الله هذا الاسم الكريم علم على الذات المقدسة التى نؤمن بها ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا. والله ـ تبارك وتعالى ـ أهل الحمد والمجد، وأهل التقوى والمغفرة.. لا نحصى عليه ثناء، ولا نبلغ حقه توقيرا وإجلالا. لو أن البشر منذ كتب لهم تاريخ، وإلى أن تمهد لهم على ظهر الأرض حركة ـ نسوا الله وكفروا به، ما خدش ذلك شيئا من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كف شعاعا من ضيائه، ولا غض بريقا من كبريائه، فهو ـ سبحانه ـ أغنى بحوله وطوله، وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع فى ملكوته وجبروته من أن ينال منه وهم واهم، أو جهل جاهل. ولئن كنا فى عصر عكف على هواه، وذهل عن أخراه، وتنكر لربه فإن ضير ذلك يقع على أم رأسه، ولن يضر الله شيئا. (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير)).
ص _008
الألوهية فى القرآن والحديث عن الله ـ تباركت أسماؤه ـ يتخذ فى القرآن أسلوبا قريبا من الفطرة ، سريعا إلى العقل، بعيدا عن الغموض والتعقيد، مفعما بالوضوح والإشراق. وهذا الحديث يقوم على تعريف الله لخلقه بأوصافه وأفعاله: الله خالق كل شىء. الله نور السموات والأرض. الله على كل شىء قدير. له مقاليد السموات والأرض. له ما سكن فى الليل والنهار. له الخلق والأمر. أن الله كان سميعا بصيرا. إن الله كن على كل شيء حسيبا. إن الله كان بما تعملون خبيرا. وفى أثناء هذا التعريف السهل اليسير تجد القرآن ينفى أوهاما علقت بأذهان الجاهلين عن حقيقة الألوهية، وهى أوهام لا سناد لها من العقل المجرد ولا من الوحى الأعلى. لقد خرقها القاصرون دون وعى ، وقبلها المقصرون دون نقد. ثم شاعت بين الجماهير على أنها عقائد دين، وهى ليست إلا خرافات خابطين ، وظنون مقلدين. ص _009(1/1)
فعند البعض أن لله بنات يشاركنه الألوهية، وعند بعض أخر أنه أنجب ابنا وحيدا كما يقول النصارى، أو عدة أبناء كما يزعم غيرهم ، كلهم آلهة أو أبناء آلهة ".. وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ". إثبات الوحدانية وقد طال فى القرآن الكريم الكلام فى إثبات الوحدانية ، ودفع كل شائبة تنسب الشركة إلى الألوهية ، وأطرد حجاج الإسلام فى هذه القضية، حتى عدها قضيته الأولى. ولا جرم أنها أساس الإسلام ولواؤه، ومادة القرآن ورواؤه. والمسلم يوقن بأن العالم كله من فيه وما فيه من المستقدمين والمستأخرين عبيد لله، خلقهم بقدرته، ولو شاء ما خلقهم. ورباهم بنعمته ، ولو شاء لتركهم، ورفع من شاء بفضله، ولو شاء لهوى به. وشيء أخر ينضح به الحديث عن الألوهية فى القرآن ـ وهو فى الحقيقة جزء من عقيدة التوحيد ـ أن الخالق غير المخلوق، وأن الله غير العالم، وأنه لا مجال لفكرة الحلول البتة فى تعاليم الإسلام. وفكرة حلول الله فى هذا العالم أو فى جزء منه سخافة هندية قديمة ، ولو ظلت هندية فقط لماتت فى موضعها من تلقاء نفسها، كما مات كثر من أفكار الهنود. بيد أنها انتقلت إلى بعض الأديان، فقدرت لها حياة جديدة ص _010(1/2)
فكرة الحلول: قرأت فى مقرر الفلسفة لطلبة جامعة عين شمس كلية الآداب تحت عنوان " مشكلة الله " ما يأتى: الحق أن هناك تصورين مختلفين لحقيقة الله تقدمهما لنا الأديان .. فبعض الأديان تتصور الله على أنه موجود وجودا متعاليا على هذا الكون غير باطن فيه، والبعض الأخر يتصوره على أنه مباطن للكون والإنسان معا والإسلام هو صاحب التصور الأول لله ، أما المسيحية : فهى صاحبة التصور الأخيرة. الله فى الإسلام " عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال". يقول الغزالى : مستو على العرش استواء منزه عن المماسة والاستقرار، بائن عن خلقه بصفاته: مقدس عن التغير والانتقال. أما إله المسيحية : فهو إله باطن فى الكون ممتزج بهذه الحياة ، يقول إنجيل يوحنا : " أنى أنا حى فأنتم ستحيون. فى ذلك اليوم تعلمون أنى أنا فى أبى ، وأنتم فى ، وأنا فيكم ". وتصور المسيحيين لله ، لا يتم إلا بنزوله إلى مملكة الأرض فى لحظة مختارة من الزمان ، وحلوله فى الناسوت فى صورة المسيح عيسى. وهذا لا يتم إلا بحضور الله فى الطبيعة، وبإخضاع حركتها لحركته وبحلوله فضلا عن ذلك فى الجسد البشرى وامتزاجه بالدم الإنسانى. وغنى عن البيان أن الإسلام يعتبر هذا الكلام أخيلة سقيمة. وينزه العقل البشرى عن قوله وعن قبوله . ويقصيه إقصاء تاما عن مجال النظر بأنه مجال الاعتقاد. ص _011(1/3)
والكلام عن تسبيح الله وتحميده، وتنزيهه وتوحيده، إنما يجيء عقب الاعتراف بوجوده. ولما كان وجود الله بديهة ينساق إليها العقل كما ينساق التيار إلى قراره، فإن القرآن الكريم لم يكترث بشبهات الملحدين اكتراث من يحارب فى معركة عنيفة المقاومة، بل تصدى لدحض هذه الشبهة كما يتصدى الفيلسوف لتعليم صبيته، ومسح ما على أذهانهم من غشاوة. والواقع أن الكافرين بالله يقعون فى متناقضات عقلية تصرخ بشدة الغباء أو شدة الجمود. هل العالم وجد صدفة؟ فهم يزعمون أن هذا العالم وجدت مادته صدفة ، ودبت الحياة فيها صدفة، وتماسك نظامها صدفة. ولو قلت لأحدهم : إن طيارة تجمعت آلاتها ، ودارت محركاتها وانسكب البنزين فى خزاناتها ، وصعدت فى الجو ثم انطلقت فى الفضاء ، كل ذلك من غير جهد إنسان ، ولا تدخل أحد أبدا.. لنسبك إلى الهزل أو الجنون. ومع ذلك فهو يريد أن يقول لنا أن القمر مثلا يجرى فى الفضاء من تلقاء نفسه لا تحمله قدرة ، ولا تسيره إرادة ، ثم يطلب منا باسم العقل أن نصدق هذا الهزل أو هذا الحمق. والكافرون بالله هم أولئك الذين شبههم القرآن بالعجماوات وبالدواب الصم والبكم الذين لا يعقلون من الذين يثرثرون بالعلم، ولا مكان لهم فيه، ولا جدوى لهم منه. ص _012(1/4)
وقد تنبعث حصيلة هؤلاء من الثروة العلمية، خصوصا ملاحدة مصر، فوجدتهم يكفرون على صيت تقدم العلم فى أوروبا وأمريكا. وقد ترسل لنا مصانع الغرب مرصدا لمشاهدة النجوم فيجئ أولئك لينظروا ثم يصيحوا على أثر المشاهدة : كفرنا بالله رب العالمين. وقد تطير روسيا قمرا صناعيا بذل العلماء هناك فى ضبطه وتجهيزه وتزويده ما يضنى العقول، وما يدل على أن تطيير القمر الطبيعى يستحيل أن يجئ خبط عشواء، ومع ذلك يتفرج نفر من الصحفيين منا على هذه المشاهدة ثم يصيحون: ثبت أنه لا إله. وصدق الله العظيم : ((ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)). وجود الله وجود الله تعالى من البداهات التى يدركها الإنسان بفطرته، ويهتدى إليها بطبيعته وليس من مسائل العلوم المعقدة، ولا من حقائق التفكير العويصة. ولولا أن شدة الظهور قد تلد الخفاء، واقتراب المسافة جدا قد يعطل الرؤية، ما اختلف على ذلك مؤمن ولا ملحد. ((أفي الله شك فاطر السماوات والأرض)). وقد جاءت الرسل لتصحيح فكرة الناس عن الألوهية. فإنهم وأن عرفوا الله بطبيعتهم إلا أنهم أخطأوا فى الإشراك به، والفهم عنه. ص _013(1/5)
(هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد).. " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة ، فهى تمسخها وتشرد بها ، وتخلف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب وتسيغ الفج. وذاك سر انصراف فريق من الناس عن الإيمان والصلاح ، وقبولهم للكفر والشرك! مع منافاة ذلك لمنطق العقل وضرورات الفكر وأصل الخلقة. وأنى خلقت عبادى حنفاء كلهم فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما حللت لهم وقد اقترنت حضارة الغرب ـ التى تسود العالم اليوم ـ بنزوع حاد إلى المماراة فى وجود الله ، والنظر إلى الأديان جملة نظرة تنقص، أو قبولها كمسكنات اجتماعية لأنصارها والعاطفين عليها. ولا شك أن المحنة التى يعانيها العالم الآن أزمة روحية، منشؤها كفره بالمثل العليا التى جاء بها الدين ـ من الحق والإنصاف والتسامح والإخاء ـ فلا نجاة له مما يرتكس فيه إلا بالعودة إلى هذه المثل، يهتدى إليها بفطرته، كما يهتدى سبيله الجنين فى ولادته ، والفرخ فى بيضته! ومتى هدى العالم إلى الفطرة، هدى إلى الإسلام ، فإن الإسلام هو دين الفطرة والإسلام يقوم ـ بداهة ـ على التصديق بوجود الله ويعد الإيمان به محور شرائعه. وفى القرآن الكريم عشرات الأدلة التى ترسخ فى العقل والضمير هذه الحقيقة، وتجعل المسلم يحيا فى نطاق من الشعور ص _014(1/6)
التأم بها. ولأحد العلماء كلام لطيف فى حصر الفروض الخاصة بهذا الموضوع نوجزها هنا. قال : إنه احتمال واحد من أربعة احتمالات لا خامس لها.. الأول: أن يكون الوجود كله وهما: سواء فى ذلك عالمنا المحسوس أو ما وراءه مما يغيب عنا.. أى أن الأرض التى نمشى فوقها والقاطرات التى نركبها مثلا خيال فى خيال. وهذا الاحتمال قال به فلاسفة قدامى ومحدثون! وهو احتمال سخيف ينببغى أن نصرف النظر عنه. الثانى: أن يكون العالم حقيقة وجدت من تلقاء نفسها بعد عدم محض ، فكانت بعد أن لم تكن دون أى مؤثر خارجى! وهو احتمال لا يقل سخفا عن سابقه. والقول به إلغاء لقانون الأسباب والمسببات، وهدم لجميع القواعد التى يقوم عليها العلم، وتسير بها الحياة! الثالث : أن يكون العالم مادة قديمة، ليس لوجودها أول ولا انتهاء، تنشأ عنها صنوف الخلق بأساليب طويلة المراحل معقدة الشرح! وهذا الاحتمال يجعل الكون فاعلا ومنفعلا فى وقت واحد! أو هو ينظر مثلا إلى القصر المشيد ، ثم يخلع على جدرانه جميع صفات العبقرية والديقة والمهارة التى ينبغى أن تنسب إلى المهندس، لا إلى الرمل والطين والسقوف والنوافذ. هذا الاحتمال يتصور الكمال الغير المتناهى، المتضمن للقدم الأزلى، والبقاء الأبدى ، والحكمة العالية ، والعلم الشامل، ثم ص _015(1/7)
ينسب هذه الأوصاف مثلا للتراب الذى ندوسه أو الهواء الذى نستنشقه بوصفهما يخلقان ويعدمان! والعقل الإنسانى إذا أيقن بأن انبات الزرع ـ على الصورة التى نراها ـ يحتاج إلى توافر صفات معينة، فإن هذه الصفات من قدرة ومشيئة ، لا يجوز أن تنسب إلى الطين والماء.. بل البداهة الأولى توجه هذه النسبة إلى كائن غيرهما.. فلم يبق إلا الافتراض الرابع. وهو وجود الله جل شأنه.. ان هذا الاحتمال العقلى الرابع هو التفسير الوحيد الصحيح لقصة الخليقة أو هو - كما عبر البعض - أجدر هذه الاحتمالات بالقبول والاحترام.. ومن السخف بمكان أن تحاول إقناعى بأن الجنين فى بطن أمه يتكون تحت إشراف هذه الأم، أو بمساعدة الأب، أو بأعمال متعمدة مقصودة من الأجهزة المستكنة بين البطن والصدر، تولى بعضها صناعة العين، والآخر صناعة الأذن وهكذا. لا. لا.. لا.. ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون). (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون) . ص _016(1/8)
أدلة الوجود ولا باس من سوق طائفة من الأدلة التى تفتق الذهن الغافل فيبصر بها ويلتفت لما وراءها. ( أ ) أن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التى يدرج فوقها، ولا السماء التى يعيش تحتها. فمن المقطوع به أن وظيفة الخلق والإبراز من العدم لم ينتحلها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد. ومن المقطوع به كذلك ، أن شيئا لا يحدث من تلقاء نفسه، فلم يبق إلا الله ! وقد قرر القرآن الكريم هذا الدليل : (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) ويلفت أنظار العرب إلى مظاهر الإبداع فى المجتمع الساذج الذى يحيون فيه : (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت). ويسمى هذا الدليل دليل الإبداع. ( ب ) لو دخل المرء دارا، لوجد بها غرفة مهيأة للطعام ، وأخرى للمنام ، وأخرى للنظافة ، وأخرى للضيافة...الخ ، لجزم ص _017(1/9)
بأن هذا الترتيب لم يتم وحده وأن هذه الإعداد النافع لابد قد نشأ عن تقدير وحكمة. وأشرف عليه فاعل يعرف ما يفعل. والناظر فى الكون وآفاقه ، والمادة وخصائصها، يعرف أنها محكومة بقوانين مضبوطة شرحت الكثير منها علوم الطبيعة والكيمياء والنبات الحيوان والطب.. وأفادت منها الناس أجمل الفوائد. وما وصل إليه علم الإنسان من أسرار العالم ، حاسم فى إبعاد كل شبهة توهم أنه وجد كيفما اتفق. كلا. إن النظام الدقيق المختفى فى طوايا الذرة مطرد فيما بين أفلاك السماء الرحبة من أبعاد : " تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ". " الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ". فى القرآن الكريم آيات شتى، تقرر هذا الدليل ، ويسمى دليل العناية. (جـ) هل فكرت فى هذه السيارات المنطلقة ـ أعنى هذه الكواكب التى تخترق أعماق الجو ـ والتى تلتزم مدارا واحدا لا تنحرف عنه يمينا ولا يسارا، وتلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل. ثم ترتقبها فى موعدها المحسوب فلا تختلف عنه أبدا؟ إن الكرة تنطلق من أقدام اللاعبين ثم لا تلبث أن تهوى بعد تحليق. ص _018(1/10)
أما هذه الكرات الغليظة الحجم، الحى منها والميت. المضىء منها والمعتم فهى معلقة لا تسقط.. سائرة لا تقف..! كل فى دائرته لا يعدوها. وقد يصطدم المشاة والركبان على أرضنا وهم أصحاب بصر وعقل.. أما هذه الكواكب التى تزحم الفضاء فإنها ـ لا تزيغ ولا تصطدم . " والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " من هيمن على نظامها وأشرف على مدارها؟ بل من الذى أمسك بأجرامها الهائلة، ودفعها تجرى بهذه القوة الفائقة؟ إنها لا ترتكز فى علوها إلا على دعائم القدرة.. ولا تطير إلا بأجنحة أعارها لها القدير الأعلى. " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ". أما كلمة الجاذبية فدلالتها العلمية كدلالة حرف (س) على المجهول ، أنها رمز لقوانين تصرخ باسم الله ،لكن الصم لا يسمعون ، ويسمى هذا الدليل دليل الحركة. ( د ) لا شك أن لوجود كل واحد منا بداية معروفة. فنحن قبل ميلادنا لم نكن شيئا يذكر " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ". وعناصر الكون الذى نعيش فيه كذلك . لها بداية معروفة. وعلماء الجيولوجيا يقدرون لها أعمارا محدودة مهما طالت فقد كانت قبلها صفرا. ص _019(1/11)
وكان هناك ظن بأن المادة لا تفنى، اعتمد عليه فريق من الناس فى القول بقدم العالم وما يتبع هذا القدم الموهوم من أباطيل. على أن تفجير الذرة هدم هذا الظن ولو لم يتم تفجيرها ما قبلنا هذا الظن على أنه حقيقة ثابتة. فإن المفتاح الذى يفتح على العالم أبواب الفناء، ليس من الضرورى أن يضعه الله فى أيدى العلماء. وعدم اهتداء الناس إلى ما يدمر مادة الكون، لا يعنى أن مادة الكون غير قابلة للدمار والفناء. ولم لا يكون ذلك حصانة، أقامها القدر الأعلى ، حتى يمنع العالم من الانتحار؟ إننا جازمون بأن وجودنا محدث لأن تفكيرنا وإحساسنا يهدينا لذلك. وغير معقول أن يتطور العدم إلى وجود تطورا ذاتيا. أنه إذا وقعت حادثة لم يدر فاعلها.. قيل: أن الفاعل مجهول ولم يقل أحد قط أنه ليس لها فاعل.. فكيف يراد من العقلاء أن يقطعوا الصلة بين العالم وربه ؟ إننا لم نكن شيئا فكنا. فمن كوننا؟ " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " ويسمى هذا دليل الحدوث. ما قاله علماء الغرب وقد شرح " لابلاس " دليل الحركة الكونية ، وأبان قوة هذا الدليل فى حسم الشبهات التى يثيرها الجاحدون فقال : " أما القدرة الفاطرة فقد عينت جسامة الأجرام الموجودة فى المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت ص _020(1/12)
حركاتها بقوانين بسيطة ، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس ، والتوابع حول السيارات بأدق الحسابات ، بحيث أن هذا النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل. هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه والذى يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفات فى نظر " لا بلاس " إلا باحتمال واحد فى أربعة تريرليونات. وما أدراك ما أربعة تريرليونات ! إنه عدد من كلمتين ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصى إلا إذا لبث خمسين ألف عام، يعد الأرقام ليلا ونهارا على أن يعد فى كل دقيقة 150 عدد. وقال سبنسر: " إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن الحادثات مظاهر قدرة مطلقه متعالية عن الإدراك. وأن الأديان كانت أول من قبل هذه الحقيقة العلوية ولقنها. ولكنها نشرت أول الأمر ممزوجة بالأباطيل." وسبنسر هذا غير متدين. وكتب "كميل فلامريون " فى كتاب " الله فى الطبيعة" يقول : " إذا انتقلنا من ساحة المحسوسات إلى الروحانيات. فإن الله يتجلى لنا كروح دائم موجود فى حقيقة كل شىء. ايس هو سلطانا يحكم من فوق السموات، بل نظام مستتر مهيمن على كافة الموجودات. ليس مقيما فى جنة مكتظة بالصلحاء والملائكة! بل إن الفضاء اللانهائى مملوء به. فهو موجود مستقر فى كل نقطة من الفضاء، وفى كل لحظة ص _021(1/13)
من الزمان، أو بتعبير أصح : هو قيوم لانهائى منزه عن الزمان والمكان، والتسلسل والتعاقب. ليس كلامى هذا من جملة ما وراء الطبيعة المشكوك فى صحتها بل من النتائج القاطعة التى استنبطت من القواعد الثابتة للعلم كنسبية الحركة ، وقدم القوانين. أن النظام العام الحاكم فى الطبيعة وآثار الحكمة المشهورة فى كل شىء، المنتشرة كنور الفجر وضياء الشفق فى الهيئة العامة، لاسيما الوحدة التى تتجلى فى قانون التطور الدائم ، تدل على أن القدرة الإلهية المطلقة هى الحوافظ المستترة للكون، هى النظام الحقيقى، هى المصدر الأصلي لكافة القوانين الطبيعية وأشكالها ومظاهرها ". والقائل فيلسوف ينكر اليهودية والنصرانية ،ولا يعرف الإسلام ولكنه يعرف الله الواحد من إدمانه النظر فى العلوم والأكوان، وأمثاله كثيرون. وفكرة هذا العالم عن الألوهية تظهر فيها فلسفة وحدة الوجود. وهى فلسفة ندت عن الصواب. وإن تعلق بها بعض القدامى من فلاسفة الهنود، وسرت عدواها إلى التصوف الإسلامى. فشردت به عن الحق ، وعن تعاليم الإسلام. وأفكار أولئك الباحثين ، لو ضبطت بتعاليم الوحى، ومشت فى هدى الشريعة، لاستقامت مع ما ذكر القرآن الكريم عن الله عز وجل من صفات، وما نسب إلى ذاته العظمى من نعوت الجلال والكمال!! وحسب أولئك ـ وإن لم يعرفوا الحق كاملا ـ أن لاح منه بريق فأقروا ولم ينكروا. ص _022(1/14)
ولئن صدقوا ما عرفوا ، فهم أهل للإيمان الصحيح الكامل لو أتيحت لهم آياته ويسرت لهم رسالاته ، اى لو أتيحت لهم معرفة الإسلام الصحيح من خلال الكتاب و السنة . المنكرون لوجود الله ومن زحمة الوجود بالدلائل المؤيدة لعقيدة الألوهية وانتصاب الشواهد المتكاثرة فى الآفاق ترشد الناس إلى رب العالمين ، فأن العالم لم يخل من منكرين يجحدون الحق ويكفرون بالله . وقد استقصينا أقوال هؤلاء فلم نر بها إلا الإنكار المجرد والعناد السمج . يقول " يوخنز " عميد العلماء المادين فى العصر الماضى : " من الممكن إرجاع ظهور الأجرام السماوية وانتشارها وحركاتها إلى أصول بسيطة من الممكنات ، فلا يبقى إذن محل للاعتقاد فى قوة خالقة مشخصة ". ويقول :" إن الإنسان محصول المادة وليست له خاصة فكرية على النحو الذى يصوره الروحانيون " . ويقول ماضيا ـ فى إنكار الروح ، ومصورا العقل الإنساني بصورة مادية ـ : " إن الكبد و الكليتين تفرز مادة مرئية دون أن نعلم نحن بذلك . أما الحركة الدماغية فلن تكون خارج أرادتنا وإدراكنا ، والدماغ يفرز قوة بدل المادة " ويقول " بروسية " ـ مؤيدا هذا التفسير المادى للروح والعقل ـ : " إن الذكاء و الحساسية عمل من أعمال الأجهزة ص _023(1/15)
العصبية كما أن تحويل المأكولات إلى دم يندفع فى العروق ، عمل الأجهزة الهضمية و النفسية .. وكتبت جريدة طبية مقالة ذكرت فيها أن : الفكر تركيبة يشبه حمض فورميك ! والتفكير تابع للفسفور! والفضيلة والصداقة والشجاعة ما هى إلا تيارات كهربية للأعضاء الإنسانية . هذه هى الصورة التى يقدمها الملحدون للإنسانية ومعنوياتها ! وهذه هى أدلتهم على إنكار المادة ، وعلى رفض الإيمان بالله العلى الكبير . وقد سميناها أدلة تجوزا .وإلا فأى أمارة على الفهم الصحيح فى هذا اللغو القبيح ؟ ومتى كان التشكيك والفرض والتوهم أدلة محترمة ؟ انه من المقطوع به عقلا إن العدم لا يتحول إلى وجود ولا يخلق وجودا . فإذا قيل : أن العالم مفتقر فى أحداثه إلى سبب ، وان الأحياء محتاجة فى وجودها إلى خالق . قيل : بل يجوز أن يتم ذلك من تلقاء نفسه . وإذا كانت حركة المرور فى القاهرة ـ مثلا ـ تتطلب فرقة من الجنود لتنظيمها وإلا لسرت الفوضى فى أرجائها ، فهل يستغرب القول بقدرة منظمة مشرفة على الألوف المؤلفة من الكواكب السيارة فى الفضاء ؟ وهل يعتبر القول بأن المصادفات المحضة هى التى تتولى هذا التنظيم.. هل يعتبر إلا لغوا و مجونا ؟ ص _024(1/16)
ثم ما هذه السخافات الزاعمة بأن الفضائل والرذائل اهتزازات كهربائية للأعضاء والأجهزة الجسمانية .. لأنه لا روح - كما يقولون. يجيب "كميل فلا مريون " متهكما فيقول :- ( ما معنى إفراز القوة .. ولم يفرز الدماغ كيلو مترات أو فراسخ ؟ ويقول المشير " أحمد عزت باشا " : " من حيث أنه لا روح ولا نفس ناطقة ، فمن الذى يشعر بما تفرزه الحركة الدماغية ؟ ومن الذى لا يشعر بها ؟ وما معنى كلمة"نحن"التى يستعملها ذلك المتكلم ؟ (يوخنز السابق). يبدو أن ذلك الفيلسوف يقر مرغما - من قبيل إنطاق الحق له - (بأنا) التى ينكرها. ثم إنهم يقولون (أن القوة لا تنفصل عن المادة-كما يقرون-فأين مادة القوة التى يفرزها الدماغ) الحق أن الإلحاد الذى يشيع بين طوائف المتحذلقين والمتنطعين لا يستند البتة إلى ذرة من المعرفة أو التفكير السليم . استفتاء نيويورك - ر - استفتت مجلة " كوليرز " المعروفة ، عددا كبيرا من علماء الذرة ، والفلك ، وعلم الأحياء " البيولوجيا " والرياضة . " فأكدوا أن لديهم أدلة و قرائن كثيرة تثبت وجود كائن أعظم ينظم هذا الوجود ، ويرعاه بعنايته ورحمته وعلمه الذى لا حد له ". يقول الدكتور " راين " أنه ثبت من إيحائه فى المعامل : أن فى الجسم البشرى روحا أو جسما آخر غير منظور . ص _025(1/17)
وقال عالم آخر : " أنه لا شك فى أن الكائن الأعظم - وهو ما تسميه الأديان السماوية "الله" - هو الذى يسيطر على الطاقة الذرية وغيرها من الظواهر والقوانين الخارقة فى هذا الوجود". نشر هذا التلغراف الذى أذاعه "روتر" على العالم كله . وقد قرأته كغيرى ، و شعرت بعاطفة من السرور تغمرنى ، لأن أولى العلم وأرباب البحث لمسوا - ولا أقول عرفوا - آثار الحقيقة العليا ، وبدأ إيمانهم بالله يتركز على أساس من التجربة المادية والإحساس النفسى . أتعرف ما هو الإلحاد ؟ : أن يسفه المرء نفسه ، ويركب رأسه ، ويغمض عينيه عن كل ما حوله ، ثم يصدر الأحكام جزافا ، لا تخضع لمنطق ، ولا يربطها فكر سليم . وعندما جاء القرآن الكريم ليأخذ بأيدي الناس إلى الحق المبين لم يكلفهم عسرا . لم يزد أن طلب إليهم فتح أبصارهم على آفاق السماء وفجاج الأرض وخواص الأشياء . "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض .." "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء" "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى.." فإذا أرسل المرء نظراته الفاحصة يستقصي بها أنباء الوجود ويستكنه أسرار الحياة ، فسيرجع - بعد جولة قريبة - بهذه الحقيقة المشرقة اللامعة ص _026(1/18)
الحقيقة التى أجملها الآية الكريمة : " الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون * قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " ؟ أن للإلحاد شبابا ممسوخا فى بلادنا ، يعرف قشورا من العلم ، ويتعلق بأوهام لا وزن لها عند أولى الألباب . تراه يتكلم عن الألوهية والدين والوحى فيلوى لسانه بعبارات مشحونة بالغرور والإدعاء . وليس وراءها إلا ما يذكرك بقول الله : " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله " إلى هؤلاء الشباب ممن يظنون العلم طريق الإلحاد ، نسوق إليهم نتائج البحوث التى وصل إليها سادتهم عن أصل الحياة . صفات الله وصف الله عز وجل نفسه بصفات كثيرة ، من الصعب إدراك حقيقتها على النحو الذى تدرك له أمورنا المعتادة ، بل هذا مستحيل ! من أين للتافه أن يعرف كنه العظيم ؟ أن الإنسان عاجز عن أدراك حقيقة الوجود المادى الذى يعيش فيه. فكيف يعرف ما وراء من غيوب . إذا قيل : أن الله يسمع ، فليس سماعة بأذن كآذاننا ، أو يرى ، فليس ذلك بعين كأعيننا ، ولذا قيل : لأنه بنى السماء ، ص _027(1/19)
فليس على النحو المألوف من بنائنا ، أو يده فوق أيدينا ـ فليس الوصف الجارحة كأعضائنا . والذى نوقن به ابتداء . إن صفات المحدثين وأحوالهم لا يجوز أن تنسب إلى الله ، فهو - سبحانه وتعالى - غير مخلوقاته . وشأن الالوهيه أسمى مما تتصور والعقول القاصرة . وقد وردت فى الوحى الكريم كلمات عن الوجه و اليدين والأعين والاستواء على العرش والنزول إلى السماء والقرب من العباد .. الخ ، حاول كثير من المسلمين استكناه دلالتها واستكشاف حقيقتها ، فلم يرجعوا إلا بالحيرة ، حتى قائلهم: نهاية أقدام العقول عقال وآخر سعى العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا! وكم من جبال قد علا شرفاتها رجال فبادروا و الجبال جبال ولا غرو .. فأن البحث عبث فيما لا يملك المرء وسائل الخوض فيه . إن الكيمائى قد يعرف خواص سائل أو غاز يقلبه تحت يده ويجرى عليه ما شاء من تجارب ، فكيف يجوز للعباد أن يتدخلوا بالبحث النظرى فى شأن الألوهية لينكروا أو ليثبتوا ؟ وشأن الألوهية بالنسبة إليهم عزيز المنال والحق يقول - فى كلامه عن ذاته وصفاته - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " . ص _028(1/20)
وعلى ذلك فكل ما قطعنا بثبوته فى كتاب الله وسنه رسوله مما وصف الله به نفسه واسنده إلى ذاته قبلناه على العين و الرأس . لا نتعسف له تأويلا ولا به تجسيما ولا تشبيها . ولئن كنا نسلك هذا المسلك فى تقديس الذات ونسبه الصفات، فنحن لا نحب أن نتخذ منه ذريعة لتكفير من قصدوا إلى تنزيه الله عن طريق التأويل ، وصرف الآثار الواردة إلى المجاز لا إلى الحقيقة . فأن الذين أولوا فعلوا ذلك خشية أن يئول أمر الألوهية إلى مثل ما عليه اليهود و النصارى ، من تجسيم و أحوال لا تتفق والتنزيه . أن التوراة تحكى أن صراعا نشب بين الرب و يعقوب ، لم يفلت منه الرب إلا بصعوبة ، وبعد ما قدم ليعقوب لقبه المعروف "إسرائيل " !! وكلام الإنجيل عن الله يخيل إليك أنه رب أسرة من ولد ووالده !! فجنوح المؤولين - عندنا - إلى المجاز ، قد يكون هناك ما يعتذر به عنهم . بيد أننا لاحظنا أن هذا التنزيه والتأويل والانصراف الدائم عن الحقيقة إلى المجاز قد جنى على أصل الإيمان لدى جمهور العامة ، وجعل فكرتهم غامضة عن إله ، لا هو فى السماء ولا فى الأرض ، ليست له يد ، ولا عين ، ولا وجه ، لا يوصف بفرح ولا رحمة ولا ضحكة ، لا ولا ، مما وصف به نفسه . والخطة المثلى أن نتقبل ما ورد به الشرع ، وإلا نتكلف علم ما لم نطالب بعلمه مما يدق عن الإفهام . ص _029(1/21)
وهناك فرق بين أن يحكم العقل باستحالة شئ وبين أن يعلن عجزه عن فهم شئ ، فالعقل يحكم بان اجتماع النقيضين مستحيل . فالضوء - مثلا - لا يكون موجودا وغير موجود فى وقت واحد ولكن العقل الذى يحكم باستحالة هذا ، يعجز عن فهم حقيقة الضوء ما هى ؟ وما كنهها ، وما انتقالها بهذه السرعة الهائلة ؟ وهذا العجز الظاهر لا يمس حقيقة الضوء ، ولا يمس وجودها فعدم علمك بشيء ليس علما بعدم ذلك الشيء . القدم وجود الله سبحانه و تعالى ممتد فى القدم ، بحيث لا يتصور قبله وجود قط ، وما دام كل وجود قد نشأ عنه ، فالله تعالى أسبق منه ، ونحن لا نعرف عن الأول شيئا ، إذ عهدنا بالوجود قد حدث بعد ميلادنا . عن أبى بن كعب رضى الله عنه : أن المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : أنسب لنا ربك . فنزل : ((قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد)) . إن أولئك المشركين نظروا إلى الألوهية بعقولهم القاصرة ، وقاسوا وجودها المطلق على وجودها المحدود ، فتوهموا أن له أولا وليس الأمر كما يتوهمون ، إن لوجودنا المادى أولا ، لأننا نحس بذلك ، وندركه عن يقين ، ونجزم باستحالة غيره . أما الوجود الإلهي فقديم لا أول له ! * * * ربما استطاع الإنسان إدراك أغراض يسيرة فى بيئته المحدودة، أعراض تمس يومها الحاضر ، أو أمسها القريب ، أو غدها الموشك ص _030(1/22)
وقد يكون من هذه الأعراض المدركة جمله من المعارف النافعة .. ثم تقف بعد ذلك أشعه بصيرته فلا تستطيع حراكا ولا إدراكا . فإذا كانت تلك حدود قدرته العقلية فى عالم الشهادة ، فلا جرم انه يكون فى عالم الغيب اعجز ، وعن فهمه أقصر . وعقلنا فى قوته المحدودة كبصرنا الذى لا يقرأ إلا على أشبار . فإذا ابتعد الخط عنه مسافة لم يميز منه حرفا . كذلك لا يستطيع العقل أن يدرك إلا فى دائرة وجوده الضيقة : "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". ومن ثم فنحن نؤمن بقدم الذات الإلهية وامتداد هذا القدم فى أغوار الأزل الذى لا نعرف كنهه. .. ذلك وطبيعة الوجود المحدث تقتضى البداية و النهاية . أما من وجوده من ذاته فحقه أسمى من أن يسبقه أو يطرأ عليه عدم . البقاء والله سبحانه باق أبدا ، انه ليس جسما فيموت ، ولا مادة فتحلل وتذوى ، انه الدائم الثابت الذى يصير إليه كل شئ . "كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون" "وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا". وذو الوجود الخالد المتأبي على الفناء قد يمنح للأخبار من عبادة الخلود فى جنات النعيم . ص _031(1/23)
فهذا الفضل الممنوح لا يعنى أن بشرا اصبح حقيقيا بوصف الباقى و الآخر . فالأمر كما قلنا : إن وجود الله عز وجل واجب له من ذاته لا ينفك عنه أبدا . أما ما عداه فهو صفر إن لم تدركه نعمه الوجود المفاض عليه من الخالق جل علاه . القدرة العالم وما فيه من سكون و حركه ، اثر لقدره الله سبحانه وتعالى . وليست لشئ ما قدرة ذاتية يستمدها من طبيعته المجردة . فإذا رأيت البذور تشق التربة وتنمو رويدا رويدا لتستوى على سوقها فذلك بقدره الله : وإذا رأيت الأمواج تلطم الشطآن ، رائحه عاتية لا تهدا حتى تثور ، فذلك بقدره الله . لا تحسبن شيئا فى الكون قادرا بنفسه . فكما أن القدرة أبدعته أولا من عدم ، فقد أودعت فيه من أسرارها وبثت فيه من آثارها ، ما يدل عليها . وبعض الجاحدين من علماء الطبيعة يردون ما يقع تحت أبصارهم من هذه الدلائل الباهرة إلى مجهول محض . أو قوى كامنة فى المواد و العناصر المختلفة . وهذا تخريف شائن ، وتسفيه للعقل ، ومغالطة للواقع . ص _032(1/24)
ومن المؤسف أن تكون السمة الغالبة على كافه العلوم الطبيعية أنها تقوم على البحث المجرد فى مادة الوجود ، وتعرف حقيقة العلاقات و التطورات و الروابط بين شتى العناصر . وقلما تلتفت إلى شئ بعد ذلك إذا وفقت إلى نتائج معينة فى موضوع بحثها . وتنتهى اغلب هذه العلوم بمن يدرسونها إلى علم جيد بالمخلوقات وجهل مطبق بخالقها ، لأنه لم ترد إليه إشارة ما فى غضون البحوث الكثيرة المتشعبة . وهذه ـ لا ريب ـ خيانة علميه ، فان دراسة هذا الكون العظيم تنفذ إلى صميم الفكر الحر بأشعة من الهدى و الإيمان ، وتجعل الإنسان يتطلع ـ ملء الفؤاد ـ بعواطف الرهبة و الرغبة ـ إلى هذا الخالق العظيم . إن القدرة فى مجالها الواسع لا يعيها شئ البتة ، أثارها التى نشهدها التى تدل على طاقة لا تقف عند حدود . " وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا" . الإرادة والله ـ سبحانه وتعالى ـ فيما خلق وفيما يخلق ، وفينا دبر ويدبر به شئون العالم ـ كان يصوغ الكائنات فى الأوضاع التى يريدها ، ويضفى عليها الأوصاف التى يشاؤها ، ويبرزها فى الأوقات التى يختارها ، لا يستكرهه أحد على شئ من ذلك كله . ص _033(1/25)
وما ترى فى الأرض و السماء من تنوع فى الوجود ، وتميز فى السمات هو مظهر الإرادة الحرة فى كافة تعلقاتها . فما أوجده الله فى هذا العصر كان من حقه الكامل أن يوجده فى الأيام الخالية . وما جعلها الله كوكبا متألقا كان يستطيع جعله جندلا باردا . وتوزيع صفات والأحجام و الأحوال فى أنحاء الكون العريض ليس إلا المشيئة العليا لله عز وجل . ولو أراد أن يخلق العالم الذى نعيش فيه على نحو أخر فى قوانينه وأنظمته وأحيائه وأشيائه كلها لفعل . وانك لترى انطلاق المشيئة دون اى عائق فى إخراجها الأصناف المختلفة من الأصل الواحد! فالحقول المتجاورة تختلف محصولاتها كما و كيفا . والبذور المتجانسة تتفاوت فروعها حلاوة وحموضة ولونا ووزنا فى النبات ، ولؤما ونبلا وذكاء وبلاده فى الإنسان والحيوان . "وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون". وقديما استدل الأئمة على عظمه الإرادة - فى هذا المعنى – والنحل يأكل من ورق الشجر فيحوله شهدا ، ويأكل منه الدود فيحوله حريرا ، وتأكل منه أطيار أخرى فتحوله قذرا . وإذا اتجهت الإرادة إلى شئ فيستحيل أن يتخلف أثارها . "إن ربك فعال لما يريد " " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون". ص _034(1/26)
فإرادة الله نافذة فى السماء و الأرض ، لا راد لها ولا معقب عليها "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " . الحياة مراتب الوجود تختلف رفعه وضعه . فالجماد انزل رتبه من النبات ، والحيوان أعلى درجه من النبات والوجود الإنساني أرقى من أنواع الوجود الأخرى . واتصاف الله سبحانه و تعالى بالحياة : معناه أن وجوده بلغ الغاية فى عظمته و أثاره ، فهو موجود ، ويعرف انه موجود ، وهو يهب الوجود لغيره عن إدراك واختيار ، ومن ثم فهو حى. إن بعض الفلاسفة الذين يقولون بأن العالم معلول فى وجوده بغيره ، ويسمون الخالق عله العلل أو مبدأ الوجود ، يعطى صورة مبهمة عن هذا الوجود الأعلى . حتى لتحسب أن صدور الكائنات عن بارئها الأعظم يشبه التفاعلات الكيماوية التى لا روح فيها ولا حياه معها ، وهذا ضلال . فدلائل الحياة الكامنة تنبثق من الذات العليا انبثاقا يتضاءل أمامه كل ما نعرف من صنوف الحياة ودرجاتها المختلفة . أطلق لخيالك العنان ، وتصور كل ما تنتجه الأيدي "الحية" من أعمال ، وما تنشئه العقول "الحية" من أفكار . وما تهتز به الأفئدة " الحية " من مشاعر . واجعل هذا الخيال يضم أشتات ذلك من مشارق الأرض و مغاربها ويستجمع ما حدث فى الأعصار الخالية وما يحدث اليوم وما سوف يحدث غدا ، إلى أن يرث الله الأرض و ما عليها. ص _035(1/27)
إن مظاهر هذه الحياة المفعمة بالقوة و الإنتاج ، لا تعد شيئا مذكورا بالنسبة إلى الحياة الإلهي الواسعة ، بل هى أثر ضئيل من أعمال الحى الذى لا يموت ، الحى الذى ينفخ من روحه فى الموات فيهتز ، وفى الجماد فيتحرك . "إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون" "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" العلم الله تعالى عليم بكل شئ ، لم يسبق معرفته جهل ، ولا يعدو عليها نسيان ولا يمكن أن تخالف الواقع. وعلمه محيط بالأمس و اليوم و الغد ، بالظاهر و الباطن ، بالدنيا و الآخرة. "قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى". انه علم يشرق على كل شئ ، فيجلى بواطنه و خوافيه ، ويكشف بداياته و نهاياته ، ويكتنه ذاته و صفاته. فالمشهود و الغيب لديه سواء ، و القريب و البعيد و القاصى والدانى. "إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه". والعلم الإلهي يشرف على كل شئ إشرافا تاما ، ويهيمن على أطوار الموجودات - ما يحس منها وما يتوهم - هيمنة كاملة. ص _036(1/28)
فعدد ما فى صحارى الأرض من رمال ، وعدد ما فى بحار الدنيا من قطرات وعدد ما فى الأشجار من ورقات ، وعدد ما فى الأغصان من ثمار ، وما فى السنابل من حبوب ، وما فى رؤوس البشر وجلودهم من شعر. ثم ما يمكن أن يطرأ على هذه الأعداد الكثيرة من أحوال شتى ، وما تحتاجه فى وجودها من قوة متجددة ، وما يعتريها من أوصاف متغايرة ذلك كله يستوعبه شعاع واحد من أشعه العلم التى لا تدرى عقولنا من كنهها إلا قليلا: "وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير". "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين". السمع عن عائشة رضى الله عنها : " الحمد لله الذى وسع سمعه الأصوات "لقد جاءت المجادلة" خولة " إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جانب البيت تحدثه ما اسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير". أجل فما من كلام يدور بين الناس ، أو حديث يتجاذبون أطرافه إلا سبق وقعه إلى سمع الرحمن ، جل و علا ، قبل أى شئ. ولا تحسبن أن الله حين يسمع نجوى جماعه يشغله ذلك عن سماع قوم آخرين . ص _037(1/29)
كلا ، فما يشغله شأن عن شأن ، وما تغيب عنه همسه وسط الضجيج ، ولا تشتبه عليه لغة على اختلاف الألسنة. إنك ـ بالوسائل التى هدى إليها البشر ـ تجلس فى المشرق فتنقل إليك محطات الإذاعة الأغانى والأحاديث من المغرب ، طاوية الأبعاد الشاسعة. فما أدرانا بما وراء ذلك من أسرار الكون. وما أيسر ـ فى منطق العقل ـ أن يشرف رب الكون بسمعه على كل حركه و سكنه فى الوجود تنبعث من مصدرها القريب ، ويسمع صوتها ويبصر وضعها ! . إن ربك يسمع كل صوت. البصر وكما أن الله يسمع كل شئ ، فهو يشهد كل شئ ، ورؤيته تنظر فى أعماق الظلمات فتستشف كواملها. فما هو بحاجة إلى ضياء يبصر به الخفى ، أو مكبر يعظم به الدقيق. إذا كنت ثالث ثلاثة ، فاعلم إن هناك رابعا يبصر ما تفعلون ، ويسمع ما تقولون. "له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا" ص _038(1/30)
عندما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون ، توجسا من طغيانه وقالا: "ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" انه معهما ، ومع كل كائن ، من بدء الخلق إلى قيام الساعة ، وما قبل ذلك وما بعد ذلك ، يسمع ويرى. وهو - سبحانه - قد ركب فى وجوهنا هذه العيون التى نقرأ بها ونكتب ، ونشهد بها ما نشاء. ولكن ما قيمه رؤيتنا هذه إلى جانب الرؤية الإلهية المحيطة الشاملة. لو أن كل ذى بصر انتظموا صفا يستغرق محيط الأرض ، ثم اجتهدوا فى رؤية ما حولهم ، ما أبصروا شيئا يذكر إلى جانب الرؤية الإلهية التى تستوعب جميع الجهات ، فى وقت واحد. سواء فيها المستخفى بالليل والسارب بالنهار ، الخالى وحده. والبارز للناس. "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه .." والإحسان بهذه الحقيقة جزء من الدين ، بل هو قمته العليا: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه،فأن لم تكن تراه،فان لم تكن تراه فأنه يراك" الكلام هو وسيله للإبانة عما فى النفس من معارف و نصائح ورغبات شتى ، وتهم ذلك للآخرين. ص _039(1/31)
ولا شك أن الله سبحانه و تعالى مستحق لهذا الوصف . فقد عهد إلى ألوف من ملائكته ، بالقيام على شئون الأحياء والأمانة فى أنحاء العالم العريض ، كما عهد إلى ألوف و ألوف منهم بشئون شتى ، لا ندرى منها إلا القليل. وهذا التسخير الدائم خاضع لأوامر الله التى يتكلم بها ، خلقا و رزقا ورفعا وخفضا ، ومحوا وإثباتا وتقديرا وتدبيرا .. الخ . ما حفل به علم الله فوق الحصر ، وما يدل على هذا العلم - من كلمات لا نهاية له-كذلك. أن أحدنا - فى مباشرة أعماله المحدودة - يحتاج إلى قاموس من الألفاظ فما ظنك برب العالمين ، وهو يحكم ملكوته الواسع العظيم؟ ألا ترى أن كلامه من السعه و الاستبحار على النحو الذى يقول الله تعالى فيه: "ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم". " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" وكتب الله التى أنزلها على أنبيائه من مظاهر اتصافه جل شأنه بـ "الكلام". وقد كلم الله موسى تكليما وسوف يكلم كثيرا من عباده يوم القيامة أرسل الروح الآمين بختام الوحى إلى صاحب الرسالة العظمى. فكأن القرآن الكلمة الأخيرة فى هدايات الله لعباده. ص _040
"وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم". أما حقيقة الكلام ـ كصفة الله ـ فلا نقصر فيها ولا نطيل ، لأننا دون هذا المجال بكثير . بيد أننا نجزم بأن الكلام الإلهي ليس ألفاظا تصنعها الشفتان واللسان ، وتضبطها الرئتان والحنجرة والأسنان ، فذاك شأن الإنسان لا وصف الرحمن. ص _041(1/32)
النبوات إذا كان الفكر الإنساني هو اللجوء إلى الحدس والتخمين فى تعرف الحقائق العليا ، والاهتداء إلى الصواب مره ، والوقوع فى الخطأ ألف مرة. فأن الفلاسفة هم بلا نزاع قاده الفكر الإنساني. وإذا كان الفكر الإنساني هو الوصول إلى تلك الحقوق من أقرب طريق ، والتقاطها ناضجة واضحة ، ثم تكريس الوقت للانتفاع بها فان الأنبياء من غير جدل هم القادة الأصلاء للفكر الإنساني. إن الرجال الذين اختارهم الله سفراء إلى خلقه يؤدون رسالات عظيمة الشأن ، فهم يبلغون عن الله أمورا لا يستغني الناس قاطبة عن ذرة منها : العامة و الخاصة سواء فى حاجتهم إلى معرفة ما انزل الله لهم على السنة أولئك المرسلين الكرام . نعم ربما وصل أولوا النهى إلى بعض الحقائق التى ينقلها النبيون عن رب العالمين ، غير إن وصولهم إلى جمله الحقائق التى لابد منها الناس مستحيل. والقليل الذى يوفقون إلى فقه إلى يعبرون إليه جسورا من التجارب والمتاعب تستغرق السنين . أما الاستماع إلى الرسل و التلقى عنهم - فهو يختصر تلك المتاعب الباطلة ، والتجارب الفاشلة ، ويقف الناس وجها لوحه أمام ص _042(1/33)
الحق الذى إليه يفتقرون ، ذاك يبلغونه وحدهم بعد لأى أما مالا يدركونه وحدهم أبدا ، فأن الرسل تلقيه بين الأيدي جنى قريبا ودواء ميسرا . وما على الناس بعد الظفر به ، إلا أن يعملوا به. ويمشوا فى حياتهم على سناه. لقد كان من رحمه الله بعباده أن بعث إليهم بأنبيائه ، وان تعهد شتى الأعصار و الأمطار بما أوتوا من تربيه و حكمه. والقرآن الكريم يعتبر كتاب النبوات القديمة كلها. وفى صحائفه المصونة كل ما نزل به الوحى لهداية البشر. أقامه مصالحهم فى المعاش و المعاد. وهو الوثيقة العلمية الباقية لإثبات نبوه موسى وعيسى وغيرهما. فان الأسانيد الأخرى لا يعول عليها فى وجود أولئك الأنبياء. فقد ذكر القرآن أسماء عدد كبير من الأنبياء الذين تنزل عليهم الوحى وكلفهم بالبيان عنه ، ثم قال لخاتم المرسلين: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما". وقد كان الأنبياء نماذج جيده فى التحدث عن الله بألسنتهم وكانوا قبل ذلك و بعده ، نماذج أجود فى جذب الناس إلى الله بطيب ص _043(1/34)
أنفسهم ، ونقاء معدنهم ، وصفاء سيرتهم ووصولهم فى مدارج الكمال الإنساني إلى ذروه تزرع الإعجاب فى القلوب ، وتذر الاتباع عشاقا لشمائلهم . فهم يضحون تحت أقدامهم بالنفس والنفيس عن رغبه عميقة ، وعن رضا كبير. والمرسلون جميعا من هذا الطراز السامى وان كان محمد بن عبد الله خاتم النبيين قد أوتى فى هذا المضمار حظا من المجادة والشموخ ، لا يعرف لنبى من قبل. ذلك لأن الخصائص العظيمة التى توزعت عليهم تجمعت فيه. والحكم الكثيرة التى نطقوا بها لخصت فى كتابه. فمن أراد اتباع عيسى فعليه بالقرآن. ومتبع هذا أو ذاك لا يسعه إلا الإيمان بمحمد وما جاء به محمد صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه الأنبياء. الوحى والوحى الذى تشرق به المعرفة على قلوب الأنبياء: أنواع ومراتب: يبدأ بالرؤيا الصالحة فى النوم. ورؤيا الأنبياء ليست من أضغاث الأحلام التى تترجم بها النفس عن رغباتهم المكبوتة فى صور مهوشة أو متقطعة كما يحدث لجماهير الناس . إن الكمال البشرى الذى وصل إليه النبيون يجعل قلوبهم يقظة ولو نامت أبدانهم! ص _044(1/35)
وأفئدة الأنبياء كأجهزة استقبال المعدة لالتقاط الأنباء فى كل حين ، وكهرباؤها المتألقة تسجل ما يقذف الملك فيها ثم لا تلبث تذيعه على الناس أجمعين. وكانت الرؤيا الصادقة أول مطالع الوحى فى حياه محمد صاحب الرسالة العظمى: "وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح". ومن الوحى عن طريق الرؤيا حدثت قصه إسماعيل ونزل الأمر بذبحه "فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ". وقد يكون الوحى إلهاما فى اليقظة بوساطة الملك ، ينضح به المعنى على قلب النبى فيتكلم الحق. وفى سنه النبى صلى الله عليه وسلم أمثله كثيرة لهذا الضرب من الإلهام ، سواء صرح بهذه الوساطة كما فى حديث: "هذا رسول رب العالمين جبريل نفث فى روعى انه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله و أجملوا فى الطلب". أو طوى ذكر الملك و أرسل الحديث إرسالا كما فى سنن أخرى ، وقد نزل القرآن بألفاظه ومعانيه جميعا ، فعلم منه الرسول ما لم يكن يعلم ، وكان حظ جبريل فى ذلك مجرد النقل من لدن الخبير البصير. "نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين". وقد ينزل الوحى بتكليم الله لعبده مباشرة ومن غير وساطة كما تم لموسى. ص _045(1/36)
"فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك" بيد أن تكليم الله لأنبيائه أمر لا ندرى كنهه ، وليس على النحو الذى نألفه بين المتخاطبين من تكاشف ومشافهة . بل كما قال الله تعالى: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم * وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم". و التصديق بمبدأ الوحى ليس مما يتعاظم على العقول إدراكه وشبه الماديين حوله تتساقط من تلقاء نفسها ، ما دمنا قد اعترفنا بأن الله الحق ، ووجوده فوق الريب ، وإن له جل شأنه أن يصطفى من عباده من يبلغ عنه مراده - ومن يتعهد به الأمم الشاردة. ويخرجها من الظلمات إلى النور! حاجة العالم للرسل وحاجة العالم إلى الرسل ماسة ،فلو تركت أزمة الفكر الإنساني للاجتهاد المحض ، لضل الناس رشدهم ، و لما اتفقوا على حقيقة واحدة تصلح حالهم ومالهم. ص _046(1/37)
ونحن ننظر فى تاريخ الأرض القريب و البعيد . فلا نجد مثابة تفزع إليها الشعوب ، وتلتمس فى ظلالها الخير و البركة ، إلا تعاليم الأنبياء! هذه التعاليم منها ما يعجز العقل عن ابتداعه لو ترك وحده! ومنها ما يمكن أن يصل إليه بعد لأى وتجارب مريرة ، ومع ذلك يكون تصوره لها غامضا ، وفكرته عنه منقوصة. ومن ثم فان بعثه الرسل كانت ضرورة إنسانية لتجنيب العالم متاعب الضرب فى بيداء طامسة. وقد أدى الرسل واجبهم فى قيادة الفكر و القلب ، وورثوا الأجيال المتعاقبة حقائق الإيمان بالله ، سهله غضه ، لا تحس وأنت تتناولها من أيديهم الطاهرة ، بهذا الكلال العقلى العنت الذى يصاحب دائما أفكار الفلاسفة فى تصويرهم لأسرار الوجود. وكما عرفنا عن طريق الرسل مبدأ الإيمان بالله ، وعرفنا كذلك الإيمان باليوم الأخر وما يسبقه ويلحقه من حساب وثواب وعقاب عرفنا ذلك على جهة اليقين الجازم. ولولا بلاغ الوحى. لعجز العقل المجرد عن فهم النهاية المرتقبة لعالمنا الزاخر. وظيفة الرسل وليست وظيفة الرسل مقصورة على هذا الإرشاد العقلى إلى حقائق الحياة! بل إنها تمتد إلى تربيه الأصحاب و الأتباع على هذه المبادئ. والتربية كالذوق شئ ليس فى الكتب. ص _047(1/38)
إنها ليست حشو الأذهان بالمعلومات ، ولا قيادة بالأوامر الجافة . بل إن التربية الدينية التى تولاها الأنبياء ، وكتبوا بها صحائف فى التاريخ ـ تقوم على إحداث تغيير نفسانى عميق ، يشبه تغير الطين بعد نفخ الروح فيه . ووظيفة الرسالة تقوم على إسداء العون و النصح للفرد و الجماعة فى كل ناحية ! فهو يسكب من طهارة قلبه على اوضار القلوب فيغسلها ، وهو يشعل من تألق عقله أفكار الخابية فيضيئها ، ثم يبعثها هى الأخرى لتضئ و تهدى . العصمة حياة الأنبياء تحلق فى مستوى من الكمال لا تهبط عنه أبدا . إن مقام الإحسان ـ وهو آخر ما يصل إليه الناس بعد الجهد والمران ـ هو المرتبة الدنيا للأفق الذى يعيش الأنبياء فيه ، إذ يستحيل فى حقهم أن يسقطوا دونه . وقد قرر علماء المسلمين إن العصمة واجبه لرسل الله كافة ، فلا يليق أن تصدر عن أحدهم كبيرة لا قبل البعثة ولا بعدها ، ولا تصدر من أحدهم صغيره تخل بالمروءة أو تسقط الاعتبار . وقد تقع منهم أخطاء يعاتبون من الله عليها ، ويوفقون إلى الصواب فيها . ص _048(1/39)
ولكن هذه الأخطاء لا تتصل بأمور اعتقاديه ، أو خلقية مما يعد الوقوع فيه أمرا شائنا . بل مكان ذلك الأمور التقديرية التى تتفاوت فيها الأنظار عادة من شئون الدنيا ، وسياسات الأمم . وقد يعتبر الأنبياء أنفسهم مقصرين فى حق الله ، لأنهم أعرف الناس به ، وبجلال ذاته ، وعظمة حقوقه على عبادة ، وبقصور الهمم مهما بذلت من الوفاء بما ينبغى له . وإذا كانوا يعدون ذلك ذنوبا تتطلب الاستغفار ، فليس استغفار الأنبياء عن مثل ما نقارف من خطايا ، أو نرتكب من سيئات . المعجزة من حق الناس أن يسألوا كل رجل يقول : انه مرسل من عند الله ، ما دليلك على صدق قولك ؟ فإذا قدم لهم الدليل المقنع على صحة رسالته قبلوه واستمعوا له . وقد جاء صالح إلى ثمود يخبرهم أنه نبى من عند الله . ثم يصيح فيهم (فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون). ولكن ثمود رضوا هذا النصح وطالبوا صالحا بالبرهان على أنه ليس شخصا عاديا . (قالوا إنما أنت من المسحرين * ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين * قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم * ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم " . ص _049(1/40)
فكان طلب ثمود معقولا. ولذلك جاءت الإجابة سريعة ، وكانت الطريقة التى وجدت وعاشت بها هذه الناقه خارقة لما تعارف عليه القوم ، ودل محياها على أنه أثر لقدرة عليا لا لقدرة الناس المعتادة . وهذا النوع من الاستدلال يقوم على تفهيم الناس أن الشخص الذى يحدثهم لا يمثل نفسه ، ولكن يمثل رب الأرض و السماء . وقد فزع موسى إلى هذا الدليل لما كذبه فرعون فى دعواه أنه مرسل من رب العالمين ، وتهدده . قال : " لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أولو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ". وكذلك صنع عيسى عليه السلام عندما عرض نفسه على بنى إسرائيل فنبأهم انه رسول من عند الله تعالى ـ ثم سرد أدلته على رسالته . " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . " وقد كان التعويل فى العصور الأولى على الخوارق المادية فحسب ، أما ما تضمنته الأديان من حقائق فكانت منزلته ثانوية . ص _050(1/41)
حتى جاء الإسلام ، فغض من شأن الأعجاز المادى ، ونوه بالإعجاز العقلى و القيم المعنوية للرسالات ، وقرر إلى جانب ذلك أن الخوارق التى دعمت بها الديانات القديمة لم تمنع التكذيب بها أولا فلا معنى لطلب التصديق بها أخيرا. " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ". القرآن ولذلك تقرر أن تكون المعجزة الكبرى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه فى هذا القرآن الكريم . فيه كان التحدى ، وعليه كان الرسول يعتمد فى سيرته مع خصومه ، وأصحابه طول حياته . ومن بعدة ظل القرآن كتاب الإسلام الناطق بدعوته و حجته معا .... إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تثبت فى طريق الرسول أنواعا من الخوارق المادية التى أيد الله بها النبيين الأولين . ولكن الدرجة الأولى فى هذه المعجزات كانت للقرآن الكريم . النبوة و العبقرية لئن كانت العبقرية امتدادا فى مواهبه واحدة أو فى جملة مواهب ، فالنبوة امتداد فى المواهب كلها ، واكتمال عقلى وعاطفى وبدنى وعصمة من الدنايا ورسوخ فى الفضائل ، وعراقة فى النبل و الفضل ؟ ص _051(1/42)
هم الرجال المصابيح الذين هم كأنهم من نجوم حيه صنعوا أخلاقهم نورهم من اى ناحية أقبلت تنظر فى أخلاقهم سطعوا فالذين يرشحون للنبوة يصطفون لها اصطفاء ، قلوب نقية تربطها بالملأ الأعلى أواصر الطهر و الصفاء ، وعقول حصيفة ناضجة، لا تنخدع عن حقائق الأشياء ، وأجساد مبراة من العلل الخبيثة ، و الأمراض المشوهة ، وصله بالناس قوامها الخير و البر . ثم أن الرسل أمناء على الوحى السماوى ، والهداية الإسلامية . درجات الرسل وأقدار الرسل تتفاوت سناء و سموا . فالرسل فى قبيلة محدودة افضل منه الرسول لمدينه فيها مائه ألف أو يزيد ، وافضل من هذا الرسول لشعب بأسره ، وصاحب الكتاب المستقل افضل ممن يحكم بشريعة سابقه ! ولا نزال نرقى فى مراتب العظمة ، ولا نزال نحلق نحو القمة ، ولا نزال نقطع أشواطا بعد أشواط فى مدارج الكمال البشرى حتى نصل إلى مستوى دونه تنحسر أبصار العباقرة مهما طمحت وتتطامن عنده أقدار الأنبياء مهما عظمت ، لنجد صاحب الرسالة العظمى إلى خلق الله قاطبة ، ملتقى الفضائل المشرقة ، ومظهر المثل العليا التى صورتها الخيالات ، ثم صاغها الله أنسانا يمشى على الأرض مطمئنا . ذلكم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم ، وذلكم هو منزله بين عباقرة الأرض وأمناء الوحى . كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء ص _052(1/43)
إن الله عز وجل فى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من شارات السيادة والنبالة ما تفرق فى النبيين من قبل. ولقد ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبيا فيهم أولوا العزم وأصحاب الرسالات الأولى ثم قال: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" فمبلغ العلم فيه انه بشر وانه خير خلق الله كلهم الإيمان بالنبوات كلها جعل الله عز وجل التصديق برسله كلهم ركنا فى الدين ، وقرن أسماءهم بذاته المقدسة ، فأصبح الإيمان بهم متمما للإيمان به. "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله". والإيمان بمحمد رسول الله هو الشطر الثاني من شهادة الإسلام ، لا يصح إيمان إلا به. والارتباط بالرسل ليس تعلقا بأشخاصهم من الناحية البشري البحتة ، بل هو ارتباط بالوحى الذى شرفوا به ، والأسوة التى تؤخذ منهم . ومن ثم يقول الرسول الكريم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". ثم إن الله لما ضم الإيمان برسله إلى الإيمان به ، جعل الكفر بواحد منهم كفرا به جل شأنه ، وكفرا بهم جميعا: ص _053(1/44)
"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا * والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما". ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين اكمل الله به صرح النبوات وأتم به حقيقة الرسالات؟ "إن مثلى ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". والحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيدنا محمد رحمه الله المهداة إلى الخلق أجمعين.
ص _003(1/45)
بسم الله الرحمن الرحيم الشهادتان لا إله إلا الله.. محمد رسول الله النطق بهما، ثم التعرف على ما تدلان عليه هو أولى معالم الطريق إلى دخول الإنسان فى دين الله.. الإسلام ولأن "الشهادتين" ليستا سوى كلمات فقد كان من الضرورى والمفيد معا أن يتولى الراسخون فى العلم شرح مضمونهما وتعريف من ينطقهما بما تدلان عليه. وقد كانت الكلمتان على بساطتهما وقلة ألفاظهما مثار جدل طويل وتدافع لم ينقطع بعد بين دعاة الفكر المادى الذين ينكرون أن للكون إلها خلق فسوى وقدر فهدى والذين يزعمون أن الوجود أنشأ نفسه أو قام على ((الصدفة)) وبين دعاة الإيمان الذين استقامت فطرتهم فشعروا بهديها أن لهذا الكون خالقا أعظم أحكم صنعه وتدبيره ، ثم كانت رسائل السماء وفى قمتها الرسالة الخاتمة بالقرآن الكريم مددا ربانيا علمهم ما لم يكونوا يعلمون ووضع بين أيديهم من دلائل وجود الخالق وتفرده بالهيمنة المقتدرة على الكون كله ما فيه ومن فيه فأدركوا وعلموا واستيقنوا فآمنوا، ولم يلبثوا إيمانهم بشك ولا ريبة. وهذا الكتاب الذى يقدمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بجمهورية مصر العربية إنما هو دليل من أدلة الفقه الصحيح لقضية التوحيد تعرض في بساطة رائعة بساطة العقيدة الدينية كما يراها الإسلام بعيدا عن جحود ((الماديين)) وتعقيدات المتشددين، نرجو أن يكون فيها التصور السهل لهذه القضية التى عقدها المحدثون والمتفلسفون، بينما أدركها البدوى بفطرته حين نظر فى ((الخلق)) وقال ((كل الخلق لابد لهم من خالق)). والله ولى التوفيق
ص _005
بسم الله الرحمن الرحيم (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) صدق الله العظيم(1/46)