا لا إشكال فيه، وأما الكتابة فتحتاج إلى تأمل.
يا بني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا دليل آخر، ففيه ذكر أكثر من دليل للمسألة الواحدة.
الحديث الثاني: أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: «لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار».
في نفسي شيء من القدر: هذا فيه عرض الشبهات على العلماء وطلب كشفها.
من القدر: "أل" هل هي للعموم؟ بالنظر إلى حاله يدل على أنه في بعض مراتب القدر؛ خصوصًا ما يتعلق ببعض أفعال العباد.
فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت:
فيه جواز استفتاء عدد من العلماء في المسألة الواحدة إذا كان من باب التوثيق وإزالة ما في النفس، حتى يطمئن إلى الحكم الشرعي. أما إن عدّد للبحث عن الأسهل، أو ما يوافق هواه فهذا لا يجوز.(1/330)
وفيه أنه يستحب للطالب أن ينوع المشايخ في المسائل العلمية، سواء باعتبار الكتاب أو باعتبار نوع العلم، وهذا يغفل عنه بعض الشباب وطلبة العلم.
باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة» [أخرجاه].
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله».
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم».
ولهما عنه مرفوعًا: «من صوّر صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ».
ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته».
قال الشارح:
المسألة الأولى: علاقة هذا الباب بكتاب التوحيد:
أن المصور شابه الله بفعله لأن الله هو المصور، وهو المتفرد بالخلق والتصوير، فإذا عمل المصور صورة فقد جعل نفسه ندًا لله تعالى، وهو متعلق بتوحيد الربوبية قال تعالى: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } [الأعراف: 54]، وقال تعالى: { صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر: 64] ومتعلق بباب الأسماء والصفات خصوصًا اسم المصور فلا بد من إفراد الله بهذا الاسم.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
قوله باب ما جاء في المصورين.
المصورين: جمع مصور، وهو الذي عمل الصورة.
التصوير لغة: التخليق والتكوين والتجسيم والتشكيل، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } [آل عمران: 6].
اصطلاحًا: التخليق والتكوين والتجسيم والتشكيل لما فيه روح، هذا هو المحرم.(1/331)
المصنف لم يذكر في الترجمة الحكم، وقوله «ما جاء في المصورين». أي: من الوعيد.
المسألة الثالثة: حكم المصورين:
على أقسام:
القسم الأول: أن يكون المصور يقصد بالصورة مضاهاة خلق الله، وهذا شرك أكبر في الربوبية وفي الأسماء والصفات؛ لأنه اعتقد مماثلة لله في الخلق والتصوير. قال تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65]، وهذا استفهام بمعنى النفي، وقال: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص: 4]،وقال تعالى: { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [النحل: 74]، وقال: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 22] أما من السنة فالحديث الأول في الباب، والحديث الثاني: وهو حديث عائشة.
«ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي»، والثاني: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله».
ولحديث عمر: «إنما الأعمال بالنيات»، وهذا القسم لا فرق بين ذوات الأرواح وغيرها، فلو رسم رجلا جبلاً مضاهئًا خلق الله فقد كفر كفرًا أكبر.
القسم الثاني: ألا يقصد المضاهاة لكن يصنع التماثيل من الأصنام والأوثان لكي تعبد ويسجد لها من دون الله، وهذا حكمه شرك أكبر في باب الألوهية؛ لأنه رضي بعبادة غير الله وساعد عليها، فيكون ساهم في الشرك قال تعالى: { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2].
القسم الثالث: ألا يقصد المضاهاة، ولا يصنع الصور التي تعبد من دون الله، ولكن صوّر من باب العبث والنزهة، أو من باب التجارة والكسب، أو من باب الهواية، فهذا حكمه حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، وحكم المصور هنا فاسق، ويدل عليه الحديث الثالث والرابع والخامس في الباب.
بغض النظر عن نية الفاعل حتى ولو كانت نيته حسنة، كأن يتخذ هذه الصورة وسيلة للدعوة إلى الله أو للتعليم العادي.
المسألة الرابعة: حكم التصوير.
المقصود حكم الصورة من حيث الشكل والمضمون على أقسام:(1/332)
القسم الأول: تصوير ذوات الأرواح بأي شكل كان؛ سواء كان:
1- تمثالاً مجسمًا فهو حرام بالإجماع، ويدل عليه عموم حديث ابن عباس «كل مصور في النار».
2- أو كانت مرقومة أو منقوشة باليد مما ليس له ظل فهذا حرام أيضًا، لعموم حديث ابن عباس «كل مصور في النار»، ولحديث النمرقة وهو حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «اشتريت نمرقة فيها تصاوير، فأنكر عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخل البيت حتى قطعتها وسادة أو وسادتين» متفق عليه.
والنمرقة: نوع من الأستار، وهي من الخرق يستر بها الأبواب والطاق في الجدران.
3- المرقوم بالآلة والمصور بها، وهو ما يسمى حديثًا بالصور الشمسية، وهو التصوير الفوتوغرافي، أو التصوير الضوئي، أو التصوير بالأصباغ كل هذه ألفاظ مترادفة.
حكمها: وقع خلاف عند المعاصرين على قولين:
القول الأول: أنها تجوز، استدلوا بتعليلات وقياسات:
منها: أنهم قاسوه على المرآة، فإن التصوير بالآلة مثل ظهور الوجه والجسم على المرآة.
الثاني: أن المصور بالآلة ليس له عمل وإنما العمل عمل الآلة وهو بمثابة الناقل، وهذا قول القليل.
القول الثاني: وهو قول الجمهور: أنه محرم، وذكروا أدلة إيجابية لهم، وردوا على أدلة المخالفين.
أما أدلتهم الإيجابية:
1- عموم حديث ابن عباس «كل مصور في النار»، وحديثه الآخر «من صور صورة في الدنيا ...»، وحديث أبي هريرة: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي»، وهذا قد ضاهى الله بخلقه.
أما الرد على أن من قال أن التصوير بالآلة كالمرآة، فقد رد عليهم الشيخ محمد بن إبراهيم في الجزء الثاني من الفتاوى.
أن هناك فرقًا بين التصوير بالآلة والظهور بالمرآة من وجوه:
الوجه الأول: أن التصوير بالآلة فيه استقرار وبقاء، وأما على المرآة فلا تبقى ولا تستقر.
الوجه الثاني: أن التصوير بالآلة عن عمل ومعالجة؛ بخلاف الظهور على المرآة فلا عمل فيه ولا معالجة.(1/333)
الوجه الثالث: من حيث اللغة والعرف والعقل، قال: لا يأتي لغة ولا عرفًا ولا عقلاً أن من وقف أمام المرآة أنه صور. اهـ.
أما قولهم إن الآلة ليس فيها عمل فيقال:
إن المصور بالآلة يأتي بالآلة، ويضع الفلم فيها ويوجه الآلة، ويحمض الصورة، وهذه كلها أعمال، وربما عدّل في الصورة أيضًا، فأين الدعوى أنه ليس له عمل؟
وقال الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في هذه المسألة: لو قال قائل إنه لا يحرم من الخمر إلا ما اعتصر بالأيدي فقط، أما المعتصر بالآلات فلا يحرم. اهـ. وهذا قاله الشيخ في نفس السياق متهكمًا بمن يفرق بين التصوير بالآلة والتصوير باليد.
ويقال أيضًا: لو أن إنسانًا حمل بندقية فضغط على الزناد فقتل، فلا يقول عاقل إنه ليس بقاتل وليس له عمل، وهذا فحوى كلام شيخنا محمد المنصور رحمه الله لما رد عليهم في هذه المسألة.
الوجه الرابع: أن يقال هذه تعليلات في مقابل النص، والتعليل في مقابل النص فاسد الاعتبار.
ويقال أيضًا إن التصوير الفتوغرافي أعظم مفاسد من التصوير باليد نظرًا لسهولته وكثرة انتشاره.
ويقال أيضًا: إن عندكم تناقضًا في كلامكم، لو أن شخصًا صور باليد فإنه يحرم، وإذا صور نفس الشخص بالآلة فإنه يجوز؛ مع أن الشخص واحد، والعمل هو التصوير والتناقض دليل فساد القول.
وقد ألف ابن باز رسالة اسمها «الجواب المفيد في حكم التصوير» أفتى بها بتحريم التصوير الفوتوغرافي، وتكلم عن هذه المسألة ابن إبراهيم في مجموع الفتاوى، وتكلم
عنها الشيخ حمود التويجري في رسالته «تحريم التصوير والرد على من أباحه»، والأخرى «إعلان النكير على المفتين بالتصوير»، وكذلك رسالة للألباني، وأصدر شيخنا حمود العقلاء رحمه الله فتوى في تحريم التصوير الفتوغرافي، وكذلك شيخنا محمد المنصور رحم الله الجميع.
والصحيح أن التصوير الفتوغرافي لا يجوز.
وشرط هذا القسم «تصوير ذات الأرواح» ألا يقصد المضاهاة، فإن قصدها فهو كفر.(1/334)
والقسم الثاني: تصوير غير ذوات الأرواح كالشجر والجبال ونحو ذلك.
وهذا وقع فيه خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: قول مجاهد ومن وافقه من أهل العلم أنه لا يجوز حتى غير ذوات الأرواح، واستدلوا بعموم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة ...»، وهذه ليست من ذوات الأرواح.
القول الثاني: قول الجمهور أنه يجوز.
واستدلوا على ذلك بدليلين:
1- ما أخرج أبو داود والنسائي بسند جيد في حديث جبريل أنه قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مر برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة». فأجاز كونه كالشجرة مما يدل على الجواز.
2- قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه عند مسلم لرجل استفتاه في التصوير، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «كل مصور في النار»، ثم قال ابن عباس: إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له، وهذا هو القول الراجح.
أما حديث أبي هريرة «فليخلقوا حبة»: فهذا محمول على من صور ليضاهي، ولذا جاء في أول الحديث «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ... الحديث»، ومن قصد بتصويره أن يضاهي فهذا شرك أكبر، ولو كان المصوَّر من غير ذوات الأرواح.
القسم الثالث: ما لا تبقى معه حياة، أي هو أساسًا من ذوات الأرواح لكن أزيل عنه الرأس، كصورة الإنسان مقطوع الرأس؟
هذه الصور تجوز لحديث جبريل عند أبي داود والنسائي بسند جيد... «فمر برأس
التمثال فليقطع»، فدل على أن التمثال المقطوع الرأس جائز، ولحديث: «إنما الصورة الرأس»، فما ليس فيه رأس فيجوز، والحديث أخرجه أحمد.
مسألة: وهل يفرق بين الابتداء والدوام؟
بمعنى لو كانت صورة الإنسان موجودة أساسًا ثم أزيل الرأس فهذا جائز، وهذا يسمى الدوام.
بقي هل يجوز أن ترسم إنسانًا بدون رأس ابتداءً؟
الجواب: لا يجوز لعموم الأدلة.
مسألة: لو فصل الرأس عن الجسم بممر بينهما، أو وضع خطًا هل تجوز الصورة؟(1/335)
الجواب: لا تجوز؛ لأن الحديث «رأس التمثال فليقطع»، والقطع هنا بمعنى الكسر، أما جعل ممر أو خط فيقال: لا يزال الرأس باقيًا. ولحديث «إنما الصورة الرأس»، ولو قال قائل: نص الحديث يقطع، ونحن قطعنا الرأس، نقول فماذا تفعل في حديث «إنما الصورة الرأس»!!
مسألة: صورة ذوات الأرواح الممتهنة.
أما لو كانت الصورة موجودة في الفرش التي توطأ أو يتكأ عليها، هذه الصورة جائزة بشرط الامتهان، والامتهان حالاته معدودة، كأن يوطأ عليه، أو يتكأ عليه، أو ينام عليه، أو يستند إليه، والدليل على ذلك حديث النمرقة، فإن فيها تصاوير فقطعت فجعلت وسادة أو وسادتين، وهذا مثال للاتكاء والاستناد.
وحديث جبريل عليه السلام رواه أبو داود بسند جيد وفيه: «ومر بالستر فليقطع وليجعل منه وسادتان منبوذتان توطأ ...» ويحتمل أنها أصلا قطعت وفصل الرأس ثم وضعت وسادة توطأ؛ فزوال المحظور أصلاً في القطع وذهاب المعالم للصورة، والوسادة والوطء زيادة وهذا الاحتمال الأخير ينظر إن دل عليه الحديث فهذا أكمل وإلا يبقى على الاحتمال الأول.
القسم الرابع: الصور التي عمت بها البلوى ويشق التحرز منها، كالصور التي على علب المواد الغذائية. فأما هذه فوجودها في البيت لا إثم فيه بشروط:
1- أن تعم بها البلوى.
2- أن يشق التحرز.
3- أن تكون الصورة غير مقصودة من المشتري.
والدليل على ذلك عمومات الأدلة قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 7].
وقاعدة: «المشقة تجلب التيسير» علمًا بأنه لو احترز وتجنب العلب التي فيها صور إلى علب لا صورة فيها أو وجد في نفسه قوة للطمس ولا يشق عليه، فهذا أكمل، إلا أن بعض الصور في العلب أو الكراتين بعضها أشد من بعض، مثل من الفتنة فيه فهذا يعتنى به أكثر.
مسألة: وهل الصور تمنع دخول الملائكة؟(1/336)
أما الصور الممتهنة، والصور التي عمت بها البلوى، والصور التي لا تبقى معها حياة، فهذه لا تمنع الملائكة، وكذلك الصور التي لا روح فيها.
أما صور ذوات الأرواح، أو التي فيها مضاهاة، فهذه تمنع دخول الملائكة، الحديث «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة».
كلمة صورة: عام مخصوص، فإن بعض الصور لا تمنع الملائكة وهي التي سبق الإشارة إليها.
قول الملائكة: هل "أل" للعموم فلا تدخل حتى الحفظة والرقيب، والملائكة الملازمون للإنسان؟
"أل" المراد بها هنا العهد، والمقصود ملائكة الرحمة والملائكة السيارة، ودليل التخصيص قوله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، وقوله: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ } [الانفطار: 11، 12] هذا أصل في الملازمة، وهو اختيار النووي.
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه:
قال الله تعالى: هذا يسمى حديثًا قدسيًا.
من: الأسلوب أسلوب نفي أي: لا أحد أظلم.
أظلم: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وهل هو ظالم مطلقًا؟
لا. وإنما في باب المضاهاة لله في الخلق والتصوير، لأن «أظلم» تُفسر في كل سياق بحسب ذلك السياق.
ذهب: قصد، وهذه كلمة مهمة في الحديث. لو أراد بالتصوير قصد المضاهاة.
يخلق: أي يصنع، ويدخل فيه التصوير.
كخلقي: الكاف للتشبيه، فيكون المعنى: أن يصور تصويرًا يضاهي خلق الله.
فليخلقوا: اللام للتحدي والتعجيز.
ذرة: صغار النمل، وهذا مثال لما فيه روح.
واختار الذرة؛ لأنها من أضعف المخلوقات.
أو: حرف عطف يقصد بها التنويع.
حبة: أي حبة قمح.
شعيرة: المعروف، والمراد عموم الحبوب.
مناسبة الحديث: أن من صور بقصد المضاهاة فإن هذا كفر أكبر؛ سواء كان ذات روح أم لا، لأنه صور صورة على شكل خلق الله بقصد المضاهاة قال تعالى: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } [الأعراف: 54].(1/337)
أخرجاه: قاله المصنف مع أن الضمير لم يعد على سابق، فهذا يوحي أن للمصنف اصطلاحًا في التخريج.
ولهما: أي البخاري ومسلم.
أشد الناس عذابًا: ظاهر الحديث أن المصور أشد الناس عذابًا، وهذا فيه إشكال لأنه من المعروف أن أئمة الكفار من أشد الناس عذابًا قال تعالى: { أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46]، وقال تعالى في المنافقين: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء: 145].
ولذا اختلف العلماء في التوفيق على أقوال:
القول الأول: على تقدير "من" أي: إن من أشد الناس عذابًا، فتكون "من" تبعيضية.
القول الثاني: أشد العذاب في باب المضاهاة والمحاكاة لفعل الله، فأشدهم المصور.
فيكون أشد من المتكبر فالمتكبر مضاهي لله.
القول الثالث: أن الأشدية نسبية باعتبار الذين يصنعون الصور، فيكون أشد الناس في باب التصوير هو المضاهي في التصوير، والذي تميل إليه النفس الأخير؛ لدلالة السياق بقوله: «يضاهئون بخلق الله».
وعلى ذلك فيكون تفسير الناس: أي المصورين، فأل للعهد.
وعلى ذلك فالمصورون أقسام:
1- المصور المضاهي.……2- المصور للتجارة والعبث بدون مضاهاة.
وأشدهم المضاهي.
يضاهئون: أي يقصدون بالتصوير المضاهاة.
مناسبة الحديث: أن المصور ونيته في التصوير المضاهاة أنه كافر، وعمله ينافي التوحيد.
ولهما عن ابن عباس.
كل مصور: كل من ألفاظ العموم إلا ما استثني.
قوله: مصور: هل هو المحترف والممتهن أو العامل ولو مرة؟
يأتي في الحديث الذي بعده أن المقصود العموم؛ سواء كانت حرفة له أو فعلها مرة.
قوله "في النار" هل هو فيها خالد أم داخل بدون خلود؟ على حسب التقسيم السابق:
فإن صور مضاهئا التماثيل التي تعبد فهذا خالد، وإن كان تصويره لغير قصد المضاهاة فهذا تحت المشيئة، فإذا لم يشأ الله له العفو فإنه يدخل لكن لا يخلد، لأن معه أصل الإيمان.
يجعل: الجعل هنا قدري.(1/338)
له: دليل على أن العقوبة في حديث المصور لعامل الصورة فقط وحده، وأما المصور له فظاهر الحديث أنه لا يدخل، وإن كان يأثم إن صوَّر له صورة لا تجوز ويكون فاعل لكبيرة من كبائر الذنوب.
بكل صورة: أي بعدد ما صور.
نفس يعذب بها: أي أن الله يسلط عليه هذه الصورة التي صورها ويجعلها وسيلة
تعذيب عليه لقوله "بها"، فتكون هي الواسطة، فالباء هنا مثل قولك "كتبت بالقلم".
أما محل التعذيب فهو في جهنم، وهذه إحدى عقوبات المصور، وهي ثلاث عقوبات تأتي البقية.
ولهما عنه: أي عن ابن عباس، فالضمير عائد إلى أقرب مذكور.
مرفوعًا: حقيقة، فهو في قوة قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
من: شرطية عامة إلا ما استثني، كما لو صور الصغير أو المجنون، لحديث «رفع القلم عن ثلاثة» لكن ينهى من باب التعويد.
صور: أي عمل الصورة.
صورة: نكرة في سياق الشرط فتعم إلا ما استثني، كالممتهن، وما لا تبقى معه حياة.
ويؤخذ من قوله «صورة» أي ولو مرة واحدة، فلا يشترط الاحتراف، أو أن تكون مهنته التصوير.
في الدنيا: لبيان الواقع.
كُلف: أي أمر، وهذا في الآخرة.
وهل في الآخرة تكليف؟
أما تكليف بمعنى أنه يثاب عليه إذا عمله فهذا لا يوجد في الآخرة، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «إذا مات العبد انقطع عمله ...».
إلا في صور معدودة، كأهل الفترات، والأصم، والمجنون، فهؤلاء يمتحنون يوم القيامة. أما تكليف أمر فيوجد في الآخرة كما في هذا الحديث وغيره.
أن ينفخ: أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر أي: كلف النفخ تعجيزًا وتوبيخًا وإظهارًا لحقارته وضعفه.
الروح: أل للعهد، أي: الروح المعروفة.
وليس: حرف نفي، المنفي عنه القدرة، وهذه العقوبة الثانية للمصور.
مناسبة الحديث: تحريم التصوير وأنه ينافي التوحيد أو كماله الواجب، وتحصل من الحديثين السابقين أنواع العقوبات للمصور وهي كالتالي:
1- أنه في النار.
2- يجعل له بكل صورة نفس يعذب بها في جهنم.(1/339)
3- تكليفه النفخ فيما صور.
ولمسلم عن أبي الهياج ...
أبو الهياج: اسمه حيان بن حصين تابعي.
قال لي: الظاهر أنه قول وأمر؛ لأنه كان كاتبًا لعلي بن أبي طالب، فيكون نائب الإمام في تغيير هذا المنكر.
ألا: أداة تنبيه.
تدع: أي تترك.
صورة: نكرة في سياق النهي فتعم؛ إلا إنه مخصوص بما لا يجوز من الصور.
طمستها: الطمس هو المحو، وجاء عند أحمد: إلا لطختها، وبالنظر إلى هذا الحديث والأحاديث الأخرى فإن الطمس أنواع:
مسألة: أنواع الطمس:
الأول: أن يطمس الصورة كلها سواء كان الرأس أو بقية الصورة؛ لأن الضمير في طمستها يعود إلى الصورة كلها، ويكون بحك الصورة جميعها وهذا أكمل الأنواع.
الثاني: الطمس الجزئي، وهذا خاص بطمس الرأس، ويدل عليه حديث جبريل «مر برأس التمثال فليقطع». وقلنا طمس الرأس وليس طمس الوجه فقط من العينين والأنف ونحوه بل كل الرأس ومعه الشعر لأنه من الرأس وكذا دائرته أي استدارة الرأس لا تظهر أيضًا.
فالطمس يكفي، ولو أزيل الرأس فهذا أكمل.
وهل إذا قطع الرأس مع بقاء الجذع يكفي، أو لا بد أن يغير الشكل حتى ينتقل إلى هيئة أخرى؟
هذا قال به بعض أهل العلم قال: المقصود تغيير الهيئات لا قطع الرأس فقط، واستدلوا بحديث جبريل: «حتى تكون كهيئة الشجرة».
القول الثاني: أنه يكفي طمس الرأس وإزالته؛ لأنه في حديث جبريل لم يقل «اجعله كهيئة الشجرة» ولكن إذا قطعت الرأس أصبح كهيئة الشجرة، وهذا هو الراجح.
الثالث: فصل الرأس عن الرقبة مع بقاء الرأس، وإنما يجعل بينهما ممر أو فراغ أو وضع خط بين الرقبة والرأس، وهذا لا يكفي لحديث «مر بالرأس فليقطع»، وحديث «إنما الصورة الرأس».
الرابع: التلبيس مع بقاء الرأس؛ بمعنى أن الصور تستر أو يوضع عليها لاصقة كخرقة ونحوها مع بقاء الصورة داخل الستار.
والظاهر أن ذلك يجوز.
الخامس: قلب الصورة أو إخفاؤها، وهذا لا يكفي، وهو لا يسمى طمسًا في اللغة العربية.(1/340)
مسألة: الرقبة هل هي مثل الرأس في وجوب الإزالة؟
الحديث ذكر الرأس، والرقبة مسكوت عنها، والراجح تزال الرقبة لأنه بزوالها يكون أقرب لهيئة الشجرة وأبعد عن الصورة، وتبعية الرقبة للرأس أقرب من الجسم فحكمها حكم الرأس بالتبعية.
مسألة: لو أن الصورة أو التمثال كان مكشوف الجمجمة حتى يصل إلى الدماغ فهل هذا يزيل الإثم عن الصورة؟
قال به بعض المعاصرين، فقال: إن بإزالة الجمجمة أو الحفر بالرأس حتى يصل إلى الدماغ أنه لا تبقى الروح معه، وكل ما لا تبقى الروح معه فهذا يجوز، وهذا القول ضعيف جدًا؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الصورة الرأس».
مسألة: حكم ما يسمى بالعرائس.
جاء في الصحيح أن عائشة كان لها بنات تلعب بهن، والبنات هي أشكال مصنوعة من القطن فيها رأس وأعضاء، وأن لها فرس له أجنحة، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وعليه فإن عرائس البنات وما شابه ذلك فإن هذا جائز للبنات ويقاس عليه الأولاد فيما يختص بهم من ألعاب، كلعب الخيول ونحو ذلك.
وهي مستثناة في حق الصغير وضده البالغ، وعلى ذلك فإذا بلغ الطفل فلا تجوز هذه في حقه.
وهل العرائس الموجودة الآن حكمها حكم البنات قديمًا؟
صور العرائس وما يلحق بها من حيث الشكل تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: صورة ساذجة بسيطة ليس فيها إلا الأعضاء فقط، كالرأس واليد والقدم والجذع ونحو ذلك بدون تفاصيل وتقاسيم أي ليس فيها صورة الوجه.
القسم الثاني: صور يتبين فيها خلق الإنسان، تمامًا وتظهر فيها تقاطيع الوجه من العيون والأنف والفم والأصابع كأنك تشاهد الإنسان.
أما القسم الأول الساذج، فهذا لا إشكال في جوازه، وهو الموجود في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأما القسم الثاني ففيه إشكال؛ لأن الأصل تحريم التصوير، فإذا أجيز من المحرم فإنه يقتصر على قدر الحاجة، وهي بهذا الشكل أكثر من الحاجة ففيها أشياء لا حاجة لها.(1/341)
مسألة: هل هناك فرق بين أن نصنع لهم اللعب أو أن نشتريها جاهزة؟
أما اقتناؤها فجائز، ويظهر لي -والله أعلم- أنه يجوز شراؤها وصنعها لهم.
ولو قال قائل لماذا لا نجعلها مثل مسألة الكلب، فيجوز اقتناؤه ولا يجوز شراؤه ولا بيعه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن ثمن الكلب»؟ قلنا الأصل الإباحة. والدليل خاص بالكلب.
مسألة: هل هناك فرق في مادة صنع الصورة؟
الجواب: لا فرق، فلو كانت من بلاستيك أو صلصال أو قطن أو طين أو بالقلم لا فرق.
مسألة: إذا ألزم الطالب بأن يرسم صورة وإلا تعرض للرسوب أو نقص الدرجات فما الحكم؟
هذه من المشاكل التي تحصل،والذي أرى أن الطالب يمتنع عن ذلك، وإلا يرسم صورة تجوز كشجرة ونحوها.
مسألة: حكم الصور في النقود:
حكمه: حرام، ويكون الإثم على من وضعها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مصور في النار»؛ خصوصًا إذا صور عليها الملوك والعظماء فإن هذا أشد في التحريم.
مسألة: حكم صور الملوك والعظماء إذا وضعت في المجالس والدوائر الحكومية.
الجواب: لا يجوز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مصور في النار»؛ لا سيما أنها تعظيم، فجمعت بين إثمين إثم التصوير وسيئة التعظيم.
مسألة: علمنا أن الصور في النقود محرمة فهل يجوز الاحتفاظ بها والتعامل بها؟
الجواب: نعم يجوز؛ لأنه ضرورة، ويكون الإثم على من تسبب في ذلك.
ويجوز أيضًا الصلاة فيها، فيدخل المسجد، ويدخل فيما يشق التحرز منه وما عمت به البلوى، لكن الأكمل عدم الصلاة فيها وعدم الدخول فيها إلى المسجد.
مسألة: الصور في التعليم.
مثال ذلك وضع الصور في الكتب الدراسية لتعليم الطلاب، أو جعل تماثيل وهياكل لتعليم الطلاب.
أما إن كان للكبار وهو من بلغ فهذا لا يجوز لعموم الأدلة. والتدريس بالصورة ليس ضروريًا حتى نقول إنه من باب الضروريات، والأجيال قبلنا درست وتعلمت بدون صور، هذا بالنسبة لواضعها.(1/342)
أما بالنسبة للطالب، فإن قدر على الطمس وإلا يلحق بما عمت به البلوى وشق التحرز منه.
أما في تعليم الصغار، فيجري فيه الخلاف كما مر، فمن أجاز الصور للصغار في اللعب أجازه في التعليم؛ إلا أن مسألة التعليم ليست كمسألة التسلية. والراجح المنع حتى في التعليم للصغار.
بقي لو قيل: ندرس التمثال أو الصورة بدون رأس، فهذا لا بأس بها دوامًا لا ابتداءً وقد مر الفرق بينهما.
بقي لو قيل: ندرس الرأس منفصلاً، فهذا لا يجوز.
مسألة: لو كان في كلية الطب ممن يحتاجون هذه الأمور فهل يجوز؟
إن كان ضروريًا لتعليمهم فهذا جائز، لأن تعلم الطب فرض كفاية، فلا بد من تخريج أطباء، فإذا كان لا يمكن إلا بالتصوير والتماثيل فلا مانع.
مسألة: الصورة في التلفاز والفيديو.
أما التلفاز فحكمه حرام، والحكم على من وضعه وأفسد الناس به ولا يجوز النظر
إليه ولا اقتناؤه، ومثله الفيديو، فحكمه عندي التحريم كحكم التلفاز في التصوير.
ويحتج بعض الآباء بخروج أبنائه خارج البيت، فهذه حجة واهية لا تجيز إدخال التلفاز إلى البيت.
مسألة: الصور في المجلات.
كذلك الصور في المجلات لا تجوز لعموم الأدلة.
مسألة: حكم اقتناء المجلات التي فيها صور:
المجلات على أقسام:
الأول: المجلات الخليعة، فهذه لا يجوز اقتناؤها ولا شراؤها من أجل الصور، ومن أجل الشر الذي فيها؛ بل تجب مقاطعتها ومحاربتها، ويجب على ولاة الأمر منع هذه المجلات.
الثاني: المجلات التي يدعى فيها نفع مثل ما يسمى بالمجلات الإسلامية، فهذه إن أُشتريت من أجل الصورة فتحرم وإن أُشتريت من أجل ما فيها من خير، ولم تكن الصورة مقصودة، ولم يترتب على ذلك مفاسد إن اشتراها وطمس ما فيها من الصور فلا مانع وإلا فلا.
مسألة: حكم دخول البيت الذي فيه صورة؟
المقصود بالصورة التي لا تجوز، أما ما يجوز بقاؤها ولا إثم فيها فلا تدخل معنا في البحث.(1/343)
جاء في الحديث الصحيح حديث النمرقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «امتنع من الدخول على عائشة لما رأى أن الستر فيه تصوير»، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا ودعوته، فرأى في البيت تصاوير فرجع. [رواه ابن ماجه وأبو يعلى]، وقول عمر للنصارى: «إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها» رواه البيهقي بسند صحيح، وعليه فلا يجوز الدخول فيها. فلا يدخل إلا إذا دخل للإنكار، فإن قبلوا وإلا غادر.
وهل هذا عام في البيت كله أم أنك تترك الغرفة التي فيها صور؟
الجواب: الثاني.
وهل الصورة في التلفاز والفيديو إذا كانت في البيت مثل غيرها؟ هذه تحتاج إلى بحث.
مسألة: الصلاة في أماكن الصور؟
هذه المسألة مرت في باب «التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده».
مسألة: أغراض اتخاذ الصور واقتناؤها؟
1- للتعظيم، وهذا أشدها تحريمًا.
2- للذكرى.
3- للشهوة والتلذذ، وهذه الثلاثة كلها محرمة لعموم الأدلة، وبعضها أشد من بعض.
4- للتعليم، ومر علينا التفصيل في هذه المسألة. والراجح المنع.
5- أن يقتنيها لأنها مفروضة عليه، كالبطاقة والرخصة والتابعية.
أما إذا كانت الصورة ضرورية ويشق على الإنسان فهذه تجوز، ويكون الإثم على الحكومة.
مسألة: الصور مجزأة الشكل والهيئة، كما لو رسم إعلانًا ورسم فيه يدًا فقط أو رجلاً، ولكن لم يضع الرأس فما الحكم؟
الظاهر أنه لا يجوز، لعموم الأدلة. وللتعليل لأنها بعض ذوات الأرواح.
وهل هناك فرق بين الابتداء والدوام؟ الجواب نعم.
مسألة: حكم النظر إلى الصور، كالصور التي في المجلات.
ما أبيح النظر إليه في الواقع جاز النظر إليه في الصورة. وعلى ذلك فالنظر إلى صور النساء أو الشباب بشهوة فهذا لا يجوز.
مسألة: الصور في ملابس الأطفال:(1/344)
هذه لا تجوز وإن كانت للصغار لعموم الأدلة، وأما الأطفال فاستثني لهم اللعب من أجل التمرن والتسلي، وأما باب اللباس فهذا يختلف لأنه باب زينة.
مسألة: ما يضعه المزارعون على هيئة إنسان لطرد الطير ونحو ذلك؟
هذه مسألة تحتاج إلى بحث.
مسألة: لو طمس الوجه مع بقاء الرأس هل يكفي؟
لا. لا يكفي لحديث: «إنما الصورة الرأس» بل لا بد من إزالة حتى استدارة الرأس لأن الأصل فيه القطع والكسر.
باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة: 89]
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب» [أخرجاه].
عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشميط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» [رواه الطبراني بسند صحيح].
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ «ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن».
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته».
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
قال الشارح:
المسألة الأولى: علاقة هذا الباب بالتوحيد.
من تمام تعظيم الله تعظيم اسمه عن كثر الحلف.
ومن تمام تعظيمه أيضًا ألا يحلف به إلا صادقًا.
وهذا الباب والباب الذي بعده عن نفس الموضوع، وهو عن تعظيم الله باحترام اسمه.
المسألة الثانية: تحليل الترجمة.(1/345)
قوله: كثرة: خرج به القلة، هذا في صورة من صور الحلف إذا كان صادقًا، فإنه يمنع الكثرة.
قوله: الحلف: هو تأكيد الشيء بمعظم، والمعظم هو الله أو صفة من صفاته.
والمصنف أراد أن يبين الأحكام التالية:-
1- حكم الحلف بالله كاذبًا.
2- حكم كثرة الحلف بالله صادقًا.
المسألة الثالثة: ما هو حكم الحلف؟
أما الحلف بالله كاذبًا فهذا محرم ولا يجوز؛ لأن فيه استخفافًا بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ويدل عليه حديث عمران بن حصين في الباب.
أما الحلف بالله صادقًا: أما كثرته مع الصدق فهذه لا تجوز، لقوله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة: 89].
المسألة الرابعة: كيف الجمع بينها وبين ما جاء في النصوص من حلف
الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
الجمع: إن كان الحلف لسبب شرعي فهذا يجوز، كالحلف على الأحكام الشرعية لتأكيدها، أما إن كان الحلف لغير سبب فهذا لا يجوز إن كان يكثره.
المسألة الخامسة:
القسامة فيها أيمان كثيرة؛ حيث يحلف أولياء المقتول خمسين يمينًا، فيقال: الحلف بالقسامة له سبب شرعي وهو إثبات القاتل بناء على قرينة العداوة.
المسألة السادسة:
يخرج من كثرة الحلف ما يسمى بـ"لغو اليمين" لأنه معفو عنه، قال تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } [البقرة: 225]، وهي مثل قول الرجل: لا والله، بلى والله، ونحو ذلك مما يجري على الألسنة من غير قصد.
ولغو اليمين على المذهب: أن يحلف على شيء يظن صدق نفسه فبان خلافه.
وقول الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة: 89] له معنيان:
الأول: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال «لا تحلفوا»، وهذا تفسير صحابي، ولكن معنى كلامه أي: لا تحلفوا لغير سبب شرعي، أما لو وجد مبرر وجيه فلا مانع من الحلف.
الثاني: قول ابن جرير «أي لا تتركوها بدون تكفير، فإن من حفظ اليمين التكفير إذا حنث».
ويكون المعنى مركبًا من المعنيين كالتالي:(1/346)
لا تحلفوا ابتداء من غير سبب، وإذا حلفتم فكفروا.
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
الحلف: تأكيد الشيء بمعظم.
منفقة للسلعة: أي يروج السلعة، فيكون وسيلة لبيعها بسرعة؛ لأن البائع إذا حلف أنها بكذا صدقه المشتري فاشتراها حسب حلفه.
هل الحلف هنا يقصد به الحلف الصادق أم الحلف الكاذب؟
كلاهما، أما الحلف الكاذب مثل أن يقول: والله اشتريتها بكذا وهو يكذب، ويثبت للمشتري خيار التخيير بالثمن.
أما لو حلف صادقًا فهذا أيضًا يساعد على رواج السلعة؛ إلا أنه لا يجوز؛ لأنه لم يكن هنالك سبب بأن يحلف على البيع والشراء.
ويأتي حديث سلمان دليل على ذلك.
المحق: هو النقص والمحق ذهاب البركة، ويكون في الدنيا أو في الآخرة.
للكسب: دليل أن الذي يمحق ليس الربح فقط؛ بل الكسب كله.
مناسبة الحديث للباب: أن الحلف كذبًا أو صدقًا بكثرة من غير سبب مما ينافي كمال التوحيد.
حديث سلمان رضي الله عنه:
ثلاثة: هذا من باب تقريب وتسهيل العلم وإلا من فيه هذا الوعيد أكثر من ذلك.
لا يكلمهم الله: لا نافية، وجاء في الحديث «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه...».
الجمع: جمع بعض أهل العلم بالتفريق بين الكلام، فالكلام المثبت «إلا سيكلمه» هو كلام المحاسبة، والكلام المنفي هنا هو كلام الرضا والثواب والرحمة، وعلى هذا المعنى يكون هؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله كلام رحمة ولكن يحاسبهم.
الجمع الثاني: بناءً على اختلاف المواطن، فيحمل على موطن دون موطن، قال في "قرة العيون": «قد تواترت الأدلة أن الله يكلم أهل الإيمان ويكلمونه في عرصات يوم القيامة».
ولا يزكيهم: أي من دنس الذنوب.
ولهم عذاب أليم.
فذكر ثلاث عقوبات: عدم التكليم، وعدم التزكية، والعذاب.
أُشيمط: من كثر فيه الشيب، وخص بذلك لأن دواعي المعصية ضعيفة لديه، وإلا فالزنى محرم على كل الأشخاص، لكن هذا أشد.
عائل مستكبر: عائل بمعنى معول فهناك من يعوله ويقصد به الفقير.(1/347)
والفقير دواعي الاستكبار ضعيفة لديه، فاستكباره مع فقره يدل على ما في قلبه من الكبر العظيم.
ورجل جعل الله بضاعته: هذا هو الشاهد، ويدل على أنه يلازم اليمين ويكثر منها لقوله: «بضاعته».
وهذا يدل على تحريم كثرة الحلف ولو كان صادقًا؛ لأن فيه استهانة بتعظيم الله مما ينافي كمال التوحيد.
مسألة: الحلف الصادق يحرم فيه شيئان:
الأول: الكثرة فيه من غير سبب.
الثاني: ألا يكفر إذا حنث.
رواه الطبراني بسند صحيح.
حديث عمران بن حصين:
خير أمتي: أثبت الخيرية للأمة، لكن بعض القرون أفضل من بعض.
أمتي: أمة الإجابة.
قرني: مشتق من الاقتران، وهم أهل العصر المتقاربين سنًا وعادة وخلقًا.
وبعض أهل العلم يحدد القرن بالسنوات ويجعله مائة عام، والأول أقرب.
قرني: يقصد بهم الصحابة فهم أفضل القرون.
ثم: للترتيب، فرتبة عصر التابعين بعد رتبة عصر الصحابة.
الذين يلونهم: هذا قرن التابعين.
ثم الذين يلونهم: هم قرن أتباع التابعين.
قال عمران: فلا أدري: هذا شك من عمران.
والقاعدة في مثل هذا: أن يُبنى على الأقل؛ علمًا بأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه دل على أن المذكور قرنان.
ثم يأتي بعد ذلك قوم: قوله "قوم" باعتبار الأغلبية، فما بعد القرون المفضلة يغلب الشر، ولكن لا يزول الخير لحديث: «لا تزال طائفة من أمتي ...».
وبعد القرون المفضلة يضعف وازع الإيمان، وذكر في الحديث مظاهر الانحراف بعد القرون المفضلة وهي ثلاثة:
الأول: الاستخفاف بالشهادة لقوله «يشهدون ولا يستشهدون».
الثانية: الاستخفاف بالأمانة.
الثالثة: الاستخفاف بالنذر.
والشاهد من الحديث: دلالة الاقتران؛ لأن الحلف يقترن بالشهادة، فمن استخف بالشهادة استخف بالحلف.
وقوله «يظهر فيهم السمن»: أي يعتنون بأسباب الدنيا والتنعم، والسمن ليس مذمومًا لذاته، فيدخل في ذلك من اهتم بأسباب التنعم ولو كان ضعيفًا.
ويخرج السمين خلقة إذا كان لا يهتم بأسباب الدنيا.(1/348)
وفيه: أي البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه:
خير الناس: أل للعموم.
قرني: أي الصحابة.
ثم الذين يلونهم: أي التابعين.
ثم الذين يلونهم: أي أتباع التابعين.
ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه.
مناسبة الحديثين: أن الكذب في اليمين ينافي كمال تعظيم الله الواجب.
إبراهيم النخعي: من أتباع التابعين.
كانوا يضربوننا: أي أولياء الصغار.
على الشهادة: يحتمل على ابتداء الشهادة حتى لا يستخفوا بها، ويحتمل الكذب في الشهادة.
والعهد: مثل الشهادة، وصورته: عليّ عهد الله أن أفعل كذا.
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقول الله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [النحل: 91] الآية.(1/349)
عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري، أتصيب فيهم حكم الله أم لا»؟ [رواه مسلم].
المسألة الأولى: علاقة هذا الباب بكتاب التوحيد.
أن عدم الوفاء بذمة الله نقص في تعظيم الله.
وصورة «في ذمة الله» أن يقول: أعاهدك بالله، أو لك عهد الله وميثاقه.
ومثله «ذمة نبيه»؛ إلا أن الظاهر في ذمة نبيه وقت حياته.
المسألة الثانية: شرح الترجمة.
باب ما جاء: أي من الوعيد.
ذمة الله: الذمة هي العهد.
وذمة نبيه: أي عهد نبيه وميثاقه.
المسألة الثالثة: حكم إعطاء عهد الله وميثاقه وذمته؟
لها حكمان:
أما ابتداؤها فلا يجوز، لحديث الباب والشاهد «فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه».(1/350)
أنها إذا أعطيت فيجب الوفاء ويحرم النقض، ويدل عليه الآية { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } .
الآية: فيها وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق.
حديث بريدة: قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ... الحديث.
هذا الحديث يحوي تعليمات وتوجيهات للمجاهدين:
التوجيه الأول: فيما يخص الأمير، فأوصاه بتقوى الله.
التوجيه الثاني: أوصاه بمن معه من المسلمين خيرًا.
التوجيه الثالث: فيما يخص الجيش:
1- أن يكون جهاده خالصًا لوجه الله في سبيل الله.
2- عدم الغلول والغدر والتمثيل وقتل من لا يستحق ذلك.
التوجيه الرابع: فيما إذا لقي الكفار عليه أن يدعوهم إلى ثلاث خصال:
1- الدعوة إلى الإسلام.
2- إذا امتنعوا فالجزية.
3- القتال.
قوله «فأرادوك»: أي طلبوا منك عهد الله على سلامة أنفسهم وأموالهم.
فلا تجعل لهم: أي لا تعطهم العهد باسم الله أو باسم نبيه؛ لأنه نائب عنه.
وقوله لا تجعل: لا: ناهية والنهي يقتضي التحريم.
ثم بين له البديل فقال:
ولكن: للاستدراك.
اجعل لهم ذمتك: أي عهدك وعهد أصحابك.
ثم بين العلة وأن ذلك قد يؤدي إلى الاستخفاف بتعظيم الله عندما تخفر الذمة.
مسألة: العهد(1) باعتبار من يُعطى له على قسمين:
1- ما يُعطى للمقاتلين والخصوم في المعركة فهذا لا يجوز ابتداؤه، ويجب الوفاء به لو ابتدئ.
2- ما يعطيه الإنسان لآحاد الناس بقوله: عليّ عهد الله بأن أسافر معك، أو علي عهد الله بأن لا ألبس هذا الثوب، فهذا حكمه حكم اليمين ابتداءً ووفاءً.
باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك» [رواه مسلم].
__________
(1) المقصود به عهد الله.(1/351)
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قال الشارح:
المسألة الأولى: معنى الإقسام على الله.
أي بأن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه ألا يفعل، وهذه صيغته.
المسألة الثانية: شرح الترجمة.
باب ما جاء: أي من الوعيد.
وقوله على الله: ليست هنا بمعنى الباء أي ليس الإقسام بالله فهذا لا بد منه أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته وهذا مرّ في أبواب سابقة.
الإقسام: أي الحلف، ومثاله: «والله لا يغفر الله لفلان» أو «والله لا يوفَّق الله فلانًا».
المسألة الثالثة: أحكام الإقسام على قسمين:
الأول: الإقسام على الله أنواع:
النوع الأول: أن يحلف على معين، مثال: «أن يحلف على معين بعدم المغفرة أو الفضل» ونحو ذلك مثل: «والله لا يغفر الله لفلان» مثال الفضل: «والله لا يرزق الله فلانًا».
أما حكمه: فهو حرام وينافي التوحيد أو كماله الواجب، فإن كان من باب العجب بالنفس واحتقار المحلوف عليه، فهذا محرم، وإن كان من باب نسبة الله إلى العجز، أو أنه متصرف مثل الله، فهذا يُنافي التوحيد.
النوع الثاني: الإقسام على وجه الثقة بالله وإحسان الظن بالله ومنه حديث أن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه ومنه قسم أنس بن النضر لما قال والله لا تكسر ثنية الربيّع. وهذا النوع يجوز.
النوع الثالث: الإقسام على الأحكام الشرعية مثل قسم ابن عمر على القدرية في قوله والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه. ومثل قول الرجل والله لا يقبل الله من منافق. وهذا يجوز.
النوع الرابع: الإقسام على النوع مثل والله لا يغفر الله للزاني ونحوه. والفرق بين وبين الأول أن الأول للعين أي هذا الزاني والرابع للنوع أي لا يغفر الله للزاني، وهذا القسم لا يجوز؛ لأن فيه تعميم ينافي المشيئة فإن من ارتكب الزنا تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه.(1/352)
النوع الخامس: الإقسام على الله من باب عدم فعل ما حث الله عليه مثل قول رجل: والله لا أتصدق اليوم «أي تطوعًا» لحديث أن رجلاً تخاصم مع رجل في حق فقال والله لا أفعل لما قيل له صالحه رواه البخاري. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذا الذي يتألى على الله أن لا يفعل المعروف. أما الإقسام على عدم فعل الواجب فهذا اعتراض على الشرع مثل والله لا أحج أو لا أصلي في المسجد. وكل هذا في باب حقوق الله أما حقوق الخلق ففيه تفصيل.
مسألة: الإقسام على المخلوق، مثاله: أن تقول لشخص: «والله لتسافرن» ونحو ذلك، وهذا لم يرده المصنف، ولكن يستحق إبرار المقسم إن حلف على مباح ولا يجب، فإن لم يف فعلى المقسم الكفارة.
حديث جندب بن عبد الله:
قال رجل: من بني إسرائيل كما جاء في حديث أبي هريرة، وهو باعتبار الصفة عابد مجتهد قائم بإنكار المنكرات.
وقد جاء عند أبي داود أنه كان ينهاه عن المنكر.
والله: الواو واو قسم.
لا يغفر: لا: نافية.
المغفرة: هي الستر والتجاوز، وهو أقسم على الله بعدم المغفرة.
وجاء عند أبي داود: «ولا يدخلك الجنة».
والباعث على هذا القول شيئان:
1- من جهة ما في نفسه من الكبر والتعاظم بكونه رجلاً عابدًا، ولذا جاء في الحديث «من ذا الذي يتألى» أي: يتعاظم.
2- من جهة احتقار الشخص بأنه مذنب عاص، وهذا الشخص منع فضل الله الأخروي، ومثله الفضل الدنيوي، كما لو قال: «والله لا يرزق الله فلانًا أو لا يهبه ولدًا».
لفلان: أي الشخص العاصي المعين.
وجاء في حديث أبي هريرة عند أبي داود: أنه مذنب.
وهل هو ذنب يُخرج من الملة؟
لا. فذنوبه كانت معاصي لا تُخرج من الملة؛ بدليل آخر الحديث «قد غفرت له».
فقال الله عز وجل: هذا القول بعدما ماتوا وبعثوا كما في حديث أبي هريرة.
من ذا: استفهام إنكاري.
يتألى: التألي هو الحلف لكنه على وجه التعاظم والتفاخر.
إني قد غفرت له: جاء عند أبي داود «غفرت له برحمتي».(1/353)
وأحبطت عملك: ماذا أحبط؟ هل أحبط كل أعمال هذا العابد أم العمل الذي يفتخر به عليه؟
فإن كان الأول: فإن الرجل كفر بهذا القول؛ لأنه حبط عمله.
وإن كان الثاني: فيكون العمل الحابط هو إنكاره المنكر على هذا الذنب: وهذا الأقرب.
وظاهر كلام أبي هريرة الأول؛ لأنه قال: «تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته». لكن يقال هذا وعيد وليس من باب البيان والحكم.
مناسبة الحديث للباب: تحريم الإقسام على الله، وأنه يُنافي التوحيد أو كماله الواجب.
باب لا يستشفع
بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال:
جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله! سبحان الله!» فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد» وذكر الحديث. رواه أبو داود.
قال الشارح:
المسألة الأولى: تخريج الحديث:
وقع خلاف في تصحيح الحديث، فذكر الشارح أن الذهبي حسنه.
والقول الثاني أنه ضعيف؛ لأن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس، وفيه جبير بن محمد وهو مجهول، وعلى ذلك فالحديث ضعيف؛ لأن المُضعَّف فسر ضعفه.
المسألة الثانية:
وإن كان الحديث ضعيفًا فإن أصل المسألة صحيح؛ بمعنى أن هذا القول لا يجوز أن يقوله الإنسان، أي قول «استشفع بالله على أحد من خلقه»؛ لأن الاستشفاع بالله تنقيص لله، وقد دلت الأدلة والعقل على أن الله كامل قال تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص: 4]، قال: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255]، وقال: { هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر: 15].
المسألة الثالثة: معنى الاستشفاع:(1/354)
هو طلب الشفاعة، ومعناه: أن تجعل شفيعًا لك عند بعض خلقه، وتطلب من الله أن يتوسط لك عند الرسول، أو عند إنسان حي قادر بشيء من الخير أو من المعروف.
وغالبًا: المشفوع به أقل من الشافع؛ لأنه طالب والطالب أنزل مرتبة.
وصورة المسألة: أن يطلب من الله فيقول: يا الله اشفع لي أو توسط لي عند فلان أن
يقرضني مثلاً.
وأركانها ثلاثة:
1- شافع.
2- مشفوع له.
3- مشفوع عنده.
وشرطها: أن يطلب من الله بصيغة يا الله أو اللهم.
مسألة: الاستشفاع بالله على خلقه. هي غير مسألة الاستشفاع أو التشفع من الأموات والغائبين إلى الله فهذه الأخيرة شرك أكبر وهي مسألة الشفاعة المعروفة وقد تقدم بابها.
باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد
وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا، فقال: «السيد الله تبارك وتعالى». قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً؛ فقال: «قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان» [رواه أبو داود بسند جيد].
وعن أنس رضي الله عنه، أن ناسًا قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» [رواه النسائي بسند جيد].
قال الشارح:
المسألة الأولى:
مر علينا باب باسم «ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد ...»، وليس هناك تكرار، فإن هذا الباب يتعلق بسد طرق الشرك القولية، والباب الذي مضى في سد طرق الشرك الفعلية.
المسألة الثانية: شرح الترجمة:
هنا مثل شرح الترجمة السابقة إلا أنه يُضاف هنا: سد طرق الشرك القولية.
حديث عبد الله بن الشخّير: قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي «... الحديث».(1/355)
فقلنا: سبب القول أنهم أرادوا إظهار حبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتعبير بشعورهم تجاهه، وبيان مكانته، فمدحوه بحضرته بهذا الكلام، مع أنهم مدحوه بما هو أهله، وعلى ذلك فالكلام قيل على وجه المدح.
أنت سيدنا: هنا أضافوا السيادة وهي سيادة خاصة.
السيد الله: أل للعموم والاستغراق، لأن السيادة المطلقة والكمال لله تعالى. أما
معنى السيد باعتبار الناس فهو: المقدم في قومه.
ثم واصلوا كلامهم فقالوا: وأفضلنا فضلاً: أي أنت أكثرنا خيرًا.
طولاً: الطول هو: الغنى والقدرة، قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا } [النساء: 25]، فرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مستنكرًا بقوله.
قولوا: هنا أمر والأمر للإرشاد.
بقولكم أو بعض قولكم: لها احتمالان:
الأول: على تقدير حذف، أي: قولوا بقولكم المباح أو بعضه، وعلى هذا فقول: سيدنا لا يجوز.
الاحتمال الثاني: أي قولوا بقولكم الذي قلتم الآن «أنت سيدنا ...»، وأن هذا يجوز، ولكن تركه أولى من باب سد طرق الغلو.
ولا يستجرينكم: أي لا يجركم إلى الغلو.
مسألة: ما حكم قول سيدنا؟
هذه مرت معنا في باب «لا يقل عبدي وأمتي».
مسألة: ما حكم التسمية بسيد؟
أما إن كان لمجرد العلمية، فهذا يجوز، أما إن سُمي مع ملاحظة الصفة، فهذه لا تجوز.
إن قيلت على وجه المدح، فهذا لا يجوز، وفيه قول بأنه كراهية تنزيه.
مناسبة حديث عبد الله بن الشخّير:
يدل على عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، وذلك بسده طرق الشرك القولية وإن كانت بعيدة.
حديث أنس: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا ... الحديث.
الشاهد فيه: سيدنا وابن سيدنا.
وهذا فيه إشكال، إطلاق السيادة والخيرية على والد الرسول!
ولا يستهوينكم الشيطان: لأن المدح مطية للشيطان.
مناسبة الحديث: يدل على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - بسد وسائل الشرك القولية.
باب ما جاء في قول الله تعالى(1/356)
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الزمر: 67].
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول - صلى الله عليه وسلم -: « وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » [الزمر: 67] الآية.
وفي رواية لمسلم: والجبار والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثري على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. أخرجاه.
وفي رواية لمسلم: والجبار والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية البخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: «يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟!!».
وروي عن ابن عباس، قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم».
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس» قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض».(1/357)
وعن ابن مسعود قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من
أعمالكم». أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟» قلنا: الله ورسوله أعلم قال: «بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم» [أخرجه أبو داود وغيره].
قال الشارح:
المسألة الأولى: هذا الباب يتحدث في بيان عظمة الله تعالى، وأن من تعظيم الله ترك الإشراك معه، ومن أشرك فما قدر الله حق قدره.
قوله: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ ... } أي ما عظموا الله، و"الواو" تعود على المشركين.
ثم بين دلائل عظمة الله بالأمور التالية:
1- أن الأرض على عظمها قبضته يوم القيامة.
2- أن السماوات على عظمها مطويات بيمينه.
حديث ابن مسعود رضي الله عنه:
حبر: عالم من علماء اليهود.
نجد: أي في التوراة، وهذا مما بقي في التوراة لم يُحرف، وذكر هذا الحبر أمورًا تدل على عظمة الله، وأيده رسول الله على ذلك.
وذكر في الحديث ستة أشياء:
الأول: السماوات على إصبع.
الثاني: الشجر على إصبع.
الثالث: الماء على إصبع.
الرابع: الثرى على إصبع.
الخامس: سائر الخلق – من غير ما سبق – على إصبع.
السادس: الأرضين على إصبع.
وذكر المصنف رواية مسلم «ثم يهزهن فيقول: أنا الملك».(1/358)
المناسبة: يدل ذلك على عظمة الله سبحانه وتعالى، أما مسألة إثبات الإصبع لله وعددها، وكذلك اليد، وهل تثبت لله شمال؟
فيراجع فيها الواسطية.
حديث ابن عمر عند مسلم:
فيه عظمة الله، ومن مظاهر ذلك أنه يطوي السماوات بيده، وسماها هنا اليمنى، ويطوي الأرضين بيده، وسماها هنا شمالاً. لكن في هذه اللفظة شذوذ.
وهذه المسألة أيضًا بحثت في مذكرة الواسطية.
رُوي عن ابن عباس:
رُوي: صيغة تمريض.
وهذا الحديث الموقوف على ابن عباس وقع فيه خلاف، فصححه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الفتح، وذهب بعض أهل العلم إلى تضعيفه بسبب جهالة عمرو بن مالك؛ فالحديث ضعيف.
وقال ابن جرير: حدثني يونس...
هذا الحديث أيضًا ضعيف لسببين:
1- للإرسال.
2- فيه: عبد الرحمن بن زيد وهو ضعيف جدًا.
حديث أبي ذر رضي الله عنه:
هذا ضعيف أيضًا فيه: إسماعيل بن موسى.
وهذه الأحاديث الثلاثة السابقة وإن قلنا أنها ضعيفة من ناحية السند فمعناها صحيح وهي مندرجة تحت أصل صحيح ولذا فلا مانع من ذكرها وشرحها.
حديث ابن مسعود:
هذا الحديث حسن بطرقه، وقد صححه ابن القيم.
الفهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
باب كتاب التوحيد ... 7
باب "فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب" ... 19
باب "من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" ... 28
باب الخوف من الشرك ... 35
باب "الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله" ... 39
باب "تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" ... 44
باب "من الشرك لبس الحلقة والخيط" ... 52
باب "ما جاء في الرقى والتمائم" ... 56
باب "من تبرك بشجرة أو بحجر ونحوهما" ... 62
باب "ما جاء في الذبح لغير الله" ... 67
باب "لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله" ... 72
باب "من الشرك النذر لغير الله" ... 76
باب "من الشرك الاستعاذة بغير الله" ... 80
باب "من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره" ... 84(1/359)
باب: قول الله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ... 86
باب: قوله الله تعالى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } ؟ ... 92
باب: "الشفاعة" ... 97
باب: قول الله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } ... 103
باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم". ... 108
باب: "ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل" ... 114
باب "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد" ... 123
باب "ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق ... 130
باب "ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان" ... 138
باب "السحر" ... 147
باب "بيان شيء من أنواع السحر" ... 161
باب "ما جاء في الكهان ونحوهم" ... 168
باب "ما جاء في النشرة" ... 178
باب "ما جاء في التطير" ... 189
باب "ما جاء في التنجيم" ... 200
باب "ما جاء في الاستسقاء بالأنواء" ... 214
باب: قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } ... 225
باب: قوله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } ... 237
باب: قوله تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ... 245
باب: قوله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } ... 251
باب "من الإيمان الصبر على أقدار الله" ... 258
باب "ما جاء في الرياء" ... 267
باب "من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا" ... 276
باب "من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله" ... 283
باب: قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ... } ... 298
باب "من جحد شيئًا من الأسماء والصفات" ... 305
باب: قوله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } ... 310
باب: قوله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } ... 315(1/360)
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ... 323
باب قول: «ما شاء الله وشئت» ... 329
باب "من سب الدهر فقد آذى الله" ... 333
باب "التسمي بقاضي القضاة" ... 337
باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك ... 342
باب "من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول - صلى الله عليه وسلم -". ... 347
باب ما جاء في قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ } ... 353
باب: قوله تعالى: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ } ... 357
باب: قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ... 360
باب "لا يُقال السلام على الله" ... 364
باب "قول: اللهم اغفر لي إن شئت". ... 366
باب "لا يقل عبدي وأمتي" ... 369
باب "لا يرد من سأل بالله" ... 373
باب "لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة" ... 379
باب "ما جاء في اللَّو" ... 380
باب "النهي عن سب الريح" ... 385
باب: قوله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } ... 387
باب "ما جاء في منكري القدر" ... 392
باب "ما جاء في المصورين" ... 398
باب "ما جاء في كثرة الحلف" ... 414
باب "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه" ... 419
باب "ما جاء في الإقسام على الله" ... 422
باب "لا يستشفع بالله على خلقه" ... 426
باب "ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - وسده طرق الشرك" ... 428
باب "ما جاء في قوله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ... } ... 430
الفهرس ... 433(1/361)