فهرس المكتبة
شرح القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
مقدمة
قواعدُ في أسماء الله ـ تعالى ـ
قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
بقية شرح القواعد المثلى(1/1)
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له .
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له .
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا ـ .
وبعد : فإن الإيمان بأسماء الله وصفاته أحدُ أركان الإيمان بالله ـ تعالى ـ .
وهي : الإيمان بوجود الله ـ تعالى ـ، والإيمان بربوبيّته، والإيمان بألوهيّته، والإيمان بأسمائه وصفاته .
وتوحيد الله أحد أقسام التوحيد : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات .
فمنزلته في الدين عالية، وأهمّيته عظيمة، ولا يمكن أحدًا أن يعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكون على علمٍ بأسماء الله وصفاته ليعبده على بصيرة، قال الله ـ تعالى ـ : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ( وهذا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة (1) .
فدعاء المسألة : أن تقدِّم بين يدي الله مطلوبك من أسماء الله ـ تعالى ـ ما يكون مناسبًا مثل أن تقول : ( يا غفور اغفر لي ) و ( يا رحيم ارحمني )، و ( يا حفيظ احفظني ) ونحو ذلك .
ودعاء العبادة : أن تتعبّد لله ـ تعالى ـ بمقتضى هذه الأسماء فتقوم بالتوبة إليه لأنه التوّاب، وتذكره بلسانك لأنه السميع، وتتعبّد له بجوارحك لأنه البصير، وتخشاه في السر لأنه اللطيف الخبير، وهكذا .(2/1)
ومن أجل منزلته هذه، ومن أجل كلام الناس فيه بالحق تارة وبالباطل الناشئ عن الجهل أو التعصُّب تارة أخرى أحببتُ أن أكتب فيه ما تيسّر من القواعد راجيًا من الله ـ تعالى ـ أن يجعل عملي خالصًا لوجهه موافِقًا لمرضاته نافعًا لعباده .
وسمّيته : ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) (2) .(2/2)
قواعدُ في أسماء الله ـ تعالى ـ
القاعدة الأولى :
أسماء الله ـ تعالى ـ كلُّها حُسنى؛ أي : بالغة في الحسن غايته، قال الله
ـ تعالى ـ : ( ولله الأسماء الحسنى (؛ وذلك لأنها متضمِّنة لصفات كاملة لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه لا احتمالاً ولا تقديرً .
مثال ذلك
((الحي)) : اسمٌ من أسماء الله ـ تعالى ـ متضمِّنٌ للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم ولا يلحقها زوال؛ الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها.
ومثالٌ آخر
((العليم)) : اسمٌ من أسماء الله متضمِّنٌ للعلم الكامل الذي لم يُسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، قال الله ـ تعالى ـ : ( علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (؛ العلم الواسع المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً سواءٌ ما يتعلّق بأفعاله أو أفعال خلقه، قال الله ـ تعالى ـ : ( وعنده مفاتح الغيْب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (، ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌّ في كتاب مبين (، ( يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تُعلنون والله عليمٌ بذات الصدور ( .
ومثال ثالث :
((الرحمن)) : اسمٌ من أسماء الله ـ تعالى ـ متضمِّنٌ للرحمة الكاملة التي قال عنها رسول الله ( : ((لَلَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها)) ـ يعني : أمَّ صبيٍّ وجدته في السبي فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته ـ؛ ومتضمِّن ـ أيضًا ـ للرحمة الواسعة التي قال الله عنها : ( ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شيء (، وقال مِنْ دعاء الملائكة للمؤمنين : ( ربنا وسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا ( (3) .
والحسن في أسماء الله ـ تعالى ـ يكون باعتبار كل اسمٍ على انفرده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمالٌ فوق كمال :(3/1)
مثال ذلك : ((العزيز الحكيم)) فإن الله يجمع بينهما في القرآن كثيرًا، فيكون كلٌّ منهما دالاًّ على الكمال الخاص الذي يقتضيه وهو العزّة في ((العزيز)) والحُكم والحكمة في ((الحكيم))؛ والجمع بينهما دالٌّ على كمالٍ آخر وهو : أنّ عزّته
ـ تعالى ـ مقرونة بالحكمة؛ فعزتّه لا تقتضي ظلمًا وجورًا وسوء فعل كما قد يكون من أَعِزَّاء المخلوقين فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسيء التصرُّف .
وكذلك حكمه ـ تعالى ـ وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل (4) .
[ ناقصٌ ما بعده إلى قواعد في الصفات ](3/2)
فهرس المكتبة
قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ
القاعدة الأولى :
صفات الله ـ تعالى ـ كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزّة، والحكمة، والعلو، والعَظمة، وغير ذلك .
وقد دلّ على هذا : السمع والعقل والفطرة :
أما السمع فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثَل السَّوْء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (، والمثل الأعلى : هو الوصف الأعلى .
وأما العقل : فوجهه : أن كل موجود حقيقة فلا بد أن تكون له صفة إما صفة كمال وإما صفة نقص والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة؛ ولهذا : أظهر الله ـ تعالى ـ بُطلان ألوهية الأصنام باتّصافها بالنقص والعجز فقال ـ تعالى ـ : ( ومَن أضلُّ ممّن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (، وقال ـ تعالى ـ : ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يُخلقون أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيّان يُبعثون (، وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه : ( يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنك شيئًا ( وعلى قومه :
( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم أُفٍّ لكم ولِمَا تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ( .
ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوقات صفات كمال وهي من الله
ـ تعالى ـ؛ فمعطي الكمال أولى به (5) .
وأما الفطرة فلأنّ النفوس السليمة مجبولة مفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظِّم وتعبد إلا من علِمتْ أنه متّصفٌ بصفات الكمال اللائقة بربوبيّته وأُلوهيّته .
وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله ـ تعالى ـ كالموت، والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصَّمم، ونحوها لقوله(4/1)
ـ تعالى ـ : ( وتوكّل على الحي الذي لا يموت (، وقوله عن موسى : ( في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (، وقوله : ( وما كان الله ليُعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض (، وقوله : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (، وقال النبي ( في الدجّال : ((إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور))، وقال : ((أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا)) .
وقد عاقب الله ـ تعالى ـ الواصفين له بالنقص كما في قوله ـ تعالى ـ :
( وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلّتْ أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء (، وقوله: ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب
الحريق ( (6) .
ونزّه نفسه عمّا يصفون به من النقائص فقال ـ سبحانه ـ : ( سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون . وسلامٌ على المرسلين . والحمد لله رب العالمين (، وقال ـ تعالى ـ : ( ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذًا لذهب كلُّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون ( .
وإذا كانت الصفة كمالاً في حال ونقصًا في حال لم تكن جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتًا مطلَقًا ولا تُنفى عنه نفيًا مطلقًا، بل لا بد من التفصيل : فتجوز في الحال التي تكون كمالاً وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا، وذلك كالمكر والكيْد والخداع ونحوها فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها لأنها حينئذ تدلُّ على أنّ فاعلها قادر على مقابلة عدوّه بمثل فعله أو أشد؛ وتكون نقصًا في غير هذه الحال؛ ولهذا لم يذكرها الله ـ تعالى ـ من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرنا في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها كقوله ـ تعالى ـ : ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (، وقوله : ( إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا (، وقوله :(4/2)
( والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأُملي لهم إن كيدي متين (، وقوله : ( إن المنافقين يخادِعون الله وهو خادعهم (، وقوله : ( قالوا إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ( .
ولهذا لم يذكر الله أن خان من خانوه فقال ـ تعالى ـ : ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليمٌ حكيم (، فقال : ( فأمكن منهم ( ولم يقل : ( فخانهم )، لأن الخيانة : خدعة في مقام الائتمان وهي صفة ذمٍّ مطلَقًا .
وبذا عُرف أنّ قول بعض العوام ( خان الله من يخون ) منكر فاحش يجب
النهي عنه (7) .
القاعدة الثانية :
باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ وذلك لأن كل اسم متضمِّنٌ لصفة
ـ كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء ـ، ولأن من الصفات ما يتعلّق بأفعال الله ـ تعالى ـ، وأفعالُه لا منتهى لها كما أنّ أقواله لا منتهى لها قال الله
ـ تعالى ـ : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يَمُدُّه من بعده سبعة أَبْحُر ما نَفِدَتْ كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( .
ومن أمثلة ذلك : أنّ من صفات الله ـ تعالى ـ : المجيء، والإتيان، والإمساك، والبطش إلى غير ذلك من الصفات التي لا تُحصى كما قال
ـ تعالى ـ : ( وجاء ربك (، وقال : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام (، وقال : ( فأخذهم الله بذنوبهم (، وقال : ( ويُمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه (، وقال : ( إن بطش ربك لشديد (، وقال : ( يريد الله بكم اليُسْر ولا يريد بكم العُسْر (، وقال النبي ( : ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) .
فتصف الله ـ تعالى ـ بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسمِّيه بها فلا نقول : إن من أسمائه الجائي والآتي والآخذ والمُمْسِك والباطش والمُريد والنازل ونحو ذلك وإن كنا نُخبر بذلك عنه ونصفه به (8) .
القاعدة الثالثة :
صفات الله ـ تعالى ـ تنقسم إلى قسمين : ثُبوتيّة وسلبية :(4/3)
فالثبوتية ما أثبته الله ـ تعالى ـ لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله (؛ وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجهٍ من الوُجوه كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك .
فيجب إثباتها لله ـ تعالى ـ حقيقة على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل:
أما السمع فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا (؛ فالإيمان بالله يتضمّن الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزّل على رسوله يتضمّن الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكون محمد ( رسوله يتضمّن الإيمان بكل ما أَخبر به عن مرسله وهو الله ـ عزّ وجل ـ (9) .
وأما العقل فلأن الله ـ تعالى ـ أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بها من غيره وأصدقُ قيلاً وأحسن حديثًا من غيره؛ فوجب إثباتها له كما أخبر بها من غير تردُّد، فإن التردُّد في الخبر إنما يتأتّى حين يكون الخبر صادرًا ممّن يجوز عليه الجهل أو الكذب أو العيّ بحيث لا يُفصح بما يُريد، وكلُّ هذه العيوب الثلاثة ممتنعة في حق الله ـ عزّ وجل ـ فوجب قبول خبره على ما أخبر به .
وهكذا نقول فيما أخبر به النبي ( عن الله ـ تعالى ـ فإنّ النبي ( أعلمُ الناس بربه وأصدقهم خبرًا وأنصحهم إرادة وأفصحهم بيانًا فوجب قَبول ما أخبر به على ما هو عليه (10) .
والصفات السلبية : ما نفاها الله ـ سبحانه ـ عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله (، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب .(4/4)
فيجب نفيُها عن الله ـ تعالى ـ لِمَا سبق مع إثبات ضدّها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله ـ تعالى ـ عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضدّه، وذلك لأن النفي عدم والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً، ولأن النفي قد يكون لعدم قابليّة المحل له فلا يكون كمالاً كما لو قلت : الجدار لا يظلم، وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصًا كما في قول الشاعر :
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقول الآخر :
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
مثال ذلك : قوله ـ تعالى ـ : ( وتوكّل على الحي الذي لا يموت (، فنفيُ الموت عنه يتضمّن كمال حياته .
مثال آخر : قوله ـ تعالى ـ : ( ولا يظلم ربك أحدًا ( نفي الظلم عنه يتضمّن كمال عدله .
مثالٌ ثالث : قوله ـ تعالى ـ : ( وما كان ليُعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض ( فنفي العجز عنه يتضمّن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده :
( إنه كان عليمًا قديرًا ( لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد وإما قصور القدرة عنه، فلكمال علم الله ـ تعالى ـ وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض .
وبهذا المثال علمنا أن الصفة السلبية قد تتضمّن أكثر من كمال (11) .
القاعدة الرابعة :
الصفات الثبوتية صفات مدحٍ وكمال؛ فكلما كثُرت وتنوّعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر؛ ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية ـ كما هو معلوم ـ .
أما الصفات السلبية فلم تُذكر غالبًا إلا في الأحوال التالية :
الأولى : بيان عُموم كماله كما في قوله ـ تعالى ـ : ( ليس كمثله شيء (، ( ولم يكن له كفؤًا أحد ( .
الثانية : نفي ما ادّعاه في حقّه الكاذبون كما في قوله : ( أنْ دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن أن يتّخذ ولدًا ( .(4/5)
الثالثة : دفعُ توهُّم نقص من كماله فيما يتعلّق بهذا الأمر المعيّن كما في قوله : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين (، وقوله : ( ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لُغوب ( (12) .
القاعدة الخامسة :
الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين : ذاتية وفعلية :
فالذاتية هي : التي لم يزل ولا يزال متّصفًا بها كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزّة، والحكمة، والعلو، والعظمة؛ ومنها : الصفات الخبرية : كالوجه واليدين والعينين .
والفعلية هي : التي تتعلّق بمشيئة إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا .
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه باعتبارِ أصله صفة ذاتية لأن الله ـ تعالى ـ لم يَزَلْ ولا يزال متكلِّمًا، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعليّة لأن الكلام يتعلّق بمشيئة يتكلّم متى شاء بما شاء كما في قوله ـ تعالى ـ : ( إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون (؛ وكلُّ صفة تعلّقت بمشيئته
ـ تعالى ـ فإنها تابعةٌ لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا وقد نعجز عن إدراكها لكننا نعلم علم اليقين أنه ـ سبحانه ـ لا يشاء شيئًا إلا وهو موافق للحكمة كما يُشير إليه قوله ـ تعالى ـ : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن كان عليمًا حكيمًا ( (13) .
القاعدة السادسة :
يلزم في إثبات الصفات التخلِّي عن محذورَيْن عظيمين : أحدهما : التمثيل، والثاني : التكييف :
فأما التمثيل فهو : اعتقاد المثبِت أنّ ما أثبته من صفات الله ـ تعالى ـ مماثل لصفات المخلوقين؛ وهذا اعتقادٌ باطل بدليل السمع والعقل :
أما السمع فمنه قوله : ( ليس كمثله شيء (، وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون (، وقوله : ( هل تعلم له سَمِيًّا (، وقوله : ( ولم يكن له كفؤًا أحد ( .
وأما العقل فمن وجوه :(4/6)
الأول : أنه قد عُلم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبايُنًا في الذات؛ وهذا يستلزم أن يكون بينهما تبايُن في الصفات لأن صفة كلّ موصوف تليق به كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتبايِنة في الذوات فقوة البعير ـ مثلاً ـ غير قوّة الذَّرَّة؛ فإذا ظهر التبايُن بين المخلوقات مع اشتراكهما في الإمكان والحدوث فظهور التبايُن بينهما وبين الخالق أجلى وأقوى .
الثاني : أن يقال : كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى مَنْ يُكَمِّله، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقُّصٌ لحق الخالق فإنّ تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا .
الثالث : أننا نشاهد في المخلوقات ما يتّفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية : فنشاهد أن للإنسان يدًا ليست كيد الفيل وله قوة ليست كقوة الجمل مع الاتّفاق في الاسم فهذه يد وهذه يد وهذه قوة وهذه قوة وبينهما تبايُنٌ في الكيفيّة والوصف فعُلم بذلك أن الاتّفاق في الاسم لا يلزم منه الاتّفاق في
الحقيقة (14) .
والتشبيه كالتمثيل؛ وقد يفرَّق بينهما بأن التمثيل : التسوية في كل الصفات، والتشبيه : التسوية في أكثر الصفات؛ لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن ( ليس كمثله شيء ( .
وأما التكييف فهو : أن يعتقد المُثْبِت أنّ كيفية صفات الله ـ تعالى ـ كذا وكذا من غير أن يقيِّدها بمماثل؛ وهذا اعتقادٌ باطل بدليل السمع والعقل (15) :
أما السمع فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( ولا يحيطون به علمًا (، وقوله :
( ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً (؛ ومن المعلوم : أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا لأنه ـ تعالى ـ أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفها قَفْوًا لِمَا ليس لنا به علم وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به .(4/7)
وأما العقل فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته أو العلم بنظيره المساوي له أو بالخبر الصادق عنه، وكلُّ هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله ـ عزّ وجل ـ فوجب بُطلان تكييفها .
وأيضًا : فإننا نقول : أيُّ كيفية تقدِّرها لصفات الله ـ تعالى ـ ؟
إنّ أيَّ كيفية تقدِّرها في ذهنك فالله أعظم وأجلّ من ذلك .
وأيّ كيفية تقدِّرها لصفات الله ـ تعالى ـ فإنك ستكون كاذبًا فيها لأنه لا علم لك بذلك .
وحينئذ يجب الكَفّ عن التكييف تقديرًا بالجَنَان أو تقريرًا باللسان أو تحريرًا بالبَنَان .
ولهذا لَمّا سُئل مالك ـ رحمه الله ـ عن قوله ـ تعالى ـ : ( الرحمن على العرش استوى ( كيف استوى ؟ أطرق ـ رحمه الله ـ برأسه حتى علاه الرحضاء ( العرق )، ثم قال : ((الاستواء غيرُ مجهول، والكيف غيرُ معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) . ورُوي عن شيخه ربيعة ـ أيضًا ـ : ((الاستواء غيرُ مجهول، والكيف غير معقول)) . وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان.
وإذا كان الكيف غير معقول ولم يَرِد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي فوجب الكَفُّ عنه .
فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته فإنك إنْ فعلت وقعت في مفاوِز لا تستطيع الخلاص منها، وإنْ ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه مِنْ نزغاته فالجأ إلى ربك فإنه معاذك وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك : قال ـ تعالى ـ : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ( (16) .
القاعدة السابعة :
صفات الله ـ تعالى ـ توقيفيّة لا مجال للعقل فيها؛ فلا نُثبت لله ـ تعالى ـ من الصفات إلا ما دلّ الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ : ((لا يوصَفُ اللهُ إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله؛ لا يُتجاوز القرآن والحديث)) ـ انظر : القاعدة الخامسة في الأسماء ـ .
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجُه :(4/8)
الأول : التصريح بالصفة كالعزة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين ونحوها .
الثاني : تضمُّنُ الاسم لها مثل : الغفور متضمِّنٌ للمغفرة، والسميع متضمِّنٌ للسمع، ونحو ذلك ـ انظر : القاعدة الثالثة في الأسماء ـ .
الثالث : التصريح بفعلٍ أو وصْفٍ دالٍّ عليها كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين الدال عليها ـ على الترتيب ـ قولُه ـ تعالى ـ : ( الرحمن على العرش استوى (، وقول النبي ( : ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا …)) الحديث، وقول الله ـ تعالى ـ : ( وجاء ربك والملَك صفًّا صفًّا (، وقوله : ( إنا من المجرمين منتقمون ( (17) .(4/9)
فهرس المكتبة
قواعد في أدلة الأسماء والصفات
القاعدة الأولى
الأدلة التي تُثبت بها أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته هي : كتاب الله ـ تعالى ـ، وسنة رسول الله (؛ فلا تُثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما .
وعلى هذا : فما ورد إثباته لله ـ تعالى ـ من ذلك في الكتاب والسنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيُه مع إثبات كمال ضدّه .
وما لم يَرِد إثباته ولا نفيه وجب التوقُّف في لفظه فلا يُثْبَت ولا ينفى لعدم وورد الإثبات والنفي فيه، وأما معناه فيُفَصَّلُ فيه : فإن أُريد به حقٌّ يليق بالله ـ تعالى ـ فهو مقبول، وإن أُريد به معنى لا يليق بالله ـ عزّ وجل ـ وجب ردُّه .
فممّا ورد إثباته لله ـ تعالى ـ : كلُّ صفة دلَّ عليها اسمٌ من أسماء ـ تعالى ـ دلالة مُطَابَقَة أو تَضمُّن أو التزام .
ومنه : كلُّ صفة دلّ عليه فعلٌ من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها ( ويفعل الله ما يشاء ( .
ومنه : الوجه، والعينان،واليدان، ونحوها .
ومنه : الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها الكوني والشرعي فالكونية بمعنى المشيئة والشرعية بمعنى المحبة .
ومنه : الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها .
ـ أدلّة هذه مذكورة في مواضعها في كتب العقائد ـ .
ومما ورد نفيه عن الله ـ سبحانه ـ لانتفائه وثبوت كمال ضدّه : الموت، والنوم، والسِّنَة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ، ونحو ذلك ـ أدلة هذه مذكورة في مواضعها من
كتب العقائد ـ .
وممّ لم يَرِد إثباته ولا نفيه لفظ ( الجهة ) . فلو سأل سائل : هل ثبت لله
ـ تعالى ـ جهة ؟ قلنا له : الجهة لم يَرِد في الكتاب والسنة إثباتًا ولا نفيًا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أنّ الله ـ تعالى ـ في السماء .(5/1)
وأما معناه : فإما أن يُراد به جهة سفل أو جهة تحيط بالله أو جهة علو
لا تحيط به .
فالأول : باطل لمنافاته لعلو الله ـ تعالى ـ الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع .
والثاني باطل ـ أيضًا ـ لأن الله ـ تعالى ـ أعظم من أن يحيط به شيءٌ من مخلوقاته .
والثالث حق لأن الله ـ تعالى ـ العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته (18) .
ودليلُ هذا القاعدة : السمع والعقل :
فأما السمع : فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتّقوا لعلكم تُرحمون (، وقوله : ( فآمِنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمِن بالله وكلماته واتّبعوه لعلكم تهتدون (، وقوله : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (، وقوله : ( ومن يطعِ الرسول فقد أطاع الله ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظًا (، وقوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً (، وقوله : ( وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع الهوى (، إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على وُجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة .
وكلُّ نصٍّ يدلُّ على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دالٌّ على وجوب الإيمان بما جاء في السنة لأنّ ممّا جاء في القرآن : الأمر باتّباع النبي ( والرد إليه عند التنازُع، والردُّ إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنتّه بعد وفاته .
فأين الإيمان بالقرآن لِمَن استكبر عن اتّباع الرسول ( المأمور به في القرآن ؟
وأين الإيمان بالقرآن لِمَن لم يَرُدَّ التنازُع إلى النبي ( وقد أمر الله به في
القرآن ؟
وأين الإيمان بالرسول الذي أَمر به القرآن لِمَن لم يقبل ما جاء في سنّته ؟
ولقد قال الله ـ تعالى ـ : ( ونزّلنا عليك الكتاب تِبْيانًا لكل شيء ( .
ومن المعلوم : أن كثيرًا من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة فيكون بيانها بالسنة من تِبْيان القرآن .(5/2)
وأما العقل فنقول : إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله
ـ تعالى ـ من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة (19) .(5/3)
فهرس المكتبة
بقية شرح القواعد المثلى
(1) الحمد لله رب العالمين، وصلاةُ الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المؤلِّف ـ حفظه الله وزادنا وإياه من التوفيق ـ؛ جَرَتِ العادة أن يقول الإنسان ( رحمه الله ) لمن مات فقط، ولذلك يتحفّظ بعضُ الناس في الوقت الحاضر أن يقولوا للحيِّ : ( رحمه الله )، وهذا خطأ، ونحن نطلب رحمةَ الله ليل نهار ( اللهم ارحمنا )، لو قلنا الآن : ( قال المؤلِّف ـ رحمه الله ـ ) ربما سأل سائل : هل المؤلِّف ميِّت أم لا ؟، جَرْيًا على العادة؛ وهذه مجرّد عادة فقط؛ وإلا لو قلنا : ( قال المؤلِّف
ـ رحمه الله ـ ) وهو موجود الآن ليس في ذلك غَضاضة وكلام سليم، لكن لأن لا يتسائل سائل نقول : ( قال المؤلِّف ـ حفظه الله ـ ) وزادنا وإياه من التوفيق .
يقول المؤلِّف ـ حفظه الله ـ : ((الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه …)) . إلى آخِر الخطبة؛ هذا جزءٌ من خطبة الحاجة ـ كما تعلمون ـ .
وبعد هذا يقول المؤلِّف : ((وبعد : فإنّ الإيمان بأسماء الله وصفاته أحدُ أركان الإيمان بالله ـ تعالى ـ؛ وهي)) هذه الأركان ((الإيمان بوجود الله ـ تعالى ـ، والإيمان بربوبيته، والإيمان بأُلوهيّته، والإيمان بأسمائه وصفاته)) . الإيمان بالله ركنٌ من أركان الإيمان : الركن الأول ـ كما يعلم الجميع ـ؛ لكن ما معنى الإيمان بالله ؟ أن يؤمن الإنسان بالله ـ تعالى ـ : أولاً : بوُجوده الحق مستدلاًّ بالآيات الكونية التي منها القارئ نفسه، كلُّ واحدٍ منا آيةٌ من آيات الله دليل على وجود الله ـ تعالى ـ لأن الأثر يدلُّ على المؤثِّر، هذا الكون بِرُمَّتِه يدلُّ على وجود الله الحق، وأنه ليس كمثله شيء، لو كان مثل هذا الكون ـ حادِثًا بعد أن لم يكن ـ لَمَا أوجده ـ لَمَا أوجد
هذا الكون ـ، إذًا : وُجود الله ـ تعالى ـ هو الوُجود الحق الذي ليس له بِداية .(6/1)
ثم الإيمان بربوبيّته ـ بأنه رب العالمين ـ خالقُ السموات والأرض، ومدبِّر الأمور .
والإيمان بأُلوهيّته : الإيمان بأنه وحده المعبود الحق؛ هذا معنى الإيمان بالألوهية .
والإيمان بأسمائه وصفاته : إثبات ما أثبت لنفسه وما أثبته له رسوله ( من الأسماء والصفات على ما يليق بالله ـ تعالى ـ، صفات لا تُشبه صفات المخلوقين، وهكذا أسمائه وأفعاله .
((وتوحيد الله به)) . بهذا الإيمان ـ أي : الإيمان بأسمائه وصفاته إلى آخره ـ؛ أي : بالإيمان به ـ تعالى ـ .(6/2)
((أقسام التوحيد الثلاثة)) . فأقسام التوحيد الثلاثة المعروفة لدى طُلاّب العلم : ((توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات)) مستنبطة من نصوص الكتاب والسنة؛ ربما يقول لك قائل : التوحيد توحيد، من أين لكم أنتم تقسيم التوحيد إلى ثلاثة، كيف يكون التوحيد ثلاثة ؟؛ نأخذ هذا من الاستقراء، الاستقراء معناه : تتبّعنا نصوص الكتاب والسنة فوجدنا نصوصًا تتحدّث عن ربوبية الله ـ تعالى ـ بأنه وحده الخالق الرازق المدبِّر المعطي المانع النافع الضار، هذا المعنى يسمى توحيد الربوبية، ونجد آيات وأحاديث أخرى كثيرة تدعوا إلى إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة وأن يُعبد أحدٌ سواه من ذلك قولُ المؤمن : ( أشهد أن لا إله إلا الله )، وهذا يسمى توحيد الإلهيّة وتوحيد العبادة، ونجد في الكتاب والسنة نصوصًا تتحدّث عن أسماء الله ـ تعالى ـ وصفات كالسميع البصير، العليم، الخبير، الودود، اللطيف إلى آخره، أخذنا من هذه النصوص : توحيد الأسماء والصفات، وأن هذه الصفات ليست كصفات المخلوقين، هذا معنى التوحيد فيها ـ أي :في الصفات والأسماء ـ؛ هكذا استنتج أهل العلم من نصوص الكتاب والسنة أقسام التوحيد الثلاثة؛ إذًا : المصدر في تقسيم التوحيد إلى ثلاثة : استقراء الكتاب والسنة، أي : تتبُّع نصوص الكتاب والسنة والاستنتاج منها هذه الأقسام الثلاث؛ وهذا من تدبُّر القرآن، لأن القرآن لمن تدبّره كله علم، إذا فهمه العبد وتدبّر، وتلكَ نعمةٌ لا يعطى كلُّ إنسان، تدبرُّ القرآن وفهمه وتعقُّله وقوة الاستنتاج والاستنباط من القرآن والأحاديث نعمةٌ عظيمةٌ يخصُّ الله بها من يشاء .(6/3)
((فمنزلته في الدين)) . منزلة الإيمان بالله ـ تعالى ـ في الدين عالية ((وأهمّيته عظيمة، ولا يمكن أحدًا أن يعبد الله على الوجه الأكمل حتى يكون على علمٍ بأسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته)) . وكلُّ من يعبد الله وهو لا يعلم شيئًا من أسماء الله وصفاته فعبادته ناقصة؛ لا يكون الإنسان متمكِّنًا من محبة الله وتعظيمه والتلذُّذ بطاعته وبكلامه إلا إذا كان عالمًا بأسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته ((ليعبده على بصير)) على علم، ((قال الله ـ تعالى ـ : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ()) لله وحده الأسماء الحسنى، أسماء غيرِ الله ليست بحسنى، لأن أسماء الله هي البالِغة في الحسن، وأسماء غير الله ـ تعالى ـ لا بد فيها من نقص، لله وحده الأسماء الحسنى ( فادعوه بها ( فادعوا الله بهذه الأسماء الحسنى .
((وهذا)) الدعاء الذي أُمرنا به أن ندعو الله بأسمائه .
((يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة)) فلنسمع الآن ما هو دعاء المسألة وما هو دعاء العبادة .
(2) قال المؤلِّف ـ وفّقنا وإيّاه ـ : ((وهذا)) الدعاء المأمور به في هذه الآية ((يشمل دعاء المسألة)) أي : دعاء الطلب، ((ودعاء العبادة)) .
((فدعاء المسألة : أن تقدِّم بين يدي مطلوبك من أسماء الله ـ تعالى ـ ما يكون مناسِبًا)) . مناسبًا لطلبك؛ وأنت لك طلباتٌ كثيرة ولله أسماءٌ كثيرة تختار من أسماء الله ـ تعالى ـ ما يكون مناسبًا لطلبك فتتوسّل بهذه الأسماء إلى الله ـ تعالى ـ .(6/4)
((مثل أن تقول)) أنت تطلب الغُفران : ((يا غفور اغفر لي)) فتطلب التوبة : ( يا قابِلَ التوبة )، ( يا غافر الذنب )، ( يا قابلَ التوب )، تذكر من أسماء الله ـ تعالى ـ ما كان مناسبًا أو يتضمنّن على معنى التوبة وعلى معنى الغُفران؛ وهذا نوعٌ من التوسُّل بأسماء الله ـ تعالى ـ . ( يا غفور اغفر لي )، ( يا رحمن ارحمني )، ( يا رحيم ارحمني )، ( يا حفيظ احفظني )، وهكذا إلى آخر تلك الأسماء . وهذا يسمى دعاء مسألة ـ أي : سألت الله تعالى بأسماء ـ، إذا قلت : ( أسألك بأسمائك الحسنى )، ( أسألك باسمك الحي القيوم )، ( أسألك باسمك الرحمن الرحيم )، ( يا أرحم الراحمين )، كل هذا يسمّى دعاء مسألة، ويُعتبر التوسُّل إلى الله ـ تعالى ـ بأسمائه .
((ودعاء العبادة : أن تتعبّد لله ـ تعالى ـ بمقتضى هذه الأسماء فتقوم بالتوبة إليه لأنه التواب)) . تعلم وتوؤمن بأن الله توّاب، وتريد أن تتوب من هفواتك فتوبتك إلى الله يا توّاب لأنك تؤمن بأنه التوّاب، إذا تبت ورجعت إليه واستغفرته لأنك تؤمن بأنه التوّاب وبأنه الرحيم .
((وتذكره بلسانك لأنه السميع)) . تذكر الله بلسانك سواءٌ بهذا الاسم أو بأيّ اسم لأنه السميع لأنك تؤمن بأن الله سميع يسمع دعائك ويسمع ذكرك .
((وتتعبّد له بجوارحك)) تصلي، تركع، وتسجد، وتُنفق، وتجاهد لأنه البصير لأنك تؤمن بصير يُبصرك ويراك .
((وتخشاه في السر)) حيث لا يراك أحدٌ سواه، فتترك المعصية وتترك تعدِّي الحدود؛ تخشاه بأنك تؤمن ((بأنه اللطيف الخير)) يراك ويسمعك ويحيط بك، يعلم منك ما لا يعلم غيرُه ـ سبحانه ـ . هذا المعنى يسمّى دعاء عبادة .
((وهكذا)) إلى آخر أسماء الله ـ تعالى ـ .
((ومن أجل منزلته هذه ومن أجل كلام الناس فيه)) في باب الأسماء والصفات .
((بالحق تارة وبالباطل الناشئ عن الجهل أو التعصّب تارة أخرى)) . أكثرت الناس من الكلام في أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته : منهم : من يتكلّم بالحق بأن يُثبت لله(6/5)
ـ تعالى ـ الأسماء والصفات كما ورد في الكتاب والسنة، ومنهم : من يتكلّم بالباطل هذا الباطل منشؤه إما عن الباطل أو التعصّب الذي تعوّده .
لأجل ذلك ((أحببت أن أكتُب فيه ما تيسّر من القواعد)) التي إذا التزم بها الإنسان ـ تلك القواعد ـ ضبطتْ له العلم النافع .
((راجيًا من الله ـ تعالى ـ أن يجعل عملي خالصًا لوجهه موافِقًا لمرضاته نافعًا لعباده)) آمين .
ويقول : ((وسمّيته : ((القواعد المثلى)) )) القواعد الأمثل ((في صفات الله ـ تعالى ـ وأسمائه الحسنى)) . القواعد جمع قاعد؛ فيجعل ـ مثلاً ـ القاعدة الأولى كذا، والقاعدة الثانية ـ كما سيأتي ـ؛ فيقعِّد قواعد بهذه القواعد يضبط طلاّب العلم العلمَ في هذا الباب ـ باب الأسماء والصفات ـ . وسمّى بهذا الاسم فلنسمع الآن تلك القواعد .
(3) قال المؤلِّف ـ حفظه الله ووفقنا وإيّاه ـ : ((قواعدُ في أسماء الله ـ تعالى ـ : القاعدة الأولى : )) أن تعلم أنّ ((أسماء الله ـ تعالى ـ كلها حُسنى أي : بالغةٌ في الحسن)) . ليس في أسماء الله ـ تعالى ـ إلا وهو بالغٌ في الحُسْن ((غايته)) التي ليس بعدها غاية .
((قال الله ـ تعالى ـ : ( ولله الأسماء الحسنى ()) وقد تقدّم .
((وذلك)) وجهُ هذا الكمال .(6/6)
((لأنها متضمِّنةٌ لصفاتٍ كاملة)) . أسماء الله ـ تعالى ـ ليستْ أسماء جامدة لا تدلُّ على المعاني، بل تدلُّ على المعاني؛ فصفات الله ـ تعالى ـ من معاني أسمائه . أسماء غيره ـ الأعلام ـ يقال أعلام جامدة ما تدلُّ على شيء : زيد يدلُّ على الذات فقط؛ الأسماء الجامدة الأعلام تدلُّ على المسمّى فقط بدون دلالةٍ على معاني الثناء إلا ما ندر كأن كان ذلك مقصودًا مثل ( محمد ) و ( أحمد ) من الحَمْد، وإلا الأصل في الأسماء الجامدة والأعلام الجامدة : الدلالة على المسمّى فقط . ولكن أسماء الله ـ تعالى ـ يُقال فيها : هي أعلامٌ وصفات؛ أسماء الله قال غيرُ واحدٍ من أهل العلم : أسماء الله ـ تعالى ـ أعلامٌ وصفات .
أعلامٌ من حيث دلالتها على الذات، وصفاتٌ من حيث دلالتها على المعاني؛ ولذلك يقول الشيخ : ((وذلك لأنها متضمِّنةٌ لصفات كاملة لا نقص فيها)) في تلك الصفات ((بوجهٍ من الوجوه لا احتمالاً ولا تقديرًا)) لا تحتمل أيَّ نقص، ولا يمكن أن تقدِّر فيها تقدير وفرضي أيَّ نقص في صفات الله ـ تعالى ـ .
((مثال ذلك : الحي)) . هو الحي؛ إذا قلت : ( هو الحي ) هذا الأسلوب يفيد الحصر ( هو الحي ) يعني : هو وحده الحي، لا يوجد حيٌّ آخر ؟ الأحياء كثيرون لكن حياةُ الله غيرِ الله بالنسبة لحياة الله كلا حياة، لماذا ؟ لما فيها من النقص الكثير؛ فحياةُ الله
ـ تعالى ـ حياةٌ كاملة؛ لا توجد حياةٌ كاملةٌ غير حياة الله في جميع الأحياء؛ جميعُ الأحياء يوصفون بالحياة لكن لا توجد حياةٌ كاملة الكمال المطلق غيرُ حياة الله(6/7)
ـ تعالى ـ، لا حياة الملائكة، حتى حياة الأنبياء المقرّبين الذين اصطفاهم واختارهم حياتهم ليست كاملة، لماذا ؟ لأن حياتهم كانت مسبوقة بعدم، كانوا غير موجودين فوُجدوا ـ فأوجدهم الله وأحياهم ـ، ثم إنّ هذه الحياة لا تدوم تزول، وقد ماتوا، الأنبياء كلهم ماتوا إلا عيسى الذي في السماء سوف يموت، لا يبقى أحدٌ حي؛ الحي الدائم هو الله وحده إذًا : الاسم الحي اسمٌ من أسماء الله ـ تعالى ـ .
((متضمِّنٌ للحياة الكاملة)) يدلُّ على هذه الحياة الكاملة .
((التي لم تُسبَق بعدم)) لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء ((كان الله ولا شيء معه، كان الله ولا شيء غيره، كان الله ولا شيء قبله)) ـ هكذا في الحديث ـ، كان الله وحده ولا شيء معه؛ حياةُ الله ـ تعالى ـ لم تُسبق بعدم .
((ولا يلحقها زوال)) لأنه الحي القيوم والأوّل الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، الباقي الدائم .
إذا كان اسم الله الحي يدلُّ على هذه الحياة الكاملة التي لا تُسبق بعدم ولا يلحقها زوال إذًا هذا هو الاسم من أسماء الله ـ تعالى ـ الحسنى؛ الاسم الذي يدلُّ على مثل هذا المعنى لا يكون من أسماء الله ـ تعالى ـ .
((الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر غيرها)) . إذًا الاسم الحي دلّ كم دلالة ؟ دلّ ثلاث دلالات :
الدلالة الأولى : دلّ على الذات .
الدلالة الثانية : دلّ على الصفة ـ صفة الحياة الكاملة ـ .(6/8)
الدلالة الثالثة : استلزمت الحياةُ الكاملة الدلالة على العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها من الصفات؛ سوف يأتي في كلام المؤلِّف أنّ أسماء الله ـ تعالى ـ تدلُّ ثلاث دلالات : دلالة المطابَقة، ودلالة التضمُّن، ودلالة الالتزام؛ هكذا افهموا الآن [ … ] وعلى الصفة ـ الصفة المتصلة أو المفهومة من هذا الاسم ـ هذا تسمّى دلالة المطابقة أي : دلالة الحي على الذات الموصفة بالحياة وعلى صفة الحياة معًا، هذه تسمّى دلالة المطابَقة؛ فدلالة الحي على الذات وحدها يقال : دلالة التضمُّن، وعلى الصفة وحدها دلالة تضمّن، ودلالة الحي عل الصفات الأخرى كالعلم والسمع والبصر دلالة الالتزام سيأتي ذلك مفصَّلاً في كلام المؤلِّف .
((الحياة المستلزمة)) الحياة الكاملة تستلزم ((لكمال الصفات)) تستلزم صفاتٍ أخرى كاملة ـ صفاتُ الله كلها كاملة ـ تستلزم العلم طالما الحياةُ حياةً كاملة لا بد أن يكون الموصوف بالحياة الكاملة أن يكون عالمًا وأن يكون قادرًا وأن يكون سميعًا وأن يكون بصيرًا . لَمّا كانت حياتنا ناقصة لا تستلزم حياتنا هذه الصفات، قد يكون إنسان حي يأكل ويشرب مثل الحيوانات لكن لا يسمع ولا يُبصِر أو لا يعلم ـ ما عنده
علم ـ؛ حياتنا لا تستلزم الصفات الكاملة؛ لكن لَمّا كانت صفة حياة الله ـ تعالى ـ حياةً كاملة تستلزم جميع الصفات الكاملة ـ وصفات الله كلها كاملة ـ من ذلك : تدلُّ، لك أن تقول : اسم الله الحي يدلُّ على العلم وعلى القدرة والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الكمال، لك أن تجعل هذا دلالة للاسم ولك أن تقول كما قال المؤلِّف: ((الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر)) المعنى واحد .
فهمنا ما في اسم الله ـ تعالى ـ الحي من الدلالة، وكيف كان من الأسماء الحسنى لأنه يدلّ هذه الدلالات الكاملة .(6/9)
((ومثالٌ آخر)) . مثالٌ آخر من أسماء الله ـ تعالى ـ : ((العليم : اسمٌ من أسماء الله متضمِّن للعلم الكامل الذي لم يُسبق بجهل)) . من هنا تعلمون المشاركة بين صفات الله وصفات المخلوق إنما هي مشاركة شكليّة، أي : الإنسان موصوف بالحياة وقد علمتم إن حياة الإنسان غير كاملة، ويوصف الإنسان بالعلم، فعلمه ناقص؛ إذا أُضيف العلم إلى الله وقلنا : ( علمُ الله وحياة الله ) انتفت المشاركة أساسًا، لا توجد المشاركة بين صفات الله ـ تعالى ـ وصفات المخلوق قطعًا لأن هذه الإضافة اسمها : ( إضافة تخصيص )؛ إذا أضفت العلم إلى الله قلت : ( علم الله ) اختص هذا العلم بالله؛ فعلم الله ـ تعالى ـ الكامل الذي لم يُسبق بجهل الذي لا يطرأ عليه نسيان أو غفلة أو ذُهول، علم الله المحيط بجميع المعلومات هل أحدٌ يشارك الله في مثل هذا العلم ؟ لا؛ إذًا صفات ـ أو عبارتنا الحديثة مواصفات ـ صفة علم الله ـ تعالى ـ لا تنطبق على أيِّ علمٍ أبدًا؛ لذلك : الإضافة وحدها تكفي لتفرِّق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولا مشاركة بعد ذلك؛ لذلك : يقال : المشاركة في المطلق الكُلِّي؛ وهذا الأسلوب قد يكون غريبًا عليكم لكن نقرِّب بالألفاظ التي نفهمها أي : إنما تحصُل المشاركة قبل أن يضاف علمُ الله إلى الله وقبل أن يضاف علمُ المخلوق إلى المخلوق؛ فمثلاً : علمُ زيد علمٌ ناقص مسبوق بجهل يلحقه النسيان ثم ليس بمحيط بجميع المعلومات؛ مواصفات علم زيد مستحيلة على الله، الله منزّه من أن يشارك زيدًا في مواصفات علمه، أي : لكون علمه مسبوقًا بجهل يلحقه نسيان وغفلة وغير محيط بجميع المعلومات؛ هل الله يشارك زيدًا في مواصفات هذا العلم ؟، لا؛ أعطاه علمًا لكن علمُ الله الذي أعطى زيدًا هذا العلم الناقص أكمل أو أولى بالكمال؛ إضافة علم زيد إلى زيد وإضافة علم الله إلى الله تكفي لنفيِ المشاركة بين صفات الخالق وصفات المخلوق .(6/10)
إذًا : متى تحصُل المشاركة ؟ قبل الإضافة : علم، حياة، قدرة، وهل توجد حياةٌ قائمة هكذا دون حي وعلم قائم معلَّقٌ في الهواء دون أن يكون علمَ زيد أو علم خالق أو علم مخلوق ؟ لا يوجد؛ هذا يسمّى المطلق الكلي؛ المطلق الكليِّ هذا لا وجود له في الخارج إنما هو في الذهن، أنت تتصوّر علم ولكن لو قيل لك : أَرِنا هذا العلم الذي ليس علم خالق ولا علم مخلوق معلَّق هكذا وحده ؟ لا يوجد؛ المشاركة : في هذا المطلق الكلي قبل إضافة صفة الخالق إلى الخالق وصفة المخلوق إلى المخلوق؛ مثل هذه المشاركة لا تضر ولا بد منها، إذ لا نتصوّر إلا بهذا المطلق الكلي .
الشاهد ـ لستُ أدري هذا الأسلوب يمشي عندكم أم لا ؟ ـ على كلٍّ : نقول : ((العليم : اسمٌ من أسماء الله ـ تعالى ـ متضمِّن للعلم الكامل)) العلم الكامل من صفات العلم الكامل : ((الذي لم يُسبق بجهل)) هذا معلوم، ((ولا يلحقه نسيان)) واضح .
((قال الله ـ تعالى ـ : ( علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ()) . الضلال بمعنى الجهل .
((العلم الواسع)) ( لا يضل ربي ولا ينسى ( لم يكن مسبوقًا بجهل وضلال ولا يطرأ عليه نسيان .
((المحيط بكلِّ شيء جملةً وتفصيلاً)) . الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم من كلِّ مخلوق من مخلوقاته يعلم منه جملةً وتفصيلاً؛ ونحن من أنفسنا لا نعلم إلا جملتنا، الواحد فضلاً من أن يعلم من غيره من نفسه لا يعلم إلا جملة، أنا أعلم من نفسي بالجملة هكذا، لكن تفاصيل عروقي وأعصابي وما في جسمي لا أعلم بالتفصيل كيف هي، إنما الله(6/11)
ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم من جميع مخلوقاته جملةً وتفصيلاً؛ هذا معنى علمه محيطٌ بكل شيء، ( ألاَ يعلم مَنْ خلق ( لأنه هو الذي خلق، كيف يخفى عليه شيء، ونحن عندما تخفى علينا أشياء لأننا لم نخلُق تلك الأشياء ولكن علِمْنا علمنا يسمّى معرفة؛ بالمناسبة هناك فرقٌ بين العلم وبين المعرفة : علمُ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يُستعمل في حقه المعرفة، لا يقول : ( الله يعرف ) ولكن يقال : ( الله أعلم ) لأن المعرفة خاصّة بالعلم المكتَسب، علمنا مكتسب، اكتسبناه بعد أن كُنّا في جهل، الله منحنا، وهذا يسمى معرفة، لكن في حق الله ـ تعالى ـ يستعمل العلم ولا تُستعمل المعرفة .
((المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً)) سبحانه ما أعظم شأنه .
((سواءٌ ما يتعلّق بأفعاله ـ تعالى ـ)) يخلق، ويرزق، ويعطي، ويمنع، ويحيي، ويُميت، ينزل، ويأتي؛ هذه كلها أفعاله .
((أو أفعال خلقه)) . أفعال العباد لأنه هو الذي أعطاهم قدرة وأعطاهم إرادة وأعطاهم اختيار يفعلوا؛ هذه الأفعال كلها يعلمها ـ سبحانه وتعالى ـ، مَن يفعل الخير ومن يفعل الشر، من يعصي ومن يطيع، كلها معلومةً لله ـ سبحانه وتعالى ـ .
((قال الله ـ تعالى ـ : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ()) جملة وتفصيلاً، لذلك قال : ( وما تسقُط من ورقة إلا يعلمها ( تلك الورقة التي سقطت، ورقة واحدة لا تسقُط من شجرة إلا بعلم الله، ( ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( لأن الله
ـ سبحانه وتعالى ـ كما نعلم في مراتب القدر ـ علِمَ كلَّ شيء وكتب كلَّ شيء وشاء ثم نفّذ؛ هذه مراتب القدر الأربع : العلم السابق، والكتاب الشامل، والمشيئة العامّة، والتنفيذ .(6/12)
( وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها ( . كلَّ دابة؛ وهذه الأرزاق قد قدّرها من قبل، ومن يُوسَّع عليه الرزق، ومن يُضيَّق عليه الرزق، والأسباب التي تأتي بهذه الأرزاق : تاجر، مزارِع، سائق، جميع الأسباب؛ ومن يبارِك له في كسبه ويفتح عليه ويوسِّع عليه، ومن يضيِّق عليه، كلُّ ذلك لحكمة .
( ويعلم مستقرّها ومستودعها كلٌّ في كتاب مبين ( . الكتاب المبين هو : اللوح المحفوظ .
( يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون ( في أنفسكم ( وما تُعلنون والله عليمٌ بذات الصدور ( . ( ذات الصدور ( التي لا يعلمها أحدٌ سواه؛ ولذلك : من يدّعي معرفة ذات الصدور كالذي يدّعي علم الغيب وهو من علم الغيب ذاتُ الصدور من ادّعى ذلك يكفُر، إذْ لا يعلم بذات الصدور إلا الله؛ لذلك : يغامروا بأنفسهم ويخاطروا مشايخ الطرق عندما يلبِّسوا على المريدين ويقولون : احفظوا صدوركم، عندما تحضُروا عند المشايخ احفظوا صدوركم لأنهم يعلمون ما في الصدور؛ لذلك : تجد المريد عندما يجلس أمامَ الشيخ متواضع يحاول أن لا يخطر بقلبه أي خاطر يكره الشيخ، يجلس جِلسة الكلب بين يدي سيّده، لأن لا يطّلع الشيخ على ما في ضميره؛ وهل يستطيع الإنسان أن يحافظ خاطره ؟ لا، العبد ما استطاع أن يحافظ خواطره في الصلاة وهو واقفٌ بين يدي الله يقول لربِّه ـ سبحانه وتعالى ـ : ( إياك نعبد وإياك نستعين ( وهو في الدُكّان وهو مسافر، وكيف يستطيع هذا المريد المسكين أن يحافظ خواطره وهو جالس بين مخلوقٍ مثله ؟؛ هذه من المخاطرات التي يخاطر بها مشايخ الطرق عَمْدًا منهم وقصدًا ليذلِّلوا الناس وليستغلُّوا جهل الناس لأنهم لا يعيشون إلا بهذه الطريقة؛ تجدهم من أثرى الناس في بلادهم، أغنى الأغنياء، لم يمدُّوا أيدهم قطّ للعمل ولم يوظّفوا ولم يعملوا شيئًا، لكن بهذا الدجل يُظهروا للناس يدّعوا علم الغيب والناس تخاف منهم وتجيب كلّ شيء رجاء ما عندهم من الخير والبركة والحفظ وحسن(6/13)
الخاتمة، يجمعوا الأموال بهذه الطريقة، لتعلموا بأنهم مُرْتَزَقة؛ المرتزقة المعاصِرون إنما بالسلاح يستولوا على البُلدان ويقتلوا رئيس دولة ويستولوا بقوة السلاح، لكن هؤلاء جالسين في بيوتهم ويستولوا على عقول الناس، ويستعملوها ويعيشوا بهذه الطريقة .
لكن العليم بذات الصدور هو الله، وهو يعلم ذلك، يعلم من هؤلاء الدجاجلة ما يفعلون ويرى ويسمع ولكنه حليم ـ سبحانه ـ، من أسمائه أنه الحليم، أنه يُمْهِل العباد لعلّهم يتوبون، وقد يوفِّقهم بعضهم فيتوبوا فعلاً، ولكن لا يُهْمِل، فسوف يأخذ ـ إذا أراد أن يأخذ ـ أخذ عزيز مقتدر .
((ومثالٌ ثالث : ((الرحمن)) )) . يا شباب هذه المذاكرة في مثل هذا التوحيد تقسي القلوب أو ترقِّق القلوب وتحيي القلوب؛ أنتم في هذه الأيام ما أنتم في الحرم في الأسئلة التي تجيني في الحرم أن دراسة العقيدة تقسي القلوب، وينفِّروا الناس من العقيدة بمثل هذه الأسئلة؛ دارسة العقيدة تسبِّب قسوة القلوب . هذا ذكر الله، هذا مجلس الذكر، كيف ذكر الله ـ تعالى ـ يقسي القلب ؟ إنما يحيي القلب؛ لكن : هؤلاء علينا أن ندعو الله لهم بأن يمنّ الله عليهم، لأني علمت موجودين الآن في المدينة من أمثال هؤلاء الذين لَمّا رأوا هذه الصحوة الشبابية وإقبال الناس على العقيدة ضايقهم هذا المعنى، فجعلوا يحاولوا أن ينفِّروا الناس من العقيدة ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية : اللهم يهديهم ويشرح صدورهم للإسلام ـ .(6/14)
((ومثال ثالث : ((الرحمن)) : اسمٌ من أسماء الله ـ تعالى ـ)) . ومن التناقُضات : الأشاعرة يقرؤون معنا الرحمن لكن يقولون : الله ـ سبحانه ـ لا يوصف بالرحمة إنما المُراد من الرحمة لازمُها؛ ما هو اللازم ؟ الإحسان والعطاء، لكن صفة الرحمة لا، لا تليق بالله، لماذا ؟، لأن الرحمة رِقّةٌ في القلب، انفعال، وهذا الانفعال من صفات المخلوقين لا يليق بالله ـ تعالى ـ . قلنا لهم : أدركتم شيئًا وفاتتكم أشياء، الذي فاتكم : أنّ صفات الله ـ تعالى ـ ليست كصفات خلقه ـ كما مثّلنا فيما تقدّم ـ، الاشتراك فقط شكلي، إذا قلت ( رحمة الله ) تلك رحمةٌ تليق الله ليست كرحمتنا حتى نفسِّرها بالانفعال ورقة في القلب؛ رحمةٌ لا نُدرك كُنْهها؛ وأنتم معنا أيها الأشاعرة آمنتم بأن الله سميعٌ بصير فأثبتّهم له صفة السمع والبصر على أيِّ طريقة ؟ كما يليق بالله؛ إذًا : قولوا هنا : كما يليق الله كما قلتم هناك لماذا تناقضتم ؟، تقليد لا دليل مجرّد تقليد فقط .
((متضمِّن للرحمة الكاملة التي قال عنها رسول الله ( : ((لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها)) ـ يعني : أمّ صبي وجدته في السَّبْيِ فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته)) . لَمّا رأى أم صبي وجدته في السَّبْي فأخذته فألصقته إلى بطنها وأرضته رحمة وشفقة، ما ملكت نفسها بانفعال وبدون شعور .
((لَلَّهُ أرحم)) . هذه الرحمة شديدة؛ فرحمة الله أعظم لأن صفات الله ـ تعالى ـ لا مثيل لها، إذْ ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( ـ سبحانه ـ .
((ومتضمِّنٌ ـ أيضًا ـ : للرحمة الواسعة التي قال الله عنها : ( ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شيء ()) . رحمةُ العباد لا تسع كل شيء .
((وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين : ( ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلمًا ( )) ( فاغفر ( انظروا للتوسُّل هذا، بعد أن قالوا : ( ربنا وسعت لك شيء رحمةً وعلمًا فاغفر للذين تابوا ( هذا يدعوا للمؤمنين بعد التوسُّل بأسماء الله ـ تعالى ـ وسِعَة رحمته.(6/15)
(4) ((والحسن في أسماء الله ـ تعالى ـ يكون باعتبار كل اسم على انفراده)) . كل اسمٍ من أسماء الله ـ تعالى ـ بالغٌ الغاية في الحسن .
((ويكون باعتبار جمعه إلى غيره فيصل بجمع الاسم إلى الآخر)) وذكرهما معًا ((كمالٌ فوق كمال)) .
((مثال ذلك : ((العزيز الحكيم)) )) . لننبهكم مرّة أخرى على تناقضات الأشاعرة : الأشاعرة يُثبتون لله العزة ولكن لا يؤمنون بالحكمة، يقولون : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ( اللام ) هذه ليست ( لام العلة ) أو ( لام الحكمة ) يقولون :
( لام الصيرورة ) ليصير الأمر فيما بعد إلى عبادة ـ سبحانه وتعالى ـ لأن أفعال الله
ـ تعالى ـ لا تُعَلَّل ـ هكذا يقولون ـ أفعال الله ـ تعالى ـ لا تُعلّل، لا يقال فعل لكذا، خلق لكذا، شرع لكذا، لا يُقال هذا، وارتكبوا ارتباكًا، وآخر من ارتبك الشخص الذي دائمًا نكرِّر اسمه : البوطي في كتابه، هذا ارتبك في وصف نفي الحكمة ارتباكًا لم يستطع أن يقول بصريح العبارة : ليس بحكيم، ولم يستطع أن يقول بصريح العبارة بأنه حكيم لَفّ ودار ولَتَّ العجين وأخيرًا قدّم شخصًا قال : كما حقّق فلان؛ وفلان لَمّا جاء فعل مثل فعله يدور فخرج بدون نتيجة؛ هكذا الإنسان إذا حادَ عن الجادّة ودخل في بُنَيّات الطريق لا يدري أين يهلِك .
كيف تنفي الحكمة على الحكيم، يعني يفعل بعث يخلق ويرزق ويشرِّع بدون
حكمة ؟ لم يستطع أن يصرِّح بهذا المعنى ولم يستطع أن ينفي؛ ولو قرأتم هذا الموضوع في كتابه تستغربون وتزدادون إيمانًا بالله كيف يقسِّم المفاهيم بين عباده؛ المفاهيم مثل الأرزاق مقسومة بين العباد هذا له فهم وهذا له ـ سبحانه ـ .
((فإن الله يجمع بينهما في القرآن كثيرًا؛ فيكون كلٌّ منهما دالاًّ على الكمال الخاص الذي يقتضيه ذلك الاسم وهو العزة في ((العزيز)) )) . اسم الله ( العزيز ) يدلُّ على العزة الكاملة .(6/16)
((والحُكم والحكمة في ((الحكيم)) )) . اسمُ الله ( الحكيم ) يدلُّ على الحُكْم العادل والكامل والحكمة البالغة الكاملة .
((والجمع بينهما دالٌّ على كمالٍ آخر وهو)) . انبهوا لهذا الكمال الآخر .
((أنّ عزّته ـ تعالى ـ مقرونة بالحكمة)) . عزة مع الحكمة .
((فعزّته لا تقتضي ظلمًا وجَوْرًا وسوء فعل كما قد يكون من أعِزَّاء المخلوقين)). المخلوق مخلوقٌ ما إذا صار له عزّة وغَلَبَة وملك .
((فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم)) ولا يبالي لأنه يقول : مِن الذي فوقي، من يأخذني .
((ويجور ويسيء التصرُّف)) ويقرِّب هذا ويُبعد هذا، ويأخذ مال هذا، ويظلم هذا، ويقتل هذا إن شاء، يتصرّف لأن عزّته هذه ليست مقرونة بالحكمة عزّة طائشة .
لكنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ في عزّته حكيم ـ سبحانه ـ .
((وكذلك حكمه ـ تعالى ـ وحكمته مقرونان بالعز الكامل)) . يحكم وهو العزيز الكامل في عزّته، ويتصرّف بحكمة وهو العزيز الكامل في حكمته .
((بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل)) . قد يطيش صاحب العزّة فيظلم، ولكنّ العزيز الحكيم الحليم قد يتركه فترةً من الزمن يظلم ويبطش ويسيء فيأخذ أخذ عزيز مقتدر فيُذِلُّه فتنتهي عزّته وحكمه وملكه إلى الذُلّ لأنه شيء طارئ لأن الله وحده يُعطي الملك من يشاء وهو الذي يعطيه وهو الذي يأخذ وهو يوفِّقه وهو يُخْذله .
لذلك : لا ينبغي الإنسان إذا الله أعطاه منصبًا أو مكانةً أو مالاً أو جاهًا أو قوة ـ حتى قوة بدنية ـ ينسى الله فيتعمد على قوّته وعلى عزّته وعلى ما لديه من الإمكانية لا، إذا نسيَ الله هذا على خطر؛ لكن إنْ شكر الله على ما أعطاه من العزّة والمُلْك والتمكين والقوة والمال والصلاحية والعلم وقوة البدن وقوة الذاكرة وقوة السمع وقوة البصر إذا شكر اللهُ على ذلك زاده ( لئن شكرتم لأزيدنّكم ( .
ولكن إن نسيَ الله واعتمد على ذلك فهو هالك ولا مَحالة طالت الأيام أم قَصُرت.(6/17)
(5) قال المؤلِّف الشيخ محمد العُثيمان في ((قواعد المثلى)) قال ـ حفظه الله وزادنا وإيّاه من العلم ـ :
((قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ)) . فالله ـ سبحانه وتعالى ـ له الأسماء
الحسنى ـ وقد تقدّم الحديث عن الأسماء الحسنى بما تيسّر ـ، وله الصفات العلى؛ فالحديث يبدأ في هذه الليلة في صفات الله ـ تعالى ـ؛ أي : ذكر القواعد في صفات الرب ـ سبحانه وتعالى ـ .
((القاعدة الأولى)) من القواعد في صفات الله ـ تعالى ـ : أن ((صفات الله
ـ تعالى ـ كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه)) من أمثلة الصفات التي نتحدّث عنها : ((الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعزّة، والحكمة والعلو، والعظمة، وغير ذلك)) . هذه الصفات قد يتّصف بها مخلوق؛ المخلوق حي موصوف بصفة الحياة، وموصوفٌ بالعلم، وموصوف بالقدرة وبالسمع والبصر إلى آخر الصفات المعدودة، هذه الصفات موجودة في المخلوق، ولكن صفات الله
ـ تعالى ـ وحدها هي الكاملة، وهذه الصفات في المخلوق ناقصة، فصفات الله
ـ تعالى ـ هي الكاملة : حياةُ الله ـ تعالى ـ صفة كمال لا نقص فيها بوجهٍ من الوُجوه، العلم ـ علم الله تعالى ـ صفةُ كمال لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه، علمٌ محيطٌ بجميع المعلومات، علمٌ لم يُسْبَق بجهل، علمٌ قديم قِدَم الذات، لم يُسبق بجهل، ولا يطرأ عليه نسيان أو غفلة أو ذُهول، علمٌ باقٍ بقاء الذات العليّة، قديمٌ قِدَم الذات العليّة، وباقٍ بقاء الذات العليّة ومُحِيطٌ بكل شيء؛ لا أحد يتّصف بعلم كهذا العلم؛ هذا هو وجهُ الكمال، هذا هو المثل الأعلى .(6/18)
فالله ـ سبحانه وتعالى ـ له الكمال المطلق في جميع صفاته؛ والاشتراك اللفظي بين صفات الله وصفات المخلوق إنما هو قبل أن تُضاف صفة الله إلى الله وقبل أن تُضاف صفة المخلوق إلى المخلوق، وهذا يسمّى عند أهل الكلام : ( المطلق الكُلِّي )، ومثل هذه الصفة لا وُجود لها في الخارج، وإنما يتصوّر الإنسان في ذهنه العلم بدون أن يكون علمَ زيد أو علم مخلوق أو علم خالق، أما بعد إضافة علم الله إلى الله لا أحد يشارك الله
ـ تعالى ـ في علمه بالمواصفات التي ذكرناها، أي : لا يتّصف بعلمٍ محيط بجميع المعلومات لا تخفى عليه خافية، لا يوجد، ولا يوجد أحدٌ يتّصف بعلم قديم لم يُسبَق بجهل؛ ما عندنا يسمّى معرفة، المعرفة مسبوقة بجهل؛ فالرب ـ سبحانه وتعالى ـ لا يوصف بالمعرفة، ولكن يوصف بالعلم؛ علم الله غيرُ مسبوق بجهل وغير منتهٍ ـ أي : لا يطرأ عليه جهل أو نسيان كما قلنا ـ ومحيطٌ بكلِّ شيء .
قِسْ على العلم سائر الصفات، صفات الله ـ تعالى ـ كلها بهذه المثابة من الكمال المطلق .
قال الشيخ ـ حفظه الله ـ : ((وقد دلّ على هذا)) على كمال صفات الله
ـ تعالى ـ : ((السمع والعقل والفطرة)) . السمع ما معنى السمع ؟ المراد بالسمع : أي: الأدلة المسموعة عن الله ورسوله؛ سبق أن قلنا : الدليل السمعي يسمّى الدليل
( السمعي ) ويسمّى ( الدليل الخبري ) ويسمى ( الدليل النقلي )، فلتُحفظ هذه الألقاب؛ المراد بذلك : آياتٌ من كتاب الله ـ تعالى ـ وأحاديثُ صحيحة من سنة رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ تسمّى ( الأدلة السمعية ) و ( الأدلة الخبرية )
و ( الأدلة النقلية ) .(6/19)
أي : دلّ الكتاب والسنة على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ موصوف بصفات الكمال التي منها هذه الصفات، وليس في هذا حصْرٌ لصفات الله ـ تعالى ـ في عدد معيَّن، كمالات الله ـ تعالى ـ لا حصر لها ولا انتهاء، ولكن بعض الصفات الواردة في الكتاب والسنة نؤمن بها وما لم يرد في الكتاب والسنة نقول : موصوف بجميع الكمالات دون تحديد لأن صفات الله ـ تعالى ـ توقيفيّة، ليس لنا أن نصف الله من عند أنفسنا، كما أنه ليس أن نسمّيَ الله من عند أنفسنا، كلُّ ذلك بابٌ توقيفي .
((والعقل)) . وكذلك دلّ العقل العقل السليم الذي سَلِم من شبهات علماء الكلام، بقيَ على سلامته وصراحته يدلُّ على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ موصوف بجميع الكمالات، وإن كان العبد ليس له أن يحدِّد ويعيِّن الصفات، لكن إذا عُرض على العقل السليم ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الكمال يسلِّم فيُثبت فيوافِق ولا يخالف .
وإلا فإن العقل لا يكون دليلاً أصليًّا مستقلاًّ نثبت به صفات الله ـ تعالى ـ، بل صفات الله ـ تعالى ـ إنما تُثْبَت بالكتاب والسنة ولا يُتجاوَزُ الكتاب والسنة، والعقل يوافق فقط .
((والفطرة)) . كذلك الفطرة : فطر الله العباد وجَبلهم على اعتقاد بأن الله كاملٌ في ذاته وصفاته لا نقص فيه، وأنه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( .
وإن كان دليل الفطرة ـ أيضًا ـ ليس له أن يعيِّن الصفات، ولكن يؤمن بكمال الله ـ تعالى ـ في ذاته وصفاته .
ثم قال الشيخ : ((أما السمع فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مَثَلُ السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم (، والمثل الأعلى هو : الوصف الأعلى)) . الشاهد : ( ولله المثل الأعلى (؛ والمثل الأعلى قال الشيخ : ((الوصف الأعلى)) أي : موصوفٌ بالكمال المطلق في جميع صفاته .
((وأما العقل فوجهه)) أي : وجه دلالة العقل .
((أنّ كلَّ موجودٍ حقيقة)) أي : وجوده حقيقي .(6/20)
((فلا بد أن تكون له صفة إما صفة كمال وإما صفة نقص)) لا بد، طالما هو موجود وجودًا حقيقيًّا خارجيًّا لا ذهنيًّا لا بد أن تكون له صفة، إما صفة كمال أو صفة نقص .
((والثاني باطلٌ بالنسبة إلى الرب الكامل المستحقّ للعبادة)) أي : كونه موصوفًا بصفة نقص باطلٌ في حقِّه ـ تعالى ـ لأنه الكامل المستحقّ للعبادة .
((ولهذا أظهر الله بُطلان أُلوهية الأصنام باتّصافها بالنقص والعجز فقال
ـ تعالى ـ : ( ومن أضلُّ ممّن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم
القيامة ()) عدمُ الاستجابة نقص ( وهم عن دعائهم غافلون ( لا يعلمون ولا يسمعون وهذا نقص .
((وقال ـ تعالى ـ : ( والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا ()) وهذا نقص، عاجز لا يخلق شيئًا، إما جمادٌ أو مخلوق عاجز، ( وهم يُخلقون ( هم بأنفسهم بحاجة إلى الخالق، وكيف يستحقّون العبادة وهم مخلوقون عاجزون عن خلق أنفسهم وخلق غيرهم ( أمواتٌ غيرُ أحياء وما يشعرون أيّا يُبْعثون ( هذه كلها صفات نقص يُستدلُّ بها على بُطلان عبادة من عُبد وما عُبد من دون الله ـ تعالى ـ كائنًا مَنْ كان؛ هذا الوصف ينطبق على الصالحين وغير الصالحين، على الجمادات وغير الجمادات، كلُّ ما سوى الله عاجز مخلوق غافل لا يقضي الحاجات، لا يخلق ولا يرزق، صفاتٌ يشترك فيها كلُّ مَنْ سوى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، لذلك : لا يستحق العبادة الصالحون ولا الطالحون على حدٍّ سواء، لا فرق بين مَن عَبد صالحًا أو عَبد طالحًا .
((وقال عن إبراهيم وهو يحتجُّ على أبيه : ( يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا
يُبصر ( )) لِمَ تعبد ناقصًا لا يسمع ولا يُبصر ( ولا يُغني عنك شيئًا ( استدلّ بذلك على نقص المعبود، فإذا كان ناقصًا لا يستحقُّ العبادة .
((وعلى قومه : ( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم أُفٍّ لكم ولِمَا تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ()) المعنى واحد .(6/21)
يقول الشيخ : ((ثم إنه قد ثبت بالحِسِّ والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال وهي من الله ـ تعالى ـ)) أي : الله هو الذي منح صفات الكمال لبعض المخلوقات ((فمُعْطي الكمال أولى به)) أولى بالكمال؛ الذي أعطى صفات الكمال لخلقه : منحنا شيئًا من العلم وإن كان قليلاً، ومنحنا الحياة والسمع والبصر، هذه صفات كمال، الإنسان الذي يعلم، والإنسان الذي يُبصر ويسمع أكمل من الذي لا يعلم من الجاهل، الذي يسمع ويُبصر أكمل من الذي لا يسمع ولا يُبصر وهكذا؛ أعطى خلقه هذه الصفات وهي صفات كمال إذًا : فهو أعلى، مُعْطي الكمال أولى بالكمال؛ فكماله : الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه أحد .
الحِس والمشاهدة متقارب أو الحس أشمل، الحس يشمل السمع والبصر واللمس والذوق والشم، يحس الإنسان بهذه الحواس، هذه يقال لها الحواس الخمس، يُدرك الإنسان المدركات بالسمع والبصر وباللمس والذوق والشم؛ والمشاهدة أخص والحس أشمل ـ أعم ـ .
(6) قال المؤلّف ـ حفظه الله تعالى ـ :
((وأما الفطرة : فلأن النفوس السليمة مجبولة)) و ((مفطورة)) ومطبوعة ((على محبة الله وتعظيمه وعبادته)) ما لم يصرفها صارفٌ خارجي كأن يُهَوَّد أو يُنَصَّر أو يُمَجَّس أو يُجَهَّم، تأتي صفات خارجية تغيِّر الفطرة؛ والفطرة السليمة الله جَبَل عباده على محبة الله وتعظيمه وعبادته؛ إذا انصرف الفطر عن هذا المفهوم إلى محبة المخلوق محبّةً كمحبة الله وإلى عبادة المخلوق وصرف أنواع العبادة لغير الله، وتعظيم المخلوق تعظيمًا لا يليق إلا بالله تعلمون بأن الفطرة قد تغيّرت وتلوّثت بشُبهٍ خارجية سواءٌ كانت إلى الكفر أو إلى ما دون الكفر من الإلحاد الذي قد لا يصل إلى حدِّ الكفر .
((وهل تحب وتعظِّم)) الفطرة ((وتعبد إلا من عَلِمَتْ أنه متّصفٌ بصفات الكمال اللائقة بربوبيّته وأُلوهيّته)) لَمّا علمت ذلك ـ أي : فطر الله على ذلك ـ عظّمت وأحبّتْ وعَبدت وخضعتْ قبل أن تتغيّر .(6/22)
((وإذا كانت الصفة نقصًا لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله ـ تعالى ـ كالموت، والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، والصمم، ونحوها)) وهذا أمرٌ واضح ((لقوله ـ تعالى ـ : ( وتوكّل على الحي الذي لا يموت ( )) ولا تتوكّل وتعتمد على الحيّ الذي يموت، لأن الحيّ الذي يموت حياته ناقصة كحياتك، تعتمد وتتوكّل على حيٍّ بحياة مثل حياتك ـ حياة ناقصة ـ وتترك الحي الذي لا يموت، لا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة إلا إذا تغيّرت فطرته .
((وقوله عن موسى : ( في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ()) فغير الرب
ـ سبحانه وتعالى ـ يضلُّ ويجهل وينسى؛ النسيان : الغفلة والذُّهول، وهذا مستحيلٌ على الله .
((وقوله : ( وما كان الله ليُعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ()) ( من ( لاستغراق النفي : لا يعجزه، ( وما كان ليُعجزه من شيء في السموات ولا في
الأرض ( أيُّ شيء .
((وقوله : ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم بلى ()) نسمع ( ورسلنا لديهم يكتبون ( زيادة على ما نسمع نحن؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يسمع ومع ذلك وكّل ملائكة يكتبون .
((وقال النبي ( في الدجّال : ((إنه أعور)) )) أعورُ العين اليُمنى، كأن عينه عنبة طافية ـ أو طافئة، لفظان ثابتان ـ، كان عينه عِنَبَةٌ طافية .(6/23)
((وإن ربكم ليس بأعور)) وأشار إلى عينيه؛ ((وإن ربكم ليس بأعور)) إثباتٌ للعينين لله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ وليس في هذه الإشارة تشبيه عين الرب ـ سبحانه وتعالى ـ بعين المخلوق إذْ ( ليس كمثله شيء (، ولكنْ إثباتًا للحقيقة؛ الإشارة إلى العينين دليل على إثبات عينين حقيقيّتين كما أشار النبي ( إشارة حسيّة إلى العلو في خطبة حجّة الوداع لَمّا سأل الصحابة في آخر الخطبة فقال لهم : ((أنتم مسؤولون عني ماذا أنتم قائلون ؟)) ـ أي : أمام الله يوم القيامة ـ قالوا : ((نشهد بأنك أدّيت ونصحت))، قال النبي ( هكذا بإصبعه : ((اللهم اشهد، اللهم اشهد))، يُشير إلى الله الذي فوقه وفوق السموات وفوق كلِّ شيء، يشير إليه ويُشهده عليهم على هذه الشهادة بأنهم شهِدوا له بأن رسول الله ( بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح لأمّته؛ هذه الإشارة يستثقل اليوم كثيرٌ من علماء الكلام ـ وخصوصًا الأشاعرة ـ بل ينكرون ويتشدّدون ويشدِّدون الإنكار على الإشارة الحِسِيّة فيقولون : لا تجوز الإشارة الحسية إلى العلو لأن في ذلك إثبات العلو لله ـ تعالى ـ؛ ونحن قد أثبتنا العلو قد الإشارة : فالله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي أثبت لنفسه قبل الإشارة، ما أشار النبي المعصوم إلى الله إلا بعد أثبت الله لنفسه العلو وأثبت له رسوله (؛ أما تقرأ قوله ـ تعالى ـ أيها الأشعري : ( أأمنتم من في السماء (، ( إليه يصعد الكَلِمُ الطيِّب والعمل الصالح يرفعه (، أين أنت من هذه الآيات، ومن قوله ( : ((إن الله لما قضى الخلق كتب كتابًا وهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي)) ـ أو غلب غضبي ـ؛ علو الله ـ تعالى ـ ثابتٌ بالكتاب والسنة والفطرة والعقل والإجماع؛ صفةٌ كهذه نفيها خطرٌ على إيمان العبد، صفة ثابتة لله ـ تعالى ـ بالكتاب وبالسنة الصحيحة وبإجماع الصحابة وبالعقل السليم والفطرة السليمة، ما من مخلوق يعقل إلا ويعتقد ـ ما من إنسان يعقل إلا ويعتقد ـ بأن الله يُدعى مِن فوق،(6/24)
لذلك : كلُّ داعٍ إنما يقول : يا الله [ يبدوا أن الشيخ رفع يديه إلى
العلو ]، ولم نسمع قطّ من يقول : يا الله [ يبدوا أن الشيخ أشار بيده إلى جهة أخرى غير العلو ]، إنما يقولون : يا الله [ لعله رفع يديه ]؛ ولو سألنا أعرابيًا أو جاهلاً عربيًا أو عجميًّا قلنا له : أين الله ـ قبل أن تسمع الأشاعرة ـ ؟ فيقول : في السماء ـ كما قالت الجارية ـ؛ ليس هناك أجهل من حيث الدراسة من جارية راعيةٍ للغنم سُئلت هذا السؤال، والذي سألها أشرف الخلق سيِّد ولد آدم محمد ( في مناسبة معروفة ذكرناها غيرَ مرّة، قال لها : ((أين الله ؟)) قالت : في السماء، وقال لها : ((مَن
أنا ؟)) قالت : أنت رسول الله (، لأن الجارية كانت تعيش هنا عند ضاحية من ضواحي المدينة ترعى غنم أهلها هناك، تسمع وتعلم عن رسول الله ( واقتنعت وآمنت بأنه رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، آمنتْ هذا الإيمان ولكن آمنت بعلوِّ الله بالفطرة قبل أن تدخل أيّ مدرسة .
إذًا : الفطرة والعقل السليم وأدلّة الكتاب والسنة المستفيضة التي عدّدها كثيرٌ من أهل العلم بالعشرات ـ وربما تقرُب من المئات ـ تثبت علوّ الله ـ تعالى ـ على خلقه، وأنه ليس مختلطًا بخلقه، لا يقال : إنه في كل مكان وفي كلِّ شيء، لا يقال : إنه في جوف السماء، ولا ينبغي أن يتبادر إلى ذهنك عندما تقرأه قوله ـ تعالى ـ :
( أأمنتم مَن في السماء ( أن هذه الأجرام تحيط به أنه داخل السموات لا، ( أأمنتم مَن في السماء ( أي : أأمنتم من في العلو؛ العلو ـ علو الله تعالى ـ بمعنى : أنه بائنٌ من خلقه؛ سُئل عبد الله بن المبارك : بِمَ نعرف ربنا ؟ قال : ((نعرفه بأنه مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه))، ليس في ذاته شيءٌ من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته .
والاعتقاد بأنه في كلِّ مكان بذاته ـ أو في كلِّ شيء بذاته ـ هذه عقيدة الحُلول، إلحادٌ وكفر؛ ما لم يلبَّس على الإنسان وتوجد له شُبهة تحول بينه وبين الكفر .(6/25)
أجمع أهل العلم على أنه من نفى صفة ثابتة بالكتاب والسنة فهو يكفُر، لكن مسألة الكفر بالنسبة للقاعدة : نحن نُطلق هكذا ونؤمن بهذه القاعدة، إلا أنّ الأفراد : قد ينفي الإنسان صفةً ولا يكفُر، أي : كفر المعيَّن يُتَحَفَّظُ فيه، لأن هذا المعيَّن قد تكون له شبهة، ويُعذر بجهل كأن كانت الصفة خفية، كأن عاش في بيئة بين المعتزلة أو بين الأشاعرة الذين يؤوِّلون وينفون الصفات نشأ هناك ولا يعلم من الدين إلا ما يسمع من المعتزلة ومن الأشاعرة ومن علماء الكلام، يحسب أن هذا هو الدين نفسه هو الدين الذي جاء به النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ طالما يعيش في تلك البيئة الفاسدة يُعذر حتى يخرج فيعلم فتقوم عليه الحجة إن تعصّب بعد ذلك قال : أنا لا أترك ما وجدت عليه شيوخي وإن كانت الصفة ثابتة بالكتاب والسنة لكن لا أغيِّر ولا أبدِّل ما كنت عليه؛ بعد علمه يُحكم بكفر، وقبل ذلك لا .
لذلك : هذه القاعدة : ( من شبّه الله بخلقه فهو كافر، ومن نفى صفةً ثابتة بالكتاب والسنة فهو كافر ) هذه قاعدة، قد يخرُج من هذه القاعدة أفرادٌ من الناس بأعذار لوجود أعذارٍ لهم إما شبهة مانعة من فهم ما جاء به رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو جهل يعيش في بادية بعيدًا من أهل العلم ولا صلة له بهذا البحث، عُرضت عليه صفة تصوّر، لَمّا قيل له إن ربنا ينزل كلَّ أخر ليلة تصوّر نزولاً كنزول المخلوق، ولم يجد من يوجِّهه ويعلِّمه أنه ينزل نزولاً يليق به لا كنزول المخلوق ويأتي لفصل القضاء يوم القيامة كما يليق به لا كمجيء المخلوق، لم يجد معلِّمًا يوجِّهه هذا التوجيه، فوجئ بصفات هذه الصفة ونفى واستنكر؛ هذا يعلَّم ولا يُعلن بكفره حالاً، لا بد من التعليم وإقامة الحجة عليه .(6/26)
أو ـ كما قلنا ـ عاش في بيئة أشعرية تُعلن بأن الله ليس فوق العرش ولا تحت العرش ولا على يمينه ولا على شماله، أي : النفي المطلق ـ نفيٌ لله تعالى ـ، ولا تجوز الإشارة الحسيّة إلى السماء، من أشار إلى السماء إشارة حسيّة واعتقد بأن الله في العلو كافر، وإن لم يعتقد فهو فاسق؛ درَس هذا المنهج، والأساتذة تخرّجوا على منهج المنهج، وخرّجوا التلاميذ على هذا المنهج، ولم يسمعوا شيئًا غيرَ هذا؛ إذًا : هؤلاء التلاميذ ينبغي أن نعذرهم حتى يخرجوا من تلك البيئة ويتعلّموا؛ وهذا ما حصل لكثير من الذين تخرّجوا على ذلك المنهج وبعد خروجهم من تلك البيئة تغيّروا وفهِموا وأثبتوا صفات الله ـ تعالى ـ وألّفوا في ذلك، وهذا شيء كثير، أمثلة كثيرة لا يسع الوقت لذكرها .
وبعد : إثبات العينين لله ـ تعالى ـ نأخذ من هذا الحديث، ونأخذ من القرآن إثبات العين بصفة عامة، وربما تُجمع، الجمع لإضافتها إلى ضمير الجمع لا لتعدُّدها؛ إثبات العين عامة ـ بصفة عامة ـ يؤخذ من الكتاب، وإثبات عينين لله ـ تعالى ـ نأخذ من قصة الدجّال هذه التي بين أيدينا .
((وقال : ((أيها الناس ارْبعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا)) )) . أثبت بهذا بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ سميع، وأنه قريب قربًا يليق به؛ الله قريب في علوّه وعليٌّ في قربه؛ عليّ، صفة العلوّ صفة ذاتية ثابتة لا تنفكّ عن الله كالقدرة والإرادة والسمع والبصر تمامًا؛ صفة العلو صفة ذاتية ثابتة لا تنفكّ عن الذات العلية؛ وعلوه هذا لا يمنع قربه ومعيّته معيّة تليق به وقربًا يليق به، فهو مع كلِّ واحدٍ منا ومن غيرنا، يسمع كلام كلِّ واحدٍ منا ويعلم ما في نفسه، مع كلِّ داعٍ ومستغيث كما يليق به، وليس ذلك لغير الله، ما أعظم شأن الله، كونه عليّ وهو قريب .
ولا يُفهم من هذا أنه معنا بذاته في الأرض، بل ـ كما سيأتي ـ معية الله(6/27)
ـ تعالى ـ المعيّة العامّة معيّة العلم، وهي حقيقيّة، كما أنّ معيّة الذات لغير الله
ـ تعالى ـ إذا قلنا فلانٌ معنا حقيقة وإذا قلنا : الله معنا بعلمه أيضًا حقيقة لأن لفظة ( مع ) لا تدل على المخالطة الذاتية وإنما تدلُّ على مطلق المقارنة والمصاحبة ـ وسيأتي هذا البحث إن شاء الله موسَّعًا ـ .
((وقد عاقب الله ـ تعالى ـ الواصفين له بالنقص كما في قوله ـ تعالى ـ :
( وقالت اليهود يدُ الله مغلولة غُلَّتْ أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان يُنفق كيف يشاء ()) . ( يداه ( لله يدان، ( ما منعك أن تسجد لِمَا خلقتُ بيدي (،(6/28)
( بل يداه مبسوطتان (، كيف تُجيب الأشاعرة على هاتين الآيتين حيث يزعمون أن اليد في حقِّ الله ـ تعالى ـ : القدرة أو النعمة، هل يمكن أن يقال : ( بل يداه مبسوطتان ( : نعمتاه، لله نعمتان فقط ؟ نِعَمٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وهل لله قدرتان ؟ قدرة واحدةٌ باهرة، باتّفاقنا معهم، هم يتّفقون معنا بأن لله قدرة لا يقولون له قدرتان؛ إذًا : ( بل يداه مبسوطتان (، ( لِمَا خلقتُ بيدي ( هما صفتان لا قدرتان ولا نعمتان ولا جارحتان كأيدينا ولكنهما صفتان تليقان بالله ـ تعالى ـ لا نعلم كيفيّتهما، لأننا لا نعلم كيفيّة ذاته ـ سبحانه ـ، وكيف نحاول أن نُدرك كيفيّة صفاته سواء كانت صفات الذات كهذه أو صفات فعل ؟؛ الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، إذا كنا قد عجزنا عن إدراك حقيقة الرب ـ سبحانه ـ واعترفنا بعجزنا وقلنا : ((العجز عن الإدراك إدراك)) ـ تُحكى هذه العبارة عن أبي بكر الصديق ( ـ ((العجز عن الإدراك إدراك))، اعترافك بالعجز عن إدراك حقيقة الله ـ تعالى ـ هو الإدراك؛ كذلك اعتراف بالعجز عن إدراك حقيقة صفات الرب وأسمائه وأفعاله وسرِّ قدَره هو الإدراك، أي : ذلك هو الإيمان، ((العجز عن الإدراك إدراك))؛ هكذا يجب أن نقول في الصفات لأننا قلنا ذلك في الصفات بالإجماع ـ حتى الأشاعرة معنا وحتى المعتزلة معنا ـ بالنسبة لإدراك الذات بدون إدراك لحقيقة الذات، ولكنّ المحاولة ـ محاولة إدراك الصفات بعد عجزك عن إدراك حقيقة الذات ـ محاولة فاشلة، هذه المحاولة أدّت الناس إلى إحدى نتيجتين : إما التشبيه كما قال المشبِّه قالوا : أثبت الله لنفسه صفات في كتاب، وأثبت له رسوله (، ونحن لم نُكَلَّف أن نعقِل أكثر ممّا نعقل في أنفسنا : السمع كالسمع والبصر كالبصر والعلم كالعلم إلى آخر، قالوا : لا يمكن أن يكلِّفنا بما لا نعقل، إنما نعقل هذه الصفات التي نعقلها في أنفسنا، فشبّهوا صفات الله ـ تعالى ـ بصفات خلقه، وبالتالي شبّهوا ذات الرب(6/29)
ـ سبحانه ـ بذوات خلقه؛ هذه محاولة الإدراك .
النتيجة الثانية : النفي؛ قالوا : وصف الله نفسه بهذه الصفات فإثبات هذه الصفات تؤدِّي إلى التشبيه، إذًا : ما المخرَج ؟ المخرج : نفيُ هذه الصفات حتى ننزِّه الله
ـ تعالى ـ لأن تنزيه الله ـ تعالى ـ واجب، فإثبات هذه الصفات يؤدِّي إلى التشبيه فنفوا الصفات؛ وهم المعتزلة .
وجاءت جماعة حاولت محاولة محاولة الإصلاح والتوسُّط بين المعتزلة وبين أهل السنة: قالوا : لا، ننظر في الصفات ما كان من قبيل الصفات العقلية نُثبتها على حقيقتها كما يليق بالله ـ تعالى ـ، القدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والحياة، هذه يسمونها صفات المعاني وهي الصفات العقلية، أي : أن العقل يشترك السمع في إدراكها، يجب إثباتها على ما يليق بالله ـ تعالى ـ؛ وأما الصفات الفعلية كالنزول والمجيء والاستواء، والصفات الخبرية كالوجه واليدين والفرح والضحك والعجَب هذه الصفات يجب تأويلها بلازمها ولا تَثْبُت على ظاهرها وليس الظاهر مرادًا لله، بل مراد الله
ـ تعالى ـ خلاف هذا الظاهر؛ من أين علمتم مراد الله ؟ من قال لكم إن الله يتكلّم بكلام ويريد خلاف [ … ] بل لازمها ـ لازم الرحمة، ولازم الغضب، ولازم المحبة؛ هكذا خاضوا خوضًا لم يخضه غيرُهم، لأن غيرهم ـ كالجهمية ـ نفوا كلّ شيء وابتعدوا عن الإسلام وأراحوا الناس، والمعتزلة نفوا جميع الصفات فعُرف موقفهم لا يُشَوِّش على الناس، أما الطائفة المشوِّشة على الناس هم الأشاعرة لا نفوا فأراحوا وأراحوا الناس ولا أثبتوا فاستراحوا وأراحوا الناس ولكنّهم اضطربوا فأوقعوا الناس في الاضطراب؛ أدرك فطاحل العلماء منهم هذا المعنى فندموا فبكوا في آخر حياتهم بكاء الثكلى كإمام الحرمين والشَّهْرَسْتَاني والرازي والغزالي ـ وربما يَمُرُّ بنا شيءٌ من هذا إن شاء الله ـ .(6/30)
إذًا : نثبت لله ـ تعالى ـ يدين لا على أساس أنهما جارحتان كأيدينا أو أنهما قدرتان أو نعمتان بل صفتان تليقان بالله ـ تعالى ـ .
ثم قال ـ حفظه الله ـ : ((وقوله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلَهم الأنبياء بغير ونقول ذوقوا عذاب الحريق ()) جزاءً . هذا الوصف ـ وصف الله ـ تعالى ـ بالنقص وقتل الأنبياء تهديد ووعيدٌ شديد من الله ضدّ الذين يصفون الله ـ تعالى ـ بالنقص .
(7) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ووفّقنا وإيّاه ـ : ((ونزّه)) الله ـ تعالى ـ ((نفسه عمّا يصفونه به من النقائص فقال ـ سبحانه ـ : ( سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون . وسلامٌ على المرسلين . والحمد لله رب العالمين ()) . نزّه الله نفسه عمّا يصفه به الكفّار من الصاحبة والولد وغير ذلك .
((وقال ـ تعالى ـ : ( ما اتّخذ من ولد وما كان معه من إله إذًا لذهب كلُّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمّا يصفون ()) . لو فُرض أن هناك إله آخر وكلُّ إله يحاول أن يعلوا على الآخر أو يذهب كلُّ إله بما خلق، ولَمّا لم يحصل شيءٌ من ذلك تبيّن أن الإله الحق هو خالق السموات والأرض وحده لا شريك له؛ هذا بالاختصار .
وهنا قاعدةٌ مهمّة شرع فيها المؤلِّف ينبغي التفطُّن لها : ((وإذا كانت الصفة كمالاً في حال ونقصًا في حال لم تكن جائزةً في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق)) . صفاتٌ من صفات الأفعال وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بها، وهذه الصفات قد تُمدح في حال وتُذمُّ في حال، وفيها كمالٌ في حال ونقصٌ في حال، تُستعمل هذه الصفات كما جاءت ولا يقاس عليها غيرُها، تستعمل إذا كانت دالّة على الكمال ليس فيها ظلم ولا كذب، وإذا كانت تتضمّن الظلم وتتضمّن الكذب فالله ـ سبحانه وتعالى ـ منزّهٌ عن ذلك .(6/31)
((فلا ثُبت له إثباتًا مطلقًا ولا تُنفى نفيًا مطلَقًا)) . الكيد ـ مثلاً ـ لا ينفى نفيًا مطلقًا ولا يُثبت إثباتًا مطلَقًا، وكذلك المكر، وكذلك الخداع، وكذلك الاستهزاء؛ هذه صفاتُ أفعال ـ كما سيأتي التفصيل ـ وصف الله نفسه بها في بعض المواضع حيث تدلُّ على الكمال وعلى القدرة وعلى العلم، وهي بعيدةٌ عن الظلم والكذب، يجوز إثباتها في هذا الموضع، أي : في الموضع الذي تدلُّ فيه هذه الصفة على الكمال على كمال علم الله ـ تعالى ـ وكمال قدرته وأنه منزّهٌ عن الظلم والكذب في هذا الموضع تثبت هذه الصفات : المكر والخداع والاستهزاء .
((بل لا بد من التفصيل فتجوز)) هذه الصفات ((في الحال التي تكون كمالاً)) كما قلنا، متى تكون كمالاً ؟ إذا دلّت على سعة علم الله ـ تعالى ـ وقدرته الباهرة، ومنزّهة عن الظلم والكذب، بهذه القيود .
((وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا)) ذلك لأن الكيد والمكر في الأصل بالنسبة للمخلوق لا يخلوا من ظلم أو كذب، في هذه الحالة لا يُثبت لله .
((وذلك كالمكر والكيد والخِداع ونحوها، فهذا الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها لأنها حينئذ تدلُّ على أنّ فاعلها قادرٌ على مقابلة عدوّه بمثل فعله أو أشد)) . عندما مكر اليهود بعيسى وأرادوا الفتْك به مكر الله بهم وهو خير الماكرين، وألقى الشَّبَه على مَن أراد الفتْك فقُتل، ورفع عبده ونبيه ورسوله وكلمته عيسى إليه فسَلِم من مكرهم .(6/32)
المكر : إيصال الأذى والشر إلى الغير في خُفية، أن يحاول الإنسان أن يوصِل الشر والإيذاء إلى الغير في خُفْية وبَغْتة، هذا ما حاولت اليهود، فأوصل الله إليهم ما يسوءهم في خُفية كما فعلوا، أي : فعلاً يناسب فعلهم وحالهم، فسَلِم عبده ورسوله عيسى، فقُتل من حاول الفتك به حيث ألقى عليه الشَّبَه؛ هذا نوعٌ من المكر؛ يُثبت هذا في موضعه لأنه يدلُّ على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليمٌ بمؤامرتهم وتخطيطهم، وأنه قادرٌ على أن يفشِّل هذا التخطيط حتى لا يفعلوا شيئًا، وأن الله قادرٌ أن يوصل إليهم ما يسوءهم من حيث لا يشعرون؛ وهذا كلُّه كمال، وليس فيه ظلم، وليس في ذلك كذب؛ الظلم : وضع الشيء في غير موضعه، وما فعل الله بمن حاول الفتك بعيسى ـ مثلاً ـ وما يفعل الله بكلِّ المخادعين والماكرين والذين يكيدون ضدّ أوليائه من المرسلين وأتباعهم ما يفعل الله بهم ليس بظلم، بل مقابل فعلهم، فعلهم ظلم، ولكن ردُّ الله ذلك الكيد وذلك المكر والخداع ليس بظلم ولا فيه كذب، بل يدلُّ ذلك على سِعَة علم الله ـ تعالى ـ كما قلنا وقدرته الباهرة وأنه لا يُعجزه شيء ولا يفوت عليه شيء .
وكذلك الكيد قال الله ـ تعالى ـ : ( كذلك كِدْنا ليوسف ( أسند الكيد إلى نفسه، اخوة يوسف كادوا بالظلم والكذب، كذَبوا بأنه أكله الذئب، وآذوه، وآذوا والده بالحزن الشديد، وهذا الكيد الله كاد له، كاد ليوسف، ومكّن منهم حتى احتاجوا إليه، وجعله ومكّنه في الأرض جعله عزيزًا في مصر يحتاجون إليه، وخلّص منهم أخاه في قصة سُواع الملك بطريقة منظَّمة ومخطّطة من السماء؛ لذلك : أسند إلى نفسه :(6/33)
( كذلك كدنا ليوسف (؛ والكيد هنا من الله تمّ بفعل يوسف بتدبير من الله وتوفيقه ليس بظلم، ولكن ما فعله اخوته ظلم؛ ما يتضمّن الظلم من الكذب والإساءة الله منزّهٌ عنه وما فيه الخير وما فيه تأييد لأوليائه وأنبيائه وهو كيدٌ، أي : إيصال الشر إليهم بطريقة مناسبة لفعلهم، وهذا خيرٌ وكمال، لأن الله لم يخف عليه شيءٌ من ذلك التخطيط ـ تخطيط الصبية عندما خطّطوا ليوسف وزعموا ما زعموا حتى ظلموا حتى الذئب ـ كلُّ ذلك لم يخف على الله ـ تعالى ـ وكاد له ( كذلك كِدْنا ليوسف ( .
كلٌّ من المكر والكيْد والخداع هذه ألفاظ معانيها متقارِبة : أن يخدع الإنسان الإنسان بطريقة خفية لا تظهر له؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يَرُدُّ هذا الخداع بفعل مناسبٍ لذلك الفعل أي : في خُفْيَةٍ وبَغْتَة ولكن من الله ـ تعالى ـ عدل خال من الظلم ومن الكذب .
((فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابل من يعامِلون الفاعل بمثلها لأنها حينئذ تدلُّ على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله)) كما مثّلنا ((أو أشد)) .
((وتكون نقصًا في غير هذه الحال)) مثل الذي صدر من اليهود ومن اخوة يوسف ـ مثلاً ـ .
((ولهذا لم يذكرها الله ـ تعالى ـ من صفاته على سبيل الإطلاق)) . لم يصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه بالمكر والكيْد والخداع على سبيل الإطلال .(6/34)
((وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله)) ويعاملون رسله وأوليائه ((بمثلها كقوله ـ تعالى ـ : ( ويمكرون ويمكر الله والله خيرُ الماكرين ()) . لك أن تستعمل حتى في غير القرآن في هذا الأسلوب : الذين يمكرون أولياء الله ودُعاة الحق الله يمكُر بهم وهو خير الماكرين؛ لكن لا تقول لتأخذ الاسم من هذا الفعل تقول : من أسمائه ـ تعالى ـ : الماكر، لا، خطأ، لا يجوز، كما لا يجوز لك أن تطلق الفعل ( يمكر ) في غير مناسَبة وبدون مقابلة أن تطلق عليه هذا الفعل مطلَقًا لا يجوز، ومن باب أولى : لا يجوز أن تأخذ من ذلك أن تصوغ اسمًا من أسماء الله ـ تعالى ـ من هذا الفعل، فتقول : من أسمائه ـ تعالى ـ الماكر أو الكائد أو المخادع، خطأ، لا يجوز .
((وقوله : ( إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيْدًا ()) . تقدّم المثال على ذلك .
((وقوله : ( والذين كذّبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين ()) . يوصِل إليهم ـ كما قلنا ـ ما يسوءهم بطريقة خفيّة كما فعلوا، ويستدرجهم وهم يحسبون أنهم على خير حتى يباغتهم بالشر؛ دليل على قدرة الله
ـ سبحانه وتعالى ـ وسعة علمه؛ في هذا المعنى جائز .
((وقوله : ( إن المنافقين يخادِعون الله ()) ويتظاهرون أمام المسلمين بأنهم مسلمون، وإذ ذهبوا إلى قومهم وقعوا في المسلمين .
( وهو خَادِعُهم ( . الله ـ سبحانه وتعالى ـ يجازيهم على خداعهم فيأخذهم بغتة إن عاجلاً وإن آجِلاً .
((وقوله : ( قالوا إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ( )) . معاني هذه الأفعال كلها متقارِبة .
ومن أراد الاطلاع بتوسُّع على هذه الأفعال والأمثلة الكثير بتكرار حتى يفهم فليرجع إلى ((الصواعق المرسلة)) في الجزء الأول للعلاّمة ابن القيِّم، فيجد هناك علمًا وعِلمًا .
((ولهذا لم يذكر الله أنه خان مَن خانوه فقال : ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليمٌ حكيم ( فقال : ( فأمكن منهم ( ولم يقل :(6/35)
( فخانهم ) )) . لذلك لا يجوز القياس على ما ورد؛ ما ورد من هذه الأفعال التي ذكرها المؤلِّف تَثْبُتُ في معناها وفي موضعها وفي ما يشبه من الاستعمال تثبُت ولا يقاس عليها غيرُها، ولا تؤخذ منها لله أسماء لأن أسماء الله ـ تعالى ـ توقيفية، وأسماء الله
ـ تعالى ـ كلُّها حسنى وهذه ليست بحسنى، وغايةُ ما فيها : أن تدلّ على الكمال أحيانًا؛ ما يدلّ على الكمال أحيانًا وعلى النقص أحيانًا لا يكون من الأسماء الحسنى؛ أولاً : غيرُ وارد، وثانيًا : ليس من الأسماء الحسنى؛ لذلك : لا تؤخذ الأسماء من هذه الأفعال، ولا تقاس أفعالٌ قريبةٌ منها على هذه الأفعال كالظلم والخيانة .
((لأن الخيانة : خدعة في مقام الائتمان وهي صفةُ ذَمٍّ مطلَقًا)) لا كالأفعال السابقة، الأفعال التي تقدّم ذكرها قد يكون فيها مدح وقد يكون فيها ذم على ما تقدّم من التفصيل، لكنّ الخيانة دائمًا مذمومة لأنها صفة ذمٍّ مطلقًا لأنها في مقام الائتمان .
يقول المؤلِّف ـ زادنا الله وإياه من العلم والعمل ـ : ((وبذا عُرف أنّ قولَ بعض العوام : ( خان الله مَن يخون ) منكرٌ فاحش يجب النهي عنه)) . بعضُ العوام يقولون : ( فلان ظلمنا الله يظلمه ) لا، خطأ، تنسب الظلم إلى الله ؟، ((يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالَموا))، ( ولا يظلم ربك أحدً (، كونك تقول : ( فلان ظلمني الله يظلمه ) لا، لا يجوز، بل منكر؛ الذي ظلمك إما أن تسامحه وتدعوا له، وإذا كان لا بد أن تدعوا عليه : ( فلان ظلمني الله يقابله بما يستحق ويعامله بما يستحق )، أما تقول : ( الله يظلمه ) لا، لا يجوز؛ ( فلان خاننا الله يخونه ) لا، كلُّ هذا خطأ، هذه من الأخطاء التي يقع فيها العوام .(6/36)
من هنا يتبيّن إن العقيدة ليستْ درسًا خاصًّا للجامعيِّين أو للدارسين، العقيدة مادّة عامة تجب على العوام كما تجب على المتعلِّمين، وإن كان المتعلِّمون يمتازون بالتبحُّر والاطّلاع على الشبه والقدرة على ردِّ الشبه، لكن معرفة العقيدة من حيث هي العقيدة ليستْ مادّة ـ أو علمًا ـ خاصًّا بطبقة معيَّنة، لأن العقيدة معناها : الإيمان القلبي، أصل العقيدة : الإيمان القلبي، ((الإيمان : اعتقادٌ بالقلب، ونُطقٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح))، جانب العقيدة هو : الإيمان القلبي، والإيمان بالله ومعرفته حقَّ المعرفة بأسمائه وصفاته وآياته الكونية ومراقبته وخشيته والتوكُّل عليه هذا واجبٌ على كلِّ مسلم .
وقول القائلين بأن العقيدة لا ينبغي التبحُّر فيها . لعلّ القائل يعني عقيدة غير هذه العقيدة، العقيدة التي عرفها هناك عنده، العقيدة الأشرعية التي هي آراء الرجال، التي
هي : ( لو كان كذا كان كذا، لو حصل كذا كان كذا، ليس الله كذا وليس الله كذا ) سُلوب، كلها سُلوب، هذه تقسي القلب ولا يجوز دراستها . إن قال القائل بأن التبحُّر في العقيدة يقسي القلب ويميت القلب إن كان يعني عقيدة أهل الكلام التي يقول فيها قائلهم : ((ليس الله فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا على يمينه، ولا على شماله)) وينفي العلو، ويحرِّم الإشارة إلى العلو، إنْ كان يعني هذه العقيدة فصدق، هذه عقيدة تقسي القلب، وتُبعد القلب عن الله، وتوقعه في جهل ـ يجهل حقيقة الله ـ .
إذا كان لا يؤمن بأن الله في العلو كيف يعرف ربه؛ من لا يؤمن بأن الله يدعى من فوق لا يعرف ربه، أجل كيف يعرف، ماذا يقول ؟ يقول : ( هنا في الأرض ) ؟، كذبٌ وحُلول، إذا نفى العلو نفى الله .
العقيدة التي تعرِّفك ربك بصفاته وأسمائه إيمان جزء من الإيمان ومن أهمِّ شعب الإيمان؛ فيجب على كلِّ مسلم : أن يعرفها ـ يعرف هذه العقيدة ـ؛ وإن كان يعني تلك فكلامه صحيح .
(8) قال المؤلِّف ـ حفظه الله ـ :(6/37)
((القاعدة الثانية : بابُ الصفات أوسع من باب الأسماء)) . لأن صفات الله
ـ تعالى ـ إما صفات فعلية أو صفات ذاتية؛ والصفات التي تحدّث عنها المؤلف في هذه القاعدة أكثرها من الصفات الفعلية؛ فأفعال الله ـ تعالى ـ لا نهاية لها، لأن الفعل كمال، والكمال يجب أن يكون دائمًا، فالله موصوف بالكمال دائمًا وأبدًا، إذًا : موصوف بالفعل ( فعّالٌ لِمَا يريد ( .
((وذلك لأن كلّ اسم متضمِّنٌ لصفة ـ كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء ـ)) . السميع متضمِّنٌ للسمع، البصير متضمِّنٌ للبصر، العليم متضمِّنٌ للعلم
ـ راجع القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء ـ .
((ولأنّ من الصِّفات ما يتعلّق بأفعال الله ـ تعالى ـ)) . يريد أن يقول المؤلِّف : لأنّ من صفات الله ـ تعالى ـ صفاتٌ فعلية؛ الصفات إما فعلية أو ذاتيّة :
الصفات الذاتية : الصفات التي لا تنفكّ عن الذات، قديمةٌ قِدَم الذات، ليست خاضعةً للمشيئة كالقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم، كما أنّ الذات العليّة قديمة علمُ الله قديم فقدرة الله قديمة وإرادة الله قديمة وسمع الله قديم وبصر الله قديم، أي : لم يزل الله متّصفًا بهذه الصفات أزلاً وأبدًا؛ هذه يقال لها : ( الصفات الذاتية ) .(6/38)
وهناك صفات يقال لها : ( الصفات الفعلية )، وهي التي تتعلّق بالمشيئة؛ الصفات المتعلِّقة بالمشيئة يقال لها الصفات الفعلية، وهي التي عناها المؤلِّف بقوله : ((ولأن من الصفات ما يتعلّق بأفعال الله ـ تعالى ـ، وأفعاله لا منتهى لها كما أنه أقواله لا منتهى لها قال الله ـ تعالى ـ)) بالنسبة للأقوال : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام من شجرة أقلام ( كلُّ شجرة على وجه الأرض افرضها قلمًا ( والبحر من بعده سبعة أبحر ما نَفِدَتْ كلمات الله ( لو كُتبت بكلِّ ذلك ( ما نفدت كلمات الله إن الله عزيزٌ حكيم (، ( كلمات ( سمى ( كلمات ( إذًا : ليس معنىً، ليس معنىً قائمًا بالذات؛ كلام الله ـ تعالى ـ كلام، والكلام لا يقال له كلام إلا بعد أن تتكلّم وتَلْفَظ، ما في نفسك ليس بكلام وإنما هو حديث نفس، ((إن الله لا يؤاخذ الإنسان بحديث النفس حتى يتكلّم به)) انظروا إلى هذا الحديث ((حتى يتكلّم به))، فيفرِّق النبي ( بين حديث النفس وبين الكلام؛ والأشاعرة قالوا : ( لا، الكلام ما في النفس )، ما الدليل ؟ قالوا : ( بيتُ الأخطل )، مَن الأخطل ؟ شاعرٌ نصراني؛ وهذا البيت :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
قال أهل العلم : بحثوا ولم يجدوا هذا البيت في ((ديوان الأخطل))؛ بيتٌ مزوّر؛ افرض أنه ثابت وهل بلغ درجة التواتُر، وأنتم تقولون : ((لا يُستدلُّ في باب الأسماء والصفا إلا بما بلغ التواتر))، وهل بلغ هذا البيت درجة التواتُر، لا، بالإجماع، على فرْض ثبوته وفي ثبوته كلام؛ كيف تركتم كتاب الله الذي يثبت بأن كلام الله كلمات، ويؤكِّد بالمصدر أنه متكلِّم : ( وكلّم الله موسى تكليمًا ( نفيًا للمجاز، المصدر المؤكِّد يؤكِّد الحقيقة وينفي المجاز .(6/39)
إذًا : يتكلّم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بكلامٍ له حرف وله صوت، المخاطَب يسمع كلام الله بحرفه وصوته، الأنبياء سمعوا كلام الله بالحروف وبالصوت ( ونادى ( الله ينادي، والنداء لا يقال نداءً إلا برفع الصوت، ما لم يكن فيه رفعُ صوت لا يقال له نداء في اللغة؛ إذًا : كلامُ الله له كلمات، كلمات لا تنتهي أبدًا أبد الآبدين، لو كُتِبَتْ بهذه الأبحر التي تُمَدُّ بسبعة أبحر وكلُّ شجرة على وجه الأرض قلم وكُتبت لا نفاد لها، لأن الكلام كمال، والكمال لا ينتهي، يجب أن يثبت .
وصفة الكلام باعتبار أصلها صفةٌ ذاتية ـ كما قلنا في القدرة والعلم والسمع ـ، أي : لم يزل الله متّصفًا بصفة الكلام، يتكلّم إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وبما شاء؛ خاطب آدم، وخاطب نوحًا، وخاطب إبراهيم، وكلّم موسى، وكلّم نبينا
محمد ( ليلة الإسراء والمعراج عندما فرض الله عليه الصلوات، ويتكلّم في آخر كلِّ ليلة: ((هل من مستغفر فأغفر له))، ويكلِّم أهل الجنة؛ هذا الكلام يقال آحادُ الكلام، وهذه الآحاد محدَثة في وقت دون وقت، أي : يتكلّم في وقت دون وقت إذا شاء، ويخاطِب من شاء، ويتكلّم بما يشاء؛ وهذا الإحداث إحداث تكلُّم وخطابٍ وإنزال، وليس إحداث خلقٍ .
كتاب الله منزَّل، الله أنزله، ولم يصفه بأنه خلقه، ولكن وصفه بأنه أنزله، فهو منزّل؛ لذلك : لا ينبغي أن يلتبس عليك الأمر إذا قيل : صفة الكلام صفةُ ذاتٍ باعتبار وصفةُ فعل باعتبار، أي : باعتبار أصل الكلام صفةُ ذات لأنها لا تنفكّ عن الذات، وباعتبار أفراد الكلام : صفةُ فعل إذْ يُقال فيها : يتكلم إذا شاء، ومتى شاء، ومع من شاء، بهذا الاعتبار صفةُ فعل ـ ويأتي الكلام مفصَّلاً في هذه الصفة إن شاء الله ـ .(6/40)
((ومن أمثله ذلك : أن من صفات الله ـ تعالى ـ : المجيء)) ( وجاء ربك (، المجيء صفةُ فعل، ((والإتيان)) صفةُ فعل، ((والأخذ)) صفةُ فعل، ((والإمساك والبطش إلى غير ذلك من الصفات التي لا تُحصى)) أي : من الصفات الفعلية، ينبغي أن تُقيَّد هكذا، من الصفات الفعلية التي لا تحصى .
((كما قال ـ تعالى ـ : ( وجاء ربك (، وقال : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام ()) يأتي، آمنّا بأنه يأتي، ( جاء ) و ( أتى ) بمعنىً واحد .
((وقال : ( فأخذهم الله بذنوبهم ( )) . الشاهد : ( أخذا ) .
((وقال : ( ويمسك السماء أن تقطع على الأرض إلا بإذنه ( )) . الشاهد :
( يمسك ( .
((وقال : ( إن بطْش ربك لشديد ( )) . ( بطش ( .
((وقال : ( يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( )) . ( يريد ( .
أفعال .
((وقال النبي ( : ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) )) . عندنا أهل السنة والجماعة: لا فرق بين الصفات الواردة في الكتاب والصفات الواردة في السنة الصحيحة؛ انتبهوا لهذه النقطة يجب أن نعلِّق عليها إذْ يوجد هناك من يقول لكم : الأحاديث(6/41)
ـ خصوصًا إذا كانت من الآحاد ـ لا يُستدلُّ بها في باب الأسماء والصفات، وإذا استسلمت يتدرّج معك فيقول : الأحاديث ولو كانت متواترة لا يجوز لأنها ربما رُوِيَتْ بالمعنى ليست من ألفاظ النبي (، وإذا سلّمت ـ هذه الخطوة الثانية ـ يقول : الأدلة اللفظية لا يستدلُّ بها في باب الأسماء والصفات وفي باب العقيدة لأنها ظنيّة، وإنما تُذكر من باب الاستئناس بها والاعتضاد بها لا من باب الاعتماد عليها؛ إذًا : ما العُمدة ؟ الأدلّة العقيدة؛ خرج بك تمامًا عن الإسلام؛ سدّ على الناس طريق معرفة الله ـ تعالى ـ بالكتاب والسنة، تروه تبحث مع العقول والعقول تتضارب، العقل الجهمي لا يُثبت شيئًا، وعقول المعتزلة تثبت أسماء جامدة لا تدل على المعاني دون الصفات، وعقول الأشاعرة الصِّغار تقسِم : الصفات العقلية التي تسمّى صفات المعاني تُثبت على ما يليق بالله، والصفات الفعلية والصفات الخبرية يجب تأويلها؛ من ترك الكتاب والسنة يقع في هذا الخوض، وهذا الخوض هو الذي يقسي القلوب ويُبعد العباد عن الله، ليستِ العقيدة المأخوذة من الكتاب والسنة انتبهوا يا عباد الله .
نؤمن بنزول الرب ـ سبحانه وتعالى ـ في آخر كلِّ ليلة تصديقًا لخبر رسول الله (، ولا نلتفت إلى قولِ الأشاعرة ومن نحا نحوهم .
يقول المؤلف ـ حفظه الله ـ : ((فنصف الله ـ تعالى ـ بهذه الصفات)) الصفات الفعلية .
((على الوجه الوارد)) أي : كما وردت في الكتاب والسنة .
((ولا نسمِّيه بها)) أي : لا نأخذ منها أسماء، لأن الأسماء توقيفيّة ـ كما تقدّم ـ .
((فلا نقول : إن من أسمائه الجائي والآتي)) أي : لنأخُذَ الاسم من ( جاء )
و ( أتى ) .(6/42)
((والآخذ والممسك والباطش والمُريد والنازل ونحو ذلك وإن كنا نُخبر بذلك ونصفه به)) . انتبهوا ! باب الإخبار يُتسامح فيه خلاف باب الأسماء : فرقٌ بين أن تجعل الاسم من أسماء الله ـ تعالى ـ الحسنى وبين أن تُخبر عنه باسم يدلُّ على معنىً سليم : ( مُريد ) ـ مثلاً ـ ليس من أسماء الله ـ تعالى ـ لكن لك أن تُخبر عن الله
ـ تعالى ـ بالمريد : الله مُريد كذا وكذا، كما تقول : يُريد تقول : مريد من باب الإخبار لا أنه صفة؛ ( متكلِّم )، ( متكلِّم ) ليس من أسماء الله الحسنى، لكنّ المعنى سليم، لك أن تُخبر عن الله بأنه متكلِّم ولا تَعُدُّ من الأسماء الحسنى؛ ( الصانع ) : كثيرًا ما يستعمل علماء الكلام ( الصانع ) بدل الخالق، يقولون : ( صانع هذا الكون ) أي : خالق هذا الكون؛ ( القديم ) : تُخبر عن الله بأنه القديم، والقديم ليس من أسماء الله؛ باب الإخبار يُتسامح فيه ويُتوسَّع فيه ما لا يُتسامح في باب الأسماء الحسنى؛ باب الأسماء الحسنى بابٌ توقيفي، أما الإخبار إذا صحّ المعنى جاز كالأمثلة التي ذكرناها، والأفعال كذلك باب الأفعال أوسع ـ كما تقدّم في هذه الأفعال التي سردها المؤلِّف ـ .
(9) قال المؤلّف ـ حفظه الله ـ : ((القاعدة الثالثة : صفات الله ـ تعالى ـ تنقسم إلى قسمين)) . هذا التقسيم تقسيمٌ استقرائي، أي : استقرأنا نصوص الكتاب والسنة وتتبّعنا فوجدنا إن صفات الله ـ تعالى ـ إما ثبوتيّة أو سَلْبية .
نبدأ بالثبوتية فإذا وصلنا إلى السلبية عرفنا معنى الاستقراء :(6/43)
((فالثبوتية : ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله ()) . قوله : ((أو على لسان رسوله ()) إشارة إلى أن الصفات التي جاءتْ في السنة إنما هي مثبتة من عند الله، لماذا ؟ لأن الرسول ( لا يتكلّم من عند نفسه؛ الله إما أن يصف نفسه في كتابه الذي أنزله على رسوله أو يوحي إلى رسوله وحيًا فيصف الله ـ الرسول يصف الله تعالى ـ بصفاتٍ الألفاظ والعبارة من عنده والمعنى من عند الله ـ تعالى ـ لأنه لا ينطق عن الهوى؛ هذا معنى قوله : ((ما أثبته الله لنفسه في كتاب أو على لسان رسوله ()) .
((وكلها صفاتُ كمال لا نقص فيها بوجهٍ من الوجوه)) . مستحيل أن يصف الله نفسه بما فيه نقص، ومستحيل أن يصف رسول الله ( ربه بما فيه نقص [ … ] بحيث لا يوجد قياسٌ ولا استحسان؛ ليس لأحدٍ أصوليٍّ أن يقيس أو يستحسن، ((إذْ لا يصف الله أعلمُ من الله)) خذ هذه قاعدة، ((ولا يصف الله مِنْ خلقه أعلمُ من رسول الله))؛ فلتنحصر الصفات في الكتاب والسنة .
لذلك : كان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أيّام المحنة إذا شدّدوا عليه في السؤال في الأسماء والصفات وفي خلق القرآن يقول : ((لا يُتَجاوَزُ الكتاب والسنة))، هذه العبارة مأثورة عن الإمام أيّام المحنة : ((لا يُتَجَاوَزُ الكتاب والسنة في هذا الباب)) .
((كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك)) . هذه الصفات عندنا أهل السنة والجماعة لا فرق بينها، هذه الصفات التي ذكرها المصنِّف عند الأشاعرة مصنَّف تصنيف صِنْف يثبت وصِنْف لا يُثْبَت، وعندنا : لا، الباب واحد، الصفات كلها من باب واحد، كلُّ الصفات .
( الحياة ) الأشاعرة تؤمن بالحياة و ( العلم ) و ( القدرة )، و ( الاستواء على(6/44)
العرش ) لا، الاستواء بمعنى السلطان أو الاستيلاء أو الهيمنة أو المُلْك، أما كونه يكون مستويًا على عرشه حقيقة استواءً يليق به لا، لماذا أثبتم ما قبل الاستواء وأوجبتم التأويل في الاستواء ؟ قالوا : لأن المستويَ على شيء لا يخلوا إما أن يكون أكبر ممّا استوى عليه أو أصغر أو مساويًا له، هذه اللوازم لوازِم صفات المخلوق، ( طالما تلزم هذه اللوازم صفة الاستواء نحن نؤوِّل الاستواء تنزيهًا لله ـ تعالى ـ، لا نريد مخالفة الله ولكن نريد تنزيه الله )، ( أأنتم أعلم أَمِ الله (، الله وصف نفسه بالاستواء وأنت تقول : لا، الاستواء لا يليق بك، الذي يليق بك الاستيلاء والسلطان والملك والهيمنة، من أين لك هذا العلم ؟ تخالِف الله وتردُّ على الله فتقول له : الاستواء لا يليق به؛ هَلِ الله يصف نفسه بما لا يليق به ؟ ثم لا يبيِّن بأن ظاهر هذا اللفظ لا يليق بي، ورسوله ( لا يبيِّن ذلك والسلف مضوا على ذلك ومَشَتِ الأمة الإسلام السواد الأعظم من المسلمين من حين نزول هذه الآية في عهد الخلافة الراشدة ومرورًا بعهد الأمويِّين إلى عهد العبّاسين كانوا على هذه العقيدة : إثبات الاستواء كإثبات العلم تمامًا بدون تردُّد، وبعد أن دخل علم الكلام في الإلهيّات أفسد العقيدة ـ عقيدة المسلمين ـ وخرّب وشوّش وجاء هذا التفريق بين صفات الله ـ تعالى ـ والتصرُّف، تصرفوا : أثبتوا الحياة والعلم والقدرة والاستواء لا، والنزول لا، مَن الذي ينزل ؟ ينزل أمره، ينزل أمره في آخر الليل فقط ؟ أليس أمرُ الله نازلاً في كلِّ لحظة ؟؛ ينزل المَلَك، ((هل من مستغفر فأغفر له)) هل الملَك هو الذي يقول هذا الكلام ؟، وهل هذا يليق ؟ ( أفلا تعقلون (؛ والوجه قالوا : لا، لا يليق، لأن الوجه عضوٌ وجزء وجارحة لا يليق بالله، المراد بالوجه : الذات .(6/45)
خُلاصة القول : القومُ تجرّءوا على الله : كلَّما يصف الله نفسه بصفة فيقولون : لا، هذا لا يليق بك، بل ليس هذا مرادك، مرادك بالوجه : الذات، مرادك بالاستواء : الاستيلاء؛ مَن بيّن لكم هذا المُراد ؟ من الذي قال لكم مراد الله بكذا : كذا؛ مراد المتكلِّم إنما يُعرف بتعريف من المتكلِّم، إذا تكلّم المتكلِّم وأراد خلاف ما قال يجب عليه أن يقول : مرادي خلاف هذا الظاهر، وإن لم يبيِّن ذلك يأتي بقرينة تَحُفُّ بالمقام تدلُّ على أن المراد غير هذا الظاهر، أو يأذن لمن اختاره واصطفاه أن يبيِّن مراد الله؛ ولم يقع شيءٌ من ذلك؛ إذًا : وجهُ الله كما يليق به لا الجارحة لا كوجوهنا .
واليدين كذلك : أما في اليدين فقد ارتبكوا وأُفحموا وأُلقموا حجرًا ذلك : لأنهم لا يُثبتون إلا قدرة واحدة، ويؤمنون بنعمٍ لا تُعَدُّ ولا تحصى، قالوا : ( المراد باليد :(6/46)
القدرة )، كم لله من قدرة ؟ قالوا : ( قدرة واحدة )، ( المراد باليد : النعمة )، كم لله من نعم ؟ لا تُعَدُّ ولا تحصى؛ إذًا : ما معنى قوله ـ تعالى ـ : ( ما منعك أن تسجد لِمَا خلقت بيدي ( بقدرتي ؟ بنعمتي ؟ لا يصح، ( بل يداه مبسوطتان ( بل نعمتاه ؟ لا يصح؛ ناقش هذه الصفة الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه ((الإبانة)) بعد توبته، والقوم لا يزالون على ما كان عليه الأشعري عندما كان كُلاَّبِيًّا، ولكنه رجع فصار سلفيًّا، فناقشهم في هذا وقال لهم : ( لله يداه لا جارحتان ولا نعمتان ولا قدرتان، بل هما صفتان تليقان بالله ـ تعالى ـ )، كلامٌ في غاية الوَجاهة وفي غاية الوُضوح؛ وتجدون مثل هذا الكلام ـ هذه المناقشة ـ للعلاّمة ابن القيِّم ولشيخ الإسلام ولكلِّ من ألّف في هذا الباب، ولكني أستحسن أن يرجع القُرَّاء إلى كتاب أبي الحسن الأشعري لأن الأصل أن يُعرف منه لأنه كان صاحب تلك العقيدة التي عليها الأشاعرة المعاصرين اليوم؛ عقيدة رجع عنها صاحبها وأصحابه من فطاحل الأشاعرة كإمام الحرمين ووالده والشهرستاني والرازي والغزالي وذمُّوا هذه العقيدة ذمًّا، وندموا في خوضهم في هذه العقيدة، وبكوا في آخر حياتهم بكاء الثكلى، لكن مع ذلك القوم يقولون : ( لا )؛ هذه عبارة عن طعام فاسد أعلن الخبراء عن فساد ذلك الطعام وحذّروا الناس وأصغى من أراد الله له السلامة والعافية فتركوا الطعام الفاسد، ورفض الجمهور الذين يريدون الرخصة إلا أن يأكلوا هذا الطعام الفاسد ولا يزالون في مرضهم؛ هذه هي العقيدة الأشعرية طعامٌ فاسد .
يقول المؤلف ـ حفظه الله ـ : ((فيجب إثباتها لله ـ تعالى ـ حقيقةً على الوجه اللائق به بدليل السمع والعقل)) . تقدّم أن اتّفقنا على أن المراد بالسمع : الدليل الخبري النقلي، أي : آياتٌ من كتاب الله وأحاديث صحيحة من سنة رسول الله (؛ والعقل معروف .(6/47)
قال المؤلِّف : ((وأما السمع فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله ()) ما معنى هذا الكلام : ( يأيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله ( ناداهم بصفة الإيمان ثم قال لهم : ( آمِنوا ( : اثبتوا على إيمانكم، وقَوُّوا إيمانكم، الإيمان يضعف ويقوى يزيد وينقص، إذا أُمر المؤمن بالإيمان إنما الغرض : الثبات على الإيمان وأن يقوّي إيمانه ويزيد إيمانه بطاعة الله ـ تعالى ـ وطاعة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
( آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ( . ( الكتاب ( جنس، الكتب المنزّلة، ( الـ ) في الكتاب الثاني : جنس تشمل ( التوراة ) و ( الإنجيل ) و ( الزبور ) و ( الصحف ) . ( الذي أنزل من قبل ( من محاسن دين الإسلام : الإيمان بالكتب السابقة من أركان الإيمان عندنا، الإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان؛ الإسلام ليس فيه حسد، ليس فيه تفريق، الكتب السماوية نؤمن بها، ونؤمن بأنها من كلام الله، كلامُ الله ـ تعالى ـ ليس هو القرآن فقط ـ كما تقدّم كلام الله لا نفاد له ـ الكتب السماوية كلها من كلام الله والقرآن من كلام الله .
( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا ( . ما وجه استدلال المؤلِّف بهذه الآية على الإيمان بصفات الله ـ تعالى ـ ؟ يقول : ((فالإيمان بالله يتضمّن الإيمان بصفاته)) كلُّ مؤمن مطلوب منه أن يؤمن بالله؛ إذًا من الإيمان بالله : أن تؤمن بأن الله معك لا يفارقك لحظة، يراك ويسمعك ويعلم منك كل شيء، إن الله سميعٌ بصير عزيز حكيم حليم شكور ودود .
((والإيمان بالكتاب الذي نزّل على رسوله يتضمّن الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله ـ تعالى ـ)) بما في ذلك صفة الاستواء وصفة الوجه وصفة اليدين .(6/48)
((وكون محمد ( رسوله يتضمّن الإيمان بكل ما أخبر به عن مُرْسِلِه وهو الله ـ عزّ وجل ـ)) . أخبر الرسول ( عن الله بأنه ينزل في آخر كلّ ليلة، بأنه يفرح بتوبة التائبين، وبأنه يضحك؛ يجب الإيمان بكلِّ ذلك .
(10) يقول المؤلِّف ـ حفظه الله ـ، بعد أن عرفنا الدليل السمعي وكيفية الاستدلال على صفات الله بالآيات التي ساقها يقول : ((وأما العقل)) أي : أمّا الدليل العقلي .
((فلأن الله ـ تعالى ـ أخبر بها)) أخبر بهذه الصفات ((عن نفسه وهو أعلم بها من غيره)) عقلاً الله أعلم بهذه الصفات من غيره ((وأصدق قيلاً وأحسن حديثًا)) كلُّ العقلاء يؤمنون هذا الإيمان، يؤمنون بأن الله أعلم وأصدق وأحسن حديثًا .
((فوجب)) عقلاً ((إثباتها له كما أخبر بها)) طالما هو أخبر، هو أعلم وأصدق قيلاً وأحسن حديثًا يجب عقلاً إثبات هذه الصفات .
((من غير تردُّد)) ولا يجوز التردُّد في خبر الله .
((فإن التردُّد في الخبر إنما يتأتّى حين يكون الخبر صادرًا ممّن يجوز عليه الجهل أو الكذب أو العِيّ)) . يوجب التردّد في الخبر، إذا كنت تتّهم المخبر بأن فيه جهلاً ويُتّهم بالكذب، ويُتّهم بالعِيّ ـ العجز عن البيان ـ ((بحيث لا يُفصح بما يريد)) ربما يتخبّط ويقول ما لا يريد .
((وكلُّ هذه العيوب الثلاثة ممتنعةٌ في حقِّ الله ـ عزّ وجل ـ)) . لا أحد وهو يعقِل أن يخطر بباله الجهل في حقِّ الله ـ تعالى ـ أو الكذب أو العِيّ، بل يقشعِرُّ جلد المسلم عندما تُذكر هذه العيوب في جانب الرب ـ سبحانه وتعالى ـ .(6/49)
((فوجب)) إذًا ((قَبول خبره على ما أخبر به)) . يا ليت الأشاعرة عَقَلوا هذا المعنى ما تخبّطوا هذا التخبُّط ولا ردُّوا على الله؛ طالما تؤمنون بأن الله أعلم ولا يوصف بالجهل ولا يُتّهم بالكذب ولا يُتّهم بالعِيّ وهو الذي أخبر عن نفسه وجب قَبول خبره عقلاً، وأنتم تقولون : ( الدليل العقلي هو العمدة )، إذًا : العمدة ـ عمدتكم ـ ودليلكم العمدة دلّ على وُجوب قَبول خبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
((وهكذا نقول فيما أخبر به النبي ( عن الله ـ تعالى ـ)) لأن النبي ( لا ينطق عن الهوى .
((فإن النبي ( أعلمُ الناس بربّه وأصدقهم خبرًا)) . كلُّ من آمن بمحمدٍ ( يعلم ويؤمِن بأنه أعلمُ الناس بربه وأنه أصدق الناس خبرًا، حتى الكفّار قبل أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله كانوا يشهدون بهذا ويصفونه بهذه الصفات، لكنّ القوم تعصّبوا لآلهتهم وانتقضوا فيما بينهم وقعوا في التناقُض .
((وأنصحهم إرادة)) . أنصحهم لعباد الله .
((وأفصحهم بيانًا)) كلُّ هذه صفات يؤمن بها كلُّ من يؤمن برسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، بل كثيرٌ من المستشرقين الذين لا يؤمنون برسالته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصفوه بهذه الصفات بأنه عبقري، وبأنه أفصح الناس وأصدق الناس وأنصح الناس، وهم لم يؤمنوا برسالته، لكن شهدوا له بهذه الصفات؛ إذا كان الأمر كذلك ((فوجب قَبول ما أخبر به على ما هو عليه)) قبل أن يؤوّل أو يحرَّف؛ والتوفيق بيد الله، والأشاعرة يؤمنون هذا الإيمان وبهذه الصفات، لكن لم يوفّقوا كما قال والد إمام الحرمين: ((لأنهم لم يفهموا من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق))، والرجل بعد أن خبرهم ورجع من عندهم شهِد بهذه الشهادة : ((إن شيوخنا لم يفهموا من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق)) استواءً كاستواء المخلوق، وجهًا كوجه المخلوق، ويدًا كيد المخلوق، وأرادوا أن ينفوا هذه الذي أثبتوا فوقعوا في التعطيل .(6/50)
(11) قسَم المؤلف ـ رحمه الله وحفظه ـ الصفات الإلهية إلى قسمين : صفات ثُبوتية وهو ما أثبت الله ـ سبحانه ـ لنفسه أو أثبته له رسوله ( فلا يُتجاوز فيها الكتاب والسنة، وهي صفات كمال وصفات توقيفية، وتقدّم الكلام في هذا القسم .
((والصفات السلبية)) . هذا القسم الثاني : الصفات السلبية . قلنا فيما تقدّم تقسيم الصفات إلى الصفات الثبوتية والصفات السلبية مصدره الاستقراء، أي : تتبُّع نصوص الكتاب والسنة والاستنباط والاستنتاج منها الصفات الثُّبوتية والصفات السلبية .(6/51)
والصفات السلبية في منهج السلف: ما عرّفه المؤلّف بقوله : ((والصفات السلبية : ما نفاها الله ـ سبحانه ـ عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله (، وكلها صفات نقص في حقه كالموت والنوم والجهل والنسيان والعجز والتعب)) . يستحسن أن تُذكر الصفات السلبية عند الأشاعرة لأن القوم قد وصلوا إليكم، ينبغي أن تعرفوا شيئًا من عقائدهم : الصفات السلبية عندهم ليست واقعة في حيِّز النفي، الصفات السلبية عندنا في منهج السلف واقعة في حيِّز النفي، أي : ما دخل عليه النفي، أما الصفات السلبية عندهم خمسُ صفات أطلقوا عليها أنها صفات سلبية لأن الغرض منها ليس إثباتها ولكن نفيُ أضدادها، هذه الصفات عندما يعدِّدون خمسين عقيدة التي تسمعون بها منها : السلبيّات الخمس، من الصفات السلبية : البقاء، والقِدَم، ومخالفته للحوادث، وقيامه بنفسه، والوحدانية؛ هذه الصفات يسمون الصفات السلبية لأنها تسلُب وتنفي أضدادها، تُعَدُّ هذه مع أضدادها عشرة، وصفات المعاني سبعة، بأضدادها أربعة عشر، والصفات المعنوية سبعة، وبأضدادها، والصفات النفسية واحدة وهي صفة الوجود، والجائز في حق الله ـ تعالى ـ واحد وهو الإيجاد والإعدام، تُضاف إلى هذه العقيدة : إثبات صفات الرسل خمس صفات مع أضدادها، والجائز في حقهم واحد؛ فتُصبح عقيدة المسلمين خمسين عقيدة، من لم يعرفها بأدلتها ليس بمسلم عندهم، من عرفها ولم يعرف أدلّتها فاسق؛ المسلم عندهم عدد المسلمين ينحصر في المتعلِّمين الدارسين لمنهج العقيدة على طريقة الأشعرية الذين حفِظوا هذه العقائد بأدلّتها، هم المسلمون بالمفهوم الصحيح عند الأشاعرة؛ افهموها هكذا بالجملة، سوف تتطّلعون عليها في كتبهم وقد دخلت حتى تكونوا على علم لا تفاجئون بها، ربما تقرءون في بعض المكتبات الآن .
هذه الصفات السلبية عندهم .
وأما الصفات السلبية عندنا قلنا : ما وقع في حيِّز النفي، أي : ما دخل عليه حرفُ نفيٍ .(6/52)
((فيجب نفيها)) لأنها كلها نقص ((عن الله ـ تعالى ـ لِما سبق مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل؛ وذلك لأنّ ما نفاه الله ـ تعالى ـ عن نفسه فالمراد به : بيان انتفائه)) أنها منتفية فلا تليق بالله ـ تعالى ـ ((لثُبوت كمال ضده)) ضدّ الصفة المنفية ((لا لمجرّد نفيه)) مجرّد النفي لا يكون مدحًا ولا يكون كمال ((لأن النفي ليس بكمال)) في حدِّ ذاته، النفي وحده في حدِّ ذاته لو لم يتضمّن كمال ضدّه لا يكون كمالاً .
((إلا أن يتضمّن ما يدلّ على الكمال وذلك لأن النفي)) معناه الـ((عدم، والعدم ليس بشيء فضلاً عن أن يكون كمالاً)) هذه علة، والعلة الثانية : ((ولأن النفي قد يكون لعدم قابليّة المحل له)) المحل لا يقبل هذه النفي الذي هو العدم لكون المحل جمادًا ((فلا يكون كمالاً)) النفي ـ نفي الشيء، أو نفي العمل ونفيُ الظلم ـ عن الجمادات كالجُدران والجبال لا يكون كمالاً ((كما لو قلت : الجدار لا يظلم)) والجبال لا يظلم، لماذا لا يظلم ؟ لأنّ ليس لديه قابليّة، ليس لديه قابليّة الظلم، إذًا : ليس بمدح .
((وقد يكون)) النفي ((للعجز عن القيام به فيكون نقصًا كما في قول الشاعر)) يذُمُّ ويهجوا قبيلة فيقول :
قُبَيِّلَةٌ …………….…
………………….
أي : قبيلة صغير، والتصغير هو العلامة على أنّ النفي الآتي ليس بمدح؛ ((قُبَيِّلةٌ)) تصغير ( قبيلة ) .
…لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
ما الذي منعهم من الغدر وما الذي منعهم من ظلم الناس ؟ هل العدالة وأن فيهم الخير وفيهم العدل وفيهم الرحمة لا، لعجزهم بدليل التصغير؛ قبيلة صغير لا تقوى لا على الغدر ولا على ظلم الناس؛ إذًا : نفي الغدر عنهم ونفيُ الظلم عنهم ليس فيه مدح، بل دليلٌ على عجزهم :
أولاً : لأن الشاعر ليس هو ذلك الذي يمدح العدل والوفاء، ولكنه يريد، المقام مقام الهجاء .
ثم دلّ على ذلك بالتصغير .
((وقول)) الشاعر ((الآخر)) :
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا(6/53)
هذا البيت تردّدنا في هذه الرواية البارحة، والبيت في ((الحماسة)) لأبي تمّام الطائي .
وهذا الشاعر غضب على قبيلته لأنه أُخذ له إبلٌ فلم يستطيعوا أن يخلِّصوا له إبله، لذلك يهجوا قبيلته وفي الوقت نفسه يمدح قبيلة أخرى فيقول
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبح
إبلي بنوا اللُّقَيَّطَ من ذُهْل بن شيبان
قومٌ إذا أبدى الشر ناجذيه لهم
قاموا إليه ذُرافات ووحدانًا
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانًا
لماذا ؟ لضعفهم وجُبنهم وعجزهم .
هكذا الشاعر لأن قومه وقبيلته لم يستطيعوا أن ينقذوا له إبله، كأن القبيلة الأخرى ـ مازن ـ هي التي أنقذت له إبله .
وقوله :
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
……………………..
هذه رواية وتلك رواية ثبت في ((الحماسة)) النسختان .
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
……………………..
من حيث الكثرة .
………………….
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
لضعفهم؛ لذلك
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانًا
وهذا لا يدلُّ على المدح ولكنه يدلُّ على الذم .
الشاهد قوله :
……………………
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
إنّ هذا النفي لم يكن للمدح؛ إذًا ليس كلُّ نفي للمدح إلا إذا تضمّن الكمال المضادّ له .
وإذا كان المحل لا يقبل المدح ولا الظلم ولا العدل كالجدار أو كان الغرض النفي المطلق لا يتضمّن كمال ضده ليس بمدح .
((مثال ذلك)) أي : مثال الصفات السلبية في كتاب الله ـ تعالى ـ .(6/54)
((قوله ـ تعالى ـ : ( وتوكّل على الحيِّ الذي لا يموت ( فنفيُ الموت عنه يتضمّن كمال حياته)) . فحياة غيره حياةٌ حقيقة ولكن ليستْ بكاملة، لأن غير الله يموت، والناس يموتون، والجن يموتون؛ الحي الذي لا يموت هو الذي حياته الحياة الكاملة؛ بهذا تعرفون الفرق بين الحياتين وإنْ كانت كلتا الحياتين حقيقية؛ حياتنا ليست مجازية حياةٌ حقيقة، وحياةُ الله ـ تعالى ـ حقيقة، ولكن ليست الحقيقة كالحقيقة، لأن حياتنا حياة ناقصة مسبوقة بعدم ونموت، إذًا حياةٌ ناقصة؛ فحياةُ الله ـ تعالى ـ حياةٌ قديمة لم تُسبق بموت أو بعدم ولا يلحقها موت؛ ((فنفي الموت يتضمّن كمال حياته)) .
و ((مثال آخر : قوله ـ تعالى ـ : ( ولا يظلم ربك أحدًا ()) لماذا ؟ لكمال عدله، لا لعجزه بل هو على كلِّ شيء قدير، لكن لا يظلم أحدًا لعدله، بل حرّم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرَّمًا .
((نفي الظلم عنه يتضمّن كمال عدله)) .
((مثالٌ ثالث : قوله ـ تعالى ـ : ( وما كان الله ليُعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض (؛ فنفيُ العجز عنه يتضمّن كماله علمه وقدرته)) . يتضمّن صفتين اثنتين : كمال العلم وكمال القدرة .
وجه ذلك : ((ولهذا قال بعده)) ليدلّ على أن نفي العجز كمال علمه وكمال قدرته قال ـ تعالى ـ في تذييل الآية : ((( إنه كان عليمًا قديرًا ( لأن العجز سببه إما الجهل بأسباب الإيجاد وإما قصور القدرة عنه؛ فلكمال علم الله ـ تعالى ـ)) المحيط بكل شيء ((وقدرته)) الباهرة ((لم يكن ليُعجزه شيءٌ في السموات ولا في الأرض)) واضح .
((وبهذا المثال)) الأخير ((علمنا أنّ الصفة السلبية قد تتضمّن أكثر من كمال)) . بالنسبة لنفي الظلم قلنا : لكمال عدله، تضمّن كمالاً واحدًا؛ وأما قوله ـ تعالى ـ :
( وما كان ليُعجزه من شيء ( تضمّن كمالَيْن : كمال العلم وكمال القدرة .(6/55)
(12) قال المؤلّف ـ حفظه الله تعالى ـ : ((القاعدة الرابعة : الصفات الثُّبوتية صفات مدح وكمال؛ فكلما كثُرت وتنوّعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر)) . موصوف بالعلم وبالقدرة وبالإرادة وبالسمع وبالبصر وبالحياة الكاملة إلى غير ذلك .
((ولهذا كانت الصفات الثُّبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية ـ كما هو معلوم ـ)) . جميع أسماء الله الحسنى تدلُّ على الصفات؛ فأسماء الله الحسنى لا حصْر لها ولا تدخل تحت العدّ؛ إذًا : صفات الثَّبات لا حصر لها، لأنها معاني للأسماء الحسنى؛ فأسماء الله ـ تعالى ـ لا تنحصر في التسعة والتسعين، بل هناك أسماء استأثر الله بعلمها ولم يعلِّم أحد، وكمالات الله ـ تعالى ـ لا حصر لها، والصفات الثُّبوتية من الكمالات إذًا : لا تدخل تحت الحصر .
((أما الصفات السلبية فلم تُذكر غالبًا إلا في الأحوال التالية)) . هذا يُقال بالاستقراء والتتبُّع .
الحالة ((الأولى : بيان عُموم كماله كما في قوله ـ تعالى ـ : ( ليس كمثله
شيء ()) . ( ليس كمثله شيء ( لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه في قضائه وقدره في أفعاله، هذا معنى ((عموم كماله))؛ قوله ـ تعالى : ( ليس كمثله شيء ( دلّ على هذا العموم .
( ولم يكن له كفوًا ( ـ أو ( كفؤًا ( ـ ( أحد ( في أيِّ شيء، كذلك دلّ على عموم الكمال : ( هل تعلم له سميًّا ( كذلك .
الحالة ((الثانية : نفي ما ادّعاه في حقه الكاذبون كما في قوله : ( أنْ دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن أن يتّخذ ولدًا ()) لأنه الغني الغنى المطلق، وإنما يُحتاج إلى الولد للفقر والحاجة، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ غنيٌّ الغنى المطلق، والغنى وصفٌ ذاتيٌّ له
ـ سبحانه وتعالى ـ .(6/56)
الحالة ((الثالثة : دفعُ توهُّم نقص من كماله فيما يتعلّق بهذا الأمر المعيَّن)) أو بأمرٍ من الأمور المعيَّنة ((كما في قوله ـ تعالى ـ : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ()) إنما خلقنهما لحكمة ولحكمةٍ بالغة .
((وقوله : ( ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لُغوب ()) من تعب، لكمال قوّته وقدرته ـ سبحانه وتعالى ـ .
(13) قال المؤلّف ـ حفظه الله ـ :
((القاعدة الخامسة)) وهي قاعدة مهمة ينبغي أن تُفْهَم .
((الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين)) صفات ((ذاتية)) وصفات ((فعلية)) .
ضابط الصفات الذاتية هي : الصفة التي لا تتعلّق بالمشيئة، بل صفةٌ قديمة قائمة بذاته ـ تعالى ـ قديمة قِدَم الذات، صفةٌ قديمة قدَم الذات ولا تنفكّ عن الذات العليّة؛ هذه هي الصفات الذاتية .
ثم الصفات الذاتية سيأتي تقسيمها .
((فالذاتية هي : التي لم يزل ولا يزال متّصِفًا بها كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزّة، والحكمة، والعلو، والعظمة؛ ومنها : الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعينين)) . كأن المؤلّف يريد أن يقول : الصفات الذاتية تنقسم إلى قسمين : صفاتٌ خبرية وصفات عقليّة .
ما هي الصفات الخبرية ؟ الصفات الخبرية ـ وبعبارة أخرى الصفات السمعية أو الصفات النقلية ـ هي الصفة التي لولا النقل ولولا السمع ولولا الخبر لا مجال إلى إثباتها، وهي تسمّى الصفات الخبرية المَحْضَة، لا بد من هذا القيْد، الصفات الخبرية المحْضة التي لولا هذا الخبر ولولا السمع ولولا النقل ـ بمعنى واحد ـ لا مجال لإثباتها، لو لم يُخبر الرب ـ سبحانه وتعالى ـ بأن له وجهًا وله يدين وله عين، ولو لم يُخبر بأنه يأتي لفصل القضاء، ولو لم يُخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنه ينزل في آخر كلِّ ليلة هل في إمكاننا أن نُدرك هذه الصفات ونصف الله ـ تعالى ـ بها ؟ لا .(6/57)
أما القدرة حتى لو لم يَرِد النص ممكن أن يُدْرِك الإنسان قدرة الله ـ تعالى ـ بالآيات الكونية، الذي خلق هذا الكون موصوف بالقدرة، أولاً : موصف بالحياة، هو حي لأنه منح الحياة لهؤلاء الأحياء، فهو عالم، لولا العلم ولولا القدرة ولولا الإرادة ما خلق ولا أبدع هذا الكون على غير مثال سابق .
هذه الصفات ـ أي : القدرة والإرادة والسمع والبصر، الصفات التي سمّوها الصفات العقلية ـ ليست معنى كونها عقلية أنها ثبتت بالعقل فقط دون النقل لا، صفاتٌ اشترك في إثباتها العقل والنقل؛ هذه الصفات هي خبرية ولكن ليست خبرية محضة، خبرية وللعقل تدخُّلٌ في إثباتها، هذه الصفات التي عدّدها الشيخ قبل الوجه قبل قوله : ((ومنها الصفات الخبرية)) : العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزّة، والحكمة، والعلو، والعظمة، والحياء، والكلام، كلُّ هذه الصفات خبرية وعقلية، وإن شئت : نقلية وعقلية.
لكن إثبات الوجه وإثبات اليدين وإثبات العينين لا يثبت إلا بالنقل ولا مجال للعقل إلا أن العقل لا يُحيل ـ أي : لا يرفض ـ؛ لأن كلما ما ثبت بالنقل الصحيح العقل الصريح لا يرفضه بل يوافقه، ولكن ليس له مجالٌ للاستقلال ليستقلّ في إثبات هذه الصفات كما له مجال في الاستقلال في إثبات الصفات التي تقدّم ذكرها .
إذًا : نستطيع أن نقول : الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين : إلى خبرية مَحْضة، وإلى الصفات العقلية والنقلية معًا ـ أي : التي يشترك في إثباتها النقل والعقل
معًا ـ؛ هذا ما يشير إليه الشيخ بقوله : ((ومنها : الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعينين)) .
وتقدّم الكلام على أنّ إثبات العينين بالسنة؛ وإثبات العين ـ صفة العين ـ بالجملة دون ذكر العدد بالكتاب، وإثبات العينين بالسنة، أي بقصة الدجّال، لأن النبي ( لَمّا وصف الدجّال : ((إنه أعورُ العين اليمنى)) قال : ((إن ربكم ليس بأعور)) أي : موصوف بعينين، أخذ أهلُ السنة من هنا إثبات العينين .(6/58)
الإشارة تجوز عندنا هنا وفي غير هنا وفي كلِّ مناسبة تجوز الإشارة ( وكان الله سميعًا بصيرًا ( هكذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( سميعًا بصيرًا (، ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) [ كأن الشيخ يشير ]؛ وكلُّ الذين رفضوا هذه الإشارات إنما يردون على رسول الله ( من حيث لا يشعرون، وإذا حسّنا بهم الظن قلنا : يعذرون بالجهل إن شاء الله فليتعلّموا لأنهم يجهلون، لأن السنة غيرُ مهتمّ بها في منطقتهم، منطقة عقليّة محْضة، لا يُلتفت إلى نصوص الكتاب والسنة، لأن نصوص الكتاب والسنة عندهم ليستْ عمدة في إثبات الصفات، وإنما تُذكر من باب الاعتضاد بها والاستئناس بها والعمدة : العقل؛ ولكن حيث منّ الله علينا بهذا المنهج السلفي، وفي المنهج السلفي الإشارة جائزة؛ والإشارة لا تدلُّ على التشبيه، تدلُّ على أن ذلك الإثبات حقيقي … العينين على الحقيقة، وعلوُّ الله ـ تعالى ـ حقيقة، وسمع الله ـ تعالى ـ حقيقة، والبصر حقيقة؛ هذا ما تدلُّ عليه الإشارة، ولا تدل على التشبيه، إذِ القاعدة عندنا : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( .
((والفعلية هي التي تتعلّق بمشيئته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا)) . من هنا يتبيّن للشباب الفرق بين صفة العلو وصفة الاستواء : صفة العلو صفة ذاتية، صفةُ علو الله ـ تعالى ـ على خلقه صفةٌ ذاتية كالقدرة والإرادة والسمع والبصر تمامًا، أي : لم يزل الله ـ سبحانه وتعالى ـ متّصفًا بالعلو ولن يزال، فهو في علوّه حتى في حال نزوله إلى سماء الدنيا، وحتى في حال مجيئه لفصل القضاء يوم القيامة لا يزال في علوه، ذلك كما يليق به، وأمره أعظم، ما أعظم شأنه، لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ عليٌّ في قربه وقريب في علوّه، وهذا ما لا يتّصف به أحدٌ من خلقه ـ سبحانه ـ .(6/59)
والاستواء صفة فعل لأن الله أخبر أنه إنما استوى بعد أن خلق السموات والأرض في ستّة أيام ( ثم استوى على العرش ( بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام؛ ( ثم استوى ( لَمّا شاء، اقتضت حكمته ذلك خصّ العرش بالاستواء لحكمةٍ يعلمها وهي خافيةٌ علينا لا نعلمها .
وينزل كما يشاء وكما يليق به لحكمةٍ يعلمها، ولعلّ أن يقال هنا : من الحكمة حثُّ العباد على العبادة وعلى الدعاء وعلى التضرُّع، وإن كان يمكن ذلك حتى بغير نزول، ولكن يقال : لحكمة يعلمها ـ سبحانه وتعالى ـ .
النزول والمجيء والاستواء والفرح والغضب كلُّ ذلك من الصفات الفعلية لأن ((الله غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)) في حديث الشفاعة، هذا كلامٌ قاله كلُّ نبي، كلُّ نبي اعتذر عن الشفاعة بدأً من آدم ـ عليه السلام ـ إلى أن وصل الدور إلى رسول الله محمد ( كلهم يقول : ((نفسي نفسي، لأن الله قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله))، عقيدة لجميع المرسلين؛ هذا منهج الأنبياء .
وقد نفت أو أوّلت الأشاعرة هذه الصفات بلازمها، ( الغضب : غليان دَمِ القلب، لا يليق بالله، إذًا : ليس الغضب على ظاهره وليس مرادًا لله، بل المراد لازمه ) هكذا قالوا، ما هو اللازم ؟ ( الانتقام، لازم الغضب الانتقام، لازم الرحمة الإنعام )، أوّلوا الغضب بالإرادة، وأوّلوا الرحمة بالإرادة، وأوّلوا المحبة بالإرادة، كلُّ هذه الصفات حوّلوها إلى إرادة، تصرُّفٌ من عند أنفسهم؛ ولو قيل لهم : ما هي الإرادة ؟ قالوا :(6/60)
( كما يليق بالله ـ تعالى ـ )، ولو قلنا لهم : أليست الإرادة ميْلُ القلب وميْلُ النفس إلى من تحب أن تنفعه ؟، لماذا لا تقولوا في الإرادة كما قلتم في المحبة والغضب ؟، قالوا : ( لا، هكذا مذهبنا، مذهبنا : إثبات الإرادة كما يليق بالله، وتأويل غيرها بالإرادة )، إذًا: اتّباع الهوى ليس لديهم دليل، وإنما هو بالهوى، كلُّ ما خالف الكتاب والسنة وإن قالوا : ( هذا مذهبنا، وهذه طريقتنا، وهذه عقيدتنا ) معنى ذلك : عجزٌ عن الجواب، كلُّ من لا يملك دليلاً من الكتاب والسنة فهو عاجز فهو متّبعٌ للهوى .
هذه هي الصفات الفعلية، و ((هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها كالاستواء)) إلى آخره .
((وقد تكون الصفة ذاتيّة فعلية باعتبارين)) هذه أهميّة هذه القاعدة : قد تكون الصفة الواحدة ذاتيّة باعتبار وفعلية باعتبار؛ هذا ما لا يهتدي إليه إلا الدارسون لمنهج السلف المتتبِّعون للنصوص، المستنبطون من النصوص، الذين يفسِّرون النصوص بما كان عليه سلف هذه الأمة ولا يخالفون السلف هم الذين يستطيعون أن يفهموا هذا الفهم .
ذلك : ((كالكلام)) صفة الكلام ((فإنه)) الكلام ((باعتبار أصله : صفة ذاتية لأن الله ـ تعالى ـ لم يزل ولا يزال متكلَّمًا)) بل : ولن يزال متكلِّمًا؛ لم يكن الله(6/61)
ـ سبحانه وتعالى ـ أو لم يكن الكلام ممتنعًا في حقه قط، هذا معنى كونه صفة ذاتية قديمة، أي : لم يكن الكلام ممتنعًا ثم تحوّل من الامتناع إلى الجواز، بل كان ممكنًا أن يتكلّم وليس هناك ما يُعجزه وما يمنعه من الكلام؛ ومن كان متكلِّمًا ثم أمسك عن الكلام ثم تكلّم ماذا يُقال ؟ تكلّم ثم أمسك عن الكلام ثم تكلّم، إذا كان متكلِّمًا أمس وسكت اليوم وتكلّم غدًا، غدًا عندما يتكلّم هل يُقال : فلان نشأ له كلام وحصل له كلام ؟ لا، من أول هو متكلِّم، وإنما أمسك عن الكلام في هذه الفترة، في وقت تكلُّمه يقال متكلِّمٌ بالفعل، واحد يخطب، يدرِّس يقال فلانٌ متكلِّمٌ بالفعل، أمسك عن الكلام فسكت، يقال : متكلِّمٌ بالقوّة، أي : غيرُ عاجز عن الكلام، وإنما سكت لحكمة ولغرضٍ ما، لا يقال إنه عادم للكلام؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يتكلّم متى شاء وإذا شاء، تكلّم في فترات وفي أزمنة مختلفة : خاطب أبا البشر، وخاطب نوحًا، وخاطب إبراهيم، وخاطب موسى، وخاطب محمدً ( ـ عليهم الصلاة والسلام جميعًا ـ، أزمنة مختلفة.
أصلُ صفة الكلام : صفةٌ قديمة قائمة بالذات ـ كما قال المؤلّف ـ، لكن أفراد الكلام حادث، وكلمة ( حادث ) صعبة عند القوم، ولكن عندنا ليس فيها صعوبة لأننا نفرِّق بين الحادث وبين المخلوق، كلُّ مخلوق فهو حادث وليس كلُّ حادث مخلوقًا، لأن الله وصف كتابه وكلامه بأن منزَّل، لكن لم يصفه بأنه مخلوق، ووصف نفسه بأنه يتكلّم فينادي، دلّ ذلك على أنه أحدث كلامه [ … ] وخاطب مَن خاطب أحدثه بالتكلُّم والخطاب والإنزال لا بالخلق والتكوين .(6/62)
نعود إلى كلام الشيخ فيقول : ((وباعتبار آحاد الكلام)) كما مثّلنا ((صفةٌ فعلية لأن الكلام يتعلّق بمشيئته يتكلّم متى شاء بما شاء كما في قوله ـ تعالى ـ : ( إنما أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون (؛ وكلُّ صفةٍ تعلّقت بمشيئته ـ تعالى ـ فإنها تابعةٌ لحكمته)) وهي صفة فعلية في وقت واحد؛ كلُّ صفة تعلّقت بمشيئة الله
ـ تعالى ـ فهي صفة فعلية فهي تابعةٌ لحكمته ـ تعالى ـ .
((وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها)) هذا هو الكثير .
((لكننا نعلم علم اليقين أنه ـ سبحانه ـ لا يشاء شيئًا إلا وهو موافِقٌ للحكمة كما يشير إليه قوله ـ تعالى ـ : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا ()) محلُّ الشاهد من : ( كان عليمًا حكيمًا ( .
(14) قال المؤلِّف ـ حفظه الله ـ : ((القاعدة السادسة : يلزم في إثبات الصفات: التخلِّي عن محذوريْن عظيمين)) عندما يثبت الإنسان الصفات الثابتة لله
ـ تعالى ـ ينبغي أن ينتبه لمحذورَين اثنين :
((أحدهما : التمثيل، والثاني : التكييف)) سوف يفرِّق المؤلِّف بينهما .
((فأما التمثيل فهو : اعتقاد المُثْبِت أنّ ما أثبته من صفات الله ـ تعالى ـ مماثِلٌ لصفات المخلوقين؛ وهذا اعتقادٌ باطل بدليل السمع والعقل)) . هذه عقيدة المشبِّهة؛ وهل المشبِّهة موجودة ؟ المشبِّهة لا توجد بصفتها طائفة قائمة لها كيان كالنُّفاة، النُّفاة موجودون على اختلافهم في النفي، إذا سمّينا الأشاعرة ـ أحيانًا ـ من النُّفاة لأنهم
ـ أحيانًا ـ يدخلون مع النُّفاة وأحيانًا يدخلون مع المُثْبِتة .(6/63)
على كلٍّ : المعطِّلة هم من المعطِّلة؛ المعطِّلة موجودون بالفعل ومعروفون، لكنّ المشبِّهة وُجدت في فترة من الفترات الذين يقولون حتى يشبِّهون ذات الله ـ تعالى ـ بذوات المخلوقين وصفاته بصفات المخلوقين بدعوى أننا خوطِبنا بما نعقل، لا نعقل من الذات إلا ذاتًا كذواتنا، ولا نعقل من الصفات إلا كصفاتنا، إذًا : هو كخلقه
ـ سبحانه وتعالى ـ في خلقه وفي صفاته لأننا لا نُكَلِّف بما لا نعقل؛ هذه المشبِّهة لا وجود لها الآن، وقد تجدون ـ أو تقرءون ـ في بعض الكتب ـ كتب الفرق ـ لهذه العقيدة؛ فهذه العقيدة باطلة كما ترون، لا نتوقّف عندنا كثيرًا .
فبُطلانها بالسمع والعقل أي : بالدليل السمعي وبالدليل العقلي :
((أما السمع : فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( ليس كمثله شيء ()) ينفي المماثلة
( ليس كمثله شيء ( لا في ذاته ولا في صفاته ـ كما تقدّم ـ .
((وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق (، وقوله : ( هل تعلم له سَمِيًّا (، وقوله : ( ولم يكن له كفؤًا أحد ()) هذا يدل على كلِّ ممثِّل يمثِّل صفات الله
ـ تعالى ـ بصفات خلقه .
((وأما العقل فمن وجوه)) الوجه ((الأول : أنه قد عُلم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبايُنًا في الذات)) كلُّ عاقل يُدرك أنه بين الخالق وبين المخلوق تبايُنًا بالذات، لأنه لو كان مماثِلاً بالمخلوق يكون عاجزًا عن خلقهم؛ المماثل لا يخلق مماثلاً مثله، بل هو مبايِن؛ ولذلك : حتى الأشاعرة يُثبتون هذه الصفة يسمّون ( المخالَفة للحوادث ) من الصفات السلبية عندهم : ( المخالَفة للحوادث ) .(6/64)
((وهذا يستلزم أن يكون بينهما تبايُنٌ في الصفات لأن كلّ صفة كل موصوف تليق به كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتبايِنة في الذوات)) . إذا ثبت بالعقل التبايُن بين الذات بين ذات الله ـ تعالى ـ وذوات خلقه، يستلزم ذلك أن يكون بين صفات الله ـ تعالى ـ وصفات خلقه تبايُن، لأنّ الكلام في الصفات ـ كما قال أتباع السلف ـ فرعٌ عن الكلام في الذات يحذوا حذوه، تقول في الصفات كما قلت في الذات، إذا كان في الذات ( ليس كمثله شيء ( كذلك في الصفات ( ليس كمثله شيء ( .
فيقول المؤلّف ليقرِّب بهذه الأمثلة : ((فقوّة البعير ـ مثلاً ـ غير قوّة الذَرَّة)) أو الذر، ((فإذا ظهر التبايُن بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث)) الإمكان: كلُّ ما عدا الله فيقال له : ممكن، أي : وجوده ممكنٌ وجائز وليس بواجب، الله يقال له واجب الوجود، وما عدا الله يقال له : جائز الوجود، ويقال له : ممكن، هذا الكون كله من الممكنات؛ اشتركت هذه الأشياء في الإمكان وفي الحدوث ومع ذلك تباينت .
((فظهور التبايُن بينها وبين الخالق أجلى وأقوى)) .
(15) قال المؤلِّف ـ حفظه الله ـ : ((القاعدة السادسة : يلزم في إثبات الصفات التخلِّي عن محذورين عظيمين : أحدهما : التمثيل، والثاني : التكييف)) ثم قال : ((فأما التمثيل فهو : اعتقاد المثبت أنّ ما أثبته من صفات الله ـ تعالى ـ مماثل لصفات المخلوقين؛ وهذا اعتقاد باطل)) . سبق أن قلنا : إن المشبِّهة الممثِّلة لا وجود لها بصفتها طائفةً لها وجود ولها كيان كالمعطِّلة ولكنّ العقيدة قد توجد في بطون بعض الكتب .
وعقيدة التشبيه باطلة بالدليل السمعي وبالدليل العقلي؛ لا نزال ننبِّه بأن المراد بالدليل السمعي هو : الدليل الخبري، وهو الدليل النقلي، أي : آياتٌ من كتاب الله ـ تعالى ـ مسموعة، وأحاديث من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ منقولة وخبرهما؛ هذا هو المراد بالدليل السمعي .(6/65)
والدليل العقلي : معلومٌ؛ والدليل العقلي : جهازٌ يُستعمل في فهم النصوص؛ والعقل لا يستقلُّ أبدًا بإثبات المطالب الإلهية، ولكنه لا يخالف ما جاء عن الله وصحّ عن رسول الله ( .
لذلك : قسمنا الصفات إلى الصفات الخبرية المَحْضة وإلى الصفات العقلية والسمعية معًا، أي : لا توجد صفاتٌ عقلية ينفرد العقل بإثباتها كما ورد السؤال في الدرس السابق؛ لا توجد صفة ـ ولو صفةً واحدة ـ يقال لها : إنها ثبتت بالدليل العقلي فقط دون ورود الدليل السمعي .
إنما قيل في بعض الصفات ( الصفات العقلية ) لأن للعقل تدخُّلاً في إثبات هذه الصفات مع السمع .
وهناك صفات خبرية محضة لا تدخُّل للعقل في إثباتها، ولو لم يَرِد السمع لا مجال لنا إلى إثباتها، هذه تسمّى الخبرية المَحْضة؛ هذا هو الدليل العقلي .
ثم قال : ((أما السمع : فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( ليس كمثله شيء ()) ( وهو السميع البصير ( . هذه الآية آبلغ آية في باب التنزيه، ومن يريد تنزيه الله
ـ تعالى ـ عليه أن يتدبّر في هذه الآية، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفى المماثَلة، ثم أثبت لنفسه السمع والبصر؛ السمع والبصر من أبصر الصفات في المخلوق، فأثبت لنفسه بعد أن نفى المِثْلِيّة ( ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير ( .
إذًا : التنزيه الصحيح : أن تُثبت لله ما أثبت لنفسه أو أثبته له رسوله الأمين ( ثم تنفي المماثَلة بين ما أثبتّ وبين صفات المخلوقين .
وليس من التنزيه نفيُ الصفات كما فعل بعضُ علماء الكلام .
((وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكَّرون (، وقوله : ( هل تعلم له سَمِيًّا (، وقوله : ( ولم يكن له كفؤًا أحد ()) . هذه الآيات كلها في نفي المماثلة مع إثبات الصفات .
نكرِّر : اعتقاد بأن إثبات الصفات يؤدِّي إلى التشبيه أو إلى التمثيل وأن التنزيه الصحيح : نفيُ الصفات هذا خطأ، خطأ ارتكبه علماء الكلام على اختلاف مناهجهم من جهمية ومعتزلة والأشاعرة .(6/66)
((وأما العقل فمن وُجوه)) . ذكر الوجه الأول؛ فنحن الآن في الوجه الثاني . أعدنا هذا من باب ربط الدرس بالدرس .
الوجه ((الثاني)) من وجوه دلالة العقل على عدم المماثلة وأن المماثلة مستحيلة : ((أن يقال : كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه)) الكامل في ذاته الكامل في صفاته، الكامل في أسمائه وأفعاله كيف يكون هذا الرب ـ سبحانه وتعالى ـ .
((مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب)) المخلوق الذي خلقه هو، والمربوب الذي ربّاه هو بالنعم الحِسِيّة والمعنوية .
((الناقص، المفتقر)) . النقص والفقر صفتان ذاتيّتان للمخلوق كما أنّ الكمال والغنى صفتان ذاتيّتان للرب ـ سبحانه وتعالى ـ؛ المخلوق الناقص المفتقر ((إلى من يكمِّله))، وقد يعطي الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعض المخلوقات بعض الكمالات كالسمع والبصر والعلم والحِلم؛ فإذا كان الله يعطي بعض المخلوقات بعض صفات الكمال فهو أولى بالكمال، معطي الكمال أولى بالكمال .
((وهل اعتقاد ذلك)) أي : المشابهة بين صفات الله وصفات خلقه .
((إلا تنقُّصٌ لحق الخالق فإنّ تشبيه الكامل بالناقص يجعله)) يجعل ذلك الكامل ((ناقصًا)) وهذا مستحيل، بل كفرٌ بالله ـ تعالى ـ لو تعمّد الإنسان تشبيه الخالق بالمخلوق، من شبّه الله بشيء من خلقه فقد كفَر، ومن نفى شيئًا من صفات الله
ـ تعالى ـ ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد كفَر ما لم يُعذَر بالجهل؛ هذا ما أجمع عليه السلف في تكفير المشبِّه والنافي .
الوجه ((الثالث : أننا نشاهِد في المخلوقات ما يتّفق في الأسماء)) فيما بينهم فيما بين المخلوقات .(6/67)
((ويختلف في الحقيقة والكيفية فنشاهد)) ـ مثلاً ـ ((أنّ للإنسان يدًا ليستْ كيد الفيل وله قوة ليست كقوّة الجمل)) وله رأس ليس كرأس الجبل، وأنت ماشي، عدِّد من هذا كثيرًا ما شئت ((مع الاتّفاق في الاسم فهذه يدٌ وهذه يد وهو قوة وهذه قوة)) وهذا رأس وذلك رأس ((وبينهما تبايُن في الكيفية والوصف)) وهم كلهم مخلوقون ((فعُلم بذلك أنّ الاتّفاق في الاسم لا يلزم منه الاتفاق في الحقيقة)) وخصوصًا بعد إضافة صفة الله ـ تعالى ـ إلى الله وصفة المخلوق إلى المخلوق؛ إذا قلت : سمعُ الله وسمع زيد انتفت المشابهة تمامًا، علم الله وعلم المخلوق انتفت المشابهة، لأنّ هذه الإضافة اسمها إضافة تخصيص، علم الله هذه الإضافة خصّصت صفة العلم بالله
ـ تعالى ـ؛ وأيُّ مخلوق مستحيل أن يشارك الله في علم الله لأن لعلم الله مواصفات؛ فالمخلوق لا يشارك الله ـ تعالى ـ في مواصفات علمه، كما أن الرب ـ سبحانه ـ منزّه أن يشارك المخلوق في موصفات علمه، وإنما يعق الاشتراك في المطلق الكُلِّي أي : قبل أن تضاف صفة الله إلى الله وصفة المخلوق إلى المخلوق في العلم المطلق غير مضاف، والسمع المطلق غير مضاف، والبصر المطلق غير مضاف؛ ومعلوم إن هذا المطلق لا وجود لها في الخارج إنما هو في الذهن، لكن علمُ الله الذي من صفاته أنه علمٌ محيطٌ بجميع المعلومات، علمٌ لم يُسْبَق بجهل، علمٌ لا يطرأ عليه نسيان أو غفلة أو ذُهول، قديمٌ قِدَم الذات، وباق بقاء الذات، هل أحدٌ يشارك الله في هذا العلم ؟ لا، إذًا : لا مشارَكة، لا مشاركة بين صفات الخالق وصفات المخلوق بعد أن تضيف صفة الله إلى الله وصفة المخلوق إلى المخلوق .(6/68)
لك أن تقول : معنى ذلك فالله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يشارك زيدًا في علمه وهو الذي منحه هذا العلم ؟، ليس الأمر كذلك، إنما نقول في صفات علم المخلوق، لا نقول لا يشارك الله في علم زيد لأنه هو الذي منحه العلم، لكن صفات علم زيد ـ أو مواصفات علم زيد ـ علمٌ ناقص غير محيط بجميع المعلومات ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ( علمٌ كان مسبوقًا بجهل، مكتسب، اكتُسِب فيما بعد، وهذا العلم يزول، زيد ينسى ويجهل ويغفل، هل الله ـ سبحانه وتعالى ـ يشارك زيدًا في صفات علمه هذه ؟ لا، إذًا : لا مشاركة بين الخالق والمخلوق في صفات الخالق وفي صفات المخلوق بعد الإضافة .
وما سمّيناه بالمطلق الكُلِّي قد يكون هذا الأسلوب غريبًا على بعض الناس لأنه أسلوب المناطِقة والفلاسفة، لكن بعبارتنا وبلغتنا نقرِّب فنقول : لا مشاركة بينهما بعد الإضافة لكن قبل الإضافة العلم الذي لم يضف حتى الآن لا إلى الخالق ولا إلى المخلوق هذا محل الاشتراك، ومثل هذا الاشتراك لا يضرّ، لأنه ليس صفةً لأحد، لا صفةً للخالق، ولا صفةً للمخلوق، علم هكذا قائم بالهواء وحده لا وجود له، ولكنّ الذهن يتصوّر؛ هذا معنى لا وجود له في الخارج ولكن له وجودٌ ذهني؛ والاشتراك في مثل هذا لا يضر إذْ لا يمكن أن نتصوّر لا علم الخالق ولا علم المخلوق إلا بهذا الاشتراك في المطلق الكُلِّي، رجعنا إلى نفس الأسلوب ولا مفر ـ والله أعلم ـ .
وبعد : قال المؤلّف ـ حفظه الله ـ :(6/69)
((والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرَّق بينهما بأن)) يقال : ((التمثيل التسوية)) بأن يقال : هذا مثلُ هذا تمامًا ((في كلِّ الصفات، والتشبيه : التسويه في أكثر الصفات)) لذلك يقال : ليس بلازم أن يكون المشبَّه كالمشبَّه به، إذا قلت زيدٌ كالأسد هل صار كالأسد في كلِّ شيء ؟ فقط في الشجاعة، إنما يُراد بالتشبيه هنا ـ زيد كالأسد ـ في شجاعته، ولكن لم يَصِرْ حيوانًا مثله بشعره الكثير وغير ذلك من مواصفات الأسد لا، لذلك التشبيه في التشبيه لا يلزم أن يكون المشبِّه كالمشبّه له ـ أو كالمشبّه به ـ .
ولكن يقال في التمثيل إذا قيل مثل، وإن كان هذا التفريق تفريق دقيق لا يكون محلّ اتّفاق .
((لكنّ التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن : ( ليس كمثله شيء ()) . فدائمًا نحرص قدر ما نستطيع أن نستعمل الأساليب الشرعية الواردة في الكتاب والسنة في حق الله ـ تعالى ـ؛ لذلك نستعمل الفوقية، ونستعمل العلو، ونستعمل الاستواء، لا نستعمل المكان ولا الجهة لا نفيًا ولا إثباتًا : لا نقول : الله في جهة، ولا نقول : ليس الله في جهة، لأن اللفظ محتمل وغير وارد، نحاول أن نلتزم الألفاظ الشرعية .
((وأما التكييف فهو : أن يعتقد المُثْبِتُ للصفة أنّ كيفية صفات الله ـ تعالى ـ كذا وكذا)) على شكل معيَّن ((من غير أن يقيِّدها بمماثل؛ وهذا اعتقادٌ باطل بدليل السمع والعقل)) .
قال المؤلّف ـ حفظه الله ـ : ((أما السمع)) أما الدليل السمعي على نفي التكييف : ((فمنه : قوله ـ تعالى ـ : ( ولا يحيطون به علمًا ()) أي : نعلم رب العالمين
ـ سبحانه وتعالى ـ بأسمائه وصفاته وآلائه وآياته الكونية، ولكن لا نحيط به علمًا، لا أحد يحيط بالله علمًا، بل الله وحده هو الذي يحيط علمًا بجميع المخلوقات، أما المخلوق فلا، لا يحيط بخالقه علمًا؛ إذًا : لا تكييف .(6/70)
((وقوله : ( ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً (؛ ومن المعلوم : أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا لأنه
ـ تعالى ـ)) لا كيفية سمعه وبصره، ولا كيفية نزوله ومجيئه ((لأنه ـ تعالى ـ أخبرنا عنها ولم يُخبرنا عن كيفيّتها)) قال ـ تعالى ـ : ( وجاء ربك والمَلَكُ صفًّا
صفًّا (، وقال النبي ( : ((ينزل ربنا)) ولا ندري عن كيفية مجيئه وعن كيفية إتيانه وعن كيفية نزوله لا نعلم .
((فيكون تكييفنا قَفْوًا لِمَا ليس لنا به علم وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به)) . إذ كيّفنا أن نزوله ـ تعالى ـ على هيئة كذا وكذا ومجيئه على هيئة كذا وكذا وقس على ذلك سائر الصفات قلنا على الله ـ تعالى ـ بغير علم ((بما لا يمكننا الإحاطة به)) بل العلم به، العلم نفسه مستحيل لا الإحاطة، ولذلك قال الإمام مالك بن أنس
ـ رحمه الله ـ لَمّا قال السائل : ( الرحمن على العرش استوى ( كيف استوى ؟، ولم يقل : ( الرحمن على العرش استوى ما معنى استوى ( لو قال : ما معنى استوى ؟ لا يندهش الإمام ولا يستغرب بل يُجيب، ربما يكون عجميًّا لا يعرف معنى استوى، أما العربي لا يسأل عن معنى استوى، وهل العربي يسأل عن معنى جاء وذهب وأتى ونزل ؟ لا، كذلك استوى عنده على حدٍّ سواء، بل يعلم إن الفعل ( استوى ) إذا تعدّى
بـ( على ) أنه بمعنى العلو، وإذا تعدّى بـ( إلى ) بمعنى القصد، ويعرف كيف يتصرّف في الفعل استوى بحسب حروف الجَرِّ بسبب التعدِّي، لكن الرجل لم يسأل عن المعنى .(6/71)
أريد أن أقول : لو سُئل الإمام مالك عن معنى استوى لفسّر ولا اندهش واستغرب كما استغرب لَمّا قيل له : ( الرحمن على العرش استوى ( كيف استوى ؟، لأن السائل سأل عن علم لا يعلمه أحد لا الإمام مالك ولا غيره، لذلك استغرب واندهش، وكان الوقت في أوائل ظهور فتنة علم الكلام وانتشاره، كان الإمام من أحد الأئمة المتشدِّدين في إنكار تسرُّب علم الكلام إلى عقول الناس، لذلك كان يقول
ـ رحمه الله ـ : ((أَوَ كلما جاءنا رجلٌ أجدل من رجل تركنا لجدالهم ما جاء به جبريل إلى محمد ( ؟))، كان كغيره من الأئمة شديدًا في إنكار مقتضى ومعاني علم الكلام التي بدأت تنتشر، لذلك اندهش واستغرب، وفي النهاية قال : ((الاستواء معلوم)) أي : معلومُ المعنى، ((والكيف مجهول)) هذا هو محل الشاهد، كيفية استواء الله على عرشه مجهولٌ للخلق، وكيفية نزوله مجهول، وكيفية مجيئه لفصل القضاء مجهول، وكيفية غضبه وفرحه مجهول، هكذا سائر الصفات سواءٌ كانت فعلية أو ذاتيّة خبرية أو عقليّة .
قال الشيخ ـ حفظه الله ـ : ((وأما العقل فلأنّ الشيخ لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته)) . هذا معنى كلام السلف : ((الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات يحذوا حذوه))، وقد آمنا بالذات العليّة ونحن لم نكيف، إيمانَ تسليم، إيمانَ وجودٍ وتسليم؛ فيجب أن يكون إيماننا بصفات الله ـ تعالى ـ إيمانَ وجودٍ وتسليم؛ هذا معنى قول الشيخ : ((إلا بعد العلم بكيفية ذاته)) .(6/72)
وبالاتّفاق نحن نعجز عن نُدرك كيفية ذات الرب ـ سبحانه وتعالى ـ؛ إذًا : فلنعترف بعجزنا عن معرفة كيفية صفاته ـ تعالى ـ؛ يُؤْثَر عن أبي بكر الصدِّيق أثرٌ أرجو أن يكون صحيحًا وهو قوله : ((العجز عن الإدراك إدراك)) : العجز عن إدراك حقيقة الذات وإدراك حقيقة الصفات هو الإدراك، أي : اعترافك بعجزك عن إدراك حقيقة الذات وحقيقة صفات الله ـ تعالى ـ هو الإدراك وهو العلم الصحيح، لأنك وقفت عند حدِّك ولم تقل على الله بغير علم، لذلك يُعتبر عدمُ الإدراك إدراكًا وعلمًا .
((أو العلم بنظيره المساوي له)) . لو كان له نظيرٌ مساوي تقيس على ذلك النظير المساوي .
((أو بالخبر الصادق عنه)) كأن يُخبر عن نفسه أو يُخبر عن رسوله الأمين المأذون ليتحدّث عنه؛ وكلُّ هذه الطرق منتفيَة، لا نظير له حتى تقيس عليه، وليس هناك خبرٌ صادق عنه ـ سبحانه ـ أو عن رسوله في معرفة كيفية صفاته حتى تعتمد على ذلك الخبر .
((وكلُّ هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله ـ عزّ وجل ـ فوجب بُطلان تكييفها)) . هذا هو الدليل العقلي ينبغي للشباب أن يحفظوا الأدلّة العقلية وكيف يصوغونها، والشيخ ـ حفظه الله ـ صاغ صياغة بعيدة عن أسلوب المنطق والفلسفة حتى يفهم كلُّ طالب؛ فتُثْبِتُ بذلك أنك لست كما يقال إنك حَرْفي فقط تسوق النصوص ولا تفهم لها معنى، هذا ما ينسبون إلى السلف : السلف لا يفهمون معاني النصوص، يؤمنون بظاهر النصوص ويتلونها ولكن لا يفهمون لها معنى، ويحسبون بأن هذا مدح للسلف، هذا قدح وسبٌّ للسلف، تشبيههم بالإنسان العامِّي الذي يسرُد الألفاظ ولا يفهم، لا، السلف يفهمون معاني النصوص، ومعاني نصوص الصفات، لكن لا يكيِّفون، ويستطيعون أن يقرِّبوا بالأمثلة وبالأدلة العقلية كما فعل الشيخ هنا .
((وأيضًا : فإننا نقول : أيُّ كيفية تقدِّرها)) أيها المقدِّر ((لصفات الله(6/73)
ـ تعالى ـ ؟، إنّ أيّ تكييف تقدِّرها في ذهنك فالله أعظم وأجلُّ من ذلك)) . التقدير إنما يتم لو كان له مثيل حتى تقيس عليه، فإذا كان لا مثيل له كيف تقدِّر ذلك الوَهْم الذي في ذهنك تتوهّم أنه على كُبْر كذا وصفته كذا ونزوله كذا بالسُّلَّم والسلم طوله كذا، كل هذه أوهام وخيالات باطلة، ليس لك أن تفكِّر في هذا، ولا أن تقدِّر هذا التقدير .
(16) قال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وحينئذ يجب الكَفُّ عن التكييف)) . إذا كان الأمر كما ذُكر أي : إذا كان ليس له مماثل حتى تقيس عليه ولم يأت خبرٌ من الصادق يبيِّن كيفيته إذا كان الأمر كذلك وجب ((الكف عن التكييف تقديرًا بالجَنان)) بالقلب، أي : حتى لا تتوهّم ولا تقدِّر في نفسك هذا التكييف، ((أو تقريرًا باللسان)) ولا تقرِّر بلسانك، لا تقول بلسانك إنه على كيفية كذا وكذا، ((أو تحريرًا بالبنان)) ولا تكتب فيما تكتب لأنك مسؤول عما تكتُب عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
((ولهذا لَمّا سُئل مالك ـ رحمه الله ـ عن قوله ـ تعالى ـ :( الرحمن على العرش استوى ( كيف استوى ؟)) . انتبه لصيغة السؤال : قال : ( كيف استوى ) كما قلنا ولم يقل : ( ما معنى استوى ) ولكنه قال : ( كيف استوى ) .
((أطرق ـ رحمه الله ـ برأسه حتى علاه الرحْضاء ( العرق ) )) حياءً من الله
ـ سبحانه وتعالى ـ وتعظيمًا كيف إن هذا المخلوق الضعيف يتجرّأ على مثل هذا السؤال، يسأل عن كيفية استواء الله على عرشه .
((ثم قال : ((الاستواء غير مجهول)) )) عند كُلِّ من يعرف اللغة العربية، لأن هذه من الألفاظ التي تُعرف، هي من مفردات اللغة، إذا أشكل عليك شيءٌ من مفردات اللغة اسأل أهلها ـ أهل اللغة ـ يفسروا لك .
((والكيف غيرُ معقول)) لأن الله لم يُخبرنا عن كيفية استواءه ولا رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
((والإيمان به واجب)) تصديقًا لخبر الله؛ الإيمان باستواء الله على عرشه شُعبةٌ من شُعَبِ الإيمان .(6/74)
((والسؤال عنه)) أي : عن الكيفية ((بدعة)) وهي من بدع أهل الكلام التي بدأتْ في عهد تابعي التابعين، لأن الإمام مالك من أئمة تابعي التابعين .
((ورُوي عن شيخه ربيعة ـ أيضًا ـ : ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول)) )) ولكن الرواية الثابتة : عن الإمام مالك؛ ما رُوي عن ربيعة وعن أم سلمة قال أهل العلم : فيهما مقال، في الروايتين؛ الرواية الصحيحة : عن الإمام مالك؛ ولذلك : كلُّ مَنْ جاء بعده يستعمل هذا الميزان لا في الاستواء فقط بل في جميع صفات الله
ـ تعالى ـ، في الصفات الفعلية والصفات الخبرية وغير ذلك؛ لو قال لك متطفِّل : كيف وجهه ؟ يكون الجواب هو هذا، جواب الإمام مالك عن الاستواء في جميع الصفات .
((وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان)) .
((وإذا الكيف غير معقول ولم يَرِد به الشرع)) يعني : العقل لا يستطيع أن يُدرك الكيفية، ولذلك قلنا قبل قليل : العقل لا يستقِلُّ في المطالب الإلهية، بل لا يستقلّ العقل حتى في إثبات الصفات فضلاً عن الكيفية : لو لم يَرِد نصٌّ بأن الله مستوٍ على عرشه ما تجرأنا على القول بذلك بعقولنا، ولو لم يُخْبِرِ النبي ( عن نزول الرب في آخِر كلِّ ليلة لَمَا تجرأ أحدٌ أن يقول ذلك، لأن هذا معنى هذه الصفة خبرية مَحْضَة .
إذا كان العقل ليس في إمكانه أن يستقلّ في إثبات صفات الله ـ تعالى ـ فكيف يُدْرِك كيفية صفات الله ؟ من باب أولى؛ من هنا يتّضح بُطلان كلام أهل الكلام بأن الدليل العقلي هو العُمدة في باب العقيدة، أخطئوا في ذلك خطأً فاحشًا .
بهذا القول ـ أو بهذه القاعدة الكلامية ـ ردُّوا نصوص الكتاب والسنة ليستطيعوا أن يتصرّفوا في إثبات عقيدتهم : قالوا : الأدلّة اللفظية كتابًا وسُنّة ظنيّة وليست يقينية، الدليل القطعي اليقيني هو الدليل العقلي .(6/75)
والذين يذكرون الأدلة النقلية كالأشاعرة والمعتزلة أحيانًا قالوا : إنما تُذكر من باب الاستئناس بها والاعتضاد بها، لا من باب الاعتماد عليها؛ انتبهوا أيها الدارسون في أصول الفقه والمصطلح قد انطلت هذه القاعدة على بعض الأصوليِّين وبعد علماء المصطلح، قرّروا هذه القاعدة تقريرًا، وأطلقوا هذه العبارة بأن الأدلة اللفظية ظنيّة؛ وهذا كلامٌ خطير، معنى ذلك : ردٌّ لأدلّة الكتاب والسنة، وسدٌّ للطريق طريق معرفة الله على العبادة بطريق الكتاب والسنة إلا بطريق علمِ الكتاب، وهذا ما يريدونه؛ وهذا كلامٌ باطل .
لذلك يقول الشيخ ـ حفظه الله ـ : ((وقد مشى أهلُ العلم بعدهما)) بعد ربيعة والإمام مالك ((على هذا الميزان)) اعتبروه قاعدة وميزانًا للجواب على كلِّ سؤال يَرِد في كيفية صفات الرب ـ سبحانه وتعالى ـ، أيُّ سؤال في أيِّ صفة بالقدرة، والإرادة، والعلم، والحياة؛ بالنسبة للمعتزلة الذين لا يُثْبتون هذه الصفات وبالنسبة لغضب الرب
ـ سبحانه وتعالى ـ ورحمته وفرحه بالنسبة للأشاعرة الذين يؤوِّلون هذه الصفات أيُّ أحدٍ من أهل الكلام وجّه لك سؤال في كيفية صفةٍ من صفات الرب
ـ سبحانه وتعالى ـ عليك بهذا الميزان .
((وإذا كان الكيف غيرَ معقول ولم يَرِدْ به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان)) الدليل ((العقلي و)) الدليل ((الشرعي فوجب الكَفُّ عنه)) . مسألة ليس عليها دليلٌ شرعي
أو دليلٌ عقلي لا يجوز أن تخوض فيها، يجب الكَف .
يقول الشيخ ـ حفظه الله ـ : ((فالحذر الحذر من التكييف أو محاولته فإنّك إذا فعلت وقعت في مفاوِز لا تستطيع الخلاص منها)) . الخلاص : باللجوء إلى الكتاب والسنة .(6/76)
((وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته)) فهو الذي يقول لك : إذا أثبتّ لله الاستواء على عرشه لا بد أن يكون المستوي على شيء إما أكبر من المُسْتَوَى عليه أو أصغر منه أو مساوِيًا له، وكلُّ ذلك من لوازم صفات المخلوق، فإذا كان الأمر كذلك يجب نفيُ الاستواء؛ انظروا إلى هذه القاعدة الشيطانية، هذه التي مشى عليها جميعُ النُّفاة بما فيهم الأشعرية القريبة التي شهِد لها شيخُ الإسلام أنها من أقرب طوائف أهل الكلام إلى أهل السنة والجماعة، ولكنّ الأشاعرة أبوا أن يقبلوا هذا القُرْب إلا أن نعترف لهم أنهم أهلُ السنة والجماعة أو على الأقل من أهل السنة والجماعة، ولن نعترف بذلك لأن ذلك خلاف الواقع، كيف كان خلاف الواقع ؟ ـ لعلّ فيكم من درس ـ، إذا أردتّ أن تعرف أن دعواهم خلاف الواقع من أنهم أهل السنة والجماعة أو منهم ناقشهم في صفة العُلو ماذا يقولون في استواء الله ـ تعالى ـ ؟ يصرِّحون بأن الله ليس فوق العرش ولا تحت العرش ولا على يمينه وعلى شماله، في كتُبٍ تُدْرَس، والكتب بأيدينا موجودة عندنا يصرِّحون بهذا، ومن صرّح بهذه العقيدة كيف يدّعي بأنه من أهل السنة والجماعة، المراد بالجماعة : الجماعة الأولى جماعة الصحابة، وهل جماعةُ الصحابة هذه عقيدتهم ؟ لا، وهلِ السنة جاءتْ بذلك ؟ لا .(6/77)
ثم ناقشهم في صفة الكلام في القرآن : قل لهم : ماذا تقولون في القرآن ؟ يقولون : نحن نوافق المعتزلة في أنّ الكلام اللفظي مخلوق، ولكننا نخالف المعتزلة وهم خصومنا فنثبت الكلام النفسي الذي ليس بحرفٍ ولا صوت . أين الخصومة بينكم وأنتم قد وافقتم معهم بأن القرآن مخلوق ما معنى الخصومة ؟ الخصومة لأنهم لم يُثبتوا الكلام النفسي ؟ لأن إثبات الكلام النفسي إثباتٌ لا معنى له؛ فالنبي ( فرّق بين الكلام وبين الحديث النفسي، ما في النفس يسمّى حديثًا ولا يسمّى كلامًا، أخبر النبي ( بأن الإنسان لا يؤاخَذ بما حدّثتْ به نفسه حتى يتكلّم به، انظروا حتى يتكلّم به؛ حديثُ النفس ليس بكلام؛ وعند الأشاعرة : كلامُ الله الحقيقي هو الكلام النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت؛ وإذا أُطلق كلامُ الله على القرآن مجازًا لأنه دالٌّ على كلام الله الحقيقي أو عبارةٌ عنه أو ترجمة؛ ويقول بعضهم : لو رُفع عنا الحجاب لفهمنا من الكلام النفسي ما نفهمه الآن من الكلام اللفظي من الأمر والنهي والخبر والاستفهام وغيرِ ذلك؛ هذا الكلام لا علاقة له بما كان عليه سلف هذه الأمة .
إذًا : دعوى بأننا أهلُ السنة والجماعة أو منهم دعوى ليس عليها بيِّنة لا تُقبَل .
قال الشيخ ـ رحمه الله وحفظه ـ؛ لا تستغربوا كلمة ( رحمه الله ) وإن كانت جَرَتِ العادة لا يقال ( رحمه الله ) إلا فيمن مات، وهذه في الواقع عادة عجيبة انتشرت بيننا، مع العلم أن الإنسان كلُّ واحد منا يطلب من ربه الرحمة يقول : ( اللهم ارحمني )؛ فإذا قلنا للشيخ : ( رحمه الله ) كما طلبنا لأنفسنا وهل معنى ذلك حكمنا عليه بأنه(6/78)
ميِّت ؟ لا؛ لكن جَرَتِ العادة بالنسبة للأحياء يقال : ( حفظه الله )، و ( وفّقه الله )، وبالنسبة للميِّت : ( رحمه الله )، وأحيانًا يسبقنا اللسان؛ فلتفهموا أنه جائز أن يقال في المؤلِّفين الأحياء أن يقال : ( قال فلان رحمه الله )؛ وإن وجدتم لي شيئًا من المؤلَّفات عندكم قولوا لي : ( قال فلان رحمه الله )، وأنا أشكركم على ذلك .
يقول الشيخ ـ حفظه الله ورحمه ـ : ((وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته فالجأ إلى ربك فإنه معاذك، وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك : قال ـ تعالى ـ : ( وإما ينزغنّك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ()) . طالب العلم دائمًا مع الله، لا يعتمد على ذكائه وعلى سِعَة اطّلاعه، بل يخاف من نزغات الشيطان، ويلجأ إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ مِن وقت لآخر .
(17) قال المؤلّف ـ حفظه الله ووفّقنا وإيّاه ـ : ((القاعدة السابعة : صفات الله
ـ تعالى ـ توقيفية لا مجال للعقل فيها)) . توقيفية توقّف الإنسان فيها على ما ثبت في كتاب الله ـ تعالى ـ وفي سنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
((لا مجال للعقل فيها)) على انفراد؛ إلا أن العقل لا يرفض ما ثبت بالنقل الصحيح .
((فلا نثبت من الصفات إلا ما دلّ الكتاب والسنة على ثبوته، قال الإمام أحمد(6/79)
ـ رحمه الله تعالى ـ : ((لا يوصَفُ اللهُ إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث)) )) . هذا الكلام نُقل عن الإمام أحمد، كان يُجيب بهذا الجواب أيّام المحنة، عندما كان يُمتَحن أمام المعتصم بالله والواثق بالله من خلفاء بني العبّاس بعد أن سَلِم من المُثول أمام المأمون لأنه مات قبل أن يصل إليه الإمام أحمد، وتمّ التعذيب والامتحان أمام المعتصم والواثق بالله؛ وكانوا يسألونه عن صفة من صفات الله ـ تعالى ـ وعن القرآن أمخلوق هو ؟ فيقول في القرآن : ((كلام الله))، فيردِّدون عليه السؤال فيقول : ((لا أزيد على هذا : هو كلام الله))؛ فيسأل عن الصفات فيُقال : ((لا يوصَفُ اللهُ إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله (؛ لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث)).
لا ينبغي أن يُفهم من هذا أن هذا مذهب الإمام أحمد فقط، هذا مذهب جميعِ الأئمة الأربعة وغيرهم بل جميع أهل السنة إذا استثنينا المعتزلة والأشاعرة؛ جميعُ المسلمين من أهل السنة قديمًا وحديثًا هذا مذهبهم : ((لا يُتجاوَزُ القرآن والحديث))؛ إذْ لا يصف الله أعلمُ من الله، ولا يصف الله من خلقه أعلمُ من رسول الله ( .
أهلُ السنة لا يقولون : الدليل القطعي في هذا الباب : الدليل العقلي كما يقول أهلُ الكلام؛ هذه النقطة التي اختلف فيها أهلُ السنة وأهلُ الكلام؛ أصحاب الكلام الذين مِن أقربهم الأشاعرة العمدة عندهم ـ الاعتماد عندهم ـ على الدليل العقلي بخلاف أهل السنة والجماعة الذين يمثِّلهم هذا الكلام ـ كلام الإمام أحمد ـ .
إنما خصّه لأنه دخل الامتحان ونجح فيه؛ فغيره من الأئمة سَلِم من الامتحان؛ فلذلك عُرف هذا الإمام بهذا اللقب : ( إمام أهل السنة والجماعة وقامِع البدعة )، لأنه صبر أمام الامتحان في الوقت الذي خاف كثيرٌ من أهل العلم الذين حضروا، فطُلب منه أن يستعمل التورية فرفض فثبت؛ فبثباته سَلِمَت العقيدة للأمة الإسلامية؛ فنال هذا اللقب(6/80)
( إمام أهل السنة والجماعة ) .
لذلك : أبو الحسن الأشعري عندما رجع من العقيدة الكُلاّبية أعلن إنه على عقيدة أهل السنة والجماعة وأثنى عليه ثناءً عاطرًا في أول كتابه ((الإبانة في أُصول الديانة))؛ خصّه من بين سائر الأئمة لهذا الغرض .
وكلامه هذا هو كلامُ جميعِ الأئمة كما قلنا ليس كلامُه فقط .
يقول المؤلّف : ((انظر : القاعدة الخامسة في الأسماء)) . لأنه قدّم قواعد في الأسماء، ومن دَرَس الكتاب من أوله يرجع إلى القاعدة لتثبيت هذا الكلام هناك .
ثم قال ـ حفظه الله ـ : ((ولدلالة الكتاب والسنة على ثُبوت الصفة ثلاثُ أوجُه)) مستنبَطة من الكتاب والسنة؛ وهذه الطريقة التي نسلُكها التي أخذناها من مشايخنا وأئمتنا طريقةٌ تُعتبر بالنسبة لِمَا كان عليه السلف الأوّل طريقة حديثة وأسلوب جديد، لأن السلف الأول ليس لديهم كتبٌ يدرُسونها في العقيدة، المصحف هو كتاب التوحيد وكتاب الأحكام وكتاب الاقتصاد وكتاب السياسة وكتاب كلِّ شيء، لأنهم كانوا في عافية من آراء أهل الكلام ومن أصحاب الأهواء والفتن، لم يضطّروا إلى أن يؤلِّفوا لهم كتبًا، خصوصًا في عهد الصحابة العقيدة تُؤخذ من القرآن رأسًا ومن أقوال رسول الله ( يحفظونها؛ ولكن هذه الكتب وهذا الأسلوب الذي نحنُ عليه الآن الكتب التي نأخذ منها هذا الأسلوب أُلِّفَتْ دفاعًا عن العقيدة، كتبٌ دفاعيّة، والأساليب أساليب دفاعية، استُخدم فيها أساليب مناسبة للذين هاجموا العقيدة وحاربوا العقيدة ليخاطِبوا الناس بما يعقِلون وبالأسلوب الذي يفهمون .(6/81)
لذلك : لا ينبغي أن يُستغرب فيقال ـ كما قد قيل ـ : إنكم تدرُسون العقيدة وتقولون فيها الصفات الذاتية والصفات الفعلية والسلبية والثبوتية من أين لكم هذا ؟ وهل الرسول ( كان يعلِّم الصحابة بهذه الطريقة ؟ الجواب : لم يكونوا بحاجة إلى هذا الأسلوب، بل لم يكونوا بحاجة إلى كتب تسمى كتب العقائد وكتب التوحيد، ولكن دَعَتِ الحاجة إلى تأليف هذه الكتب في العقيدة، ألّف الأئمة دفاعًا عن العقيدة كالإمام أحمد وابن خُزيمة وابن تيمية وتلميذه ابن القيِّم وغيره هذه كتب دفاعيّة، ولاحظوا في الأسلوب أساليب قريبة من أساليب أهلِ الكلام لأنهم هم الذين هاجموا العقيدة فوجب عليهم استخدام هذه الأساليب للدفاع . وكلُّ ما فيه نفعٌ ومصلحة لا يقال فيه بدعة؛ بعض المنفِّرين من العقيدة الآن يقول : أنتم تسلكون مسلك جديد هذه بدعة؛ ينبغي أن يُفهم : إن البدعة ما لا أصل له في الدين؛ ونحن إنما استخدمنا أساليب فقط، ولكن في الأصل لم نخرج من الكتاب والسنة، الأدلة من الكتاب والسنة، وكوننا نعرض عرضًا بأسلوب مناسب للوقت لا بأس في ذلك .
لذلك : قيل للإمام أحمد : لماذا توسّعتم فقلتم : ( القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق منه بدأ وإليه يعود )، هذا الكلام كلُّه من أين جِبْتُم ؟، الأولون يقولون : ( القرآن كلام
الله ) وكفى ؟ يقول الإمام : ((لَمّا زادوا زدنا))، لَمّا زاد القوم زِدْنا، لأنهم أصحاب الكلام والثرثرة، يتكلمون كثير ولا ينفع معهم إلا أسلوبًا مناسبًا لأسلوبهم .
واستعمال هذا الأسلوب لإفحام الخصم واجب، والخصم لا يقبل إلا مثل هذا الأسلوب، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، لا بد من مراعات المصلحة .
وبعد :(6/82)
يقول المؤلِّف ـ حفظه الله ـ : الوجه ((الأول : التصريح بالصفة كالعزة والقورة والرحمة والبطش والوجه واليدين)) والعينين ((ونحوهما)) . يأتي تصريح إما في كتاب الله ـ تعالى ـ أو فيما ثبت عن رسول الله ( فتُثْبَتُ الصفة بهذا التصريح؛ إذًا : ليس هناك ابتداع، وإنما هو اتبّاع .
الوجه ((الثاني : تضمُّن الاسم لها مثل : الغفور)) من أسماء الله ـ تعالى ـ : الغفور ((متضمِّنٌ للمغفرة، والسميع)) من أسماء الله ـ تعالى ـ : السميع ((متضمِّنٌ للسمع)) متضمِّنٌ لصفة السمع، ((ونحو ذلك)) من أسماء الله ـ تعالى ـ : العليم متضمِّنٌ لصفة العلم، وهكذا ((انظر : القاعدة الثالثة في الأسماء)) .
الوجه ((الثالث : التصريح بفعل أو وصف دالٍّ عليها)) على الصفة ((كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، والانتقام من المجرمين)) هذه صفات أفعال وإنِ انتقد المنتقدون، ونحن نقول الواقع ونتّبع السلف ولم نبتدع؛ الاستواء صفةُ فعل والنزول صفةُ فعل والمجيء صفةُ فعل والانتقام أيضًا .
((الدالّ عليها ـ على الترتيب ـ قولُه ـ تعالى ـ : ( الرحمن على العرش استوى ()) دلّ على استواء الله ـ تعالى ـ على عرشه كما يليق به لا كاستوائنا .
((وقول النبي ( ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا …)) )) كما يليق به لا كنزولنا.
((وقولِ الله ـ تعالى ـ : ( وجاء ربك والملَكُ صفًّا صفًّا ()) يجيء الرب
ـ سبحانه وتعالى ـ ويأتي لفصل القضاء كما يليق به .
((وقوله : ( إنما من المجرمين منتقمون ()) كما يليق به ـ سبحانه وتعالى ـ .(6/83)
القاعدة هنا : إنّ لوازم صفات المخلوق لا تلزم صفاتِ الخالق، لوازم صفة الاستواء للمخلوق، لوازم صفة النزول للمخلوق لا تلزم صفة الخالق، لوازم صفة الاستواء للمخلوق ـ كما قلنا غيرَ مرّة ـ يلزم من استواء المخلوق على عرشه على دابّته على كرسيّه أن يكون أكبر ممّا استوى له أو مساويًا له أو أصغر، ومثلُ هذه اللوازم لا تلزم صفات الخالق، لأننا أثبتنا له ذاتًا ـ سبحانه وتعالى ـ أخذًا من الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف ولم نُثْبِت على ذاته لوازِم صفاتنا، الكلام في الصفات كالكلام في الذات تمامًا، لا يلزم من نزول الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لوازم نزول المخلوق من الانتقال من مكان إلى مكان وأن يكون المكان الذي انتقل منه فوقه لأن صفة العلو لله ـ تعالى ـ صفةٌ ذاتيّة لا تَنْفَكُّ عن الذات .
لذلك : لا ينبغي أن نُجري على صفات الله ـ تعالى ـ لوازم صفات المخلوق .
(18) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى وحفظه ـ : ((قواعد في أدلّة الأسماء والصفات)) . تحدّث فيما تقدّم عن القواعد في الأسماء ثم القواعد في الصفات فالآن يتحدّث عن قواعد في أدلة الأسماء وأدلة الصفات، عن قواعد في الأدلة؛ وقد يلاحظ نوعٌ من التداخُل أو التكرار ولا يَعيب ذلك بل المكرَّر أحلى .
((القاعدة الأولى : الأدلة التي تُثبت بها أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته هي : كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله ()) كما تقدّم .
((فلا تُثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما)) بغير الكتاب والسنة، أي : بالأدلة العقلية
ـ كما تقدّم ـ .
((وعلى هذا : فما ورد إثباته لله ـ تعالى ـ من ذلك)) من الأسماء والصفات، أي : بأدلّة من الكتاب والسنة .
((في الكتاب والسنة وجب إثباته)) تصديقًا لخبر الله وخبر رسوله ( .
((وما ورد نفيُه فيهما)) في الكتاب والسنة .(6/84)
((وجب نَفْيُه مع إثبات كمال ضِدِّه)) . لا يوجد في الكتاب والسنة نَفْيٌ مَحْض لا يتضمّن كمال ضدّه، بخلاف النفي عند علماء الكلام؛ وهذا ما سبق أن عبّر عنه المؤلِّف بالسلوب ـ الصفات السلبية ـ، الصفات السلبية في الكتاب والسنة تتضمّن كمال ضدّه كنفي الظلم لكمال عدله ـ سبحانه ـ، ونفي الموت، والنوم، والسِّنَة لكمال حياته وقيُّوميّته .
أما السلوب عند علماء الكلام : نفيٌ مَحْض لا يتضمّن كمالاً ولا يدلُّ على المدح؛ وهذا لا يُتَّبع بل مذموم كقولهم : ((ليس بجوهر ولا عَرض، ولا بذي طول أو قِصَر، ولا بذي دم أو حرراة أو برودة)) هذا الكلام لا يدل على المدح ولا يتضمّن كمال ضدّه، بل فيه إساءة أدب؛ من أجمل في الوصف أجمل في الأدب، ومن فصّل في النفي أساء الأدب؛ وهذا الأسلوب غيرُ متّبَعٍ في الكتاب والسنة، السُّلوب التي في الكتاب والسنة تتضمّن كمال ضدّه .
((وما لم يَرِدْ إثباته ولا نفيُه في الكتاب والسنة وجب التوقُّف في لفظه فلا يُثبت ولا يُنفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه)) . النقطة هذه أهمُّ ما في هذه القاعدة وإلا غيرُ هذه النقطة معلومة .
هناك صفات يستعملها علماء الكلام ـ أو أسلوب ـ غير وارد في الكتاب والسنة يحتمل معنىً باطلاً وحقًّا، يُتَوَقَّفُ في هذا لا يُثْبَت ولا يُنْفى .
((وأما معناه فيفصَّل فيه، فإن أريد به حقٌّ يليق بالله ـ تعالى ـ فهو مقبول)) . لكن لا من حيث الوصف ولا من حيث إنه من أسماء الله ـ تعالى ـ ولكن من حيث الإخبار، لأن باب الإخبار أوسع، ويُتسامح في باب الإخبار بخلاف باب الأسماء وباب الصفات .
((وإنْ أريد معنىً لا يليق بالله ـ عزّ وجل ـ وجب ردُّه .
فمما ورد إثباته لله ـ تعالى ـ : كلُّ صفة دلَّ عليها اسمٌ من أسماء الله
ـ تعالى ـ دلالةَ مطابَقة أو تضمُّن أو التزام)) . تقدّم هذا البحث بأن كل اسمٍ من أسماء الله ـ تعالى ـ يدلُّ دلالةَ مطابَقة ودلالة تضمُّن ودلالة التزام : اسمُ الله(6/85)
ـ تعالى ـ العليم، واسم الله ـ تعالى ـ الحي، الحي هذا الاسم يدلُّ على الذات وعلى صفة الحياة معًا، دلالةُ اسم الله ـ تعالى ـ الحي على صفة الحياة وعلى الذات الموصوفة بالحياة هذه الدلالة يقال لها دلالة مطابَقة، دلالة المطابَقة دلالة الاسم على جميع معناه؛ العليم : يدلُّ على العلم، ويدلُّ على الذات الموصوفة بالعلم؛ هذه تسمّى دلالة مطابَقة، دلالة الاسم على جميع معناه، هذا بلغتنا لا بلغة المنطقيِّين، لهم لغة غير هذه اللغة.
وأما دلالة التضمُّن : دلالة الاسم على بعض معناه : دلالة اسم الله الحي على الذات وحدها دون الصفة يقال لهذه الدلالة : دلالة التضمُّن؛ ودلالة اسم الله ـ تعالى ـ الحي على الصفة دون الذات كذلك يقال لها : دلالةُ تضمُّن .
ودلالة اسم الله الحي على العلم، على السمع، على القدرة هذا يقال لها دلالة التزام؛ وهو : دلالة الاسم على صفة خارجة من لفظه؛ إذا دلَّ على صفة من لفظه وعلى الذات: تطابُق، وعلى الذات وحدها : تضمُّن، وعلى الصفة وحدها من لفظه : تضمُّن؛ دلالةُ الاسم على صفة خارجة من لفظه دلالة التزام، أي : يلزم من اسم الله ـ تعالى ـ الحي بأن الله ـ تعالى ـ عليم وقدير ومُريد لأن هذه من صفات الكمال، فحياته كاملة، فصاحب الحياة الكاملة موصوف بالعلم والقدرة والإرادة وسائر صفات الكمال.
تقدّم هذا البحث، وهذه الإعادة ملخّص لِمَا تقدم؛ فينبغي أن تُسَجَّل هذه المعلومات.
قال المؤلّف ـ حفظه الله ووفّقنا وإياه ـ : ((ومنه : كلُّ صفةٍ دلّ عليها فعلٌ من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تُحصى أنواعُها فضلاً عن أفرادها(6/86)
( يفعل الله ما يشاء ()) ( فعّال لِمَا يريد ( . أفراد الأفعال من النزول والمجيء والاستواء والأخذ والبطش لا يُحصى، لأن الفعل كمال، فكمالات الله لا حصر لها ولا نهاية لها؛ كذلك الكلام ـ كما تقدم ـ .
((ومنه : الوجه، والعينان، واليدان، ونحوها .
ومنه : الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها الكوني والشرعي فالكونية بمعنى المشيئة والشرعية بمعنى المحبة)) والأمر . ولعلكم تعرفون تفاصيل ذلك وأمثلة ذلك في كتب العقيدة؛ وهذه قواعد .
((ومنها : الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة، ونحوها)) كلُّ ذلك تُبت للورود
ـ لورودها ـ، ولا تؤوّل، لا يقال : المراد بالرضا إرادة الإنعام، والمراد بالمحبة
ـ أيضًا ـ إرادة إنعام، والمراد بالغضب والكراهة إرادة الانتقام؛ هذه طريقة أشعرية عقيمة فيها نفيٌ للصفة وإثبات للازمها، ولا معنى لذلك طالما أثبتُّم لازمها يلزمكم إثبات الصفة لأنكم أوّلتم عدّة صفات إلى صفة واحدة، كلها حوّلوها إلى الإرادة، والإرادة صفةٌ مستقلّة والمحبة صفةٌ مستقلّة والغضب كذلك والكراهة والانتقام وغير ذلك؛ وكلُّ ذلك كما يليق بالله ـ تعالى ـ .
والذي حملهم على هذا الاضّطراب ـ كما قال والد إمام الحرمين الجويني الأب ـ: ((إن شيوخ الأشاعرة لم يفهمونا من نصوص الصفات إلا ما يليق بالمخلوق))، فهموا من الغضب : غليان دمِ الغضب، وفهموا من المحبة والرضا والرحمة : الانفعال النفسي، ولم يفهموا أنّ صفاتِ الخالق كما يليق بها، ولا تَجري على صفات الخالق لوازم صفات المخلوق، هذا الذي فاتهم .
لتعرفوا هذه الحقيقة : اقرءوا رسالته في ((مجموعة متون المنيرية)) الرسالة التي وجّهها بعد التوبة إلى شيوخه .
والد إمام الحرمين خلاف إمام الحرمين؛ وإمام الحرمين صحيح رجع ولكن رجوعه غير صريح كما يدلُّ على ذلك كتاب الصغير الذي سمّاه ((العقيدة النِّظَاميّة))؛ فيها نوعٌ من الاضطّراب؛ أما والده فرجوعه رجوع صريح .(6/87)
بل يستفيد طالبُ العلم لماذا اضطّرب الأشاعرة هذا الاضطراب لا تستطيع أن تفهم ذلك إلا من رسالة والد إمام الحرمين؛ فرسالة والد إمام الحرمين بالنسبة للطالب الصغير أنفع من قراءته في ((الإبانة في أصول الديانة))؛ اسمها ((النصيحة)) .
((ومما ورد نفيُه عن الله ـ سبحانه ـ لانتفائه وثبوت كمال ضدّه : الموت، والنوم، والسِّنَة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ، ونحو ذلك)) . كلُّ ذلك لأنه يتضمّن كما ضدّ هذه الصفات المنفية .
انتبه لهذه النقطة وهي مهمة : ((وممّا لَمْ يَرِد إثباته ولا نفيه لفظ ( الجهة ) )) . الجهة، والجوهر، والجسم، والحَيِّز هذه ألفاظ يستعملها علماء الكلام في حقّ الله
ـ تعالى ـ أحيانًا نفيًا وأحيانًا إثباتًا، ما موقف أهل السنة من هذه الألفاظ ؟ لا تُثبت ولا تُنفى، ولا تُستعمل في حق الله ـ تعالى ـ لا نفيًا ولا إثباتًا لعدم الوُرود، لم يَرِدْ إثباتها ولا نفيها؛ وقد التزمنا أننا لا نتجاوز الكتاب والسنة، إذا راجعنا آيات الكتاب والسنة الصحيحة لا نجد إثباتًا لهذه الألفاظ ولا للنفي .
((فلو سأل سائل : هل نُثبت لله ـ تعالى ـ جهة ؟ قلنا له : لفظُ الجهة لَمْ يَرِد في الكتاب والسنة إثباتًا ولا نفيًا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أنّ الله ـ تعالى ـ في السماء)) . ما معنى في السماء ؟ ((أن الله ـ تعالى ـ في السماء)) ( في ) بمعنى ( على )، أو ( في ) تبقى على بابها ويكون ( السماء ) بمعنى ( العلو )، لأن لفظة ( السماء ) تُطلق عدّة إطلاقات : لفظة ( السماء ) تطلق على السحاب، وتُطلق على هذه الأجرام
( والسماء بنيناها بأَيْدٍ ( هذه الأجرام المَبْنِيّة، وتُطلق على مطلق العلو؛ فقوله(6/88)
ـ تعالى ـ : ( أأمنتم من في السماء ( إما أن نفسِّر : أأمنتم من في العلو، نثبت العلو، أنه عالٍ على خلقه على جميع مخلوقاته، فأعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات العرش، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ فوق العرش مستوٍ على العرش استواءً يليق به لا لحاجته إلى العرش، خصّ العرش بالاستواء لحكمةٍ يعلمُها، وليس العرشُ يحمل رب العالمين حاشا، فالله أكبرُ وأعظم من أنْ يحمله مخلوق، بلِ الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يحمل العرش وحمَلَة العرش بقدرته وسلطانه، غنيٌّ عن العرش وعن جميع مخلوقات؛ هذا معنى العلو، هذا معنى ( في السماء (، ( أأمنتم من في السماء ( : من في العلو على حدِّ قوله ـ تعالى ـ : ( فسيروا في الأرض ( سيروا في الأرض، ما معنى سيروا في
الأرض ؟ يعني : في جوف الأرض ؟ لا، على وجهِ الأرض، بأن تفسِّر ( في )
بـ( على )؛ وليس ذلك تأويلاً لأن حروف الجَرِّ تتناوَب؛ هذه قاعدة، ليس هناك تأويل، لأن هناك من يجلس لكم بالمِرْصاد فيقول لكم : أنتم أحيانًا تؤوِّلون وأحيانًا تقولون لا، ويزعمون أنّ قولنا : ( أأمنتم من في السماء ( : مَن على السماء أنه تأويل، لا، ليس بتأويل، هذا تفسير، تأويلٌ بمعنى التفسير والبيان، ليس هذا هو التأويل المذموم، التأويل المذموم : التحريف .
((هل نُثبت لله ـ تعالى ـ جهةً ؟ قلنا له : لفظ الجهة لَمْ يَرِد في الكتاب والسنة إثباتًا ولا نفيًا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أنّ الله ـ تعالى ـ في السماء)) وأنه فوق العرش، ثبت ذلك : ((إن الله كتب كتابًا وهو عنده فوق العرش)) ـ في حديث صحيح ـ؛ الفوقية ثبتتْ ( في السماء ) ثابتة وما في معناه .
((وأما معناه)) معنى الجهة .(6/89)
((فإما أن يُراد به جهة سُفْل، أو جهة تحيط بالله ـ تعالى ـ)) هي في العلو ولكن تحيط بالله ((أو جهة علوٍّ لا تُحيط به)) ثلاث احتمالات . من قال : نُثبت لله جهة هل يريد جهة السُّفل ؟ باطل لأنه يتنافى مع العلو، علوُّ الله ـ تعالى ـ صفةٌ ذاتيّة؛ أراد به جهةَ علوٍّ لكن تُحيط بالله ؟ لا، باطل ـ أيضًا ـ؛ أراد بذلك جهة علوٍّ لا تحيط به هذا المعنى صحيح، ولكن يُخطّأ من يستعمل لفظة ( الجهة ) ولو أراد معنىً صحيحًا ـ وهو المعنى الثالث ـ لعدم الوُرود؛ نقول له : المعنى صحيح، ولكن لا تستخدم ولا تستعمل، اكتف بما ورد لعدم الوُرود؛ طالما اللفظة تحمل معانٍ باطلة ومعانٍ صحيحة لا تستعمل ولا تستخدم اكتف بالوارد .
((فالأول : باطل)) جهةُ سُفل .(6/90)
((لمنافاته لعلو الله ـ تعالى ـ الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع)) . يقول الله ـ حفظه الله وزادنا وإليه من العلم ـ صفة العلو ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالعقل وبالفطرة وبالإجماع أيُّ إجماع ؟ إجماع السلف، إذا قلنا : الإجماع هو : إجماع سلفِ هذه الأمة : إجماع الصحابة والتابعين، ولا يُلتفت إلى مخالفة أهل الكلام، فأهل الكلام ليسوا من أهلِ علم؛ قال بعضهم : لو وقف إنسانٌ وقفًا على أهل العلم لا يستحق من ذلك الوقف أهلُ الكلام لأنهم ليسوا أهلَ علم ولكنهم أهلُ كلام؛ الكلام شيءٌ والعلم شيءٌ آخر؛ لذلك لا يؤثِّروا في الإجماع، الإجماع : إجماعُ الصحابة والتابعين بما فيهم الأئمة الأربعة؛ وللأسف إن كثيرًا من أتباع الأئمة الأربعة ـ وخصوصًا الأئمة الثالثة ـ خالفوا الأئمة مخالَفة صريحة في هذا الباب مع تعصُّبهم الشديد لهم في الفُروع؛ يعرف ذلك من درَس عقائد الأئمة ومذاهب الأئمة؛ في هذا الباب ليس هنا مذاهب، الأئمة والأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين على منهجٍ واحد، منهج الصحابة، وإذا أتى المتخلِّفون المتعصِّبون للآراء الفقهية لهم أو على حسابهم وإن لم تكن أقوالهم ثم خالفوهم في العقيدة هذا تناقضٌ بيِّن، وهذا هو واقعٍ كثيرٍ من المنتسبين للأئمة، للأئمة الثلاثة أكثر، وبعض المنتسبين للإمام أحمد وإن كانوا أقلّ بالنسبة لغيرهم .
احفظوا أدلّة العلو؛ أدلة العلو كَمْ ؟ الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة؛ هذه أدلة صفة العلو .
صفة العلو غير صفة الاستواء، صفة العلو صفةُ ذات، وصفة الاستواء الاستواء علوٌّ خاصٌّ للعرش، صفةُ فعل؛ فلنفرِّق بينهما .
((والثاني باطل أيضًا)) الاحتمال الثاني، ما هو ؟ العلو مع الإحاطة .(6/91)
((لأن الله ـ تعالى ـ أعظم من أن يحيط به شيءٌ من مخلوقاته)) . كيف يحيط به شيءٌ من مخلوقاته إذا كان الكرسي ـ موضع القدمين ـ ( وسِعَ كرسيه السموات والأرض (، الكرسي، والعرش لا يقدِّر قدْره؛ فالله أكبرُ وأعظم، لا يحيط به شيء
ـ سبحانه ـ .
((والثالث : حقٌّ)) من حيثُ المعنى الاحتمال الثالث حق .
((لأن الله ـ تعالى ـ العليّ فوق خلقه ولا يحيط به شيءٌ من مخلوقاته)) لكن كما قلنا : لِمَن استخدم نقول له : لا تستخدم إلا ما ورد وإن كان المعنى صحيحًا .
(19) قال المؤلّف ـ رحمنا الله وإياه ـ : ((ودليل هذه القاعدة : السمع والعقل)) . المراد بالقاعدة : القاعدة الأولى في قواعد أدلة الأسماء والصفات المشار إليها، الأدلة التي تَثْبُت بها أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته هي كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ فلا تَثْبُت أسماء الله وصفاته بغيرهما؛ هذه هي القاعدة .
دليل هذه القاعدة : السمع والعقل . ما المُراد بالسمع ؟ المراد بالسمع : الأدلة النقلية أو الأدلة الخبرية .
((فأما السمع فمنه قولُه ـ تعالى ـ : ( وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتّقوا لعلكم تُرحمون ()) . أمر الله ـ تعالى ـ باتّباع كتابه بعد أن وصفه بأنه مبارك؛
( واتّقوا لعلكم تُرحمون ( من التقوى : امتثال ما جاء في الكتاب، وذلك سببٌ للرحمة.
((وقوله : ( فآمِنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه ()) هذا محل الشاهد ( لعلكم تهتدون ( . الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر في الآية الأولى باتّباع كتابه، وفي الآية الثانية باتّباع نبيّه (؛ وهذا الاتّباع يشمل اتّباع الكتاب بإثبات ما أثبت الكتاب من الصفات ونفي ما نفى الكتاب من صفات النقص، وإثبات ما أثبتت السنة ونفي ما نفت السنة؛ وهذا الاتباع عام في باب الأسماء والصفات وفي الأحكام والعبادات وغير ذلك .(6/92)
((وقوله : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ()) . ومن العبث أن يقال : يؤخذ ما جاء به النبي ( بالنسبة للمسائل الفرعية الفقهية وأما بالنسبة للأسماء والصفات لا تؤخذ الأدلة الحديثية ـ أو الأدلة اللفظية ـ لأنها ظنيّة، وهذا تحكُّمٌ وقولٌ على الله بغير علم وخروج على مضمون مثل هذه الآية .
((وقوله : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ()) . ( من يطع الرسول ( بتصديق خبره واتّباع أمره والاجتناب عمّا نهى عنه وإثبات ما أثبت لله ـ سبحانه وتعالى ـ ونفيِ ما نفى عن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأنه رسوله الأمين . ( فما أرسلناك عليهم حفيظًا ( مَن أطاع فلنفسه ومن عصى فعلى نفسه .
((وقوله : ( فإن تنازعتم في شيء ()) . ( في شيء ( من الأشياء في باب الأصول والفروع ( فردُّوه إلى الله والرسول ( عطف الرسول على الله : ( فردّوه إلى الله والرسول ( إشارةً إلى أنّ لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ الطاعة المطلَقة، ليست طاعة مقيَّدة بما جاء في الكتاب بحيث لو جاءت صفاتٌ غيرُ ثابتة في الكتاب بأننا لا نثبتها كما يزعم بعضُ أهل الكلام، هذه الآية تردُّ عليهم . ( فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول ( إذا تنازع أهل السنة المُثْبِتة والأشاعرة المؤوِّلة في صفة الغضب ـ مثلاً ـ وفي صفة الفرح والرحمة فليُرَدّ إلى كتاب الله وإلى ما جاء به رسول الله ( إن كان القومُ يؤمنون بالله واليوم الآخر ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً ( .
((وقوله : ( وأَنِ احْكُم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهوائهم ( )) . وكلُّ ما خالف الكتاب والسنة فهو هوىً وإن قعّدوا قواعد وأصّلوا أصولاً سمّوها قواعد وأصول فهي اتّباعُ الهوى . الأمر أمران : إما اتّباع الوحي، أو اتّباع الهوى؛ ولا ثالث .
((إلى غير ذلك من النصوص الدّالّة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة.(6/93)
وكلُّ نصٍّ يدلُّ على وُجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دالٌّ على وجوب الإيمان بما جاء في السنة)) ذلك : ((لأنّ ممّا جاء في القرآن : الأمر باتّباع النبي ( والردّ إليه عند التنازُع)) كما تقدّم .
((والردُّ إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنّته بعد وفاته)) بعد التأكُّد من صحّة السنة .
((فأين الإيمان بالقرآن لِمَنِ استكبر عن اتّباع الرسول ( المأمور به في القرآن ؟)) . من استكبر فردّ السنة بدعوى أنها ربما رُوَيَتْ بالمعنى، أو رواية قومٍ كُفّار ـ كما قالت الروافض ـ واستكبروا فردُّوا الأحاديث كلها إلا ما جاء من طريق آل البيت بدعوى بأن الصحابة كلهم كفروا ـ عياذًا بالله ـ؛ أين الإيمان بالله من أمثال هؤلاء؛ أين الإيمان بالله وبرسوله لمن يقول : ((لو جاءني ألف دليل مخالِفًا لمذهبي لرددّتها))، ليس دليلاً واحدًا ألفُ دليل؛ هذا متّبِعٌ للهوى، ولا يصحُّ إيمانه برسول الله ( لأنه لم يصدِّقه فيما جاء به .
((وأين الإيمان بالقرآن لِمَن لَمْ يَرُدَّ النِّزاع إلى النبي ( وقد أمر الله به في
القرآن ؟)) عند التنازع سواءً كانت المسألة فرعية أو أصلية يجب الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وذلك شرطُ الإيمان، ومن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن .
((وأين الإيمان بالرسول ( الذي أمر به القرآن لِمَنْ لَمْ يقبل ما جاء في سنّته ؟)) ورَدَّ ذلك وقال نكتفي بالقرآن، ما جاء في كتاب الله قبلناه وما جاء في السنة رددناه؛ بدعوى إنه قرآني : مِنَ الذين يؤمِنون بالقرآن فقط؛ هؤلاء يكفُرون بالقرآن من حيث لا يشعرون، من كفَر بالسنة فقد كفَر بالقرآن، لأن القرآن هو الذي أمر باتّباع السنة، ولأن القرآن أَجْمَلَ كثيرًا من الأحكام وفصّلت السنة، ولأن بعض صفات الله
ـ تعالى ـ جاءتْ في السنة وليس في القرآن؛ التفريق بين الكتاب والسنة ودعوى الإيمان بالقرآن وردّ السنة عبث، بل كفرٌ بهما معًا .(6/94)
قال الشيخ ـ رحمنا الله وإياه ـ : ((ولقد قال الله ـ تعالى ـ : ( ونزّلنا عليك الكتاب تِبْيانًا لكلِّ شيء ( . ومن المعلوم)) لدى طُلاّب العلم : ((أنّ كثيرًا من أمور الشريعة العلمية)) بما في ذلك الأسماء والصفات، هذه تسمّى العلمية، ((والعمليّة)) الأحكام ((جاء بيناها بالسنة)) كثيرًا منها جاء البيان بالسنة ((فيكون بيانها بالسنة من تِبْيَان القرآن)) قال الله ـ تعالى ـ : ( أقيموا الصلاة (، كيف تُقيم الصلاة بالكتاب فقط إذا كفرت بالسنة ؟، كيف تتطهّر، وهذه التفاصيل من أفعال الصلاة من التكبير إلى التسليم من أين لك؛ إذا تركت السنة معنى ذلك تترك الصلاة، بأيِّ أيةٍ تصلِّي في القرآن ؟ بهذه المجملة : ( أقيموا الصلاة (؛ ( وآتوا الزكاة ( أيضًا : من أين، هذه المؤتمَر العظيم الحج تفاصيل أعمال الحج أليست من السنة ؟؛ أكثر أعمالنا بالسنة، والقرآن وضع الخطوط العريضة وبيّنت السنة؛ المرجع إلى الله لأن السنة مِن عند الله ليست من عند رسول الله (، السنة النبوية إنما الألفاظ فقط من عند رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكنّ المعاني من عند الله هو الذي أوحى إليه، لأنه لا ينطق عن الهوى ( إن هو إلا وحيٌ يوحى (؛ السنة من عند الله معنىً لا لفظًا، ((إنما الأعمال بالنيّات)) أوحى الله إلى نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ورسوله الأمين وبيّن إن الأعمال لا تُقبل إلا بالنية؛ هذا المعنى عبّر عنه النبي ( بقوله : ((إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى)) بعد أن أوحى الله إليه لا مِنْ عند نفسه .(6/95)
وأما الحديث القدسي فمن عند الله لفظًا ومعنىً؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي يقول : ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظالَموا)) مثلُ هذا الحديث يقال له : ( حديثٌ ربّاني )، ويقال له : ( حديثٌ قدسي )، لذلك عندما يُخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول : ((قال الله)) يحكي عن الله؛ هذا من عند الله لفظًا ومعنىً؛ هذا الفرق بين الحديث النبوي وبين الحديث القدسي، أي : الحديث النبوي من عند الله من حيث المعنى والألفاظ هذه العربية التي نقرأها من عند رسول الله، والحديث القدسي من عند الله لفظًا ومعنى .(6/96)
بقيَ أن يعرف طالب العلم الفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن ـ تكلّمنا غيرَ مرّة على هذه المسألة لا بأس من تكرارها والمكرَّر أحلى ـ ذلك : أن الحديث القدسي والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب المنزَّلة كلها من كلام الله، الحديث القدسي من كلام الله ولكنّ الفرق بين الأحاديث القدسية وبين القرآن الكريم إن القرآن متعبَّدٌ بتلاوته بكلِّ حرفٍ عشْرُ حسنات ((لا أقول ( الم ( حرف بل ( ألف ) حرف، و ( لام ) حرف، و ( ميم ) حرف))، ولكنّ الأحاديث القدسية لا يُتَعبَّد بتلاوتها، لو تلوتها كما تتلوا القرآن لا تُثاب على تلاوتها، إنما الواجب العمل بها كالأحاديث النبوية، وليس متحَدَّا بها، وليستْ معجزة، يجوز روايتها بالمعنى والقرآن لا يجوز روايته بالمعنى، القرآن لا تصح الصلاة إلا به، والأحاديث القدسية لو قرأت بدل الفاتحة حديثًا من الأحاديث القدسية ما صحّت صلاتك . هذه بعضُ الفروق التي ذكرها أهلُ العلم بعد أن أثبتوا بأن الأحاديث القدسية من عند الله لفظًا ومعنى خلاف ما هو مقرَّرٌ في بعض الكتب في بعض المدارس والمعاهد التي أَلّفها إما من لديه نزعة أشعرية أو لُبِّس عليه ولم ينتبه لأن المسألة فيها دس أشعري، لأن الأشعرية تحاول أن تنفيَ عن الله ـ تعالى ـ الكلام اللفظي، لذلك زعموا بأن الأحاديث القدسية ليست من عند الله بألفاظها؛ إذا كان قد وافقوا المعتزلة في القول بأن القرآن مخلوق هذه الألفاظ القرآنية مخلوقة لا يُستغرب على الأشاعرة أن يقولوا في الأحاديث القدسية بأنها ليست من عند الله لفظًا بل هي كالأحاديث النبوية من حيث المعنى فقط، وهم يُطالَبون بالفروق فأين لهم
الفرق ؟ إذًا : ما الفرق بين الأحاديث النبوية والأحاديث القدسية : إذا كانت الأحاديث القدسية ألفاظها ليست من عند الله بل من عند رسول الله ( ما الفرق بين الحديثين ؟ يجيب على هذا الحديث أشعريٌّ إن شاء ولا جواب له .(6/97)
وبعد : هكذا يُثبت الشيخ ـ حفظه الله ـ بهذه الأدلة بأن ما جاء في الكتاب والسنة من الصفات يجب إثباتها وذلك من الإيمان بالكتاب ومن الإيمان بسنة رسول الله ( بل من الإيمان بالله ومن الإيمان برسول الله .
((وأما العقل فنقول)) وأما الدليل العقلي على وُجوب ما جاء في الكتاب والسنة
ـ انتبهوا ـ إذًا : العقل نفسه يدلُّ على وُجوب اتّباع الكتاب والسنة والعمل بهما؛ وجهُ ذلك : ((إنّ تفصيل القول فيما يجب)) لله ((أو يمتنع)) على الله ((أو يجوزُ في حقِّ الله ـ تعالى ـ من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل)) إذًا : ((فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة)) . ( الفاء ) في قوله : ((فوجب)) : ( فاء الفصيحة ) أي: إذا كان الأمر كذلك، إذا كان ما يجب لله وما يمتنع في حق الله وما يجوز في حق الله من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل إذًا : وجب الرجوع في تلك الأمور إلى ما جاء في الكتاب والسنة لأن الكتاب والسنة وحيٌ من الله كلاهما وحيٌ من الله، وحيٌّ يُتلى ويُتعبّد بتلاوته : القرآن، وحيٌ يُتَّبَع يؤمَن به ويُتَّبع ويُصَدَّق ولا يُتَعبّد بتلاوته : السنة .(6/98)