مأمون ضويحي
الضفاف الأخرى
*شعر*
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1998
تصميم الغلاف للفنان :
تقديم
... أيقظتني،
... ... القصيدة الشماءُ،
... والصباحُ،
... ... المورد الوضاءُ
... وارتمت غَضَّةً،
... ... على كلماتي ...
... فاستحقت أسماءها،
... ... الأشياءُ
(((
قمر غارقٌ في الرقاد
... عابرٌ، في قطار الندى،
... ... مزْقةً في الضبابِ،
... ... وحلَّ الصباح ينادي:
أين أنتَ؟
انتبهتُ، إذ الشامُ في ثوبها الأبيضَ يحلو،
طَعْمَ الهوى،
... ... وزمانَ الودادِ
ورأيتُ على القربِ لون الضياءِ،
... ... وتوقاً بلونِ الشفاهِ،
... ... وآنستُ وقتاً لبوحِ العيونِ،
... ... وهمس الأياديْ.
***
... ها أنا بعد عشرين عاماً،
... من الاغترابِ أعودُ لأقرأَ،
... شعراً أمام صبايا بلادي.
... كبرنَ كما يكبر الزيزفونُ،
... ... وصرنَ جميعاً "سعاداً"
... ... ووحدي أَضَعْتُ "سعادي".
***
وجهُهُا بيدرُ القمحِ،
... ... تنهضُ أمواج بحرٍ على صدرها،
... ... حين تمشي،
... ... وإن تلتفتْ، يلتفتْ للمدى،
... ... قمر غارقٌ في الرقادِ،
خَدُّها: حين تخفيه خصلاتُ شعر حبيبٍ،
... يداري هبوب النسيمِ العتيقِ،
... بدفء السهادِ
شامةٌ حلوةٌ تحت حاجبها،
... ... شاهدُ الدمعِ،
... ... واقفةٌ في اعتدادِ،
***
والحديث قوافله رحبةٌ،
... ... كل حرفٍ تقول:
... ... هيامٌ، ونايٌ، وحادي
كل حرفٍ يصير انتشاراً،
... ... لرائحة الخبزِ،
... ... نكهةِ هَيْلِ الدلالِ،
... ... وعنف البوادي
كل حرفٍ:
... مرايا لوقع الزمانِ الأليف،
... ... ووجْدِ الرمالِ،
... ... وعشقِ الجوادِ.
***
أمامَ البقايا، التي لم تمُتْ،
... واجهتني بعينين مثل البنفسجِ،
... كانت لها قامةٌ من ضياءٍ،
وقالت: صباحاً سعيداً.
... وقالت: تقدْمتَ في السنِ،
قلت: وأنتِ؟
... فقالتْ: نسيتُ
... ألستُ وعدتُكَ أني سأبقى أحبكَ،
... حتى تحقق عمراً جديداً
ويا آهٍ، كيف نسيتُ المواعيدَ،
... حتى استقّر بها زورق العمرِ،
... طفلة تلك السنين،
... ومرَّ عليَّ وحيداً!
وكانت على النهر والموجِ عرسَ المواويلِ،
... والموجُ كان شديداً
وكان الوصول، إليها، بعيداً
***
أقرأ، اليوم، بعض مكاتيبها، لم يزلنَ معي،(1/1)
... ... تبدأ الكلمات غناءً،
... ... ومن بعد همساً تطيرُ.
"كأنّي، إذا عدتُ أقرؤها الآنَ،
... ... أعدو بحقلٍ من الوردِ،
... ... حولي السنونو،
... ... وفوقي الصباحُ المطيرُ".
***
وما زالت الأرضُ فينا تدورُ
وما زالتِ الأرض تنبت قمحاً،
... ... وأعنابها تتدلى قناديلَ ماسٍ،
... ... وما زال، في الروحِ،
... ... يرحلُ هذا العبيرُ
فكيف تغيبتِ؟ إن الغياب مريرُ
***
ولا زلتُ حين أمرُّ، مساءً، بدربكِ،
... ألمح بيتاً ينادي:
... تعال وزرني،
... فيبطئ خطوي،
... ويبطي المسيرُ.
فقد رَحَلَتْ من زمانٍ بعيدٍ،
... ... كما كان قُدِّرَ لي،
... ... وطوانا المصيرُ
وحسبُكَ أنَّ على البيت أقمارَها واقفاتٌ،
... ... وقد تستنيرُ
فإن هُرِعَ القلب، قبلك، نحو الشبابيكِ،
... فاتركه يستحضر الأمس في البال،
... فالاحتفال انقضى، ثم غابَ الحضورُ .
(((
ذات يوم
وداعاً، وداعاً
كما يهربُ البرقُ بين الغيومِ،
... سيرحل هذا السرورُ،
... الذي غَيَّبَتْهُ تضاريس وجهي،
... وفرحة عينيَّ،
... نحو البعيد: تباعاً
وأسقطُ، في مدنٍ أنهكتني بها معجزاتُ لقانا،
... وعَمَّتْ قراراتها الموغلاتُ،
... بكل سواد اتجاهي،
... فصار مدى الحزنِ: درباً أليفاً،
... وصار: اتساعاً
***
وماتت جميع بقايا الحنانِ القديمِ،
... وأذكر أمي التي في أعالي الصحارى،
... وخبز التنانير،
... والأصدقاء الحميمينَ،
... أذكر واحدةً اسمُها: نجمة الصبحِ،
... أخرى: مدينةُ عشق العصافير،
... ثالثةً: ومضةٌ في شروق الخبايا
وأذكر أمطار أهلي البعيدين جداً،
... كبعد السماءِ عن الأرضِ،
... أذكر نافذةً في حنينِ الخلايا .
شغلتها الشمس ثانيةً والمرايا
كانتِ القصةُ وهماً واندفاعاً
***
هو الموتُ يأتي سريعاً،
... ومن قبلُ تأتي طلائعه،
... في الظلام سراعاً
يغّربني الدرب في وجهةٍ تشتهيها،
... الطيور المحبةُ،
... لما يجيء الربيع المحبُ،
وشاهدتُ بعض العصافير تبكي،
... وكانتْ جياعاً.
(((
الطواف
... وتفتح للريح باباً فلول الظلام المكابرِ،
... ... ثم تُطّوفِ في ليلة الحزنِ،
... ... عريانةً من صهيل الفرحْ.
لعلك قادمةٌ في ذيول الرياح البعيدةِ،(1/2)
... إني لأسمعُ وقع خطاكِ القديمَ الغريبْ
لعلك قادمةٌ في عيون الظلام الجميلة
... زنبقة في هديل البحيراتِ:
... "إن لعينيكِ عندي بلاداً يسورها،
... العنبُ الحلوُ، والخمرة المشرقية،
... إن لعينيك عندي بلاد الرخاءِ،
... الفسيح ولا زلتُ أذكر كيف التقينا":
تورد قلبيَ، على كل نبعٍ،
... وغنى لكل الفراشاتِ،
... والشمس كانت بساطاً من البرتقالِ،
... وكانت تغني لأن يدينا:
تكونان في طلعة القادمين إليها،
... وكانتْ تَحِنُّ إلينا.
***
... لماذا تغير فينا كلام العيونِ،
... ... وكذّبتَ أن البحيرات توحي،
... ... بكل الكلام الجميل،
... ... وأن العصافير توحي بوهج الطفولةِ،
... ... والقَمَر الحلو يوحي بضوءٍ فسيحٍ،
... ... ... لكلِّ الأيادي المحِبة؟
كيف تغير طعم الربيعِ،
... وصارت قصائد كل المحبين شيئاً غبيّا؟
وطَوّفْتُ أبحث عنكِ، ففوجئتُ أنك في كل،
... ... ... شيءٍ لديّا.
وأني الغبي العظيمُ الذي ليس ينسى .
وأني النبي العظيم الذي ليس يذكر شيئاً.
(((
الميناء
... يرحل الحب ويمضي .
داخلاً في حزنه المبعدِ نحو الليلِ،
... والليل: تعرى
كان في حبك شيءٌ،
... كنت أدعوه: عذاباً،
... ثم أدعوه: الندى.
وأسميه: انتهاءَ الزمن الموحشِ،
... والوقتَ الذي ما ابتدا.
والبساتينَ التي تحمل ليموناً،
... يباريها من الشوق: صدى
والعصافير التي تجمع قمح السنوات الهاربة.
وهو قلبي
كلما أوغل في مد المسافات نما واتحدا
قد تكونين مفاتيحي التي تمنحني أمناً، وتعطيني يدا
***
فإذا غرّبتُ روحي في الثواني العابرة .
وزرعتُ الفرح النازفَ في قلبي،
... ... على كل النجوم السائرة
حملتني الدهشة الولهانة الروحِ،
... ... إلى أرضكِ،
... ... والأرض: مدى.
وتلاقينا كما ينفتح الزهر أمام الكلماتْ.
وكما تستلهم الخضرة من كل المحبين خباياها،
... ... فينمو، عندها، السر ويهتز النباتْ
(((
وقفة
... ... ونلتقي
في لحظة محببة.
لا كنتِ يا كرومُ،
... دونما تفاحة المساءْ
ضاحكة الثغرِ، حبيبةِ اللقاءْ.
أنيسةَ الحديثَ،
... ... صافيةِ البكاءْ
وعذبة القدومِ
... ... عذبة الوفاءْ.
(((
ألف عام من الضياء(1/3)
مهداة إلى الصديق الشاعر محمد عبد الحدو(1)
... كوني، على فرحٍ،
... ... ستنتبه النوارس للحديثِ،
وهيئي قمراً لملحمة المغيبِ،
ونجمتين لصدر عاشقةٍ،
... ... وضميني إلى أشيائك الكبرى،
أنا عيناكِ حين تسافر الأنوار نحو قرى الظلامِ،
وما لديَّ من الهوى يكفي لرحلةِ ألف عامْ
(((
بانت "سعاد"
حملت إليَّ طلوعها المجنونَ،
... ... أنغام البلادْ
من قبلُ يبدأ صوتها،
... وتجيء خطوتُها
... كما مطر المحبةِ،
... سوسن الأيامِ،
... جوهرة الجزائر والرحيلِ،
وصخر كل موانئ البحارة العظماءِ،
والسفن التي لم ترمق الماءَ،
... المسور باخضرار الأفقِ،
إلا بالنشيد وبالودادْ.
بانت "سعاد"
وعلى المحطة بين نافذتين قاتلتين،
... عشش فيهما البرد المقيتُ،
... تناثر الشباكُ،
... واحترق المدى الخاوي من اللقيا، على "البوليلِ"(2)
... وأرجأت المرايا عرسهنَ،
... وأرسلت بعض الصبايا
... في بوادي الليل أغنيةً،
... وزيَّنَ النوافذ بالورود الحرة الأولى،
... ومرت، مثلما النارُ،
... العذوبة في الرمادْ.
... بانت "سعادْ"
***
أتوغل في الليل المطري وحيداً
والليل صديقي.
أقضيه نظيفاً دوماً، أحلم فيه،
... يعود أليفاً وبسيطاً مثل الماءِ،
... وأقرأ في صفحات براءته عن
... طفلٍ غادر نحو الغيمِ الوافدِ،
... فانفتحت أبواب الجنة في عينيه،
... ... وعاش سعيداً
أتوغل في الليل المطري وحيداً
أحمل في الليل الكلمات الخضراءَ،
... ... وموالاً للشعر جديداً.
***
لكنّ غبار الحلم توارى هذي الليلةَ،
... والقمر الخائنَ غابْ .
وتمردت الشمس على الضوءِ،
... وما عادت تنفتح للقياك الأبوابْ .
وأنا أصرخ: في الليل المطريِّ انتظري
... ... آتٍ أبداً،
... ... من جرح الموعدِ،
... ... من حزن الأغرابْ .
وستتركني الذاكرة الأولى في شفتيكِ،
... ... صليل اللوعةِ،
... ... واللوعة سيدة الدنيا،
... ... واللوعة سيدة الأحبابْ
(((
يوم تعودين
... بلاد الليالي العزيزهْ:
وأرضَ قرى العشب والذكريات العزيزه.
عبرتُ إليك ظلام السَفَرْ
__________
(1) شاعر فقد البصر في سني حياته الأولى.. لكنه يرى!!
(2) قرية الشاعر.(1/4)
فأهلاً وسهلاً بعينيكِ، بالمطرِ الفستقي اللذيذ،
... وأهلاً بأرض توزع فيها،
... ضياء القَمَرْ.
وتوّجها الفرح العبقري بكل الشموسِ،
... وعرش فيها اشتياق الشَجَرْ
***
تلوعتُ فيكِ، وخفتُ عليكِ،
... وحاربتُ في لحظات المرارة أثقال ليلي،
... وعنفَ تخطيه قلبي،
... وجئتك في خطوات انتظاري أمنحك يوماً،
... وأبكي سنينَ الزمانْ
تعالي، فللشوق بوابةٌ يدخلها الراجعونَ،
... من الصبر والانتظارْ
وتخرج من خوفها الملحمي الحكاياتُ،
... تردم بئر افتراق الحزانى،
... وتخرج أفراحهم من هوى، ملكوت القرار.
***
ويوم تعودينَ،
... ... يرقص في الشجر الجلنارْ .
وتنزل كل نجوم السما العاشقاتُ،
... ... لتكتب شعراً،
... ... وينهمر الليل في الأفق،
... ... يهزج في صفحات السهول: البذارْ .
وأخرج من حمحمات الدوار
وأقرأ فاتحةً للنهارْ
(((
عتاب
إذن! أنتَ لما تَزَلْ موعداً غائماً،
... ... مثل كذب الرياحِ،
... ... التي لا تعين السفائنْ
وأنتَ اختصرتَ الطموحَ الذي حدثتني،
... ... به آفلاتَ الطفولة.
وأنتَ تكورت كالآخرين حطاماً على مقعد،
... ... مهملٍ في حديقة.
وما عدت تذكر نهر الفرات البعيد،
... ... الذي كان دمع عيون الحبيبة!!
فلملم بقاياك عن ذكريات الشجر .
ولملم معاطف أسفارنا في المطر .
وذاك النشيد القديم.
كأنك حين تعود إليَّ بوجهك هذا،
... ... الذي لا أراه،
... ... ندى لم تشأ أيُّ عصفورةٍ،
... ... أن تحط عليه،
... ... ومن أجل هذا.. انتحرْ
(((
هرب المساء
... هرب المساءْ
ما عاد يذكره الحنانُ،
... ... ولا يمر عليه طيف الأصدقاءْ.
متوقدٌ .
صبارةْ منسية في الرمل تدفعها الرياحُ،
... ولا ترى غير السرابِ،
... تحن فيها نقطة الماء الغريبةُ،
... لاقتراب القادمين،
... فلا ترى أحداً سوى الوقت الممضِّ،
... وما يخبئه التراب من الندى،
... بعض الغيوم تهاطلت في الرملِ،
قيل: حبيبتي غفرت لصخر الشاطئ المكحول بالنعمى،
... وما عادت تعاتب وجهه القاسي،
... وقيل: تغربتْ،
قيل: الموانئ عانقتها،
والمسافات التي في الموج آخت بينها،
... ومدائن العشب المقيم،
فسافرت روحي إلى عنوانها المكتوب،(1/5)
... بين نسائم الصيف القريب،
... وبين آخرة الوداعِ،
... وثمة الخلجان تزحف نحوها،
... جذلى فقد بدأت أغانيها،
... إذا تتواكب الكلمات سوف تصير شَعْراً حالماً،
... بضفيرتينِ كما حبال الأنجم الأولى،
... وسوف يمر في ترف العوالم صوتها النادي،
... فتصبح كلها بيضاء غامقة البياض!
(((
.. وفي وجهه سمرة وارتواء
يقولون: في آخر الليل مرَّ وما عادَ،
... لكنه، في صباح بعيدٍ،
... تطاول حتى تبعثرَ،
... في عنفوان السماءْ.
وأشرق، في الغيم، جنة عدنٍ ملونةً،
... بالمسا الغابر الليلكي،
... وبعض الدماءْ.
ويحكون: أن لياليه كانتْ، بحقٍ،
... محملة بالهدايا العظيمةِ،
كانتْ له حصة في الهطول الشجاعِ،
... وكان له للبراري انتماءْ.
***
وكان صديق "السليكِ"،
... وكان شقيقاً "لعروةَ"
... كان المدافع في الحرب،
... عن حرمات النساءْ .
وكان يصاحب في الفجر "قَطْرِّيَ"
... يسمر في الليل في بيتِ "خازمٍ السلميِّ"
ولم يك بالشعر يكسب كالدارميِّ .
ولم يك بالشعر يعلن كالدارميِّ .
وكان شبيه "ابن مَكْدَمَ"،
... في وجهه سمرة وارتواءْ.
***
وكان يحب ويعشق مثل الجميعِ،
... يغني إذا ما أطل عليه المساءْ.
وكان محباً جميلاً،
... مليئاً بكل شذى الكبرياءْ.
يطالع في كل يوم كتاباً،
... عن الحب، والحرب، والأصدقاءْ.
وكان يفر من الليل نحو نجومٍ،
... تسافر عبر نشيد الفضاءْ.
ولم تبق في قلبه غير تلويحة للندى،
... فاستقر على وردة من ضياءْ
***
تأبط في آخر الليل شراً،
... وقال: هو الخيرُ،
... ثم اختفى في الطريقْ.
وآخرُ ما يذكر العشب عنه جنون خطاهُ،
... ويذكر في مقلتيه انشطار الحريقْ.
وأول ما يذكر الورد عنه،
... اندفاع الخصوبةِ
... عبر الرحيق..
وآخر ما يذكر الضوء عنه تخطي ألوف الشموس،
... حدود البريقْ
وآخر ما يذكر الصيف منه نداء عظيماً،
... بأن جميع الخفايا ستظهرُ،
... حين ابتداء الشروق.
وأن الحقيقة تكمن في سيف "عروة" تكوي العدو،
... وتفرح قلب الصديقْ.
***
ويحكون:
... جن خلال الصباحْ.
ومزق كل القصائدْ.
ومزق كل الجرائدْ.(1/6)
وأحضر بعض الحديد، وراح يصب رماحاً،
... ويصنع سيفاً،
... ودرعاً،
... ومزودة للرحيلْ.
وكسر أقلامه، ورمى في الهواءِ،
... رسائله الرائعة
ولم تعد الطير،
... تلمح في وجهه،
... بسمةً وادعة.
***
سوى أن سوسنةً،
... أخبرتنا بأن على خده،
... خوخةً يانعهْ.
إن له نقمة حدها مركز الأرض،
... حتى السما السابعهْ.
وأن له الآن في بعض هذا،
... الجنون العظيمِ،
... حكايا وثرثرة لاذعة.
وأن الفصول تخبئ في ثوب حلمها،
... حيث ينمو معه
ففي قلبه يجمع أغاني،
... الفصول طريحةٌ،
... وفي عينه للبذار سعه.
***
يقولون:
مر كما الحلم ثم أختفي في جنون المسافة.
ودافع عن أرضنا في زمان الغزاة.
وعمر قاربنا عند شاطي النجاة.
وظل على دربنا بعض هذا الفضاءْ.
وكان شبيه "ابن مكدم".
... في وجهه سمرة وارتواءْ.
(((
نجم المزَارع
... إنها: لحظة من كآبة.
حينما خبأت وجهها غيمة النهرِ،
... ثم مضت تستغيث الكتابة؟!
أين أنت؟!
أنا في المحيط البعيد، أعاني من الملحِ،
... والقمر السارحِ الليل،
... في فلوات الرتابه.
"لماذا مضت تستغيث الكتابة؟
لأني وعدتُ الحبيبة بالعود، والناي،
... والكلمات السعيدةِ،
... والنغماتِ النجيبةِ،
... ثم هوت من خيالي
... وروحي النجابة..".
هامساً يستغيث الندى،
... أزهرت في حضور الندى ألف غابه.
كنت أدري بأن لقائي الأخير.
... سيبقى عذابي الأخيرَ،
... وهوجم قلبي،
... ولكنني لم أشأ أن أريه عذابه.
أين أنت؟!
أنا في انطلاق الضفاف البعيدة: نجم المزارعِ،
... والأغنيات وكل الغرابة.
أنا من يقرأ الحب بين عيون الصبايا،
... فيصبح شعراً وبوحَ ربابه.
أن من يعرف السر خلف العيونِ، وبين الضفائرِ،
... عند الحياءِ،
... وعند المهابة.
***
... ضائعٌ.
قلت: من يأخذ الآن روحي،
... إلى أقرب الحافلاتِ،
... فكل المحطاتِ سارت إلى الليلِ،
... والليل يطوي سرابه.
جاءت الوشوشات على دلِّ جنية البحر،
... ملفوفة في سحابهْ:
أين أنت؟
أنا في المحيط البعيد، أعاني من الملح والماءِ،
... والقمر السارح الليلَ،
... في فلوات الرتابة.
***
حينما غابت العاشقات الصغيراتُ،(1/7)
... مات القرنفلُ،
... قال: استتبت عن الضوعِ،
... من قال: مات القرنفل لما استتابه؟
إن يمتْ.
بئس ماقدمت هذه الكلمات لوجه الحبيبة،
... من أقحوان الصباحِ،
... ورشة عطر على:
... نعميات الذؤابهْ.
***
واقف استغيثُ،
... ومر القطارُ،
... ومر الغبارُ،
... ومر الجميعُ،
... الجميعُ : تشابَهْ .
أول الصيفِ رمانة أطلقت نورها،
... في الفضاء البعيد،
... فأنهى عذابه.
واقفٌ
إنها الآن عابرة في السفينة تمضي
... ومجدافها من ضلوعي،
... ويعلن نهر الحضور:
... غيابه.
(((
الغريب
ها إني أصطحب الآن حبيبة عمري،
... نحو البحرِ،
... ونحو ملاحات الشمس العشبيّةُ.
"كان زماناً".
كانت عيناك مدائن عشقٍ تفتح أبواباً من خدرٍ،
... للملاحينَ، كانت شفتاكِ،
... تذيبان ملوحة هذا البحر الهائِج،
... صرت بلاداً من قصب السكرِ،
... أفراحاً تكتسح النار الغيبية.
وأراقصها تحرج من دائرة الألم الهادئ،
... والريح الباردة الشتوية.
***
... "ماغاب زمانك عن بالي.."
... والبحر كبيرٌ،
... متسع الأبعادِ،
... وقلبي تأسرهُ أشرعة الصحراءِ،
... وكنت غريباً.
سارت بي في الماء ظنوني.
فانفجرت في الماءِ بقاياي الصيفية.
***
ها إني أصطحب الآن حبيبة عمري،
... نحو البحرِ،
... البحر سرير وردي،
... لونه الليلُ،
... ولونه الصبح الفتانُ،
... بألوان الصيف القمحية
ها إنا نتسامر قدام البحرِ،
... ونضحك في لحظةِ عشقٍ غجرية.
(((
يأس
أسافر عاثراً ،
... في ليلة هلكت بها الركبانْ.
أضم حبيبتي في برديَ،
... المنسوج من ألم الشتاءِ،
... ومن ظلال النخل والرمان.
وأغرق في متاهات المجادلة العقيمة،
... بين وعد المستحيل المر،
... والإمكانْ.
فلا فوارة البال المجنح إذ تساعدني،
... تقود خطاي نحو الضوءِ،
... أو شعري يساعدني،
... على النسيانْ.
فليت هواكِ حين تماسكت أعضاؤه يوماً،
تهدم فيه أوله.
ولم يكمل له بنيان.
(((
بطاقة
وداعاً لكل الحبيباتِ،
... ماظل في القلب،
... غير الحطامْ.
وداعاً لنهر الفرات البعيد الذي،
... يستحم على صدر نيسانَ،
... أقري الفراتَ السلامْ.
لماذا رحلتَ؟!
أتعرف درباً إلى الديرِ،(1/8)
... مابين عين تكابر عن دربها،
... والقطار؟
وسوف تؤوب من الشرق شمس غداً،
... دوننا،
... ثم كالياسمين يحط النهارْ.
(((
دموع
متناغم اللحظاتِ،
وجهكِ لحظتان تهاجرانِ،
ولحظتانِ تقاتلان الصمت،
والبرد الذي في القلبِ،
والزمنُ استمر.
ووحدنا هجرت قواربنا الأغاني؛
البيضُ ، أصبحنا،
التلاويح الرشيقةَ،
والمدى المنسي،
والزمن الذي ماعاد يرجعُ؛
وحدنا صرنا،
أمام الموج نستجدي حروف الموجِ
والموج المقدس يستحم،
على دموع حرير عينيها.
(((
الخريف
غيم وعصفوران، يوشك أن يجيءَ،
... إلى ندى القلب الخريف.
غيم رمادي، وقد حل المساء وجاء قارب صوتكِ،
... الفتانُ منفلتاً من الواحاتِ،
... والشجر الأليفِ.
صوت تطارده سنونوة،
... وظل بجانحيها الشوق منهمراً،
... وغطاني الحفيف.
ها أنت قادمة من الصيف البعيد،
... وعدت حاملة حلاوات البحارِ،
... ودفق أشواق المصيف.
غيم وعصفوران.. قد عاد الخريف
(((
زمن الحب
متناغم اللحظاتِ وجهكِ،
لا يزال كما عهدتُ،
مدوراً غضاً،
به طعم الحليبِ،
ونكهة الأمطارِ،
يا ألمي الموزع في ثنايا الليلِ،
ياسفني التي غربت مرافئها،
ويامحبوبتي العسلية العينينِ،
يا أم الضفائرِ،
يامعذبتي إذا طلع النهار على القرنفلِ،
يا انهمار الطل حين تعانق الأشجار،
نافذتين للفرح المقيمِ،
ويادمي الماشي على زرع الذين
أحبهم، عودي.
***
وياوجهاً يفتح في صفاء البوحِ،
قد حلمت به عينايَ،
فانفلت الكلام من الحنينِ،
إلى الحنينِ،
وحوّمت في حقله الناياتُ،
فامتدت رؤىً خضراء لاهثةً،
وحباً ساكناً في صدر من أهوى،
يناديني،
وصار الغيمُ أول مركب لرحيلنا،
فاحتجت الشمس التي تتناوب الألوانُ صورتَها،
ومرت في عذوبة أول النسيانْ.
ولاح مزغرداً في الأفق:
أول عالم العمرانْ...
***
يعود الشط ثانيةً،
إلى حيث العذوبة تستفيقُ،
واضرمت روحي خباياها.
فظلّ الليل فواراً،
وهاجرت الكواكب من مكامنها،
وحيثُ تشاهد الأشياءُ،
... كنتِ أميرةً في حضنِ،
... هذي الظلمة الغبراءِ،(1/9)
... صرت الديكَ والفرح المخبأ،
... في سلال الأصدقاء الأوفياءِ،
... وصرت عصفوراً خريفياً،
... أحب فما أطاق العيشَ،
... قرب مواسم الهجرانِ،
... صرت الشعر
... والنغماتِ،
... وانحدرت ربيعاً أذرع الأشجارِ،
قلت: أحبها،
... واستنفرت خيل الرجال عليَّ:
... -"لازمنٌ تحب به"..
... وجابههم دمي فامتدت الصحراء،
... داميةً،
... ولكنا التقينا.
(((
ها إننا جالسان
تناهى نداؤك في القلب،
... منزل عشبٍ،
... وبركةَ ماءْ.
تناهى نداؤكِ.
في لحظةٍ تولد اللهفة الناعمة.
وتستيقظ الوردة النائمة.
وبيني وبينك بحر العذابِ،
... وبيني وبينك دربٌ،
... وأسلاكه الشائكةْ.
لعلك في رفة الجفنِ تأتينَ،
... في رحلة ضاحكةْ..
***
وها إننا جالسانْ.
ووجهاً لوجه نعاتبُ بعضاً،
... ونغرق في لفحات الحنانْ.
كأن الملامة صارت بساطاً،
... من العشب فيه استراح النهارُ،
... ولمَّ عليه الهوىعاشقانْ.
ووزعت الطيرُ فيه العقاب القديمَ، المهاجرَ،
... من بعد فار المكانْ.
ومرت قرى الشمس فوقي وفوقكِ،
... ثم حكينا،
وأشرقت الشمس منذ سنين علينا.
وها إننا جالسانْ.
***
وبالأمسِ قاتلني النومُ،
... حتى هزمتُ وحتى دخلت
... حدود البكاءْ،
أتدرين من أين تأتي الدموعَ؟
... وكيف تصير الملامةُ،
... عينيِّ ماء؟!
وورداً جميلاً، وتفاحتين. بحجم السماءْ؟!
(((
حبك كان الأخير
وباسمك أرحل عما قريبٍ،
... إلى المدن الهادئة.
وأحمل عينيك زوادة من حنان أثيرْ.
وأرسم كل تقاطيع وجهكِ،
... في القلبِ قبل المسيرْ.
وأزرع كل الكلام الذي بيننا،
... في الدماءِ،
... وأزرع كل اللقاءات مابيننا،
... في عظام الدهورْ.
وأقرأ كل القصائد في حضرة الأصدقاءِ،
... وفي لحظة لاتصير
سأصرخ: إني عشقتكِ،
... ليس هناك بديل
... فحبك كان الأخيرْ..
***
... غداً في الرحيل الطويلْ.
ستضحك عينايَ، لكن قلبي يبكي،
... ولكنّ قلبي قتيلْ.
ولم تستطع كذبة الوجد،
... أن تمسح الحزن عنه،
... وتمحو الذبولْ.
(((
صخب
آهِ من وجهكِ، كم صار بعيداً،
... وضبابياً، وكم صار حزينا،
دَفَنَتْ روحي،
... به آلامها الأولى سنينا.(1/10)
واستراحت فيه عيناي من التهويم،
... في كل الفراغاتِ،
... وغطاني حنينا.
آه من وجهكِ، في النوم، إذا،
... جاء ضنينا
***
وهاهو غاب الخريفُ،
... وهاهو جاء الشتاء.
أرى الآن بعض البقايا:
... عيونَ الأحبة والأصدقاءْ.
تجيء من البدء والانتهاءْ.
وتغرق في مدن العتمة اللؤلؤية،
... قبل حلول الضياءْ.
وحين تغيبين مثل الفراشاتِ،
... بين الشوارع والعرباتِ،
... وفي لحظةِ الكبرياء:
تهاجر كل العصافير، والغيم يستبدل الماء بالقحطِ،
... ثم يجيء زمان البكاءْ.
(((
تحية
وتحملكُ الحرب نحو اليقين،
... وتحملك الحرب في لحظة واحدة،
وتصبح سيد هذي الجبال،
... وسيد هذي القوى الخالدة.
وتخرج من كل فجٍ إلى ساحة الرمح والسيفِ،
... والوثبة الماردة.
تخبئ في ثوبها الحرب للقادمين إليها،
... فخاراً وعزّاً.
"ومن ظن ممن يلاقي الحروبَ،
... بأن لا يصاب فقد ظن عجزاً".
***
وأنت، يقولون، حاربتَ في ليلة باردة،
وأنت تحممت بالغيم قبل حلول الشتاءِ،
... وألبسك الغيمُ من روحه حلةً ماجدة.
وكنت العظيم،
... الذي سار نحو الترابِ،
... فخاراً وعزاً.
وغنيت:
"نلبس للحرب أثوابها،
... ونلبس في الأمنِ خزاً وقزاً.
***
مضى قبل بدء الصباحِ،
... قبل الضياء ارتحلْ
وخلّفَ في أول الدرب بيتاً من الشِعْر،
... ثم انتقلْ.
ومرت على ظلمة الليل أهدابه فاكتحل.
ففي قلبه للبكور المحارب بعض القصيد،
... وفي صدره للقتال: قُبَلْ
وقال: إليها،
"فقد تدرك الحادثات الجبانَ
... ويسلم فيها الشجاع البَطَلْ".
وكان شجاعاً وتنقصه الحربُ،
... لما ابتدا غيمها،
... شد رحلاً إليها، وفيها اكتملْ.
(((
الحلم الإنسي
مطرٌ ينقر شباكي
... الأشياءُ تغيبُ،
... الغيمُ يلف سماءً حالكةً،
... وتجهم وجه الليلِ،
... رأيت الذات المنسيةُ،
... ترحل في العمر المنسيِّ،’
كنتُ أحاول أن أستقريء اسرار الغيث الأولِ،
... رائحة الأرضِ،
... وعبث الأطفال،
... وأنصت وحدي لخبايا الموال المطريِّ.
***
لاحظتُ بأن جميع الألوان انسابت في عينيَّ،
... دموعاً دافئةً،
... غامت رؤيايَ،
... وهاجر في قلبي عصفورٌ،(1/11)
... يبحث عن ناي غجريِّ،
لما طلعت شمس اليوم التالي،
... كنتُ أحاولُ أن أستذكر،
... حلم الأمسِ،
... ولكن الحلم بعيدٌ،
... شأنَ الأحبابِ،
... وشأن حلاوات النوم الورديِّ.
***
كيف أغني باسمكِ حين يجيء الليل الآخرُ،
... حلقي مزروع بالتين الشوكيِّ؟!
حين رحلتُ ابتعد البحر بزورقكِ الأبيضِ،
... مالوحتِ، ولا قلت: وداعاً،
... ياللوحشة من هذا السفر الوحشيِّ؟!
مطر ينقر شباكي، أين تكونين الليلةَ؟
... في أي بلادٍ؟!
... في أي ضبابٍ؟
... تبحث عيناكِ عن الدرب الذهبيِّ؟!
***
عدت إلى الليل، وعدت إلى النوم،
... لتجبهني ثانيةً،
... ألام الحلم الثاني الإنسيِّ.
لما طلعت شمس اليوم التالي كنت مريضاً،
... أعرف من عذبني،
... لكني أنسى ذاك الحلمَ،
... وأغرق في النوم الأبديِّ.
(((
عود على بدء
قليلاً وصفتك والوصف لازال يجثم،
... بين ثنايا المدادِ،
فإن عبر الليل عينيك حولتِّهِ ،
... أنجماً ضاحكات،
... على نعميات السوادِ،
وكل هوىً عقدته الليالي،
... وحبك سهل وعادي.
وممتنع دائماً ياحبيبةُ،
... لا يستطاع الوصول إلى كنهه،
... كالعذوبة في بوح شادي
تعذبني ماترد الجوابَ،
... وأحلى الهوى في العنادِ.
***
سأخبركِ، الآن، شيئاً:
... أنا لو لم أقابلكِ،
... من كان يحرقني،
... ثم يذرو رمادي؟
ومن كان يمنحني وردة لونها كالدمِ الطفلِ،
... يهطل بين صليل السيوفِ،
... وعشق الجوادِ،
ويأتي بقلبي هنا كي أرى الصبح في مغربٍ
... تلتقي فيه
... أحلى صبايا بلادي؟
(((
الفهرس
قمر غارقٌ في الرقاد ...
ذات يوم ...
الطواف ...
الميناء ...
وقفة ...
ألف عام من الضياء ...
بانت "سعاد" ...
يوم تعودين ...
عتاب ...
هرب المساء ...
.. وفي وجهه سمرة وارتواء ...
نجم المزَارع ...
الغريب ...
يأس ...
بطاقة ...
دموع ...
الخريف ...
زمن الحب ...
ها إننا جالسان ...
حبك كان الأخير ...
صخب ...
تحية ...
الحلم الإنسي ...
عود على بدء ...
(((
رقم الايداع في مكتبة الأسد الوطنية :
الضفاف الأخرى ... : شعر/ مأمون الضويحي- دمشق؛
اتحاد الكتاب العرب ، 1998- 69ص؛ 24سم.
1- 81109561 ض و ي ض ... 2- العنوان
3- الضويحي(1/12)
ع-1922/11/1998 ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
من مناخات الحب والحرب والخصب والجفاف والحياة والموت والطبيعة والإنسان والوطن والأمة ينسج الشاعر قصائده العذبة المعجونة بالمعاناة والنزف وبالاحتراق والرماد.
والحب هو الثيمة الأساسية التي تلف القصائد. الحب المتسم بالطمرانية والنورانية والمشكل لكل ما هو بهيج ورضي وساحر وحالم معشوق من قبل الإنسان وهو يعارك حروق الحياة ومشكلاتها المتكاثرة.
((1/13)