................... الإمامة والنص .................
............... بسم الله الرحمن الرحيم .............
..................... فيصل نور ...................
الإهداء
شر الأزمنة أن يتبجّح الجاهل، ويسكت العاقل
ولكنَّ القبة الجوفاء لا ترجع غير الصدى..
فإلى القباب غير الجوفاء أهدي هذا الكتاب .(1/1)
تقريظ بقلم الشيخ/ سعد الحميِّد حفظه الله
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن من الأمور التي يبغضها الله لأهل الإسلام: الفرقة والاختلاف؛ كما قال سبحانه: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ)) [آل عمران:105].
ومن المعلوم أن أعظم اختلاف وافتراق وقع في الإسلام ذاك الاختلاف الذي وقع بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم بعد وقعة صفِّين، فإن الناس انقسموا فيه إلى ثلاث فرق:
(1) أهل السنة وهم جمهور الناس.
(2) الشيعة.
(3) الخوارج.
وكل غيور على دين الله ينفر من الاختلاف ويكرهه، ويسعى إلى دَرْئه ما استطاع، ومن ذلك: نصح الفرق المخالفة للسنة، وإقامة الحجة عليهم، وبيان الحق لهم، والرد على شبههم، كل ذلك بالرفق واللين والشفقة، وإظهار النصح؛ كما قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125]، وينبغي أن يكون هذا منهجاً حتى مع أهل الكتاب، كما قال سبحانه: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) [العنكبوت:46]، وكلما تسلّح الداعي إلى الله بسلاح العلم، وصاحبه حسن الأداء؛ كان ذلك أنفع بإذن الله.(1/2)
وهنا ننبه إخواننا الذين يناظرون بعض أفراد الفرق المخالفة للسنة وبضاعتهم في العلم مزجاة أن يكفّوا عن ذلك؛ لأن ما ينشأ عن تلك المناظرات من المفاسد أعظم مما يلحق من النفع على الطرفين: أهل السنة، ومخالفيهم. فالمخالف يظن أنه على الحق، واستطاع أن يدفع حجج السُّنِّي، وأهل السنة ربما فُتن بعضهم ممن لا علم عنده بسبب ما رأى من آثار المناظرة.
كما ننبه إخواننا -أيضاً- على ضرورة إخلاص النية في مناظرة المخالف، فلا يكون هدفنا العصبية المصحوبة بالتعيير، والسب، والخصومة، بل النصح ومحبة الهداية للمدعو، ولنتذكر قصة ذاك النبي الذي أدماه قومه وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وكذا نبينا صلوات الله عليه وسلامه، وقد بلغ به من شدة قومه أن يخرج من مكة من شدة الغمّ، فما يفيق إلا بقرن الثعالب، ويأتيه ملك الجبال فيخاطبه بقوله: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فيقول صلى الله عليه وسلم: لا، إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.
وهذا الجهد الذي يقدمه الأخ الفاضل: فيصل نور (الإمامة والنص) واحد من الجهود المبذولة لنصح أشد الطوائف مخالفة لأهل السنة (الشيعة) ويمكن أن يستفيد منه طالب العلم من أهل السنة ممن له دعوة في صفوف الشيعة؛ لأنه سلاح قائم على الحجة والبرهان؛ في مناقشتهم في قضية الإمامة التي هي من أهم ركائز الخلاف بين الشيعة والسنة.
فمتى كان النص على إمامة علي رضي الله عنه؟
وهل نص الله في القرآن على إمامته رضي الله عنه إذا كانت بهذه الأهمية التي تفوق أهمية الصلاة والزكاة وغيرهما من شرائع الإسلام المذكورة في القرآن؟
وهل دلَّت رواية صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الإمامة؟
وهل كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون هذه الإمامة؟
سيجد القارئ لهذا الكتاب عرضاً علميِّاً لهذه القضايا، وموثَّقَا من كتب الشيعة أنفسهم، بما يعود بالنفع على قارئه بإذن الله.
فنسأل الله تعالى أن يجزي أخانا: فيصل نور خير الجزاء على هذا العمل، وأن يعينه على المضيّ في هذا الطريق لإفادتنا بأعمال أخرى في هذه القضايا التي تحتاجها الأمة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وكتبه:
سعد بن عبد الله الحميّد
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
9/1/1424هـ(1/3)
تقريظ بقلم الشيخ/ عثمان الخميس حفظه الله
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وخليله المجتبى محمد بن عبدالله القائل: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
فهذه الطائفة ظاهرة منصورة، بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان، وما زال المسلمون من أهل السنة والجماعة يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم في ميادين الوغى، ويجاهدون كذلك أعداء الدين من الكفار والمنحرفين، يجاهدونهم بالحجة والبيان؛ إظهاراً للحق، وقمعاً للباطل، وبياناً لزيف قولهم، وخطل رأيهم.
ولقد سرَّني ما طالعته في كتاب: (الإمامة والنص) للأخ الفاضل: فيصل نور، فوجدته كتاباً قيماً نافعاً، حرص فيه مؤلفه على حسن العرض، وسهولة العبارة، ولين الكلام، وقوة الحجة؛ وذلك من خلال إبطاله لمسألة طال حولها الجدل، وهي (مسألة الإمامة) فذكر الأدلة من كتب الشيعة الاثني عشرية، وردَّ عليها كذلك من كتبهم؛ سواء من الكتاب أو السنة، أو أقوال الأئمة الاثني عشر، ثم أتبع ذلك بالكلام عن مكانة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الاثني عشر.
فجاء كتاباً حافلاً لا يستغني عنه طلبة العلم؛ بل ولا العلماء.
وأخيراً: أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهود أخينا الفاضل فيصل نور، وأن يضاعف له الأجر، كما أتمنى أن يستمر الأخ فيصل في التأليف والكتابة، عسى الله أن ينفع به، وأن يوفقه إلى ما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه:
عثمان بن محمد الخميس(1/4)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فلعل أول خلاف ظهر بين المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو اختلافهم في موته، فقد زعم بعضهم أنه لم يمت بل رُفع إلى السماء كما رُفع المسيح عليه السلام، حتى أزال الصديق رضي الله عنه ذلك بقوله: (من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وتلا عليهم قول الله عز وجل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144] وقوله تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) [الزمر:30].
ثم اختلفوا في موضع دفنه صلى الله عليه وسلم، حيث أراد المهاجرون رضي الله عنهم رده إلى مكة حيث ولد، وأراد الأنصار رضي الله عنهم دفنه في المدينة حيث دار هجرته وأنصاره، واختلفوا في جعل ذلك في البقيع أو صحن الدار، ورأى آخرون نقله إلى بيت المقدس حيث موضع دفن الأنبياء ومعراجه إلى السماء.(1/5)
ثم زال ذلك بما روي عن الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما قبض الله نبياً إلا دفن في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)، أو ما رواه القوم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الله لم يقبض نبيه إلا في أطهر بقاع الأرض)، فينبغي أن يدفن في البقعة التي قبض فيها.
وفي رواية: (إن الله لم يقبض نبياً في مكان إلا ارتضاه لرمسه فيه، وإني دافنه في حجرته التي قبض فيها) فرضي المسلمون بذلك(1).
ثم اختلفوا بعد ذلك في الإمامة، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ووقعوا في شبهة جواز استخلاف خليفة منهم، وتوسط بعضهم وقال: منا أمير ومنكم أمير، ورشحوا رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري، ثم عادوا عن دعواهم لما أدركهم الصديق رضي الله عنه وأخبرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، فبايع من كان في السقيفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ثم كانت البيعة العامة في المسجد، وتأخر عن بيعته جماعة فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم بايعوا جميعاً، وفي ذلك كان يقول علي رضي الله عنه: (إن الله سبحانه بعث محمداً فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلكة، وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدَّى ما عليه، فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعَدَلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بالأمر، فغفرنا ذلك لهما).
وفي موطن آخر قال: (ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرَين منهم صالِحَين أحييا السيرة ولم يعْدُوَا السنة، فتولى أبو بكر تلك الأمور وسدد وقارب واقتصد، وتولى عمر الأمر فكان مرضيّ السيرة ميمون النقيبة).
__________
(1) إعلام الورى: (144)، البحار: (22/518، 525، 529، 534، 536)، المناقب: (1/240)، تهذيب الأحكام: (6/2)، كفاية الأثر: (304)، كشف الغمة: (1/19) وفيه: واختلف أهل بيته وأصحابه في دفنه.(1/6)
وكان رضي الله عنه يؤكد شرعية بيعتهم بهذا الاستخلاف القائم على الشورى والبيعة، ويرى أن ذلك كان لله رضاً، وبها كان يستمد شرعية خلافته ويؤكدها عندما اضطربت عليه الأمور، لا باعتبار نصوص مزعومة ادعاها له بعض من انتسب إليه، ففي أحد كتبه إلى معاوية -مثلاً- قال: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد؛ فإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، ويصليه جهنم وساءت مصيراً)(1).
وهكذا كان الأمر، وبقي الناس على ذلك حتى من رواد الشيعة الأوائل، فرغم تفضيلهم له على الشيخين رضي الله عنهما؛ إلا أنهم لم ينكروا فضلهما، ولم ينتقصوا من شأنهما(2).
إلى أن وقعت الفتنة التي أعقبت مقتل ذي النورين رضي الله عنه؛ فبدأ الانحراف في عقيدة التشيع لعلي رضي الله عنه يتبلور ويأخذ مناحيَ عدة، فمن القول بأحقيته بالإمارة دون معاوية، ثم إلى القول بتقديمه على عثمان رضي الله عنه وتفضيله عليه، ثم القول بتقديمه على من سبقه من الخلفاء، إلى القول بالنص عليه من الله ورسوله، وأن من سبقه إنما كان مغتصباً للخلافة، ثم أفضى بهم هذا القول إلى الاعتقاد بردة الصحابة رضوان الله عليهم وكفر من تولاهم، والقول بتحريف القرآن وصرفه وتأويله، ورد كل ما خالف هذا المعتقد من آيات وأحاديث وآثار.
وهذا -كما ترى وتلاحظ- يدل على أن الأمر تطور كثيراً عما كان عليه في البداية، وخرج عن الاعتدال إلى الغلو والانحراف على مراحل تستدعي كثيراً من التأمل لمعرفة دوافع ذلك ومن كان وراءه.
__________
(1) سيأتي تخريج هذه الروايات من طرق الشيعة في الباب الثالث.
(2) وقد أقر القوم بذلك، انظر مثلاً: هوية التشيع: (37)، فرق الشيعة: (22).(1/7)
وساعد القوم في ترسيخ معتقد النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمورٌ، منها: كثرةُ الرواياتِ في مناقبه وفضائِله، وهي التي أظهرها الصحابة رضي الله عنهم في زمن الفتنة التي عاشها علي رضي الله عنه، والتي كثر فيها أعداؤه والخارجون عليه والطاعنون فيه، فأظهر الصحابة رضي الله عنهم ما كان عندهم من أحاديث تبين فضله وترد كيد أعدائه، ولم يكن الأمر كذلك في حق من سبقه من الخلفاء رضي الله عنهم؛ لعدم وقوع ما يستلزم بيان فضلهم وإخراج مناقبهم.
إلا أن فساد الاستدلال بهذه المرويات لإثبات إمامته دفع القوم إلى وضع مئات الروايات في تأييد ما ذهبوا إليه من عقائد، فكان أن تسرب الكثير من هذه الروايات وانتشر في مصادر المسلمين لأسباب سنأتي على ذكرها في الكتاب، واستأثروا هم بألوف أخرى أصبحت مع مرور الزمن من ضروريات مذهب التشيع، وهذه الروايات حوتها بطون مصادرهم التي تداولوها بمنأى عن سائر المسلمين، وفيها من بذور هدم عقائدهم الكثير.
فكانت هذه الحقيقة -أي: تعذر الوقوف على مصادر القوم الأصلية- سبباً في تيسير أرضية خصبة للقوم، وذلك بإلزام خصومهم ومخالفيهم بما ألزموا أنفسهم به بزعمهم، وذلك بإيراد ما ظنوا أنها حجج وبراهين من بطون كتب مخالفيهم، دون بيان أسباب وجود أمثال هذه المرويات في مصنفاتهم أو حقيقتها، مما لُبِّس الأمر على أتباعهم فضلاً عن سائر من لم يتسن لهم معرفة هذه الحقائق من المسلمين.
ولم يكن بوسع علماء أهل السنة والجماعة أن يردوا عليهم إلا بما حوته كتبهم -أي: كتب أهل السنة- من دلائل تخالف معتقدات القوم، فتجد مثلاً مصنفاتهم كـ(منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو من أعظم الردود عليهم، فإنه يكاد يخلو من إيراد ما يلزم القوم من مصنفاتهم، لا أقل من رواية واحدة من عمدة القوم في إثبات عقائدهم، ألا وهو كتاب (الكافي) للكليني، مما يبين لك ما كان عليه الأمر من خفاء تلك الكتب، فكان أن أبى القوم هذه الردود عبر التاريخ متذرعين بقواعد علمية، مثل قولهم: إن المذاهب لا تُؤخذ إلا من كتبها، ويجب إلزام الخصوم بما ألزموا أنفسهم به، وغيرها.(1/8)
ونحن نزلنا عند رغبة القوم، ووضعنا كتابنا الموجز هذا عن مسألة (الإمامة والنص) من كتبهم وطرقهم، وكما هو واضح من عنوانه، فلن نتعرض فيه إلى الجوانب العقلية، ولن نضطر إلى إيراد أي رواية -ولو واحدة- من طرق مخالفيهم في المذهب ولله الحمد.
وسنلتزم بالإيجاز الشديد في جميع أبوابه الأربعة، والتي جعلنا الأول منها في ذكر عقيدة القوم في الإمامة وبيان منزلتها، ثم ذكر النصوص الدالة على هذا المعتقد، وبيان الاضطراب الشديد فيها من جهة كونها دالة على انتفاء النص لا إثباته، دون الالتزام بصحتها أو ضعفها، أو قبول دلالتها أو عدم قبولها، حسب المعايير المعتبرة في التوثيق عند الفريقين.
ثم نتطرق في الباب الذي يليه إلى ذكر عقيدة الإمامة من القرآن، وبيان أنه لم يرد فيه ذكر لهذا المعتقد، وموقف القوم من هذه الحقيقة.
ثم نتكلم في الباب الثالث -وهو أهم أبواب الكتاب- عن الروايات التي يستدل بها الشيعة على إثبات النص على إمامة علي رضي الله عنه، وسنورد فيه جميع الروايات التي وقفنا عليها من طرق القوم، وندرس أسانيدها، ونرى هل يثبت منها شيء؟
وكل ذلك بمقاييسهم في علم الحديث والجرح والتعديل من كتبهم الرجالية، ثم نتكلم في هذه الاستدلالات.
ونختم الأبواب بذكر الصحابة رضوان الله عليهم، وبيان فضائلهم ومنزلتهم من القرآن والسنة وأقوال أئمة الشيعة، وموقف القوم من هذه الدلائل، وبيان استحالة التوفيق بين هذا وبين القول بمخالفتهم للنصوص المزعومة في إمامة علي رضي الله عنه وتصرفهم في الأرض دونه.
ونسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فيصل نور
1416هـ(1/9)
الباب الأول : متى كان النّص؟
متى كان النص:
يعتقد الشيعة أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنها مثلها لطفٌ من الله عز وجل، ولا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى، وليس للبشر حق اختيار الإمام وتعيينه، بل وليس للإمام نفسه حق تعيين من يأتي من بعده.
وقد وضعوا على لسان أئمتهم عشرات الروايات في ذلك، منها ما نسبوه إلى الإمام محمد الباقر رحمه الله أنه قال: أترون أن هذا الأمر إلينا نجعله حيث نشاء؟ لا والله، ما هو إلا عهد من رسول الله، رجل فرجل مسمى حتى تنتهي إلى صاحبها.
وفي أخرى نسبوها إلى ابنه جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: إن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود لرجلٍ مُسمى ليس للإمام أن يزويها عمن يكون من بعده(1).
__________
(1) البصائر: (472)، البحار: (23/87، 70، 71، 75، 139)، الكافي: (1/278)، كمال الدين: (128)، قرب الإسناد: (154)، بصائر الدرجات: (470)، غيبة النعماني: (34)، إثبات الهداة: (1/85، 569)، وللمزيد انظر إن شئت: البصائر: (470)، وما بعدها، وفيها (14) رواية، البحار: (23/66)، باب: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص، وفيه (25) رواية، الكافي: (1/277)، باب: إن الإمامة عهد من الله معهود من واحد إلى واحد، وفيه (4) روايات، الإمامة والتبصرة: (165)، باب: إن الإمامة عهد من الله، وفيه (4) روايات.(1/10)
ويعتقد الشيعة الاثنا عشرية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على الأئمة من بعده، وعينهم بأسمائهم، وهم اثنا عشر إماماً لا ينقصون ولا يزيدون، وهم:
1- علي بن أبي طالب [المرتضى - أمير المؤمنين] 23 قبل الهجرة - 40 هـ.
2- الحسن بن علي [الزكي - المجتبى] 2-50 هـ.
3- الحسين بن علي [سيد الشهداء] 3-61 هـ.
4- علي بن الحسين [زين العابدين - السجاد] 38-95 هـ.
5- محمد بن علي [الباقر - أبو جعفر] 57-114 هـ.
6- جعفر بن محمد [الصادق - أبو عبدالله] 83-148 هـ.
7- موسى بن جعفر [الكاظم - أبو الحسن - أبو الحسن الأول - أبو الحسن الماضي - أبو إبراهيم] 128-183 هـ.
8- علي بن موسى [الرضا - أبو الحسن الثاني] 148-203 هـ.
9- محمد بن علي [الجواد - أبو جعفر الثاني] 195-220 هـ.
10- علي بن محمد [الهادي - العسكري] 212-254 هـ.
11- الحسن بن علي [العسكري - أبو محمد] 232-260 هـ.
12- محمد بن الحسن [المهدي - الحجة - القائم - الغائب - المنتظر]256-؟
نماذج من روايات الشيعة في النص على أئمتهم الاثني عشر:
لقد وضعوا في ذلك مئاتِ بل ألوفَ الروايات، ونسبوها إلى الله عز وجل، وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى صحابته رضوان الله عليهم، وإلى أئمتهم.
ومنها: روايتهم عن الباقر أنه قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب؟
فقال جابر: أشهد أني دخلت على أمك فاطمة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهنأتها بولادة الحسين، ورأيت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنه من زمردة، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي أنت وأمي يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا اللوح؟(1/11)
فقالت: هذا اللوح أهداه إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه اسم أبي، واسم بعلي، واسم ابني، واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك. قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة، فقرأته واستنسخته، فقال: فهل لك يا جابر أن تعرضه عليَّ؟
قال: نعم، فأخرج الباقر صحيفة من رق، فقال له: يا جابر، انظر في كتابك لأقرأ عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه الباقر، فما خالف حرف حرفاً، فقال جابر: أشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله العزيز العليم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين، من عند رب العالمين.. إلى أن قال: إني لم أبعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصياً، وإني فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسناً معدن علمي بعد استكمال مدة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي، وأكرمته بالشهادة(1)، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة، وجعلت كلمتي التامة معه، وحجتي البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب، أولهم سيد العابدين، وزين أوليائي الماضين، وابنه شبيه جده المحمود، محمد الباقر علمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد على الحق، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر، ولأسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، أتيحت بعده لموسى فتنة عمياء حندس، لأنّ خيط فرضي لا ينقطع، وحجتي لا تخفى، وإن أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد منهم واحداً فقد جحدني نعمتي، ومن غيَّر آية فقد افترى عليَّ، ويلٌ للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي، وحبيبي وخيرتي في علي وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت
__________
(1) في الرواية دليل على أن مقتله رضي الله عنه شهادة وإكرام وسعادة، وهذه تتعارض مع الشعائر الحسينية التي تقام في عاشوراء ندماً على مقتله.(1/12)
مستكبر يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح، إلى جنب شر خلقي، حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده، ووارث علمه، فهو معدن علمي، وموضع سري، وحجتي على خلقي، لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم للسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن، وأكمل ذلك بابنه محمد رحمة للعالمين(1).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربي جل جلاله، فقال: يا محمد، إني اطلعت على الأرض اطلاعةً فاخترتك منها، فجعلتك نبياً، واشتققت لك اسماً من أسمائي، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم اطلعت ثانية فاخترت منها علياً، فجعلته وصيك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريتك، وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا العلي الأعلى وهو علي، وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضتُ وِلايتَكم على الملائكة، فمن قبلها كان عندي من المقربين.
يا محمد، لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي، ولا أظللته تحت عرشي.
__________
(1) الكافي: (1/527)، عيون أخبار الرضا: (1/48)، غيبة الطوسي: (101)، الاحتجاج: (41)، إعلام الورى: (371)، غيبة النعماني: (29)، الإرشاد: (262)، الاختصاص: (210)، المناقب: (1/297)، كمال الدين: (290)، أمالي الطوسي: (182)، إثبات الهداة: (1/454، 459، 470، = = 558، 651)، البحار: (36/195، 202)، منتخب الأثر: (133)، إرشاد القلوب: (290)، جامع الأخبار: (18).(1/13)
يا محمد، أتحب أن تراهم؟ قال: نعم يا رب، فقال عز وجل: ارفع رأسك، فرفعت رأسي، فإذا أنوار علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن الحسين، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، ومحمد بن الحسن القائم في وسطهم كأنه كوكب دري، فقلت: يا رب، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين(1).
وفي رواية قال: ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله إليَّ أن سَلْ من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بعثوا؟ قلت: على ما بعثتم؟
قالوا: على نبوتك، وولاية علي بن أبي طالب، والأئمة منكما، ثم أوحى إليَّ أن التفت عن يمين العرش، فالتفت فإذا علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والمهدي في ضحضاح من نور يصلون(2).
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59] فقلت: يا رسول الله، عرفنا الله ورسوله، فمن أولوا الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟
__________
(1) عيون الأخبار: (1/61)، كمال الدين: (240)، غيبة الطوسي: (103)، إثبات الهداة: (1/476، 549، 579)، البحار: (36/216،245،262،280)، غيبة النعماني: (45)، منتخب الأثر: (104، 110، 119).
(2) إثبات الهداة: (1/652)، منتخب الأثر: (112)، البحار: (15/247) (18/297) (26/301) (27/200) (36/216) (262).(1/14)
قال: هم خلفائي يا جابر، أئمة المسلمين بعدي، أولهم: علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا أدركته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي وكنيتي حجة الله على أرضه، وبقيته في عباده، ابن الحسن بن علي(1).
وعن الرضا قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: من سرَّه أن يلقى الله عز وجل وهو مقبل عليه ليس بمعرض عنه فليتولَّ علياً، ومن سرَّه أن يلقى الله وهو راضٍ عنه فليتولَّ ابنك الحسن، ومن أحب أن يلقى الله لا خوف عليه فليتولَّ ابنك الحسين، ومن سرَّه أن يلقى الله وهو ممحو عنه ذنبه فليتولَّ علي بن الحسين السجاد، ومن سرَّه أن يلقى الله قرير العين فليتولَّ محمد بن علي الباقر، ومن أحب أن يلقى الله وكتابه بيمينه فليتولَّ جعفر بن محمد الصادق، ومن أحب أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتولَّ موسى الكاظم، ومن أحب أن يلقى الله وهو ضاحك مستبشر فليتولَّ علي الرضا، ومن أحب أن يلقى الله وقد رفعت درجاته وبدلت سيئاته حسنات فليتولَّ محمداً الجواد، ومن أحبَّ أن يلقى الله وهو من الفائزين فليتولَّ علياً الهادي، ومن أحبَّ أن يلقى الله وهو من الآمنين فليتولَّ الحسن العسكري، ومن أحب أن يلقى الله وقد كمل إيمانه وحسن إسلامه فليتولَّ الحجة صاحب الزمان المنتظر(2).
__________
(1) كمال الدين: (241)، إثبات الهداة: (1/501) (665)، منتخب الأثر: (101)، البحار: (23/289) (36/250)، المناقب: (1/282)، نور الثقلين: (1/499).
(2) الروضة: (38)، الفضائل: (175)، إثبات الهداة: (1/524)، منتخب الأثر: (120)، البحار: (27/108) (36/296).(1/15)
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فقد الشمس فليتمسك بالقمر، ومن فقد القمر فليتمسك بالفرقدين، فإذا فقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة بعدي، فسألته عن ذلك، فقال: أنا الشمس وعليٌّ القمر، فإذا فقدتموني فتمسكوا به بعدي، وأما الفرقدان فالحسن والحسين، إذا فقدتم القمر فتمسكوا بهما، وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة بعدي، أئمة أبرار، عدد أسباط يعقوب وحواريي عيسى، قلت: فسمهم لي يا رسول الله؟ قال: أولهم وسيدهم علي بن أبي طالب وسبطاه، وبعدهما زين العابدين، وبعده محمد بن علي باقر علم النبيين، والصادق جعفر بن محمد، وابنه الكاظم سميّ موسى بن عمران، والذي يقتل بأرض الغربة على اسم ابنه محمد، والصادقان: علي والحسن، والحجة القائم المنتظر(1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا حسين، أنت الإمام ابن الإمام أبو الأئمة، تسعة من ولدك أئمة أبرار... إلى أن قال: ووضع يده على كتف الحسين، وقال: يخرج من صلبه رجل مبارك سميُّ جده علي، ويخرج من صلب علي ولد سميي وأشبه الناس بي، يبقر العلم بقراً، ويخرج الله من صلبه كلمة الحق، يقال له: جعفر، صادق في قوله وفعله، الراد عليه كالراد عليَّ، ويخرج الله من صلب جعفر مولوداً نقياً طاهراً سميَّ موسى بن عمران، ويخرج من صلب موسى علي ابنه يدعى بالرضا، موضع العلم، ومعدن الحلم، ويخرج من صلب علي ابنه محمد المحمود، أطهر الناس خلقاً وأحسنهم خلقاً، ويخرج من صلب محمد علي ابنه، طاهر الجنبة، صادق اللهجة، ويخرج من صلبه الحسن الميمون، التقي الطاهر، الناطق عن الله، أبو حجة الله، ويخرج من صلب الحسن قائمنا أهل البيت(2).
__________
(1) كفاية الأثر: (6)، إثبات الهداة: (1/576)، البحار: (36/289)، منتخب الأثر: (100).
(2) كفاية الأثر: (11)، إثبات الهداة: (1/581)، البحار: (36/313).(1/16)
وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن جبرئيل أخبره أن الأمة تقتل الحسين وينتقم الله منهم بقائمكم أهل البيت، فقال: ومن قائمنا أهل البيت؟ فقال: هو التاسع من ولد الحسين، كذا أخبرني ربي أنه سيخلق من صلب الحسين ولداً وسماه عنده علياً، ثم يخرج من صلب علي ابنه، وسماه عنده محمداً، ثم يخرج من صلب محمد ابنه وسماه عنده جعفراً، ثم يخرج من صلبه ابنه وسمَّاه عنده موسى، ويخرج من صلبه ابنه وسمَّاه عنده علياً، ويخرج من صلبه ابنه وسماه عنده محمداً، ويخرج من صلبه ابنه وسماه عنده علياً، ثم يخرج من صلبه ابنه وسماه عنده الحسن، ويخرج من صلبه كلمة الحق، ولسان الصدق، ومظهر الحق، وحجة الله على بريته(1).
وعن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أخبرني جبرئيل عليه السلام، قال: لما أثبت الله اسم محمد في ساق العرش قلت: يا رب، هذا الاسم المكتوب في ساق العرش أراه أعزَّ خلقك عليك، فأراه الله عز وجل اثني عشر إماماً أشباحاً أبداناً بلا أرواح بين السماء والأرض، فقال: يا رب، بحقهم عليك إلا أخبرتني من هم؟ قال: هذا نور علي بن أبي طالب، وهذا نور الحسن والحسين، وهذا نور علي بن الحسين، وهذا نور محمد بن علي، وهذا نور جعفر بن محمد، وهذا نور موسى بن جعفر، وهذا نور علي بن موسى، وهذا نور محمد بن علي، وهذا نور علي بن محمد، وهذا نور الحسن بن علي، وهذا نور الحجة القائم المنتظر(2).
__________
(1) كفاية الأثر: (25)، إثبات الهداة: (1/596)، البحار: (36/348)، منتخب الأثر:(106).
(2) كفاية الأثر: (23)، إثبات الهداة: (1/592)، البحار: (36/341)، منتخب الأثر: (113).(1/17)
وعن أمير المؤمنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته به، ورأيت اثني عشر نوراً، فقلت: يا رب، أنوار من هذه؟ فنوديت: يا محمد، هذه أنوار الأئمة من ذريتك، قلت: يا رسول الله، ألا تسميهم لي؟ قال: نعم. أنت الإمام، والخليفة بعدي، تقضي ديني، وتنجز عداتي، وبعدك ابناك: الحسن والحسين، وبعد الحسين ابنه علي زين العابدين، وبعد علي ابنه محمد يُدعى بالباقر، وبعد محمد جعفر ابنه يُدعى بالصادق، وبعد جعفر ابنه موسى يُدعى بالكاظم، وبعد موسى ابنه علي يُدعى بالرضا، وبعد علي ابنه محمد يُدعى بالزكي، وبعد محمد ابنه علي يدعى بالنقي، وبعد علي ابنه الحسن يدعى بالأمين، والقائم من ولد الحسين سميّي، وأشبه الناس بي(1).
وفي رواية: لما عرج بي إلى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته به، ورأيت اثني عشر اسماً مكتوباً بالنور، فيهم: علي بن أبي طالب وسبطاي، وبعدهما تسعة أسامي: علياً علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد محمد مرتين، وجعفر، وموسى، والحسن، والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب، أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: يا محمد، هم الأوصياء من ذريتك، بهم أثيب وبهم أعاقب(2).
__________
(1) كفاية الأثر: (28)، إثبات الهداة: (1/598)، منتخب الأثر:(121)، البحار: (36/355).
(2) كفاية الأثر: (10، 14، 18)، إثبات الهداة: (1/580، 584، 586، 588، 590، 595، 598 = = 601)، البحار: (36/310، 321، 325، 332، 390)، المناقب: (1/210)، منتخب الأثر: (104، 106، 107، 122).(1/18)
وعن الباقر قال: إن الله لما خلق إبراهيم كشف له عن بصره، فرأى نوراً إلى جنب العرش، فقال: يا رب، ما هذا النور؟ فقيل له: هذا نور علي بن أبي طالب، ورأى إلى جنبه ثلاثة أنوار، فقال: إلهي، وما هذه الأنوار؟ فقال: هذا نور فاطمة وولديها الحسن والحسين، فقال: إلهي، وأرى تسعة أنوار قد حفوا بهم، قيل: يا إبراهيم، هؤلاء الأئمة من ولد علي وفاطمة، فقال إبراهيم: إلهي، بحق هؤلاء الخمسة من هؤلاء التسعة؟ فقيل: يا إبراهيم، أولهم: علي بن الحسين، وابنه محمد، وابنه جعفر، وابنه موسى، وابنه علي، وابنه محمد، وابنه علي، وابنه الحسن، والحجة القائم ابنه(1).
وعن أمير المؤمنين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليلة أسري بي إلى السماء رأيت قصوراً -وذكر وصفها- إلى أن قال: فقال لي جبرئيل: هذه القصور خلقها الله لشيعة أخيك علي، وخليفتك من بعدك على أمتك، وهم السواد الأعظم، ولشيعة ابنه الحسن من بعده، ولشيعة الحسين من بعده، ولشيعة علي بن الحسين من بعده، ولشيعة ابنه محمد بن علي من بعده، ولشيعة ابنه جعفر بن محمد من بعده، ولشيعة ابنه موسى بن جعفر من بعده، ولشيعة ابنه علي بن موسى من بعده، ولشيعة ابنه محمد بن علي من بعده، ولشيعة ابنه علي بن محمد من بعده، ولشيعة ابنه الحسن بن علي من بعده، ولشيعة ابنه محمد المهدي من بعده، هؤلاء يا محمد الأئمة من بعدك، أعلام الهدى، ومصابيح الدجى(2).
__________
(1) تأويل الآيات: (2/496)، الروضة: (33)، الفضائل: (166)، إثبات الهداة: (1/646، 523)، البحار: (36/151، 213) (85/80)، منتخب الأثر: (116، 138)، البرهان: (4/20)، المستدرك: (4/187).
(2) إثبات الهداة: (1/655).(1/19)
وعنه -أيضاً- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قول الله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [النور:35]: يا علي [النور] اسمي، [والمشكاة] أنت يا علي، [مصباح، مصباح] الحسن والحسين، [الزجاجة] علي بن الحسين، [كأنها كوكب دري] محمد بن علي، [يوقد من شجرة] جعفر بن محمد، [مباركة] موسى بن جعفر، [زيتونة] علي بن موسى، [لا شرقية] محمد بن علي، [ولا غربية] علي بن محمد، [يكاد زيتها] الحسن بن علي، [يضيء] قائم المهدي(1).
فليت شعري إذا كان هذا هو معنى الآية فبأي لغة يفهم القرآن إذاً! ولك أخي القارئ أن تحكم بنفسك على أمثال هذه الروايات.
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي كانت فيها وفاته: يا علي، أحضر صحيفة ودواة، فأملى رسول الله وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع، فقال: يا علي، إنه سيكون من بعدي اثنا عشر إماماً، فأنت يا علي أول الاثني عشر، سمَّاك الله في سمائه: علياً، والمرتضى، وأمير المؤمنين، والصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون المهدي، فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك.
__________
(1) إثبات الهداة: (1/668).(1/20)
يا علي، أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم، وعلى نسائي، فمن ثبّتّها لقيَتْني غداً، ومن طلقتها فأنا بريء منها، لم ترني ولم أرها في عرصة القيامة، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي، فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الزكي الشهيد المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه سيد العابدين ذي الثفنات علي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر العلم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه موسى الكاظم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الرضا، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الناصح، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه الحسن الفاضل، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد، فذلك اثنا عشر إماماً(1).
__________
(1) غيبة الطوسي: (104)، إثبات الهداة: (1/549)، البحار: (36/260).(1/21)
وأمثال هذه الروايات كثيرة لا يتسع لذكر جميعها هذا الكتاب، وفيما أوردناه كفاية لذوي الألباب، ومن أراد الاستزادة فعليه بطلبها من مظانها(1).
منزلة الإمامة والأئمة عند الشيعة:
يرى الشيعة أن الإيمان بولاية الأئمة أصل من أصول الدين، ولا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، شأنها في ذلك شأن باقي الأركان، ووضعوا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة أنهم قالوا: بني الإسلام على خمس: الولاية، والصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والحج.
__________
(1) للاستزادة انظر مثلاً: إثبات الهداة: (1/435-675)، باب: النصوص العامة على إمامة الأئمة، حيث أورد فيه (927) رواية في تعيين الأئمة بأسمائهم أو عددهم، بحار الأنوار: (36/192-225)، باب: نصوص الله على الأئمة، وفيه (22) رواية، (36/226-373)، باب: نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم على الأئمة، وفيه (234) رواية، فضلاً عن النصوص الواردة على لسان كل إمام حيث أوردها في (373-414) وفيها حوالي (55) رواية، وانظر: كفاية الأثر في النصوص على الاثني عشر، الكتاب كله، منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، أكثر الكتاب، وبالأخص باب: فيما يدل على الأئمة الاثني عشر بأسمائهم: (97-140)، تأويل الآيات: (1/135، 205) (2/496)، نور الثقلين: (2/192، 535) (3/119) (4/239، 597) (5/630)، أمالي الصدوق: (114، 51)، كمال الدين: (40، 241، 256، 288، 290، 292، 293، 294، 296)، غيبة الطوسي: (90، 91، 92، 93، 95، 96، 99)، غيبة النعماني: (43، 44، 46، 49، 53)، الكافي: (1/525، 532)، وغيرها.(1/22)
وفي رواية: بني الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج إلى البيت، وولاية علي بن أبي طالب(1).
بل إنهم جعلوها أعظم هذه الأركان، فزعموا أن الله عز وجل قد أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بالإمامة أكثر من أي شيء آخر.
فعن الصادق قال: عرج بالنبي إلى السماء مائة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وقد أوصى الله عز وجل فيها النبي بالولاية لعلي والأئمة أكثر مما أوصاه بالفرائض(2).
__________
(1) انظر هذه الروايات وغيرها في: الكافي: (2/18، 21، 22، 32)، أمالي الصدوق: (221، 279، 510)، ثواب الأعمال: (15)، إثبات الهداة: (1/90، 91، 529، 545، 635)، المحاسن: (13، 286، 287، 290)، كفاية الأثر: (38)، رجال الكشي: (356)، علل الشرايع: (94)، تفسير العياشي: (2/117)، بشارة المصطفى: (130)، التهذيب: (4/151)، الروضة: (226)، منتخب الأثر: (127)، كمال الدين: (354)، البحار: (10/393)(23/69، 100، 105)(27/103)(36/412)(40/47) (68/317، 329، 330، 331، 332، 376، 377، 379، 380، 386، 387، 391، 392) (96/5، 15، 257)، أمالي المفيد: (209)، الوسائل: (1/13، 15، 18، 20، 21، 26، 27، 28) (10/395)، مستدرك الوسائل: (1/71، 73)، أمالي الطوسي: (530، 666)، من لا يحضره الفقيه: (1/101، 131)، نور الثقلين: (1/503، 590) (4/565) (5/598).
(2) علل الشرايع: (149)، الخصال: (601)، البصائر: (23)، إثبات الهداة: (1/538، 666)، تأويل الآيات: (1/275)، البحار: (18/387) (23/69)، نور الثقلين: (3/98)، البرهان: (2/394).(1/23)
وعن زرارة، عن أبي جعفر قال: بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة والصوم، والحج، والولاية، قال زرارة: وأي شيء من ذلك أعظم؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن(1).
لذا فليس من المستغرب أن يضع القوم روايات ترخص في جميع الأركان ماعداها، كقولهم عن الباقر: بني الإسلام على خمس: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، والولاية لنا أهل البيت، فجعل في أربع منها رخصة ولم يجعل في الولاية رخصة(2).
وزعموا أن الله عز وجل قد أخذ المواثيق من الأنبياء عند بعثتهم بالولاية، ووضعوا في ذلك روايات، كقولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: يا علي، ما بعث الله نبياً إلا وقد دعاه إلى ولايتك طائعاً أو كارهاً.
وفي رواية: لم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلا وأخذ عليه الميثاق لمحمد بالنبوة ولعلي بالإمامة.
وفي رواية: عن الصادق: ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث الله نبياً قط إلا بها.
وعن الرضا: ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولم يبعث الله نبياً إلا بنبوة محمد ووصية علي صلوات الله عليهما(3).
__________
(1) الكافي: (2/18)، المحاسن: (286)، العياشي: (1/191)، البحار: (68/332) (82/234)، إثبات الهداة: (1/91)، الوسائل: (1/13).
(2) الخصال: (278)، البحار: (68/376، 332)، الوسائل: (1/23)، وانظر أيضاً: الكافي:(2/22).
(3) انظر هذه الروايات وغيرها في: الاختصاص: (18، 343)، البصائر: (72) (9) روايات، البحار: (11/60)(24/330، 352)(26/280، 297)(27/136)(36/154، 155)، تأويل الآيات: (1/79، 116، 155، 392)(2/108، 562، 563، 565)، البرهان:(1/294) (4/147، 148)، إثبات الهداة: (2/12)، الكافي: (1/437)، أمالي الطوسي: (681).(1/24)
وعليها جعلوا مدار قبول الأعمال من العباد، فنسبوا إلى الصادق قوله: إن أول ما يسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جل جلاله عن الصلوات المفروضات، وعن الزكاة المفروضة، وعن الصيام المفروض، وعن الحج المفروض، وعن ولايتنا أهل البيت، فإن أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجه، وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله منه شيئاً من أعماله(1).
وعنه أيضاً قال: نزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، السلام يقرئك السلام، ويقول: خلقت السموات السبع وما فيهن، والأرضين السبع ومن عليهن، وما خلقت موضعاً أعظم من الركن والمقام، ولو أن عبداً دعاني هناك منذ خلقت السموات والأرضين ثم لقيني جاحداً لولاية علي لأكببته في سقر.
وفي رواية: لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجيء بولاية علي بن أبي طالب لأكبه الله عز وجل في النار.
وفي رواية: عن زين العابدين: إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلاً عُمِّر ما عُمِّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يصوم النهار ويقوم في ذلك الموضع ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً.
وعن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو أن عبداً عبد الله ألف سنة لا يقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت، ولو أن عبداً عبد الله ألف سنة وجاء بعمل اثنين وسبعين نبياً ما يقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت، وإلا أكبه الله على منخريه في نار جهنم.
وفي رواية: والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا.
__________
(1) أمالي الصدوق: (154)، البحار: (24/51) (27/167) (54/390) (83/10، 19)، عيون الأخبار: (270).(1/25)
وفي أخرى: أما والله لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليي ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان(1).
ونسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: التاركون ولاية علي خارجون عن الإسلام(2).
وإلى الصادق قوله: الجاحد لولاية علي كعابد وثن(3).
لذا حكى المفيد إجماع الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار(4).
__________
(1) انظر هذه الروايات وغيرها في الباب: الكافي: (1/372، 436) (2/18)، أمالي الصدوق:(190، 260، 290، 396)، البحار: (2/30) (7/160، 176) (13/339) (23/221، 286، 294)(25/111، 113) (26/349) (27/167، 168، 171، 172، 173، 192) (36/216، 223، 245، 262، 302، 314، 315) (37/62) (42/143) (46/179) (47/357) (68/333)(72/133) (73/121)(78/225)(99/229)،أمالي الطوسي:(72، 104، 131، 253، 422)، ثواب الأعمال: (189، 197)، المحاسن: (90، 91، 224، 286)، الوسائل: (1/123) (16/76)، نور الثقلين: (2/225، 261) (4/353، 534)، أمالي المفيد: (42)، العياشي: (1/286)، منتخب الأثر: (105، 117، 119)، البرهان: (1/279، 396) (3/40، 161)، كمال الدين: (146)، عيون الأخبار: (34)، غيبة الطوسي: (95)، الكشي: (248)، كنز جامع الفوائد: (49)، الروضة: (226)، تأويل الآيات: (1/98، 106، 315) (2/522)، إثبات الهداة: (1/137) (2/178)، غيبة النعماني: (70).
(2) المحاسن: (89)، البحار: (27/238) (39/302) (72/134).
(3) البصائر: (105)، البحار: (24/123) (27/181) (54/390).
(4) البحار: (8/366) (23/390).(1/26)
والروايات في الباب تطول، حتى عقد بعضهم أبواباً خاصة في بيان هذه المسألة، كباب: أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية(1)، وباب: كفر المخالفين والنُّصّاب(2).
ولم يشأ القوم أن يتركوا من أمور السموات والأرض شيئاً حتى جعلوا له نصيباً من هذه العقيدة، ولعلَّ في نقل مواضع الحاجة من الروايات الآتية -وهي غيض من فيض- بياناً يغني عن التعليق.
يروي القوم أنّ (لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين) مكتوبة على مجرى الماء، وأطباق الأرض، ورؤوس الجبال(3).
ومكتوب على أطواد الأرضين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي وصيه(4).
وعلى الشمس والقمر: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين(5).
وفي رواية: مكتوب على أحد وجهي الشمس: علي نور الأرضين(6).
وعلى أحد الغيوم التي كانت تظله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي سيد الوصيين(7).
وفي أترجة هبط بها جبرئيل من الجنة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين(8).
وعلى رأس غزال وجده عبد المطلب لما حفر زمزم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي ولي الله(9).
__________
(1) البحار: (27/166-202) وفيه (71) رواية.
(2) البحار: (72/131-156).
(3) الاحتجاج: (83)، البحار: (27/1)، إثبات الهداة: (2/117).
(4) كفاية الأثر: (23)، البحار: (36/342)، إثبات الهداة: (1/593)، منتخب الأثر: (70).
(5) الاحتجاج: (83) وفيه عن الصادق: وهو السواد الذي ترونه في القمر، وانظر أيضاً: البحار: (27/1) (58/156)، إثبات الهداة: (2/117)، نور الثقلين: (3/143).
(6) إيضاح دفائن النواصب: (32)، البحار: (27/10).
(7) إثبات الهداة: (2/151).
(8) إثبات الهداة: (2/182).
(9) الكافي: (4/220)، إثبات الهداة: (2/16)، البحار: (15/165).(1/27)
وفي ليلة الإسراء والمعراج زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد مكتوباً على صخرة بيت المقدس: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بوزيره ونصرته بوزيره، فقال لجبرئيل: ومن وزيري؟ فقال: علي بن أبي طالب(1).
وعندما نعرج إلى السماء؛ نجد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين مكتوب على أكناف السموات(2).
وفي رواية: مكتوب على باب كل سماء: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(3).
وعلى كل أسطوانة في السماء مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين أيدته به(4).
وقبل الدخول إلى الجنة نجد مكتوباً على بابها بزعم القوم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أخو رسول الله(5).
وفي رواية: لا إله إلا الله محمد حبيب الله، علي ولي الله، فاطمة أمة الله، الحسن والحسين صفوة الله، على مبغضيهم لعنة الله(6).
وفي أخرى: مكتوب على أبواب الجنة الثمانية: علي ولي الله(7).
وفي أخرى: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(8).
__________
(1) أمالي الطوسي: (655)، الخصال: (207)، البحار:(18/389، 408)(27/2)(40/36) (43/99) (77/62)، من لا يحضره الفقيه: (4/374)، إثبات الهداة: (2/24)، نور الثقلين: (3/122)(5/156).
(2) الاحتجاج: (83)، البحار: (27/1) (84/112)، إثبات الهداة: (2/117).
(3) المحتضر: (142)، البحار: (18/304) (27/12).
(4) المحاسن: (332)، إثبات الهداة: (2/107)، البحار: (39/166) (63/216).
(5) الخصال: (638)، أمالي الصدوق: (70)، العمدة: (120، 121)، البحار: (8/131)(27/2، 9) (38/330).
(6) الخصال: (324)، إيضاح دفائن النواصب: (36)، أمالي الطوسي: (227)، كنز الفوائد: (149)، البحار: (8/191) (27/3، 4، 228) (37/95، 98) (43/303).
(7) البحار: (8/144) (27/11)، إثبات الهداة: (2/47)، المستدرك: (7/266).
(8) البحار: (37/339).(1/28)
وأما داخلَها فما التفتنا يميناً أو شمالاً إلا وجدنا اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه دوننا، فعلى أوراق الجنة مكتوب: علي بن أبي طالب ولي الله(1).
وعلى جناح جبرئيل عليه السلام مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين(2).
وفي رواية: لا إله إلا الله علي الوصي(3).
وعلى جبهة إسرافيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين(4).
وبين منكبي أحد الملائكة: علي الصديق الأكبر(5). وآخر: علي وصيه(6).
وفي سدرة المنتهى: إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، محمد صفوتي من خلقي، أيدته بوزيره، ونصرته بوزيره.
ويروي القوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبرئيل: ومن وزيري؟ فقال: علي بن أبي طالب(7).
وعندما نقترب من العرش نجد مكتوباً على كل حجاب من حجب النور: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(8).
وعلى حواشي هذه الحجب مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي وصيه(9).
وأورد القوم رواية فيها عدد هذه الحجب، وهي: (70.000) حجاب(10).
__________
(1) الروضة: (125)، البحار: (27/8).
(2) الاحتجاج: (83)، البحار: (27/1) (84/112)، إثبات الهداة: (2/117).
(3) كشف الغمة: (1/297)، البحار: (27/9).
(4) الاحتجاج: (83)، البحار: (27/1) (84/112)، إثبات الهداة: (2/117).
(5) المحتضر: (125)، البحار: (27/11) (24/38).
(6) الكافي: (1/461)، أمالي الصدوق: (475).
(7) أمالي الطوسي:(51)، الخصال: (207)، البحار:(18/408، 389)(27/3)(40/36)(43/99) (77/62)، إثبات الهداة: (2/24)، من لا يحضره الفقيه: (4/374)، نور الثقلين: (3/123).
(8) المحتضر: (142)، البحار: (18/304) (27/12).
(9) كفاية الأثر: (23)، البحار: (36/341)، إثبات الهداة: (1/593).
(10) اليقين: (157)، البحار: (8/215) (18/398) (40/19) (58/44) (76/31)، تفسير القمي: (1/401).(1/29)
وفي أخرى: (90.000) حجاب(1)، وأما اللوح فمكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين(2).
وعلى حدوده مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي وصيه(3).
أما العرش نفسه فلم يُترك جانب من جوانبه إلا وكتب عليه اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعلى قوائمه مكتوب: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد حبيبي، أيدته بوزيره، ونصرته بوزيره(4).
وفي رواية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين(5).
وفي ثالثة: علي وصي محمد(6).
وفي أخرى: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(7).
وأخرى: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي، ونصرته بعلي(8).
وفي رواية أخرى: مكتوب على إحدى قوائم العرش -وفي رواية: على الساق الأيمن-: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، خُلِقت عَدنٌ بيدي، محمد صفوتي من خلقي، أيدته بعلي، ونصرته بعلي(9).
__________
(1) تفسير القمي: (1/401)، البحار: (18/327) (58/42).
(2) الاحتجاج: (83)، البحار: (27/1) (84/112)، إثبات الهداة: (2/117).
(3) كفاية الأثر: (23)، البحار: (36/342)، إثبات الهداة: (1/593).
(4) أمالي الطوسي: (51)، الخصال: (207)، البحار: (18/389، 408) (27/3)، إثبات الهداة: (2/24)، من لا يحضره الفقيه: (4/374).
(5) الاحتجاج: (83)، البحار: (11/181) (27/1) (18/304) (84/112)، المحتضر: (142)، إثبات الهداة: (2/117، 130).
(6) تفسير القمي: (2/414)، البحار: (16/365) (27/5)(36/342)، كفاية الأثر: (23)، إثبات الهداة: (1/593).
(7) البحار: (11/165) (27/6، 7)، البصائر:(32)، إثبات الهداة:(1/614)، معاني الأخبار:(42)، عيون الأخبار: (170).
(8) كفاية الأثر: (10، 14، 16، 19، 25، 28، 32، 321، 325، 332، 357، 390)، البحار: (36/310، 348، 355)، إثبات الهداة:(1/595، 598)، منتخب الأثر:(114، 121).
(9) أمالي الصدوق: (179)، المحتضر: (139)، البحار: (27/3، 11).(1/30)
وذكر القوم أن عدد أركان العرش هو (360,000) (1).
ومكتوب حول العرش: علي أمير المؤمنين(2)، وعليه: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي(3).
وفي رواية: محمد خير النبيين، وعلي سيد الوصيين(4).
وعلى بطنان العرش: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، محمد عبدي ورسولي، أيدته بوزيره، ونصرته بوزيره(5)... وهكذا، وهي كثيرة لا يسع المقام لحصرها(6).
ولم يكتف آخرون بهذا، بل جعلوا له بُعداً آخر تجاوز الموجودات؛ حيث جعلوا خلق الأئمة قبل آدم عليه السلام، فزعم بعضهم أن ذلك -أي: خلقهم- كان قبل خلق آدم عليه السلام بألفي عام، فعن داود بن كثير، عن أبي عبدالله، أنه نادى سماعة بن مهران وسأله أن يأتيه بسلّة الرطب، فأتاه بسلة فيها رطب، فتناول رطبة فأكلها واستخرج النواة من فمه فغرسها في الأرض، ففلقت وأنبتت وأطلعت وأعذقت، فضرب بيده إلى بسرة من عذق، فشقها واستخرج منها رقاً أبيض، ففضه ودفعه إليّ، وقال: اقرأه؟ فقرأته وإذا فيه سطران:
السطر الأول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
__________
(1) البحار: (58/33).
(2) اليقين في إمرة المؤمنين: (37، 55، 58)، المحتضر: (139)، البحار: (27/7، 8، 12)(37/302)، إثبات الهداة: (2/193)، الكافي: (1/224).
(3) أمالي الصدوق:(130)، كفاية الأثر:(25)، البحار:(27/2، 10)(36/348)(40/57).
(4) الاختصاص: (91)، إثبات الهداة: (2/149)، البحار: (26/256).
(5) الخصال: (207)، البحار: (27/18).
(6) انظر المزيد إن شئت: البحار: (11/114) (16/365) (17/307) (26/344)(40/57، 58)، إرشاد القلوب: (2/214، 403)، مدينة المعاجز: (156، 168)، تأويل الآيات: (2/834، 874، 875)، الكافي: (1/461)، نور الثقلين: (3/125)(5/76، 555)، تفسير العسكري: (156)، إثبات الهداة: (2/151)، أمالي الصدوق: (79).(1/31)
والسطر الثاني: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الحسن بن علي، الحسين بن علي، علي بن الحسين، محمد بن علي، جعفر بن محمد، موسى بن جعفر، علي بن موسى، محمد بن علي، علي بن محمد، الحسن بن علي، الخلف الحجة، ثم قال: يا داود، أتدري متى كتب هذا في هذا؟ فقلت: الله أعلم ورسوله وأنتم، قال: قبل أن يخلق آدم بألفي عام(1).
وعن أبي جعفر: إن الله خلق أربعة عشر نوراً من نور عظمته قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فهي أرواحنا: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وتسعة من أولاده(2).
وعن الصادق قال: كنا أشباحَ نورٍ حول العرش نسبح قبل أن يخلق آدم بخمسة عشر ألف عام(3).
وعن الكاظم قال: بينا رسول الله جالس؛ إذ دخل عليه ملك له أربعة وعشرون وجهاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: حبيبي جبرئيل، لم أرك في مثل هذه الصورة؟ فقال الملك: لست جبرئيل، أنا محمود بعثني الله عز وجل أن أزوج النور من النور، فقال: مَن مِمن؟ قال: فاطمة من علي، قال: فلما ولَّى الملك إذ بين كتفيه: محمد رسول الله، علي وصيه، فقال له رسول الله: منذ كم كتب هذا بين كتفيك؟ فقال: من قبل أن يخلق الله عز وجل آدم باثنين وعشرين ألف عام.
__________
(1) غيبة النعماني: (56)، البرهان: (2/123)، البحار: (24/243) (36/400) (38/46)، المناقب: (1/307)، تأويل الآيات: (1/204)، إثبات الهداة: (3/137، 144)، منتخب الأثر: (30).
(2) كمال الدين: (315)، المحتضر: (129)، العمدة: (44)، البحار: (15/23) (25/4، 15) (38/147)، إثبات الهداة: (1/517).
(3) أمالي الطوسي: (115)، البحار: (15/6) (25/2) (35/31) (57/168).(1/32)
وفي رواية: بأربعة وعشرين ألف عام(1).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليلة أسري بي إلى السماء ما مررت ببابٍ من أبواب الجنة إلا ورأيت مكتوباً عليه: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين من قبل أن أخلق آدم بسبعين ألف عام(2).
ولم يقنع فريق آخر من القوم بكل هذا، وعزَّ عليه أن يجد أي مخلوق آخر قد سبق خلقه خلق الأئمة، فقالوا: إن الله خلق نور محمد قبل خلق المخلوقات كلها بأربعمائة ألف سنة وأربعة وعشرين ألف سنة، وخلق منه الأئمة.
وهنا -أيضاً- استمرت الأرقام في ازدياد وتفاوت، حتى استقرت على مليوني عام قبل الخلق، حيث روى القوم عن الصادق أنه قال: إن الله خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام، فسبحنا فسبحت الملائكة لتسبيحنا(3).
كيف؟ وهل كانت الملائكة موجودة أم هي ليست من الخلق؟!
وفي حقيقة الأمر أن الروايات في هذه المسألة والتي سبقتها قد ملأت كتب القوم بحيث يستحيل حصرها في كتابنا الموجز هذا، إلا أن وقوفنا على هذا العدد مليوني عام لا يعني بالضرورة أن هذا آخر عدد ورد في المسألة، ولكنه آخر ما وقفنا عليه من المراجع المتواضعة التي بين أيدينا، فضلاً عن كوننا لم نأتِ عليها جميعاً.
ثم رمانا القوم بثالثة الأثافي بجعلهم الأئمة علة خلق آدم عليه السلام، فقالوا: إن الله عز وجل قال لآدم: فوعزتي وجلالي لولا عبدان أريد أن أخلقهما في آخر الزمان ما خلقتك، فقال آدم: يا رب، بقدرهم عندك ما اسمهم؟ فقال تعالى: يا آدم، انظر نحو العرش، فإذا بسطرين من نور:
__________
(1) معاني الأخبار: (104)، الخصال:(640)، أمالي الصدوق: (592)، المناقب: (3/349)، إثبات الهداة: (2/14،37، 183)، دلائل الإمامة: (22) وفيه مائتين وعشرين ألف عام، الكافي: (1/460)، البحار: (43/111) ولا يفوتك عزيزي القارئ ملاحظة ازدياد عدد وجوه الملك محمود وعدد السنين واختلاف الكتابة عن الرواية السابقة.
(2) البحار: (37/339).
(3) البحار: (25/1).(1/33)
أول السطر: لا إله إلا الله محمد نبي الرحمة، وعلي مفتاح الجنة.
والسطر الثاني: آليت على نفسي أن أرحم من والاهما، وأعذب من عاداهما(1).
وهنا أيضاً تجاوز خلق آدم إلى سائر الموجودات، فذكروا في رواية أن الله عز وجل قال لآدم عليه السلام: لولاهما ما خلقت خلقي.
وفي أخرى: لولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض.
وفي أخرى: لولاهم لما خلق الله الأفلاك.
وفي رواية أخرى: قال لآدم وحواء: لولاهم ما خلقتكما.
وفي أخرى: لولاهم ما خلقتك، ولا خلقت الجنة ولا النار، ولا العرش ولا الكرسي، ولا السماء ولا الأرض، ولا الملائكة، ولا الجن ولا الإنس(2).
ونسبوا إلى زين العابدين قوله: لولا نحن لم يخلق الله أرضاً ولا سماءً، ولا جنةً ولا ناراً، ولا شمساً ولا قمراً، ولا براً ولا بحراً، ولا سهلاً ولا جبلاً، ولا رطباً ولا يابساً، ولا حلواً ولا مراً، ولا ماءً ولا نباتاً ولا شجراً، اخترعنا الله من نور ذاته لا يقاس بنا بشر(3).. وغيرها(4).
وذكروا أن تسمية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمير المؤمنين كان وآدم بين الروح والجسد(5).
وهنا -أيضاً- لم يرضَ البعض بهذا، وقال: بل كان ذلك لما خلق الله السموات والأرض إذ نادى منادٍ: علي أمير المؤمنين(6).
__________
(1) البحار: (11/114) (27/6، 100).
(2) معاني الأخبار: (72، 100)، البحار: (1/103) (6/321، 325)(11/173)(15/12، 28)(26/273) (27/5) (57/199)، إثبات الهداة: (1/484) (2/38)، عيون أخبار الرضا:(170)، اليقين: (30)، نور الثقلين: (2/12).
(3) البحار: (26/12).
(4) للمزيد انظر: البحار: (11/175) (15/5).
(5) كشف الحق: (1/93)، اليقين: (50، 55، 81، 136)، المناقب: (1/548)، البرهان: (2/50)، البحار: (15/17) (36/178) (26/268)، 278، (37/306، 311، 332، 333) (40/77).
(6) الكافي: (1/441)، أمالي الصدوق: (483)، البحار:(16/295) (37/295).(1/34)
وهكذا نجد أن أبعاد منزلة الإمامة عند الشيعة لم تقتصر على نصوص وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في منزلة علي رضي الله عنه وإمامته -كما ستقف عليها وعلى حقيقتها- أو على كونها لطفاً من الله وبنص منه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل جعلت ركناً من أركان الإسلام وأفضلها، وبها أخذ الله ميثاق الأنبياء عليهم السلام عند بعثتهم، وعليها مدار قبول الأعمال من العباد، وحكوا الإجماع على كفر منكرها وخلوده في النار.
وعلى أي حال، فقبل الشروع في المقصود نبين هنا -في عجالة- مسائل أخرى تبين منزلة الإمامة عند القوم زيادة على ما مر؛ فضلاً عما سنورده في طيات هذا الكتاب من نصوص أخرى، فنقول:
إن القوم عقدوا في كتبهم أبواباً في بيان منزلة الإمامة والأئمة تبينها عناوينها، مما يغنينا عن سرد محتواها، منها:
باب: (وجوب معرفة الإمام، وأنه لا يعذر الناس بترك الولاية، وأن من مات ولا يعرف إمامه أو شك فيه مات ميتة جاهلية وكفر ونفاق)(1).
باب: (أن من أنكر واحداً منهم فقد أنكر الجميع)(2).
باب: (أن الناس لا يهتدون إلا بهم، وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم)(3).
باب: (عرض الأعمال عليهم، وأنهم الشهداء على الخلق)(4).
باب: (تأويل المؤمنين والإيمان والمسلمين والإسلام بهم وبولايتهم، والكفار والمشركين والكفر والشرك والجبت والطاغوت واللات والعزى والأصنام بأعدائهم ومخالفيهم)(5).
__________
(1) البحار: (23/76-95) وفيه (40) رواية.
(2) البحار: (23/95-98) وفيه (6) روايات.
(3) البحار: (23/99-103) وفيه (11) رواية.
(4) البحار: (23/333-353) وفيه (75) رواية، البصائر: (424-434) وفيه (50) رواية، الكافي: (1/219) وفيه (4) روايات.
(5) البحار: (23/354-390) وفيه (100) رواية.(1/35)
باب: (أنهم الأبرار والمتقون والسابقون والمقربون، وشيعتهم أصحاب اليمين، وأعداءهم الفجار والأشرار وأصحاب الشمال)(1).
باب: (أنهم النجوم والعلامات، وغرائب التأويل فيهم وفي أعدائهم)(2).
باب: (أنهم الصافون والمسبحون، وصاحب المقام المعلوم وحملة عرش الرحمن، وأنهم السفرة الكرام البررة)(3).
باب: (أنهم البحر واللؤلؤ والمرجان)(4).
باب: (أنهم الماء المعين، والبئر المعطلة، والقصر المشيد، وتأويل السحاب والمطر والظل والفواكه وسائر المنافع الظاهرة بعلمهم وبركاتهم)(5).
باب: (في تأويل النحل بهم(6)، وأنهم السبع المثاني)(7).
باب: (أنهم وولايتهم العدل والمعروف والإحسان والقسط والميزان، وترك ولايتهم وأعداؤهم الكفر والفسوق والعصيان والفحشاء والمنكر والبغي)(8).
باب: (تأويل الأيام والشهور بالأئمة)(9).
باب: (أنهم الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الطاعات، وأعداؤهم الفواحش والمعاصي في بطن القرآن)(10).
باب: (جهات علومهم وما عندهم من الكتب وأنه ينقر في آذانهم وينكت في قلوبهم)(11).
باب: (أنهم يزدادون ولولا ذلك لنفد ما عندهم، وأن أرواحهم تعرج إلى السماء في ليلة الجمعة)(12).
__________
(1) البحار: (24/1-9) وفيه (25) رواية.
(2) البحار: (24/67-82) وفيه (32) رواية.
(3) البحار: (24/87-91) وفيه (11) رواية.
(4) البحار: (24/97-99) وفيه (7) روايات.
(5) البحار: (24/100-110) وفيه (21) رواية.
(6) البحار: (24/110-113) وفيه (7) روايات.
(7) البحار: (24/114-118) وفيه (10) روايات.
(8) البحار: (24/187-191) وفيه (14) رواية.
(9) البحار: (24/238-243) وفيه (4) روايات.
(10) البحار: (24/286-304) وفيه (17) رواية.
(11) البحار: (26/18-66) وفيه (149) رواية، البصائر: (316-318) وفيه (13) رواية.
(12) البحار: (26/86-97) وفيه (37) رواية، البصائر: (130-132) وفيه (7) روايات، الكافي: (1/254) وفيه (4) روايات.(1/36)
باب: (أنهم خزان الله على علمه وحملة عرشه)(1).
باب: (أنهم لا يحجب عنهم علم السموات والأرض والجنة والنار، وأنه عرض عليهم ملكوت السموات والأرض، ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة)(2).
باب: (أنهم يعرفون الناس بحقيقة الإيمان وبحقيقة النفاق، وعندهم كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء شيعتهم وأعدائهم، وأنه لا يزيلهم خبر مخبر عما يعلمون من أحوالهم)(3).
باب: (أن الله يرفع للإمام عموداً ينظر به أعمال العباد)(4).
باب: (أنه لا يحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم، وما تحتاج إليه الأمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا ويصبرون عليها، ولو دعوا الله في دفعها لأجيبوا، وأنهم يعلمون ما في الضمائر، وعلم البلايا، وفصل الخطاب، والمواليد)(5).
باب: (في أن عندهم كتباً فيها أسماء الملوك الذين يملكون في الأرض)(6).
باب: (أن عندهم جميع علم الملائكة والأنبياء، وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء عليهم السلام، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله)(7).
__________
(1) البحار: (26/105-108) وفيه (14) رواية، البصائر: (103-106) وفيه (16) رواية.
(2) البحار: (26/109-117) وفيه (22) رواية، البصائر: (106-108) وفيه (11) رواية، (127-128) وفيه (6) روايات.
(3) البحار: (26/117-132) وفيه (40) رواية، البصائر: (190-192) وفيه (6) روايات، (170-173) وفيه (10) روايات.
(4) البحار: (26/132-136) وفيه (16) رواية، البصائر: (435-437) وفيه (7) روايات.
(5) البحار: (26/137-154) وفيه (43) رواية، البصائر: (122-127) وفيه (17) رواية.
(6) البحار: (26/155-156) وفيه (7) روايات، البصائر: (168-170) وفيه (7) روايات.
(7) البحار: (26/159-179) وفيه (63) رواية، البصائر: (109-120) وفيه (42) رواية.(1/37)
باب: (في أن عندهم صلوات الله عليهم كتب جميع الأنبياء يقرؤونها على اختلاف لغاتها)(1).
باب: (أنهم يعلمون جميع الألسن واللغات ويتكلمون بها)(2).
باب: (أنهم أعلم من الأنبياء عليهم السلام)(3).
باب: (تفضيلهم على الأنبياء وعلى جميع الخلق، وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر الخلق، وأن أولي العزم إنما صاروا أولي العزم بحبهم صلوات الله عليهم)(4).
باب: (أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بهم صلوات الله عليهم)(5).
باب: (أن الملائكة تأتيهم وتطأ فرشهم، وأنهم يرونهم صلوات الله عليهم أجمعين)(6).
باب: (أن الجن خدامهم يظهرون لهم ويسألونهم عن معالم دينهم)(7).
باب: (أن عندهم الاسم الأعظم، وبه يظهر منهم الغرائب)(8).
باب: (أنهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء)(9).
باب: (أنهم سخر لهم السحاب ويسر لهم الأسباب)(10).
باب: (أنهم الحجة على جميع العوالم وجميع المخلوقات)(11).
__________
(1) البحار: (26/180-189) وفيه (27) رواية، البصائر: (135-139) وفيه (15) رواية.
(2) البحار: (26/190-193) وفيه (7) روايات، البصائر: (333-341) وفيه (25) رواية.
(3) البحار: (26/194-200) وفيه (13) رواية، البصائر: (227-231) وفيه (11) رواية.
(4) البحار: (26/267-319) وفيه (88) رواية.
(5) البحار: (26/319-334) وفيه (16) رواية.
(6) البحار: (26/351-360) وفيه (26) رواية، بصائر الدرجات: (90-95) وفيه (22) رواية،(231-234) وفيه (11) رواية.
(7) البحار: (27/13-24) وفيه (16) رواية، بصائر الدرجات: (95-103) وفيه (15) رواية.
(8) البحار: (27/25-28) وفيه (10) روايات، البصائر: (208-219) وفيه (37) رواية.
(9) البحار: (27/29-31) وفيه (4) روايات، البصائر: (269-274) وفيه (13) رواية.
(10) البحار: (27/32-40) وفيه (5) روايات.
(11) البحار: (27/41-47) وفيه (10) روايات.(1/38)
باب: (ما ينفع حبهم فيه من المواطن، وأنهم يحضرون عند الموت وغيره، وأنه يسأل عن ولايتهم في القبر)(1).
باب: (أنهم يعلمون منطق الطيور والبهائم)(2).
باب: (أنهم يعلمون متى يموتون، وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم)(3).
باب: (أنهم يظهرون بعد موتهم، ويظهر منهم الغرائب، ويأتيهم أرواح الأنبياء عليهم السلام، وتظهر لهم الأموات من أوليائهم وأعدائهم)(4).
باب: (أنهم شفعاء الخلق، وأن إياب الخلق إليهم وحسابهم عليهم، وأنه يسأل عن حبهم وولايتهم في يوم القيامة)(5).
باب: (ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات الأنبياء، مثل: عصا موسى، وخاتم سليمان، والطست، والتابوت، والألواح، وقميص آدم)(6).
باب: (أنهم يعرفون الإضمار وحديث النفس قبل أن يخبروا به)(7).
باب: (أنهم يخبرون شيعتهم بأفعالهم وسرهم وأفعال غيبهم وهم غيب عنهم)(8).
باب: (أنهم يعلمون من يأتي أبوابهم ويعلمون بمكانهم من قبل أن يستأذنوا عليهم)(9).
__________
(1) البحار: (27/157-165) وفيه (22) رواية.
(2) البحار: (27/261-279) وفيه (26) رواية، البصائر: (341-354) وفيه (43) رواية.
(3) البحار: (27/285-287) وفيه (6) روايات، البصائر: (480-484) وفيه (14) رواية، الكافي: (1/258) وفيه (8) روايات.
(4) البحار: (27/302-308) وفيه (13) رواية.
(5) البحار: (27/311-317) وفيه (15) رواية.
(6) البصائر: (174-190) وفيه (58) رواية.
(7) البصائر: (235-242) وفيه (27) رواية.
(8) البصائر: (242-253) وفيه (23) رواية.
(9) البصائر: (257-258) وفيه (3) روايات.(1/39)
باب: (أنهم يعرفون آجال شيعتهم وسبب ما يصيبهم)(1).
وبهذا تحصلت عندك صورة واضحة لمنزلة الإمامة عند الشيعة والدرجة التي أوصلها القوم إليها، وإن كنا قد أعرضنا عن ذكر الكثير من الروايات، فضلاً عن عدم ذكرنا لأي رواية من روايات الأبواب آنفة الذكر رغم احتوائها على العشرات منها كما ترى، فإن عناوينها أغنتنا عن سرد محتواها.
وقد تعدى الأمر مسألة (الإمامة والنص) إلى ما رأيته من غلو دونه كل غلو في تقديس أشخاصهم وصفاتهم.
الكلام في النص وإمكانية خفائه ومتى كان النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟:
إذا علمت كل هذا مِنْ أن الله عز وجل قد نصَّ على خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأئمة من بعده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ هذا وأظهر فرض طاعتهم كما مرَّ بك، استحال أن يكون النص مخفياً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى الأئمة، وعلى أصحابهم وأهل زمانهم، كما لا يجوز أن يظهر النبي شيئاً في زمانه فيخفى عمن ينشأ بعد زمانه حتى لا يعلمه إلا بنظر ثاقب، واستدلال عليه، كشأننا الآن.
بهذه التوطئة الموجزة التي يجب عليك أن تستحضرها وأنت تقرأ كتابنا هذا، والمقدمة التي قرأتَها والتي يجب ألا تفارقها نشرع في المقصود.
__________
(1) البصائر: (262-266) وفيه (16) رواية. والحق أن الأبواب كثيرة جداً إلا أننا نكتفي بما أوردناه ففيها كفاية، ومن أراد الاستزادة فعليه بطلبها من مظانها، انظر مثلاً: بحار الأنوار: الأجزاء (23، 24، 25، 26، 27)، وبصائر الدرجات: الكتاب كله، أصول الكافي:الجزء الأول، وغيرها.(1/40)
لا شك بعد كل ما مر بك أنه ليس بالمستغرب أن يضع القوم روايات تتفق مع هذه العقيدة عند مولد الرسول صلى الله عليه وسلم أو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرووا أن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب تبشره بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: اصبري سبتاً آتيك بمثله إلا النبوة، وقال: السبت ثلاثون سنة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين ثلاثون سنة(1).
وفي رواية: إنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره.
وفي أخرى: أما إنك ستلدين مولوداً يكون وصيه.
وفي أخرى: هو إنما يكون نبياً وأنت تلدين وزيراً بعد ثلاثين(2).
ويقولون: إن الراهب المثرم بن دعيب قد أخبره بأنه سيلد وصي محمد، وسيكون اسمه علياً(3).
وقالوا: لما ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أول شيء فعله عند مولده أن سجد على الأرض، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن علياً وصي محمد رسول الله، وبمحمد ختم الله النبوة، وبي يُتمّ الوصية، وأنا أمير المؤمنين(4).
__________
(1) معاني الأخبار: (403)، الكافي: (1/452)، البحار: (15/263) (35/6، 77) (38/47)، إثبات الهداة: (1/153) (2/13).
(2) الكافي:(1/454)(8/302)، البحار:(15/137، 273، 295، 297)(17/364)(35/6، 84)، إثبات الهداة: (2/20)، الخرائج: (11، 186).
(3) البحار: (35/11، 101)، روضة الواعظين: (68)، الفضائل: (59)، جامع الأخبار: (17)، إثبات الهداة: (2/465).
(4) روضة الواعظين: (70)، الفضائل: (57)، جامع الأخبار: (17)، البحار: (35/14)، إثبات الهداة: (2/483، 490).(1/41)
وعندها أهبط القوم جبرئيل عليه السلام ليقول للرسول صلى الله عليه وسلم بزعمهم: يا حبيب الله، الله يقرئك السلام، ويقول: هذا أوان ظهور نبوتك، وإعلاء درجتك، وكشف رسالتك، إذ أيدتك بأخيك وخليفتك، ومن شددت به أزرك، وأعليت به ذكرك علي بن أبي طالب(1).
ثم يستمر القوم في سرد ما يناسب المقام ليضعوا رواية لعلها تبين أول لقاء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد مولده، ليدور التالي: لما ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرَّ ساجداً ثم رفع رأسه، فأذّن وأقام، وشهد بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولنفسه بالخلافة والولاية، ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أَقرأُ يا رسول الله؟ فقال: نعم، فابتدأ بصحف آدم، فقرأها حتى لو حضر شيث لأقر أنه أعلم بها منه، ثم تلا صحف نوح، وصحف إبراهيم، والتوراة والإنجيل، ثم تلا ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قد أفلحوا إذ أنت إمامهم، ثم خاطبه بما يخاطب به الأنبياء والأوصياء، ثم سكت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: عد إلى طفوليتك، فأمسك(2).
وفي طفوليته تلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أم علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما يزعم القوم- أن تضع مهده بقرب فراشه، وكان صلى الله عليه وسلم يلي أكثر تربيته، ويحمله على صدره، ويقول: هذا أخي ووليي وناصري وصفيي وذخري وظهري وظهيري ووصيي وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي(3).
فتأمل.. كيف يكون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث بعد!
__________
(1) إثبات الهداة: (2/196، 197)، البحار: (35/21)، الروضة: (17)، روضة الواعظين: (72).
(2) إثبات الهداة: (2/465).
(3) البحار: (35/9)، كشف اليقين: (6)، بشائر المصطفى: (9).(1/42)
ومرَّت على ذلك سنوات حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أن دعاه رضي الله عنه وخديجة رضي الله عنها في بدء الدعوة، وقال كما يروي القوم عن الصادق: إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام، فأسلما تسلما... إلى أن قال: يا خديجة، هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي، قالت: صدقت يا رسول الله، قد بايعته على ما قلت، أُشهد الله وأشهدك بذلك، وكفى بالله شهيداً عليماً(1).
ولم يشأ القوم أن يدعوا والدي الرسول صلى الله عليه وسلم بمنأى عن هذه العقيدة، فكان أن وضعوا في شأنهما رواية تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع ذات ليلة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخرج أباه من قبره، وسأله: من وليك يا أبه؟ فقال: وما الولي يا بني؟ قال: هو هذا علي، فشهد أن علياً وليه، ثم عدل إلى قبر أمه فصنع كما صنع عند قبر أبيه(2).
ويبدو أن واضع هذه الرواية جاهل بموقع قبري والدي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جعلهما في البقيع.
وعلى أي حال، لا نمل القارئ بنسجنا على هذا المنوال وإلا طال بنا المقام، فكل ما أوردناه من روايات أو تلك التي أعرضنا عنها إنما وضعت لتخدم هذه العقيدة، فهي منسجمة تماماً مع ما مرَّ بك في أول هذا الباب وتتفق معها باعتبار معتقد القوم، ولا يفترض خلاف ذلك من جهل بالنص، أو غيابه عن سائر الناس أو معظمهم فضلاً عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، أو على من يجب أن يلي الأمر من بعده من أئمة منصوص عليهم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البحار: (18/232) (68/392)، الطرف: (4).
(2) علل الشرايع: (70)، معاني الأخبار: (55)، البحار: (15/109)، إثبات الهداة: (1/268).(1/43)
ولكن الحال أن الأمر يختلف تماماً عن هذه الفرضية التي يجب أن نسلم بها مع القوم باعتبار كل ما مر بك، فقد اضطرب القوم واضطربت رواياتهم بعد ذلك بشكل لا يكاد يضبط ولا بد، لقوله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء:82].
روايات من طرق الشيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم تتعارض مع مسألة النص:
أول ذلك حديث يوم الدار أو بدء الدعوة، لما نزل قوله تعالى: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] حيث روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بني عبد المطلب وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، وكان قد أولَم لهم، وبعد أن أكلوا وشربوا، قال: يا بني عبد المطلب، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي؟ فأحجم القوم جميعاً إلا علياً قال: أنا يا نبي الله، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برقبته، وقال: هذا أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا.
وهذا يعني أنه لم يكن وزيره ولا وصيه قبل ذلك.
وسنسهب في مناقشة أسانيد هذه القصة ومتونها في حينه، ولكن ما يعنينا من هذه الرواية الآن هو ما نحن بصدده، ولا شك أنه قد تبادر إلى ذهنك شيء وهو: كيف خفي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى علي رضي الله عنه وعلى كل من حضر الوليمة مسألة النص بعد كل ما مر حتى لم نجد أحداً منهم قد استدرك ذلك، لا أقلَّ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يجد أن إمامته توشك أن تذهب إلى غيره بعرضها عليهم، أو أبيه الذي انتظر سبتاً ليرى وصي محمد صلى الله عليه وسلم وقد ولد؟(1/44)
فإن أبطلنا كل ما مرَّ بك باعتبار هذه الرواية، لا نلبث أن نرى أخرى تسقطها هي أيضاً.. وهكذا، وهذه الأخرى تتمثل في أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذت الدعوة منحىً عاماً أخذ يعرض نفسه على القبائل، فجاء إلى بني كلاب، فقالوا: نبايعك على أن يكون لنا الأمر بعدك، فقال: الأمر لله، فإن شاء كان فيكم أو في غيركم، فمضوا ولم يبايعوه، وقالوا: لا نضرب لحربك بأسيافنا ثم تحكم علينا غيرنا(1).
فما الذي اضطره صلى الله عليه وسلم إلى هذا القول مع ما تقدم؟ أليس كان عليه أن يبين أن هذا الأمر قد تم قبل أشهر حين قال لعشيرته وهو ممسك برقبة ابن عمه: هذا أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، فضلاً عن أن ذلك قد تم منذ مليوني عام قبل الخلق؟
وقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم القول نفسه بعد ذلك بسنين طويلة، وذلك لما جاءه عامر بن الطفيل في وفد بني عامر بن صعصعة في السنة العاشرة من الهجرة، وقال له: ما لي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، قال: تجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاء(2).
وهكذا.. يستمر مسلسل خفاء النص عليه صلى الله عليه وسلم، حتى أواخر أيامه بمكة قبل الهجرة، وذلك في ليلة الإسراء والمعراج(3)، وقد أعرضنا عن ذكر الكثير من الروايات السابقة لذلك تحاشياً للتكرار، إذ إننا سنورد بعضها في حينها.
__________
(1) البحار: (23/74)، إثبات الهداة: (1/142)، المناقب: (1/257).
(2) إثبات الهداة: (1/141، 142)، وصي الرسول الأعظم: (21)، البحار: (18/75) (21/372).
(3) وكان ذلك قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً، وقيل: بسنة وشهرين، وقيل: بسنة، وقيل: بستة أشهر، وقيل: غير ذلك -انظر: البحار: (18/302، 319).(1/45)
تقول رواية القوم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لما بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرتها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بوزيره ونصرته به، فقلت: يا جبرئيل، ومن وزيري؟ فقال: علي بن أبي طالب(1).
والطريف أن القوم يروون عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنت نائماً بالحجر، إذ أتاني جبرئيل فحركني تحريكاً لطيفاً، ثم قال: عفا الله عنك يا محمد، قم واركب فَفِدْ إلى ربك، فأتاني بالبراق فركبت -ثم ذكر ما لاقاه في مسيره.. -إلى أن قال-: فإذا أنا برجل أبيض الوجه، جعد الشعر، فقال لي: يا محمد، احتفظ بالوصي -ثلاث مرات- علي بن أبي طالب المقرب من ربه، قال: لما جزت الرجل وانتهيت إلى بيت المقدس، إذا أنا برجل أحسن الناس وجهاً، وأتم الناس جسماً، وأحسن الناس بشرةً، فقال: يا محمد، احتفظ بالوصي -ثلاث مرات- علي بن أبي طالب المقرب من ربه، الأمين على حوضك صاحب شفاعة الجنة... ثم ذكر بقية القصة، وفي نهايتها قال له جبرئيل: الذين لقيتهما في الطريق وقالا لك: احتفظ بالوصي، كانا عيسى وآدم عليهما السلام(2).
أي: رغم هذه الوصايا الست منهما عليهما السلام، لم يدرك صلى الله عليه وسلم مَنْ وزيره الذي أيده ونصره به، وافترض أن يكون رجلاً آخر سوى علي رضي الله عنه.
والطريف -أيضاً- ذكرهم على لسانه صلى الله عليه وسلم عشرات الروايات، يقول له فيها: إنه وزيره، ولعل أقربها إليك ما أوردناه آنفاً عند حديثنا عن بدء الدعوة.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) كشف اليقين: (83)، البحار: (18/390) (37/314).(1/46)
وعلى أي حال، لنعرج مع القوم إلى السماء، وننظر ماذا حصل هناك.. قالوا: لما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، قالت الملائكة: نشهد أنك رسول الله، فما فعل وصيك علي؟ قال: خلفته في أمتي، قالوا: نعم الخليفة خلفت، أما إن الله عز وجل فرض علينا طاعته، ثم صعد إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة مثلما قالت ملائكة السماء الدنيا، فلما صعد إلى السماء السابعة لقيه عيسى عليه السلام فسلم عليه، وسأله عن علي، فقال له: خلفته في أمتي، قال: نعم الخليفة خلفت، أما إن الله فرض على الملائكة طاعته، ثم لقيه موسى عليه السلام والنبيون نبياً نبياً، فكلهم يقول مقالة عيسى عليه السلام (1).
وفي السماء الرابعة زعم القوم أنه صلى الله عليه وسلم رأى ديكاً بدنه درة بيضاء، وعيناه ياقوتتان حمراوان، ورجلاه من الزبرجد الأخضر، وهو ينادي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ولي الله، فاطمة وولداها الحسن والحسين صفوة الله، يا غافلين اذكروا الله، على مبغضيهم لعنة الله(2).
وفي نفس السماء صلَّى بالأنبياء وكانوا مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، وسألهم جبريل: بم بعثتم؟ ولم نشرتم الآن يا أنبياء الله؟
فقالوا بلسان واحد: بعثنا ونشرنا لنقر لك يا محمد بالنبوة، ولعلي بن أبي طالب بالإمامة(3).
وعندما وصل صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة سأله الله عز وجل: من لأمتك من بعدك؟ فقال: الله أعلم. قال: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد المسلمين(4).
__________
(1) البحار: (18/303)، المحتضر: (139).
(2) اليقين: (141)، البحار: (37/48).
(3) البحار: (40/42).
(4) الكافي: (1/442، 443)، غيبة الطوسي: (103)، الطرائف: (43)، غيبة النعماني: (45)، البحار: (18/306، 383، 403) (36/262، 280)، إثبات الهداة: (2/12، 134،153).(1/47)
وكأن القوم أرادوا أن يقولوا: إن صوت مائة وأربعة وعشرين ألف من الأنبياء -ولك أن تتخيل حجمه- وهم يقولون بإمامة علي بن أبي طالب، لم يكن له هذا التأثير؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يتذكر ذلك بعد لحظات لما سأله الله عز وجل: من لأمتك من بعدك؟ ليقول: الله أعلم، ولعلها غفلة استوجبت تحذير ديكهم، ليقول: يا غافلين، فتأمل!
نبقى مع القوم في السماء السابعة، لنراهم يروون عن الرضا، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما عرج بي إلى السماء نوديت: يا محمد، فقلت: لبيك ربي وسعديك، تباركت وتعاليت، فنوديت: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي، لك ولمن تبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي، فقلت: يا رب، ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد، أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي، فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش، فرأيت اثني عشر نوراً، في كل نور سطر أخضر عليه اسم وصي من أوصيائي، أولهم: علي بن أبي طالب، وآخرهم: مهدي أمتي، فقلت: يا رب، هؤلاء أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد، هؤلاء أوليائي، وأحبائي، وأصفيائي، وحججي بعدك(1).
ويرى القوم أنه بعد قراءته للأسماء نسي -أيضاً- أنهم أوصياؤه، كما أخبره بذلك ربه، فسأله في رواية أخرى للقوم: يا رب، من هؤلاء الذين قرنتهم بي؟ فنودي: يا محمد، هم الأئمة بعدك، والأخيار من ذريتك(2).
__________
(1) علل الشرايع: (5)، عيون أخبار الرضا: (1/238)، كمال الدين: (254)، البحار: (11/139) (18/345) (26/335) (52/312) (57/58) (60/303)، إثبات الهداة:(1/482، 584، 585)، منتخب الأثر: (61)، تأويل الآيات: (2/878).
(2) كفاية الأثر: (14)، البحار: (36/321).(1/48)
وحين سأله: يا محمد، فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: إلهي، لا علم لي، فقال له: يا محمد، هل اتخذت من الآدميين وزيراً أو أخاً ووصياً من بعدك؟ فقال: إلهي، ومن أتخذ تخير لي أنت؟ فأوحى الله إليه: يا محمد، اختر علياً، فقلت: إلهي، ابن عمي؟.. الرواية(1).
ولكن هل وقف الأمر على هذا؟
انظر إلى القوم -وبعد كل هذه التأكيدات والمواثيق وفي طريق العودة إلى الأرض وفي السماء الرابعة حيث ديكهم وتنبيهه للغافلين ومنهم واضع هذه الرواية- يروون أنه لما هبط النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء الرابعة ناداه ربه: يا محمد، قال: لبيك ربي، قال: من اخترت من أمتك يكون من بعدك لك خليفة؟ قال: اختر لي ذلك، فتكون أنت المختار لي، فقال: اخترت لك خيرتك علي بن أبي طالب(2).
وعلى أي حال، حتى لا يطول مكثنا في السماء، نجتزئ بالإيجاز الذي أوردناه، فالروايات الشبيهة الواردة في ليلة الإسراء كثيرة(3)، وقد أوردنا شيئاً منها في أول الباب أيضاً، وكل واحدة منها تناقض سابقتها وتسقطها، فضلاً عن إسقاطها للباب بأكمله، وهكذا جميع الروايات الآتية.
نعود إلى الأرض، وتحديداً إلى مكة؛ حيث لا زلنا مع القوم ورواياتهم قبل الهجرة.
__________
(1) كمال الدين: (238)، إثبات الهداة: (1/500)، البحار: (51/69) (52/276).
(2) أمالي الصدوق: (352)، أمالي الطوسي: (218)، البرهان: (4/199)، كشف اليقين: (22)، البحار: (18/341، 371) (36/160) (37/291) (38/108) (40/13)، إثبات الهداة:(2/70).
(3) للمزيد انظر: البحار: (40/13)، كشف اليقين: (22)، أمالي الطوسي: (353، 364)، أمالي الصدوق: (386، 387، 504)، نور الثقلين: (3/99) (4/470)، إثبات الهداة: (1/548)، كفاية الأثر: (15)، البحار: (36/323).(1/49)
روى القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه ليلة الهجرة: أرضيت أن أُطلب فلا أُوجد وتوجد فلعله أن يبادر إليك الجهال فيقتلوك؟ قال: بلى يا رسول الله، رضيت أن تكون روحي لروحك فداء، ونفسي لنفسك فداء(1).
لا شك أن وجه الدلالة غير خافٍ في الرواية، فافتراض القتل هنا، وفي روايات عدة سنأتي على ذكر بعضها لا يمكن توجيهها باعتبار أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلي الخلافة بعده صلى الله عليه وسلم، فكيف يفترض أن يقتل أو يموت قبله، والأمر واضح ولا أعتقد أنه يحتاج إلى زيادة تعليق.
فهذا يدل على خفاء النص على النبي صلى الله عليه وسلم الذي يزعمون أنه نص على إمامة علي رضي الله عنه وهو في مكه قبل الهجرة للمدينة.
أما بعد الهجرة، فقد رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى أوحى إليَّ أنه جاعل لي من أمتي أخاً ووارثاً وخليفةً ووصياً، فقلت: يا رب، من هو؟ فأوحى إليَّ عز وجل: يا محمد، إنه إمام أمتك، وحجتي عليها بعدك، فقلت: يا رب، من هو؟ فأوحى إلي عز وجل: يا محمد، ذاك من أحبه ويحبني، ذاك المجاهد في سبيلي، والمقاتل لناكثي عهدي، والقاسطين في حكمي، والمارقين من ديني، ذاك وليي حقاً، زوج ابنتك، وأبو ولدك علي بن أبي طالب(2).
لا أقل في تاريخ هذه الرواية من أنه بعد السنة الثالثة للهجرة، بدليل قول الله عز وجل: زوج ابنتك وأبو ولدك، ولا شك -وباعتبار كل ما مرَّ بك في هذا الباب- أنه سيتبادر إلى ذهنك عند قراءتك لبداية الرواية أن المقصود هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فواعجباً هل غاب ذلك عمن كان سبباً في النص على إمامة علي رضي الله عنه، بل يستفصل ويسأل حتى يبين الله أوصافه ثم يذكر له اسمه.
__________
(1) إثبات الهداة: (3/596)، مدينة المعاجز: (75)، تفسير العسكري: (466)، البحار: (19/81).
(2) أمالي الصدوق: (327)، البحار: (38/107)، إثبات الهداة: (2/67).(1/50)
ثم يروي لنا القوم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يسأل ربه أن يجعل علياً وصيه وخليفته من بعده، وأن يجعل الإمامة في الحسن والحسين(1).
وحين سأله جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه -بزعمهم- عن وصيه من بعده أمسك عنه عشراً لا يجيبه معتذراً بانتظار وحي السماء، ثم قال له: يا جابر، ألا أخبرك عما سألتني؟ فقلت: بأبي أنت وأمي، والله لقد سكتَّ عني حتى ظننت أنك وجدت عَلَيَّ، فقال: ما وجدت عليك يا جابر، ولكن كنت أنتظر ما يأتيني من السماء، فأتاني جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد، ربك يقول: إن علي بن أبي طالب وصيك، وخليفتك على أهلك وأمتك(2).
ومثلها عن سلمان الفارسي رضي الله عنه حين سأله: من وصيك من أمتك فإنه لم يُبْعث نبي إلا كان له وصي من أمته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يبيَّن لي بعد، فمكثت ما شاء الله أن أمكث، ثم دخلت المسجد فناداني، فقال: يا سلمان، سألتني عن وصيي من أمتي فهل تدري من كان وصي موسى من أمته؟ فقلت: يوشع بن نون فتاه، فقال: هل تدري لِم كان أوصى إليه؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: أوصى إليه لأنه كان أعلم أمته بعده، ووصيي وأعلم أمتي بعدي علي بن أبي طالب(3).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (220)، الكافي: (8/309)، إثبات الهداة: (2/94، 122، 141) (3/84)، البرهان: (1/279) (2/209) (3/36)، تأويل الآيات: (1/106، 224، 310)، البحار:(23/221، 145) (36/80، 100، 126، 147) (38/92، 110، 140، 143، 146، 329) (39/290) = = (40/61)،أمالي الصدوق:(28)، كنز الكراجكي:(208)، قرب الإسناد:(14)، المناقب:(1/550)، نور الثقلين: (3/276).
(2) أمالي الطوسي: (193)، أمالي المفيد: (99)، البحار: (38/114)، إثبات الهداة:(2/96).
(3) أمالي الصدوق: (21)، البحار: (38/18)، إثبات الهداة: (2/50).(1/51)
ولا تحتاج هذه الروايات إلى تعليق، فكيف يستقيم أن يجهل جابر بن عبدالله الأنصاري وسلمان الفارسي رضي الله عنهما(1)، مما علم من الدين بالضرورة باعتقاد القوم، حتى سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غاب عنه هو أيضاً بزعم القوم من قال عنه: إن مدار قبول الأعمال على القول بإمامته، ولولاه لما خلق الله الأكوان... إلى آخر ما مرَّ ذكره، حتى انتظر نزول الوحي به بعد عشر، ولا أدري أهي أيام أو شهور أو سنين، ولكن لا يغب عن بالك أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو معلوم من علم الأصول.
وفي يوم الخندق ذكر القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما انتدب عمروٌ للمبارزة، وجعل يقول: هل من مبارز؟ والمسلمون يتجاوزون عنه، فركز رمحه على خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ابرز يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يقوم إلى مبارزته فله الإمامة بعدي؟ فنكل الناس عنه، فقال: ادن مني يا علي، فنزع عمامته السحاب من رأسه وعممه بها وأعطاه سيفه، وقال: امض لشأنك، ثم قال: اللهم أعنه. وروي أنه لما قتل عمراً أنشد أبياتاً منها:
قد قال إذ عممني عمامة ... أنت الذي بعدي له الإمامة (2)
__________
(1) انظر روايات أخرى عنهما: كمال الدين: (246)، منتخب الأثر: (49، 50، 51، 59، 101، 108، 159)، مذهب أهل البيت: (16)، وصي الرسول الأعظم: (33)، إثبات الوصية: (15، 18).
(2) البحار: (41/88).(1/52)
فانظر معي إلى هذه الرواية، فرغم أن أحداثها وقعت في السنة الخامسة للهجرة حيث غزوة الخندق، لكن لا زال أعظم أركان الدين عند القوم غير مبيّن، وكنت أنتظر من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يستدرك الأمر ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمر الإمامة قد انتهى بتعيينه خليفة له منذ أن نزل قوله عز وجل: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214]، ولكن لم يحصل ذلك، فضلاً عن الروايات التي أوردناها، وفضلاً عن مليوني عام قبل الخلق، ويزيد من حيرتي صمت الصحابة رضوان الله عليهم، وعدم استدراك أحد منهم ذلك، وَلَعَلِّي أجد عند القوم ما يذهب عني حيرتي.
نعود إلى مسألة الخوف من موت اللاحق قبل السابق، ففي الغزوة نفسها وبعد أن خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمبارزة عمرو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا أخي علي بن أبي طالب، رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين(1).
وتتكرر القضية في موطن آخر، فقد روى القوم أن علياً خرج في سرية ثلاثة أيام لا يأتيه جبرئيل بخبره ولا خبر من الأرض، وأقبلت فاطمة بالحسن والحسين تقول: أوشك أن يؤتم هذين الغلامين، فأسبل النبي عينيه يبكي، ثم قال: معاشر الناس، من يأتيني بخبر علي أبشره بالجنة، وافترق الناس في الطلب لعظم ما رأوه بالنبي، وخرج العواتق، فأقبل عامر بن قتادة يبشره بعلي، وهبط جبرئيل عليه السلام على النبي فأخبره بما كان فيه(2).
__________
(1) البحار: (20/215) (38/300، 309) (39/3)، البرهان: (3/71)، تأويل الآيات: (1/329).
(2) الخصال: (95)، أمالي الصدوق: (93)، البحار: (41/74).(1/53)
ولسائل أن يسأل القوم عن كل هذا الخوف والقلق والاضطراب الذي استدعى إعلان حالة الطوارئ، وتفرق الناس في الأرض، وخروج العواتق، ونزول جبرئيل من أجل الخوف من موت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا زال حياً ماثلاً أمامهم، فكيف يفترض موت الخلف قبل السلف مادام هناك نص على خلافته بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟
وفي فتح مكة وجد متعلقاً بأستار الكعبة يسأل الله عز وجل العضد، ناسياً كل ما ذكرناه من مقدمة الباب حتى الرواية السابقة، حتى استوجب غضب جبريل عليه السلام بزعم القوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم ابعث إليَّ من بني عمي من يعضدني، فهبط جبرئيل كالمغضب، فقال: يا محمد، أوليس قد أيدك الله بسيف من سيوف الله مجرد على أعداء الله؟ يعني بذلك علي بن أبي طالب(1).
فلاحظ متى كان فتح مكة!
ثم نراه في غدير خم وقد هبط عليه جبرئيل عليه السلام بأمر من الله عز وجل بنصب علي رضي الله عنه بزعمهم، متسائلاً عن هذا الولي الذي سيكون من بعده، حيث قالوا: إن جبرئيل عليه السلام نزل يوم غدير خم، فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تعلم أمتك ولاية من فرضت طاعته ومن يقوم بأمرهم من بعدك، وأكَّد ذلك في كتابه، فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59]، فقال: إي ربي، ومن ولي أمرهم بعدي؟ فقال: من هو لم يشرك بي طرفة عين، ولم يعبد وثناً ولا أقسم بزلم، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(2).
__________
(1) المناقب: (2/67)، البحار: (41/61).
(2) كشف اليقين: (131)، البحار: (37/324).(1/54)
ولما قرب أجله، روى القوم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما قبض الله نبياً حتى أمره أن يوصي إلى عشيرته من عصبته، وفي لفظ: إلى أفضل عشيرته من عصبته، وأمرني أن أوصي، فقلت: إلى من يا رب؟ فقال: أوص يا محمد إلى ابن عمك علي بن أبي طالب، فإني قد أثبته في الكتب السالفة، وكتبت فيها أنه وصيك، وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي، وأخذت مواثيقهم لي بالربوبية، ولك يا محمد بالنبوة، ولعلي بن أبي طالب بالولاية(1).
أقول: لا شك أن ورود إمامته في الكتب السالفة يقتضي ورود ذلك في القرآن من باب أولى، فبذلك يكون جهله صلى الله عليه وسلم ممتنعاً من هذه الجهة، أما خلافه ففيه إسقاط للمعتقد من أصله، وسنأتي على بيان ذلك في حينه(2).
وأمر آخر في الرواية: وهو أن الله تعالى إن كان قد أخذ المواثيق بإمامته رضي الله عنه على الخلائق بما فيهم الأنبياء والرسل عليهم السلام، فلا شك أن خير البشر صلى الله عليه وسلم على رأسهم، فكيف جهل بهذا الميثاق؟
ثم يروي لنا القوم أنه صلى الله عليه وسلم بكى عند موته، فجاءه جبرئيل، وقال: لم تبكي؟ قال: لأجل أمتي، من لهم بعدي؟ فرجع، ثم قال: إن الله تعالى يقول: أنا خليفتك في أمتك(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: (102)، البحار: (15/18) (26/272) (38/111)، إثبات الهداة: (2/93)، تأويل الآيات: (2/566)، البرهان: (4/148)، بشارة المصطفى: (39).
(2) راجع باب: الإمامة والقرآن من كتابنا هذا.
(3) المناقب: (3/268)، البحار: (39/85).(1/55)
فنِعمَ سببُ البكاء، ونعم الخليفة الله عز وجل الذي لم يشأ أن يجمع هذه الأمة المرحومة على ضلالة، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يخشى على أمر أمته من بعده كما تذكر روايات القوم، وكان يُذَكِّر الوالي بعده، ويقول: أُذَكِّر الله الوالي من بعدي على أمتي إلا ترحّم على جماعة المسلمين، فأجلّ كبيرهم، ورحم ضعيفهم، ووقر عالمهم، ولم يُضرَّ بهم فيذلهم، ولم يفقرهم فيكفرهم، ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم... إلخ، وكان ذلك آخر كلام تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبره، كما ذكر القوم ذلك عن الصادق(1).
وهذه النصائح إن كانت موجهة إلى الإمام المعصوم فهي عبث لا فائدة منها، إذ إن المعصوم ليس بحاجة إلى توجيه علني على رءوس الملأ كهذا، أما إن كانت النصائح موجهة إلى من سيغتصب الخلافة من الإمام المعصوم -حسب معتقد القوم- فإن عبثيتها ستكون أشد، إذ إن من تجرأ على اغتصاب الخلافة من الإمام المعصوم رغم كل ما مرَّ من نصوص لإثباتها لن يردعه حديث أو حديثان، فما هي الفائدة المرجوة من هذه النصائح؟
وبهذه الروايات التي لا تخلو من فوائد أخرى لا تخفى على القارئ اللبيب، تسقط جميع الروايات الآنفة الذكر من مليوني سنة قبل الخلق إلى موته صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة.
__________
(1) الكافي: (1/406)، البحار: (22/495) (27/247) (100/32)، قرب الإسناد: (48).(1/56)
ونجتزئ بهذا القدر من الروايات في جهل أو غياب النص عنه صلى الله عليه وسلم بزعم القوم(1)، لما التزمنا به في المقدمة من الاقتصار على ذكر بعض الأمثلة في كل موضوع لا حصر جميع الروايات، ولما سنورده من روايات أخرى تجدها مبثوثة في طيات هذا الكتاب.
روايات من طرق الشيعة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تتعارض مع مسألة النص:
هذا ما كان من شأن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم والنص، أما شأن صاحب الشأن وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإليك بياناً موجزاً بذلك.
ذكرنا ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم منذ حديث بدء الدعوة وما بعدها، وننتقل إلى السنة الثالثة عشرة من البعثة، وتحديداً ليلة الهجرة، لنضيف التالي:
يروي القوم أنه رضي الله عنه لما بات في فراش النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه(2).
__________
(1) للمزيد انظر: منتخب الأثر: (29، 104، 200)، البحار: (14/207) (16/317) (17/309) (18/97، 205،370)(23/272)(24/181)(36/158، 159)(37/306)(38/157)(40/18) (44/198، 225)، المحتضر:(107، 143)، تأويل الآيات: (1/273، 276) (2/578، 579، 596، 597)، اليقين: (158)، البرهان: (4/172، 174، 199، 200، 512)، الخصال: (293)، بشارة المصطفى: (49)، كشف اليقين: (50، 88)، مدينة المعاجز: (73)، تفسير العسكري: (158)، البصائر:(468، 469)، الكافي:(1/464)، نور الثقلين: (2/342) (5/13)، إثبات الهداة: (1/525) (2/196)، الروضة: (378)، أمالي الطوسي: (106).
(2) الاختصاص: (165)، الخصال: (367)، البحار: (38/169)، وانظر أيضاً: أمالي الطوسي: (460)، نور الثقلين: (1/205).(1/57)
وفي رواية: فلما نامت العيون جاء أبو طالب ومعه أمير المؤمنين، فأقام رسولَ الله واضطجع أمير المؤمنين مكانه، فقال أمير المؤمنين: يا أبتاه، إني مقتول (1).
ولا شك أنك أدركت وجه الاستدلال هنا، فافتراض القتل يتعارض مع إرادة الله عز وجل في أن تكون الإمامة فيه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزعم القوم، ناهيك عن تذكره -وهو يرى القتل- ما سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أشهر من مبيته، لما قال له بزعمهم: لما أسري بي إلى السماء نظرت إلى ساق العرش؛ فإذا مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلي، ونصرته به، ورأيت اثني عشر نوراً، فقلت: يا رب، أنوار من هذه؟ فنوديت: يا محمد، هذه أنوار الأئمة من ذريتك، فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله، ألا تسميهم لي؟ قال: نعم، أنت الإمام والخليفة بعدي... ثم ذكر أسماء بقية الأئمة(2).
أما سؤاله وسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم قبله، فلا أذكرك به، فهو موضوع الباب كله.
وفي المدينة وبعد الهجرة يروي لنا القوم التالي: دخل علي على رسول الله وعنده جبرئيل في صورة دحية الكلبي وسلَّم، فقال جبرئيل: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال رسول الله: يا علي، سلمت عليك ملائكة الله وسكان سمواته بإمرة المؤمنين من قبل أن يسلم عليك أهل الأرض.
يا علي، إن جبرئيل فعل ذلك من أمر الله وقد أوحى إليَّ عن ربي عز وجل من قبل دخولك أن أفرض ذلك على الناس وأنا فاعل ذلك إن شاء الله تعالى... إلى آخر الرواية، وفيها بيعة المهاجرين والأنصار له(3).
وهذه الرواية تؤكد بطلان كل ما مرَّ بك.
__________
(1) الفصول المختارة: (33)، البحار: (36/46)، وانظر روايات أخرى في المقام: أمالي الطوسي: (459، 460، 481)، البحار: (19/55).
(2) إثبات الهداة: (1/598)، منتخب الأثر: (121).
(3) كشف اليقين: (137)، الإقبال: (454)، البحار: (28/91).(1/58)
ونواصل مشوارنا مع غياب النص في أعظم الأركان عند القوم وعن صاحبه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونعود إلى مسألة افتراض الموت أو الرغبة في الشهادة، ففي رده على رجل سأله في أيام خلافته عن الفتنة، قال رضي الله عنه فيما قاله: قلت لرسول الله: أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحِيزت عني الشهادة فشق ذلك عليَّ، فقلت: أبشر، فإن الشهادة من ورائك... الرواية(1).
وفي رواية: بأبي أنت وأمي كيف حرمت الشهادة(2)؟
ثم رأيناه يوم الخندق يشارك النبي في نسيانه عندما قال: من يقوم إلى مبارزة عمرو بن ود وله الإمامة بعدي؟
بل نراه ينظم في ذلك شعراً، وقد مرَّ بك تفصيل ذلك، والعجيب أن هذا أيضاً نسيه بعد أيام(3)، ففي غزوة وادي الرمل أو ذات السلسلة لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون فيها بكت الزهراء رضي الله عنها، فدخل النبي وهي على تلك الحال، فقال لها: مالك تبكين؟ أتخافين أن يقتل بعلك، كلا إن شاء الله، فقال علي: لا تنفَسْ علي بالجنة يا رسول الله، ثم خرج(4).
__________
(1) نهج البلاغة: (275)، البحار: (32/241)(41/7)(72/138)، نور الثقلين: (4/148)، الصافي: (4/110).
(2) الاختصاص: (159)، البحار: (36/26) (40/114)، تأويل الآيات: (1/123)، سعد السعود: (112).
(3) هذا باعتبار أن غزوة الخندق كانت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وذكر المفيد (كما في البحار:21/80)، أن غزوة ذات السلاسل كانت بعد غزوة بني قريظة وقبل غزوة بني المصطلق، وغزوة بني قريظة كانت بعد الخندق مباشرة.
(4) إعلام الورى: (116)، البحار: (21/81)، الإرشاد: (61).(1/59)
ثم يروي لنا القوم بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه لما كان مع أخيه جعفر وعمه العباس رضي الله عنهم في البقيع، حيث قال: ألا أبشرك، ألا أخبرك يا علي؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: كان جبرئيل عندي آنفاً، وخبرني أن القائم الذي يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً من ذريتك من ولد الحسين، فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أصبنا قط خيراً من الله إلا على يدك(1).
ولا شك أن تاريخ هذه الرواية قريب من السنة الثامنة من الهجرة حيث معركة مؤتة التي استشهد فيها جعفر رضي الله عنه، ويقيناً حصولها بعد الهجرة بدلالة إسلام العباس وعودة جعفر من الحبشة أثناء غزوة خيبر، وذكر البقيع، رغم ذلك فدلالات عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم والأمير بالأئمة واضحة، هذا برواية القوم أنفسهم.
وفي موطن آخر يذكر القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: اكتب ما أملي عليك، فقال: يا نبي الله، أتخاف علي النسيان؟ قال: لست أخاف عليك النسيان وقد دعوت الله لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك، قال: قلت: ومن شركائي يا نبي الله؟ قال: الأئمة من ولدك، وهذا أولهم، وأومأ بيده إلى الحسن بن علي، ثم أومأ بيده إلى الحسين، ثم قال: والأئمة من ولده(2).
__________
(1) غيبة النعماني: (165)، البحار: (51/77)، إثبات الهداة: (3/542).
(2) كمال الدين: (199، 270)، الصافي: (1/19)، أمالي الصدوق: (241)، أمالي الطوسي:(454)، البصائر: (167)، إثبات الهداة: (1/495، 543، 566)، البحار:(36/232، 257، 275)(92/99)، منتخب الأثر: (35).(1/60)
ولكن يبدو أن واضع هذه الرواية يرى أن الدعاء المذكور لم يؤتِ ثماره، فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه نراه ناسياً حيث يقول بزعم القوم: قلت لرسول الله: أخبرني بعدد الأئمة بعدك؟ فقال: يا علي، هم اثنا عشر، أولهم أنت، وآخرهم القائم(1).
وفي موطن آخر وبعد أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد استجاب الله لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك، قال: يا رسول الله، ومن شركائي من بعدي؟ قال: الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه وبي، فقال: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59] فقلت: يا رسول الله، من هم؟ فقال: الأوصياء مني، فقلت: يا رسول الله، سمهم لي؟ فقال: ابني هذا، ووضع يده على رأس الحسن، ثم ابني هذا، ووضع يده على رأس الحسين، ثم ابن له يقال له: علي، سيولد في حياتك، فأقرئه مني السلام، ثم يكمله اثنا عشر إماماً(2).
ويبدو -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يردد ذلك عليه مراراً، ففي روايات القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أنت الإمام والخليفة بعدي، وابناك هذان إمامان وسيدا شباب أهل الجنة(3).
وفي رواية: أنت سيد الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنة(4).
وفي أخرى: أنت الوصي على الأموات من أهل بيتي، والخليفة على الأحياء من أمتي(5).
__________
(1) أمالي الصدوق:(68، 374)، كمال الدين: (16، 165)، عيون الأخبار: (38)، كفاية الأثر: (21) إثبات الهداة: (1/531)، البحار: (36/232، 336).
(2) كمال الدين: (1/284)، غيبة النعماني: (51)، إثبات الهداة: (1/512، 621، 643)، البحار: (36/257، 276) (92/99).
(3) كفاية الأثر: (13، 18، 21)، البحار: (36/319، 330، 337)، منتخب الأثر: (68).
(4) كفاية الأثر: (14)، البحار: (36/320).
(5) كفاية الأثر: (20)، البحار: (36/335).(1/61)
ولا زال صلى الله عليه وسلم يبين ذلك ولا زال هو رضي الله عنه يَسأل ويَسأل، ففي رواية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أمِنَّا الهداةُ أم من غيرنا(1)؟
وفي أخرى: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أولو الأمر؟ قال: أنت يا علي أولهم(2).
وأخرى: قال: يا رسول الله، فكم يكون بعدي من الأئمة(3).
وأخرى: قلت لرسول الله: أخبرني بعدد الأئمة بعدك؟(4) وأخرى.. وأخرى.
رغم روايتهم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي أكثر من عشر مرات: يا علي، إنك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه، ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه (5).
ولا أدري كم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى سمعها سلمان هذا العدد من المرات، ولم أقف -إضافة إلى جدوى إخباره بذلك رغم كل تلك النصوص التي أوردناها في المقدمة- على الفرق بين الأحياء والأموات وبين الأمة والأهل في مسألة الخلافة.
نعود إلى مسألة افتراض الموت.
فقد روى القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنفذ علياً في خيلٍ عند محاصرته أهل الطائف، وأمره أن يكسر كل صنم وجده، فلقيه جمعٌ كثير من خثعم، فبرز له رجل من القوم، وقال: هل من مبارز؟ فلم يقم أحد، فقام علي، فوثب العاص بن الربيع زوج بنت النبي، فقال: تكفاه أيها الأمير؟ فقال: لا، ولكن إن قتلت فأنت على الناس(6).
__________
(1) كمال الدين: (134)، إثبات الهداة: (1/496)، البحار:(23/42)(32/243)(51/93).
(2) إثبات الهداة: (2/200).
(3) إثبات الهداة: (1/590).
(4) أمالي الصدوق: (502)، منتخب الأثر: (502)، البحار: (36/232).
(5) البحار: (8/337)، وصي الرسول الأعظم: (3).
(6) إعلام الورى: (124)، البحار: (21/163، 169)، المناقب: (1/211).(1/62)
ثم ها هو الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، يروي القوم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: أنت وارث علمي، ومعدن حكمي، والإمام بعدي، فإذا استشهدت فابنك الحسن، فإذا استشهد الحسن فابنك الحسين، فإذا استشهد الحسين فابنه علي، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمة أطهار، فقلت: يا رسول الله، فما أسماؤهم؟ قال: علي، ومحمد، وجعفر، وموسى، وعلي، ومحمد، والحسن، والمهدي، من صلب الحسين، يملأ الله تعالى به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً(1).
فالحسن رضي الله عنه ولد في السنة الثالثة من الهجرة، ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة، فتأمل كم كان عمر الحسن رضي الله عنه عندما سمع هذا الحديث ووعاه، فلا أقل من أن ذلك كان في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم ذلك نرى عدم علم الأمير رضي الله عنه بالأئمة لا زال آخذاً مأخذه، حتى لو كان السائل هو الحسن فالأمر سيان.
وكذا رواية الحسين رضي الله عنه، حيث ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا حسين، أنت الإمام، ابن الإمام، أبو الأئمة، تسعة من ولدك أئمة أبرار، ووضع يده على كتف الحسين، وقال: يخرج من صلبه رجل مبارك سميّ جده علي، ويخرج الله من صلب علي ولداً سميّي وأشبه الناس بي، يبقر العلم بقراً، ويخرج الله من صلبه كلمة الحق يقال له: جعفر، صادق في قوله وفعله -وذكر بقية الأئمة- فقال له علي: من هؤلاء؟ قال: يا علي، أسامي الأوصياء من بعدك(2).
__________
(1) كفاية الأثر: (22)، البحار: (36/340)، إثبات الهداة: (1/592)، منتخب الأثر: (113).
(2) كفاية الأثر: (11)، إثبات الهداة: (1/581)، البحار: (36/314).(1/63)
ويروى -بزعم القوم- أنه رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، فقال: يا علي، هذه الآية نزلت فيك وفي سبطيك والأئمة من ولدك، قلت: يا رسول الله، وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم ابناك الحسن والحسين، وبعد الحسين علي ابنه -ثم ذكر بقية الأئمة- وقال: هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله عن ذلك، فقال: يا محمد، هم الأئمة بعدك(1).
وينسى القوم في فورة حماسهم دعاء الرسول له بعدم النسيان، حيث نراه وقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الموت، يقول لعلي -كما ذكر القوم عن عمار بن ياسررضي الله عنه-: يا علي، أنت وصيي ووارثي(2)، وإن كنت لا أدري أيهما الناسي.
وفي رواية ثانية نسبها القوم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه، يقول فيها: لما حضرت رسول الله الوفاة دعاني، فلما دخلت عليه قال لي: يا علي، أنت وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد موتي(3).
وفي أخرى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي كانت وفاته: يا علي، أحضر صحيفة ودواة، فأملى عليه وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع، فقال: يا علي، إنه سيكون من بعدي اثنا عشر إماماً، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماماً، وأنت خليفتي على أمتي من بعدي، فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن، ثم ذكر بقية الأئمة(4).
__________
(1) كفاية الأثر: (21)، إثبات الهداة: (1/590)، منتخب الأثر: (111)، البحار:(36/336).
(2) كفاية الأثر: (17)، البحار: (22/536) (36/328).
(3) الخصال: (652)، كشف اليقين: (137)، البحار: (22/463) (37/326).
(4) غيبة الطوسي: (104)، إثبات الهداة: (1/549)، البحار: (36/260) (53/147).(1/64)
فلا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن خائفاً على علي رضي الله عنه النسيان وقد دعا له، حتى يُذكّره بذلك في لحظاته الأخيرة، كما لا يحتاج إلى بيان ذلك، فقد فرض الله ولايته على المسلمين منذ يوم الدار في بدء الدعوة، إلى يوم الغدير، فضلاً عن مئات وألوف بل ملايين السنين قبل الخلق، فهذا ما كان من شأن الأمير رضي الله عنه، وقد أعرضنا عن ذكر عشرات النصوص في ذلك(1).
روايات من طرق الشيعة عن الحسن رضي الله عنه تنفي وجود النص على افتراضه:
أما شأن الحسن رضي الله عنه -إضافة إلى ما سبق- فنراه وهو إمام منصوب ومنصوص عليه من الله عز وجل يبايع معاوية بن أبي سفيان(2) الذي هو إمام ليس من الله، وهو يعلم -كما يروي القوم عن أبي جعفر- قوله: قال الله تبارك وتعالى: لأعذبن كل رعية في الإسلام أطاعت كل إمام ليس من الله وإن كانت الرعية بارة تقية(3).
وعن أبي عبدالله في قوله تعالى: (الطَّاغُوتُ) إنما عني بذلك أنهم كانوا على نور الإسلام، فلما تولوا كل إمام جائر ليس من الله خرجوا بولايتهم إياه من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب الله لهم النار مع الكفار(4).
__________
(1) انظر روايات أخرى في غياب النص عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزعم القوم: منتخب الأثر: (52، 200)، نور الثقلين: (1/504)، البحار: (36/314)، كفاية الأثر: (12).
(2) البحار: (10/143) (44/29، 57، 61، 66)، كشف الغمة: (2/145)، أمالي الطوسي:(571، 577، 578)، الفصول المختارة: (274)، نور الثقلين: (5/193).
(3) الاختصاص: (259)، ثواب الأعمال (198)، المحاسن: (94)، غيبة النعماني: (64)، أمالي الطوسي: (46)، العياشي: (1/159)، البرهان: (1/244)، نور الثقلين: (1/265)، البحار:(25/110) (26/349) (27/193، 201) (65/105، 113، 142) (68/142).
(4) البحار: (8/369)(23/323)(67/23)(68/104، 105) (72/135)، غيبة النعماني: (65)، الكافي: (1/375)، العياشي: (1/138).(1/65)
وغير ذلك مما أوردناه في المقدمة كعدم قبول الأعمال، ولاشك أنه يعلم أن أباه كان يقول لمعاوية: إنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعرض فيهم الشورى(1).
وكان يقول: إني لا أرضى بمعاوية أميراً، ولا العامة ترضى به خليفة(2).
وكان يصر على قتاله رغم اجتماع الناس عليه، فقد روى القوم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع ضوضاء في عسكره، فقال: ما هذا؟ قالوا: هلك معاوية، قال: كلاَّ والذي نفسي بيده، لن يهلك حتى تجتمع عليه هذه الأمة، قالوا: فبم تقاتله؟ قال: ألتمس العذر فيما بيني وبين الله تعالى(3).
أو على الأقل يدعوه للمبارزة، فأيهما قتل صاحبه فالأمر له كما فعل أبوه رضي الله عنه معه يوم صفين(4)، ولا خوف على الحسن ما دام أشجع الناس، فضلاً عن كونه -كما يزعم القوم-(5) يعلم أنه محفوظ معصوم، فمن أي شيء يخاف إذاً؟!
وقبلها قالها جده صلوات الله وسلامه عليه: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان(6).
لذا ملأ القوم كتبهم من عتاب ولوم أصحابه له رضي الله عنه على ذلك، فهذا سليمان بن صرد الخزاعي يقول له: ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاويةَ ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز(7).
وذاك يسمي الحسن رضي الله عنه بمذل المؤمنين، وآخر يقول له: يا مسود وجه المؤمنين.
وآخر: سودت وجوه المؤمنين.
وآخر وهو سفيان بن ليلى قال له: يا مذل المؤمنين.
__________
(1) البحار: (32/367، 570) (33/78)، المناقب: (2/348).
(2) البحار: (32/367).
(3) البحار: (41/298).
(4) البحار: (32/477، 504، 584).
(5) معاني الأخبار: (35)، الخصال: (528)،العيون: (118)، الاحتجاج: (240)، البحار: (25/116، 165) (48/201) (68/390) (72/150) (93/44، 64).
(6) البحار: (33/249) (44/312، 326)، الملهوف: (25).
(7) البحار: (44/29، 57)، نور الثقلين: (5/193).(1/66)
وفي رواية: ومسود وجوه المؤمنين(1).
وسفيان هذا من الممدوحين عند القوم، بل من حواريي الحسن رضي الله عنه (2).
وهذا حجر بن عدي رضي الله عنه يقول له: أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم(3).
والحسن رضي الله عنه رغم كل هذا كان يقول: أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء(4).
ولن نناقش القوم في عصمة الحسن رضي الله عنه؛ سواء باعتبار بيعته لمعاوية، أو عدم فهم أصحابه وحواريه بأنه إمام معصوم، وليس في أفعاله ما يستوجب تسويد وجوه المؤمنين أو إذلالهم، فإن لنا مع هذا الموضوع شأناً تراه في حينه، ولكن لا شك أنه وهو يبايع معاوية لم يكن يرى أنه منصوص عليه من الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن كلامه إلى معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقد بايعه الناس بعد وفاة أبيه، قال: فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما نزل به الموت ولاَّني هذا الأمر من بعده(5).
__________
(1) البحار: (18/127) (44/23، 26، 28، 58، 59) (78/287)، إعلام الورى: (46)، التحف: (307).
(2) الاختصاص: (61)، البحار: (44/23) (الحاشية) (112)، إعلام الورى: (46).
(3) نور الثقلين: (5/193)، البحار: (44/57)، وانظر روايات أخرى في لوم أصحابه له: البحار: (44/1، 19، 56، 58، 59) (51/132)، المناقب: (4/36)، مقاتل الطالبيين: (47)، إثبات الهداة: (2/546، 547).
(4) الاحتجاج: (148)، البحار: (44/20).
(5) البحار: (44/40، 60).(1/67)
ومن كلامه رضي الله عنه -أيضاً- ما كتبه في كتاب الصلح لمعاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحدٍ من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين... إلى آخر ما جاء في كتابه رضي الله عنه (1).
فأنت ترى أن هذا الأمر للحسن رضي الله عنه، فسلمه لمعاوية، ثم أمره بأن يسير بسيرة الخلفاء الذين هم الراشدون عند الحسن رضي الله عنه، ولكنهم الغاصبون للخلافة عند من يزعم أنه من شيعته، ويأمره أن يجعل الأمر شورى من بعده، ليسقط كل ما ذكرناه من أول الكتاب.
وكون الأمر إليه ليس بنص من الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، يؤكده قوله رضي الله عنه عن نفسه حيث يقول لأصحابه: إن هذا الأمر الذي أختلف فيه أنا ومعاوية إما أن يكون حق امرئ فهو أحق به مني، وإما أن يكون حقاً هو لي فقد تركته(2).
مبايعة الحسن لمعاوية وإنكار الكثير من أصحابه عليه ذلك ورجوع جماعة من الشيعة عن القول بالإمامة ودخولهم في مقالة جمهور الناس:
كان من مواقف الحسن رضي الله عنه أن رجع جماعة من أصحابه عن القول بإمامته، فدخلوا في مقالة جمهور الناس(3).
__________
(1) كشف الغمة: (2/145)، البحار: (44/65).
(2) كشف الغمة: (2/141)، البحار: (44/62)، نور الثقلين: (3/468).
(3) فرق الشيعة: (24).(1/68)
وقبل ذلك كله نرى -أو يرينا القوم- أن مسألة افتراض موت أو قتل اللاحق تتكرر هنا أيضاً، فها هو أبوه رضي الله عنه يقول في معركة صفين: فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان -وأومأ بيده إلى الحسن والحسين- فينقطع نسل رسول الله وذريته من أمته(1).
وتكررت المسألة في وصيته رضي الله عنه حيث يقول: وإن حدث بحسن حدث وحسين حي فإنه إلى -وفي لفظ: من قام بالأمر بعده- الحسين بن علي(2).
وعلى ذكر الوصية، فقد روى القوم عن الباقر، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جمع بنيه وهم اثنا عشر ذكراً، فقال لهم: إن الله أحب أن يجعل فِيَّ سنة من يعقوب؛ إذ جمع بنيه وهم اثنا عشر ذكراً، فقال لهم: إني أوصي إلى يوسف فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أوصي إلى الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا، فقال له عبد الله ابنه: دون محمد بن علي؟ يعني: ابن الحنفية، فقال له: أجرأة عليّ في حياتي؟(3)
__________
(1) الخصال: (380)، الاختصاص: (180)، نهج البلاغة: (399)، البحار: (33/319) (38/182) (42/99، 106)، وانظر روايات أخرى في المقام نفسه: البحار:(32/552، 562) (43/234) (45/349)، نهج البلاغة: من كلام له في بعض أيام صفين.
(2) الكافي: (7/49)، نهج البلاغة: (460)، البحار: (41/41) (42/72، 254) (103/184)، إثبات الهداة: (2/544).
(3) البحار: (41/296) (42/87)، إثبات الهداة: (2/457).(1/69)
فها هو ابن الخليفة والوزير ويوم الدار والغدير يعترض عليه حتى استوجب غضبه، ذاهلاً عن أن هؤلاء قد نص الله على إمامتهم قبل ملايين السنين، وقديماً قالوا: أهل البيت أدرى بما فيه، ولعلنا نلتمس له العذر في هذا الالتباس ما دام أبوه رضي الله عنه قد أوصى في أمرٍ هو تحصيل حاصل، وذلك للفراغ منه بكل ما أوردناه من قبل، وكذا صمت الأحد عشر الآخرين، وعلى رأسهم: السبطان رضي الله عنهما؛ بل كيف لا نعذره ونحن نجد القوم يقولون: إن الحسن رضي الله عنه - الذي احتج عبدالله على أبيه بسببه وأخيه دون ابن الحنفية - سأل جده صلى الله عليه وسلم عن الأئمة بعده(1).
وعلى أي حال، فتأخر تاريخ هذه الرواية واضح فتدبّر.
روايات من طرق الشيعة تدل على عدم علم الحسين رضي الله عنه بالنص على افتراضه وأخرى على جهله بكون النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء:
أما شأن الحسين رضي الله عنه فأَعْجَب! فقد روى القوم عنه أنه لما أنزل الله تبارك وتعالى: ((وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)) [الأنفال:75] قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تأويلها؟ فقال: والله ما عنى بها غيركم وأنتم أولو الأرحام، فإذا مت فأبوك علي أولى بي وبمكاني، فإذا مضى أبوك فأخوك الحسن أولى به، فإذا مضى الحسن فأنت أولى به، قلت: يا رسول الله، فمن بعدي أولى بي؟
وفي رواية: يا رسول الله، من بعدي؟(2)
__________
(1) كفاية الأثر: (21، 22)، البحار: (36/339، 341)، إثبات الهداة: (1/592، 651)، منتخب الأثر: (30).
(2) كفاية الأثر: (23)، البحار: (36/344)، إثبات الهداة: (1/593)، منتخب الأثر:(113).(1/70)
وروى القوم عنه -أيضاً- أنه رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله وهو متفكر مغموم، فقلت: يا رسول الله ما لي أراك متفكراً؟ فقال: يا بني، إن الروح الأمين قد أتاني، فقال: يا رسول الله؛ العلي الأعلى يقرئك السلام، ويقول لك: إنك قد قضيت نبوتك، واستكملت أيامك، فاجعل الاسم الأكبر، وميراث العلم، وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب، فإني لا أترك الأرض إلا وفيها عالم تعرف به طاعتي وتعرف به ولايتي، فإني لم أقطع علم النبوة من الغيب من ذريتك كما لم أقطعها من ذريات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم، قلت: يا رسول الله، فمن يملك هذا الأمر بعدك؟ قال: أبوك علي بن أبي طالب أخي وخليفتي(1).
ولن أجدني مضطراً إلى بيان تأخر هذه الرواية وقربها من وفاته صلى الله عليه وسلم، أو بيان كيف خفي النص حتى هذا الوقت، فهو أمر قد اصطحبته معك من أول الكتاب وعبر كل الروايات السابقة، ولكن لا يفوتني أن أبدي حيرتي وتعجبي من سؤاله رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم عمن يملك هذا الأمر بعده، رغم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لقول جبرئيل: فاجعل الاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة عند علي بن أبي طالب، وكأن واضع الرواية يريد أن يقول: إن الحسين رضي الله عنه لم يفهم أن من جعل عنده كل هذا فإنه أولى بالإمامة، وأعجب من سؤاله هذا سؤاله للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل يكون بعدك نبي؟(2)
__________
(1) كفاية الأثر: (24)، البحار: (36/345)، إثبات الهداة: (2/4) (2/19، 110، 112)، البصائر: (468)، منتخب الأثر: (70).
(2) المناقب: (1/300)، إثبات الهداة: (1/670)، منتخب الأثر: (54)، البحار: (36/271).(1/71)
فمن جهل بكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، فجهله بالإمام من بعده أولى، ولكن أن يخبرنا القوم أن ذلك صدر منه رضي الله عنه وهو من الأئمة المنصوص عليهم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بزعمهم، فهو أمر لا يمكن توجيهه بحال.
أما الطامة الكبرى، فهي هذه الألوف المؤلفة من الرسائل التي بعث بها شيعة أبيه وأخيه رضي الله عنهم، يسألونه المجيء إلى العراق للبيعة، وأنهم ليس عليهم إمام بعد الحسن رضي الله عنه (1).
ألم يعلم هؤلاء أن بيعتهم له لازمة في أعناقهم بعد الحسن رضي الله عنه، بنص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أتى الكوفة أو لم يأتها؟
ألم يسمعوا أو يسمع واحد منهم وهم اثنا عشر ألفاً كما في بعض الروايات، أو أكثر كما في روايات أخرى(2)؟
ألم يسمعوا من أبيه أو أخيه -وهم شيعتهم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على أبيه وأخيه وعليه وعلى تسعة من ولده بعده بالاسم، وأنهم الخلفاء والأئمة بعده(3)؟
الزهراء رضي الله عنها والنص:
ولم يكن شأن أمهما الزهراء رضي الله عنها أيضاً بأحسن حالاً منهما أو من بعلها وأبيها صلوات الله عليهم أجمعين، كما يتبين ذلك من روايات القوم، فموقفها من زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكذا من الحسين رضي الله عنه لما علمت بمقتله غير خافٍ على ذي لب، وسوف نوقفك عليه في حينه، ولكن أورد هنا رواية تتصل بموضوعنا.
__________
(1) انظر تفاصيل هذه المراسلات في البحار: (44/333، 334) (ج:48).
(2) بلغ عدد الكتب التي بعث بها أصحابها إلى الحسين رضي الله عنه (12.000) كتاباً.
(3) انظر في جهل الحسين رضي الله عنه بالنص باعتبار القوم أيضاً: منتخب الأثر: (102).(1/72)
فقد ذكر القوم أنها بكت لما عادت أباها صلى الله عليه وسلم في مرض موته، حتى أرضاها بالبشرى بجعل بعلها وصياً له، فذكروا أنها أتته في مرضه تعوده، فلما رأت ما برسول الله من المرض والجهد استعبرت وبكت حتى سالت دموعها على خديها، فقال لها النبي: يا فاطمة، إني لكرامة الله إياك، زوّجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً، إن الله تعالى اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة فاختارني منها فبعثني نبياً، واطلع ثانية فاختار بعلك فجعله وصياً، فسرّت فاطمة رضي الله عنها واستبشرت(1).
فما الذي استوجب سرورها واستبشارها -وهي في هذا الموقف- سروراً طغى على ألم مصيبة فقدها أباها صلى الله عليه وسلم؟ هل أن أباها صلى الله عليه وسلم قد أتى بأمرٍ جديد كانت تجهله؟ أو أمر كانت تعلم أن مدار قبول الأعمال على الإيمان به، وأن الله قد افترضه قبل خلق الخلق بكذا وكذا سنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال ينادي به منذ بدء الدعوة؟ ومن ثم لا نجد في ذكره أمراً ذا بالٍ يستوجب سرورها واستبشارها.
__________
(1) أمالي الطوسي: (154، 618)، البحار: (22/497، 502) (37/41)، منتخب الأثر: (199)، تفسير فرات: (2/464)، وانظر رواية أخرى: كمال الدين: (250).(1/73)
الصحابة رضي الله عنهم والنص:
وقبل الشروع في ذكر أحوال بقية الأئمة وأصحابهم، أجد لزاماً أن أذكر نتفاً قليلة من شأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النص على أمير المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، هؤلاء الذين لزموا النبي صلى الله عليه وسلم منذ بدء الدعوة وجلسوا إليه وسافروا معه وشاركوه الحروب والغزوات وتزوجوا بناته وصاهرهم، ولم يدع من أمر الدين شيئاً مما يقربهم إلى الله عز وجل إلا وأخبرهم به، ولا أمراً مما يدخلهم النار إلا وقد نهاهم عنه، حتى بيَّن لهم أي رجل يقدمون عند دخولهم الخلاء وبأيٍ يخرجون، فضلاً عن أركان الإسلام والإيمان، ناهيك عن أعظمها وعلة فرض غيرها وهي الإمامة بزعم القوم.
ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يخفى على من لازموه كظله، وكيف يخفى؟ وقد روى القوم عن الباقر في قوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) [محمد:28]، قال: كرهوا علياً وكان أمر الله بولايته يوم بدر وحنين ويوم بطن نخلة ويوم التروية ويوم عرفة، نزلت فيه خمس عشرة آية في الحجة التي صدَّ فيها رسول الله عن المسجد بالجحفة وخم(1).
وعنه -أيضاً- في قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)) [المائدة:1] قال: إن رسول الله أخذ لعلي بما أمر أصحابه، وعقد له عليهم الخلافة في عشرة مواطن، ثم أنزل عليه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)) [المائدة:1]، يعني: التي عقدت عليهم لعلي أمير المؤمنين(2).
__________
(1) البرهان: (4/187)، البحار: (36/102، 159).
(2) سعد السعود: (121)، البحار: (36/92، 191)، إثبات الهداة: (2/140)، تأويل الآيات: (1/144)، البرهان: (1/431)، تفسير القمي: (1/168)، الصافي: (2/5).(1/74)
ولاشك أن القول بغياب النص عنهم مع كل هذا الذي أوردناه، سواء الروايتان السابقتان أو الباب كله منتفٍ وبعيد جداً، ولكن ما أورده القوم في شأنهم يختلف تماماً إلا مع موقف الأئمة من النص، كما سبق ذكره وسيأتي أيضاً.
فها هن أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن أجمعين، أقرب الناس إليه ملازمة، يروي القوم عنهن ما يدل على المقصود، ألا وهو غياب النص، هذا إن وجد النص أصلاً، فقد ذكر القوم أن جبرئيل عليه السلام قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قد دنا يا محمد مصيرك إلى ربك وجنته، وهو يأمرك أن تنصب لأمتك من بعدك علي بن أبي طالب وتعهد إليه، فهو الخليفة القائم برعيتك وأمتك، وإن الله يأمرك أن تعلمه جميع ما علمك، وتستحفظه جميع ما حفظك واستودعك، فإنه الأمين المؤتمن.
يا محمد، إني اخترتك من عبادي نبياً، واخترته لك وصياً، فدعا علياً يوماً فخلا به يومه ذلك وليلته واستودعه العلم والحكمة التي آتاه إياها، وعرفه ما قال جبرئيل، وكان ذلك يوم عائشة، فقالت: يا رسول الله، لقد طال استخلاؤك بعلي منذ اليوم، فأعرض عنها، فقالت: لم تعرض عني يا رسول الله بأمر لعله يكون لي صلاحاً؟ فقال: صدقت وايم الله، إنه لأمر صلاح لمن أسعده الله بقبوله والإيمان به، وقد أمرني بدعاء الناس جميعاً إليه، وستعلمين ذلك إذا أنا قمت به في الناس، قالت: يا رسول الله، ولم لا تخبرني به الآن لأتقدم بالعمل به والأخذ بما فيه الصلاح؟ قال: سأخبرك به فاحفظيه إلى أن أؤمر بالقيام به في الناس جميعاً، فإنك إن حفظتيه حفظك الله في العاجلة والآجلة جميعاً، وكانت لك الفضيلة للأسبقية والمسارعة إلى الإيمان بالله ورسوله...
إلى أن قال: إن الله أخبرني أن عمري قد انقضى، وأمرني أن أنصب علياً للناس، وأجعله فيهم إماماً، وأستخلفه كما استخلف الأنبياء من قبلي أوصياءهم(1).
__________
(1) كشف اليقين: (137)، الإقبال: (454)، البحار: (28/96).(1/75)
ويستشعر القارئ من الرواية تأخرها إلى أيامه الأخيرة صلى الله عليه وسلم، ورغم ذلك ترى كل هذا التضارب في النص، وتجد فيها بطلان ما ورد من نصوص قبل ذلك، وهو أمر غدا لك واضحاً مع كل رواية جديدة، مما يغنينا عن التعليق عليها جميعاً.
وكذا شأن أم سلمة رضي الله عنها، حيث قالوا: إن النبي دفع إليها كتاباً، فقال: من طلب هذا الكتاب منك ممن يقوم بعدي فادفعيه إليه، ثم ذكرت قيام أبي بكر وعمر وعثمان وأنهم ما طلبوه، ثم قالت: فلما بويع علي نزل عن المنبر ومرّ، وقال لي: يا أم سلمة، هاتي الكتاب الذي دفعه إليك رسول الله، فقالت: أنت صاحبه؟ فقال: نعم، فدفعته إليه، قيل: ما كان في الكتاب؟ قالت: كل شيء دون قيام الساعة(1).
وفي رواية: قالت: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، قال: أمسكي هذا، فإذا رأيت أمير المؤمنين صعد المنبر فجاء يطلب هذا الكتاب فادفعيه إليه، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد أبو بكر المنبر فانتظرته فلم يسألها، فلما مات صعد عمر المنبر فانتظرته فلم يسألها، فلما مات عمر صعد عثمان فانتظرته فلم يسألها.. الرواية(2)، وغيرها(3).
__________
(1) البحار: (40/152)، الإمامة والتبصرة: (174)، البصائر: (163).
(2) البصائر: (168)، البحار: (26/54).
(3) انظر أيضاً: أمالي الصدوق: (229)، أمالي الطوسي: (271)، كشف الغمة: (1/85)، الطرائف: (8)، المناقب: (1/396)، البحار: (22/222) (38/305، 310)، إثبات الوصي: (17).(1/76)
وكذا حال خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدمه منذ هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى وفاته، فقد روى القوم عنه أنه قال: كان رسول الله في بيت أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقال: يا أم حبيبة، اعتزلينا فإنا على حاجة، ثم دعا بوضوء فأحسن الوضوء، ثم قال: إن أول من يدخل من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد العرب، وخير الوصيين، وأولى الناس بالناس، فقال أنس: فجعلت أقول: اللهم اجعله رجلاً من الأنصار، قال: فدخل علي وجاء يمشي حتى جلس إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله يمسح وجهه بيده، ثم مسح بها وجه علي بن أبي طالب، فقال علي: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إنك تبلغ رسالتي من بعدي، وتؤدي عني، وتسمع الناس صوتي، وتعلم الناس من كتاب الله ما لا يعلمون(1).
وفي رواية: من هذا يا أنس؟ فقلت: علي، فقام مستبشراً فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه، ويمسح عرق علي بوجهه، فقال علي: صنعت شيئاً ما صنعت بي قبل هذا، قال: وما يمنعني وأنت تؤدي عني وتسمع صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي(2).
ومتى كان هذا السلوك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
__________
(1) اليقين: (12، 28، 35، 128، 140)، الإرشاد: (30)، البحار: (37/298، 324، 327، 330) (40/15، 16)، تأويل الآيات: (1/181)، نور الثقلين: (3/61).
(2) اليقين: (31، 92، 93، 161، 164)، البحار: (37/300، 301) (38/2، 127) (40/15)، العياشي: (2/262)، البرهان: (2/374)، تأويل الآيات: (1/184)، وصي الرسول الأعظم: (20).(1/77)
فهذه القصة لا أقل من افتراض حدوثها في أواخر السنة السابعة من الهجرة أو بعدها؛ وذلك أن قدوم أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما إلى المدينة إنما كان في ذي الحجة من السنة المذكورة، حيث كانت مهاجرة إلى الحبشة مع زوجها عبيدالله بن جحش الذي ارتد عن الإسلام وتنصر، ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليخطبها... إلى آخر القصة(1).
فموضع الشاهد في القصة هو جهل أنس بن مالك بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه رغم مرور أكثر من سبعة أعوام من خدمته للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى دعا ربه أن يجعله رجلاً من قومه، والعجيب قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: إنك تبلغ رسالتي من بعدي، وتؤدي عني، مما يوحي بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان جاهلاً به حتى ذلك الوقت.
ولا يرد على هذا أن معرفته بإمرة المؤمنين كانت واقعة، وأن مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم له إنما هي استزادة مسئوليات، وذلك أن الإمامة -كما يراها القوم- تستلزم تبليغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والأداء عنه، وتعليم الناس من كتاب الله ما لا يعلمون مما يستقبح تكراره وصدوره عنه صلى الله عليه وسلم للناس فضلاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأعجب من هذا كله: الإبهام في ذكر اسم أمير المؤمنين، فلا يخلو الأمر من أنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً به، حيث يكون الأولى به أن يقول: إن أول من يدخل من هذا الباب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أو يكون جاهلاً به، وهذا الأخير يشهد له قوله لأنس كما في الرواية الأخرى: من هذا يا أنس؟ رغم قوله: إن أول من يدخل من هذا الباب أمير المؤمنين.
__________
(1) انظر إن شئت تفصيل ذلك في: البحار: (21/43).(1/78)
وهذا ابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى القوم أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم والحسن على عاتقه والحسين على فخذه يلثمهما ويقبلهما، ويقول: اللهم وال من والاهما وعاد من عاداهما، ثم قال: يا ابن عباس، كأني به وقد خضبت شيبته من دمه، يدعو فلا يجاب، ويستنصر فلا ينصر، قلت: فمن يفعل ذلك يا رسول الله؟ قال: شرار أمتي، لا أنالهم الله شفاعتي، ثم قال: يا ابن عباس، من زاره عارفاً بحقه كتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة، ألا ومن زاره فكأنما قد زارني، ومن زارني فكأنما زار الله، وحق الزائر على الله أن لا يعذبه بالنار، وإن الإجابة تحت قبته، والشفاء في تربته، والأئمة من ولده. قلت: يا رسول الله، فكم الأئمة بعدك؟ قال: بعدد حواريي عيسى، وأسباط موسى، ونقباء بني إسرائيل، قلت: يا رسول الله، فكم كانوا؟ قال: كانوا اثني عشر، والأئمة بعدي اثنا عشر، أولهم: علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي: الحسن والحسين، فإذا انقضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا انقضى محمد فابنه جعفر، فإذا انقضى جعفر فابنه موسى، فإذا انقضى موسى فابنه علي، فإذا انقضى علي فابنه محمد، فإذا انقضى محمد فابنه علي، فإذا انقضى علي فابنه الحسن، فإذا انقضى الحسن فابنه الحجة، قال ابن عباس: قلت: يا رسول الله، أسامي ما أسمع بهم قط، قال لي: يا ابن عباس، هم الأئمة بعدي(1).
فابن عباس رضي الله عنهما كان مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وانتقل إلى دار الهجرة بعد فتح مكة الذي كان في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وهذا يعني أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاثين شهراً، فلا شك إذاً في أن هذه الرواية يفترض حصولها في أحد أيام هذه الشهور الأخيرة.
__________
(1) كفاية الأثر: (3، 14)، البحار: (36/286، 321)، إثبات الهداة:(1/572)، منتخب الأثر:(99).(1/79)
رغم ذلك تأمل عدم علم ابن عباس رضي الله عنهما بمسألة الإمامة والأئمة، واستغرابه هذه الأسماء التي لم يسمع بها قط، وهو من هو من قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل ونراه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بزعم القوم: إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى علي رضي الله عنه، فقال: إلى هذا فإنه مع الحق والحق معه، ثم يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعتي(1).
وكتب القوم مليئة بالروايات الشبيهة عنه رضي الله عنه (2).
وكذا شأن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو من السابقين الأولين، بل من أوائل الذين أسلموا؛ مما يستحيل أن يخفى عليه من شأن الإمامة شيء، نراه لا يختلف عن سابقيه في هذا الشأن.
فتأمل -مثلاً- رواية القوم هذه، وحصولها لا شك أنه بعد عشرين سنة من مبعثه صلى الله عليه وسلم، إذ توحي عباراتها بقرب أجله صلى الله عليه وسلم، تقول الرواية: إن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله لما رجع من حجة الوداع: يا ابن مسعود، قد قرب الأجل ونعيت إليّ نفسي فمن لك بعدي؟ فأقبلت أعد عليه رجلاً رجلاً، فبكى ثم قال: ثكلتك الثواكل! فأين أنت من علي بن أبي طالب لم تقدمه على الخلق أجمعين(3).
__________
(1) منتخب الأثر: (36)، إعلام الورى: (365)، البحار: (36/300).
(2) انظر إن شئت: إثبات الهداة: (1/643، 647، 666)، منتخب الأثر:(48)، كمال الدين:(288).
(3) تفسير القمي: (1/182)، البحار: (37/345)، إثبات الهداة: (2/140)، نور الثقلين:(1/658).(1/80)
وفي رواية: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن مسعود، نُعيَتْ إلي نفسي، فقلت: استخلف يا رسول الله، قال: من؟ قلت: أبا بكر، فأعرض عني، ثم قال: يا ابن مسعود، نعيت إلي نفسي، فقلت: استخلف، قال: من؟ قلت: عمر، فأعرض عني، قال: يا ابن مسعود، نعيت إلي نفسي، قلت: استخلف، قال: من؟ قلت: علياً، قال: أما إن أطاعوه دخلوا الجنة أجمعون أكتعون(1).
وروى القوم عنه -أيضاً- رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من يغسلك إذا مت؟ فقال: يغسل كل نبي وصيه، قلت: فمن وصيك يا رسول الله؟ قال: علي بن أبي طالب(2).
وهذا صحابي آخر وهو جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه، وزيادةً عما أوردناه عنه في أول الباب نورد هنا رواية أخرى يرويها القوم عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: من لم يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي، أو شهد أن محمداً عبدي ورسولي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن علي بن أبي طالب خليفتي، أو شهد بذلك ولم يشهد أن الأئمة من ولده حججي، فقد جحد نعمتي، وصغر عظمتي، وكفر بآياتي وكتبي، إن قصدني حجبته، وإن سألني حرمته، وإن ناداني لم أسمع نداءه، وإن دعاني لم أسمع دعاءه، وإن رجاني خيبته، وذلك جزاؤه مني، وما أنا بظلام للعبيد، فقام جابر بن عبدالله، فقال: يا رسول الله، ومَن الأئمة من ولد علي بن أبي طالب؟ والرواية طويلة أخذنا منها موضع الحاجة(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: (313)، أمالي المفيد: (21، 22)، المناقب: (3/63) (وفي رواية: عثمان)، البحار: (38/117)، 128، إثبات الهداة: (2/41، 102).
(2) كمال الدين: (17)، البحار: (13/367) (22/512) (32/280)، إثبات الهداة: (1/270) (2/40).
(3) كمال الدين: (246)، اليقين: (60، 132)، الاستنصار للكراجكي:(20، 21)، كفاية الأثر:(19)، الاحتجاج: (42)، البحار: (36/252، 264) (27/119).(1/81)
وهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يقول: كنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء ونحن نفر من أصحابه، إذ قال: معاشر أصحابي، إنه يطلع عليكم من هذا الباب رجل هو أمير المؤمنين وإمام المسلمين، قال: فنظروا وكنت فيمن نظر، فإذا نحن بعلي بن أبي طالب قد طلع، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا إمامكم من بعدي(1).
وذكر مسجد قباء يؤكد لك تاريخ الرواية، وأنها بعد الهجرة، وأبو ذر رضي الله عنه من أوائل من أسلموا، حتى روي عنه أنه قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، فاستمع إليه بعد ثلاثة عشر سنة من إسلامه وهو يقول: وكنت فيمن نظر، ليرى مع أصحابه من يكون أمير المؤمنين هذا.
وعن أنس رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الفجر، ثم أقبل علينا، وقال: معاشر أصحابي، من أحب أهل بيتي حشر معنا، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى، فقام إليه أبو ذر الغفاري، فقال: يا رسول الله، كم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل، فقال: كلهم من أهل بيتك؟ قال: كلهم من أهل بيتي، تسعة من صلب الحسين والمهدي تاسعهم(2).
وفي رواية أخرى أوردها القوم عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه -والرواية طويلة- وفيها أن أبا ذر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، فكم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل(3).
__________
(1) إثبات الهداة: (2/67)، البحار: (38/106).
(2) كفاية الأثر: (10)، البحار: (36/310)، إثبات الهداة: (1/579)، منتخب الأثر: (47).
(3) كفاية الأثر: (5)، البحار: (36/288)، إثبات الهداة: (1/575، 576)، منتخب الأثر: (46).(1/82)
وتذكرني هذه الرواية بالمثل القائل: كلام الليل يمحوه النهار، حيث أظهر القوم صاحبنا كمن نسي أسئلة الفجر التي في الرواية السابقة، ولكن لا تنس -عزيزي القارئ- أن الرواية الأخيرة كانت في مرض موته صلى الله عليه وسلم، لتعرف مدى تأخرها.
وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه كما يروي القوم، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، إن لكل نبي وصياً، فمن وصيك؟ قال: فسكت عني، فلمَّا كان بعدُ رآني من بعيد، فقال: يا سلمان، قلت: لبيك وأسرعت إليه، فقال: تعلم من كان وصي موسى؟ قلت: يوشع بن نون، فقال: ذاك لأنه يومئذٍ خيرهم وأعلمهم، ثم قال: وإني أشهد اليوم أن علياً خيرهم وأفضلهم، وهو وليي ووصيي ووارثي(1).
وفي رواية أخرى: يا رسول الله، إنك قلت: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية، من هذا الإمام؟ قال: من أوصيائي يا سلمان(2).
ولا أدري كيف سمع سلمان الفارسي رضي الله عنه هذا الحديث، وكيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتداولونه رغم خطورته، مع عدم معرفة الإمام، ثم تنقلب الآية، فيروي القوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سأل سلمان رضي الله عنه: يا سلمان، إن الله عز وجل لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا جعل له اثني عشر نقيباً، قال: قلت: يا رسول الله، قد عرفت هذا من الكتابين -التوراة والإنجيل- قال: يا سلمان، فهل علمت نقبائي الاثني عشر الذين اختارهم الله للإمامة من بعدي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم(3).
لا أدري كيف وهو يؤكد ورود هذه العقيدة في كتب الأولين، ثم يبقى على جهله بهم حتى يسأله الرسول عن ذلك، ويرد بقوله: الله ورسوله أعلم، ألم يخش أن يموت ميتة جاهلية؟ ثم أليست إجابة السؤال موجودة في التوراة كما زعموا؟ وقد ذكرنا ذلك فيما سبق.
__________
(1) البحار: (38/18، 131)، إثبات الهداة: (2/83).
(2) كمال الدين: (231)، البحار: (23/88).
(3) منتخب الأثر: (31)، البحار: (25/6) (36/223) (53/142).(1/83)
وعلى ذكر قول سلمان: عرفت هذا من الكتابين -التوراة والإنجيل- فقد أورد القوم الكثير من الروايات في بيان ورود مسألة الإمامة والأئمة في الكتب السماوية، ومن أراد تفصيل ذلك فعليه بطلبها من مظانها، ولكن نذكر هنا رواية واحدة تقول: إن أسماء الأئمة وردت في التوراة، وهي: تقوبيت، قيذوا، دبيراً، مفسوراً، مسموعاً، دوموه، مثبو، هذار، يثمو، بطور، نوقس وقيدموا(1).
__________
(1) المحتضر: (152)، البحار: (36/223، 224)، منتخب الأثر: (136).(1/84)
رجعنا الآن إلى ذكر سلمان الفارسي وغياب النص عنه، وكما أوردنا في الرواية السابقة عنه قوله: عرفت هذا من الكتابين، ونسوق الرواية التالية التي تنسجم معها، فعن علي رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة، إذ دخل عليه جماعة من أصحابه، منهم: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعبدالرحمن بن عوف، فقال سلمان: يا رسول الله، إن لكل نبي وصياً وسبطين، فمن وصيك وسبطاك؟ فأطرق ساعة، ثم قال: يا سلمان، إن الله بعث أربعة آلاف نبي، وكان لهم أربعة آلاف وصي، وثمانية آلاف سبط، فوالذي نفسي بيده لأنا خير الأنبياء، ووصيي خير الأوصياء، وسبطاي خير الأسباط، ثم قال: يا سلمان، أتعرف من كان وصي آدم؟ فقال: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أعرفك يا أبا عبدالله، فأنت منا أهل البيت، إن آدم أوصى إلى ابنه شيث، وأوصى شيث إلى ابنه شبان -ثم ذكر بقية سلسلة الأنبياء والأوصياء إلى أن قال-: وأنا أدفعها إلى علي بن أبي طالب، فقال علي: فقلت: يا رسول الله، فهل بينهم أنبياء وأوصياء أخر؟ قال: نعم، أكثر من أن تحصى، ثم قال: وأنا أدفعها إليك يا علي، وأنت تدفعها إلى ابنك الحسن، والحسن يدفعها إلى أخيه الحسين -ثم ذكر بقية الأئمة- ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافعاً صوته: الحذر الحذر إذا فقد الخامس من ولد السابع من ولدي، قال علي: فقلت: يا رسول الله، فما يكون في هذه الغيبة حاله؟ والرواية طويلة أخذنا منها موضع الحاجة(1).
__________
(1) كفاية الأثر: (19)، البحار: (36/335).(1/85)
والرواية -كما ترى- تدور أحداثها في بيت أم سلمة رضي الله عنها، وكان قد تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الرابعة من الهجرة، فكيف يستقيم أن أمراً من الخطورة بمكان أوردنا فيه في المقدمة ما أوردناه، لم يكن شائعاً بين الصحابة حتى السنة السابعة عشرة من البعثة، ولم يستوجب سؤال سلمان عنه رغم مرور ما لا يقل عن أربعة أعوام على إسلامه الذي كان بعد الهجرة، ونحن نعلم بالضرورة عدم سؤاله صلى الله عليه وسلم عن عدد ركعات صلاة المغرب، أو في أيٍّ من الأشهر يكون الصيام، لأن ذلك من ضروريات الدين وأركانه، ولكن لا نعلم علة جهله بأهم الأركان، والذي ما عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء في المائة والعشرين مرة -كما يزعم القوم- إلا وأوصى بالإمامة أكثر من وصيته بالأركان الأخرى.
كذلك لا يفوتك في الرواية تساؤلات علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سواء عمن سبقوه، أو عن حال الخامس من ولد السابع وغيرهما.
ثم ها هو ينسى كل ذلك، حيث نراه يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: من الخليفة بعدك حتى نعلمه؟ فقال: يا سلمان، ادخل على أبي ذر رضي الله عنه وافهموا عني أن علي بن أبي طالب وصيي ووارثي وقاضي ديني وعداتي(1).
والغريب أن هذه الرواية -أيضاً- دارت أحداثها في بيت أم سلمة رضي الله عنها، وهو كما عرفت مما سبق تاريخ وقوعها، وأبطالها هم أبطال القصة السابقة، أي: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين، وتتكرر القصة.
__________
(1) كشف اليقين: (188)، البحار: (36/264)، منتخب الأثر: (73).(1/86)
ثم إنني لم أقف على مغزى استدعاء هؤلاء النفر من الصحابة دون غيرهم، ولا العلة من هذه السرية في تبيين ما لولاه لما خلق الله شيئاً، ألم يكن يغني قوله صلى الله عليه وسلم: الخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عن كل هذا؟ ولعلي ألتمس العذر لجهل هؤلاء الصحابة -سواء الذين استدعاهم أو الذين لم يستدعهم- بخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى تاريخ هذه الرواية لسريتها كما يزعم القوم في هذه الرواية.
نعود إلى ما كنا فيه من ذكر غياب النص عن الصحابة رضي الله عنهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، والفضل بن العباس، وزيد بن حارثة، وعبدالله بن مسعود، إذ دخل الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا حسين، أنت الإمام ابن الإمام أبو الأئمة، تسعة من ولدك أئمة أبرار، فقال له عبدالله بن مسعود: ما هؤلاء الأئمة الذين ذكرتهم في صلب الحسين؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه، فقال: يا عبدالله، سألت عظيماً ولكني أخبرك أن ابني هذا -ووضع يده على كتف الحسين- يخرج من صلبه ولد مبارك سميّ جده علي، يُسمى: العابد ونور الزهاد، ويخرج الله من علي ولداً اسمه اسمي، وأشبه الناس بي، يبقر العلم بقراً، وينطق بالحق، ويأمر بالصواب، ويخرج الله من صلبه كلمة الحق ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا رسول الله؟ قال: يقال له: جعفر، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن علي، والراد عليه كالراد علي، ثم دخل حسان بن ثابت وأنشد في رسول الله شعراً وانقطع الحديث، فلما كان من الغد صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل بيت عائشة ودخلنا معه أنا وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن العباس، وكان صلى الله عليه وسلم من دأبه إذا سُئِلَ أجاب، وإذا لم يسأل ابتدأ، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ألا تخبرني بباقي الخلفاء من صلب الحسين؟ قال: نعم يا أبا هريرة -ثم(1/87)
ذكر بقية الأئمة- فقال له علي بن أبي طالب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكرتهم؟ قال: يا علي، أسامي الأوصياء من بعدك، والعترة الطاهرة، والذرية المباركة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لو أن رجلاً عبد الله ألف عام ثم ألف عام ما بين الركن والمقام، ثم أتاني جاحداً لولايتهم لأكبه الله في النار كائناً من كان(1).
هذه الرواية وإن كان الأنسب إيرادها عند حديثنا عن أمير المؤمنين أو ابن مسعود رضي الله عنهما، إلا أن الغاية واحدة.
أقول: هذه الرواية منسوبة إلى أبي هريرة رضي الله عنه، الصدوق عند متقدمي القوم، والكذوب عند متأخريهم لحاجةٍ في نفس يعقوب، ليس هذا الكتاب محل بيانها.
وأبو هريرة رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر -أي: في السنة السابعة من الهجرة- بعد عشرين سنة من البعثة، فإذا علمت هذا فتأمل قول ابن مسعود: من هؤلاء الأئمة الذين ذكرتهم في صلب الحسين؟ وقول علي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكرتهم؟ فلا يحتاج إلى تعليق.
__________
(1) كفاية الأثر: (11)، البحار: (36/312).(1/88)
وعلى أي حال، حتى لا نطيل على القارئ في سيرنا على هذا المنوال بذكر صحابي صحابي، نورد هنا بعض الروايات المشتركة، ففيها غنىً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقبل هذا نذكرك برواية غزوة الخندق التي مرَّت بك، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: من يقوم إلى مبارزته -أي: عمرو بن ود- وله الإمامة بعدي؟ وعرفنا هناك أن هذه الغزوة كانت في شوال من السنة الخامسة من الهجرة، ولكن لم نعرف أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم -وكانوا ثلاثة آلاف في تلك الغزوة- استدرك ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أخبره بأنه قال لهم: إن الأئمة خلقوا قبل الخلق بمليوني عام، وكذلك شأن علي بن أبي طالب نفسه الذي أنشد في ذلك شعراً كما مرَّ بك، ولعلَّ كل هذا يدلك على عدم وجود نص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى في شوال من السنة الخامسة من الهجرة، أي: بعد مرور ثمانية عشر عاماً من البعثة، أو أن الجميع -بما فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم والأمير رضي الله عنه- قد نسوا كل تلك النصوص التي مرَّت بك حتى الآن، وأرى أن هذا الاحتمال قائم، وذلك أن الجميع -بما فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم والأمير رضي الله عنه- قد نسوا أمر هذه الغزوة، وأن علي بن أبي طالب بمبارزته وقتله ابن ود قد صار إماماً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى القوم عن خالد بن سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله قال لنا ونحن محتوشوه في يوم بني قريظة وقد أقبل على رجال منا ذوي قدر، فقال: معاشر المهاجرين والأنصار، أوصيكم بوصية فاحفظوها، وإني مؤد إليكم أمراً فاقبلوه، ألا إن علياً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم أوصاني بذلك ربي وربكم(1).
وقد علمت -أيضاً- مما مضى أن هذه الغزوة كانت عقب غزوة الخندق مباشرة، أي: أن بين قوله صلى الله عليه وسلم: من يبارز ابن ود فله الإمامة بعدي، وبين قوله السابق أياماً معدودات.
__________
(1) الخصال: (461)، البحار: (28/210).(1/89)
وتستمر تساؤلات الصحابة رضوان الله عليهم بزعم القوم في مواطن أخرى، فكلما سمعوا بذكر الأئمة تساءلوا عنهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: خطبنا رسول الله: معاشر الناس، من أراد أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، فليتول علي بن أبي طالب وبقية الأئمة من بعده، فقيل: يا رسول الله، فكم الأئمة بعدك؟(1)
وتأخر هذه الرواية بيِّن مما عرفت من إسلام أبي هريرة رضي الله عنه.
وعنه -أيضاً- رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)) [الرعد:7]، فقال: أنا المنذر، وعلي الهادي، وهو أبو الأئمة، فقيل: يا رسول الله، وكم الأئمة بعدك؟(2)
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاشر أصحابي، إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح وباب حطة في بني إسرائيل، فتمسكوا بأهل بيتي والأئمة الراشدين من ذريتي، فإنكم لن تضلوا أبداً، فقيل: يا رسول الله، كم الأئمة بعدك؟(3)
وعنه -أيضاً- رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، قيل: يا رسول الله، فالأئمة بعدك من أهل بيتك؟(4)
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول للحسين: يا حسين، أنت الإمام، ابن الإمام، أخو الإمام، تسعة من ولدك أئمة أبرار، تاسعهم قائمهم، فقيل: يا رسول الله، كم الأئمة بعدك؟ قال: اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين(5).
__________
(1) كفاية الأثر: (12)، البحار: (36/314)، إثبات الهداة: (1/581، 670)، المناقب: (1/301)، منتخب الأثر: (47، 55).
(2) كفاية الأثر: (12)، البحار: (36/316).
(3) كفاية الأثر: (5)، البحار: (36/293)، إثبات الوصية: (31).
(4) كفاية الأثر: (5)، البحار: (36/291)، منتخب الأثر: (65).
(5) كفاية الأثر: (5)، البحار: (36/291).(1/90)
وأضف إلى جهلهم بالأئمة بعده حتى تاريخ هذه الرواية التي يخاطب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الحسين رضي الله عنه، الذي ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والذي لاشك أنه بلغ مبلغ الإدراك، أي: سبع سنوات.
أقول: أضف إلى ذلك جهلهم بالحساب، فتأمل!
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزعم القوم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن تمسك بي والأئمة الأطهار من ذريتي، فقيل: يا رسول الله، فكم الأئمة بعدك؟(1)
وعنه -أيضاً- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزلوا أهل بيتي بمنزلة الرأس من الجسد، وبمنزلة العينين من الرأس، وإن الرأس لا يهتدي إلا بالعين، اقتدوا بهم من بعدي لن تضلوا، فسألنا عن الأئمة؟ فقال: الأئمة بعدي من عترتي -أو قال: من أهل بيتي- عدد نقباء بني إسرائيل(2).
وتأمل تاريخ هاتين الروايتين، فراويهما هو ابن الأسقع الذي أسلم في السنة التاسعة من الهجرة.
وذكر القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف أصحابه أمير المؤمنين مرتين، وذلك أنه قال لهم: أتدرون من وليكم بعدي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن الله تبارك وتعالى قد قال: ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) [التحريم:4] -يعني: أمير المؤمنين- وهو وليكم بعدي؟ والمرة الثانية في غدير خم حين قال: من كنت مولاه فعلي مولاه(3).
فالرواية فيها أن تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأمير المؤمنين مرتين:
__________
(1) كفاية الأثر: (15)، البحار: (36/323)، إثبات الهداة: (1/585)، منتخب الأثر: (49).
(2) كفاية الأثر: (15)، البحار: (36/323)، إثبات الهداة: (1/585)، منتخب الأثر: (50).
(3) مجمع البيان: (10/316)، البرهان:(14/155، 174، 189، 353)، كشف اليقين:(91)، البحار: (36/29) (37/317)، إثبات الهداة: (2/162)، تأويل الآيات: (2/572، 588، 699)، تفسير فرات: (2/490)، نور الثقلين: (5/370)، الصافي: (5/195).(1/91)
الأولى: بعد نزول سورة التحريم، التي نزلت -كما في بعض الروايات- في شأن عائشة وحفصة ومارية القبطية رضي الله عنهن، ومارية أهداها المقوقس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة من الهجرة، فانظر متى تكون الرواية، وموقف جميع الروايات الآنفة الذكر والقادمة من غير هاتين المرتين، إلا أنه يسقط بها جميع ما أوردناه وما سنورده من روايات كانت أحداثها سابقة لروايتنا هذه.
كما لا يفوتك أن قول الصحابة رضي الله عنهم : الله ورسوله أعلم، ينسجم تماماً ويتفق مع ما قلناه، فتأمل!
أما المرة الأخرى -يوم غدير خم- فلنا معها شأن آخر في كتابنا هذا تجده في محله إن شاء الله.
نبقى معك عزيزي القارئ في السنة نفسها -أي: الثامنة من الهجرة- فاقرأ معي رواية القوم هذه، وهي سواء كانت قبل سابقتها أو بعدها؛ فإحداهما تسقط الأخرى وما قبلها.
تقول الرواية: قال بعض الثقات: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام فتح مكة، فقالوا: يا رسول الله، إن من شأن الأنبياء إذا استقام أمرهم أن يدلوا على وصي من بعدهم يقوم بأمرهم، فقال: إن الله تعالى قد وعدني أن يبين لي هذه الليلة الوصي من بعدي والخليفة الذي يقوم بأمري بآية تنزل من السماء، فلمَّا فرغ الناس من صلاة العشاء الآخرة من تلك الليلة، ودخلوا البيوت، وكانت ليلة ظلماء لا قمر فيها، فإذا نجم قد نزل من السماء بدوي عظيم، وشعاع هائل، حتى وقف على ذروة حجرة علي بن أبي طالب، وصارت الحجرة كالنهار، أضاءت الدور بشعاعه، ففزع الناس وجاءوا يهرعون إلى رسول الله، ويقولون: إن الآية التي وعدتنا بها قد نزلت، وهو نجم، وقد نزل على ذروة دار علي بن أبي طالب، فقال النبي: فهو الخليفة من بعدي، والقائم من بعدي، والوصي من بعدي، والولي بأمر الله تعالى(1).
__________
(1) الفضائل: (159)، الروضة: (30)، البحار: (35/274)، البرهان: (4/245)، إثبات الهداة: = = (1/287) (2/47).(1/92)
ولا أظن أن القارئ يحتاج مني إلى تعليق، ولكن أُذكره أن تاريخ رواية بعض الثقات هو عشرون عاماً بعد البعثة.
وعلى أي حال، نترك مكة وقد فتحت، ونجمة الخليفة وقد نزلت، ونعود مع العائدين إلى المدينة لنكمل مشوارنا، ونقترب هذه المرة من أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم خشية الإطالة ووفاءً بعهد الإيجاز الذي التزمنا به في المقدمة، يقول القوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حين دنا موته: هذا وليكم من بعدي، فإن أطعتموه رشدتم(1).
ويقولون: إنه حذَّر أمته بقوله -كما نسبوا رواية ذلك إلى الأمير رضي الله عنه-: ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسك بالعروة الوثقى، فقيل: يا رسول الله، وما العروة الوثقى؟
قال: ولاية سيد الوصيين، قيل: ومن سيد الوصيين؟ قال: أمير المؤمنين، قيل: يا رسول الله، ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي، قيل: يا رسول الله، من مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب(2).
ولا أدري ماذا كان موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو راوي الحديث، وقد رأى إخوانه يجهلون كونه العروة الوثقى، وسيد الوصيين، وأمير المؤمنين، ومولى المسلمين، وإمامهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعجب منه موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه مع هؤلاء الذين لم يعرفوا مَن لولاه لما خلقوا.
وأرى أن نعذرهم بضمان الرواية الآتية التي يرويها القوم عن علي بن أبي طالب -أيضاً- حيث يقول لطلحة: يا طلحة، أليس قد شهدت رسول الله حين دعا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة بعده ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال: إن رسول الله يهجر، فغضب رسول الله وتركها؟
__________
(1) الكافي: (1/253)، البحار: (25/83).
(2) البحار: (36/20).(1/93)
قال: بلى شهدته، قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله بالذي أراد أن يكتب فيها ويشهد عليه العامة، وإن جبرئيل أخبره بأن الله يعلم أن الأمة ستختلف وتفترق، ثم دعا بصحيفة فأملى عليَّ ما أراد أن يكتب بالكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان الفارسي، وأبا ذر، والمقداد، وسمَّى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة، فسماني أولهم، ثم ابني هذا الحسن، ثم ابني هذا الحسين، ثم تسعة من ابني هذا الحسين(1).
ففي الرواية دلالة على أن الأئمة لم يكونوا مسمَّيْن حتى ربيع الأول من سنة إحدى عشرة من الهجرة، حيث انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وبذلك نتبين موقف علي بن أبي طالب من الصحابة في الحديث السابق.
وفي الرواية فوائد أخرى سنتعرض لها في حينها، ولكن نأخذ منه الآن علة خوفه من أن تضل أمته بعده، مما اقتضى منه صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم هذا الكتاب.
فنقول: لا يخلو شأن أمته من أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن لهم الخليفة من بعده، ومن ثمَّ ليس لهذا الكتاب حاجة، أو أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قد نص بعد على خليفته من بعده، ففي الأخذ بأيهما إشكال لا يمكن توجيهه، ففي الأول خوف من أمرٍ قد فرغ منه، وتم تبيينه مراراً كما مرَّ بك في هذا الفصل، فضلاً عما أوردناه في مقدمة الباب، مما يستوجب تكراراً يستقبح صدور مثله عنه صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: لعلَّ ذلك منه صلى الله عليه وسلم إقامة للحجة على قومه وقد علم منهم مخالفتهم له بعد موته.
فيقال له: إن من عقد العزم على مخالفة كل تلك النصوص منذ بدء الدعوة لن يثنيه أو يغيره كتاب يُكتب في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة.
__________
(1) غيبة النعماني: (52)، البحار: (36/277)، إثبات الهداة: (1/657، 668).(1/94)
أما الإشكال الآخر: وهو عدم نصه صلى الله عليه وسلم، فإن الأخذ به إسقاط لمعتقد الإمامية من أصله، ولعل ما يؤكد هذا الإشكال رواية القوم هذه التي سنختم بها حديثنا.
فعن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، قال: لما مرض النبي مرضه الذي قبضه الله فيه اجتمع عليه أهل بيته وأصحابه، وقالوا: يا رسول الله، إن حدث بك حدث فمن لنا بعدك؟ ومن القائم فينا بأمرك؟
فلم يجبهم جواباً وسكت عنهم، فلمَّا كان اليوم الثاني أعادوا عليه القول، فلم يجبهم عن شيء مما سألوه، فلما كان اليوم الثالث قالوا له: يا رسول الله، إن حدث بك حدثٌ فمن لنا من بعدك؟ ومن القائم فينا بأمرك؟
فقال لهم: إذا كان غداً هبط نجم من السماء في دار رجلٍ من أصحابي فانظروا من هو؟ فهو خليفتي عليكم من بعدي، والقائم فيكم بأمري، ولم يكن فيهم أحد إلا وهو يطمع أن يقول له: أنت القائم من بعدي، فلمَّا كان اليوم الرابع جلس كل رجل منهم في حجرته ينتظر هبوط النجم، إذ انقض نجم من السماء قد غلب نوره على ضوء الدنيا حتى وقع في حجرة علي(1).
فهذه الرواية لا تحتاج إلى بيان، وأوجه الدلالة فيها واضحة، فهي تسقط كل ما أورده القوم قبل هذه القصة وقد علمت تاريخها.
__________
(1) أمالي الصدوق: (348)، البحار: (35/273)، البرهان: (4/244)، تأويل الآيات: (2/621)، المناقب: (2/214)، إثبات الهداة: (2/70، 169، 178)، نور الثقلين: (5/145).(1/95)
ولا يفوتني هنا أن أذكرك بقوله: اجتمع عليه أهل بيته وأصحابه، وأنت خبير بأن أهل بيته عند القوم، هم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين دون غيرهم، وهذه الرواية لم يروها من لا يرى هذا الحصر في أهل البيت، بل رواها الصادق عن الباقر عن آبائه رضي الله عنهم، وبهذا لا يخلو من أن يكون علي بن أبي طالب والزهراء والسبطان فيمن سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في أواخر أيامه عن الخليفة بعده، أو أن أهل البيت أعم من حصرهم في هؤلاء الأربعة، فإن كان الأول فقد علمت نتيجته، وإن كان الآخر فهو مأزق كبير سترى نتائجه لاحقاً(1)، هذا ما كان من شأن الرعيل الأول.
الإمام زين العابدين وأصحابه والنص:
نبدأ حديثنا عن الإمام الرابع زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله، وأصحابه وأهل بيته، وموقف هؤلاء من الإمامة والنص، بسرد هذه الرواية التي تعيد إلى أذهاننا مسألة السرية والكتمان في مسألة جاهلها لا يعذر، وأعمال منكرها لا تقبل، ولكن كما عودناكم سنقتصر على النصوص دون اللجوء إلى التفسيرات والتعليلات، حيث إن هذه النصوص في ذاتها تغني عن ذلك.
نشرع في المقصود فنقول:
روى القوم عن أحمد بن إبراهيم، قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن صاحب العسكر، فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟ فقالت: إلى الجدة أم أبي محمد، فقلت: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟ فقالت: اقتدِ بالحسين بن علي، والحسين بن علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم ينسب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين.
__________
(1) انظر روايات أخرى إن شئت في شأن الصحابة: منتخب الأثر: (67،90، 106، 107،115،189)، كمال الدين: (247،263، 265)، تأويل الآيات: (2/758)، إثبات الهداة: (1/508، 598، 655، 667) (2/112، 118)، إثبات الوصية: (35)، البحار: (32/170) (33/18) (36/353) (40/121).(1/96)
وفي رواية عن الباقر: إن الحسين لما حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة الكبرى، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين مريضاً لا يرون أنه يبقى بعده، فلما قتل الحسين ورجع أهل بيته إلى المدينة، دفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين، ثم صار ذلك الكتاب والله إلينا(1).
أقول: إذاً أين تلك النصوص كلها التي تقول: إن الإمامة بعد الحسين تكون في زين العابدين، وتلك القائلة: إن معرفة ذلك ركن من أركان الدين ولا يتم إيمان المؤمن إلا بها؟ وأين هو محل هذه الوصية -ظاهرة كانت أم باطنة- من أمر قد عُلِمَ مسبقاً فيمن تكون؟ ولِم لَمْ ينكر أحد من الشيعة جعل الوصاية إلى امرأة، حتى لو كانت زينب رضي الله عنها، أم فاطمة الكبرى على الخلاف الذي مرَّ بك في الروايتين، وهم يعلمون سلفاً بأن الأئمة مسمَّون بأسمائهم، وبوصية نزلت من السماء، وعهدٍ من رسول الله رجل فرجل مسمَّى حتى تنتهي إلى صاحبها، وليس للإمام أن يزويها عمن يكون من بعده، كما مرَّ بك؟
وعلى ذكر ما جاء في الرواية بأنهم لا يرون أن زين العابدين يبقى بعده، فقد كان للحسين موقف شبيه بموقف جده من وصييه، وأبيه منه ومن أخيه صلوات الله عليهم أجمعين، هذا الموقف هو افتراض موت اللاحق قبل السابق.
__________
(1) كمال الدين: (275)، البحار: (36/20)(40/19)(51/363)، إثبات الهداة:(3/506)، غيبة الطوسي:(138)، إعلام الورى:(252)، المناقب:(4/172)، الكافي:(1/303)، البحار:(46/18) = = إثبات الهداة: (3/1)، البصائر: (168، 148، 163)، الإمامة والتبصرة: (197)، وانظر أيضاً: إثبات الهداة: (3/35).(1/97)
ففي فاجعة كربلاء خرج زين العابدين وكان مريضاً لا يقدر أن يقل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه: يا بني، ارجع، فقال: يا عمتاه، ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله، فقال الحسين رضي الله عنه: يا أم كلثوم، خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
فهل غاب عنه رضي الله عنه أن زين العابدين سيكون الإمام من بعده نصاً من الله ورسوله، وأن الأرض لا تخلو من حجة من آل الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا لساخت.
والغريب أن زين العابدين كان جاهلاً بكل أحداث كربلاء، حتى بينت له ذلك زينب بنت علي رضي الله عنها، وعزَّته وسلَّته وبشرته بدرجات الشهداء(2).
وعلى أي حال، نشرع في بيان موقف الأصحاب من الإمامة والنص، فنقول: روى القوم عن الباقر أنه قال: كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهراً، وما كان يشك في أنه إمام حتى أتاه ذات يوم، فقال له: جعلت فداك، إن لي حرمة ومودة وانقطاعاً، فأسألك بحرمة رسول الله وأمير المؤمنين إلا أخبرتني، أأنت الإمام الذي فرض الله طاعته على الخلق؟
وفي موضع آخر: قال لعلي بن الحسين: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي، فقال له علي بن الحسين: وكيف عرفت إمامك يا أبا خالد؟ قال: إنك دعوتني باسمي الذي سمتني أمي التي ولدتني، وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية دهراً من عمري، ولا أشك إلا وأنه إمام(3).
__________
(1) مقاتل الطالبيين: (64)، البحار: (45/46).
(2) كامل الزيارات: (257)، البحار: (45/179)، وقد اضطرب القوم في رد هذه الرواية، انظر: البحار:(45/179) (183) (الحاشية).
(3) رجال الكشي: (111)، البحار: (42/94) (45/348) (46/45)، معجم الخوئي: (14/131) (16/50)، إثبات الهداة: (3/23).(1/98)
فاسأل نفسك: كيف خفي على رجل كهذا، وهو من الثلاثة الذين لم يرتدوا بعد قتل الحسين رضي الله عنه -بزعم القوم(1)- كيف خفي عليه أمر الإمام وهو يعرف أنه لابد من إمام مفروض الطاعة على الخلق، وكان لصيقاً بأهل البيت ومن شيعتهم؟
على أي حال، سنوقفك قريباً على علة جهله بهذا الأمر رغم خدمته دهراً من عمره لابن الحنفية، وهو عم زين العابدين، ولا شك أنه يعرف أن إيمان العبد ومدار قبول أعماله متوقف على القول بإمامة أبيه أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأخويه: الحسن والحسين، وابن أخيه، وبقية الأئمة، وهو يعرف أن خادمه هذا ضال بجهله بالإمام، بل وكافر لتوليه إماماً ليس من الله، أي: ابن الحنفية.
ثم ها هو -أي: الكابلي- ينتقل إلى خدمة إمامه بعد أن عرفه وأنقذ نفسه من النار، وضمن قبول أعماله وطاعاته، نراه يلاحقه بتلك الأسئلة، فيقول: دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين، فقلت له: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم، وأوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إلى تمام الرواية، وفيها ذكر زين العابدين للأئمة(2).
ويبدو الأمر طبيعياً حيث سؤاله، ولكن يبدو أنه نسي كل ذلك، فتراه يسأل زين العابدين: من الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمد(3).
__________
(1) معجم الخوئي: (14/133) (46/144) (20/34)، البحار:(74/220)، رجال الكشي:(113)، الاختصاص: (64).
(2) الاحتجاج:(173)، البحار: (36/386)، كمال الدين: (299)، إثبات الهداة: (1/515).
(3) الاحتجاج: (173)، الخرائج والجرائح: (195)، البحار: (46/230) (50/227).(1/99)
ولا أدري إن كان قد اقتنع بكل ما مر أو أنه نسي مرة أخرى، وذهب إلى إمامه وهو في محرابه، وانتظره حتى فرغ من صلاته ليكرر عليه السؤال، حيث يقول: دخلت على علي بن الحسين وهو جالس في محرابه، فجلست حتى انثنى وأقبل عليَّ بوجهه يمسح يده على لحيته، فقلت: يا مولاي، أخبرني كم يكون الأئمة بعدك؟ قال: ثمانية، قلت: وكيف ذاك؟ قال: لأن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر إماماً عدد الأسباط(1). ولا أدري كيف صبر عليه الإمام إلى هذا الحد.
وآخر هو عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، قال: كنت عند الحسين بن علي، إذ دخل علي بن الحسين الأصغر، فدعاه الحسين وضمه إليه ضماً، وقبَّل ما بين عينيه، ثم قال: بأبي أنت ما أطيب ريحك وأحسن خلقك!
فتداخلني من ذلك، فقلت: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله، إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلى من؟ قال: علي ابني، هذا هو الإمام أبو الأئمة، قلت: يا مولاي، هو صغير السن؟ قال: نعم، إن ابنه محمداً يؤتم به وهو ابن تسع سنين(2).
وفي الرواية إشكال آخر، وهو كون الإمام هو علي الأصغر، إذ المعروف أنه استشهد مع أبيه الحسين في كربلاء، وهكذا شأن الكثير من أصحابه، ولا بأس من ذكر أمثلة أخرى.
عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنه قال: بينا أبي مع بعض أصحابه إذ قام إليه رجل، فقال: يا ابن رسول الله، هل عهد إليكم نبيكم كم يكون بعده أئمة؟(3)
ولا يفوتك أن تتأمل في قوله: مع بعض أصحابه!
وعن أخيه الحسين بن علي بن الحسين رضي الله عنه: سأل رجل أبي عن الأئمة؟ فقال: اثنا عشر، سبعة من صلب هذا، ووضع يده على كتف أخي محمد(4).
__________
(1) كفاية الأثر: (31)، البحار: (36/388)، إثبات الهداة: (1/600)، منتخب الأثر: (38).
(2) كفاية الأثر: (318)، البحار: (46/19)، إثبات الهداة: (3/3).
(3) كفاية الأثر: (30)، البحار: (36/389)، إثبات الهداة: (1/600).
(4) كفاية الأثر: (31)، البحار: (36/389).(1/100)
ومنهم من ظن أن أباه هو المهدي، فعن عيسى الخشاب قال: قلت للحسين بن علي: أنت صاحب هذا الأمر؟ قال: لا(1).
خلاف أهل البيت مع زين العابدين رحمه الله:
على أي حال، نكتفي بذكر حال أصحابه المقربين خشية الإطالة، ونقترب إلى حال أهل بيته وهم من لا يفترض أن يغيب عنهم أو يخفى عليهم أمر لولاه لما خلق الله شيئاً، ولو أن أحداً منهم صف رجليه بين الركن والمقام وعبد ربه هناك ألف عام ثم ألف عام ما تقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يقول بالإمام، فذكرهم أبلغ في المقصود.
فها هو ابنه عمر بن علي زين العابدين يسأل أباه -كما يزعم القوم- عن علة تسمية أخيه الباقر بهذا الاسم؟ فيرد عليه أبوه: يا بني، إن الإمامة في ولده إلى أن يقوم قائمنا، فيملأها قسطاً وعدلاً، وإنه الإمام، وأبو الأئمة، ومعدن الحلم، وموضع العلم، يبقره بقراً، والله لهو أشبه الناس برسول الله، فقال: فكم الأئمة بعده.. الرواية(2).
كيف رضي أن يبقى ابنه جاهلاً بأعظم أركان الدين دون أن يبين له حتى كان هو الذي سأله، أو كان تاركه يموت على ضلالة لو لم يكن قد سأله، وعمر هذا قال عنه المفيد: وكان عمر بن علي بن الحسين فاضلاً جليلاً، وولي صدقات النبي صلى الله عليه وآله وصدقات أمير المؤمنين عليه السلام، وكان ورعاً سخياً، وقد روى داود بن القاسم، قال: حدثنا الحسين بن زيد، قال: رأيت عمي عمر بن علي بن الحسين يشترط على من ابتاع صدقات علي عليه السلام أن يثلم في الحايط كذا وكذا ثلمة، ولا يمنع من دخله أن يأكل منه(3).
__________
(1) كمال الدين: (298)، البحار: (51/134)، إثبات الهداة: (3/466).
(2) كفاية الأثر: (31)، البحار: (36/389).
(3) الإرشاد: (2/170)، بحار الأنوار: (46/167)، كشف الغمة: (2/341).(1/101)
وعن جرير القطان قال: سمعت عمر بن علي بن الحسين يقول: المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا، لنا حق بقرابتنا من جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق جعله الله لنا، فمن تركه ترك عظيماً، أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به، ولا تقولوا فينا ما ليس فينا، إن يعذبنا الله فبذنوبنا، وإن يرحمنا الله فبرحمته وفضله(1).
ولعل في قوله: أنزلونا بالمنزل الذي أنزلنا الله به، ولا تقولوا فينا ما ليس فينا، ما يزيل شبهة عدم علمه بالأئمة، واللبيب بالإشارة يفهم.
وعلى أي حال، فقبل أن أنتقل إلى حديث آخر أود ألا يفوتك اسم صاحبنا هذا -أي: عمر بن علي- فتدبر وجهة الدلالة، ولنا مع مثل هذا وقفات في كتابنا هذا ستجدها في حينها إن شاء الله.
وهذا عمر آخر، وهو عمه، سترى أنه لم ينكر إمامته فحسب، بل ورأى منازعته في الصدقات، فقد روى القوم أن عمر بن علي خاصم علي بن الحسين إلى عبد الملك في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ابن المصدق وهذا ابن ابن، فأنا أولى بها منه، فتمثل عبد الملك بقول ابن أبي الحقيق:
لا تجعل الباطل حقّا ولا ... ... تلطّ دون الحقّ بالباطل
ادعاء محمد بن علي بن أبي طالب [ابن الحنفية] رحمه الله للإمامة:
قبل أن أنتقل إلى الكلام عن الإمام الباقر وأصحابه، أختم حديثي عن زين العابدين برواية القوم هذه.
__________
(1) الإرشاد: (267)، البحار: (46/167).(1/102)
تقول الرواية: إنه لما قتل الحسين بن علي أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين فخلا به، وقال له: قد قتل أبوك ولم يوص، وأنا عمك وصنو أبيك، وولادتي من علي في سني وقدمتي، وأنا أحق بها منك في حداثتك، لا تنازعني في الوصية والإمامة ولا تجانبني، فقال له علي بن الحسين: يا عم، اتق الله ولا تدّع ما ليس لك بحق، إني أعظك أن تكون من الجاهلين، إن أبي -يا عم- قد أوصى إليَّ في ذلك قبل أن يتوجه إلى العراق، وعهد إليَّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وهذا سلاح رسول الله عندي، فلا تتعرض لهذا فإني أخاف عليك نقص العمر وتشتت الحال، إن الله تبارك وتعالى لما صنع الحسن مع معاوية ما صنع أبى أن يجعل الوصية والإمامة إلا في عقب الحسين، فإن رأيت أن تعلم ذلك فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحاكم إليه ونسأله عن ذلك، قال أبو جعفر: وكان الكلام بينهما بمكة، فانطلقا حتى أتيا الحجر، فقال علي بن الحسين لمحمد بن الحنفية: ائته يا عم وابتهل إلى الله تعالى أن ينطق لك الحجر، ثم سله عما ادعيت، فابتهل في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر، فلم يجبه، فقال علي بن الحسين: أما إنك يا عم لو كنت وصياً وإماماً لأجابك، فقال له محمد: فادع أنت يا ابن أخي فاسأله، فدعا الله علي بن الحسين بما أراده، ثم قال: أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء والأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا مَن الإمام والوصي بعد الحسين؟ فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله بلسان عربي مبين، فقال: اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي إلى علي بن الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله.(1/103)
وفي رواية: عن أبي بجير -عالم الأهواز- وكان يقول بإمامة ابن الحنفية، قال: حججت فلقيت إمامي، وكنت يوماً عنده، فمرَّ به غلام شاب فسلم عليه، فقام فتلقاه وقبَّل ما بين عينيه وخاطبه بالسيادة، ومضى الغلام وعاد محمد إلى مكانه، فقلت له: عند الله أحتسب عنائي، فقال: وكيف ذاك؟ قلت: لأنا نعتقد أنك الإمام المفترض الطاعة تقوم تتلقى هذا الغلام وتقول له: يا سيدي؟ فقال: نعم، هو والله إمامي، فقلت: ومن هذا؟ قال: علي ابن أخي الحسين، اعلم أني نازعته الإمامة ونازعني، فقال لي: أترضى بالحجر الأسود حكماً بيني وبينك؟ فقلت: وكيف نحتكم إلى حجر جماد؟ فقال: إن إماماً لا يكلمه الجماد فليس بإمام، فاستحييت من ذلك، وقلت: بيني وبينك الحجر الأسود، فقصدنا الحجر... فذكر القصة(1).
وفي أخرى: عن أبي خالد الكابلي، قال: دعاني محمد بن الحنفية بعد قتل الحسين ورجوع علي بن الحسين إلى المدينة وكنا بمكة، فقال: صر إلى علي بن الحسين، وقل له: إني أكبر ولد أمير المؤمنين بعد أخويَّ الحسن والحسين، وأنا أحق بهذا الأمر منك، فينبغي أن تسلمه إلي، وإن شئت فاختر حكماً نتحاكم إليه، فصرت إليه وأديت رسالته، فقال: ارجع إليه، وقل له: يا عم، اتق الله ولا تدّع ما لم يجعله الله لك، فإن أبيت فبيني وبينك الحجر الأسود، فمن أجابه الحجر فهو الإمام... إلى آخر القصة(2).
__________
(1) مختصر البصائر:(14)، البحار:(42/77، 82) (45/347) (46/22، 29، 111) (95/160، 166)، الخرائج والجرائح: (194)، معجم الخوئي: (16/48) وقال: الرواية صحيحة السند، غيبة الطوسي: (16، 119)، إثبات الهداة: (2/5) (3/6، 11، 15، 21، 28، 32)، الكافي: (1/348)، البصائر: (502)، غيبة الطوسي: (16، 119)، الإمامة والتبصرة:(194)، إعلام الورى: (253)، المناقب: (3/288)(4/147)، ذوب النضار لابن نما: (292).
(2) الخرائج والجرائح: (194)، البحار: (46/29).(1/104)
هذا غير منازعته له في الصدقات، فعن سفيان بن عيينة، قال: قيل للزهري: من أزهد الناس؟
قال: علي بن الحسين حيث كان، وقد قيل له فيما بينه وبين محمد بن الحنفية من المنازعة في صدقات علي بن أبي طالب: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبة لكشف عنك من غرر شره وميله عليك بمحمد، فإن بينه وبينه خلة، قال: وكان هو بمكة والوليد بها، فقال: ويحك! أفي حرم الله أسأل غير الله عز وجل؟ إني آنف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي؟
وقال الزهري: لا جرم أن الله عز وجل ألقى هيبته في قلب الوليد حتى حكم له على محمد بن الحنفية(1).
وفي رواية: عن ابن غندر قال: جاء مال من خراسان إلى مكة، فقال محمد بن الحنفية: هذا المال لي وأنا أحق به، فقال علي بن الحسين: بيني وبينك الصخرة، فأتيا الصخرة، فكلمها ابن الحنفية فلم تنطق، فكلمها علي بن الحسين فنطقت، وقالت: المال مالك وأنت الوصي ابن الوصي، والإمام ابن الإمام، فبكى محمد، وقال: يا ابن أخي ظلمتك(2).
فهذه بعض مواقف ابن الحنفية من زين العابدين رحمهما الله، ولكن قبل الشروع في التعليق على هذه الروايات، أود أن أذكر هنا نبذة وجيزة عن منزلة ابن الحنفية:
قال الصدوق: كان محمد مورداً لعطف أمير المؤمنين -يعني: علياً رضي الله عنه- وشفقته، وقال: فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان -وأومأ بيده إلى الحسن والحسين- فينقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذريته من أمته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا، وأومأ بيده إلى عبدالله بن جعفر، ومحمد بن الحنفية(3).
__________
(1) علل الشرايع: (78)، البحار: (42/75) (46/63).
(2) إثبات الهداة: (3/25).
(3) الخصال: (380)، معجم الخوئي: (16/50)، الاختصاص: (179)، البحار: (33/320)(38/182).(1/105)
وقال ابن شهر آشوب: وجعله أمير المؤمنين في حرب صفين مع محمد بن أبي بكر وهاشم المرقال على ميسرة العسكر، وجعل الحسن والحسين ومسلم بن عقيل وعبد الله بن جعفر على الميمنة(1).
وأعطاه أمير المؤمنين الراية يوم البصرة، وقال له: أنت ابني حقاً(2)، وغيرها(3).
نرجع إلى روايتنا فنقول: لو لم يكن في كتابنا سوى هذه الرواية فهي حسبه، فقول ابن الحنفية: قد قتل أبوك ولم يوصِ، ورد زين العابدين: إن أبي يا عم أوصى إليَّ في ذلك، من أعظم الدلالات على بطلان كل ما مرَّ بك من القول بالنص على الاثني عشر، ويكفيك عدم احتجاجه بذلك، وإلا كان حسبه القول: يا عم، إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على الأئمة من بعده، وعينهم بأسمائهم، وأنه لولاهم لما خلق الله شيئاً وأنت منهم، ولا قبل أعمال العباد وأنت منهم إلا باعتقاد إمامتهم... وهكذا، إلى ذكر كل ما مرَّ بك في مقدمة هذا الباب، بدلاً من قوله: إن أبي -يا عم- أوصى إليَّ في ذلك قبل أن يتوجه إلى العراق، وعهد إليَّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة، وإن كنا لا نرى توجيهاً لعهد الحسين رضي الله عنه هذا لذات العلة.
__________
(1) المناقب: (3/168)، معجم الخوئي: (16/50).
(2) غيبة الطوسي: (16)، البحار: (37/2، 5، 6، 7) (42/82) (51/178).
(3) انظر المزيد: البحار:(45/348)، كمال الدين: (45)، نور الثقلين: (1/779).(1/106)
ثم إن احتجاجه بعامل السن رغم كون زين العابدين قد جاوز العشرين سنة لا يخلو من علة، وهي أهمية هذا العامل في مثل هذه المسائل، وما دمنا قد تطرقنا إلى هذه المسألة فلا أرى بأساً من ذكر بعض الدلائل التي تشير إلى أهمية ذلك، فزين العابدين نفسه لم يرَ في سن ابنه الباقر ما يجعله أهلاً للمحرمية، وذلك عندما أمر يزيد بقتله كما يروي القوم، فقال زين العابدين: فإذا قتلتني فبنات رسول صلى الله عليه وسلم من يردهن إلى منازلهن وليس لهن محرم غيري؟ فقال: أنت تردهن إلى منازلهن(1).
وكان الباقر حينذاك لم يتجاوز الرابعة من العمر، ناهيك أن افتراض مقتله يقتضي أن يتولى أمر المؤمنين من لم يبلغ الخامسة من عمره، لذا يروي القوم أنه -أي: الباقر- تكلم بعد موت أبيه بسبع سنين(2).
أي: أن الأرض تركت من غير حجة يفزع الناس إليها في حلالهم وحرامهم كما تقتضيه مسألة اللطف عند القوم.
والغريب أن القوم يقولون: إن الشيعة لم تعرف الحلال أو الحرام حتى تكلم الباقر(3).
أهمية عامل السن في متولي الخلافة:
وعلى أي حال، ليس هذا موضوعنا، ونعود إلى مسألة السن، فقضية السن قضية فطرية أزلية لا يكاد يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح فيها كبشان، فمنذ بدء الخليقة وهذا الاعتبار آخذ مأخذه.
فقد ذكر القوم: أن قابيل أتى هبة الله، فقال: إن أبي أعطاك العلم الذي كان عنده وأنا أكبر منك وأحق به منك.
وفي رواية: إن الله تبارك وتعالى أوصى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية(4).
__________
(1) تفسير القمي: (2/332)، البرهان: (4/296)، إثبات الهداة: (3/21)، أمالي الطوسي: (258)، البحار: (45/168).
(2) إثبات الهداة: (3 /28)، البحار: (2/162) (46/39)، الكشي: (83).
(3) البحار: (23/90) (68/337، 387)، الكافي: (2/20).
(4) البحار: (11/241، 245) (75/419).(1/107)
وتستمر هذه القضية، فها هم بنو إسرائيل ينكرون على داود عليه السلام استخلافه سليمان لصغر سنه(1).
ولا يكاد يخلو عصر من العصور من اعتقاد الناس بعامل السن هذا، ففي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم يروي القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: قم من مكان علي؟ فقال: تقيم الشيخ وتجلس الغلام، فأعادها عليه ثلاث مرات، فقام العباس فنهض مغضباً، وجلس عليٌّ مكانه، فقال رسول الله: يا عباس، يا عم رسول الله، لا أخرج من الدنيا وأنا ساخط عليك فيدخلك سخطي عليك النار، فرجع فجلس(2)، مما يوحي إليك بتقديم اعتبار السن حتى لو أدَّى ذلك إلى سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما يعتقدون.
وها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة الكهف يرى ما تقدم، ففي روايات أوردها القوم في كتبهم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم إلى أهل الكهف -في قصة طويلة- فيها أن علي بن أبي طالب قال لأبي بكر رضي الله عنهما: يا أبا بكر، سلِّم فإنك أسننا، وكذلك قوله لعمر.
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وتقدم أنت يا أبا بكر فإنك أسن القوم، ثم عمر، ثم عثمان(3).
وكان علي رضي الله عنه يحتج ويعتذر بهذا، حتى يوم أن أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بسورة براءة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك خطيب وأنا حديث السن، فقال: لابد أن تذهب بها أو أذهب بها، قال: أما إذا كان كذلك فأنا أذهب يا رسول الله، قال: اذهب فسوف يثبت الله لسانك، ويهدي قلبك(4).
كل هذا في تبليغ سورة إلى مكة لا قرآن إلى أمة.
__________
(1) الكافي: (1/383)، كمال الدين: (156)، البحار: (14/67، 81).
(2) أمالي الطوسي: (584)، البحار: (22/499).
(3) البحار: (39/137) (14/420)، إثبات الهداة: (2/130).
(4) البحار: (35/303).(1/108)
وبعدها لما أرسله إلى اليمن، قال: بعثني رسول الله إلى اليمن، فقلت: بعثتني يا رسول الله وأنا حدث السن لا أعلم بالقضاء(1).
فأنت ترى أن ذلك رغم كونه في السنة العاشرة من الهجرة، وجاوز الأمير الثلاثين، ومع هذا لم ير التغاضي عن صغر سنه، أو إقراره بجهله بالقضاء، وكل هذا في توليه جزءاً صغيراً من العالم الإسلامي الذي عليه أن يكون أميراً عليها بعد أشهر قليلة من هذه الحادثة.
ولعل هذا ينسجم تماماً مع قول أبي عبيدة رضي الله عنه له يوم البيعة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن، إنك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قريش ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور(2).
وكذا كان الأمر في أولاده، فلا زال يحتج أهل البيت بعضهم على بعض بهذا العامل حتى ولو كان الفارق عاماً واحداً مما ينبئك بأنه أمر لا يمكن التغاضي عنه.
يروي القوم عن الربيع بن عبدالله أنه قال: وقع بيني وبين عبدالله بن الحسن كلام في الإمامة، فقال عبدالله بن الحسن: إن الإمامة في ولد الحسن والحسين، فقلت: بل في ولد الحسين إلى يوم القيامة دون ولد الحسن، فقال لي: وكيف صارت في ولد الحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة، وهما في الفضل سواء، إلا أن للحسن على الحسين فضلاً بالكبر، وكان الواجب أن تكون الإمامة إذن في ولد الأفضل(3)؟
هذا مع العلم بأن بين الحسن والحسين رضي الله عنهما طهر واحد فقط، ويؤيد ذلك روايتهم عن الصادق: نزل أمر الحسن والحسين معاً، فتقدمه الحسن بالكبر(4).
__________
(1) إعلام الورى: (80)، بصائر الدرجات: (146)، البحار: (18/12) (21/360، 363) (40/178)، إثبات الهداة: (1/282، 318، 369، 389).
(2) البحار: (28/185، 348).
(3) علل الشرايع: (80)، البحار: (25/259).
(4) الإمامة والتبصرة: (185).(1/109)
ونراه مرة أخرى يجادل الصادق في ذات المسألة، ويقول له: جعلت فداك، إن السن لي عليك، فإن في قومك من هو أسن منك(1).
وهذا عبد الله بن جعفر الصادق نراه يدَّعي الإمامة بعد وفاة أبيه على أساس السن، محتجاً بأنه أكبر أولاد الصادق بعد أخيه إسماعيل الذي توفي في حياة أبيه، وقد اتبعه جماعة من الشيعة من أصحاب الصادق، وإن عاد أكثرهم عن القول بإمامته(2)، والإمام الكاظم رحمه الله كان يومها في العشرين من عمره(3).
ثم ها هو حفيده الإمام الجواد رحمه الله، يتولى إمرة المسلمين -بزعم القوم- وعمره لم يتجاوز على اختلاف الروايات التاسعة(4)، حتى روى القوم في ذلك أن الناس أنكروا عليه حداثة سنه(5).
وعندما أراد هو أن يوصي إلى ابنه الإمام الهادي استصغره(6).
ولم أقف على علة الوصية وكذا الاستصغار في أمرٍ أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم في وصية مكتوبة فيها أسماء الأئمة بعده، كما مرَّ بك بزعم القوم.
__________
(1) الكافي:(1/359)، البحار:(47/280) وفي الرواية فوائد كثيرة أعرضنا عن ذكرها راجعها إن شئت.
(2) البحار: (47/251) (48/67)، الخرائج والجرائح: (200).
(3) إعلام الورى: (287)، المناقب: (3/437)، البحار: (48/1، 7).
(4) الإرشاد: (297) (وفيه أن سنه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهر)، كشف الغمة:(3/215)، البحار: (49/309) (50/2، 12).
(5) تفسير القمي: (1/359)، العياشي: (2/212)، البرهان: (2/275)، الصافي: (3/53)، نور الثقلين: (2/476)، البحار: (36/51).
(6) الكافي: 1/325، البحار: (50/121) (سنأتي على ذكر الرواية بتمامها لاحقاً).(1/110)
رغم هذا فالهادي رحمه الله تولَّى الإمامة وله من العمر ست سنين وخمسة أشهر(1). ونراه يقول لابنه العسكري: يا بني، أحدث لله شكراً، فقد أحدث فيك أمراً(2).
أي: جعلك إماماً بموت أخيك محمد، ولنا مع هذه الرواية مقال في حينه.
أما المهدي فهو أمر آخر نرجئه إلى حينه.
ولا شك أن هذه الروايات وغيرها كثير لم نذكرها، تحمل في طياتها أموراً كثيرة لم تخف علينا، ولا أظن أن القارئ اللبيب قد يفوته منها شيء، ولكن أعرضنا عن ذكرها هنا خشية التكرار، إذ إننا سنأتي على التعليق عليها في أماكنها، ولكن اقتصرنا هنا على إيراد موضع الشاهد منها وهو أهمية عامل السن(3).
نعود إلى روايتنا الأولى، ومنها إلى تساؤلنا عن عدم اللجوء إلى هذه الطريقة في إثبات الإمامة من قبل بقية الأئمة؟ ويحضرني هنا طريقة أخرى كان يمكن اللجوء إليها بدلاً من المشي إلى الحجر الأسود، وهي أن من علامات الإمام أنه يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل.
وفي رواية: فيء(4).
__________
(1) كشف الغمة: (3/230، 232، 244)، البحار: (50/114، 115).
(2) بصائر الدرجات: (473)، غيبة الطوسي:(122)، إعلام الورى:(350)، الإرشاد:(315)، البحار: (50/240، 243)(وقال: فقد أحدث فيك أمراً، أي: جعلك إماماً بموت أخيك الأكبر قبلك) الكافي: (1/326)، إثبات الهداة: (3/392، 395).
(3) انظر روايات أخرى في مسألة عامل السن: نور الثقلين: (3/325) (5/13)، أمالي الطوسي: (446)، البحار: (17/309) (18/205) (21/122) (47/281) (48/67) (50/20)، تفسير العسكري: (156)، مدينة المعاجز: (73).
(4) معاني الأخبار: (35)، الخصال: (528)، عيون الأخبار: (119)، الاحتجاج: (240)، بصائر الدرجات: (125)، الكافي: (1/388)، البحار: (25/116، 140، 148، 168) (52/321)، المناقب: (1/253).(1/111)
ولا أدري لِمَ لَمْ يستفد من هذه الأخيرة، ولعل الحادثة كانت ليلاً، والطريف قول البعض: إن ابن الحنفية إنما فعل ذلك إزاحةً لشكوك الناس في ذلك(1).
ولا شك أنك علمت من الروايات الأخرى فساد هذا القول، ناهيك عن علة ذلك فيما عُرِفَ من الدين بالضرورة، وفي ركن من أعظم الأركان، ويكفيك منازعته له في صدقات الأمير(2)، دلالةً على عدم قناعته بما مرَّ، وسواء سبقت أحداث الرواية الأولى أو الثانية ففيهما ما يغني، وحسب ذلك كله قول الصادق كما يدَّعي القوم: ما مات محمد بن الحنفية حتى أقرَّ لعلي بن الحسين(3).
ثم إن كانت هذه الروايات تشير إلى ادعائه الإمامة أو الرجوع عنها فقد اعتقد الكثير من الشيعة في إمامته.
يقول النوبختي -وهو من علماء القوم- في معرض كلامه عن حال الشيعة بعد الحسين رضي الله عنه: ثم افترقوا بعده ثلاث فرق: ففرقة قالت بإمامة محمد بن الحنفية، وزعمت أنه لم يبق بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى أمير المؤمنين من محمد بن الحنفية، فهو أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد الحسن من ولد الحسن، فمحمد هو الإمام بعد الحسين.
__________
(1) الخرائج والجرائح: (194)، البحار: (46/30).
(2) للمزيد من منازعاته الأخرى مع الأئمة انظر: البحار: (44/191)، المناقب: (1/66).
(3) كمال الدين: (45).(1/112)
وفرقة قالت: إن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى هو الإمام المهدي، وهو وصي علي بن أبي طالب ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولا يشهر سيفه إلا بإذنه، وإنما خرج الحسن بن علي إلى معاوية محارباً له بإذن محمد بن الحنفية ووادعه وصالحه بإذنه، وإن الحسين إنما خرج لقتال يزيد بإذنه(1)، ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلا، وإن من خالف محمد بن الحنفية كافر مشرك(2).
بل إن من الشيعة من قال: إنه المهدي سماه علي مهدياً، وهو لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك؛ ولكنه غاب ولا يُدرى أين هو، وسيرجع ويملك الأرض، ولا إمام بعد غيبته إلى رجوعه.
بل إن منهم من قال: إن ابن الحنفية هو الله عز وجل -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وغير ذلك، والكلام في ذلك يطول(3).
ولكن انظر أين القول بالنص من كل هذه النقول؟!
موقف الإمام محمد الباقر رحمه الله وأصحابه من النص:
ثم يأتي دور ابنه الباقر محمد بن علي رحمهما الله، وحديثنا عنه وعن أصحابه، ونبدأ بهذه الرواية: عن مالك بن أعين الجهني قال: أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي، فقال: بني، إني جعلتك خليفتي من بعدي، لا يدَّعي فيما بيني وبينك أحد إلا قلَّده الله يوم القيامة طوقاً من نار، فاحمد الله على ذلك واشكره(4).
لا أدري هل كان الأمر له يضعه حيث يشاء، أم إنه الإمام من بعده من الله عز وجل، ولو لم يوص إليه أكان سيخلفه من بعده؟!
__________
(1) رغم ذلك تذكر كتب القوم مبايعته رضي الله عنه ليزيد: البحار: (45/326).
(2) فرق الشيعة: (26)، وانظر أيضاً في اعتقاد الشيعة في إمامته: كمال الدين: (42، 43، 45)، البحار: (42/81).
(3) انظر تفصيل ذلك إن شئت في: فرق الشيعة: (26) وما بعدها، الفصول المختارة: (240)، وما بعدها.
(4) كفاية الأثر: (319)، البحار: (46/231)، إثبات الهداة: (3/35).(1/113)
ولا شك أنك ترى مما مرَّ بك من أول الباب أن قوله: إني جعلتك خليفتي من بعدي، مثل قوله: إني جعلت الصوم في شهر رمضان، فإما أن يكون هذان الأمران مفروضين من الله عز وجل، وليس لبشرٍ فيهما شأن، وإما الآخر، وهذا لا يقول به مسلم.
إذاً.. لا يبقى إلا أن ينتفي الآخر، أي: بطلان النص، وسيأتيك ما يدعمه.
ثم لا يفوتك قوله: لا يدعي فيما بيني وبينك أحد إلا قلَّده الله يوم القيامة طوقاً من نار، يستشعر منه انتفاء النص، ذلك أن من نوى خلاف الله عز وجل فيمن نصَّ عليه لن يثنيه وصية بشر، ولا أظن أن هذا يفوت الإمام، أما شكره لهذه النعمة فلا شك أنها حاصلة قبل آلاف السنين من بدء الخليقة كما مرَّ بك، لا في السنة الخامسة والتسعين من الهجرة حيث توفي زين العابدين رحمه الله.
والغريب أنه قد نسي الأمرين على افتراضهما، أي: سواء النص من الله عز وجل، أو وصية السجاد، فعندما سأله أبو حنيفة رحمه الله: أنت الإمام؟ قال: لا، قال: فإن قوماً بالكوفة يزعمون أنك إمام، قال: فما أصنع بهم؟ قال: تكتب إليهم تخبرهم، قال: لا يطيعوني(1).
فلا أعرف وجهاً لهذا الإنكار، فأبو حنيفة رحمه الله لم يكن أبداً من رجال السلاطين حتى يتقيه، فقد كان هواه مع آل البيت، وموقفه المؤيد لخروج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على هشام بن عبد الملك، وخروج عبد الله بن الحسن وولديه: محمد المعروف بالنفس الزكية وإبراهيم على المنصور، ورفضه تولي القضاء وتعذيبه حتى موته في الحبس -كما في بعض الروايات- أمور لا تخفى على من له أدنى قراءة لتاريخ الرجل.
وحتى لو أعرضنا عن كل هذا فلا أرى وجهاً للتقية، هذه الحيلة التي يلجأ إليها القوم في كل ما اضطرب عليهم من أمور، أو خالف أهواءهم ولم يخدم أغراضهم، كما سيكون تعليقهم على الكثير مما مر وسيمر بك في هذا الكتاب.
__________
(1) المناقب: (3/331)، البحار: (46/356).(1/114)
أقول: لا أرى وجهاً للتقية هذه بدلالة الرواية التي أوردها القوم عن الصادق، من أن الله أنزل الوصية من السماء على محمد كتاباً، وعليها خواتيم لكل إمام، وكان فيما يخص خاتم الباقر أن قال له الله عز وجل فيه: أن فسر كتاب الله تعالى، وصدِّق أباك، وورِّث ابنك، واصطنع الأمة، وقم بحق الله، وقل الحق في الخوف والأمن، ولا تخش إلا الله، ففعل.
وفي رواية: حدِّث الناس ولا تخافن إلا الله عز وجل، فإنه لا سبيل لأحد عليك، ففعل(1).
فضلاً عن علمه بموعد موته باليوم والساعة، كما روى القوم عن الصادق أنه قال: قال أبي لي ذات يوم: إنما بقي من أجلي خمس سنين، فحسبت فما زاد ولا نقص(2).
وقد مرَّ بك زعم القوم أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم، فتأمل كيف توفق بينهما!
نعود إلى ذكر الأصحاب، فعن أبي الجارود، قال: قلت لأبي جعفر: جعلت فداك، إذا مضى عالمكم أهل البيت، فبأي شيء يعرفون من يجيء من بعده؟ قال: بالهدي والإطراق، وإقرار آل محمد له بالفضل، ولا يسأل عن شيء مما بين الدفتين إلا أجاب عنه(3).
لا أدري لماذا لم يكن جوابه أن ذلك يعرف بالنص من الله ورسوله على الاثني عشر، بدلاً من كل تلك الملاحظات والامتحانات؟!
فهل أبو الجارود هذا يحتاج في معرفة الإمام بعد الباقر -مثلاً- إلى وضع امتحان له في القرآن الذي بين الدفتين؟ أما كان يجزئه أن الإمام بعد الباقر ابنه الصادق بالنص من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما مر بك في المقدمة؟
__________
(1) الكافي:(1/279، 281)، غيبة النعماني:(24، 35)، البحار:(36/192، 193، 210)(48/28)، أمالي الطوسي: (455)، منتخب الأثر: (166)، أمالي الصدوق: (328)، الإمامة والتبصرة: (167) كمال الدين: (607)، المناقب: (1/299).
(2) إعلام الورى: (262)، البحار: (46/268)، المناقب: (3/320).
(3) الخصال: (200)، غيبة النعماني: (129)، البصائر: (489)، البحار: (25/139، 157).(1/115)
وهذا آخر وهو أبو خليفة، يقول: دخلت أنا وأبوعبيدة الحذاء على أبي جعفر، فقلت: كيف لنا بصاحب هذا الأمر حتى نعرف؟
قال: قول الله: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ)) [الحج:41] إذا رأيت هذا الرجل منا فاتبعه فإنه هو صاحبك(1).
ولا أدري -أيضاً- كم رأى صاحبنا هذا من مكنه الله تمكين الباقر في الأرض وفيه هذه الصفات فاتبعه، أو كم بحث وأجهد نفسه ليجد هذا الرجل، اللهم إلا أن يقال: بأنه ليس في آل محمد زمان الباقر من فيه هذه الصفات سوى الصادق، وهذا ما حدا بالباقر إلى هذا القول، وإن كنت أتمنى أنه لم يضف إلى ضلالة أبي خليفة بجهله بالأئمة تلبيس الأمر عليه، وأن يقول له وللحذاء صاحبه الذي لا شك أنه يشاركه الجهل: بأن الإمام من بعدي فلان، ومن بعده فلان.. إلى الثاني عشر.
والمجلسي في بيانه لمعنى الإطراق في روايتنا السابقة قال: لعله أراد به السكوت في حال التقية(2).
ولكن هل كان بيانه هذا ينسحب على هذه الرواية أم لا؟
وإن كنت لا أظن ذلك لقوله في تعليقه على روايتنا هذه: إن من علامات الإمام أن يكون أشجع الناس، لأنه فئة المؤمنين التي يرجعون إليها إن انهزم من الزحف انهزم الناس لانهزامه(3).
ولا أظن أن سؤال أبي خليفة هذا معركة، وهو أصلاً منزه عن الهزيمة فيها.
__________
(1) تفسير فرات: (1/274)، البحار: (25/164).
(2) البحار: (25/139).
(3) البحار: (25/116، 144، 165) (93/64)، علل الشرايع: (79)، معاني الأخبار: (35)، الخصال: (105)، العيون: (118)، المناقب: (1/253).(1/116)
وآخر وهو عبد الرحيم القصير يقول: سألت أبا جعفر: هل لولد جعفر فيها نصيب؟ -أي: في الإمامة- قال: لا، قال: فعددت عليه بطون بني عبد المطلب، كل ذلك يقول: لا، ونسيت ولد الحسن، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: هل لولد الحسن فيها نصيب؟ فقال: يا أبا محمد، ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا(1).
أقول: لا شك أن (لاءات) الباقر كانت كثيرة، وإن كنت أرى أن (لا) واحدة تجزيء وهو القول: لا تقبل أعمالك ولو عبدت الله بين الركن والمقام ألف عام ثم ألف عام إلا بولاية أهل البيت الذين نصَّ الله عليهم بأسمائهم، ويبدو أن خروج القصير كان كدخوله تماماً، جاهلاً بالأئمة والإمامة، حيث قال: فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: هل لولد الحسن فيها نصيب؟ ولا أدري كيف خفي عليه النص في أعظم أركان الدين، بل إن قبول الأركان الأخرى مقرونة بها، وكيف دخل على الباقر وخرج منه بالجهل نفسه، وأعجب منه جواب الإمام، وكنت تمنيته أن يقول: ويحك يا أبا محمد، أولم تعلم أن الأئمة بعد رسول الله اثنا عشر لا ينقصون ولا يزيدون، وهم مسمون بأسمائهم، وهم: علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم أنا، ثم ابني جعفر.. وهكذا إلى بقية الأئمة، بدلاً من أن يضطره إلى كل هذه الأسئلة، ويضطر هو إلى كل (لاءاته) تلك.
لا زلنا مع الباقر وأصحابه، فهذا الكميت -الشاعر- يروي القوم أنه قال: دخلت على سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر، فقلت: يا ابن رسول الله، إني قد قلت فيكم أبياتاً أتأذن لي في إنشادها؟ فقال: إنها أيام البيض، قلت: فهو فيكم خاصة، قال: هات، فأنشأت أقول:
أضحكني الدهر وأبكاني ... ... والدهر ذو صرف وألوان
إلى أن قال:
متى يقوم الحق فيكم ... ... متى يقوم مهديكم الثاني؟
__________
(1) علل الشرايع: (79)، البحار: (25/256)، نور الثقلين: (4/238، 239).(1/117)
قال: سريعاً إن شاء الله سريعاً، ثم قال: يا أبا المستهل، إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين، لأن الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم، قلت: فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال: أولهم: علي بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين علي بن الحسين وأنا، ثم بعدي هذا، ووضع يده على كتف جعفر، قلت: فمن بعد هذا؟ قال: ابنه موسى، وذكر بقية الأئمة(1).
أقول: كنت أنتظر من شاعرنا أن يقول: يا سيدي، هل يحتاج معرفة أعظم أركان الدين ومَن لولاهم لما خلقت، ولا خلق الله الأكوان و.. و..، إلى بيان وتعريف، ولكن قوله: يا سيدي، فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ ثناني عن ذلك، إلا أن جهل شاعر كالكميت بالإمامة والأئمة أمر لا يمكن توجيهه، لا أقلَّ من معرفته بإمامة أمير المؤمنين الذي قال فيه وفي إمامته أشعاراً، فتشيعه كان ظاهراً، والتقية منه كانت محالاً، فشأنه كشأن أبي حنيفة لم يكن أبداً من رجال الدولة، بل إن شعره يطفح بعكس ذلك، ومن قوله في ذم بني أمية:
فقل لبني أمية حيث حَلُّوا ... ... ... وإن خفت المهند والقطيعا
أجاع الله من أشبعتموه ... ... وأشبع من بجوركم أجيعا
ويروي القوم أن الصادق لما أنشده هذه القصيدة دعا له(2).
ويقولون: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في منامه، وطلبا منه أن ينشدهما قصيدته العينية من الهاشميات التي منها:
ويوم الدوح دوح غدير خم ... ... أبان له الولاية لو أطيعا(3)
ويبدو جلياً أن الكميت لم يفهم الولاية هنا بمعنى الخلافة أو الإمارة كما يزعم القوم في حادثة الغدير، بدلالة روايتنا الأولى التي استفسر فيها عن الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) كفاية الأثر: (33)، الغدير:(2/180)، البحار: (36/390)(79/293)، إثبات الهداة:(1/602)، منتخب الأثر: (123).
(2) الغدير: (2/183).
(3) الغدير: (2/183)، كنز الفوائد: (154)، البحار: (42/16).(1/118)
ويروون أنه دخل على الباقر فأنشده قصيدته هذه، فقال: اللهم اغفر للكميت، اللهم اغفر للكميت(1)، وفي موطن آخر أنشده:
من لقلب متيم مستها ... ... مغير ما صبوة ولا أحلام
فلما فرغ منها قال للكميت: لا تزال مؤيداً بروح القدس ما دمت تقول فينا(2).
وفي أخرى: استقبل الباقر الكعبة، وقال: اللهم ارحم الكميت واغفر له -ثلاث مرات- ثم قال: يا كميت، هذه مائة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي، فقال الكميت: لا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل الذي يكافيني، ولكن تكرمني بقميص من قمصك فأعطاه(3)، فهذه هي منزلة الكميت، وقد أعرضنا عن ذكر الكثير منها(4).
ولك أن تسأل عن سر غياب النص على الاثني عشر عليه؟
ألم يكن الأجدر به -بدلاً من إعطائه حطام الدنيا- أن يعلم أن أعماله إنما هي هباء منثور لجهله بالأئمة، ولا أرى لزاماً من الاستزادة، ولكن قبل تركي لهذه الرواية إلى التي تليها، أود أن أنبهك إلى استدلال آخر فيها، وهو أن أكثر من أربعة عشر قرناً لا يعد من التشريع، واللبيب بالإشارة يفهم.
__________
(1) الغدير: (2/186)، البحار: (36/391).
(2) رجال الكشي: (136)، إعلام الورى: (158)، الغدير: (2/187)، البحار: (47/324).
(3) الغدير: (2/188)، المناقب: (5/12)، البحار: (46/333).
(4) راجع إن شئت، الغدير للأميني: (2/180-212).(1/119)
وتتكرر ظاهرة الغياب وجهل الأصحاب، فهذا آخر هو الحكم بن أبي نعيم قال: أتيت أبا جعفر وهو بالمدينة، فقلت له: علي نذر بين الركن والمقام إن أنا لقيتك ألا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أم لا؟ فلم يجبني بشيء، فأقمت ثلاثين يوماً، ثم استقبلني في طريق، فقال: يا حكم، وإنك لههنا بعد، فقلت: نعم، إني أخبرتك بما جعلت لله علي، فلم تأمرني ولم تنهني عن شيء ولم تجبني بشيء؟ فقال: بكر على غدوةً المنزل، فغدوت عليه، فقال: سَلْ عن حاجتك، فقلت: إني جعلت لله نذراً وصياماً وصدقة بين الركن والمقام إن أنا لقيتك ألا أخرج من المدينة حتى أعلم أنك قائم آل محمد أو لا؟ فإن كنت أنت رابطتك وإن لم تكن أنت سرت في الأرض فطلبت المعاش، فقال: يا حكم، كلنا قائم بأمر الله، قلت: فأنت المهدي؟ قال: كلنا نهدي إلى الله.. الرواية(1).
خلاف أهل بيت الباقر معه:
لم يقتصر الجهل بالأئمة الاثني عشر على الأصحاب فحسب(2) بل طال أهلَ البيت، فهذا يحيى بن زيد بن علي زين العابدين -رحمهم الله- يقول: سألت أبي عن الأئمة؟ فقال: الأئمة اثنا عشر: أربعة من الماضين وثمانية من الباقين، قلت: فسمهم يا أبه؟ قال: أما الماضون: فعلي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومن الباقين: أخي الباقر، وبعده جعفر الصادق ابنه، وبعده موسى ابنه -ثم ذكر بقية الأئمة-.
قال: فقلت له: يا أبه، ألست منهم؟ قال: لا ولكني من العترة، قلت: فمن أين عرفت أساميهم؟ قال: عهد معهود عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم(3).
__________
(1) الكافي: (1/536)، البحار: (51/140).
(2) انظر روايات أخرى في جهل أصحاب الباقر: البحار:(51/40)، منتخب الأثر: (34).
(3) كفاية الأثر: (327)، البحار: (46/198)، إثبات الهداة: (1/604)، منتخب الأثر: (129).(1/120)
فتدبر في الروايات السابقة وقارن بينها وبين ما يدعيه القوم من النص، وانظر هل يمكن التوفيق بينها، وهل يستقيم خفاء تلك النصوص على المقربين؟ وهل يستقيم القول باللطف ووجوب معرفة إمام الزمان مع تعسر معرفته إلا بسؤال أو تنبيه من إمام؟ فما مصير صلاة وصيام وزكاة وحج وسائر أعمالِ مَن جهل بهم حتى يسأل أو يعلم؟
ولا شك أنهم لم يسألوا عن شهر الصيام أو الحج أو نصاب الزكاة وعدد ركعات العصر، ولعلَّ ما يخرجك من الحيرة أو يزيدها مزيد من روايات القوم.
عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن الصادق، قال: إن أبي استودعني ما هناك، فلمَّا حضرته الوفاة قال: ادع لي شهوداً، فدعوت أربعة من قريش، فيهم: نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: هذا ما أوصى به يعقوب بنيه: ((يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [البقرة:132]، وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد، وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه يوم الجمعة، وأن يعممه بعمامته، وأن يرفع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحل عنه أطماره عند دفنه، ثم قال للشهود: انصرفوا رحمكم الله، فقلت له: يا أبت، ما كان في هذا أن يشهد عليه، فقال: يا بني، كرهت أن تغلب، وأن يقال: لم يوصِ إليه، وأردت أن تكون لك الحجة(1).
أقول: لم أقف على علة الوصية هذه والتي فيها أمور لم يأخذ بها القوم حتى يومنا هذا، ولا الإشهاد عليها، ألم يعلم الناس وهؤلاء الأربعة من قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على الصادق بعد أبيه، حتى اضطر الباقر إلى ذلك خشية أن يغلب أو يقال: لم يوصِ إليه وتكون الحجة له؟ وإن لم تكن حجة الله ورسوله مجزئة فماذا تكون حجة الباقر؟ ثم اسأل نفسك ما هي هذه الحجة التي كانت للباقر أصلاً وأرادها لابنه؟
__________
(1) الإرشاد: (289)، الكافي: (1/307)، إعلام الورى: (268)، البحار: (47/13)، إثبات الهداة: (3/72).(1/121)
وعن أبي عبيدة الحذاء قال: كنا زمن أبي جعفر حين قبض نتردد كالغنم لا راعي لها، فلقينا سالم بن أبي حفصة، فقال: يا أبا عبيدة، من إمامك؟ قلت: أئمتي آل محمد، فقال: هلكت وأهلكت، أما سمعت أنا وأنت أبا جعفر وهو يقول: من مات ليس له إمام مات ميتة جاهلية؟ قلت: بلى لعمري لقد كان ذلك(1).
ولا أظن أن القارئ يحتاج منا إلى تعليق، فأطلق العنان لفكرك، وتدبر في هذه الرواية، فستجدها مليئة بالشبهات والدلائل.
والباقر لم يسلم من خروج إخوته وأهله وخلافهم عليه، شأنه في ذلك شأن بقية الأئمة، وسأورد عليك بعضاً من تلك الروايات، ولن أحتاج معها إلى تعليق، وحسبك أن تستحضر عنوان كتابنا هذا، ثم انظر كيف توفق بينها، أو إن كنت تستطيع أن تخرج منها بالقول بالنص أو عدمه؟
روى القوم عن الصادق أنه قال: لما حضر علي بن الحسين الموت، قبل ذلك أَخْرَج السفط أو الصندوق عنده، فقال: يا محمد، احمل هذا الصندوق، قال: فحمل بين أربعة رجال، فلما توفي جاء إخوته يدعون في الصندوق؟ فقالوا: أعطنا نصيبنا من الصندوق، فقال: والله ما لكم فيه شيء، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إليَّ، وكان في الصندوق سلاح رسول الله وكتبه(2).
وعن الباقر قال: كان فيما أوصى أبي إلي: إذا أنا مت فلا يلي غسلي أحد غيرك، فإن الإمام لا يغسله إلا إمام، واعلم أن عبدالله أخاك سيدعو إلى نفسه فدعه، فإن عمره قصير(3).
__________
(1) البصائر: (72، 150)، البحار: (23/85) (26/176)، الكافي: (1/397)، وانظر رواية شبيهة في: البحار: (23/41، 53، 80، 86)، كمال الدين: (133)، البصائر: (149)، الكشي: (153).
(2) البصائر: (4/48)، الكافي: (1/305)، إعلام الورى: (260)، البحار: (46/229)، إثبات الهداة: (3/33)، المناقب: (4/211).
(3) كشف الغمة: (2/347)، البحار: (46/269)، إثبات الهداة: (3/16).(1/122)
ونختم ذلك بطامة شبيهة بطامة زين العابدين وابن الحنفية: يروي القوم عن الصادق أنه قال: كان زيد بن الحسن يخاصم أبي في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أنا من ولد الحسن وأولى بذلك منك، لأني من ولد الأكبر، فقاسمني ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وادفعه إلي، فأبى أبي، فخاصمه إلى القاضي، فكان زيد معه إلى القاضي، فبينما هم كذلك ذات يوم في خصومتهم، إذ قال زيد بن الحسن لزيد بن علي: اسكت يا ابن السندية، فقال زيد بن علي: أف لخصومة تذكر فيها الأمهات، والله لا كلمتك بالفصيح من رأسي أبداً حتى أموت، وانصرف إلى أبي، فقال: يا أخي، إني حلفت بيمين ثقة بك وعلمت أنك لا تكرهني ولا تخيبني، حلفت أن لا أكلم زيد بن الحسن ولا أخاصمه، وذكر ما كان بينهما، فأعفاه أبي واغتنمها زيد بن الحسن، فقال: يلي خصومتي محمد بن علي فأعتبه وأؤذيه فيعتدي علي، فعدا على أبي، فقال: بيني وبينك القاضي، فقال: انطلق بنا، فلما أخرجه قال أبي: يا زيد، إن معك سكينة قد أخفيتها، أرأيتك إن نطقت هذه السكينة التي تسترها مني فشهدت أني أولى بالحق منك، أفتكف عني؟ قال: نعم، وحلف له بذلك، فقال أبي: أيتها السكينة، انطقي بإذن الله، فوثبت السكينة من يد زيد بن الحسن على الأرض، ثم قالت: يا زيد، أنت ظالم، ومحمد أحق منك وأولى، ولئن لم تكف لألين قتلك، فخر زيد مغشياً عليه، فأخذ أبي بيده فأقامه، ثم قال: يا زيد، إن نطقت الصخرة التي نحن عليها أتقبل؟ قال: نعم، فرجفت الصخرة التي مما يلي زيداً، حتى كادت تفلق، ولم ترجف مما يلي أبي، ثم قالت: يا زيد، أنت ظالم، ومحمد أولى بالأمر منك، فكف عنه وإلا وليت قتلك، فخر زيد مغشياً عليه، فأخذ أبي بيده وأقامه، ثم قال: يا زيد، أرأيت إن نطقت هذه الشجرة وتسير إليَّ أتكف؟ قال: نعم، فدعا أبي الشجرة فأقبلت تخد الأرض حتى أظلتهم، ثم قالت: يا زيد، أنت ظالم، ومحمد أحق بالأمر منك، فكف عنه وإلا قتلتك، فغشي على زيد،(1/123)
فأخذ أبي بيده، وانصرفت الشجرة إلى موضعها، فحلف زيد أن لا يعرض لأبي ولا يخاصمه، فانصرف وخرج زيد من يومه إلى عبد الملك بن مروان، فدخل عليه، وقال: أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه، وقص عليه ما رأى، وكتب عبد الملك إلى عامل المدينة، أن ابعث إليَّ محمد بن علي مقيداً، وقال لزيد: أرأيتك إن وليتك قتله قتلته؟ قال: نعم(1).
أهؤلاء هم أهل البيت؟ أجيبوا أيها الشيعة! ألا يستقيم مدح أحدهم إلا بذم الآخر؟
وكما ذكرت من قبل أن هذه الروايات لا تحتاج إلى تعليق، ولكن لا بأس بالقول: إن أهل مكة أدرى بشعابها، كما أود القول: إن في الرواية دليلاً على أن السكاكين والصخور والأشجار لم تكن تتكلم يوم أن ادعى أبو بكر رضي الله عنه الإمامة دون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا تنس -أيضاً- أن عبد الملك بن مروان هذا هو الذي شكر الله له وثبت ملكه وزاد فيه برهة كما مرَّ بك، ولعل إرساله في طلب الباقر مقيداً كان في هذه البرهة التي ذكرها والده زين العابدين.
افتراق الشيعة بعد وفاة الباقر:
قبل أن أنتقل إلى الإمام التالي، أذكر هنا موقف الشيعة بعد الباقر كما ذكر ذلك القوم أنفسهم:
__________
(1) الخرائج والجرائح: (230)، البحار: (46/329)، إثبات الهداة: (3/56).(1/124)
يقول النوبختي: فلما توفي أبو جعفر افترقت أصحابه فرقتين، فرقة منها قالت بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الخارج بالمدينة المقتول بها، وزعموا أنه القائم، وأنه الإمام المهدي، وأنه لم يقتل، وقالوا: إنه حي لم يمت، مقيم بجبل يقال له: العلمية، وهو الجبل الذي في طريق مكة ونجد الحاجز عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وهو الجبل الكبير، وهو عنده مقيم فيه حتى يخرج، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: القائم المهدي اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، وكان أخوه إبراهيم بن عبدالله بن الحسن، خرج بالبصرة ودعا إلى إمامة أخيه محمد بن عبدالله، واشتدت شوكته، فبعث إليه المنصور بالخيل، فقُتل بعد حروب كانت بينهم، وكان المغيرة بن سعيد قال بهذا القول لما توفي أبو جعفر محمد بن علي وأظهر المقالة بذلك، فبرئت منه الشيعة أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد عليهما السلام ورفضوه، فزعم أنهم رافضة، وأنه هو الذي سمَّاهم بهذا الاسم، ونصب بعض أصحاب المغيرة إماماً، وزعم أن الحسين بن علي أوصى إليه، ثم أوصى إليه علي بن الحسين، ثم زعم أن أبا جعفر محمد بن علي أوصى إليه، فهو الإمام إلى أن يخرج المهدي، وأنكروا إمامة أبي عبدالله جعفر بن محمد، وقالوا: لا إمامة في بني علي بن أبي طالب بعد أبي جعفر محمد بن علي، وأن الإمامة في المغيرة بن سعيد إلى خروج المهدي، وهو عندهم محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن وهو حي لم يمت ولم يقتل، فسموا هؤلاء المغيرية باسم المغيرة بن سعيد مولى خالد بن عبدالله القسري، ثم تراقى الأمر بالمغيرة إلى أن زعم أنه رسول نبي، وأن جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله، فأخذه خالد بن عبدالله القسري فسأله عن ذلك فأقر به ودعا خالداً إليه، فاستتابه خالد فأبى أن يرجع عن قوله فقتله وصلبه، وكان يدَّعي أنه يحيي الموتى، وكان يقول بالتناسخ، وكذلك قول أصحابه إلى اليوم.(1/125)
وأما الفرقة الأخرى من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي فنزلت إلى القول بإمامة أبي عبدالله جعفر بن محمد، فلم تزل ثابتة على إمامته أيام حياته غير نفر يسير منهم، فإنهم لما أشار جعفر بن محمد إلى إمامة ابنه إسماعيل، ثم مات إسماعيل في حياة أبيه، رجعوا عن إمامة جعفر، وقالوا: كَذبنا ولم يكن إماماً؛ لأن الإمام لا يكذب ولا يقول ما لا يكون، وحكموا على جعفر أنه قال: إن الله عز وجل بدا له في إمامة إسماعيل، فأنكروا البداء والمشيئة من الله، وقالوا: هذا باطل لا يجوز، ومالوا إلى مقالة البترية ومقالة سليمان بن جرير، وهو الذي قال لأصحابه بهذا السبب: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبداً، وهما: القول بالبداء، وإجازة التقية، فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوا، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك بكونه.(1/126)
وأما التقية فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات؛ لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد بل في سنين متباعدة، وأشهر متباينة، وأوقات متفرقة، فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم، وسألوهم عنه وأنكروه عليهم؛ فقالوا: من أين هذا الاختلاف، وكيف جاز ذلك؟ قالت أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا، لأن ذلك إلينا ونحن نعلم بما يصلحكم، وما فيه بقاؤنا وبقاؤكم، وكف عدوكم عنا وعنكم، فمتى يظهر من هؤلاء على كذب؟ ومتى يعرف لهم حق من باطل؟ فمال إلى سليمان بن جرير لهذا القول جماعة من أصحاب أبي جعفر، وتركوا القول بإمامة جعفر(1).
__________
(1) فرق الشيعة: (62-66).(1/127)
وذكر النوبختي قبل ذلك أن من نزلوا على القول بإمامة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين باقر العلم أقاموا على إمامته إلى أن توفي، غيرَ نفرٍ يسير منهم، فإنهم سمعوا رجلاً منهم يقال له: عمر بن رياح، زعم أنه سأل أبا جعفر عن مسألة فأجابه فيها بجواب، ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول، فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية، فشكك في أمره وإمامته، فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر يقال له: محمد بن قيس، فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب، ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: فعلته للتقية، وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به، فلا وجه لاتقائه إياي، وهذه حالتي، فقال له محمد بن قيس: فلعله حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري، لا، ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبخيت، ولم يحفظ ما أجاب به في العام الماضي فيجيبَ بمثله، فرجع عن إمامته، وقال: لا يكون إماماً من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه، ولا في حال من الأحوال، ولا يكون إماماً من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله، ولا من يرخي ستره ويغلق بابه، ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمال بسببه إلى قول البترية، ومال معه نفر يسير(1).
ويحضرني هنا قول صاحب الحدائق في التقية حيث ذكر: فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل؛ لامتزاج أخباره بأخبار التقية(2).
__________
(1) فرق الشيعة: (59).
(2) الحدائق الناضرة: (1/5).(1/128)
وفي مكان آخر قال: فإن جُلَّ الاختلاف في أخبارنا بل كله عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية(1)، حتى قال الطوسي شيخ الطائفة: لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه.. إلى أن ذكر أنه وبسبب ذلك ترك الكثير من الشيعة مذهبهم(2).
موقف الإمام جعفر الصادق رحمه الله وأصحابه من النص:
وصلنا إلى الحديث عن الإمام الصادق رحمه الله وأصحابه، ولكن لا شك أننا بوصولنا إلى هنا قد ابتعدنا كثيراً عما ذكرناه عن الإمامة ومنزلتها في مقدمة هذا الباب، لذا أنصح القارئ أن يمر مروراً سريعاً عليها حتى يقف على أوجه الدلالة فيما سيمر به.
ثم لا تنس أن ما ستقرؤه يكون أشد انتشاراً يوماً بعد يوم إلى زماننا هذا، أعني زمن الصادق المتوفى سنة (148) هجرية، أي: بعد مرور حوالي قرن ونصف القرن على البعثة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، مما يدل على أن خفاء أي نص من النصوص الآتية يقترب من الاستحالة إن لم يكن مستحيلاً، سواء على الأعداء الذين أخفوا تلك النصوص وتكتموا عليها بزعم القوم، أو على الأئمة وشيعتهم.
ولنشرع في المقصود، فنقول: لم يكن أصحاب الصادق بأفضل حالاً من أصحاب أبيه أو جده في جهلهم بالإمام والأئمة، مما يستوجب من ذلك أن من مات على ذلك مات ميتة جاهلية، أو مُنِي برد أعماله وعدم قبولها حتى لحظة سؤاله، ويبدو أن أمر الجهل بالنص هذا لم يغادر أحداً من أصحابه، بل حتى وأهل بيته كما سترى، إلا أننا -وكما ذكرنا- سنقتصر على ذكر بعض الأمثلة في كل موضوع خشية الإطالة والإطناب.
__________
(1) الحدائق الناضرة: (1/8).
(2) تهذيب الأحكام: (1/8).(1/129)
عن داود بن كثير قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، وقدمني للموت قبلك، إن كان كون فإلى من؟ قال: إلى ابني موسى، فكان ذلك الكون، فوالله ما شككت في موسى طرفة عين قط، ثم مكث نحواً من ثلاثين سنة، ثم أتيت أبا الحسن موسى، فقلت له: جعلت فداك، إن كان كون فإلى من؟ قال: فإلى علي ابني(1).
ولا نمل القارئ بتعليقاتنا، فأوجه الدلالة واضحة في الرواية ومثيلاتها.
عن المفضل بن عمر قال: دخلت على سيدي جعفر بن محمد، فقلت: يا سيدي، لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك؟ فقال لي: يا مفضل، الإمام من بعدي ابني موسى(2). وحسب هذه الروايات أن كل واحدة منها تسقط الأخرى.
وعن إبراهيم الكرخي قال: دخلت على أبي عبدالله، فإني لجالس عنده إذ دخل أبو الحسن موسى بن جعفر وهو غلام، فقمت إليه فقبلته وجلست، فقال أبو عبدالله: يا إبراهيم، أما إنه صاحبك بعدي(3).
وعن معاذ بن كثير، قال: قلت لأبي عبد الله: أسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال: قد فعل الله ذلك، قلت: من هو جعلت فداك؟ فأشار إلى العبد الصالح، وهو راقد، فقال: هذا الراقد، وهو يومئذٍ غلام، أي: الكاظم(4).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/33)، البحار: (48/14)، إثبات الهداة: (3/161، 235).
(2) كمال الدين: (314)، البحار: (48/15)، إثبات الهداة: (3/162، 470)، منتخب الأثر:(231)، إعلام الورى: (404)، البحار: (51/143).
(3) كمال الدين: (314)، البحار: (36/401) (48/15) (51/144)، إثبات الهداة: (1/516)، غيبة النعماني: (57)، منتخب الأثر: (40).
(4) الإرشاد: (308)، البحار: (48/17)، الكافي: (1/308)، إثبات الهداة: (3/156).(1/130)
وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال: دخلت على جعفر بن محمد في منزله، وهو في بيت كذا من داره في مسجد له وهو يدعو، وعلى يمينه موسى بن جعفر يؤمن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك، قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن ولي الأمر بعدك؟ قال: يا عبد الرحمن، إن موسى قد لبس الدرع فاستوت عليه، فقلت له: لا أحتاج بعدها إلى شيء(1).
ولم أقف على فائدة هذا الانقطاع والخدمة مع الجهل بالأئمة.
عن ابن حازم قال: قلت لأبي عبدالله: بأبي أنت وأمي، إن الأنفس يغدى عليها ويراح، فإذا كان ذلك فمن؟ قال أبو عبدالله: إذا كان ذلك فهذا صاحبكم، وضرب بيده على منكب أبي الحسن(2).
وعن صفوان الجمال، قال: سألت أبا عبدالله عن صاحب هذا الأمر؟ قال: صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه بهمة عناق مكية، ويقول لها: اسجدي لربك، فأخذه أبو عبدالله وضمه إليه، وقال: بأبي أنت وأمي من لا يلهو ولا يلعب(3).
قارن بين هذه الرواية ورواية محمد بن مسلم: كنت عند أبي جعفر إذ دخل جعفر ابنه وعلى رأسه ذؤابة وفي يده عصاه يلعب بها، فأخذه الباقر وضمه إليه ضماً، ثم قال: بأبي أنت وأمي لا تلهو ولا تلعب(4).
فتأمل في الروايتين وانظر تناقضهما، حيث نجد في الأولى كيف أن الصادق يرى أن الإمام لا يلهو ولا يلعب، بينما في الأخرى نراه هو وفي يده عصاه يلعب بها.
__________
(1) الإرشاد: (308)، البحار: (48/18)، الكافي: (1/308)، إثبات الهداة: (3/156)، إعلام الورى: (288).
(2) الإرشاد: (308)، البحار: (48/18)، الكافي: (1/309)، إثبات الهداة: (3/157)، غيبة النعماني: (228)، إعلام الورى: (288).
(3) الإرشاد: (309)، المناقب: (3/432)، إعلام الورى: (289)، البحار: (48/19، 107)، الكافي: (1/311)، إثبات الهداة: (3/158، 167).
(4) كفاية الأثر: (253)، البحار: (47/15).(1/131)
وعن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي عبدالله وهو وجع فولاَّني ظهره ووجهه إلى الحائط، فقلت في نفسي: ما أدري ما يصيبه في مرضه وما سألته عن الإمام بعده، فأنا أفكر في ذلك إذ حوَّل وجهه إليَّ، فقال: إن الأمر ليس كما تظن، ليس من وجعي هذا بأس(1).
وعن يحيى بن إسحاق، عن أبيه قال: دخلت على أبي عبدالله فسألته عن صاحب الأمر من بعده، فقال لي: صاحب البهمة، وكان موسى ناحية الدار صبياً ومعه عناق مكية، وهو يقول لها: اسجدي لله الذي خلقك(2).
وعن سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبدالله: إن رجلاً من العجلية قال لي: كم عسى أن يبقى لكم هذا الشيخ، إنما هو سنة أو سنتان حتى يهلك ثم تصيرون ليس لكم أحد تنظرون إليه؟ فقال أبو عبدالله: ألا قلت له: هذا موسى بن جعفر، قد أدرك ما يدرك الرجال، وقد اشترينا له جارية تباح له(3).
والعجلية إحدى فرق الزيدية وهي من ضعفائها، وهم منسوبون إلى هارون بن سعيد العجلي، ولك أن تسأل عن ضلالة العجلي هذا، بل وجهل هارون بن سعيد نفسه، وجهل صاحبنا ابن محرز الذي أسقط في يده، أما زيد والزيدية فسيأتي بيانهم قريباً.
وعن نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفر: إني سألت أباك: من الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنك أنت هو، فلما توفي أبو عبدالله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني من الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4).
__________
(1) البصائر: (239)، البحار: (47/70)، إثبات الهداة: (3/100)، كشف الغمة: المناقب:(4/219).
(2) غيبة النعماني: (227)، البحار: (48/23).
(3) عيون أخبار الرضا: (1/29)، البحار: (48/23) (49/18)، إثبات الهداة: (3/161).
(4) عيون أخبار الرضا: (1/31)، الكشي: (383)، الكافي: (1/313)، الإرشاد: (286)، غيبة الطوسي: (27)، البحار: (48/24) (49/20، 25)، إعلام الورى: (305).(1/132)
ويشاركه في قضيته هذه أخوه نعيم بن قابوس حيث يقول: قال أبو الحسن: علي ابني، أكبر ولدي، وأسمعهم لقولي، وأطوعهم لأمري، ينظر معي في كتاب الجفر والجامعة، وليس ينظر فيه إلا نبي أو وصي نبي(1).
ولا شك أن ما أخبره به ليس أمراً جديداً، إذ لا حاجة إلى تكرار ما هو معلوم.
وعن عيسى بن شلقان: دخلت على أبي عبدالله وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب، فقال لي مبتدئاً قبل أن أجلس: يا عيسى، ما منعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد؟ قال عيسى: فذهبت إلى العبد الصالح -فأجابه مبتدئاً بكل ما يريد- ثم رجع إلى أبي عبد الله، فقال له: ما صنعت يا عيسى؟ قلت له: بأبي أنت وأمي، أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما أردت أن أسأله عنه، فعلمت والله عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر، فقال: يا عيسى، إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف لأجابك فيه بعلم، ثم أخرجه ذلك اليوم من الكتّاب، فعلمت ذلك اليوم أنه صاحب هذا الأمر(2).
ولا أدري أين يكون ذلك اليوم من ابن شلقان هذا؟
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/31)، البصائر: (3/24)، إعلام الورى: (304)، البحار: (49/20).
(2) قرب الإسناد: (193)، المناقب: (3/411)، البحار: (48/24)، إثبات الهداة: (3/165).(1/133)
وعن هشام بن سالم قال: دخلت على عبد الله بن أبي عبدالله، فسألته فلم أر عنده شيئاً، فدخلني من ذلك ما الله به عليم، وخفت ألا يكون أبو عبد الله ترك خلفاً، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجلست عند رأسه أدعو الله وأستغيث به، ثم فكرت، فقلت: أصير إلى قول الزنادقة، ثم فكرت فيما يدخل عليهم، ورأيت قولهم يفسد، ثم قلت: لا، بل قول الخوارج، فآمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأضرب بسيفي حتى أموت، ثم فكرت في قولهم وما يدخل عليهم، فوجدته يفسد، ثم قلت: أصير إلى المرجئة، ثم فكرت فيما يدخل عليهم، فإذا قولهم يفسد، فبينا أنا أفكر في نفسي وأمشي إذ مرَّ بي بعض موالي أبي عبدالله، فقال لي: أتحب أن أستأذن لك على أبي الحسن؟ فقلت: نعم، فذهب فلم يلبث أن عاد إليَّ، فقال: قم وادخل عليه، فلمَّا نظر إليّ أبو الحسن قال لي مبتدئاً: يا هاشم، لا إلى الزنادقة، ولا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولكن إلينا، قلت: أنت صاحبي، ثم سألته فأجابني عما أردت(1).
ولا أدري على ماذا كان صاحبنا قبل تفكيره في هذه الفرق والمذاهب، والغريب أن له مودة إلى آل البيت وانقطاع، ولكن لا أعلم لم غاب عنه أمر لولاه لما خلق الله عز وجل هشام بن سالم، وذلك باعتبار أن الأئمة هم علة خلق كل شيء كما يزعم القوم.
__________
(1) البصائر: (5/68)، البحار: (48/50، 51)، الكافي: (1/352)، إثبات الهداة:(3/176)، وانظر أيضاً قصة شبيهة بها حصلت لحمزة بن محمد الطيار في: إثبات الهداة: (3/59).(1/134)
وعن محمد بن فلان الرافعي قال: كان لي ابن عم يقال له: الحسن بن عبدالله، وكان زاهداً، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يلقاه السلطان وربما استقبل السلطان بالكلام الصعب، يعظه ويأمره بالمعروف، وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه، فلم يزل هذه حاله حتى كان يوماً دخل أبو الحسن موسى المسجد فرآه فأدنى إليه، ثم قال له: يا أبا علي، ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرني بك إلا أنه ليست لك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة، قال: جعلت فداك، وما المعرفة؟ قال له: اذهب وتفقه واطلب الحديث، قال عمن؟ قال: عن فقهاء أهل المدينة، ثم اعرض عليَّ الحديث، قال: فذهب فتكلم معهم ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كله، ثم قال له: اذهب واطلب المعرفة، وكان الرجل معنياً بدينه، فلم يزل يترصد أبا الحسن حتى خرج إلى ضيعة له، فتبعه ولحقه في الطريق، فقال له: جعلت فداك، إني أحتج عليك بين يدي الله فدلني على المعرفة، قال: فأخبره بأمير المؤمنين، وقال له: كان أمير المؤمنين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأمر أبي بكر وعمر، فقبل منه، ثم قال: فمن كان بعد أمير المؤمنين؟ قال: الحسن والحسين، حتى انتهى إلى نفسه، ثم سكت، قال: جعلت فداك، فمن هو اليوم؟ قال: إن أخبرتك تقبل؟ قال: بلى جعلت فداك، فقال: أنا هو، قال: جعلت فداك، فشيء أستدل به؟ قال: اذهب إلى تلك الشجرة -وأشار إلى أم غيلان- فقل لها: يقول لك موسى بن جعفر: أقبلي، قال: فأتيتها، قال: فرأيتها والله تجب الأرض جبوباً حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت(1).
أقول: لا أدري فيما كان أعبد وأزهد أهل زمانه، وكيف لم تقوداه إلى معرفة الإمامة والأئمة حتى اضطر الكاظم أن يجعل أم غيلان تجب الأرض جبوباً.
وعلى أي حال، فالرواية لا تخلو من فوائد، منها:
__________
(1) البصائر: (5/69)، الخرائج والجرائح:(235)، البحار:(48/52)(61/188)، الكافي:(1/352)، إعلام الورى: (292)، المناقب: (4/288).(1/135)
1- أن أم غيلان يبدو أنها لم تكن مطيعة زمن الإمام الأول، وإلا لكان قد احتج بها على الخليفة الأول.
2- أن أحاديث فقهاء المدينة رحمهم الله كلها ساقطة.
وعن أبي إبراهيم الكوفي قال: دخلت على أبي عبد الله، فكنت عنده إذ دخل أبو الحسن موسى بن جعفر وهو غلام، فقمت إليه وقبَّلت رأسه وجلست، فقال لي أبو عبد الله: يا أبا إبراهيم، أَمَا إنه صاحبك من بعدي، أَمَا ليهلكن فيه أقوام ويسعد آخرون، فلعن الله قاتله وضاعف على روحه العذاب، أَمَا ليخرجن الله من صلبه خير أهل الأرض في زمانه... إلى أن قال: فدخل رجل من موالي بني أمية فانقطع الكلام، وعدت إلى أبي عبد الله خمس عشرة مرة أريد استتمام الكلام فما قدرت على ذلك، فلمَّا كان من قابل دخلت عليه وهو جالس، فقال لي: يا أبا إبراهيم، هو المفرج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد وبلاء طويل وجور، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان، وحسبك يا أبا إبراهيم.
قال أبو إبراهيم: فما رجعت بشيء أسر إليَّ من هذا، ولا أفرح لقلبي منه(1).
لسائل أن يسأل عن علة تكراره للسؤال خمس عشرة مرة وإصراره عليه، فضلاً عن جهله بصاحبه بعد الصادق، وعن علة انقطاعه لدخول مولى بني أمية هذا، وعلة انتظار صاحبنا حتى السنة التالية، ولا شك أن نص الرسول صلى الله عليه وسلم على الأئمة -بزعم القوم وكما مرَّ بك في مقدمة الباب- لا يخفى لا على موالي بني أمية ولا على أبي إبراهيم، حتى يضطر هذا إلى الانتظار، وذاك إلى الانقطاع؛ ناهيك عن مصيره لو مات قبل أن يعلم كما يزعم هؤلاء.
__________
(1) كمال الدين: (314)، غيبة النعماني: (43)، البحار: (36/401) (48/15)(52/129).(1/136)
وعن علقمة بن محمد الحضرمي، عن الصادق قال: الأئمة اثنا عشر، قلت: يا ابن رسول الله، فسمهم لي؟ قال: من الماضين: علي بن أبي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، ثم أنا، قلت: فمن بعدك يا ابن رسول الله؟ فقال: إني أوصيت إلى ولدي موسى، وهو الإمام بعدي، قلت: فمن بعد موسى؟ قال: علي ابنه يُدعى الرضا، يدفن في أرض الغربة من خراسان، ثم بعد علي ابنه محمد، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والمهدي من ولد الحسن(1).
وقِفْ بعض الشيء عند قوله: إني أوصيت إلى ولدي موسى.
وعن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبدالله: رجل يتولاكم، ويبرأ من عدوكم، ويحلل حلالكم ويحرم حرامكم، ويزعم أن الأمر فيكم لم يخرج منكم إلى غيركم، إلا أنه يقول: إنهم قد اختلفوا فيما بينهم وهم الأئمة القادة، وإذا اجتمعوا على رجل، فقالوا: هذا، قلنا: هذا(2).
لا أدري كيف فاته أعظم الأشياء وهو يقول بكل شيء، ويتبرأ من الأعداء الذين يعرف القارئ من هم دون شك.
__________
(1) كفاية الأثر: (36)، البحار: (36/409)، إثبات الهداة:(1/603)، منتخب الأثر: (133).
(2) غيبة النعماني: (65)، البحار: (23/79)، إثبات الهداة: (1/135).(1/137)
وعن مسعدة قال: كنت عند الصادق إذ أتاه شيخ كبير قد انحنى، متكئاً على عصاه، فسلم فرد أبو عبدالله الجواب، ثم قال: يا ابن رسول الله، ناولني يدك أقبلها، فأعطاه يده فقبلها، ثم بكى، فقال أبو عبدالله: ما يبكيك يا شيخ؟ قال: جعلت فداك، يا ابن رسول الله، أقمت على قائمكم منذ مائة سنة -أقول: هذا الشهر وهذه السنة- وقد كبرت سني، ودق عظمي، واقترب أجلي، ولا أرى فيكم ما أحب، أراكم مقتلين مشردين، وأرى عدوكم يطيرون بالأجنحة، فكيف لا أبكي؟! فدمعت عينا أبي عبدالله، ثم قال: يا شيخ، إن أبقاك الله حتى يقوم قائمنا كنت معه في السنام الأعلى، وإن حلَّت بك المنية جئت يوم القيامة مع ثَقَل محمد صلى الله عليه وسلم ونحن ثقله(1).
واسأل نفسك عن هذا الشيخ، كيف علم بأمر القائم وأقام عليه قرناً من الزمان دون أن يعلم بالأئمة؟ وكيف جهل بهم وقد أدرك الصادق، والباقر، وزين العابدين، وسيد الشهداء، وأخاه، ولعله أدرك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا شك أنه مرَّ به ومرَّ هو بألوف الشيعة دون أن يبين له عدد الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ناهيك عن عدم سؤاله كل هذا القرن، وكيف كانت صلاته وصيامه وزكاته وحجه بل وإيمانه وهو على هذا الجهل، وكم يحتاج من زيادة عمر حتى يكون في السنام الأعلى؟
وعن محمد بن عبيدالله بن زرارة، عن أبيه قال: لما بعث زرارة عبيداً ابنه إلى المدينة ليسأل عن الخبر بعد مضي أبي عبدالله، فلما اشتد به الأمر أخذ المصحف، وقال: من أثبت إمامته هذا المصحف فهو إمامي(2).
__________
(1) كفاية الأثر: (35)، البحار: (36/408)، منتخب الأثر: (254).
(2) كمال الدين: (81)، البحار: (47/339).(1/138)
ومنزلة زرارة عند القوم عظيمة، والغريب تعليل القوم هذه الرواية بأخرى أطم منها، فقد روى القوم عن إبراهيم بن محمد الهمداني، قال: قلت للرضا: يا ابن رسول الله، أخبرني عن زرارة هل كان يعرف حق أبيك؟ فقال: نعم، فقلت له: فلم بعث ابنه عبيداً ليتعرف الخبر؟ إلى من أوصى الصادق جعفر بن محمد؟ فقال: إن زرارة كان يعرف أَمْر أبي وَنَصَّ أبيه عليه، وأما بعث ابنه لِيَعْرِف مِنْ أبي: هل يجوز أن يرفع التقية في إظهار أمره ونص أبيه عليه؟ وأنه لما أبطأ عنه ابنه طولب لإظهار قوله في أبي فلم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره، فرفع المصحف وقال: اللهم إن إمامي من أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمد(1).
أقول: أين نص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الكاظم، حتى يكلف زرارة ابنه عناء هذه الرحلة الطويلة من العراق إلى المدينة ليسأله جواز رفع التقية لإظهار أمره ونص أبيه عليه؟ ألم تكن مسألة النص قد حسمت منذ كذا وكذا سنة قبل الخلق؟! ألم يكن الأئمة مسمين بأسمائهم؟ ثم ماذا تفهم من قولهم عن الرضا: ونص أبيه عليه؟
أما قضية المصحف وموقف القوم منه، وما إذا كان قد أثبت مسألة الإمامة أم لا؛ فستجده -إن شاء الله- في الباب القادم.
__________
(1) كمال الدين: (81)، إثبات الهداة: (3/162)، البحار: (47/338).(1/139)
وعن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبدالله ذات يوم جالساً إذ قال: يا أبا محمد، هل تعرف إمامك؟ قلت: إي والله الذي لا إله إلا هو، وأنت هو، ووضعت يدي على ركبته أو فخذه، فقال: صدقت قد عرفت فاستمسك به، قلت: أريد أن تعطيني علامة الإمام؟ قال: يا أبا محمد، ليس بعد المعرفة علامة، قلت: أَزدَادُ إيماناً ويقيناً، قال: يا أبا محمد، ترجع إلى الكوفة وقد ولد لك عيسى، ومن بعد عيسى محمد، ومن بعدهما ابنتان، واعلم أن ابنيك مكتوبان عندنا في الصحيفة الجامعة مع أسماء شيعتنا وأسماء آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وأنسابهم وما يلدون إلى يوم القيامة، وأخرجها فإذا هي صفراء مدرجة(1).
يبدو أن صاحبنا على وشك النجاح، إلا أن سؤاله ابتداء يعكر صفو ذلك، وكذا طلبه علامة الإمام، أما أمر هذه الصحيفة الجامعة صفراء كانت أم خضراء، والتي أخرجها بإحدى يديه أو بكلتيهما، فيبدو أنها صغيرة، فتدبر في علة ذلك.
وعن الأصم، عن كرام قال: حلفت فيما بيني وبين نفسي ألا آكل طعاماً بنهار أبداً حتى يقوم قائم آل محمد، فدخلت على أبي عبد الله، فقلت له: رجل من شيعتك جعل لله عليه ألا يأكل طعاماً بالنهار أبداً حتى يقوم قائم آل محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: صم يا كرام ولا تصم العيدين، ولا ثلاثة أيام التشريق، ولا إذا كنت مسافراً(2).
واضح أن صاحبنا لم يكن يعلم أن الإمام بعد أبي عبد الله هو ابنه الكاظم، ومن بعده ابنه الرضا، ثم الجواد، فالهادي والعسكري، ثم القائم، إلا إن كان لديه عهد بأنه سيعيش حتى خروجه، وبهذا لا شك أن صاحبنا قد مرَّ عليه أكثر من ألفين وخمسمائة عيد حتى صدور هذا الكتاب، أما جواب الإمام فلا يحتاج إلى تعليق.
__________
(1) كشف الغمة: (2/420)، الخرائج والجرائح: (232)، البحار: (47/143)، إثبات الهداة: (3/127، 139).
(2) غيبة النعماني: (60)، البحار: (36/402) (96/267)، منتخب الأثر:(39)، الكافي:(1/534).(1/140)
وعن هشام بن سالم أنه سأل الصادق: هل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا، إلا أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، وأما أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا، قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين؟ قال: لا(1).
لا أدري لماذا كل هذه الأسئلة مادامت سلسلة الأئمة معروفة لا تزيد ولا تنقص، ونحن نعلم بالضرورة أن هشاماً هذا لم يسأل أبا عبد الله أبداً: هل تكون صلاة العصر خمس ركعات مثلاً؟! فتأمل!
اضطراب الشيعة في علة جعل الإمامة في نسل الحسين دون الحسن رضي الله عنهما:
إن القوم لهم في علة جعل الإمامة في نسل الحسين دون الحسن رضي الله عنهما اضطراب كبير تلخصه هذه الروايات:
عن عبدالرحمن بن كثير الواسطي قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، من أين جاء لولد الحسين الفضل على ولد الحسن وهما يجريان في شرع واحد؟
__________
(1) كمال الدين: (232)، البحار: (25/106، 249).(1/141)
فقال: لا أراكم تأخذون به، إن جبرئيل عليه السلام نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما ولد الحسين بعد، فقال له: يولد لك غلام تقتله أمتك من بعدك، فقال: يا جبرئيل، لا حاجة لي فيه، فخاطبه ثلاثاً، ثم دعا علياً، فقال له: إن جبرئيل عليه السلام يخبرني عن الله عز وجل أنه يولد لك غلام تقتله أمتك من بعدك، فقال: لا حاجة لي فيه يا رسول الله، فخاطب علياً ثلاثاً، ثم قال: إنه يكون فيه وفي ولده الإمامة والوراثة والخزانة، فأرسل إلى فاطمة: إن الله يبشرك بغلام تقتله أمتي من بعدي، فقالت فاطمة: ليس لي حاجة فيه يا أبه، فخاطبها ثلاثاً، ثم أرسل إليها: لا بد أن يكون فيه الإمامة والوراثة والخزانة، فقالت له: رضيت عن الله عز وجل (1).
وعن الربيع بن عبدالله قال: وقع بيني وبين عبدالله بن الحسن كلام في الإمامة، فقال عبدالله بن الحسن: إن الإمامة في ولد الحسن والحسين، فقلت: بل في ولد الحسين إلى يوم القيامة دون ولد الحسن، فقال لي: وكيف صارت في ولد الحسين دون الحسن وهما سيدا شباب أهل الجنة، وهما في الفضل سواء إلا أن للحسن على الحسين فضلاً بالكبر، وكان الواجب أن تكون الإمامة إذن في الأفضل؟
__________
(1) علل الشرايع: (206)، الكافي: (1/464)، إثبات الهداة: (1/452، 520، 618، 671)، البحار: (25/254) (43/245)، نور الثقلين: (5/12، 13)، الإمامة والتبصرة: (181)، وانظر أيضاً: كمال الدين: (382، 383)، البحار: (25/260) (44/221)، علل الشرايع: (205)، أمالي الطوسي: (325)، إثبات الهداة: (1/559).(1/142)
فقلت له: إن موسى وهارون كانا نبيين مرسلين، وكان موسى أفضل من هارون عليهما السلام، فجعل الله عز وجل النبوة والخلافة في ولد هارون دون ولد موسى، وكذلك جعل الله عز وجل الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن ليجري في هذه الأمة سنن من قبلها من الأمم حذو النعل بالنعل، ثم قال: فدخلت على الصادق، فلما بصر بي قال لي: أحسنت يا ربيع فيما كلمت به عبدالله بن الحسن ثبتك الله(1).
وخلص آخرون إلى أن ذلك إلى الله عز وجل، والله لا يسأل عما يفعل، فأراحوا أنفسهم، فعن محمد بن يعقوب البلخي قال: سألت أبا الحسن الرضا قلت له: لأي علة صارت الإمامة في ولد الحسين دون الحسن؟ قال: لأن الله عز وجل جعلها في ولد الحسين ولم يجعلها في ولد الحسن، والله لا يسأل عما يفعل(2).
وهكذا.. ولا شك أنك لن تسمع من القوم من يعلل ذلك بأن الدم الذي يجري في عروق الإمام زين العابدين خليط من دم أعرق البيوتات الفارسية المتمثلة في أمه شهربانو ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك الساسانيين ومن دم أبيه الحسين رضي الله عنه، ولولا خوفنا من الخروج عن منهج الكتاب لذكرنا أبعاد هذه القضية والعلة الحقيقية الكامنة وراءها، وكيف أن الفرس تستروا بشعارات الولاء لآل البيت لهدم الإسلام، وإن كان في العمر بقية، فنبين تفصيل ذلك في بحث مستقل، وسنبين -إن شاء الله- كيف أن أئمة أهل البيت وأئمة الرافضة صورتان متضادتان، وكيف أن جلَّ الفرق الهدامة التي ظهرت في الإسلام إنما ظهرت من أرض فارس متسترة بأمثال هذه الولاءات الزائفة.
__________
(1) علل الشرايع: (209)، إثبات الهداة: (1/520، 542)(3/94)، كمال الدين: (383)، البحار: (25/258)، نور الثقلين: (341، 376).
(2) علل الشرايع: (208)، إثبات الهداة: (1/541)، البحار: (23/70) (24/177) (25/260، 261)، عيون الأخبار: (2/88)، كمال الدين: (336)، معاني الأخبار: (2/88)، الخصال: (146)، نور الثقلين: (3/420) (4/597).(1/143)
نعود إلى حديثنا عن الصادق وأصحابه، فعن يونس بن ظبيان أنه سأل الصادق عن الأئمة، فقال: سمهم لي يا ابن رسول الله؟ قال: أولهم: علي بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعده علي بن الحسين، وبعده محمد بن علي الباقر، ثم أنا، وبعدي موسى ولدي، وبعد موسى علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، وبعد الحسن الحجة صلوات الله عليهم، اصطفانا الله وطهرنا وآتانا ما لم يؤت أحداً من العالمين، ثم قلت: يا ابن رسول الله، إن عبدالله بن سعد دخل عليك بالأمس فسألك عما سألتك فأجبته بخلاف هذا؟ فقال: يا يونس، كل امرئ وما يحتمله، ولكل وقت حديثه، وإنك لأهل لما سألت فاكتمه إلا عن أهله والسلام(1).
فكيف يعرف الدين إذاً؟ وكيف يطاع ولي الأمر؟!
لا أدري لماذا هذا الكتمان وهو أمر غريب خلاف ما عليه القوم من القول بكتمان الأعداء للنص، فما قولهم في هذا النص وفي النص الآتي عن أبي يعفور الذي قال: قلت لأبي جعفر: أعرض عليك ديني الذي أدين الله به؟ قال: هاته، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأقر بما جاء به من عند الله، قال: ثم وصفت له الأئمة حتى انتهيت إلى أبي جعفر، قلت: وأقول فيك ما أقول فيهم، فقال: أنهاك أن تذهب باسمي في الناس(2).
أليس يشبه قوله هذا -حسب معتقد القوم- قوله: أنهاك أن تقول في الناس: إن المغرب ثلاث ركعات؟ بل أعظم من ذلك؟!
وعن الحسين بن المعلى: سألت أبا عبدالله: تكون الأرض بغير إمام؟ قال: لا، قلت: أفيكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت، قلت: فالإمام يعرف الإمام الذي من بعده؟ قال: نعم، قلت: القائم إمام؟ قال: نعم إمام ابن إمام(3).
__________
(1) كفاية الأثر: (34)، البحار: (36/405).
(2) البرهان: (1/184، 483)، البحار: (35/188).
(3) كمال الدين: (129)، البحار: (25/107)، إثبات الهداة: (1/109).(1/144)
فاسأل نفسك مرة أخرى: لماذا كل هذه الأسئلة؟ فأنت ترى أنه بعد كل ما مرَّ بك في المقدمة تشبه هذه الأسئلة قول من يقول: تكون سنة من غير رمضان؟ أو أيكون رمضانان في عام واحد؟ وهكذا.. وإلا فأين النص؟
وهناك الكثير من الروايات الشبيهة قد أعرضنا عن ذكرها، وفي الرواية شبهات كثيرة، منها: علة صمت الإمام الآخر إن كانوا في العصمة والعلم سواء، وافتراض الجهل بالإمام الذي بعده.
والغريب أن هذه الشبهة الأخيرة تؤيدها روايات عدة عند القوم نذكر منها قولهم عن الصادق: ليس يموت إمام إلا أخبره الله إلى من يوصي(1).
وفي رواية: ما مات منا عالم حتى يعلمه الله إلى من يوصي(2).
وفي أخرى: لا يموت الرجل منا حتى يعرف وليه(3).
وأخرى: إن الإمام يعرف الإمام الذي مِن بعده فيوصي إليه(4).
وأخرى: لا يموت الإمام حتى يعلم من يكون بعده(5).. وغيرها(6).
فأين قولهم بالنص إذاً؟!
وقد جهل الكثير من أصحابه رحمه الله بالقائم، فمنهم من ظنه ابنه، ومنهم من ظنه هو، وإليك بعضاً من هذه الروايات، وهي لا تحتاج إلى بيان:
عن داود الرقي قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، قد طال هذا الأمر علينا حتى ضاقت قلوبنا ومتنا كمداً؟ فقال: إن هذا الأمر آيَسَ ما يكون وأشد غماً، ينادي منادٍ من السماء باسم القائم واسم أبيه، فقلت: جعلت فداك، ما اسمه؟ قال: اسمه اسم نبي، واسم أبيه اسم وصي(7).
ولا يخفى عليك التحريف في الرواية أيضاً، وسيأتي بيان ذلك في حينه.
__________
(1) البصائر: (473)، البحار: (12/97) (23/72) (99/56).
(2) البصائر: (473)، البحار: (23/73).
(3) البصائر: (474)، البحار: (23/73).
(4) المصادر السابقة.
(5) المصادر السابقة.
(6) للمزيد انظر: البصائر: باب: في الأئمة أنهم يعلمون إلى من يوصون قبل موتهم مما يعلمهم الله، وفيه (4) روايات، وباب: في الإمام أنه يعرف من يكون بعده قبل موته، وفيه (7) روايات.
(7) غيبة النعماني: (120)، البحار: (51/38).(1/145)
والغريب أن صاحبنا -الرقي هذا- وهو ينتظر صاحب الزمان، كان جاهلاً بإمام زمانه، فقد روى القوم أنه قال: قلت لأبي الحسن موسى: إني قد كبرت سني، ودق عظمي، وإني سألت أباك فأخبرني بك فأخبِرْني مَن بعدك؟
فقال: هذا أبو الحسن الرضا.
وفي روايةٍ أخرى: قال: قلت لأبي إبراهيم: جعلت فداك، إني قد كبر سني، فخذ بيدي من النار، قال: فأشار إلى ابنه أبي الحسن، فقال: هذا صاحبكم من بعدي(1).
فهل كان قبل ذلك مصيره إلى النار؟
وعن يزيد بن حازم قال: خرجت من الكوفة، فلما قدمت المدينة دخلت على أبي عبدالله فسلمت عليه فسألني: هل صاحبك أحد؟ فقلت: نعم، صحبني رجل من المعتزلة، قال: فيمَ كان يقول؟ قلت: كان يزعم محمد بن عبدالله بن الحسن القائم، والدليل أن اسمه اسم النبي، واسم أبيه اسم أبي النبي، فقلت له في الجواب: إن كنت تأخذ بالأسماء فهو ذا في ولد الحسين محمد بن عبدالله بن علي، فقال لي: إن هذا ابن أمة -يعني: محمد بن الحسين بن علي- وهذا ابن مهيرة -يعني: محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن- فقال لي أبو عبدالله: فما رددت عليه؟ قلت: ما كان عندي شيء أرد عليه، فقال: لو تعلمون أنه ابن سبية -يعني: القائم-(2).
لعلك من خلال هذه الرواية -على ما فيها- قد وقفت على شيء من التحريف في الرواية السابقة.
__________
(1) الكافي: (1/312)، غيبة الطوسي: (25)، إعلام الورى: (304)، عيون الأخبار: (1/33).
(2) غيبة النعماني: (152)، البحار: (51/42).(1/146)
وعن السيد بن محمد الحميري في حديث طويل يقول فيه: قلت للصادق جعفر بن محمد: يا ابن رسول الله، قد رُوي لنا أخبار عن آبائك في الغيبة وصحة كونها، فأخبرني بمن تقع؟ فقال: ستقع بالسادس من ولدي، والثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم: القائم بالحق(1).
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، إني أريد أن أمس صدرك، فقال: افعل، فمسست صدره ومناكبه، فقال: ولم يا أبا محمد؟ فقلت: جعلت فداك، إني سمعت أباك وهو يقول: إن القائم واسع الصدر، مسترسل المنكبين، عريض ما بينهما(2).
ألا يعرف إلا باللمس أم كان يقيسه؟!
وفي رواية: قال: قلت لأبي عبدالله: يا ابن رسول الله، من القائم منكم أهل البيت؟ فقال: يا أبا بصير، هو الخامس من ولد ابني موسى(3).
وليس هذا عليه بغريب، حتى روى القوم سؤال الباقر له: هل عرفت إمامك؟ قال: إي والله، قبل أن أخرج من الكوفة، فقال: حسبك إذاً(4).
وتأمل في الرواية الأخيرة جيداً؛ لترى مصدر أمثال هذه العقائد، ولعلَّ في جواب الإمام أو تهكمه بالأحرى ما يدل على ذلك، فلا يفوتنك القصد، ولأبي بصير هذا منزلة عظيمة عند الأئمة والقوم.
وعن عبدالله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر: إن شيعتك بالعراق كثير، والله ما في أهل بيت مثلك كيف لا تخرج؟ فقال: يا عبدالله، قد أمكنت الحشوة من أذنيك، والله ما أنا صاحبكم، قلت: فمن صاحبنا؟ قال: انظروا من تخفى على الناس ولادته هو صاحبكم(5).
__________
(1) كمال الدين: (43)، البحار: (51/145)، إثبات الهداة:(1/494)، إعلام الورى: (279)، منتخب الأثر: (215، 256).
(2) البصائر: (189)، البحار: (52/319).
(3) كمال الدين: (321)، البحار: (51/146)، منتخب الأثر: (240).
(4) الكافي: (1/185).
(5) كمال الدين: (305)، البحار: (51/34، 138)، منتخب الأثر: (288)، إعلام الورى: (402)، غيبة النعماني: (111).(1/147)
وعن شعيب بن أبي حمزة قال: دخلت على أبي عبدالله، فقلت له: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: لا، قلت: فولدك؟ قال: لا، قلت: فولد ولدك؟ قال: لا، قلت: فولد ولد ولدك؟ قال: لا(1).
أقول: لعل الذي لبس على أصحابه أو أصحاب أبيه أمر القائم حتى ظن الكثير منهم أنهم سيدركونه أو أنه الباقر أو الصادق، تبينه لنا هذه الروايات:
فعن خلاَّد بن قصار قال: سُئِلَ أبو عبدالله: هل ولد القائم؟ قال: لا، ولو أدركته لخدمته أيام حياتي(2).
وأصحابه يعرفون كما تعرف -مما مر بك- أن الإمام لا يكون إماماً حتى يمضي الذي قبله، فبقاؤه يقتضي بطلان إمامة من بعده، ناهيك عن حاجته إلى أكثر من قرن حتى يدركه، حيثُ توفي الصادق سنة(148هـ)، والقائم وُلِدَ بزعم القوم سنة (256هـ).
وعن أبي بصير قال: قال أبو عبدالله: لِيُعِدَّنَّ أحدكم لخروج القائم ولو سهماً، فإن الله إذا علم ذلك من نيته رجوت أن ينسئ في عمره حتى يدركه ويكون من أعوانه وأنصاره(3).
وعن الباقر: من أدرك منكم قائمنا فليقل حين يراه: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة(4).
وعن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبدالله: يا مفضل، أنت وأربعة وأربعون رجلاً مع القائم(5).
وروي أيضاً: ذكرنا القائم ومن مات من أصحابنا ينتظره، فقال لنا أبو عبدالله: إذا قام أُتي المؤمنُ في قبره، فيقال له: يا هذا، إنه ظهر صاحبك، فإن تشأ أن تلحق به فالحق(6).
__________
(1) الكافي: (1/341)، غيبة النعماني: (124)، البحار: (51/39)، منتخب الأثر: (249).
(2) غيبة النعماني: (164)، البحار: (51/148).
(3) غيبة النعماني: (219)، البحار: (52/366).
(4) غيبة الطوسي: (282)، البحار: (52/331).
(5) إثبات الهداة: (3/573).
(6) غيبة الطوسي: (291)، إثبات الهداة: (3/515)، البحار: (53/91).(1/148)
وعن صفوان بن مهران قال: سئل الصادق: يا ابن رسول الله، ممن المهدي من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع(1).
وعنه أيضاً: إذا اجتمعت -وفي رواية: إذا توالت- ثلاثة أسماء متوالية: محمد، وعلي، والحسن، فالرابع القائم(2).
ولا أدري لِمَ كل هذه الألغاز! ولعلَّ في هذه الروايات دلالة على جواز إجابة من سأل عن شهر رمضان -مثلاً- أن يقال له: إذا توالت ثلاثة أشهر: جمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، كان رابعها شهر الصوم، أو أن شهر الصوم بين شهرين يبدأان بحرف الشين.. وهكذا.
وعلى أي حال، نجتزئ بذكر هذه الأمثلة عن أصحابه، وننتقل إلى ذكر موقف أهل بيته من النص:
فهذا عيسى بن عبدالله بن عمر بن علي بن أبي طالب يقول للصادق كما يروي القوم: إن كان كون ولا أراني الله يومك فبمن أأتم؟ فأومأ إلى موسى، فقلت له: فإن مضى فإلى من؟ قال: فإلى ولده، قلت: فإن مضى ولده وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أأتم؟
قال: بولده، ثم هكذا أبداً، فقلت: فإن أنا لم أعرفه ولم أعرف موضعه فما أصنع؟ قال: تقول: اللهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي، فإن ذلك يجزيك(3).
وهنا أتساءل: أليسوا مسمَّيْن كما سبق؟
وآخر هو علي بن عمر بن علي سأله: جعلت فداك، إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك؟
__________
(1) كمال الدين: (313)، البحار: (51/143).
(2) كمال الدين: (314)، غيبة النعماني: (122)، البحار: (51/38، 143، 158)، إثبات الهداة: (1/655) (3/470).
(3) كمال الدين: (382)، إعلام الورى: (288)، الإرشاد: (309)، الكافي:(1/286، 309)، البحار: (25/256) (27/297) (48/16) (52/148)، إثبات الهداة: (1/85) (3/156، 157).(1/149)
فقال: إلى صاحب هذين الثوبين الأصفرين والغديرتين، وهو الطالع عليك من الباب، فما لبثنا أن طلع علينا كفان آخذتان بالبابين، حتى انفتحا ودخل علينا أبو إبراهيم موسى بن جعفر وهو صبي وعليه ثوبان أصفران(1).
ولم يقتصر الأمر على ما مرَّ بك، بل اقرأ هذا: عن الصادق: العجب لعبدالله بن الحسن بن الحسن يقول: ليس فينا إمام صدق وما هو بإمام ولا كان أبوه إماماً، يزعم أن علي بن أبي طالب لم يكن إماماً ويردد ذلك(2).
النزاع بين بني الحسن وبني الحسين رضي الله عنهما:
يبدو أن أمر الخلاف والمنازعة بين بني الحسن وبني الحسين كان مستفحلاً، وقد تكلمنا قليلاً عن أبعاد ذلك عند ذكرنا: (علة جعل الإمامة في ولد الحسين دون الحسن) وإليك المزيد مما يؤيد ذلك:
فعن علي بن سعيد قال: كنت جالساً عند أبي عبدالله، فقال رجل: جعلت فداك، إن عبدالله بن الحسن يقول: مالنا في هذا الأمر ما ليس لغيرنا، فقال أبو عبدالله -بعد كلام-: أما تعجبون من عبدالله، يزعم أن أباه علياً لم يكن إماماً، ويقول: إنه ليس عندنا علم، وصدق والله ما عنده علم، ولكن والله -وأهوى بيده إلى صدره- إن عندنا سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه ودرعه، وعندنا والله مصحف فاطمة ما فيه آية من كتاب الله، وإنه من إملاء رسول الله وخطه علي بيده، والجفر وما يدرون ما هو، مسك من شاة، أو مسك من بعير(3).
__________
(1) الإرشاد: (309)، غيبة النعماني: (178)، البحار: (48/20)، الكافي: (1/308)، إثبات الهداة: (3/157)، إعلام الورى: (290).
(2) البحار: (26/42) (47/271).
(3) البصائر: (3/41)، البحار: (26/40) (47/271).(1/150)
وفي رواية: وقع بين الصادق وعبدالله بن الحسن كلام في صدر يوم، فأغلظ له في القول عبدالله بن الحسن، ثم افترقا وراحا إلى المسجد، فالتقيا على باب المسجد، فقال الصادق لعبدالله بن الحسن: كيف أمسيت يا أبا محمد؟ فقال: بخير، كما يقول المغضب، فقال: يا أبا محمد، أما علمت أن صلة الرحم تخفف الحساب، فقال: لا تزال تجيء بالشيء لا نعرفه، قال: فإني أتلو عليك قرآناً، قال: وذلك أيضاً؟ قال: نعم، قال: فهاته، قال: قول الله عز وجل: ((وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)) [الرعد:21] قال: فلا تراني بعدها قاطعاً رحمنا(1).
وعن علي بن جعفر قال: بعث عبدالله بن الحسن إلى أبي: يقول لك أبو محمد: أنا أشجع منك، وأنا أسخى منك، وأنا أعلم منك، فقال لرسوله: أما الشجاعة فوالله ما كان لك موقف يعرف به جبنك من شجاعتك، وأما السخيّ فهو الذي يأخذ الشيء فيضعه في حقه، وأما العلم فقد أعتق أبوك علي بن أبي طالب ألف مملوك، فسم لنا خمسة منهم، وأنت عالم، فعاد إليه فأعلمه، ثم عاد إليه، فقال: يقول: إنك رجل صحفي، فقال له أبو عبدالله: قل: إي والله، صحف إبراهيم وموسى وعيسى ورثتها عن آبائي(2).
__________
(1) كشف الغمة: (2/381)، البحار: (47/274)، وانظر أيضاً الكافي: (2/155).
(2) الكافي: (2/155)، البحار: (47/298).(1/151)
وكان بنو الحسن يرشدون ويدلون الناس إليهم، فعن عبدالرحمن بن كثير أن رجلاً دخل يسأل عن الإمام بالمدينة، فاستقبله رجل من ولد الحسين، فقال له: يا هذا، إني أراك تسأل عن الإمام، قال: نعم، قال: فأصبته؟ قال: لا، قال: فإن أحببت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل، فاستدله فأرشده إليه، فلما دخل عليه قال له: إنك دخلت مدينتنا هذه تسأل عن الإمام، فاستقبلك فتىً من ولد الحسن فأرشدك إلى محمد بن عبدالله، فسألته وخرجت، فإن شئت أخبرتك بما سألته عنه وما رده عليك، ثم استقبلك فتى من ولد الحسين، وقال لك: إن أحببت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل، قال: صدقت، كان كل ما ذكرت ووصفت(1).
وكذلك شأن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب مع الصادق، فكما فعل أبوه من قبل، فعل هو مع الصادق، حيث قال له: والله إني لأعلم منك وأسخى وأشجع(2).
ولما بويع -أي: محمد بن عبدالله بن الحسن- على أنه مهدي هذه الأمة، جاء أبوه عبدالله إلى الصادق وقد كان ينهاه، وزعم أنه يحسده، فضرب الصادق يده على كتف عبدالله، وقال: إيهاً والله، ما هي إليك ولا إلى ابنك، وإنما هي لهذا -يعني: السفاح- ثم لهذا -يعني: المنصور- يقتله على أحجار الزيت(3).
__________
(1) الخرائج والجرائح: (244)، البحار: (47/120)، المناقب: (4/221)، وانظر تفصيل القصة في: الكافي: (1/348)، والبحار: (47/228).
(2) المناقب: (4/228)، إعلام الورى: (272)، البحار: (47/131، 275).
(3) المناقب: (4/228)، مقاتل الطالبيين:(255)، البحار:(47/131،160)، إثبات الهداة:(3/110).(1/152)
رغم هذا كان يبارك خروج ابنه ويؤيده، فلما بلغ أبا مسلم موت إبراهيم الإمام وجه بكتبه إلى الحجاز، إلى جعفر بن محمد، وعبدالله بن الحسن، ومحمد بن علي بن الحسين يدعو كلَّ واحد منهم إلى الخلافة، فبدأ بجعفر، فلما قرأ الكتاب أحرقه، وقال: هذا الجواب، فأتى عبدالله بن الحسن، فلما قرأ الكتاب قال: أنا شيخ ولكن ابني محمد مهدي هذه الأمة، فركب وأتى جعفراً فخرج إليه ووضع يده على عنق حماره، وقال: يا أبا محمد، ما جاء بك في هذه الساعة؟ فأخبره، فقال: لا تفعلوا فإن الأمر لم يأتِ بعد، فغضب عبدالله بن الحسن، وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ولكنه يحملك على ذلك الحسد لابني(1).
وكان الناس يرون إمامته دون الصادق، فعن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال: كنت عند أبي عبدالله بمكة، إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وحفص بن سالم، وأناس من رؤسائهم، وذلك حين قتل الوليد واختلف أهل الشام بينهم، فتكلموا وأكثروا وخطبوا فأطالوا، فقال لهم أبو عبدالله جعفر بن محمد: إنكم قد أكثرتم عليَّ وأطلتم، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم فليتكلم بحجتكم وليوجز، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فأبلغ وأطال، فكان فيما قال أن قال: قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروءة ومعدن للخلافة وهو محمد بن عبدالله بن الحسن، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه وندعو الناس إليه(2).
__________
(1) المناقب: (4/229)، البحار: (47/132).
(2) الاحتجاج: (197)، البحار: (47/213) (100/18)، الكافي: (5/23).(1/153)
وقد خرج أخوه إبراهيم أيضاً، فعن عبيد بن زرارة قال: لقيت أبا عبدالله في السنة التي خرج فيها إبراهيم بن عبدالله بن الحسن، فقلت له: جعلت فداك، إن هذا قد ألف الكلام وسارع الناس إليه، فما الذي تأمر به؟ قال: فقال: اتقوا الله واسكنوا ما سكنت السموات والأرض(1).
ويبدو أن الصادق قد ضاق ذرعاً بهذا الأمر، فما زال يفتش ويبحث في كتبه عمن يملك من بني الحسن، ولا زال يقول بحسدهم، فلما سُئِلَ عنهم وعما إذا كانوا يعرفون لمن الحق؟ قال: بلى ولكن يمنعهم الحسد(2).
وفي أخرى: فقال له بعضنا: يعرف هذا ولد الحسن؟ قال: نعم، كما يعرفون أن هذا ليل، ولكن يحملهم الحسد، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيراً لهم، ولكنهم يطلبون الدنيا(3).
وعن أبي يعفور قال: لقيت أنا ومعلى بن خنيس الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال: يا يهودي، فَأَخْبَرَنَا بما قال جعفر بن محمد، فقال: هو والله أولى باليهودية منكما، إن اليهودي من شرب الخمر(4).
وعنه أيضاً قال: سمعت أبا عبدالله يقول: لو توفي الحسن بن الحسن بالزنا وشرب الخمر كان خيراً مما توفي عليه(5).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/310)، البحار: (47/274)(52/189)، وانظر أيضاً: البحار: (52/188) وفيه خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) الاحتجاج: (374)، البحار: (46/180) (47/273).
(3) إعلام الورى: (261)، الكافي: (1/305)، البحار: (26/37) (46/230).
(4) الاحتجاج: (374)، البحار: (47/273).
(5) الاحتجاج: (204)، البحار: (47/273).(1/154)
ويبدو أن المودة كانت متبادلة بينهما، فعن سلمان بن خالد قال: لقيت الحسن بن الحسن، فقال: أما لنا حق؟ أما لنا حرمة؟ إذا اخترتم منا رجلاً واحداً كفاكم، فلم يكن له عندي جواب، فلقيت أبا عبدالله فأخبرني بما كان من قوله، فقال لي: القه، فقل له: أتيناكم فقلنا: هل عندكم ما ليس عند غيركم؟ فقلتم: لا، فصدقناكم وكنتم أهل ذلك، وأتينا بني عمكم فقلنا: هل عندكم ما ليس عند الناس؟ فقالوا: نعم، فصدقناهم وكانوا أهل ذلك، قال: فلقيته فقلت له ما قال لي، فقال لي الحسن: فإن عندنا ما ليس عند الناس، فلم يكن عندي شيء، فأتيت أبا عبدالله فأخبرته، فقال لي:القه، وقل: إن الله عز وجل يقول في كتابه: ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [الأحقاف:4] فاقعدوا لنا حتى نسألكم، قال: فلقيته فحاججته بذلك، فقال: أفما عندكم شيء إلا تعيبونا إن كان فلان تفرغ وشغلنا فذاك الذي يذهب بحقنا(1).
أما شأن كتاب الملوك الذين يملكون الأرض، ونظر الصادق فيه، فإليك بعض هذه الروايات:
عن خنيس قال: كنت عند أبي عبدالله إذ أقبل محمد بن عبدالله بن الحسن فسلم عليه ثم ذهب، ورق له أبو عبدالله ودمعت عينه، فقلت له: لقد رأيتك صنعت به ما لم تكن تصنع؟ قال: رققت له؛ لأنه ينسب في أمرٍ ليس له، لم أجده في كتاب علي من خلفاء هذه الأمة ولا ملوكها(2).
وفي رواية: عن الصادق أنه سئل عن محمد؟ فقال: إن عندي لكتابين فيهما كل نبي وكل ملك يملك، لا والله ما محمد بن عبدالله في أحدهما(3).
__________
(1) رجال الكشي: (230)، البحار: (47/276).
(2) البصائر: (169)، البحار: (26/155) (46/189) (47/272، 278) (54/364)، الإرشاد:(277)، إثبات الهداة: (3/133).
(3) البصائر: (169)، البحار: (26/155) (47/272).(1/155)
وفي ثالثة: عن فضيل سكرة قال: دخلت على أبي عبدالله، قال: يا فضيل، أتدري في أي شيء كنت أنظر فيه قبل؟ قال: قلت: لا، قال: كنت أنظر في كتاب فاطمة، فليس ملك يملك إلا وفيه مكتوب اسمه واسم أبيه، فما وجدت لولد الحسن فيه شيئاً(1).
وفي أخرى: عن ابن خنيس -أيضاً- قال: قال أبو عبدالله: ما من نبي ولا وصي ولا ملك إلا في كتاب عندي، لا والله، ما لمحمد بن عبدالله بن الحسن فيه اسم(2).
وأخرى: عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبدالله يقول: إن عندي لصحيفة فيها أسماء الملوك، ما لولد الحسن فيها شيء(3).
وذكر النزاع بين بني الحسن والحسين رضي الله عنهما يطول(4).
والغريب أن بني الحسن قد ملكوا عبر التاريخ، وأسسوا الممالك والدول، كدولة الأدارسة في المغرب، والتي أنشأها إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وملوك المغرب في أيامنا هذه، ولا أدري لماذا أغفلهم كتاب الملوك هذا؟!
__________
(1) البصائر: (169)، علل الشرايع: (8)، البحار: (25/259) (26/155) (47/272)، وقال محقق الكتاب: لعل المراد بالملك: الملك المنصوص من الله تعالى، أي الإمام، أقول: وهل كان الصادق جاهلاً بهم حتى ينظر في كتاب فاطمة رضي الله عنها، وإن كانت هذه الروايات توحي بذلك.
(2) البصائر: (169)، المناقب: (3/393)، البحار: (26/156) (47/32، 273)، الإمامة والتبصرة: (180).
(3) البصائر: (46)، البحار: (26/156).
(4) للمزيد من روايات منازعة بني الحسن لبني الحسين وحسدهم وادعائهم الإمامة إلى آخر ذلك بزعم القوم، انظر: البحار: (26/47، 212) (44/165، 167) (47/131، 206، 228، 275، 281) = = (52/136)، كشف الغمة: (2/383)، الكافي: (1/348، 358)، إعلام الورى: (272)، أمالي الطوسي: (50).(1/156)
خلاف بعض بني هاشم مع الصادق رحمهم الله أجمعين:
ولم يقتصر الأمر عليهم، بل امتد إلى سائر بني هاشم بما فيهم بنو الحسين رضي الله عنهم، فها هو أبوه يحذره من أخيه، يروي القوم عن الصادق: قال لي أبي: اعلم أن عبدالله أخاك سيدعو الناس إلى نفسه، فدعه فإن عمره قصير، فكان كما قال أبي، وما لبث عبدالله إلا يسيراً حتى مات(1).
وهذا عمه عبدالله، يروي القوم عن الوليد بن صبيح قال: كنا عند الصادق في ليلة، إذ يطرق الباب طارق، فقال للجارية: انظري من هذا؟ فخرجت ثم دخلت، فقالت: هذا عمك عبدالله بن علي، فقال: أدخليه، وقال لنا: ادخلوا البيت، فدخلنا بيتاً، فسمعنا منه حساً ظننا أن الداخل بعض نسائه، فلصق بعضنا ببعض، فلما دخل أقبل على أبي عبدالله، فلم يدع شيئاً من القبيح إلا قاله في أبي عبدالله، ثم خرج وخرجنا، فأقبل يحدثنا من الموضع الذي قطع كلامه، فقال بعضنا: لقد استقبلك هذا بشيء ما ظننا أن أحداً يستقبل به أحداً، حتى لقد همَّ بعضنا أن يخرج إليه فيوقع به، فقال: مه، لا تدخلوا فيما بيننا(2).
ولابن عبدالله هذا محمد الملقب بالأرقط شأن مع الصادق، وهو سبب تسميته بهذا اللقب، فقد جرى بينه وبين الصادق أمر، فبصق في وجه الصادق، فدعا عليه الصادق فصار أرقط الوجه، به نمش(3)، كريه المنظر(4).
__________
(1) المناقب: (4/224)، البحار: (46/269) (47/255)، إثبات الهداة: (3/134، 214).
(2) الخرائج والجرائح: (232)، البحار: (46/184) (47/96).
(3) أي بقع على جلد الوجه تخالف لونه.
(4) البحار: (46/156) (الحاشية)، وانظر أيضاً: سر السلسلة العلوية: (50).(1/157)
وها هو ابن عمه الملقب بالأفطس، يقول القوم: إن سالمة مولاة الصادق قالت: كنت عند أبي عبدالله حين حضرته الوفاة، وأغمي عليه، فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي ابن علي بن الحسين -وهو الأفطس- سبعين ديناراً، وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا، فقلت: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: تريدين أن لا أكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: ((وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)) [الرعد:21](1).
__________
(1) غيبة الطوسي: (119)، البحار: (46/182) (47/2، 276) (74/96).(1/158)
وعن عمر بن علي قال: إن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء، وفيهم: إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن علي، وعبدالله بن الحسن، وابناه: محمد وإبراهيم، ومحمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان، فقال صالح بن علي: قد علمتم أنكم الذين تمد الناس إليهم أعينهم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعةً لرجلٍ منكم تعطونه إياها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، فحمد الله عبدالله بن الحسن وأثنى عليه، ثم قال: قد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلم لنبايعه، وقال أبو جعفر: لأي شيء تخدعون أنفسكم، والله لقد علمتم ما الناس إلى أحدٍ أصور أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى -يريد به محمد بن عبدالله- قالوا: قد والله صدقت، إن هذا الذي نعلم، فبايعوا محمداً جميعاً، ومسحوا على يده، قال عيسى: وجاء رسول عبدالله بن الحسن إلى أبي: أن ائتنا فإنا مجتمعون لأمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد، وقال غير عيسى: إن عبدالله بن الحسن قال لمن حضر: لا تريدوا جعفراً؛ فإنا نخاف أن يفسد عليكم أمركم، قال عيسى بن عبدالله بن محمد: فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له؟ فجئتهم ومحمد بن عبدالله يصلي على طنفسة رحل مثنية، فقلت لهم: أرسلني أبي إليكم أسألكم لأي شيء اجتمعتم؟ فقال عبدالله: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبدالله، قال: وجاء جعفر بن محمد، فأوسع له عبدالله بن الحسن إلى جنبه، فتكلم بمثل كلامه، فقال جعفر: لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم يأتِ بعد، إن كنت ترى -يعني: عبدالله- أن ابنك هذا هو المهدي فليس به، ولا هذا أوانه، وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضباً لله وليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، فإنا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا الأمر، فغضب عبدالله بن الحسن، وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، والله ما أطلعك على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني(1)
__________
(1) إعلام الورى: (272)، الإرشاد: (294)، مقاتل الطالبيين: (205)، البحار: (46/187) (47/278).(1/159)
.
فانظر -أيها القارئ- كيف توفق بين هذه الرواية والقول بالنص على الاثني عشر.
قصة خروج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله وذكر منزلته ورواية تفيد معرفة بدء القول بالنص على الأئمة:
نختم حديثنا عن مدعي الإمامة من أهل البيت أيام الصادق بذكرنا قصة زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم، وما أدراك من زيد هذا! الذي أرانا القوم برواياتهم أن جذور تخطيطه للخروج وادعاء الإمامة ضاربة في القدم.
يروي القوم أن الباقر عند الوفاة دعا بابنه الصادق ليعهد إليه عهداً، فقال له أخوه زيد بن علي: لو امتثلت في تمثال الحسن والحسين رجوت أن لا تكون أتيت منكراً، فقال له: يا أبا الحسين، إن الأمانات ليست بالتمثال، ولا العهود بالرسوم، وإنما هي أمور سابقة عن حجج الله عز وجل (1).
فواضح لمن تدبر في رواية القوم هذه أنه يهيئ لأمرٍ ما، أما مسألة انتفاء النص فلن نكرره عليك، فقد طلبنا منك استحضاره واصطحابه منذ المقدمة.
نعود إلى روايتنا، ويبدو أن الباقر قد فطن إلى ذلك، فقد روى القوم عنه أنه قال: سيخرج زيد أخي بعد موتي، ويدعو الناس إلى نفسه، ويخلع جعفراً ابني، ولا يلبث إلا ثلاثاً حتى يقتل ويصلب، ثم يحرق بالنار، ويذرى في الريح، ويمثل به مثلة ما مثل بها أحد قبله(2).
وفي رواية: إن زيداً سيدعو بعدي إلى نفسه، فدعه ولا تنازعه فإن عمره قصير(3).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/47)، البحار: (36/193) (47/12)، إثبات الهداة: (3/73)، كمال الدين: (288)، الاحتجاج: (37).
(2) البحار: (46/252).
(3) إثبات الهداة: (3/66).(1/160)
ولا شك أن الباقر يذكر يوم أن دخل عليه زيد ومعه كتب أهل الكوفة يدعونه فيها إلى أنفسهم ويخبرونه باجتماعهم ويأمرونه بالخروج، فقال له: هذه الكتب ابتداء منهم، أو جواب ما كتبت به إليهم ودعوتهم إليه؟ فقال: بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقنا وبقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما يجدون في كتاب الله عز وجل من وجوب مودتنا وفرض طاعتنا، ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء، فقال الباقر: فلا تعجل، فإن الله لا يعجل لعجلة العباد، ولا تسبقن الله فتعجزك البلية فتصرعك، فغضب زيد عند ذلك، ثم قال: ليس الإمام منا من جلس في بيته، وأرخى ستره، وثبط عن الجهاد، ولكن الإمام منا من منع حوزته، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، ودفع عن رعيته، وذب عن حريمه(1).
ثم ها هو يجس نبض الأصحاب، فيقول لزرارة كما يروي القوم: ما تقول يا فتى في رجل من آل محمد استنصرك؟ فقلت: إن كان مفروض الطاعة نصرته، وإن كان غير مفروض الطاعة فلي أن أفعل ولي ألا أفعل، فلما خرج قال الصادق: أخذته والله من بين يديه ومن خلفه وما تركت له مخرجاً(2).
__________
(1) الكافي: (1/356)، البحار: (46/204).
(2) رجال الكشي: (101)، الاحتجاج: (373)، المناقب: (1/223)، البحار: (46/193).(1/161)
وعن مؤمن الطاق عند القوم، أن زيداً قال له: ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ قال: قلت له: إن كان أباك وأخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، قال: قلت: لا أفعل جعلت فداك، قال: فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال: فقلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله عز وجل في الأرض معك حجة فالمتخلف عنك ناج، والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله معك حجة فالمتخلف عنك والخارج معك سواء، قال: فقال لي: يا أبا جعفر، كنت أجلس مع أبي على الخِوان، فيلقمني اللقمة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد من شفقته عليَّ، ولم يشفق عليَّ من حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ قال: فقلت له: من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك ألا تقبله فتدخل النار... إلى أن قال: فحججت، فحدثت أبا عبدالله بمقالة زيد وما قلت له: فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن يساره، ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه، ولم تترك له مسلكاً يسلكه(1).
وكان قبل ذلك يقول بأن الأئمة أربعة، ثلاثة مضوا والرابع هو القائم(2). ففي الرواية دليل على معتقده في أن من لم يخرج بالسيف ليس بإمام، لذا فهو لم يعد أباه زين العابدين إماماً.
وكان يقول: من أراد الجهاد فإليّ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر(3).
ويقول: جعفر إمامنا في الحلال والحرام(4).
__________
(1) الكافي: (1/174)، الاحتجاج: (376)، البحار: (46/181)، معجم الخوئي: (7/354)، وقوَّى إسناد الرواية، ولكنه اضطرب في تأويلها، وانظر رواية أخرى شبيهة في: الكشي: ترجمة (280)، معجم الخوئي: (7/39)، المناقب: (1/259).
(2) رجال الكشي: (224، 225)، البحار: (46/195).
(3) البحار: (46/199).
(4) رجال الكشي: (231)، البحار: (46/197).(1/162)
ولم يكن يرى رحمه الله من قوله: [إمامنا] بأنه إمام بمفهوم القوم المستوجب للخلافة العامة، بل كان يبين شرائط الإمامة العامة في قوله: ليس الإمام منا من أرخى عليه ستره، إنما الإمام من شهر سيفه(1).
ثم شرع فيما عقد العزم عليه، فكانت هذه الحادثة التي يرويها معتب، حيث يقول بزعم القوم: قُرِع باب مولاي الصادق فخرجت، فإذا بزيد بن علي، فقال الصادق لجلسائه: ادخلوا هذا البيت وردوا الباب، ولا يتكلم منكم أحد، فلما دخل قام إليه فاعتنقا وجلسا طويلاً يتشاوران، ثم علا الكلام بينهما، فقال زيد: دع ذا عنك يا جعفر، فوالله لئن لم تمد يدك حتى أبايعك أو هذه يدي فبايعني لأتعبنك ولأكلفنك ما لا تطيق، فقد تركت الجهاد، وأخلدت إلى الخفض، وأرخيت الستر، واحتويت على مال الشرق والغرب، فقال الصادق: يرحمك الله يا عم، يغفر الله لك يا عم(2).
ولم يكن يأبه بتحذير الصادق له: يا عم، أعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكناسة، وكانت أم زيد ترد: والله ما يحملك على هذا القول غير الحسد لابني، ويرد: يا ليته حسداً، يا ليته حسداً، ثلاثاً..(3).
__________
(1) رجال الكشي: (261)، البحار: (46/197)، المناقب: (1/260) وانظر: الكافي: (1/356) = = البحار: (46/203).
(2) المناقب: (4/224)، البحار: (47/128).
(3) أمالي الصدوق: (43)، عيون أخبار الرضا: (1/227)، البحار: (46/168).(1/163)
إلى أن جاءت الأخبار بخروجه وادعائه الإمامة، فعن داود الرقي قال: دخلت على جعفر بن محمد، فقال: ما الذي أبطأ بك عنا يا داود؟ فقلت: حاجة عرضت لي بالكوفة هي التي أبطأت بي عنك، جعلت فداك، فقال لي: ماذا رأيت بها؟ قلت: رأيت عمك زيداً على فرس ذنوب، قد تقلد مصحفاً، وقد حف به فقهاء الكوفة، وهو يقول: يا أهل الكوفة، إني العلم بينكم وبين الله تعالى، قد عرفت ما في كتاب الله من ناسخه ومنسوخه، فقال أبو عبد الله: يا سماعة بن مهران، ائتني بتلك الصحيفة، فأتاه بصحيفة بيضاء، فدفعها إليَّ، وقال لي: اقرأ هذه بما أخرج إلينا أهل البيت، يرثه كابر عن كابر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأتها فإذا فيها سطران:
السطر الأول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والسطر الثاني: أسماء الأئمة مكتوبة من قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فقال أبو عبدالله: فأين يتاه بزيد ويذهب به؟ إن أشد الناس لنا عداوة وحسداً الأقرب إلينا فالأقرب(1).
وعن أبي الصباح قال: دخلت على أبي عبد الله، فقال: ما وراءك؟ فقلت: شر ورائي من عمك زيد، خرج يزعم أنه ابن ستة، وأنه قائم هذه الأمة، وأنه ابن خيرة الإماء، فقال: كذب، ليس هو كما قال، إن خرج قتل(2).
وقبل أن نختم حديثنا عن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لابد من بيان حاله وذكر منزلته حتى تستقيم المسألة.
__________
(1) منتخب الأثر: (34)، غيبة النعماني: (42)، البحار: (46/173) (47/141).
(2) غيبة النعماني: (229)، البحار: (51/42)، إثبات الهداة: (3/125)، وانظر روايات وأقوال أخرى في خروجه: إثبات الهداة: (3/52)، الاحتجاج: (372).(1/164)
فعن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صلبي، فقال: يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له: زيد، يقتل شهيداً، فإذا كان يوم القيامة يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس ويدخل الجنة(1).
وعن حذيفة بن اليمان قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن حارثة، فقال: المقتول في الله المصلوب في أمتي والمظلوم من أهل بيتي سمي هذا -وأشار بيده إلى زيد بن حارثة- فقال: ادن مني يا زيد، زادك اسمك عندي حباً، فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي(2).
وعن محمد بن الحنفية قال: ليقتلن من ولد الحسين رجل، يقال له: زيد بن علي، وليصلبن بالعراق، من نظر إلى عورته فلم ينصره أكبه الله على وجهه في النار(3).
وعن زين العابدين قال: يخرج من ولدي رجل يقال له: زيد، يقتل بالكوفة، ويصلب بالكناسة، يُخرج من قبره نبشاً، تفتح لروحه أبواب السماء، يبتهج به أهل السموات، يجعل روحه في حويصلة طير خضر يسرح في الجنة حيث يشاء(4).
وعن أبي الجارود -وكان رأس الزيدية- قال: كنت عند أبي جعفر جالساً، إذ أقبل زيد بن علي، فلما نظر إليه أبو جعفر قال: هذا سيد أهل بيتي، والطالب بأوتارهم(5).
أما الصادق فقد جاء عنه في زيد رحمه الله الكثير، منها: أنه لما جاءه خبر استشهاده بكى، وقال: مضى والله زيد عمي وأصحابه شهداء مثلما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه(6).
__________
(1) كفاية الأثر: (327)، البحار: (46/170، 199)، إثبات الهداة: (1/264، 324)، عيون الأخبار: (1/226).
(2) مستطرفات السرائر فيما استطرفه من رواية أبي القاسم ابن قولوية، البحار: (46/192).
(3) أمالي الصدوق: (275)، البحار: (46/170، 209).
(4) أمالي الصدوق: (40)، البحار: (46/168)، إثبات الهداة: (3/9).
(5) رجال الكشي: (151)، معجم الخوئي: (7/348)، البحار: (46/170، 194)، أمالي الصدوق: (275).
(6) أمالي الصدوق: (349)، البحار: (46/171)، عيون الأخبار: (1/228).(1/165)
وقال فيه أيضاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عمي، إنه كان نِعم العم، إن عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا، مضى والله عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله وعلي والحسن والحسين(1).
وفرَّق من ماله في عيال من أصيب معه من أصحابه ألف دينار(2).
وقال في هشام الذي قتله: إن الله نزع منه الملك(3).
وسأل أبا ولاد الكاهلي: رأيت عمي زيداً؟ قال: نعم، رأيته مصلوباً، ورأيت الناس بين شامت حنق، وبين محزون محترق، قال: أما الباكي فمعه في الجنة، وأما الشامت فشريك في دمه(4).
ولا زال يبكيه كلما تذكره أو ذكروه به، فعن حمزة بن حمران قال: دخلت إلى الصادق، فقال لي: يا حمزة، من أين أقبلت؟ قلت: من الكوفة، قال: فبكى حتى بلَّت دموعه لحيته، فقلت له: يا ابن رسول الله، مالك أكثرت البكاء؟ فقال: ذكرت عمي زيداً وما صنع به فبكيت(5).
ويترحم عليه ويقول: رحمه الله، أما إنه كان مؤمناً، وكان عارفاً، وكان عالماً، وكان صدوقاً، أما إنه لو ظفر لوفى، أما إنه لو ملك لعرف كيف يضعها(6).
ويكفيك من قوله: وكان صدوقاً، من أنه لم يكن كاذباً في خروجه وادعائه رحمه الله، وكان الرضا لا يرضى أن يقاس به أحد حتى لو كان أخاه.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/248)، البحار: (46/175).
(2) الإرشاد: (269)، معجم الخوئي: (7/346)، البحار: (46/187).
(3) ثواب الأعمال: (198)، البحار: (46/182).
(4) كشف الغمة: (2/442)، البحار: (46/193).
(5) أمالي الصدوق: (321)، البحار: (46/172)، أمالي الطوسي: (446).
(6) رجال الكشي: (184)، معجم الخوئي: (3/178) (7/347)، البحار: (47/326) (52/301).(1/166)
فعن ابن عبدون قال: لما حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون وقد كان خرج بالبصرة وأحرق دور ولد العباس، وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا، وقال له: يا أبا الحسن، لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل، ولولا مكانتك مني لقتلته، فليس ما أتاه بصغير، فقال الرضا: يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي، فإنه كان من علماء آل محمد، غضب لله عز وجل، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله(1).
وعن أبي هاشم الجعفري قال: سألت الرضا عن المصلوب؟ فقال: أما علمت أن جدي صلَّى على عمه(2)، إشارة إلى قول الصادق فيه: صلى الله عليه ولعن قاتله(3).
ونجتزئ بهذه الأمثلة من الروايات الدالة على منزلته رحمه الله تعالى(4).
ونختم حديثنا عنه بهذا التساؤل الذي لا شك أنه -عزيزي القارئ- قد أخذ منك مأخذاً، وهو: كيف لرجل مثل زيد بن علي رحمه الله وهو بهذه المنزلة العظيمة أن يدعي الإمامة وهو من أهل البيت، وابن إمام من الأئمة الاثني عشر الذين نصَّ الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عليهم بأسمائهم بزعم القوم؟ وقبل أن نسترسل في هذا التساؤل بل التساؤلات وهي لا شك كثيرة، نورد هذه الرواية فسنجد فيها جواب كل ذلك؛ بل الجواب لكل ما مرَّ بك في الكتاب وما سيمر.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/248)، البحار: (46/174)، الاحتجاج: (372) (الحاشية).
(2) الكافي: (3/215)، البحار: (46/205) (82/3)، العيون: (1/255).
(3) الكافي: (8/161)، البحار: (46/205).
(4) انظر المزيد من الروايات في مدح زيد: أمالي الطوسي: (682)، الروضة: (142، 220)، الإرشاد: (251، 252)، الاحتجاج: (372، 373) (الحاشية).(1/167)
تقول رواية القوم هذه: قيل لمؤمن الطاق: ما الذي جرى بينك وبين زيد بن علي في محضر أبي عبدالله؟ قال: قال زيد بن علي: يا محمد بن علي، بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إماماً مفترض الطاعة؟ قال: قلت: نعم، وكان أبوك علي بن الحسين أحدهم، فقال: وكيف وقد كان يؤتي بلقمة وهي حارة فيبردها بيده ثم يلقمنيها، أفترى أنه كان يشفق عليَّ من حرِّ اللقمة ولا يشفق علي من حر النار.
وفي رواية: قال زيد: ويحك! فما كان يمنعه من أن يقول لي، فوالله لقد كان يؤتى بالطعام الحار فيقعدني على فخذه ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها، أفتراه كان يشفق عليِّ من حرِّ الطعام ولا يشفق عليِّ من حرِّ النار(1).
فأمعن النظر في الروايتين ثم استشف منهما متى وضعت عقيدة القول بالنص على الأئمة، فزيد بن علي رحمه الله قتل سنة (121) للهجرة، فحسب كتابنا هذا هذه الرواية في الدلالة على بطلان القول بالنص على الاثني عشر.
وتنسجم هذه الرواية مع رواية سعيد السمان قال: كنت عند أبي عبدالله، إذ دخل عليه رجلان من الزيدية، فقالا له: أفيكم إمام مفترض طاعته؟ قال: فقال: لا، فقالا له: وقد أخبرنا عنك الثقات أنك تقول به، وسموا قوماً، وقالوا: هم أصحاب ورع وتشمير، وهم ممن لا يكذب، فغضب أبو عبدالله، وقال: ما أمرتهم بهذا، فلما رأيا الغضب بوجهه خرجا(2).
__________
(1) رجال الكشي: (164، 165)، معجم الخوئي: (7/349) (17/35)، البحار: (46/189، 193) (47/405).
(2) الإرشاد: (274)، الاحتجاج: (371)، البصائر: (174)، البحار: (26/201) (71/13)، الكافي: (1/232)، إعلام الورى: (278).(1/168)
وفي رواية سليمان بن خالد قال: بينا نحن مع أبي عبد الله في سقيفة، إذ استأذن عليه أناس من أهل الكوفة فأذن لهم، فدخلوا عليه، فقالوا: يا أبا عبد الله، إن أناساً يأتونا يزعمون أن فيكم أهل البيت إماماً مفترض الطاعة، فقال: ما أعرف ذلك في أهل بيتي، فقالوا: يا أبا عبد الله، يزعمون أنك أنت هو، قال: ما قلت لهم ذلك، قالوا: يا أبا عبد الله، إنهم أصحاب تشمير، وأصحاب خلوة، وأصحاب ورع، وهم يزعمون أنك أنت هو، قال: هم أعلم وما قالوا، فلما رأوا أنهم قد أغضبوه قاموا فخرجوا(1).
وهنا سؤال يطرح نفسه: كيف يحصل كل هذا التهرب؟ ولِمَ يترك الناس في متاهة في أعظم أمور الدين عندهم؟
والجدير بالذكر هنا أن نورد هذه الرواية، يقول القوم: إن الصادق كان يسير مع أبي جعفر المنصور، فقال له: يا أبا عبدالله، قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة وفتح لنا من العز، ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم، قال: ومن رفع إليك هذا عني فقد كذب، فقال: أتحلف على ما تقول؟ قال: إن الناس سحرة -يعني: يحبون أن يفسدوا قلبك علي- فلا تمكنهم من سمعك، فإنا إليك أحوج منك إلينا(2).
فأين القائلون بالنص؟ ولاشك أن أول ما سيحتج به القوم هو القول بالتقية، ولن نناقش القوم في هذا، ولكن من أولى بالتقية؟
__________
(1) البصائر: (175)، البحار: (26/205).
(2) روضة الكافي: (31)، البحار: (52/254).(1/169)
أهو زيد رحمه الله الذي لا يملك اختيار موته، وليس مأموراً بما أمر الله عز وجل الصادق به -كما يزعم القوم- أم الصادق؟ والذي نذكرك برواية الصحيفة المختومة المنزلة من السماء إلى الأئمة، وكانت الوصية فيها إليه: أن حدث الناس وأفتهم، وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين، ولا تخافن إلا الله عز وجل، وأنت في حرز وأمان(1)، أو ماذكرناه في مقدمة الباب من أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنه لا يقع ذلك إلا باختيارهم.
وعلى أي حال، فاليوم هناك الملايين من الشيعة يعتقدون إمامة زيد رحمه الله.
ذم الباقر والصادق لمدعي الإمامة من أهل البيت:
من كل ما مرَّ بك من ادعاء بعض أهل البيت الإمامة؛ اضطر الصادق إلى القول رداً على من قال له: ما يزال يخرج رجل منكم أهل البيت فيقتل ويقتل معه بشر كثير، فأطرق طويلاً، ثم قال: إن فيهم الكذابين(2).
وكان ينهى أن يخرج أحد مع من يخرج من أهل البيت قبل المهدي(3).
وقبله كان أبوه يتهكم بالخارجين من أهل البيت، فيقول: مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار ووقع في كوة فتلاعبت به الصبيان(4).
__________
(1) سبق تخريجه. الكافي: (1/280)، البحار: (36/192)، أمالي الصدوق: (401)، أمالي الطوسي: (441)، الصراط المستقيم: (2/148)، كمال الدين: (2/669)، المناقب: (1/298).
(2) الاحتجاج: (204)، البحار: (46/179).
(3) الروضة: (310)، نور الثقلين: (4/46)، البحار: (52/304).
(4) البحار: (52/139)، غيبة النعماني: (199)، المناقب: (4/188).(1/170)
ثم أكدَّ ذلك بقوله -كما في رواية المفضل بن عمر عند القوم- قال: سألت أبا عبدالله عن قول الله - سبحانه وتعالى -: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) [النساء:159]؟ فقال: هذه نزلت فينا خاصة، أنه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام وبإمامته كما أقر ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا(1).
اعتقاد بعض الشيعة بإمامة عبدالله بن جعفر الصادق:
عاد بنا الحديث إلى الصادق وأصحابه(2)، ولكن نتحدث هذه المرة عن مسارٍ آخر، وهو: اعتقاد أصحابه في الإمامة في أبنائه.
__________
(1) العياشي: (1/310)، الصافي: (1/411، 520)، البرهان: (1/426)، البحار: (9/195) (12/315) (46/168).
(2) انظر روايات أخرى في جهل أصحاب الصادق بالنص: الإمامة والتبصرة: (205، 225)، البحار: (48/3، 9)، البصائر: (441)، الإرشاد: (309، 310)، إعلام الورى: (289، 291).(1/171)
فعن هشام بن سالم قال: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبدالله أنا ومؤمن الطاق وأبو جعفر، والناس مجتمعون على أن عبدالله صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون عند عبدالله، وذلك أنهم رووا عن عبدالله أن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة، فدخلنا نسأله عما كنا نسأل أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ قال: في مائتين خمسة، قلنا: ففي مائة؟ قال: درهمان ونصف، قلنا له: والله ما تقول المرجئة هذا، فرفع يده إلى السماء، فقال: لا والله ما أدري ما تقول المرجئة، قال: فخرجنا من عنده ضُلالاً، لا ندري إلى أين نتوجه، أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى من نتوجه، نقول: إلى المرجئة، إلى القدرية، إلى الزيدية، إلى المعتزلة، إلى الخوارج، قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى، ثم خلاني ومضى، فإذا خادم بالباب، فقال لي: ادخل رحمك الله، قال: فدخلت، فإذا أبو الحسن، فقال لي ابتداء: لا إلى المرجئة، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليَّ، إليَّ، إليَّ، قال: فقلت له: جعلت فداك، مضى أبوك؟ قال: نعم، قلت: جعلت فداك، من لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك، قلت: جعلت فداك، إن عبدالله يزعم أنه من بعد أبيه، قال: يريد عبدالله أن لا يعبد الله، قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟(1/172)
فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً، قلت: جعلت فداك، أنت هو؟ قال لي: ما أقول ذلك، قلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة، قال: قلت: جعلت فداك، عليك إمام؟ قال: لا، فدخلني شيء لا يعلمه إلا الله، إعظاماً له وهيبة، أكثر مما كان يحل بي من أبيه إذا دخلت عليه، قلت: جعلت فداك، أسألك عما يسأل أبوك؟
فقال: سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح، فسألته فإذا هو بَحْر، قال: قلت: جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلال، فألقي إليهم وأدعوهم إليك، فقد أخذت علي بالكتمان؟ قال: من آنست منهم رشداً فألق عليهم، وخذ عليهم بالكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح -وأشار بيده إلى حلقه- ثم ذكر أنه لقي الناس وأخبرهم بذلك ودخلوا عليه وقطعوا عليه إلا طائفة، مثل: عمار وأصحابه، فبقى عبدالله لا يدخل عليه أحد إلا قليلاً من الناس، قال: فلما رأى ذلك وسأل عن حال الناس، قال: فأخبر أن هشام بن سالم صدَّ عنه الناس، فقال هشام: فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني(1).
وعبدالله هذا قد ادعى الإمامة بعد أبيه كما سيأتي.
الصادق يسأل الله عز وجل أن يجعل الإمامة في ابنه إسماعيل وذكر اختلاف الشيعة فيه:
أما ابنه الآخر وهو إسماعيل فقضيته أطم وبليته أعم، ولعلَّ أغرب ما في قصة إسماعيل هذا، أن أباه الصادق كان يجله ويقدمه أكثر من غيره من إخوته، بل وتذكر لنا روايات القوم أنه استمات في الدعاء إلى الله عز وجل لأجل أن تكون الإمامة فيه، وهو اضطراب كبير، وتشويش خطير، لا أظن أن أحداً ممن يدعي النص يستطيع أن يوجهه، ولا بأس من ذكر مثال على ذلك.
يروي القوم أن الصادق قال: إني ناجيت الله ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون من بعدي، فأبى ربي إلا أن يكون موسى ابني(2).
__________
(1) رجال الكشي: (182)، البحار: (47/263، 343)، إثبات الهداة: (3/173)، إعلام الورى: (291)، المناقب: (4/290).
(2) كتاب زيد النرسي: (49)، البحار: (47/269)، إثبات الهداة: (3/170).(1/173)
وفي رواية قال: سألته وطلبت وقضيت إليه أن يجعل هذا الأمر إلى إسماعيل، فأبى الله إلا أن يجعله لأبي الحسن موسى(1).
وسيأتيك مثال آخر قريباً، بل يبدو أن الأمر كان له من بعده فعلاً، لولا أنه توفي في عهد أبيه.
يروي القوم عن الصادق قوله: ما بدا لله بداء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني(2).
وهذه النصوص من أعظم الدلائل التي يحتج بها الإسماعيلية، وهم يعدون بالملايين، ومنتشرون في أنحاء العالم، وقد أدت هذه التلبيسات إلى اعتقاد الكثير من أصحاب الصادق الإمامة فيه، وأن أباه قد أوصى إليه، كما ذكر ذلك الوليد بن صبيح، حيث قال: كان بيني وبين رجل يقال له: عبد الجليل صداقة في قدم، فقال لي: إن أبا عبدالله أوصى إلى إسماعيل في حياته قبل موته بثلاث سنين(3).
وعن مسمع كردين قال: دخلت على أبي عبدالله وعنده إسماعيل، قال: ونحن إذ ذاك نأتم به بعد أبيه... الرواية(4).
__________
(1) البصائر: (472)، البحار: (23/72) (48/25)، إثبات الهداة: (3/165).
(2) كتاب زيد النرسي: (49)، البحار: (4/108، 122) (37/13) (47/269)(102/9)، إثبات = = الهداة: (3/170)، كمال الدين: (75).
(3) غيبة النعماني: (178)، البحار: (48/22).
(4) الاختصاص: (290)، البصائر: (97)، البحار: (47/82) (48/25)، إثبات الهداة: (3/165).(1/174)
وعن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أؤجرها من الغير، على أن ما أخرج الله فيها من شيء كان لي من ذلك النصف أو الثلث أو أقل من ذلك أو أكثر، هل يصلح ذلك؟ قال: لا بأس به، فقال إسماعيل ابنه: يا أبتاه، لم تحفظ، قال: أو ليس كذلك أعامل أكرتي يا بني؟ أليس من أجل ذلك كثيراً ما أقول لك: الزمني فلا تفعل؟ فقام إسماعيل فخرج، فقلت: جعلت فداك، فما على إسماعيل ألاَّ يلزمك إذا كنت متى مضيت أفضت الأشياء إليه من بعدك كما أفضت الأشياء إليك من بعد أبيك؟ فقال: يا فيض، إن إسماعيل ليس مني كما أنا من أبي، قلت: جعلت فداك، فقد كان لا شك في أن الرحال تحط إليه من بعدك، فإن كان ما نخاف -ونسأل الله من ذلك العافية- فإلى من؟ وأمسك عني، فقبلت ركبتيه، وقلت: ارحم شيبتي فإنما هي النار، إني والله لو طمعت أن أموت قبلك ما باليت، ولكني أخاف أن أبقى بعدك، فذكر أبو عبدالله علامات الإمام الذي بعده والفيض يقول: زدني زدني.. إلى أن قال له: إن موسى هو الإمام، فقم فأقر له بحقه، قال: فقمت حتى قبَّلت يده ورأسه، ودعوت الله له، فقال أبو عبدالله: أما إنه لم يؤذن لي في المرة الأولى منك، فقلت: جعلت فداك، أخبر به عنك؟ قال: نعم، أهلك وولدك ورفقاءك، وكان معي أهلي وولدي، وكان معي يونس بن ظبيان من رفقائي، فلما أخبرتهم حمدوا الله على ذلك، وقال يونس: لا والله حتى أسمع ذلك منه -وكانت فيه عجلة- فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب سمعت أبا عبدالله يقول له -وقد سبقني يونس-: الأمر كما قال لك فيضٌ، اسكت واقبل، فقال: سمعت وأطعت(1).
__________
(1) غيبة النعماني: (224)، البصائر: (96)، رجال الكشي: (226)، إعلام الورى: (289)، البحار: (47/83، 259) (48/14، 26)، الكافي: (1/309)، إثبات الهداة: (3/157، 164، 168).(1/175)
ويبدو أن هذه الاستزادة والبيان لم تقنعه، فلا زال يلاحق أبا عبدالله بأسئلته: خذ بيدي من النار، من لنا بعدك؟ قال: فدخل أبو إبراهيم وهو يومئذٍ غلام، فقال: هذا صاحبك فتمسك به(1).
وعن إسحاق بن عمار قال: وصف إسماعيل أخي لأبي عبدالله دينه واعتقاده، فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأنكم.. ووصفهم -يعني: الأئمة- واحداً واحداً حتى انتهى إلى أبي عبدالله، قال: وإسماعيل من بعدك؟ قال: أما إسماعيل فلا(2).
وكما تلاحظ فالروايات مضطربة في شأن منزلة إسماعيل، فمن مُعظمة له كما رأيت، إلى ذامة له كما مرَّ بك بعض منها، وإليك المزيد.
فعن الصادق أنه سئل عنه؟ فقال: إنه عاص لا يشبهني ولا يشبه أحداً من آبائي(3).
وكان لا يتورع عن التطاول على أبيه، ووصمه بعدم الفهم لأسئلة الناس، كرواية الفيض بن المختار أنه سأل الصادق: جعلت فداك، نتقبل من هؤلاء الضياع فنقبلها بأكثر مما نتقبلها؟
فقال: لا بأس به، فقال له إسماعيل ابنه: لم تفهم يا أبت، فقال أبو عبدالله: أنا لم أفهم، أقول لك: الزمني فلا تفعل، فقام إسماعيل مغضباً(4). وكان يخالف أوامر أبيه في كثير من المسائل(5).
رغم هذا وبعد أسطر من هذه الروايات تجد القوم يروون عن عمار بن حيان أنه قال: أخبرني أبو عبدالله ببر ابنه إسماعيل له، وقال: لقد كنت أحبه وقد ازداد إليَّ حباً(6).
وعلى أي حال، لا شأن لنا بكل هذا الاضطراب، فهي سمة روايات القوم، ونعود إلى ما كُنَّا فيه.
__________
(1) الإرشاد: (308)، إعلام الورى: (288)، البحار: (48/18)، الكافي: (1/307)، إثبات الهداة: (3/156).
(2) غيبة النعماني: (224)، البحار: (47/261).
(3) كمال الدين: (76)، البحار: (47/247).
(4) غيبة الطوسي: (33)، البحار: (47/259)، 48/26.
(5) انظر مثلاً: الكافي: (5/299)، البحار: (47/267).
(6) البحار: (47/268) (74/81).(1/176)
ولما توفي إسماعيل في حياة أبيه، وكان الأمر قد استفحل باعتقاد الكثير من أصحابه أن الإمامة فيه -وقد ذكرنا أمثلة قليلة على ذلك- اجتهد في إقناعهم والتأكيد عليهم بموته.
يقول القوم: إن الصادق دعا داود بن كثير الرقي، وحمران بن أعين، وأبا بصير، ودخل المفضل بن عمر وأتى بجماعة، حتى صاروا ثلاثين رجلاً، فقال: يا داود، اكشف عن وجه إسماعيل، فكشف عن وجهه، فقال: تأمله يا داود فانظره أحي هو أم ميت؟
فقال: بل هو ميت، فجعل يعرضه على رجلٍ رجل حتى أتى على آخرهم، فقال: اللهم فاشهد، ثم أمر بغسله وتجهيزه، ثم قال: يا مفضل، احسر عن وجهه، فحسر عن وجهه، فقال: حي هو أم ميت؟ انظروه أجمعكم.
فقالوا: بل هو يا سيدنا ميت، فقال: شهدتم بذلك وتحققتموه؟
قالوا: نعم، وقد تعجبوا من فعله، فقال: اللهم اشهد عليهم، ثم حمل إلى قبره، فلما وضع في لحده قال: يا مفضل، اكشف عن وجهه، فكشف، فقال للجماعة: انظروا أحي هو أم ميت؟
فقالوا: بل ميت يا ولي الله، فقال: اللهم اشهد(1).
ولشدة ما كان من اعتقاد الأصحاب في إمامته وكون هذا الأمر مسلماً به بينهم، كان الشيعة الذين يخالفونهم في تسلسل الإمامة يعيرونهم بوفاته وتركهم بلا إمام، فهذا هارون بن خارجة قال: قال لي هارون بن سعد العجلي: قد مات إسماعيل الذي كنتم تمدون إليه أعناقكم، وجعفر شيخ كبير يموت غداً أو بعد غد، فتبقون بلا إمام، فلم أدرِ ما أقول(2).
ولم يقتصر استغلال موته على شياطين الإنس فحسب، بل يبدو أن ذلك قد طال شياطين الجن أيضاً.
__________
(1) المناقب: (1/266)، غيبة النعماني: (227)، البحار:(47/242، 254)(48/21، 295)، وانظر أيضاً: الإرشاد: (304)، فرق الشيعة: (67) (الحاشية).
(2) غيبة الطوسي:(28)، معجم الخوئي:(19/227)، البحار:(49/26)، إثبات الهداة:(3/162،240).(1/177)
زعم القوم أن الصادق قال: إن شيطاناً قد ولع بابني إسماعيل يتصور في صورته ليفتن به الناس، وإنه لا يتصور في صورة نبي ولا وصي نبي، فمن قال لك من الناس: إن إسماعيل ابني حي لم يمت، فإنما ذلك الشيطان تمثل له في صورة إسماعيل، مازلت أبتهل إلى الله عز وجل في إسماعيل ابني أن يحييه لي ويكون القيم من بعدي فأبى ربي ذلك(1).
افتراق الشيعة بعد وفاة الصادق:
هذا ما كان من شأن الصادق وأصحابه وأهل بيته واختلافهم والصادق حي لا يزال، وكما عودناكم سابقاً بذكر موقف الشيعة بعد وفاة كل إمام، فسوف نذكر هنا موقف الشيعة واختلافهم بعد أبي عبدالله، ولكن قبل ذلك اقرأ معي روايات القوم هذه:
عن أبي أيوب الخوزي قال: بعث إليَّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل، فدخلت عليه وهو جالس على كرسي، وبين يديه شمعة، وفي يده كتاب، فلما سلَّمت عليه رمى الكتاب إليَّ وهو يبكي، وقال: هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات، فإنا لله وإنا إليه راجعون -ثلاثاً- وأين مثل جعفر؟ ثم قال لي: اكتب، فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: اكتب إن كان أوصى إلى رجلٍ بعينه فقدمه واضرب عنقه، قال: فرجع الجواب إليه أنه قد أوصى إلى خمسة: أبي جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان، وعبدالله وموسى ابني جعفر، وحميدة، فقال المنصور: ليس إلى قتل هؤلاء سبيل(2).
__________
(1) أصل زيد النرسي: (49) من الأصول الستة عشر، البحار: (47/269)، إثبات الهداة: (3/170)، كمال الدين: (76)، المناقب: (1/266).
(2) غيبة الطوسي: (119)، الكافي: (1/310)، إعلام الورى: (290)، المناقب: (3/434)، البحار: (47/3)، إثبات الهداة: (3/159)، مذهب أهل البيت: (54).(1/178)
وعن داود بن كثير الرقي قال: أتى أعرابي إلى أبي حمزة الثمالي فسأله خبراً؟ فقال: توفي الصادق، فشهق شهقة وأغمي عليه، فلمَّا أفاق قال: هل أوصى إلى أحدٍ؟ قال: نعم، أوصى إلى ابنه عبدالله، وموسى، وأبي جعفر المنصور، فضحك أبو حمزة، وقال: الحمد لله الذي هدانا إلى الهدى، وبيَّن لنا الكبير، ودلنا على الصغير، وأخفى عن أمرٍ عظيم، فسئل عن قوله فقال: بيَّن عيوب الكبير ودلَّ على الصغير لإضافته إياه، وكتم الوصية للمنصور؛ لأنه لو سأل المنصور عن الوصي لقيل: أنت(1).
وفي رواية هشام بن سالم التي مضت والتي قال فيها: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبدالله أنا ومحمد بن النعمان صاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبدالله بن جعفر أنه صاحب الأمر بعد أبيه، ذكر أنه بعد أن خرجا من عند عبدالله حائرين، فقعدا في بعض أزقة المدينة، قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور؛ وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس على من تجتمع بعد جعفر الناس إليه فيؤخذ ويضرب عنقه(2).
فاسأل نفسك: لِمَ كل هذا التمويه والتدليس ما دام الإمام معروفاً ومنصوصاً عليه؟ ألم يزعم القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على الأئمة من بعده بأسمائهم كما مرَّ بك في المقدمة؟ إذن فما الحاجة إلى هذه الوصية؟ وهل كان المنصور في حاجة إلى أن يعرف إلى من أوصى الصادق من بعده؟ وهل كان حاله إلا أحد أمرين: إما جهله بالنص وهذا يبرئه من مسئولية تولي أمر الأمة دون الإمام المنصوص، أو كان عالماً ومن ثمَّ لا أعرف للروايات توجيهاً.
__________
(1) المناقب: (3/434)، البحار: (47/4، 251)، إثبات الهداة: (3/166).
(2) الإرشاد: (310)، المناقب: (3/409)، البحار: (47/344).(1/179)
والغريب قول القوم: إن الحكام هم سبب خفاء النص على الأئمة عن الأمة(1)، بينما نرى أن حاكمنا هذا قد جنَّد الجند وأرسل الجواسيس فقط لمعرفة إلى من أوصى الصادق، وكذا لا أعرف ماذا كان للصادق رحمه الله من حول أو منصب حتى يوصي به إلى من يكون بعده، وكذا علة بكاء المنصور عليه وحماسه لقتل من أوصى إليه، وكذا شأن الصادق ووصيته، ولا أظن أنني بحاجة إلى الإسهاب في التعليق على كل هذا، فالقارئ الأريب لا شك أنه أدرك المقصود.
رجعنا إلى الكلام عن موقف الشيعة بعد الإمام الصادق، فقد ذكر القوم أنه لما توفي افترقت شيعته بعده عدة فرق:
ففرقة قالت: إن جعفر بن محمد حي لا يموت حتى يظهر ويلي أمر الناس، وإنه المهدي، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه، فإني أنا صاحبكم، وإنه قال لهم: إن جاءكم من يخبركم عني أنه مرضني وغسلني وكفنني فلا تصدقوه، فإني صاحبكم صاحب السيف. وهذه الفرقة تسمى الناووسية.
وفرقة زعمت أن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه؛ لأنه خاف فغيَّبه عنهم، وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ويقوم بأمر الناس، وأنه هو القائم؛ لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلَّدهم ذلك له، وأخبرهم أنه صاحبهم، والإمام لايقول إلا الحق، فلما ظهر موته علمنا أنه صدق، وأنه القائم، وأنه لم يمت، وهذه الفرقة هي الإسماعيلية.
__________
(1) قال محقق البحار في معرض تعليقه على أسباب خفاء النص: وأهم الأسباب شدة إخفاء الخلفاء ومن بيدهم السلطة والقدرة على ذلك، وشدة النكير على من كان يظهره، وخوف الناقلين منهم، انظر: حاشية البحار: (10/409).(1/180)
وفرقة زعمت أن الإمام بعد الصادق محمد بن إسماعيل، وقالوا: إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه، فلما توفي قبل أبيه جعل الصادق الأمر لمحمد بن إسماعيل، وكان الحق له، ولا يجوز غير ذلك؛ لأنها لا تنتقل من أخٍ إلى أخ بعد الحسن والحسين، ولا تكون إلا في الأعقاب، ولم يكن لأخوي إسماعيل عبدالله وموسى في الإمامة حق، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية حق مع علي بن الحسين، وهذه الفرقة تسمى المباركية.
وفرقة قالت: إن الإمام بعد الصادق محمد بن جعفر، وهي السمطية.
وفرقة قالت: إن الإمامة بعد جعفر في ابنه عبدالله بن جعفر الأفطح، وذلك أنه كان عند مضي الصادق أكبر ولده سناً، وجلس مجلس أبيه، وادعى الإمامة ووصية أبيه، وهذه الفرقة تسمى الفطحية.
وقد مال إلى هذه الفرقة جُلَّ مشايخ الشيعة وفقهائها، ولم يشكوا في كون الإمامة في عبدالله بن جعفر وفي ولده من بعده، فمات عبدالله ولم يخلف ذكراً، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته.
وفرقة قالت بإمامة موسى بن جعفر بعد أبيه، وأنكروا إمامة عبدالله وخطئُوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة. وغيرها من الفرق، وقد انبثقت من هذه الفرق فرق أخرى يطول ذكرها(1).
موقف موسى الكاظم رحمه الله وأصحابه وأهل بيته من النص:
جاء دور الحديث عن الإمام موسى الكاظم رحمه الله، الإمام السابع وأصحابه وأهل بيته، وكما ذكرنا عند الحديث عن أبيه ضرورة اعتبار كون النص أكثر انتشاراً، جيلاً بعد جيل وليس العكس، ولا أقل من كون ذلك بين الأصحاب أنفسهم، وذلك إذا علمنا أن موت إمامنا كان في سنة (183) للهجرة، وقد علمت مما مر بك موقف الشيعة بعد وفاة أبيه وافتراقهم، ولكن سنتحدث هنا عمن قال بإمامة الكاظم بعد أبيه، وموقفهم من النص.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك إن شئت في: فرق الشيعة: (66-79)، الفصول المختارة: (247-253)، البحار: (47/258).(1/181)
عن محمد بن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وقد اشتكى شكاية شديدة، وقلت له: إن كان ما أسأل الله ألا يرينا فإلى من؟ قال: إلى علي ابني، وكتابه كتابي، وهو وصيي وخليفتي من بعدي(1).
وعن علي بن يقطين قال: كنت عند العبد الصالح موسى بن جعفر جالساً، فدخل عليه ابنه الرضا، فقال: يا علي، هذا سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، فضرب هشام براحته جبهته، ثم قال: ويحك! كيف قلت؟ فقال علي بن يقطين: سمعت والله منه كما قلت لك، فقال هشام: أخبرك والله أن الأمر فيه من بعده(2).
وفي رواية: قال: من لنا بعدك يا سيدي؟ قال: علي هذا خير من أخلف بعدي، هو مني بمنزلتي من أبي(3).
وعن غنام بن القاسم قال: قال لي منصور بن يونس بزرج: دخلت على أبي الحسن -يعني: موسى بن جعفر- يوماً فقال لي: يا منصور، أما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟ قلت: لا، قال: قد صيرت علياً ابني وصيي والخلف من بعدي، فادخل عليه وهنئه بذلك، وأعلمه أني أمرتك بهذا، قال: فدخلت عليه فهنأته بذلك وأعلمته أن أباه أمرني بذلك، ثم جحد منصور بعد ذلك، فأخذ الأموال التي كانت في يده وكسرها(4).
اسأل نفسك: ألم يذكر القوم -كما مر بك- أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قالا: إن الإمام بعد الكاظم ابنه الرضا.
وعلى أي حال، إن كان لابد من تهنئة لأحدٍ فلمنصور بن يونس على ما حصل عليه، وليس هذا منه بمستغرب، فقد علمت عن أحوال الكثير من الشيعة مثل ذلك، وكذا سيمر بك المزيد.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/31)، البحار: (49/13)، إثبات الهداة: (3/234).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/31)، غيبة النعماني: (27)، الكافي: (1/311)، الإرشاد:(285)، إعلام الورى: (303)، البحار: (49/13)، إثبات الهداة: (3/234).
(3) إثبات الهداة: (3/241).
(4) عيون أخبار الرضا: (1/32)، رجال الكشي: (398)، البحار: (49/14)، إثبات الهداة:(3/235).(1/182)
وعن داود الرقي قال: قلت لأبي إبراهيم: إني قد كبرت سني، وخفت أن يحدث بي حدث ولا ألقاك، فأخبرني من الإمام من بعدك؟ فقال: ابني علي.
وفي رواية: فأشار إلى أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم من بعدي(1).
لا أدري كم بلغ من الكبر ولا زال جاهلاً بأعظم أركان الإسلام؟!
عن سليمان المروزي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجة على الناس بعده، فابتدأني وقال: يا سليمان، إن علياً ابني ووصيي والحجة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل بيتي المستخبرين عن خليفتي من بعدي(2).
لماذا كل هذه التوصيات والمواثيق؟ هل الكاظم قد أتى بأمر جديد استوجب ذلك؟!
وعن علي بن عبدالله الهاشمي قال: كنا عند القبر نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفر ويد علي ابنه في يده، فقال: أتدرون من أنا؟ قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، قال: سموني وانسبوني؟ فقلنا: أنت موسى بن جعفر، فقال: من هذا معي؟ قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(3).
أقول: الحمد لله أنهم عرفوا ذلك وهم عند القبر وليس فيه، وإلا ماتوا ميتة جاهلية، وكانت أعمالهم هباءً منثوراً.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/33)، الإرشاد: (285)، الكافي: (1/312)، البحار:(49/15، 23، 28) إثبات الهداة: (3/229، 232، 235، 236).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/35)، البحار: (49/15)، إثبات الهداة: (3/178، 236).
(3) عيون أخبار الرضا: (1/36)، البحار: (49/15)، إثبات الهداة: (3/236).(1/183)
وعن عبدالله بن الحارث -وأمه من ولد جعفر بن أبي طالب- قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قلنا: لا، قال: اشهدوا أن علياً ابني هذا وصيي، والقيم بأمري، وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلا بكتابه(1).
وعن زيد الهاشمي قال: الآن تتخذ الشيعة علي بن موسى إماماً، فقيل: وكيف ذاك؟ قال: دعاه أبو الحسن موسى بن جعفر فأوصى إليه(2).
وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال: أوصى أبو الحسن موسى بن جعفر إلى ابنه علي، وكتب له كتاباً أشهد فيه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة(3).
وعن حسين بن بشير قال: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه علياً كما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة، أو قال: يا أهل المسجد، هذا وصيي من بعدي(4).
لا أزيد -عزيزي القارئ- على القول لك سوى أن تقرأ مقدمة هذا الباب مرة أخرى.
وعن عبدالله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلما صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إلي فدخلت عليه، فدفع إليَّ كتباً وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى من أدفعها جعلت فداك؟ قال: إلى ابني علي، فإنه وصيي، والقيم بأمري، وخير بني(5).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/36)، الكافي: (1/312)، الإرشاد: (286)، غيبة الطوسي: (26)، إعلام الورى: (304)، البحار: (49/16)، إثبات الهداة: (3/229).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/37)، البحار: (49/16).
(3) عيون أخبار الرضا: (1/28)، البحار: (49/17)، إثبات الهداة: (3/238) (وفيه سبعون رجلاً).
(4) عيون أخبار الرضا: (1/37)، البحار: (49/17)، إثبات الهداة: (3/238).
(5) عيون أخبار الرضا: (1/27)، البحار: (49/16)، إثبات الهداة: (3/236).(1/184)
وعن الحسن بن علي الخزاز قال: خرجنا إلى مكة ومعنا علي بن أبي حمزة ومعه مال ومتاع، فقلنا: ما هذا؟ قال: للعبد الصالح أمرني أن أحمله إلى علي ابنه وقد أوصى إليه.
وقال الصدوق: إن علي بن أبي حمزة أنكر ذلك بعد وفاة موسى بن جعفر، وحبس المال عن الرضا(1).
أذكرك بتهنئتنا لمنصور بن يونس، وابن أبي حمزة هذا يروي لنا أنه قال لأبي الحسن: إن أباك أخبرنا بالخلف من بعده فلو خبرتنا به، قال: فأخذ بيدي فهزها، ثم قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)) [التوبة:115] قال: فخفقت، فقال لي: مه لا تعود عينك كثرة النوم، فإنها أقل شيء في الجسد شكراً(2).
ولعلك ترى معي أن في خفقته هذه تخطيطاً آخر لحبس المال كما فعل مع الكاظم، أما الطامة الكبرى في الرواية فهي جهل الرضا بالإمام بعده، وقد أورد المجلسي هذه الرواية في بحاره، ثم عقَّبها بقوله: لعله بيَّن له أن الله سيظهر لكم الإمام بعدي ويبينه ولا يدعكم في ضلالة.
أقول: يبدو أن المجلسي يشارك ابن أبي حمزة كثرة النوم، وإلا أين كل تلك المجلدات من بحاره، والتي ملأها بالنصوص من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على أن الإمامة بعد الرضا في ابنه الجواد، وكذلك عن الأئمة الذين سبقوه.
وعن سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبدالله: إن رجلاً من العجلية قال لي: كم عسى أن يبقى لكم هذا الشيخ، إنما هو سنة أو سنتان حتى يهلك ثم تصيرون ليس لكم أحد تنظرون إليه؟ فقال أبو عبدالله: ألا قلت له: هذا موسى بن جعفر، قد أدرك ما يدرك الرجال، وقد اشترينا له جارية تباح له(3).
والعجلية فرقتان:
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/29)، البحار: (49/17)، إثبات الهداة: (3/238).
(2) تفسير العياشي: (2/121)، البحار: (49/27).
(3) عيون أخبار الرضا: (1/38)، البحار: (48/23) (49/18).(1/185)
الأولى: تقول بإمامة زكريا بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي المغيرية، أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي.
والأخرى: المنصورية أصحاب أبي منصور العجلي، وقد عزا نفسه إلى الباقر، فتبرأ منه وطرده.
أقول: وما أكثر منصورية زماننا هذا ولا باقر لهم!
وعن إسماعيل بن الخطاب قال: كان أبو الحسن يبتدئ بالثناء على ابنه علي ويطريه ويذكر من فضله وبره ما لا يذكر من غيره كأنه يريد أن يدل عليه(1).
ولا أدري أين تكون (كأنه) هذه من أخبار النص على الاثني عشر.
وعن الحسين بن المختار قال: خرجت إلينا ألواح من أبي إبراهيم موسى وهو في الحبس، فإذا فيها مكتوب: عهدي إلى أكبر ولدي(2).
وعن زياد بن مروان القندي قال: دخلت على أبي إبراهيم وعنده علي ابنه، فقال لي: يا زياد، هذا كتابه كتابي، وكلامه كلامي، ورسوله رسولي، وما قال فالقول قوله(3).
قال الصدوق: إن زياد بن مروان روى هذا الحديث ثم أنكره بعد مضي موسى، وقال بالوقف، وحبس ما كان عنده من مال موسى بن جعفر.
أود هنا أن أنقل ما أورده الكشي في زيادٍ هذا:
يقول: عن يونس بن عبدالرحمن، قال: مات أبو الحسن وليس عنده من قوامه أحد إلا وعنده المال الكثير، وكان سبب وقفهم وجحدهم موته، وكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار، قال: رأيت ذلك وتبين لي الحق وعرفت مِنْ أمر أبي الحسن ما علمت، فكلمت ودعوت الناس إليه، قال: فبعثا إليَّ، وقالا: لا تدع إلى هذا إن كنت تريد المال فنحن نغنيك، وضمنا لي عشرة آلاف دينار، وقالا لي: كُفَّ(4).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/30)، البحار: (49/18).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/39)، الإرشاد: (286)، الكافي:(1/313)، البحار:(49/18، 19، 24)، إثبات الهداة: (3/229، 237، 238)، إعلام الورى: (305).
(3) عيون أخبار الرضا: (1/30)، الكافي: (1/312)، الإرشاد: (286)، البحار: (49/19).
(4) رجال الكشي: (396، 416)، البحار: (48/252).(1/186)
ولا أزيد على القول: إن هذه الظاهرة لا زالت موجودة في منصورية هذا الزمان.
وعن محمد بن سنان، عن أبي الحسن قال: من ظلم ابني هذا حقه وجحد إمامته من بعدي كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقه وجحد إمامته من بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فعلمت أنه قد نعى إلي نفسه ودل على ابنه، فقلت: والله لئن مدَّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، فلأقرن له بالإمامة، وأشهد أنه من بعدك حجة الله على خلقه والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد، يمد الله في عمرك وتدعو إلى إمامته وإمامة من يقوم مقامه من بعده، قلت: من ذاك جعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم، كذلك وجدتك في كتاب أمير المؤمنين، أما إنك من شيعتنا في أبين من البرق في الليلة الظلماء(1).
وعن داود بن زربي قال: كان لأبي الحسن موسى بن جعفر عندي مال، فأخذ بعضه وترك عندي بعضه، وقال: من جاءك بعدي يطلب ما بقي عندك فإنه صاحبك، فلما مضى أرسل إليَّ علي ابنه: ابعث إليَّ بالذي عندك وهو كذا وكذا، فبعثت إليه ما كان له عندي(2).
أقول: لا أدري كم سنة انتظر صاحبنا حتى عرف صاحبه.
وعن محمد بن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن الأول: ألا تدلني على من آخذ منه ديني؟ فقال: هذا ابني علي(3).
__________
(1) غيبة الطوسي:(25)، عيون أخبار الرضا: (1/41)، الإرشاد: (287)، الكافي: (1/319)، إعلام الورى: (308)، رجال الكشي:(429)، البحار: (49/21)(50/19)، إثبات الهداة:(3/173، 321).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/219)، الكافي: (1/313)، الإرشاد: (286)، غيبة الطوسي: (29)، رجال الكشي: (265)، إعلام الورى: (305)، البحار: (49/23، 25).
(3) الكافي: (1/312)، الإرشاد: (285)، إعلام الورى: (304)، البحار: (49/24)، إثبات الهداة:(3/232)، غيبة الطوسي: (25).(1/187)
وعن العباس بن النجاشي الأسدي قال: قلت للرضا: أنت صاحب هذا الأمر؟ قال: إي والله، على الإنس والجن(1).
وعن داود بن سليمان قال: قلت لأبي إبراهيم: إني أخاف أن يحدث حدث ولا ألقاك، فأخبرني عن الإمام بعدك؟ فقال: ابني أبو الحسن(2).
وعن نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم: إني سألت أباك: من الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنك أنت هو، فلما توفي أبو عبدالله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: بك أنا وأصحابي، فأخبرني من الذي يكون من بعدك من ولدك؟ قال: ابني علي(3).
أقول: يبدو أن جهل صاحبنا هذا جهل مستمر.
وعن الحسن بن الحسن في حديثٍ له قال: قلت لأبي الحسن موسى: أسألك؟ فقال: سل إمامك، فقلت: من تعني فإني لا أعرف إماماً غيرك؟ قال: هو علي ابني قد نحلته كنيتي، قلت: سيدي، أنقذني من النار فإن أبا عبدالله قال: إنك القائم بهذا الأمر، قال: أولم أكن قائماً؟ قال: يا حسن، ما من إمام يكون قائماً في أمة إلا وهو قائمهم، فإذا مضى عنهم فالذي يليه هو القائم والحجة حتى يغيب عنهم، فكلنا قائم، فاصرف جميع ما كنت تعاملني به إلى ابني علي، والله ما أنا فعلت ذاك به، بل الله فعل به ذاك حباً (4).
أقول: قد أدت أقوال الصادق هذه إلى اضطراب كبير عند القوم بعد رحيله، كما ستقف عليه.
__________
(1) الإمامة والتبصرة: (215)، البحار: (49/106)، عيون الأخبار: (21).
(2) غيبة الطوسي: (26)، الكافي: (1/313)، الإرشاد: (286)، البحار: (49/24)، إثبات الهداة: (3/230)، إعلام الورى: (305).
(3) الكافي: (1/313)، الإرشاد: (286)، غيبة الطوسي: (29)، البحار: (48/23) (49/20، 25)، إثبات الهداة: (3/159، 230)، عيون الأخبار: (1/40).
(4) غيبة الطوسي: (27)، البحار: (46/96) (49/26)، إثبات الهداة: (3/240).(1/188)
ولم يقتصر الجهل وغياب النص على الأفراد فحسب، بل طال ذلك المدن والأمصار بمن فيها، فعن محمد بن الفضل الهاشمي قال: لما توفي موسى بن جعفر أتيت المدينة، فدخلت على الرضا، فسلمت عليه بالأمر، وأوصلت إليه ما كان معي، وقلت: إني سائر إلى البصرة وعرفت كثرة خلاف الناس -وقد نعي إليهم موسى- وما أشك أنهم سيسألونني عن براهين الإمام... والرواية طويلة جداً أخذنا منها موضع الحاجة(1).
حتى من ظن أنهم سبب إخفاء النص على الأئمة -كما يزعم القوم- لم يسلموا من العلة نفسها، فعن موسى بن مهران قال: سمعت جعفر بن يحيى يقول: سمعت عيسى بن جعفر يقول لهارون حين توجه من الرقة إلى مكة: اذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنك حلفت: إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً، وهذا علي ابنه يدعي هذا الأمر، ويقال فيه ما يقال في أبيه، فنظر إليه مغضباً، فقال: وما ترى؟ تريد أن أقتلهم كلهم؟(2)
وعن صفوان بن يحيى قال: لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفر وتكلم الرضا خفنا عليه من ذلك، فقلت له: إنك قد أظهرت أمراً عظيماً وإنما نخاف عليك هذا الطاغي، فقال: ليجهد جهده فلا سبيل له علي(3).
وعن محمد بن سنان قال: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجلس أبيك وسيف هارون يقطر الدم؟
قال: جوابي على هذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أني لست بنبي، وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أنني لست بإمام(4).
__________
(1) الخرائج والجرائح: (204)، البحار: (49/73).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/226)، البحار: (49/113).
(3) الكافي: (1/487)، الإرشاد: (288)، عيون أخبار الرضا: (2/226)، المناقب: (4/340)، البحار: (49/113، 115).
(4) روضة الكافي: (257)، المناقب: (4/339)، البحار: (49/59، 115)، إثبات الهداة: (3/253).(1/189)
وعن أبي مسروق قال: دخل على الرضا جماعة من الواقفة، فيهم: علي بن أبي حمزة البطائني، ومحمد بن إسحاق بن عمار، والحسين بن عمران، والحسين بن أبي سعيد المكاري، فقال له علي بن أبي حمزة: جعلت فداك، أخبرنا عن أبيك ما حاله؟
فقال: قد مضى، فقال له: فإلى من عهد؟ فقال: إليَّ، فقال له: إنك تقول قولاً ما قاله أحد من آبائك؛ علي بن أبي طالب فمن دونه، قال: لكن قد قاله خير آبائي وأفضلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أما تخاف هؤلاء على نفسك؟
فقال: لو خفت عليها كنت عليها معيناً، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أبو لهب فتهدده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن خُدشت من قبلك خدشة فأنا كذاب، فكانت أول آية نزع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول آية أنزع بها لكم، إن خُدشت خدشاً من قبل هارون فأنا كذاب، فقال له الحسين بن مهران: قد أتانا ما نطلب إن أظهرت هذا القول، قال: فتريد ماذا؟ أتريد أن أذهب إلى هارون فأقول له: إني إمام وأنت لست في شيء؟ ليس هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره، إنما قال ذلك لأهله ومواليه ومن يثق به، فقد خصهم به دون الناس، وأنتم تعتقدون الإمامة لمن كان قبلي من آبائي، وتقولون: إنه إنما يمنع علي بن موسى أن يخبر أن أباه حي تقية، فإني لا أتقيكم في أن أقول: إني إمام، فكيف أتقيكم في أن أدعي أنه حي لو كان حياً(1).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (2/213)، البحار: (49/114)، وانظر أيضاً: رجال الكشي: (289)، البحار: (48/269) (49/114).(1/190)
فاسأل نفسك: لِمَ كل هذه التهديدات والوعيد والحذر والانتظار من الجميع مادامت الإمامة في الرضا بعد أبيه الكاظم بنص من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما يزعم القوم، ثم تدبر في أقوال الرضا، وانظر أين موقع التقية التي يصر القوم على نسبتها إلى الأئمة، أما بقية الشبهات فلم تعد خافية عليك، فقد مر بك بعضها، ويحضرني هنا رواية عن أحد الذين دخلوا عليه، وهو أبو سعيد المكاري، حيث قال للرضا: أبلغ الله من قدرك أن تدَّعي ما ادَّعى أبوك؟ فقال: مالك أطفأ الله نورك وأدخل الفقر بيتك(1).
وكشأن بقية الأئمة الذين تكلمنا عنهم لم يقتصر غياب النص على الأصحاب فحسب، بل طال أهل البيت، فعن علي بن الحكم، عن حيدر بن أيوب، عن محمد بن زيد بن علي، أنه قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمة، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وأن أمره جائز عليه وله، ثم قال: والله يا حيدر، لقد عقد له الإمامة اليوم، ولتقولن الشيعة به من بعده، قال حيدر: بل يبقيه الله وأي شيء هذا؟
فقال: يا حيدر، إذا أوصى إليه فقد عقد له الإمامة، قال علي بن الحكم: مات حيدر وهو شاك(2).
وها هي أم أحمد زوجة الكاظم لما توجه من المدينة إلى بغداد أودعها ودائع الإمامة، وقال لها: كل من جاءك وطلب منك هذه الأمانة في أي وقت من الأوقات فاعلمي بأني قد استشهدت، وأنه هو الخليفة من بعدي والإمام المفترض طاعته عليك وعلى سائر الناس(3).
__________
(1) الكافي: (6/195)، من لا يحضره الفقيه: (3/155)، عيون الأخبار: (1/308)، معاني الأخبار: (218)، تفسير القمي: (2/190)، البرهان: (4/10)، نور الثقلين: (4/386)، إثبات الهداة: (3/253)، البحار: (14/199) (25/1) (48/271) (49/81، 270) (58/166)(103/208).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/37)، البحار: (49/16)، إثبات الهداة: (3/237).
(3) تحفة العالم: (2/27)، البحار: (48/279) (الحاشية).(1/191)
وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، قال: إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلكم أحد عنها، فقلت: يا سيدي، من الخامس من ولد السابع؟ قال: يا بني، عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن حمله، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه(1).
وعنه أيضاً قال: كنت عند أخي موسى بن جعفر، إذ طلع ابنه علي، فقال لي: يا علي، هذا صاحبك وهو مني بمنزلتي من أبي، فثبتك الله على دينه(2).
وعن يزيد بن سليط قال: دعانا أبو الحسن وأشهدنا -ونحن ثلاثون رجلاً من بني هاشم- أن علياً ابنه ووصيه وخليفته من بعده(3).
وعن ظريف بن ناصح قال: كنت مع الحسين بن زيد ومعه ابنه علي، إذ مرَّ بنا أبو الحسن موسى بن جعفر، فسلَّم عليه ثم جاز، فقلت: جعلت فداك، يعرف موسى قائم آل محمد؟ قال: فقال لي: إن يكن أحد يعرفه فهو، ثم قال: وكيف لا يعرفه وعنده خط علي بن أبي طالب وإملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال علي ابنه: يا أبه، كيف لم يكن ذاك عند أبي زيد بن علي؟ فقال: يا بني، إن علي بن الحسين ومحمد بن علي سيدا الناس وإمامهم، فلزم يا بني أبوك زيد أخاه، فتأدب بأدبه وتفقه بفقهه، قال: فقلت: فإنه يا أبه إن حدث بموسى حدث يوصي إلى أحد من إخوته؟ قال: لا والله ما يوصي إلا إلى ابنه، أما ترى -أي بني- هؤلاء الخلفاء لا يجعلون الخلافة إلا في أولادهم(4).
خلاف أهل البيت مع الكاظم وذكر من ادعى الإمامة من أهل بيته:
لا شك -أيها القارئ- أنك تنتظر ذكر من نازعه وخرج عليه من أهل البيت كما عودناك، فإليك أمثلة على ذلك:
__________
(1) كمال الدين: (337)، غيبة الطوسي: (104)، البحار: (51/150) (52/113).
(2) غيبة الطوسي: (31)، البحار: (49/27)، إثبات الهداة: (3/241).
(3) إثبات الهداة: (3/244).
(4) قرب الإسناد: (178)، البحار: (48/160).(1/192)
عن محمد بن الحسن العلوي قال: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث، فحسده يحيى بن خالد البرمكي، وقال: إن أفضت الخلافة إليه زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمد -وكان يقول بالإمامة- حتى داخله وآنس إليه وكثر غشيانه في منزله، فيقف على أمره فيرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه بما يقدح في قلبه، ثم قال يوماً لبعض ثقاته: أتعرفون لي رجلاً من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرّفني ما أحتاج إليه؟ فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فحمل إليه يحيى بن خالد مالاً، وكان موسى يأنس إليه ويصله، وربما أفضى إليه بأسراره كلها، فكتب ليشخص به، فأحس موسى بذلك، فدعاه فقال: إلى أين يا ابن أخي؟ قال: إلى بغداد، قال: وما تصنع؟ قال: عليّ دين وأنا مملق، قال: فأنا أقضي دينك، وأفعل بك وأصنع، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال له: انظر يا ابن أخي لا تؤتم أولادي، وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن موسى لمن حضره: والله ليسعين في دمي ويؤتمن أولادي(1).
وكذا شأن أخيه محمد، فعن علي بن جعفر بن محمد قال: جاءني محمد بن إسماعيل ابن جعفر يسألني أن أسأل أبا الحسن موسى أن يأذن له في الخروج إلى العراق وأن يرضى عنه ويوصيه.. إلى أن قال: فقال محمد بن إسماعيل: يا عم، أحب أن توصيني؟ فقال: أوصيك أن تتقي الله في دمي، فقال: لعن الله من يسعى في دمك، ثم قال: يا عم، أوصني؟ فقال: أوصيك أن تتقي الله في دمي، ثم ذكر خروج محمد بن إسماعيل إلى العراق وملاقاته لهارون الرشيد، وقوله له: يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض موسى بن جعفر بالمدينة يجبى له بالخراج، وأنت في العراق يجبى لك الخراج، فقال: والله؟ فقال: والله(2).
__________
(1) غيبة الطوسي: (21)، البحار: (48/231).
(2) الكشي: (170)، الكافي: (8/124)، البحار: (48/239)، إثبات الهداة: (3/176)، عيون الأخبار: (1/72).(1/193)
أما من خرج في أيامه ودعا الناس إلى بيعته من أهل البيت فإليك بيانه:
عن عبدالله بن المفضل مولى عبدالله بن جعفر بن أبي طالب قال: لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ(1) واحتوى على المدينة دعا موسى بن جعفر إلى البيعة، فأتاه فقال له: يا ابن عم، لا تكلفني ما كلف ابن عمك عمك أبا عبدالله فيخرج مني ما لا أريد كما خرج من أبي عبدالله ما لم يكن يريد، فقال له الحسين: إنما عرضت عليك أمراً، فإن أردته دخلت فيه، وإن كرهته لم أحملك عليه، والله المستعان، ثم ودعه(2).
وللحسين بن علي صاحب الفخ هذا رحمه الله منزلة عظيمة، حيث أورد فيه القوم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بفخ فنزل فصلَّى ركعة، فلما صلَّى الثانية بكى وهو في الصلاة، فلما رأى الناس النبي صلى الله عليه وسلم يبكي بكوا، فلما انصرف قال: نزل عليّ جبرئيل لما صليت الركعة الأولى، فقال لي: يا محمد، إن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدين(3).
كما رووا عن الصادق أنه قال لنضر بن قرواش وهو في طريقه إلى المدينة: يا نضر، إذا انتهيت إلى فخ فأعلمني. فلما وصل وأبلغه بذلك قال: ناولني الإداوة والركوة، فتوضأ وصلى ثم ركب، فقلت له: جعلت فداك، رأيتك قد صنعت شيئاً، أفهو من مناسك الحج؟ قال: لا، ولكن يقتل ههنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة(4).
__________
(1) فخ: موقع قريب من مكة.
(2) الكافي: (1/366)، البحار: (48/160)، وقال: والحسين هو ابن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي، وأمه زينب بنت عبدالله بن الحسن، وخرج في أيام موسى الهادي بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وخرج معه جماعة كثيرة من العلويين، إثبات الهداة: (3/174).
(3) مقاتل الطالبيين: (366)، البحار: (48/170).
(4) مقاتل الطالبيين: (367)، البحار: (48/170).(1/194)
وذكروا أن الكاظم جاء إلى الحسين صاحب الفخ فانكب عليه شبه الركوع، وقال: أحب أن تجعلني في سعة وحل مِنْ تخلفي عنك، فأطرق الحسين طويلاً لا يجيبه، ثم رفع رأسه إليه، فقال: أنت في سعة(1).
ولعل في إطراقه الطويل هذا تساؤلاً عن سر رفضه الأول ثم ندمه، وهو إمام معصوم لا يصدر عنه فعلان متضادان، ولما عرضت عليه رأسه رحمه الله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صواماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله(2).
وقال فيه الجواد: لم يكن لنا بعد اللطف مصرع أعظم من فخ(3).
__________
(1) مقاتل الطالبيين: (375)، البحار: (48/169).
(2) مقاتل الطالبيين: (445)، البحار: (48/165).
(3) عمدة الطالب: (172)، سر السلسلة العلوية: (14)، البحار: (48/165).(1/195)
ومنهم: أخوه عبدالله المعروف بالأفطح، وقد ذكرنا نبذة عنه عند كلامنا عن موقف الشيعة بعد الإمام الصادق، ونزيد هنا رواية المفضل بن عمر، قال: لما مضى الصادق كانت وصيته في الإمامة لموسى، فادعى أخوه عبدالله الإمامة، وكان أكبر ولد جعفر في ذلك الوقت، فأمر موسى بجمع حطب كثير في وسط داره، فأرسل إلى عبدالله يسأله المصير إليه، فلما صار عنده مع جماعة من وجوه الإمامية، فلما جلس إليه أخوه عبدالله أمر موسى أن تضرم النار في ذلك الحطب فأضرمت، ولا يعلم الناس ما سبب ذلك حتى صار كله جمراً، ثم قام موسى وجلس بثيابه في وسط النار وأقبل يحدث الناس ساعة، ثم قام فنفض ثيابه ورجع إلى المجلس، فقال لأخيه عبدالله: إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس؟ قالوا: فرأينا عبدالله تغير لونه، ثم قام يجر رداءه حتى خرج من دار موسى(1).
افتراق الشيعة بعد وفاة الكاظم:
رجع بنا الحديث إلى موقف الشيعة بعد وفاة الكاظم، فقد ذكر القوم أن الشيعة افترقت بعد وفاته إلى عدة فرق:
فرقة منهم قالوا بوفاته في حبس السندي بن شاهك، وأن يحيى بن خالد البرمكي سمَّهُ في رطب وعنب بعثهما إليه، وأن الإمام بعده هو علي الرضا. وهذه الفرقة سميت بالقطعية؛ لأنها قطعت على وفاته وعلى إمامة الرضا.
__________
(1) إثبات الهداة: (3/196، 212)، الخرائج والجرائح: (200)، البحار: (47/251)(48/65، 67)، وانظر روايات أخرى في خروجه: البحار: (47/127، 242، 243، 256، 257، 261) (48/299)، الإمامة والتبصرة: (209)، غيبة الطوسي: (57)، كمال الدين: (105)، الكافي: (1/355).(1/196)
وفرقة قالت: إن الكاظم لم يمت وإنه حي ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها، ويملأها كلها عدلاً كما ملئت جوراً، وإنه القائم المهدي، وزعموا أنه خرج من الحبس ولم يره أحد نهاراً ولم يعلموا به، وأن السلطان وأصحابه ادعوا موته وموهوا على الناس وكذبوا، وأنه غاب عن الناس واختفى، ورووا في ذلك روايات عن أبيه الصادق أنه قال: هو القائم المهدي، فإن هدهد رأسه عليكم من جبل فلا تصدقوا، فإنه القائم.
وقال بعضهم: إنه القائم، وقد مات، ولا تكون الإمامة لغيره حتى يرجع، وزعموا أنه قد رجع بعد موته، إلا أنه مختفٍ في موضع من المواضع حيٌ يأمر وينهى، وأن أصحابه يلقونه ويرونه، واعتلوا في ذلك بروايات عن أبيه أنه قال: سمي القائم قائماً؛ لأنه يقوم بعدما يموت.
وقال بعضهم: إنه قد مات، وإنه القائم، وإن فيه شبهاً من نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، وإنه لم يرجع ولكنه يرجع في وقت قيامه فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وإن الله قال: إن فيه شبهاً من عيسى بن مريم، وإنه يقتل على يدي ولد العباس، فقد قتل، وأنكر بعضهم قتله، وقالوا: مات ورفعه الله إليه، وإنه يرده عند قيامه، فسموا هؤلاء جميعاً الواقفة؛ لوقوفهم على موسى بن جعفر أنه القائم، ولم يَأتَمُّوا بعده بإمام، ولم يتجاوزوه إلى غيره، وقد قال بعضهم ممن ذكر أنه حي: إن الرضا ومن قام بعده ليسوا بأئمة ولكنهم خلفاء، واحداً بعد واحد إلى أوان خروجه.(1/197)
وفرقة قالت: لا ندري أهو حي أم ميت، لأنا قد روينا أخباراً كثيرة تدل على أنه القائم المهديَ، فلا يجوز تكذيبها، وقد ورد علينا من خبر وفاة أبيه وجده والماضين من آبائه في معنى صحة الخبر، فهذا أيضاً مما لا يجوز رده وإنكاره لوضوحه وشهرته وتواتره من حيث لا يكذب مثله ولا يجوز التواطؤ عليه، والموت حق، والله عز وجل يفعل ما يشاء، فوقفنا عند ذلك على إطلاق موته وعلى الإقرار بحياته، وقالوا: ونحن مقيمون على إمامته لا نتجاوزها حتى يصح لنا أمره وأمر هذا الذي نصب نفسه مكانه وادعى الإمامة -يعنون علي بن موسى الرضا- فإن صحت لنا إمامته كإمامة أبيه من قبله بالدلالات والعلامات الموجبة للإمامة بالإقرار منه على نفسه بإمامته وموت أبيه لا بأخبار أصحابه سلمنا له ذلك وصدقناه.
وفرقة قالت: إن موسى بن جعفر لم يمت ولم يحبس، وإنه حي غائب، وإنه المهدي، وإنه في وقت غيبته استخلف على الأمر محمد بن بشير وجعله وصيه وأعطاه خاتمه وعلمه جميع ما تحتاج إليه رعيته، ولما توفي أوصى إلى ابنه سميع بن محمد بن بشير، ومن أوصى إليه سميع فهو الإمام المفترض الطاعة، وهكذا.. إلى وقت خروج الكاظم(1).
وفرقة قالت بإمامة أحمد بن موسى الكاظم، وأن الكاظم أوصى إليه وإلى الرضا وأجازوها في أخوين، وجعله أبوه الوصي بعد علي بن موسى(2).
وكذا إبراهيم بن الكاظم الذي خرج باليمن ودعا الناس إلى بيعة محمد بن إبراهيم طباطبا، ثم دعا الناس إلى بيعة نفسه(3).
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في: فرق الشيعة: (79-85)، الفصول المختارة: (254) وما بعدها.
(2) فرق الشيعة: (85، 87)، البحار: (48/279) (الحاشية) (308).
(3) البحار: (48/307).(1/198)
وإبراهيم هذا من الذين أنكروا موت أبيه، حيث يروي القوم عن بكر بن صالح قال: قلت لإبراهيم بن أبي الحسن موسى بن جعفر: ما قولك في أبيك؟ قال: هو حي، قلت: فما قولك في أخيك أبي الحسن؟ قال: ثقة صدوق، قلت: فإنه يقول: إن أباك قد مضى؟ قال: هو أعلم وما يقول، فأعدت عليه فأعاد علي، قلت: فأوصى أبوك؟ قال: نعم، قلت: إلى من أوصى؟ قال: إلى خمسة منا وجعل علياً علينا(1).
أما هذه الوصية التي أشار إليها فقد رواها القوم عن يزيد بن سليط الزيدي، أنه قال: لقيت موسى بن جعفر، فقلت: أخبرني عن الإمام بعدك بمثل ما أخبر به أبوك، قال: فقال: كان أبي في زمن ليس هذا مثله.
قال يزيد: فقلت: من يرضى منك بهذا فعليه لعنة الله، قال: فضحك، ثم قال: أخبرك يا أبا عمارة أني خرجت من منزلي فأوصيت في الظاهر إلى ابني، وأشركتهم مع علي ابني، وأفردته بوصيتي في الباطن، ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم ابني لحبي إياه ورأفتي عليه، ولكن ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاء، وقد جاءني بخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدي علي حيث قال لي: الأمر قد خرج منك إلى غيرك، فقلت: يا رسول الله، أرنيه أيهم هو؟ فقال رسول الله: ما رأيت من الأئمة أحداً أجزع على فراق هذا الأمر منك، ولو كانت الإمامة بالمحبة لكان إسماعيل أحب إلى أبيك منك، ولكن من الله(2).
فأين القول بالنص مع كل هذا التمويه؟ ولعل أمثال هذه الوصايا هي التي جرأت أبناء الأئمة للخروج وادعاء الإمامة كما مرَّ بك، وكما هو شأن صاحبينا إبراهيم وأخيه زيد ابني موسى الذي خرج بالبصرة ودعا إلى نفسه، وحرق دوراً وأعبث، ثم ظُفِرَ به وحُمِلَ إلى المأمون، وقد ذكرنا نبذة من ذلك عند كلامنا عن زيد بن علي.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/46)، البحار: (48/282) (49/22)، إثبات الهداة: (3/239).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/34)، الكافي: (1/313)، إعلام الورى: (306)، البحار: (49/11) (48/310)، إثبات الهداة: (3/230).(1/199)
وقوف الكثير من الشيعة على الكاظم واعتقادهم بأنه المهدي:
كان لشأن هذه التلبيسات أن وقف فريق كبير من الشيعة على الكاظم -كما مرَّ بك آنفاً- وهم الواقفة، وهؤلاء قد أتعبوا من جاء بعده، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
عن علي بن خطاب -وكان واقفياً- قال: كنت في الموقف يوم عرفة، فجاء أبو الحسن الرضا ومعه بعض بني عمه، فوقف أمامي، وكنت محموماً شديد الحمى، وقد أصابني عطش شديد، قال: فقال الرضا لغلام له شيئاً لم أعرفه، فنزل الغلام فجاء بماء في مشربة، فناوله فشرب وصب الفضلة على رأسه من الحر، ثم قال: املأ، فملأ الشربة، ثم قال: اذهب فاسق ذلك الشيخ، قال: فجاءني بالماء، فقال لي: أنت موعوك؟ قلت: نعم، قال: اشرب، قال: فشربت، قال: فذهب والله الحمى، فقال لي يزيد بن إسحاق: ويحك يا علي، فما تريد بعد هذا ما تنتظر؟ قال: يا أخي دعنا، قال له يزيد: فحدثت بحديث إبراهيم بن شعيب وكان واقفياً مثله، قال: كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبي إنسان ضخم آدم، فقلت له: ممن الرجل؟ فقال لي: مولى لبني هاشم، قلت: فمن أعلم بني هاشم؟ قال: الرضا، قلت: فما باله لا يجيء عنه كما جاء عن آبائه، قال: فقال لي: ما أدري ما تقول، ونهض وتركني، قال الحسن -راوي الحديث عن ابن خطاب-: فأجدهما ماتا على شكهما(1).
وعن ابن أبي نجران وصفوان قالا: حدثنا الحسين بن قياما وكان من رؤساء الواقفة، فسألنا أن نستأذن له على الرضا ففعلنا، فلما صار بين يديه، قال له: أنت إمام؟ قال: نعم، قال: فإني أشهد الله أنك لست بإمام، وكان الحسين بن قياماً هذا واقفاً في الطواف، فنظر إليه أبو الحسن الأول، فقال له: مالك حيرك الله تعالى، فوقف عليه بعد الدعوة(2).
__________
(1) رجال الكشي: (398)، البحار: (49/64)، إثبات الهداة: (3/307).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/209)، البحار: (49/34، 272)، إثبات الهداة: (3/184)، إعلام الورى: (311)،.(1/200)
وفي رواية: قال: دخلت على علي بن موسى الرضا، فقلت له: يكون إمامان؟ قال: لا إلا وأحدهما صامت، فقلت له:هو ذا أنت ليس لك صامت، ولم يكن ولد له أبو جعفر بعد، فقال: والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله، فولد له بعد سنة أبو جعفر، فقيل لابن قياما: ألا تقنعك هذه الآية؟ فقال: أما والله إنها آية عظيمة، ولكن كيف أصنع بما قال أبو عبدالله في ابنه(1).
وفي رواية: أنه كتب إلى الرضا كتاباً يقول فيه: كيف تكون إماماً وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن شبه المغضب: وما علمك أنه لا يكون لي ولد؟ والله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني ولداً ذكراً(2).
وعن عبدالله بن المغيرة قال: كنت واقفياً وحججت على ذلك، فلما صرت بمكة اختلج في صدري شيء، فتعلقت بالملتزم، ثم قلت: اللهم قد علمت طلبتي وإرادتي فأرشدني إلى خير الأديان، فوقع في نفسي أن آتي الرضا، فأتيت المدينة، فوقفت ببابه، فقلت للغلام: قل لمولاك رجل من أهل العراق بالباب، فسمعت نداءه وهو يقول: ادخل يا عبدالله بن المغيرة، فدخلت، فلما نظر إليَّ قال: قد أجاب الله دعوتك وهداك لدينه، فقلت: أشهد أنك حجة الله وأمين الله على خلقه(3).
__________
(1) الكافي: (1/321، 354)، البحار: (49/68)، إثبات الهداة: (3/247).
(2) الكافي: (1/320)، إثبات الهداة: (3/247)، البحار: (50/22)، الإرشاد: (298).
(3) الكافي: (1/355)، عيون أخبار الرضا: (2/219)، الخرائج والجرائح: (207)، كشف الغمة:(3/135)، الاختصاص: (84)، البحار: (48/273) (49/39)، رجال الكشي: ترجمة: (486) = = معجم الخوئي: (10/338).(1/201)
والغريب أن ابن المغيرة هذا له منزلة عظيمة عند القوم، وكل من ترجم له قال فيه: شيخ جليل ثقة، من أصحاب الكاظم، لا يعدل به أحد في جلالته ودينه وورعه، صنَّف ثلاثين كتاباً، وهو ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه(1).
أقول: لا أدري لم وقف على الكاظم وهو من هو في الورع والدين وجلالة القدر، دون أن يقف على كفر من أنكر واحداً من الأئمة الاثني عشر بزعم القوم!
وعلى أي حال، فإن كلتا الوقفتين عجيبة!
وعن الحسن بن علي الوشاء قال: كنت كتبت معي مسائل كثيرة قبل أن أقطع على أبي الحسن، وجمعتها في كتاب مما روي عن آبائه وغير ذلك، وأحببت أن أتثبت في أمره وأختبره، فحملت الكتاب في كمي وصرت إلى منزله، وأردت أن آخذ منه خلوة فأناوله الكتاب، فجلست ناحية وأنا متفكر في طلب الإذن عليه وبالباب جماعة جلوس يتحدثون، فبينا أنا كذلك في الفكرة والاحتيال في الدخول عليه إذا أنا بغلام قد خرج من الدار في يده كتاب، فنادى: أيكم الحسن بن علي الوشاء ابن بنت إلياس البغدادي؟
فقمت إليه، فقلت: أنا الحسن بن علي الوشاء، فما حاجتك؟ قال: هذا الكتاب أمرت بدفعه إليك فهاك خذه، فأخذته وتنحيت ناحية فقرأته، فإذا والله فيه جواب مسألة مسألة، فعند ذلك قطعت عليه وتركت الوقف(2).
وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر وهو من آل مهران، وكانوا يقولون بالوقف، وكان على رأيهم، فكاتب أبا الحسن الرضا وتعنت في المسائل، فقال: كتبت إليه كتاباً وأضمرت في نفسي أني متى دخلت عليه أسأله عن ثلاث مسائل من القرآن، فأجابني عن كتابي وكتب في آخره الآيات التي أضمرتها في نفسي أن أسأله عنها ولم أذكرها في كتابي إليه، فلما وصل الجواب نسيت ما كنت أضمرته، فقلت: أي شيء هذا من جوابي؟ ثم ذكرت أنه ما أضمرته(3).
__________
(1) شرح مشيخة الفقيه: (56)، معجم الخوئي: (10/336)، رجال النجاشي: (2/11).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/250)، البحار: (49/44).
(3) غيبة الطوسي: (51)، البحار: (48/49).(1/202)
وعن الحسين بن عمر بن يزيد قال: دخلت على الرضا وأنا يومئذٍ واقف، وقد كان أبي سأل أباه عن سبع مسائل فأجابه عن ست وأمسك عن السابعة، فقلت: والله لأسألنه عما سأل أبي أباه، فإن أجاب بمثل جواب أبيه فكانت دلالة، فسألته فأجاب بمثل جواب أبيه(1).
وعن يزيد بن إسحاق وكان من أدفع الناس لهذا الأمر، قال: خاصمني مرة أخي محمد وكان مستوياً، قال: فقلت له لما طال الكلام بيني وبينه: إن كان صاحبك بالمنزلة التي تقول فاسأله أن يدعو الله حتى أرجع إلى قولكم، قال: قال لي محمد: فدخلت على الرضا، فقلت له: جعلت فداك، إن لي أخاً وهو أسن مني، وهو يقول بحياة أبيك، وأنا كثيراً ما أناظره، فقال لي يوماً من الأيام: سَلْ صاحبك إن كان بالمنزلة التي ذكرت أن يدعو الله لي حتى أصير إلى قولكم، فأنا أحب أن تدعو الله له، فدعا له فقال بالحق(2).
أسباب وقوف هؤلاء على الكاظم رحمه الله:
على أي حال، لسنا بصدد حصر كل أمثال هذه الروايات، ونكتفي بهذا القدر الضئيل، ولكن لنتساءل عن العلة التي من أجلها وقف هؤلاء والتبس الأمر عليهم، حتى قال من قال منهم كابن قياما الواسطي: ولكن كيف أصنع بما قال أبو عبدالله في ابنه؟ كما مرَّ بك قوله آنفاً، بل وقول الكاظم: أما إنهم يفتنون بعد موتي، فيقولون: هو القائم، وما القائم إلا بعدي بسنين(3).
ترى ماذا قال الصادق رحمه الله -أو بالأحرى ماذا نسب إليه- حتى وقف هؤلاء على ابنه، وقالوا بأنه المهدي؟
اقرأ معي هذه الروايات لتقف على حقيقة هذا الأمر:
عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبدالله يقول: لا ينسجني والقائم أب.
__________
(1) الكافي: (1/354)، البحار: (49/67).
(2) رجال الكشي: (372)، البحار: (48/273)، إثبات الهداة: (3/307).
(3) رجال الكشي: (286)، إثبات الهداة: (3/561)، البحار: (48/266).(1/203)
وعن يزيد الصايغ قال: لما ولد لأبي عبدالله أبو الحسن رضي الله عنه عملت له أوضاحاً وأهديتها إليه، فلما أتيت أبا عبدالله بها قال لي:يا يزيد، أهديتها والله لقائم آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد المدايني قال: سمعت أبا جعفر يقول: إن الله استنقذ بني إسرائيل من فرعونها بموسى بن عمران، وإن الله مستنقذ هذه الأمة من فرعونها بسميه.
وعن أبي جعفر قال: إن الله تعالى عرض سيرة قائم آل محمد على موسى بن عمران، فقال: اللهم اجعله من بني إسرائيل، فقال له: ليس إلى ذلك سبيل، فقال: اللهم اجعلني من أنصاره، فقيل له: ليس إلى ذلك سبيل، فقال: اللهم اجعله سميي، فقيل له: أعطيت ذلك.
وعن أبي جعفر قال: قال رجل: جعلت فداك، إنهم يروون أن أمير المؤمنين قال بالكوفة على المنبر: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلاً مني يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فقال أبو جعفر: نعم، قال: فأنت هو؟ فقال: لا، ذاك سمي فالق البحر. أي: موسى بن عمران على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وعن علي بن الحسين قال: إن قارون كان يلبس الثياب الحمر، وإن فرعون كان يلبس السودَ ويرخي الشعور، فبعث الله عليهم موسى، وإن بني فلان لبسوا السواد وأرخوا الشعور، وإن الله تعالى مهلكهم بسميه.
وعن علي بن الحسين قال: إن اسم القائم اسم لحديدة الحلاق.
وعن أبي عبدالله قال: ابني هذا -يعني: أبا الحسن- هو القائم، وهو من المحتوم، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(1).
وعنه أيضاً قال: من المحتوم أن ابني هذا قائم هذه الأمة وصاحب السيف، وأشار بيده إلى أبي الحسن.
__________
(1) غيبة الطوسي: (29، 30، 31، 32)، إثبات الهداة: (3/163)، البحار: (38/16).(1/204)
وعن أبي الوليد الطرائقي قال: كنت ليلة عند أبي عبدالله، إذ نادى غلامه، فقال: انطلق فادع لي سيد ولدي، فقال له الغلام: من هو؟ فقال: فلان -يعني: أبا الحسن- فلم يلبث حتى جاء بقميص بغير رداء.. إلى أن قال: ثم ضرب بيده على عضدي، وقال: يا أبا الوليد، كأني بالراية السوداء صاحبة الرقعة الخضراء تخفق فوق رأس هذا الجالس، ومعه أصحابه يهدون جبال الحديد هداً، لا يأتون على شيء إلا هدوه، قلت: جعلت فداك، هذا؟ قال: نعم، هذا يا أبا الوليد، يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً، يسير في أهل القبلة بسيرة علي بن أبي طالب، يقتل أعداء الله حتى يرضي الله، قلت: جعلت فداك، هذا؟ قال: هذا، ثم قال: فاتبعه وأطعه وصدقه وأعطه الرضا من نفسك، فإنك ستدركه إن شاء الله.
وعن عبدالله بن غالب قال: أنشدت أبا عبدالله هذه القصيدة:
فإن تك أنت المرتجى للذي نرى ... ... لك التي من ذي العلى فيك نطلب
فقال: ليس أنا صاحب هذه الصفة، ولكن هذا صاحبها، وأشار بيده إلى أبي الحسن.
وعن إسماعيل البزار قال: قال أبو عبدالله: إن صاحب هذا الأمر يلي الوصية وهو ابن عشرين سنة، فقال إسماعيل: فوالله ما وليها أحد قط كان أحدث منه، وإنه لفي السن الذي قال أبو عبدالله.
وعن إسماعيل بن منصور الزبالي قال: سمعت شيخاً بأذرعات قد أتت عليه عشرون ومائة سنة، قال: سمعت علياً يقول على منبر الكوفة: كأني با بن حميدة قد ملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فقام إليه رجل، فقال: أهو منك أو من غيرك؟ فقال: لا، بل هو رجل مني.
وعن أبي عبدالله قال: كأني با بن حميدة على أعوادها قد دان له شرق الأرض وغربها(1).
__________
(1) غيبة الطوسي: (32، 33، 34، 35، 36)، إثبات الهداة: (3/163).(1/205)
وحميدة هي أم الكاظم(1).
وعن يحيى بن إسحاق العلوي، عن أبيه، قال: دخلت على أبي عبدالله فسألته عن صاحب هذا الأمر من بعده؟
قال: صاحب البهمة، وأبوالحسن في ناحية الدار ومعه عناق مكية، ويقول لها: اسجدي لله الذي خلقك، ثم قال: أما إنه الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وعن عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله وذكر البداء لله، فقال: فما أخرج الله إلى الملائكة وأخرجه الملائكة إلى الرسل، فأخرجه الرسل إلى الآدميين، فليس فيه بداء، وإن من المحتوم أن ابني هذا هو القائم.
وعن الصادق قال: على رأس السابع منا الفرج.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبدالله: من جاءك فقال لك: إنه مرّض ابني هذا وأغمضه وغسله ووضعه في لحده ونفض يده من تراب قبره فلا تصدقه.
وفي رواية: عن الكاظم نفسه قال: يا علي، من أخبرك أنه مرضني وغمضني وغسلني ووضعني في لحدي ونفض يده من تراب قبري فلا تصدقه.
وعن أبي عبدالله قال: أما إنه -أي: الكاظم- صاحبكم، مع أن بني العباس يأخذونه فيلقى منهم عنتاً، ثم يفلته الله من أيديهم بضرب من الضروب، ثم يُعمَّى على الناس أمره حتى تفيض عليه العيون، وتضطرب فيه القلوب، كما تضطرب السفينة في لجة البحر وعواصف الريح، ثم يأتي الله على يديه بفرج لهذه الأمة للدين والدنيا.
وعن الباقر قال: صاحب الأمر يسجن حيناً ويموت ويهرب حيناً.
__________
(1) البحار: (37/16) (47/241) (48/1، 6، 7، 9، 228) (49/7)، كشف الغمة: (2/378)(3/3)، إعلام الورى: (302)، الإرشاد: (288، 307، 328)، الكافي:(1/476)، عيون الأخبار: == (1/26، 104)، كمال الدين: (289)، المناقب: (1/266) (4/323).(1/206)
وعنه أيضاً قال: في صاحب هذا الأمر أربع سنن من أربعة أنبياء: سنة من موسى، وسنة من عيسى، وسنة من يوسف، وسنة من محمد صلى الله عليه وسلم، أما موسى فخائف يترقب، وأما يوسف فالسجن، وأما عيسى فيقال: مات ولم يمت، وأما محمد فالسيف(1).
ومعلوم أن مهدي القوم لم يسجن، أما الكاظم فقد سجن، بل ويبدو أن ذلك كان من المسلمات لولا أن بدا لله فيه كما يزعم القوم، فمن أدعية زيارته كما يُروى عن أبي الحسن: السلام عليك يا من بدا لله في شأنه(2).
وعلى أي حال، نجتزئ بما أوردناه حتى لا نمل القارئ، ولعل بما ذكرنا التماساً للعذر لابن قياما الواسطي، وقوله: ولكن كيف أصنع بما قال أبو عبدالله في ابنه؟ وكذا سائر الواقفة.
رسالة تعزية من الكاظم إلى الخيزران يسمي فيها هارون الرشيد بأمير المؤمنين:
قبل أن ننتقل إلى الإمام التالي، نورد هنا موقفاً شبيهاً بموقف زين العابدين ورسائله إلى الأسرة الحاكمة، فقد كتب الكاظم إلى الخيزران يعزيها بموسى ابنها، ويهنئها بهارون ابنها بما نصه:
__________
(1) انظر هذه الروايات في: غيبة الطوسي: (40، 261)، البحار: (51/216)، كمال الدين: (306، 308)، إعلام الورى: (403).
(2) كامل الزيارات: (301)، البحار: (102/9)، وقال: قوله: يا من بدا لله، يمكن أن يكون إشارة إلى ما ورد في بعض الأخبار أنه كان قدر له أنه القائم بالسيف ثم بدا لله فيه، وأن يكون إشارة إلى البداء الذي وقع في إسماعيل، فإن البداء في إسماعيل يستلزم البداء فيه.(1/207)
بسم الله الرحمن الرحيم: للخيزران أم أمير المؤمنين، من موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، أما بعد: أصلحك الله وأمتع بك وأكرمك وحفظك، وأتم النعمة والعافية في الدنيا والآخرة لك برحمته، ثم إن الأمور -أطال الله بقاءك- كلها بيد الله عز وجل يمضيها ويقدرها بقدرته فيها، والسلطان عليها توكل بحفظ ماضيها وتمام باقيها، فلا مقدم لما أخر منها، ولا مؤخر لما قدم، استأثر بالبقاء، وخلق خلقه للفناء، أسكنهم دنيا سريعاً زوالها، قليلاً بقاؤها، وجعل لهم مرجعاً إلى دار لا زوال لها ولا فناء، لم يكن -أطال الله بقاءك- أحد من أهلي وقومك وخاصتك وحرمتك كان أشد لمصيبتك إعظاماً، وبها حزناً، ولك بالأجر عليها دعاءً، وبالنعمة التي أحدث الله لأمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- دعاءً بتمامها ودوامها وبقائها ودفع المكروه فيها مني، والحمد لله لما جعلني الله عليه بمعرفتي بفضلك، والنعمة عليك، وبشكري بلاءك، وعظيم رجائي لك أمتع الله بك، وأحسن جزاءك، إن رأيت -أطال الله بقاءك- أن تكتبي إلي بخبرك في خاصة نفسك، وحال جزيل هذه المصيبة، وسلوتك عنها فعلت، فإني بذلك مهتم، وإلى ما جاءني من خبرك وحالك فيه متطلع، أتم الله لك أفضل ما عودك من نعمته، واصطنع عندك من كرامته، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(1).
روايات شيعية في النهي عن التسمية بأمير المؤمنين لغير علي رضي الله عنه واختلافهم في هذا وفيه الكاظم يبشر المأمون بالخلافة:
__________
(1) قرب الإسناد: (171)، البحار: (48/134).(1/208)
الغريب هنا هو أن ينادي الكاظم هارون الرشيد وكذا غيره من الأئمة خلفاء الجور -بزعم القوم- بأمير المؤمنين، رغم النهي الشديد الذي ورد عنهم في ذلك، كروايتهم عن الصادق قوله لرجل دخل عليه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقام على قدميه، فقال: مه، هذا اسم لا يصلح إلا لأمير المؤمنين سماه الله به، ولم يُسمَّ به أحد غيره فرضي به إلا كان منكوحاً وإن لم يكن به ابتلي(1).
وفي رواية: لا يسمى به أحد قبله ولا بعده إلا كافر(2). والروايات في الباب كثيرة(3).
رغم هذا يروون عن أبي الصباح بن مولى آل سام قال: كنت عند أبي عبدالله أنا وأبو المغرا، إذ دخل علينا رجل من أهل السواد، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم اجتذبه وأجلسه إلى جنبه.
فقلت لأبي المغرا: إن هذا الاسم ما كنت أرى أن أحداً يسلم به إلا على أمير المؤمنين علي، فقال لي أبو عبدالله: يا أبا صباح، إنه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن لآخرنا ما لأولنا(4).
__________
(1) تفسير العياشي: (1/302)، نور الثقلين: (1/551)، البرهان: (1/416)، البحار: (37/331).
(2) الكافي: (2/107)، نور الثقلين: (2/390)، تفسير فرات: (1/193)، البحار: (52/373).
(3) للمزيد انظر إن شئت: إثبات الهداة: (2/101، 160، 189)، أمالي الطوسي: (301)، تأويل الآيات: (2/705)، نور الثقلين: (2/390)، الكافي: (1/411، 412) بل جعل لذلك أبواباً مستقلة، البحار: (37/290).
(4) الاختصاص: (267)، البصائر: (268)، البحار: (25/359) (37/332)، واستغرب = = ورود مثل هذه الرواية لمعارضتها الأخبار الكثيرة الدالة على المنع من إطلاق أمير المؤمنين على غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(1/209)
وكان الرشيد يجل الكاظم إلى درجة تثير معه استغراب الآخرين، فقد كان لا يرضى إذا دخل عليه أن ينزل من فوق حماره إلا على بساطه، فقد روى ابنه المأمون ذلك، وقال في ذكر أحد لقاءات الكاظم مع أبيه: فلمَّا رأى الرشيد رمى بنفسه -أي: الكاظم- عن حمارٍ كان راكبه، فصاح الرشيد: لا والله إلا على بساطي، فمنعه الحجاب من الترجل، ونظرنا إليه بأجمعنا بالإجلال والإعظام، فما زال يسير على حماره حتى سار إلى البساط، والحجاب والقواد محدقون به، فنزل فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبَّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس، وأجلسه معه فيه، وجعل يحدثه ويقبل بوجهه عليه، ويسأله عن أحواله... الرواية(1).
وفي الرواية هذه نفسها بشَّر الكاظم المأمون بالخلافة، وسأله أن يحسن إلى ولده، وكان كما أراد، فقد تزوج الرضا من ابنة المأمون، بل وبويع له بولاية العهد فضلاً عن رغبة المأمون في التنازل له عن الحكم، كما هو معروف(2).
فانظر أين محل التقية من كل هذا؟
هذا ما كان من شأن الإمام موسى الكاظم وأصحابه وأهل بيته وشأن القول بالنص على الاثني عشر، وقد عرفت حقيقة ذلك مما مرَّ بك.
موقف علي الرضا رحمه الله وأهل بيته وأصحابه من النص:
لنشرع الآن في التكلم عن ابنه الإمام علي الرضا المتوفى سنة (203) للهجرة.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/84)، البحار: (48/130).
(2) انظر تفاصيل كل هذا في: البحار: (49/11، 55، 60، 130، 136، 140، 141، 142، 144، 152) (50/16، 56، 73)، الخرائج والجرائح: (245)، كشف الغمة: (3/71، 177)، عيون الأخبار: (2/139، 141، 151، 166)، أمالي الصدوق: (72)، علل الشرايع: (2/227)، الإرشاد: (290)، نور الثقلين: (1/179) (2/432)، أمالي الصدوق: (252)، الكافي: (1/488)، إثبات الهداة: (3/260، 299).(1/210)
أقول: لم يشذ شيعة الرضا عن شيعة أبيه وأجداده بخفاء النص على الأئمة الاثني عشر عليهم مما يستوجب بطلان هذا الاعتقاد أصلاً كما سترى باعتبار روايات القوم أنفسهم.
رووا أن ابن أبي النصر قال: سألت علي الرضا: جعلت فداك، إني سألت أباك وهو في هذا الموضع [القادسية] عن خليفته من بعده، فدلني عليك، وقد سألتك منذ سنين وليس لك ولد عن الإمامة فيمن تكون من بعدك؟ فقلت: في ولدي، وقد وهب الله لك ابنين فأيهما عندك بمنزلتك التي كانت عند أبيك؟ فقال لي: هذا الذي سألت ليس هذا وقته(1).
وعن دعبل بن علي الخزاعي قال: أنشدت مولاي علي بن موسى الرضا قصيدتي التي أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ... ومنزل وحي مقفر العرصات
فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج ... ... يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل ... ... ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا بكاءً شديداً ثم رفع رأسه إليَّ، فقال لي: يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟
فقلت: لا يا مولاي، إلا أني سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً، فقال: يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره (2).
__________
(1) قرب الإسناد: (166)، البحار: (23/67)، إثبات الهداة: (3/242، 325)، نور الثقلين: (2/277).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/265)، كشف الغمة: (2/164)، كمال الدين: (347)، البحار: (49/237) (51/154)، الغدير: (2/350)، معجم الخوئي: (7/145)، إثبات الهداة: (1/486)، منتخب الأثر: (221)، إعلام الورى: (318).(1/211)
ولدعبل هذا منزلة عظيمة عند القوم، وتهالكه في ولاء أهل البيت غير خافٍ(1)، ولكن الخافي هو جهله بركن من أعظم أركان الدين!
وآخر هو جعفر بن محمد النوفلي قال: أتيت الرضا فسلمت عليه، ثم جلست، وقلت: جعلت فداك، إن أناساً يزعمون أن أباك حي، فقال: كذبوا لعنهم الله، لو كان حياً ما قسم ميراثه ولا نكح نساؤه، ولكنه والله ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي طالب، قال: فقلت له: ما تأمرني؟ قال: عليك با بني محمد من بعدي(2).
وعن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا: قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر، فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، فقد وهب الله لك وأقر عيوننا، فلا أرانا الله يومك، فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت له: جعلت فداك، وهو ابن ثلاث سنين؟ قال: وما يضره من ذلك؟ قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين(3).
وعلى ذكر السن أقول: إن الرضا توفي رحمه الله سنة (203) للهجرة، والجواد ولد سنة (195) للهجرة، فاحسب عمره عندما افترض توليه لإمرة المؤمنين.
وعلى أي حال، فقد ذكرنا تفاصيل ذلك عند كلامنا في منازعة محمد بن الحنفية مع الإمام زين العابدين.
وعن مسافر قال:أمرني أبو الحسن بخراسان، فقال: الحق بأبي جعفر فإنه صاحبك(4).
__________
(1) انظر منزلة الرجل إن شئت في: الغدير: (2/349)، وما بعدها، معجم الخوئي:(7/143)، النجاشي: (1/371)، رجال العلامة: (70)، الكشي: ترجمة: (365).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/216)، البحار: (49/285) (50/18)، إثبات الهداة:(3/324)، كمال الدين: (349)، إعلام الورى: (312).
(3) الكافي: (1/321)، الإرشاد: (297)، إعلام الورى: (331)، البحار: (25/102) (26/220)، إثبات الهداة: (3/322).
(4) رجال الكشي: رقم (367)، البحار: (50/34).(1/212)
وعن ابن بزيع، عن أبي الحسن علي الرضا أنه سئل أو قيل له: تكون الإمامة في عم أو خال؟ فقال: لا، فقال: في أخ؟ قال:لا، قال: ففي من؟ قال: في ولدي، وهو يومئذٍ لا ولد له(1).
وعن عبدالله بن جعفر قال: دخلت على الرضا أنا وصفوان بن يحيى، وأبو جعفر قائم قد أتى له ثلاث سنين، فقلنا له: جعلنا الله فداك، إن -وأعوذ بالله- حدث حدث فمن يكون بعدك؟ قال: ابني هذا وأومأ إليه، قال: فقلنا له: وهو في هذا السن؟ قال: نعم، وهو في هذا السن، إن الله تبارك وتعالى احتج بعيسى عليه السلام وهو ابن سنتين(2).
وعن محمد بن الحسن بن عمار قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده عدة سنين أكتب عنه ما سمع من أخيه -يعني: أبا الحسن- إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا المسجد -مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبَّل يده وعظمه، فقال له أبو جعفر: يا عم، اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم؟ فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا، إذا كان الله عز وجل -وقبض على لحيته- لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا له عبد(3).
وعن ابن أبي النصر قال: قال لي ابن النجاشي: من الإمام بعد صاحبك فأشتهي أن تسأله حتى أعلم؟ فدخلت على الرضا فأخبرته، فقال: الإمام ابني(4).
__________
(1) كفاية الأثر: (324)، البحار: (50/35)، إثبات الهداة: (1/85) (3/321)، الكافي: (1/286).
(2) كفاية الأثر: (324)، البحار: (50/35)، إثبات الهداة: (3/325).
(3) الكافي: (1/322)، البحار: (47/266) (50/36).
(4) الكافي: (1/320)، إثبات الهداة: (3/322، 324)، البحار: (50/22)، الإرشاد:(298).(1/213)
وعن بنان بن نافع قال: سألت علي بن موسى الرضا، فقلت: جعلت فداك، من صاحب هذا الأمر بعدك؟ فقال لي: يا ابن نافع، يدخل عليك من هذا الباب من ورث ما ورثته ممن هو قبلي، وهو حجة الله تعالى من بعدي، فبينا أنا كذلك إذ دخل علينا محمد بن علي(1).
وعن الصقر بن دلف قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا يقول: إن الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمامة بعده في ابنه الحسن(2).
ومن أصحابه من ظنه المهدي، فعن أيوب بن نوح قال: قلت لأبي الحسن الرضا: إنا نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسوقه الله إليك عفواً بغير سيف(3).
وعن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: أنا صاحب هذا الأمر، ولكني لست بالذي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً(4).
ذكر من نازعه من إخوته وأهل بيته:
نجتزئ بهذه الأمثلة التي سردناها سرداً لوضوح المقصود منها، ونذكر الآن -وكما عودناكم- أمثلة على موقف أهل بيته معه:
__________
(1) المناقب: (4/387)، البحار: (50/56)، إثبات الهداة: (3/326).
(2) كمال الدين: (352)، البحار: (50/118، 239) (51/30، 157)، إثبات الهداة: (3/395).
(3) غيبة النعماني: (112)، البحار: (51/37)، كمال الدين: (345)، منتخب الأثر: (288).
(4) كمال الدين: (350)، إثبات الهداة: (3/478)، البحار: (52/322)، منتخب الأثر: (221).(1/214)
فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه قال: لما مات أبو الحسن حججنا، فدخلنا على أبي جعفر وقد حضر خلق من الشيعة من كل بلد لينظروا إلى أبي جعفر، فدخل عمه عبدالله بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة، فجلس، وخرج أبو جعفر من الحجرة وعليه قميص قصب، ورداء قصب، ونعل جدد بيضاء، فانتدب رجل من القوم، فقال لعمه: أصلحك الله، ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ فقال: تقطع يمينه ويضرب الحد، فغضب أبو جعفر، ثم نظر إليه، فقال: يا عم، اتق الله.. اتق الله، إنه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، فيقول لك: لم أفتيت الناس بما لا تعلم؟ فقال له عمه: أليس قال هذا أبوك؟ فقال أبو جعفر: إنما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: تقطع يمينه للنبش ويضرب حد الزنا، فإن حرمة الميتة كحرمة الحية، فقال: صدقت يا سيدي وأنا أستغفر الله، فتعجب الناس، فقالوا: يا سيدنا، أتأذن لنا أن نسألك؟ فقال: نعم، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين (1).
أقول: يبدو أن مجالسهم كانت طويلة، إذ لو افترضنا أن سؤال وجواب كل مسألة يستغرق نصف دقيقة، لكان مدة المجلس أكثر من عشرة أيام.
وعلى أي حال، أنت ترى أن عمه رغم نبله وورعه يفتي بلا علم في حضرة إمام منصوص من الله لمثل هذه المسائل لرجل لم يوجه سؤاله أصلاً إلى من كان أولى بتوجيه السؤال إليه، وأحداث هذه القصة تذكرني بمواقف كثيرة للفاروق عمر مع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أوردها القوم في مصنفاتهم، ونذكر منها:
أن رجلاً من شباب اليهود سأل عمر رضي الله عنه: دلني على أعلمكم بالله وبرسوله وبكتابه وبنبيه؟ فأومأ بيده إلى علي، فقال: هذا.
وفي رواية: دونك هذا الشاب، فقال: ومن هذا الشاب؟ قال: علي بن أبي طالب(2).
__________
(1) الاختصاص: (102)، البحار: (50/85) (79/79).
(2) كمال الدين: (173، 174، 175)، البحار: (36/374، 377، 380).(1/215)
ومنها: أن رجلاً سأل عمر رضي الله عنه عن تفسير سبحان الله؟ فقال: إن في هذا الحائط رجلاً كان إذا سئل أنبأ، وإذا سكت ابتدأ، فدخل الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1)، فتأمل الفرق!
وننهي كلامنا عن الرضا بذكر منازعة أخيه العباس له، فعن الجعفري قال: قال العباس بن موسى لابن عمران القاضي الطلحي: إن أسفل هذا الكتاب -أي: وصية الكاظم- كنز لنا وجوهر يريد -أي: الرضا- أن يحتجزه دوننا، ولم يدع أبونا شيئاً إلا جعله له وتركنا عالة، فوثب عليه إبراهيم بن محمد الجعفري فأسمعه، ووثب إليه إسحاق بن جعفر ففعل به مثل ذلك، فقال العباس للقاضي: أصلحك الله، فض الخاتم واقرأ ما تحته، فقال: لا أفضه لا يلعنني أبوك، فقال العباس: أنا أفضه، قال: ذلك إليك، ففض العباس الخاتم -رغم قول أبيه الكاظم: وليس لأحدٍ أن يكشف وصيتي ولا ينشرها وهو على ما ذكرت وسميت، فمن أساء فعليه، ومن أحسن فلنفسه، وما ربك بظلام للعبيد، وليس ذلك لأحد من سلطان ولا غيره أن يفض كتابي الذي ختمت عليه أسفل، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله وغضبه والملائكة بعد ذلك ظهير وجماعة المسلمين والمؤمنين- ففض العباس الخاتم، فإذا فيه إخراجهم من الوصية، وإقرار علي وحده وإدخاله إياهم في ولاية علي إن أحبوا أو كرهوا أو صاروا كالأيتام في حِجره وأخرجهم من حد الصدقة وذكرها، ثم التفت علي بن موسى إلى العباس، فقال: يا أخي، أعلم أنه إنما حملكم على هذا الغرام والديون التي عليكم، فانطلق يا سعد فتعين لي ما عليهم واقضه عنهم، واقبض ذكر حقوقهم، وخذ لهم البراءة، فلا والله لا أدع مواساتكم وبركم ما أصبحت أمشي على ظهر الأرض، فقولوا ما شئتم، فقال العباس: ما تعطينا إلا من فضول أموالنا ومالنا عندك أكثر، فقال: قولوا ما شئتم، فالعرض عرضك، اللهم أصلحهم وأصلح بهم، وأخسئ عنا وعنهم الشيطان، وأعنهم على طاعتك،
__________
(1) التوحيد للصدوق: (328)، البحار: (40/121) (93/177)، معاني الأخبار: (9).(1/216)
والله على ما نقول وكيل، فقال العباس: ما أعرفني بلسانك وليس لمسحاتك عندي طين، ثم إن القوم افترقوا(1).
لذا لم يذكره بخير كل من ترجم له(2)، ورغم هذا يقول المفيد في إرشاده: إن لكل واحد من أولاد الكاظم فضلاً ومنقبة(3).
افتراق الشيعة بعد وفاة الرضا:
أما عن موقف الشيعة بعد وفاة الرضا، فإليك البيان:
فرقة منهم كانت قد قطعت عليه وعلى موت أبيه، ولما توفي الرضا رجعوا إلى الوقف بعد موسى بن جعفر، وهذه الفرقة تسمى المؤلفة.
وثانية تسمى: المحدثة، كانوا من أهل الإرجاء من أصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة رغبة في الدنيا وتصنعاً، فلما توفي علي بن موسى الرضا رجعوا إلى ما كانوا عليه.
وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء منهم والبصراء، فدخلوا في إمامة الرضا عندما أظهر المأمون فضله وعقد بيعته تصنعاً للدنيا واستكانوا الناس بذلك دهراً، فلما توفي الرضا رجعوا إلى قومهم من الزيدية.
وفرقة ائتمت بأحمد بن موسى.. وهكذا(4).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/33)، البحار: (48/280).
(2) البحار: (48/278، 313).
(3) البحار: (48/278) (الحاشية).
(4) انظر تفصيل ذلك كله في: فرق الشيعة: (86)، وما بعدها، الفصول المختارة: (256).(1/217)
موقف محمد الجواد رحمه الله وأهل بيته وأصحابه من النص:
وكذلك حال أصحاب محمد الجواد رحمه الله المتوفى سنة (220) للهجرة، فعن إسماعيل بن مهران قال: لما خرج أبو جعفر من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت فداك، إني أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فكر بوجهه إليَّ ضاحكاً، وقال: ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة، فلما استدعي به إلى المعتصم صرت إليه، فقلت له: جعلت فداك، فأنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم التفت إليَّ، فقال: عند هذه يخاف علي، الأمر من بعدي إلى ابني علي(1).
فانظر كم سنة انتظر حتى علم أن الأمر بعد الجواد إلى ابنه علي الهادي؟!
وعن ابن أكثم قال: قلت للرضا: والله إني أريد أن أسألك مسألة وإني والله لأستحي من ذلك، فقال لي: أنا أخبرك قبل أن تسألني، تسألني عن الإمام؟ فقلت: هو والله هذا، فقال: أنا هو، فقلت: علامة؟ فكان في يده عصا، فنطقت وقالت: إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة(2).
__________
(1) الإرشاد: (308)، إعلام الورى: (339)، الكافي: (1/323)، البحار: (50/118)، إثبات الهداة: (3/329، 355).
(2) الكافي: (1/353)، إثبات الهداة: (3/329)، البحار: (50/68).(1/218)
وعن الخيراني، عن أبيه قال: كنت ألزم باب أبي جعفر للخدمة التي وكلت بها، وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر من آخر كل ليلة ليتعرف خبر علة أبي جعفر، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد وخلا به، قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد بن عيسى عن المجلس وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول: مولاك يقرئك السلام، ويقول لك: إني ماضٍ والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي، ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك؟ قلت: خيراً، قال: قد سمعت ما قال، وأعاد علي ما سمع، فقلت: قد حرَّم الله عليك ما فعلت، لأن الله تعالى يقول: (وَلا تَجَسَّسُوا) فإن سمعت فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج إليها يوماً، وإياك أن تظهرها إلى وقتها.(1/219)
قال: أصبحت وكتبت نسخة من عشر رقاع وختمتها ودفعتها إلى وجوه أصحابنا، وقلت: إن حدث بي حدث قبل الموت أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها، فلما مضى أبو جعفر لم أخرج من منزلي حتى علمت أن رؤوس العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج يتفاوضون في الأمر، فكتب إليَّ محمد بن الفرج يعلمني باجتماعهم عنده، يقول: لولا مخافة الشهرة لصرت معهم إليك فأحب أن تركب إليَّ، فركبت وصرت إليه، فوجدت القوم مجتمعين عنده، فتجارينا في الباب، فوجدت أكثرهم قد شكوا، فقلت لمن عنده الرقاع وهم حضور: أخرجوا تلك الرقاع، فأخرجوها، فقلت لهم: هذا ما أمرت به، فقال بعضهم: قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكد هذا القول، فقلت لهم: قد أتاكم الله بما تحبون، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة، فسأله القوم، فتوقف عن الشهادة، فدعوته إلى المباهلة فخاف منها، وقال: قد سمعت ذلك وهي مكرمة كنت أحب أن يكون لرجلٍ من العرب، فأما مع المباهلة فلا طريق إلى كتمان الشهادة، فلم يبرح القوم حتى سلموا لأبي الحسن(1).
أقول: لم أقف على علة كل هذه الرقاع والاجتماعات السرية والمفاوضات والاتهامات وإقحام مسألة القوميات العربية والفارسية و.. و.. مادام الأمر ببساطة، القول بالنص من الله ورسوله على الهادي بعد الجواد.
وروى القوم أن جماعة من الشيعة دخلوا على الجواد وفيهم رجل زيدي يظهر الإمامة مدة أربعين سنة ولا تعلم الشيعة أنه زيدي، فقال الجواد لبعض غلمانه: خذ بيد هذا الزيدي فأخرجه، فقال بإمامته وإمامة الأئمة، وقال: علمت مني ما لم يعلمه إلا الله(2).
وعن أمية بن القيسي قال: قلت لأبي جعفر الثاني: من الخلف بعدك؟ فقال: ابني علي(3).
__________
(1) الإرشاد:(308)، إعلام الورى:(340)، الكافي:(1/324)، البحار:(50/119)، إثبات الهداة: (3/355).
(2) إثبات الهداة: (3/344).
(3) إثبات الهداة: (3/356)، غيبة النعماني: (123)، البحار: (51/156، 158).(1/220)
وعن محمد بن عثمان الكوفي أنه سأل أبا جعفر الثاني: إن حدث بك -وأعوذ بالله- حدث فإلى من؟ فقال: إلى ابني هذا، يعني: أبا الحسن الهادي(1).
ولما مات الجواد كتبت الشيعة إلى أبي الحسن العسكري يسألونه عن الأمر، فكتب إليهم: الأمر لي مادمت حياً(2).
افتراق الشيعة بعد وفاة الجواد:
أما موقف الشيعة بعد وفاته، فقد نزل أصحابه الذين ثبتوا على إمامته إلى القول بإمامة ابنه ووصيه علي بن محمد، فلم يزالوا على ذلك سوى نفر يسير منهم عدلوا عنه إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمد، ثم لم يلبثوا على ذلك إلا قليلاً حتى رجعوا إلى إمامة علي بن محمد ورفضوا إمامة موسى بن محمد، فلم يزالوا كذلك حتى توفي علي بن محمد(3).
موقف علي الهادي رحمه الله وأصحابه من النص:
وهذا الإمام علي الهادي رحمه الله المتوفى سنة (254) للهجرة وأصحابه لا نراهم يختلفون عمن سبق.
فعن علي بن عمرو النوفلي قال: كنت مع أبي الحسن العسكري في داره، فمرَّ علينا أبو جعفر، فقلت له: هذا صاحبنا؟ فقال: لا، صاحبكم الحسن(4).
وعن علي بن عمرو العطار قال: دخلت على أبي الحسن، وابنه أبو جعفر في الأحياء وأنا أظن أنه الخلف من بعده، فقلت: جعلت فداك، من أخص من ولدك؟ فقال: لا تخصوا أحداً من ولدي حتى يخرج إليكم أمري، قال: فكتبت إليه بعد: فيمن يكون هذا الأمر؟ قال: فكتب إلي: الأكبر من ولدي، وكان أبو محمد أكبر من جعفر(5).
__________
(1) إثبات الهداة: (3/356).
(2) كمال الدين: (355)، إثبات الهداة: (3/394)، البحار: (51/160)، غيبة الطوسي: (103).
(3) فرق الشيعة: (91).
(4) غيبة الطوسي: (120)، كشف الغمة: (3/301)، إعلام الورى: (350)، الكافي: (1/325)، الإرشاد: (315)، البحار: (50/242، 243، 279)، إثبات الهداة: (3/391، 394).
(5) الإرشاد: (316)، إعلام الورى: (350)، المناقب: (4/422)، الكافي: (1/326)، البحار: (50/244)، إثبات الهداة: (3/392).(1/221)
وعن عبدالله الجلاَّب قال: كتب إليَّ أبو الحسن في كتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر، وقَلِقْتَ لذلك فلا تغتم، فإن الله لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وصاحبك بعدي أبو محمد ابني(1).
وعن عبدالعظيم بن عبدالله الحسني، عن علي بن محمد أنه قال: الإمام من بعدي الحسن، فكيف للناس بالخلف من بعد؟(2)
ولاشك أن صاحبنا عبدالعظيم هذا بحاجة إلى هذا البيان مادام قد ظن في الجواد أنه المهدي، كما روى هو عن نفسه حيث قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى: إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(3).
وعن عبدالله بن محمد الأصفهاني قال: قال لي أبو الحسن: صاحبكم الذي يصلي عليَّ قال: ولم نعرف أبا محمد قبل ذلك، قال: فخرج أبو محمد بعد وفاته فصلى عليه(4).
وعن علي بن مهزيار قال: قلت لأبي الحسن: إن كان كون -وأعوذ بالله- فإلى من؟ قال: عهدي إلى الأكبر من ولدي، يعني: الحسن(5).
وفي رواية: إني كنت سألت أباك عن الإمامة فنص عليك، ففي من الإمامة بعدك؟ فقال: في أكبر ولدي، ونصَّ على أبي محمد(6).
__________
(1) الكافي: (1/328)، إثبات الهداة: (3/392).
(2) كمال الدين: (352)، البحار: (50/239)، إثبات الهداة: (3/393).
(3) كمال الدين: (352)، الاحتجاج: (2/449)، البحار: (51/157) (52/283)، نور الثقلين: (1/138).
(4) الإرشاد: (315)، إعلام الورى: (350)، الكافي: (1/326)، البحار: (50/244)، إثبات الهداة: (3/391).
(5) إعلام الورى: (350)، الإرشاد: (316)، الكافي: (1/326)، البحار: (50/244)، إثبات الهداة: (3/392).
(6) إثبات الهداة: (3/396).(1/222)
وعن يحيى بن يسار القنبري قال: أوصى أبو الحسن إلى ابنه الحسن قبل مضيه بأربعة أشهر، وأشار إليه بالأمر من بعده، وأشهدني على ذلك وجماعة من الموالي(1).
وعن أحمد بن عيسى العلوي من ولد علي بن جعفر قال: دخلت على أبي الحسن بصرياً فسلمنا عليه، فإذا نحن بأبي جعفر وأبي محمد قد دخلا، فقمنا إلى أبي جعفر لنسلم عليه، فقال أبو الحسن: ليس هذا صاحبكم عليكم بصاحبكم، وأشار إلى أبي محمد(2).
وصاحبنا هذا من أهل البيت.
أقول: على أي حال، فإننا لم نعلق على الروايات السابقة حتى نعلق على هذه، ولكن حسبك أن تسأل نفسك عند كل رواية: أين القول بالنص؟ ألم يزعم القوم أن الله ورسوله والأئمة الماضين قد ذكروا أن الإمامة بعد الهادي في ابنه العسكري؟!
روايات شيعية تدل على خفاء النص المزعوم على بني العباس وبني هاشم والهادي نفسه:
إلا أنني أرى أن نعذر هؤلاء لجهلهم بالنص ما دام الأمر نفسه قد طال آل أبي طالب وبني العباس، بل وطال الهادي وابنه كما سترى:
عن علي بن عبدالله بن مروان الأنباري قال: كنت حاضراً عند مضي أبي جعفر بن أبي الحسن، فجاء أبو الحسن فوضع له كرسياً فجلس عليه، وأبو محمد قائم في ناحية، فلما فرغ من أبي جعفر التفت أبو الحسن إلى أبي محمد، فقال: يا بني، أحدث لله شكراً، فقد أحدث فيك أمراً(3).
__________
(1) إعلام الورى: (351)، الإرشاد: (351)، الكافي: (1/325)، غيبة الطوسي: (130)، البحار: (50/246)، إثبات الهداة: (3/391).
(2) غيبة الطوسي: (120)، البحار: (50/242)، إثبات الهداة: (3/394).
(3) بصائر الدرجات:(473)، غيبة الطوسي: (122)، الإرشاد: (315، 350)، إعلام الورى:(350)، الكافي: (1/326)، البحار: (50/240، 243، 244)، وقال: فقد أحدث فيك أمراً، أي: جعلك إماماً بموت أخيك الأكبر قبلك، فرق الشيعة: (100) (الحاشية)، إثبات الهداة:(3/391، 392، 395).(1/223)
وفي رواية: قال: إن الله قد جعل فيك خلفاً منه فاحمد الله(1).
وعن سعيد بن عبدالله، عن جماعة من بني هاشم، منهم الحسن بن الحسين الأفطس، أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد دار أبي الحسن وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله، فقالوا: قَدَّرْنَا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش مائة وخمسين رجلاً سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي وقد جاء مشقوق الجيب حتى جاء عن يمينه ونحن لا نعرفه، فنظر إليه أبو الحسن بعد ساعة من قيامه، ثم قال: يا بني، أحدث لله شكراً فقد أحدث فيك أمراً، فبكى الحسن واسترجع، وقال: الحمد لله رب العالمين، وإياه أشكر تمام نعمته علينا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فسألنا عنه؟ فقيل لنا: هذا الحسن ابنه، وقدرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة ونحوها، فيومئذٍ عرفناه وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه(2).
كم أود أن أعرف رأي القائلين بالنص على الاثني عشر نصاً من الله ورسوله عليهم واحداً بعد واحد بأسمائهم لا يزيدون ولا ينقصون، وليس للإمام الماضي فيه صنع، حتى يرويها عمن يكون من بعده.
كم أود أن أعرف تعليقهم على هذه الروايات مع كل هذا، وكل ما مر بك في المقدمة.
وقد عرفت تعليق المجلسي كما في الحاشية على الرواية، وقد استدرك عليه آخر قائلاً: الأصح أن يقال: أحدث فيك أمراً، أي: لطفاً ونعمة؛ وذلك لأن المعروف بين شيعتنا بنص الباقر أن الإمامة في الولد الأكبر، ولو لم يمض أبو جعفر أخوك الأكبر لاختلف فيك الشيعة.
__________
(1) الكافي: (1/327)، الإرشاد: (316)، إعلام الورى: (350)، البحار: (50/246)، إثبات الهداة: (3/392).
(2) إعلام الورى: (351)، الكافي: (1/326)، الإرشاد: (316)، البحار: (50/245)، إثبات الهداة: (3/393).(1/224)
أقول: ما كان أغناهم عن كل ذلك! ألم يكن حسبهم من كان حوله من آل أبي طالب وبني العباس وقريش المائة والخمسين رجلاً حيث قالوا: وعلمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه؟!
ولقد أحدثت روايات الهادي في إمامة ابنه محمد دون العسكري اضطراباً كبيراً عند شيعته بعد موته، نذكر لك طرفاً منها:
فعن سعد بن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن العسكري وقت وفاة ابنه أبي جعفر وقد كان أشار إليه ودل عليه(1).
وإني لأفكر في نفسي، وأقول: هذه قصة أبي إبراهيم وقصة إسماعيل، فأقبل علي أبو الحسن، وقال: نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي جعفر وصيَّر مكانه أبا محمد، كما بدا له في إسماعيل بعد ما دلَّ عليه أبو عبدالله ونصبه وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، أبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده ما تحتاجون إليه، ومعه آلة الإمامة والحمد لله(2).
وقد تحدثنا عن قصة إسماعيل بن جعفر الصادق في موضعه.
__________
(1) تدبر في العبارات جيداً.
(2) غيبة الطوسي: (55)، الكافي: (1/327)، الإرشاد: (317)، البحار: (50/241)، إثبات الهداة: (3/359).(1/225)
وعن شاهويه بن عبدالله الجلاب قال: كنت رويت عن أبي الحسن العسكري في أبي جعفر ابنه روايات تدل عليه، فلما مضى أبو جعفر قَلِقْتُ لذلك وبقيت متحيراً لا أتقدم ولا أتأخر، وخفت أن أكتب إليه في ذلك، فلا أدري ما يكون، فكتبت إليه أسأله الدعاء أن يفرج الله عنا في أسباب من قبل السلطان كنا نغتم بها في غلماننا، فرجع بالدعاء، ورد الغلمان علينا، وكتب في آخر الكتاب: أردت أن تسأل عن الخلف بعد مضي أبي جعفر، وقلقت لذلك، فلا تغتم، فإن الله لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، صاحبكم بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) [البقرة:106] قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان(1).
__________
(1) غيبة الطوسي: (131)، الكافي: (1/328)، الإرشاد: (317)، إعلام الورى: (351)، البحار:(50/242)، إثبات الهداة: (3/365، 392، 395).(1/226)
افتراق الشيعة بعد الهادي رحمه الله:
وعلى هذا المنوال افترقوا بعد وفاة الهادي رحمه الله، فقالت فرقة من أصحابه بإمامة ابنه محمد، وقد كان توفي في حياة أبيه بسر من رأى، وزعموا أنه حي لم يمت، واعتلوا في ذلك بأن أباه أشار إليه وأعلمهم أنه الإمام من بعده -كما مرَّ بك- والإمام لا يجوز عليه الكذب ولا يجوز البداء فيه، فهو وإن كانت ظهرت وفاته لم يمت في الحقيقة، ولكن أباه خاف عليه فغيبه وهو القائم المهدي، وقالوا فيه بمثل مقالة إسماعيل بن جعفر، وقال سائر أصحاب علي بن محمد بإمامة الحسن بن علي وأثبتوا له الإمامة بوصية أبيه، وكان يكنى بأبي محمد، سوى نفر يسير قليل فإنهم مالوا إلى أخيه جعفر بن علي، وقالوا: أوصى إليه أبوه بعد مضي محمد وأوجب إمامته وأظهر أمره، وأنكروا إمامة محمد أخيه، وقالوا: إنما فعل ذلك أبوه اتقاء عليه ودفاعاً عنه، وكان الإمام في الحقيقة جعفر بن علي(1).
موقف الحسن العسكري رحمه الله وأهل بيته وأصحابه من النص:
رجع بنا الحديث إلى الإمام العسكري الحسن بن علي رحمه الله المتوفى سنة (260) للهجرة، وموقف أصحابه وأهل بيته.
لقد أدى الارتياب والشك عند شيعة الهادي في الإمام بعده إلى التطلع بلهفة إلى أي شخص كان لبيان الحق لهم، وكأن تلك النصوص التي مرَّت بك منذ أول الكتاب لم تكن.
فعن أحمد بن إسحاق قال: دخلت على أبي محمد، فقال لي: يا أحمد، ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتياب؟ قلت: لما ورد الكتاب بخبر مولد سيدنا، لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق، قال: أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالى(2).
رغم ذلك فقد كان الحسن نفسه خائفاً -بزعم القوم- من أن يخرج من الدنيا دون أن يرى الخلف من بعده(3).
__________
(1) فرق الشيعة: (94).
(2) كمال الدين: (128)، البحار: (23/38) (50/335).
(3) كمال الدين: (376)، البحار: (51/161).(1/227)
بل إن من عرفه وَدَّ أنه صاح في الناس بإمامته لولا النهي، كما يروي محمد بن عبدالعزيز البلخي حيث قال: أصبحت يوماً فجلست في شارع الغنم، فإذا بأبي محمد قد أقبل من منزله يريد دار العامة، فقلت في نفسي: ترى إن صحت: أيها الناس، هذا حجة الله عليكم فاعرفوه يقتلوني؟ فلما دنا مني أومأ بإصبعه السبابة على فيه أن اسكت، ورأيته تلك الليلة يقول: إنما هو الكتمان أو القتل فاتق الله على نفسك(1).
وأنت عليم -أيها القارئ- أن العسكري يعلم وهو يأمر البلخي بالكتمان أن الرسولصلى الله عليه وسلم وكذا الأئمة لم يكتموا ذلك عندما قالوا -كما يدعي القوم- بإمامته بعد أبيه الهادي.
وآخر لا يدري إن كان له ولد أصلاً أو لا، فعن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد: جلالتك تمنعني عن مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟ قال: سل، قلت: يا سيدي، هل لك ولد؟ قال: نعم، قلت: فإن حدث حدث فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة(2).
بل طال ذلك خَدَمَه الذين لا يفترض ذلك منهم، فعن أبي الأديان قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علته التي توفي فيها، فكتب معي كتباً، وقال: تمضي بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الناعية في داري، وتجدني على المغتسل، قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي، فإذا كان ذلك فمن؟
__________
(1) كشف الغمة: (3/302)، البحار: (50/290)، إثبات الهداة: (3/421).
(2) غيبة الطوسي: (139)، البحار: (51/161)، الكافي: (1/328)، إثبات الهداة: (3/441).(1/228)
قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم بعدي، قلت: زدني، فقال: من يصلي علي فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي، ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان؟ وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي، فإذا أنا بالناعية في داره، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعة حوله يعزونه ويهنئونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة لأني كنت أعرفه بشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد، فقال: يا سيدي، قد كفن أخوك فقم للصلاة عليه، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله.. الخبر(1).
وجعفر هذا ادعى الإمامة(2) بعد أخيه العسكري وأنكر أن يكون لأخيه عقب وقد حاز على ميراثه، ولا غرابة في هذا لما مر بك من ادعاء الكثير من أهل بيت النبوة للإمامة، حتى رووا عن الصادق: لا يخرج القائم حتى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه(3).
وفي رواية: خروج اثني عشر من آل أبي طالب كلهم يدَّعي الإمامة لنفسه(4).
وقد عرفت منزلةَ بعض هؤلاء الذين خرجوا عند حديثنا عنهم، ويسمى جعفر هذا بالكذاب تمييزاً له عن الصادق، وروى القوم في ذلك أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، منها قوله: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه الصادق، فإنه يكون في ولده سمي له يدعي الإمامة بغير حقها ويسمى كذاباً.
__________
(1) كمال الدين: (431)، البحار: (50/332) (52/67)، إثبات الهداة: (3/485).
(2) انظر روايات أخرى في جعفر وادعائه الإمامة وافتتان الناس به: كمال الدين: (301، 405)، غيبة الطوسي: (133)، إثبات الهداة: (3/363).
(3) غيبة الطوسي: (267)، الإرشاد: (358)، البحار: (52/209).
(4) الإرشاد: (357)، البحار: (52/220).(1/229)
وفي رواية: فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على الله وكذباً عليه، فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله(1).
وقد ورد في قدحه عن الأئمة من الروايات الكثير، إلا أن هناك رواية تفسد كل هذا، روى القوم عن إسحاق بن يعقوب: أنه سأل القائم عن مسائل أشكلت عليه، فورد التوقيع بخط القائم: أما ما سألت عنه -أرشدك الله وثبتك- من أمر المنكرين من أهل بيتنا وبني عمنا فاعلم أنه ليس بين الله عز وجل وبين أحدٍ قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح، وأما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف عليه السلام (2).
ووجه الدلالة غير خافية في الرواية، فالكتاب العزيز قد دلَّ على توبة إخوة يوسف عليه السلام، وواضع هذه الرواية فاته الحديث السابق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: جعفر الكذاب المفتري على الله. بزعمهم.
افتراق الشيعة بعد وفاة العسكري:
أما موقف الشيعة بعد وفاة العسكري المتوفى سنة (260) للهجرة، فإليك بيانه بإيجاز:
افترق أصحابه إلى فرق كثيرة جاوزت العشر، منها:
فرقة قالت: إن الحسن بن علي حي لم يمت وإنما غاب، وهو القائم، ولا يجوز أن يموت، ولا ولد له ظاهراً؛ لأن الأرض لا تخلو من إمام.
وفرقة قالت: إن العسكري مات وعاش بعد موته وهو القائم المهدي؛ لأنا روينا أن معنى القائم هو أن يقوم من بعد الموت ويقوم ولا ولد له ولو كان له ولد لصح موته ولا رجوع، لأن الإمامة كانت تثبت لخلفه، ولا أوصى إلى أحدٍ فلا شك أنه القائم، والحسن بن علي قد مات لا شك في موته ولا ولد له ولا خلف ولا أوصى إذ لا وصية له ولا وصي، وأنه قد عاش بعد الموت.
__________
(1) علل الشرايع: (234)، كمال الدين: (184، 300)، الخرائج والجرائح: (195)، الاحتجاج: (173)، البحار: (36/386) (47/8، 9) (50/227)، إثبات الهداة: (1/275، 295).
(2) الاحتجاج: (163)، غيبة الطوسي: (176)، البحار: (50/227) (53/180)، كمال الدين: (439).(1/230)
وفرقة قالت: إن الحسن بن علي توفي، والإمام بعده أخوه جعفر، وإليه أوصى الحسن، ومنه قبل الإمامة وعنه صارت إليه.
وفرقة قالت: إن الإمام بعد الحسن جعفر، وإن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن ولم يكن إماماً ولا الحسن أيضاً؛ لأن محمداً توفي في حياة أبيه، وتوفي الحسن ولا عقب له، وإنه كان مدعياً مبطلاً، والدليل على ذلك: أن الإمام لا يموت حتى يوصي ويكون له خلف، والحسن قد توفي ولا وصي له ولا ولد، فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهراً معروفاً مشاراً إليه، ولا يجوز أيضاً أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر؛ لقول أبي عبدالله وغيره من آبائه: إن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر، وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه.
وفرقة قالت: إن الإمامة في محمد بن علي المتوفى في حياة أبيه، وزعمت أن الحسن وجعفر ادعيا ما لم يكن لهما، وأن أباهما لم يشر إليهما بشيء من الوصية والإمامة، ولا روي عنه في ذلك شيء أصلاً، ولا نص عليهما بشيء يوجب إمامتهما ولا هما في موضع ذلك، وخاصة جعفر؛ فإن فيه خصالاً مذمومة وهو بها مشهور، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل، وأما الحسن فقد توفي ولا عقب له، فعلمنا أن محمداً كان الإمام، وقد صحت الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفي ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف.(1/231)
وفرقة قالت: إنه ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، وإن الذين ادعوا له ولداً في حياته كاذبون في حياته مبطلون في دعواهم؛ لأن ذلك لو كان لم يخف كما لم يخف غيره ولكنه مضى ولم يعرف له ولد، ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف، وقد كان الحبل فيما مضى قائماً ظاهراً ثابتاً عند السلطان وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك حتى بطل بعد ذلك عند السلطان وخفي أمره، فقد ولد له ابنٌ بعد وفاته بثمانية أشهر، وقد كان أمر أن يسمى محمداً وأوصى بذلك وهو مستور لا يُرى، واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبرٍ يُروى عن أبي الحسن الرضا أنه قال: ستبلون بالجنين في بطن أمه والرضيع.
وفرقة قالت: إنه لا ولد للحسن أصلاً، لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه فلم نجده، ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن وقد توفي ولا ولد له إن له ولداً خفياً لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال: خلف ابناً نبياً رسولاً، وكذلك عبدالله بن جعفر بن محمد أنه خلف ابناً، وأن أبا الحسن الرضا خلَّف ثلاثة بنين غير أبي جعفر، أحدهم: الإمام؛ لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف ذكراً من صلبه ولا خلف عبدالله بن جعفر ابناً ولا كان للرضا أربعة بنين، فالولد قد بطل لا محالة.(1/232)
وفرقة قالت:إن الحسن بن علي قد صحت وفاة أبيه وجده وسائر آبائه، فكما صحت وفاته بالخبر الذي لا يكذب مثله، فكذلك صح أنه لا إمام بعد الحسن، وذلك جائز في العقول والتعارف كما جاز أن تنقطع الإمامة، وقد روي عن الصادقين أن الأرض لا تخلو من حجة إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم، فيرفع عنهم الحجة إلى وقت، والله عز وجل يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة، وهذا جائز أيضاً من وجه آخر، كما جاز ألا يكون قبل النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين عيسى عليه السلام نبي ولا وصي، ولما روينا من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات، ورووا ثلاثمائة سنة، وروي مائتا سنة ليس فيها نبي ووصي، وقد قال الصادق: إن الفترة هي الزمان الذي لا يكون فيه رسول ولا إمام، والأرض اليوم بلا حجة إلا أن يشاء الله فيبعث القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وفرقة قالت: إن أبا جعفر محمد بن علي الميت في حياة أبيه كان الإمام بوصية من أبيه إليه وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وَعَيْنِه.
وفرقة قالت: لما سئلوا: هل الإمام جعفر أم غيره؟ لا ندري ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من إخوته، فقد اشتبه علينا الأمر، إنا نقول: إن الحسن بن علي كان إماماً وقد توفي، وإن الأرض لا تخلو من حجة ونتوقف، ولا نقدم على شيء حتى يصح لنا الأمر ويتبين.(1/233)
وفرقة قالت: إن الحسن بن علي توفي وإنه كان الإمام بعد أبيه، وإن جعفر بن علي الإمام بعده كما كان موسى بن جعفر إماماً بعد عبد الله بن جعفر؛ للخبر الذي روي أن الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى، وإن الخبر الذي روي عن الصادق أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين صحيح لا يجوز غيره، وإنما ذلك إذا كان للماضي خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه بل تثبت في خلفه، وإذا توفي ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة؛ لأن هذا معنى الحديث عندهم، وكذلك قالوا في الحديث الذي روي أن الإمام لا يغسله إلا إمام وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره، وأقروا أن جعفر بن محمد غسله موسى، وادعوا أن عبدالله أمره بذلك؛ لأنه كان الإمام من بعده وإن جاز أن من يغسله موسى؛ لأنه إمام صامت في حضرة عبدالله، وهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولداً، والإمام عندهم جعفر بن علي على هذا التأويل.
وفرقة قالت: إن الإمام بعد الحسن ابنه محمد وهو المنتظر غير أنه مات وسيحيى ويقوم بالسيف فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وفرقة قالت: ليس القول كما قال هؤلاء كلهم؛ بل لله عز وجل في الأرض حجة، وإن للحسن بن علي ابناً سماه محمداً ودلَّ عليه وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفي ولا خلف له، ومحمد هذا هو القائم، وإن له غيبتين: الصغرى منهما يوم توفي أبوه العسكري، والكبرى بدأت من وفاة أبي الحسين علي بن محمد السمري آخر السفراء الأربعة، ولا يعلم انتهاءها إلا الله عز وجل (1).
__________
(1) انظر تفصيل هذه الفرق في: فرق الشيعة: (96) وما بعدها، الفصول المختارة: (261) وما بعدها، البحار: (37/20) وما بعدها (50/336).(1/234)
وهذه الفرقة الأخيرة هي التي تهمنا، وهي الإمامية الاثنا عشرية، وهي موضوع كتابنا هذا، ويبلغ تعداد الإمامية الاثني عشرية من الشيعة اليوم ما يزيد على المائة مليون نسمة حسب المصادر الشيعية(1)، من مجموع تعداد المسلمين والذي فاق المليار، ويختلف الآخرون مع الإمامية في صحة تعدادهم أنه قد بلغ المائة مليون، ويعدون ذلك من مبالغاتهم باعتبار أن العدد المذكور يشمل جميع فرق ومذاهب الشيعة السائدة في يومنا هذا كالزيدية والإسماعيلية والعلوية، فضلاً عن الفرق الباطنية في شبه القارة الهندية وغيرها.
وعلى أي حال، لسنا الآن بصدد مناقشة مسألة العدد.
المهدي المنتظر واختلاف الشيعة في: مولده، تاريخ ميلاده، اسم أمه، جواز تسميته:
وصل بنا الحديث إلى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن.
أقول: اضطربت الإمامية في شأن المهدي اضطراباً شديداً لا يكاد ينضبط بحالٍ من الأحوال، حتى إنه لم يغادر من شئونه وأحواله شيء، ويصعب علينا إيراد ذلك كله في هذه العجالة من أمر كتابنا هذا، إلا أننا -إن كان في العمر بقية- أن سنوفي هذا الموضوع حقه، ولكن إليك بيان ذلك بإيجازٍ شديد:
أول اختلاف يفاجأ به الباحث في مسألة مهدي القوم، هو الاختلاف الشديد عندهم في مولده، فاقرأ معي هذه الروايات، فهي واضحة الدلالة وتغني عن التعليق والإضافة.
يروي القوم أن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قالت: بعث إليَّ أبو محمد، فقال: يا عمة، اجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان، فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة وهو حجته في أرضه، فقلت له: ومن أمه؟ قال لي: نرجس، قلت له: والله جعلني فداك ما بها من أثر.
__________
(1) عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: (ص:5) (الحاشية)، الطبعة التاسعة (1992)، دار الصفوة -بيروت، دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية لجعفر السبحاني: (133).(1/235)
وفي رواية: فوثبت إلى نرجس، فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها أثراً من حبل، فعدت إليه فأخبرته بما فعلت فتبسم، ثم قال لي: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها.
وفي رواية: قال: إنا معاشر الأوصياء لسنا نحمل في البطون وإنما نحمل في الجنوب، ولا نخرج من الأرحام وإنما نخرج من الفخذ الأيمن من أمهاتنا؛ لأننا نور الله الذي لا تناله الدانسات، فجاءت تنزع خفي، وقالت لي: يا سيدتي، كيف أمسيت؟
فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي، فأنكرت قولي، وقالت: ما هذا يا عمة؟ فقلت لها: يا بنية، إن الله تبارك وتعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة، فجلست واستحيت، فلم أزل أرقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي.
وفي رواية: فلما ورد وقت صلاة الليل قمت ونرجس نائمة ما بها أثر ولادة، فأخذت في صلاتي ثم أوترت، فأنا في الوتر حتى وقع في نفسي أن الفجر قد طلع، فدخلتني الشكوك، فصاح بي أبو محمد من المجلس: لا تعجلي يا عمة فإن الأمر قد قرب، فبينا أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها، فقلت: اسم الله عليك، ثم قلت لها: تحسين شيئاً؟ قالت: نعم يا عمة، فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك، فوقع علي سبات لم أتمالك معه أن نمت، ووقع على نرجس مثل ذلك ونامت، فلم أنتبه إلا بحس سيدي المهدي، وصيحة أبي محمد يقول: يا عمة، هاتي ابني... الخبر(1).
وفي رواية: عن سعد بن عبدالله قال: لما توفي الحسن العسكري بعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء يعرفن الحبل، فدخلن على جواريه، فنظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حبل، فأمر بها فجعلت في حجرة ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم.
__________
(1) كمال الدين: (390، 393)، البحار: (51/2، 13، 17، 26)، إثبات الهداة: (3/409، 414)، إعلام الورى: (394)، دلائل الإمامة: (264).(1/236)
فلما دفن وتفرق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهموا عليها الحبل ملازمين لها سنتين وأكثر حتى تبين لهم بطلان الحبل فقسم ميراثه(1).
أما متى ولد؟ ففي رواية: سنة (254) للهجرة، وفي ثانية: (255) للهجرة، وفي ثالثة: (256) للهجرة، وفي رابعة: (257) للهجرة، وفي خامسة: (258) للهجرة(2).
أما اسم أمه: ففي رواية: نرجس، وفي ثانية: صقيل، وفي ثالثة: ريحانة، وفي رابعة: سوسن، وفي خامسة: حكيمة، وفي سادسة: خمط، وفي سابعة: مليكة، وفي ثامنة: مريم بنت زيد العلوية(3).
ومن أطرف ما قرأت في تفسير هذا التعدد، قول البعض: إن لها كل يوم اسماً(4)!
كذلك اختلفوا في جواز تسميته ورؤية شخصه، ووضعوا في ذلك روايات عن معظم الأئمة، منها:
__________
(1) كمال الدين: (52)، البحار: (50/329).
(2) انظر هذه الروايات في: البحار: (51/2، 4، 15، 16، 22، 23) (52/146) (53/4)، كمال الدين: (395، 397)، الإرشاد: (346)، إثبات الهداة: (3/441، 569، 570، 578، 580)، إعلام الورى: (393)، غيبة الطوسي: (139، 143، 147، 164، 241، 258)، كشف الغمة: (3/234)، جامع الرواة: (2/467)، دلائل الإمامة: (267).
(3) انظر هذه الروايات في: كمال الدين: (289، 396، 397)، غيبة الطوسي: (142، 143، 147، 164، 241)، الإرشاد: (346)، عيون الأخبار: (24)، البحار: (36/194) (51/2، 5، 13، 15، 17، 19، 23، 24، 28، 121، 293، 360) (52/16)، إثبات الهداة: (1/469) (3/365، 409، 410، 414)، إعلام الورى: (394)، الوسائل: (16/244)، جامع الرواة: (2/467)، دلائل الإمامة: (264)، منتخب الأثر: (320، 321).
(4) منتخب الأثر: (320)، أربعينية الخاتون آبادي: (ح:2).(1/237)
ما روي عن الباقر قال: سأل عمر أمير المؤمنين عن المهدي قال: يا ابن أبي طالب، أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ قال: أما اسمه فلا، إن حبيبي وخليلي عهد إليَّ ألا أحدث باسمه حتى يبعثه الله عز وجل وهو مما استودع الله عز وجل رسوله علمه.
وعن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على محمد بن علي الباقر، فقلت: جعلت فداك، قد عرفت انقطاعي إلى أبيك وأنسي به ووحشتي من الناس، قال: صدقت يا أبا خالد، تريد ماذا؟ قلت: جعلت فداك، قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفته لو رأيته في بعض الطرقات لأخذت بيده، قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟ قال: أريد أن تسميه لي حتى أعرفه باسمه، فقال: سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد، ولقد سألتني عن أمرٍ ما لو كنت محدثاً به أحداً لحدثتك، ولقد سألتني عن أمرٍ لو أن بني فاطمة عرفوه حرصوا على أن يقطعوه بضعة بضعة.
وعن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبدالله في مجلسه ومعي غيري، فقال لي: يا أبا عبدالله، إياكم والتنويه، يعني: باسم القائم.
وعنه قال: المهدي من ولدي الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته.
وعنه أيضاً قال: صاحب هذا الأمر رجل لا يسميه باسمه إلا كافر.
وعن الكاظم أنه قال: يخفى على الناس ولادته، ولا يحل لهم تسميته.
وعن الرضا قال: لا يرى جسمه، ولا يسمى باسمه.
وعن الجواد قال: القائم هو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيّه.
وعن أبي هاشم الجعفري قال: سمعت أبا الحسن العسكري يقول: الخلف من بعد الحسن ابني، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ قلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: لأنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه، قلت: فكيف نذكره؟ فقال: قولوا: الحجة من آل محمد.
وعن عبد العظيم الحسني، عن أبي الحسن الثالث أنه قال في القائم: لا يحل ذكره باسمه.(1/238)
بل روى القوم ذلك عن المهدي نفسه، فعن علي بن عاصم الكوفي قال: خرج في توقيعات صاحب الزمان: ملعون ملعون من سماني في محفلٍ من الناس.
وفي رواية: من سماني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله.
وعن الحميري أنه سأل العمري عن اسم القائم؟ فقال: إياك أن تبحث عن هذا، فإن عند القوم أن هذا النسل قد انقطع(1).
ومسألة النهي عن تسميته من أغرب المسائل وأطرفها بعد كل هذه المئات من الروايات التي ملأ القوم كتبهم منها، والتي ذكرنا بعض مصادرها في مقدمة الباب عند ذكر سلسلة الأئمة، وأن الإمام بعد الحسن العسكري ابنه محمد، بنص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكذا الأئمة.
ولعلماء القوم في هذه المسألة تأويلات وأقوال وردود، منها: أن الصدوق لما أورد روايات فيها ذكر اسمه، قال تعليقاً على إحداها: جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم، والذي أذهب إليه النهي عن تسميته(2).
__________
(1) انظر هذه الروايات في:البحار:(3/268)(26/308)(36/412)(50/240)(51/31، 32، 33، 36، 144، 145، 147، 149، 150، 157، 158)(52/28، 198، 283)(53/184)(69/1،2)، إثبات الهداة: (1/543) (3/393، 395، 440، 477، 490، 510، 579)، أمالي الصدوق:(204)، كمال الدين: (313، 318، 345، 353، 378، 405، 438، 586، 587، 588)، غيبة الطوسي: (131، 202، 281)، كفاية الأثر: (38، 326)، الكافي: (1/332)، الإرشاد: (338، 349، 363)، إعلام الورى:(351، 434)، غيبة النعماني: (194)، كشف الغمة: (3/245)، روضة الواعظين: (2/266).
(2) كمال الدين: (178)، عيون الأخبار: (24)، البحار: (36/194) (51/32).(1/239)
وقال الإربلي: من العجيب أن الشيخ الطبرسي والشيخ المفيد رحمهما الله تعالى قالا: إنه لا يجوز ذكر اسمه ولا كنيته، ثم يقولان: اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته كنيته عليهما الصلاة والسلام، وهما يظنان أنهما لم يذكرا اسمه ولا كنيته، وهذا عجيب! والذي أراه أن المنع من ذلك إنما كان للتقية في وقت الخوف عليه والطلب له والسؤال عنه، فأما الآن فلا، والله أعلم(1).
أقول: وأعجب منه تعليل الإربلي نفسه -بما لا أعرف وجهة الحاجة إليه- وهو القول بالتقية في هذه المسألة في أمرٍ قد فرغ منه بزعم القوم بنص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على إمامته بعد أبيه العسكري كما مرَّ بك.
اضطراب الشيعة في تأويل حديث: (اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي):
وعلى ذكر قوله: اسمه اسم النبي وكنيته كنيته، فقد وردت من طرق عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي قوله: يواطيء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي(2).
وهذه الأحاديث تعني ببساطة: أن المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبدالله، أما مهدينا هذا فاسمه محمد بن الحسن، إذاً ماذا كان موقف القوم من هذا؟
في حقيقة الأمر اضطربت آراؤهم في هذه المسألة بين مختصر للطريق، وذلك بالقول بضعف أسانيد هذه الروايات، إلى مؤول لها تأويلاً بعيداً؛ كما ستقف عليه من هذه الأقوال:
منها قولهم: إنه سائغ وشائع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب على الجد، أو أن لفظة الاسم تطلق على الكنية وعلى الصفة.
__________
(1) كشف الغمة: (3/326)، وكذا علل ذلك الحر العاملي، انظر: إثبات الهداة: (3/470، 490)، كمال الدين: (438) (الحاشية)، عيون الأخبار: (1/68) (الحاشية).
(2) أمالي الطوسي: (362)، غيبة الطوسي: (112)، كشف الغمة: (3/235، 271، 277)، البحار: (28/46) (37/2) (51/42، 74، 82، 84، 86، 102، 103) (52/189)، إثبات الهداة: (3/594، 598)، ملاحم ابن طاوس: (132، 162)، غيبة النعماني: (152).(1/240)
ومنهم من قال: إن المهدي من ولد أبي عبدالله وكانت كنية الحسين أبا عبدالله، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم على الكنية لفظة الاسم لأجل المقابلة بالاسم في حق أبيه، وأطلق على الجد لفظة الأب، فكأنه عليه السلام قال: يواطيء اسمه اسمي، فأنا محمد وهو محمد، وكنية جده اسم أبي إذ هو أبو عبدالله(1).
ومنهم من قال: إن كنية الحسن العسكري أبو محمد، وعبدالله أبو النبي صلى الله عليه وسلم أبو محمد، فتتوافق الكنيتان والكنية داخلة تحت الاسم(2).
ومنهم من قال: لما كان المهدي يخرج بعد دهر طويل من ولادته، لا يمكنه في بدء دعوته أن يعرف نفسه ويحقق نسبه بأنه محمد بن الحسن بن علي لعدم الجدوى بذلك، ولأن أهل مكة -حيث يظهر- غير معترفين بغيبته دهراً طويلاً ولا بإمامة آبائه، فهو إنما يعرف نفسه بأنه محمد بن عبدالله، يعني: أن اسمه الشريف محمد، وأن أباه عبد من عباد الله الصالحين(3).
ومنهم من قال: إن كلمة [أبي] مصحفة، وإنما هي [ابني](4).
ومنهم من قال: إنما هي [نبي](5).
ومنهم من قال: إن كلمة [أبي] قد زيدت في هذه الأحاديث(6).
__________
(1) كشف الغمة: (3/240، 277)، البحار: (51/103، 86)، غيبة الطوسي: (113) (الحاشية).
(2) البحار: (51/103)، غيبة الطوسي: (112) (الحاشية).
(3) البحار: (28/46) (الحاشية).
(4) البحار: (28/46) (51/104) (وعند نقله لهذه الرواية من المصدر -أمالي الطوسي: (362)- والذي أورده هكذا: واسم أبيه اسم أبي، جعلها هكذا: واسم أبيه اسم ابني) (51/67، 86)، غيبة الطوسي: (112) (الحاشية)، وكذا فعل العاملي في: إثبات الهداة: (3/518)، معجم أحاديث المهدي: (1/178).
(5) معجم أحاديث المهدي: (1/187).
(6) كشف الغمة: (3/277)، إثبات الهداة: (3/518)، معجم أحاديث المهدي: (1/178).(1/241)
النهي عن كتابة اسمه:
نبقى مع القوم في مسألة النهي عن التسمية، ونقول: إن هذا النهي شمل كتابة اسمه أيضاً، فإذا أراد أحد ممن يرى هذا النهي كتابة اسمه نراه يكتبه على هذا النحو: (م ح م د) هكذا بحروف مقطعة، فلذا تجد هذه الطريقة في كتابة اسمه مألوفة وكثيرة في كتب القوم(1).
طريقة نشأته، مدة غيبته الصغرى، علة غيبته، تاريخ خروجه، مكان خروجه، عمره عند خروجه، مدة ملكه بعد خروجه:
أما طريقة نشأته، فقد علمت من تواريخ ميلاده التي ذكرناها أنه بعد وفاة أبيه العسكري لم يكن قد تجاوز السنتين إلى الست سنوات من عمره، بحسب الاختلاف الذي أوردناه هناك في تاريخ ميلاده.
إذاَ: لابد للقوم من حل لهذا الإشكال، ولهذا وضعوا هذه الروايات:
عن حكيمة -التي مرَّت بك روايتها لمولد المهدي- قالت: بعد أن كان أربعون يوماً دخلت عليه فإذا أنا بصبي متحرك يمشي بين يديه، فقلت: سيدي، هذا ابن سنتين؟ فتبسم ثم قال: إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإن الصبي منا إذا أتى عليه شهر كان كمن يأتي عليه سنة، وإن الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عز وجل، وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه كل صباح ومساء، فلم أزل أرى ذلك الصبي كل أربعين يوماً إلى أن رأيته رجلاً قبل مضي أبي محمد بأيام قلائل فلم أعرفه، فقلت لأبي محمد: من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال: ابن نرجس، وهو خليفتي من بعدي(2).
__________
(1) انظر مثلاً: كمال الدين: (314، 395، 405)، مهج الدعوات: (345)، غيبة الطوسي: (105، 144، 149)، أمالي الطوسي: (182)، البحار: (48/15) (50/314) (51/4، 24، 144، 161) (52/16، 17، 34، 40، 110، 171، 378) (53/143، 148، 206) (86/61)، إثبات الهداة: (1/455) (3/441، 509)، الكافي: (1/329، 514، 528)، المستدرك: (5/74)، إعلام الورى: (404).
(2) كمال الدين: (394)، البحار: (51/14) (53/327).(1/242)
وفي رواية يبدو فيها أن واضعها قد استبطأ الطريقة السابقة، فروى عن العسكري أنه قال لحكيمة: أما علمت أنا معشر الأوصياء ننشأ في اليوم ما ينشأ غيرنا في الجمعة، وننشأ في الجمعة ما ينشأ غيرنا في السنة(1).
وجاء آخر يبدو أنه في عجلة من أمره، فجعل أمر اليوم كسنة، فروى أن العسكري قال: يا عمتي، أما علمتِ أنا معاشر الأئمة ننشأ في اليوم ما ينشأ غيرنا في السنة(2).
وهكذا حل الإشكال.
وكذلك الاختلاف حصل في مدة غيبته الصغرى بين (69) سنة و(74) سنة(3)، بين من جعل ابتداء ذلك من تاريخ مولده -وقد عرفت الاختلاف في ذلك- وبين من جعل ذلك من وفاة أبيه العسكري (260) للهجرة، وحصل بذلك عندك خمسة تواريخ لبدء غيبته، والغريب من جعل ذلك سنة ست وستين ومائتين(4)، وست وسبعين ومائتين أيضاً(5).
أما علة الغيبة فإليك الاختلاف:
عن حنان بن سدير عن أبيه قال: عن أبي عبدالله قال: إن للقائم منا غيبة يطول أمدها، فقلت له: ولم ذاك يا ابن رسول الله؟ قال: إن الله عز وجل أبى إلا أن يجري فيه سنن الأنبياء عليهم السلام في غيباتهم، وإنه لابد له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم(6).
ومنهم من جعل علة الغيبة الخوف من القتل، فرووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا بد للغلام من غيبة، فقيل له: ولم يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل(7).
__________
(1) البحار: (51/27).
(2) غيبة الطوسي: (144)، البحار: (51/20، 27، 293).
(3) منتخب الأثر: (358)، البحار: (51/44، 138، 366).
(4) البحار: (53/6)، إثبات الهداة: (3/586).
(5) البحار: (51/44).
(6) علل الشرايع: (1/234)، كمال الدين: (437)، البحار: (51/142) (52/90).
(7) علل الشرايع: (1/234)، البحار: (52/90، 97)، إثبات الهداة: (3/498).(1/243)
وعن زرارة قال: سمعت أبا جعفر يقول: إن للغلام غيبة قبل ظهوره، قلت: ولم؟ قال: يخاف، وأومأ بيده إلى بطنه، قال زرارة: يعني القتل(1).
وفي رواية: يخاف على نفسه الذبح(2).
وعن الباقر قال: إذا ظهر قائمنا أهل البيت، قال: ((فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ)) [الشعراء:21](3).
ومنهم من جعل علة الغيبة لئلا يكون في عنقه لأحدٍ بيعة إذا خرج، فعن إسحاق بن يعقوب قال: إنه ورد عليه من الناحية المقدسة على يد محمد بن عثمان: وأما علة ما وقع من الغيبة فإن الله عز وجل يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)) [المائدة:101] إنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحدٍ من الطواغيت في عنقي(4).
وعن أبي عبدالله قال: صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على الخلق؛ لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج(5).
أقول: وفي هذه الروايات دليل على بيعة كل إمام لخليفة زمانه، وفي هذا إشكال لا يخفى على القارئ البصير.
__________
(1) كمال الدين: (321، 325)، علل الشرايع: (1/246)، غيبة النعماني: (118)، غيبة الطوسي: (202)، البحار:(52/91، 95، 97، 98، 146)، إثبات الهداة:(3/443، 444، 472، 487، 571).
(2) كمال الدين: (437)، البحار: (52/97)، إثبات الهداة: (3/487).
(3) غيبة النعماني: (116)، كمال الدين: (308)، البحار: (52/157، 281، 292، 385)، نور الثقلين: (4/49)، تأويل الآيات: (1/388)، البرهان: (3/183)، إثبات الهداة: (3/468، 535، 562، 583).
(4) كمال الدين: (436)، الاحتجاج: (263)، البحار: (52/92، 279) (53/181) (78/380)، غيبة الطوسي: (177).
(5) كمال الدين: (53)، البحار: (51/132) (52/95، 96، 289).(1/244)
ومنهم من جعل علة ذلك سُوءَ أعمال العباد وكراهية الله لجوار الأئمة لهم، كما في الرواية: ما هو محجوب عنكم ولكن حجبه سوء أعمالكم(1).
قال الطوسي: وفيه إشارة إلى أن من ليس له عمل سوء فلا شيء يحجبه عن إمامه(2).
أقول: وفيه إشارة إلى عدم خلو أناس هذا الزمان من سوء الأعمال.. فتدبر!
وعن مروان الأنباري قال: خرج من أبي جعفر: إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم(3).
أقول: يبدو أن هذه الكراهية لازالت قائمة، نسأل الله العافية.
ومنهم من لم ير كل ما ذكرناه، فأبهم العلة وجعلها خافية، فرووا أن مهديهم قال: أغلقوا أبواب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا على ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج(4).
وعن عبدالله بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لا بد منها، يرتاب فيها كل مبطل، فقلت له: ولم جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم، وإن هذا الأمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله(5).
أما متى يخرج؟
فهذه هي الطامة الكبرى والبلية العظمى، ولا زالت الشيعة تربى بالأماني إلى يومنا هذا، أما الاختلاف في ذلك فإليك بياناً موجزاً عنه:
فعن محمد بن الفضيل، عن أبي جعفر قال: ستبقون ستة من دهركم لا تعرفون إمامكم، قلت: وكم الستة جعلت فداك؟ قال: ستة أيام، أو ستة أشهر، أو ست سنين، أو ستون سنة(6).
__________
(1) البحار: (53/321).
(2) البحار: (53/321).
(3) البحار: (52/90)، إثبات الهداة: (3/447).
(4) كمال الدين:(2/162)، الاحتجاج:(263)، غيبة الطوسي:(177)، البحار:(52/92)(53/181).
(5) البحار: (52/91)، إثبات الهداة: (3/488).
(6) إثبات الهداة: (3/576)، البحار: (51/118، 134).(1/245)
ثم جاءت الروايات أكثر تحديداً، فعن عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله قال: في القائم سنة من موسى بن عمران، فقلت: وما سنته من موسى بن عمران؟ قال: خفاء مولده وغيبته عن قومه، فقلت: وكم غاب موسى عن أهله وقومه؟ قال: ثمانياً وعشرين سنة(1).
وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله قال: إذا فقد الناس الإمام مكثوا سبتاً لا يدرون من أي، ثم يظهر الله عز وجل لهم صاحبهم(2).
وفي رواية: عن الباقر: ثم يقيم سبتاً من دهركم لا تدرون أياً من أي، فبينما أنتم كذلك إذ أطلع الله نجمكم فاحمدوه واقبلوه(3).
والسبت -كما مرَّ بك- ثلاثون سنة(4).
وعلى هذا فقد مرت عشرات السبتات منذ غيبة صاحبنا، ولم يظهر نجمه لنحمد الله ونقبله.
وعن الأودي قال: إن المهدي سأله: أتعرفني؟ فقلت: اللهم لا، قال: أنا المهدي، أنا قائم الزمان، أنا الذي أملؤها عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، إن الأرض لا تخلو من حجة، ولا يبقى الناس في فترة أكثر من تيه بني إسرائيل، وقد ظهر أيام خروجي، فهذه أمانة في رقبتك فحدِّث بها إخوانك من أهل الحق(5).
أقول: مضى على هذه الرواية حوالي (14) قرناً، وتيه بني إسرائيل كما في سورة المائدة: آية: (26) إنما كان أربعين سنة.
وعن الثمالي قال: قلت لأبي جعفر: إن علياً كان يقول: إلى السبعين بلاء، وكان يقول: بعد البلاء رخاء، وقد مضت السبعون ولم نر رخاء؟
__________
(1) كمال الدين: (303)، إثبات الهداة: (3/459، 471)، البحار: (51/216).
(2) غيبة النعماني: (102)، إثبات الهداة: (3/547).
(3) إثبات الهداة: (3/533)، البحار: (51/148).
(4) معاني الأخبار: (403)، الكافي: (1/452)، البحار:(15/263)(35/6، 77)(38/47)، إثبات الهداة: (1/153) (2/13).
(5) غيبة الطوسي: (63)، كمال الدين: (2/199)، البحار: (52/2).(1/246)
فقال أبو جعفر: يا ثابت، إن الله تعالى كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة سنة، فحدثناكم فأذعتم الحديث، وكشفتم قناع الستر فأخره الله(1).
أقول: سواء كان الأمر حسب التوقيت الأول (أي: أيام الحسين رضي الله عنه) أو الآخر (أي: أيام الصادق رحمه الله) فهما لا يستقيمان إذا علمنا أن المهدي هو ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر، فكيف يخرج من لم يولد بعد؟ وأين القول بالاثني عشر؟ ففي الرواية إسقاط ثمانية أئمة باعتبار التوقيت الأول، وخمسة باعتبار التوقيت الآخر، وهذا إشكال متروك حله إلى القوم، والغريب قول الصادق: كان هذا الأمر فيَّ فأخره الله، ويفعل بعدُ في ذريتي ما يشاء(2)!
وعن علي بن الحسين قال: يقوم قائمنا لموافاة الناس سنة، قال: يقوم القائم بلا سفياني، إن أمر القائم حتم من الله، وأمر السفياني حتم من الله، ولا يكون قائم إلا بسفياني، قلت: جعلت فداك، فيكون في هذه السنة؟ قال: ما شاء الله، قلت: يكون في التي يليها؟ قال: يفعل الله ما يشاء(3).
وهذه الرواية كسابقتها، فيها مع افتراض التوقيت المذكور إسقاط بقية الأئمة، أما مسألة حتمية السفياني فهي موضع نظر عند القوم؛ لاحتمال البداء فيه، كما يروي القوم عن داود بن أبي القاسم قال: كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا، فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: نعم(4).
__________
(1) غيبة الطوسي: (263)، غيبة النعماني: (197)، الكافي: (1/368)، البحار: (4/114، 120) (42/223) (52/105).
(2) غيبة الطوسي: (263)، البحار: (4/114) (52/106).
(3) البحار: (52/182).
(4) غيبة النعماني: (205)، البحار: (52/250)، إثبات الهداة: (3/544).(1/247)
وعن البزنطي قال: سمعت الرضا يقول: يزعم ابن أبي حمزة أن جعفراً زعم أن أبي القائم وما علم جعفر بما يحدث من أمر الله، فوالله لقد قال الله تبارك وتعالى يحكي لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ)) [الأحقاف:9] وكان أبو جعفر يقول: أربعة أحداث تكون قبل قيام القائم تدل على خروجه، منها أحداث قد مضى منها ثلاثة وبقي واحد.
قلنا: جعلنا فداك، وما مضى منها؟ قال: رجب خلع فيه صاحب خراسان، ورجب وثب فيه علي بن زبيدة، ورجب يخرج فيه محمد بن إبراهيم بالكوفة، قلنا له: فالرجب الرابع متصل به؟ قال: هكذا قال أبو جعفر(1).
قال المجلسي في بيان الحديث: خلع صاحب خراسان كأنه إشارة إلى خلع الأمين المأمون عن الخلافة، وأمره بمحو اسمه عن الدراهم والخطب.
والثاني: إشارة إلى خلع محمد الأمين.
والثالث: إشارة إلى ظهور محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا بالكوفة لعشر خلون من جمادى الآخرة في قريب من مائتين من الهجرة، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: هكذا قال أبو جعفر، تصديق اتصال الرابع بالثالث، فيكون الرابع إشارة إلى دخوله خراسان، فإنه كان بعد خروج محمد بن إبراهيم بسنة تقريباً، ولا يبعد أن يكون دخوله خراسان في رجب(2).
أقول: مضى على هذه الحوادث الأربعة التي تكون قبل قيام القائم وتدل على خروجه كما في الرواية اثنا عشر قرناً.
__________
(1) البحار: (52/182).
(2) البحار: (52/184).(1/248)
وعن البزنطي أيضاً قال: سألت الرضا عن قرب هذا الأمر؟ فقال: قال أبو عبد الله، حكاه عن أبي جعفر قال: أول علامات الفرج سنة خمس وتسعين ومائة، وفي سنة ست وتسعين ومائة تخلع العرب أعنّتها، وفي سنة سبع وتسعين ومائة يكون الفنا، وفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة يكون الجلاء، فقال: أما ترى بني هاشم قد انقلعوا بأهاليهم وأولادهم؟ فقلت: لهم الجلاء؟ قال: وغيرهم، وفي سنة تسع وتسعين ومائة يكشف الله البلاء إن شاء الله، وفي سنة مائتين يفعل الله ما يشاء، فقلت له: جعلت فداك، إنك قلت لي في عامنا الأول: حكيت عن أبيك أن انقضاء ملك آل فلان على رأس فلان وفلان، وليس لبني فلان سلطان بعدهما، قال: قد قلت ذاك لك، فقلت: أصلحك الله، إذا انقضى ملكهم يملك أحد من قريش يستقيم عليه الأمر؟ قال: لا، قلت: يكون ماذا؟ قال: يكون الذي تقول أنت وأصحابك، قلت: تعني خروج السفياني؟ فقال: لا، فقلت: فقيام القائم، قال: يفعل الله ما يشاء، قلت: فأنت هو؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله(1).
هذه الرواية بالرغم من كل ما فيها من تورية وجهل بالقائم كسابقتها، ونحن الآن في القرن الخامس عشر للهجرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعن الباقر أنه سئل عن قول الله عز وجل: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)) [المعارج:1]؟ فقال: نار تخرج من المغرب، وملك يسوقها من خلفها حتى يأتي من جهة دار بني سعد بن همام عند مسجدهم، فلا تدع داراً لبني أمية إلا أحرقتها وأهلها، ولا تدع داراً فيها وتر لآل محمد إلا أحرقتها وذلك المهدي(2).
أقول: لعل بني أمية هؤلاء الذين جاءتهم النار من جهة دار بني سعد بن همام غير بني أمية الذين نعرف والذين ذهبت دولتهم، وكذا من جاء بعدهم من عباسيين وعثمانيين.
__________
(1) البحار: (52/184)، إثبات الهداة: (3/50).
(2) تفسير القمي: (2/374)، البرهان: (4/381)، نور الثقلين: (5/412)، الصافي: (5/224)، البحار: (52/188)، إثبات الهداة: (3/553).(1/249)
وعن الحسن بن إبراهيم قال: قلت للرضا: أصلحك الله، إنهم يتحدثون أن السفياني يقوم وقد ذهب سلطان بني العباس؟ فقال: كذبوا، إنه ليقوم وإن سلطانهم لقائم(1).
وعن الباقر قال: لا بد أن يملك بنو العباس، فإذا ملكوا واختلفوا وتشتت أمرهم خرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشرق، وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان(2).
وعن أبي بصير، عن أبي عبدالله قال: الله أجل وأكرم وأعظم من أن يترك الأرض بلا إمام عادل، قلت: جعلت فداك، فأخبرني بما أستريح إليه، قال: يا أبا محمد، ليس يرى أمة محمد فرجاً أبداً ما دام لولد بني فلان ملك حتى ينقرض ملكهم، فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لأمة محمد برجلٍ منا أهل البيت، يسير بالتقى، ويعمل بالهدى، ولا يأخذ في حكمه الرشا، والله إني لأعرفه باسمه واسم أبيه، ثم يأتينا الغليظ القصرة ذو الخال والشامتين القائد العادل الحافظ لما استودع، يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملأها الفجار جوراً وظلماً(3).
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: أتيت أمير المؤمنين خالياً، فقلت: يا أمير المؤمنين، متى القائم من ولدك؟ فتنفس الصعداء، وقال: إذا قتلت ملوك بني العباس، أولي العمى والالتباس، أصحاب الرمي عن الأقواس بوجوه كالتراس، وخربت البصرة، هناك يقوم القائم من ولدي الحسين(4).
أقول: انظر كم مضى على زوال الدولة العباسية ولم يخرج صاحبنا؟!
وعن ابن يقطين قال: قال لي أبو الحسن: يا علي، إن الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة.
__________
(1) غيبة النعماني: (205)، البحار: (52/251).
(2) غيبة النعماني: (117)، البحار: (52/234).
(3) البحار: (52/269).
(4) البحار: (52/275).(1/250)
وقال يقطين لابنه علي: ما لنا قيل لنا فكان، وقيل لكم فلم يكن؟ فقال له علي: إن الذي قيل لكم ولنا من مخرج واحد، غير أن أمركم حضركم فأعطيتم محضة، وكان كما قيل لكم، وإن أمرنا لم يحضر فعللنا بالأماني، ولو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب، ولرجعت عامة الناس عن الإسلام؛ ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه! تألفاً لقلوب الناس، وتقريباً للفرج(1).
ويقطين هذا كان من أتباع بني العباس، فقال لابنه علي الذي كان من خواص الكاظم: ما بالنا وعدنا دولة بني العباس على لسان الرسول والأئمة صلوات الله عليهم، فظهر ما قالوا، ووعدوا وأخبروا بظهور دولة أئمتكم فلم يحصل.
والرواية تتكلم عن قسوة القلوب والخوف من رجوع عامة الناس عن الإسلام لمئتي سنة أو ثلاثمائة سنة، لا أربعة عشر قرناً، ولعل في الروايات الآتية بياناً لكل ما مرَّ بك.
فعن أبي بصير قال: قلت له: ألهذا الأمر أمد نريح إليه أبداننا وننتهي إليه؟
قال: بلى، ولكنكم أذعتم فزاد الله فيه(2).
ولكن يبدو أن الموعد الجديد الذي أخر إليه قد أخر هو الآخر أيضاً، فعن إسحاق بن عمار قال: يا إسحاق، إن هذا الأمر قد أخر مرتين(3).
ولكن ماذا حصل للموعد الجديد، فقد مرَّت بك الرواية في قول الباقر: بأن الله تعالى قد وقَّت هذا الأمر في السبعين، فلما قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة سنة، فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع الستر فأخره الله.
ثم حسمت المسألة بتكذيب التوقيت مطلقاً، فعن الفضيل قال: سألت أبا جعفر: هل لهذا الأمر وقت؟ فقال: كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، كذب الوقاتون.
__________
(1) غيبة الطوسي: (207)، غيبة النعماني: (198)، البحار: (4/132) (52/102).
(2) غيبة الطوسي: (265)، غيبة النعماني: (194)، البحار: (52/105، 117).
(3) غيبة النعماني: (197)، البحار: (52/117).(1/251)
وعن منذر الجوار، عن أبي عبدالله قال: كذب الموقتون، ما وقتنا فيما مضى، ولا نوقت فيما يستقبل.
وعن مهزم الأسدي قال: سألت أبا عبدالله: أخبرني -جعلت فداك- متى يكون هذا الأمر الذي تنتظرونه فقد طال؟ فقال: يا مهزم، كذب الوقاتون، وهلك المستعجلون.
وعن محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله قال: من وقت لك من الناس شيئاً فلا تهابن أن تكذبه، فلسنا نوقت لأحدٍ وقتاً.
وعن أبي عبدالله قال: كذب الوقاتون، إنا أهل بيت لا نوقت، ثم قال: أبى الله إلا أن يخالف وقت الموقتين.
وعن إسحاق بن يعقوب أنه خرج إليه على يد محمد بن عثمان العمري: أما ظهور الفرج فإنه إلى الله وكذب الوقاتون.
وعن أبي عبدالله قال: إنا لا نوقت هذا الأمر.
وعنه أيضاً قال: حاشا لله أن يوقت ظهوره بوقت يعلمه شيعتنا(1).
وعلى أي حال، فالروايات في الباب كثيرة، ولكن من الذي وقت لنا؟
ونختم حديثنا عن الاختلاف في تاريخ خروجه بهذه الروايات، ففيها فرج ورفع حرج لحيرة المنتظرين:
فعن محمد بن مسلم وأبي بصير قالا: سمعنا أبا عبدالله يقول: لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثا الناس، فقلنا: إذا ذهب ثلثا الناس فمن يبقى؟ فقال: أما ترضون أن تكونوا في الثلث الباقي(2).
وعن جابر الجعفي قال: قلت لأبي جعفر: متى يكون فرجكم؟ فقال: هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا، ثم تغربلوا، ثم تغربلوا -يقولها ثلاثاً- حتى يذهب الكدر، ويبقى الصفو(3).
__________
(1) انظر هذه الروايات في: غيبة الطوسي: (262)، البحار: (4/132) (52/103، 104، 111، 118) (53/181) (78/380)، إثبات الهداة: (3/447، 544)، غيبة النعماني: (131، 195).
(2) غيبة الطوسي: (206)، البحار: (52/113، 207)، إثبات الهداة: (3/510).
(3) غيبة الطوسي: (206)، البحار: (52/113).(1/252)
وعن إبراهيم بن هليل قال: قلت لأبي الحسن: جعلت فداك، مات أبي على هذا الأمر وقد بلغت من السنين ما قد ترى، أموت ولا تخبرني بشيء؟ فقال: يا أبا إسحاق، أنت تعجل، فقلت: إي والله أعجل، وما لي لا أعجل وقد بلغت من السن ما ترى؟ فقال: أما والله يا أبا إسحاق ما يكون ذلك، حتى تميزوا وتمحصوا، وحتى لا يبقى منكم إلا الأقل، ثم صعَّر كفه(1).
وقال الرضا: والله ما يكون ما تمدون أعينكم إليه حتى تمحصوا وتميزوا، وحتى لا يبقى منكم إلا الأندر فالأندر(2).
فتأمل في عدد سكان العالم الآن، وانظر كيف يذهب أكثر من [66%] ولعل في ذلك دلالة على نشوب حرب عالمية أخرى تأتي على الأخضر واليابس، ويفنى فيها أكثر الناس حتى يعود من بقي منهم إلى ما كان عليه الناس من عصر السيوف والنبال.
ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن صاحبنا سيخرج بالسيف، كما في روايات القوم، ومنها: عن الصادق قال: لا يظهر إلا بالسيف(3).
وعن الحسن بن فضال، عن الرضا أنه قال: كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه، قلت له: ولم ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأن إمامهم يغيب عنهم، فقلت: ولم؟ قال: لئلا يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف(4).
وعن المفضل أنه سمع الصادق يقول: إن لصاحب الأمر بيتاً يقال له: بيت الحمد، فيه سراج يزهر منذ يوم ولد إلى يوم يقوم بالسيف لا يطفى(5).
__________
(1) غيبة النعماني: (139)، البحار: (52/113) (وصعر كفه، أي: أمالها تهاوناً بالناس).
(2) غيبة النعماني: (204)، البحار: (52/114)، وانظر رواية أخرى شبيهه لكن لأصحاب الصادق: البحار: (52/112)، غيبة النعماني: (111)، غيبة الطوسي: (218)، الكافي: (1/370).
(3) البحار: (51/148).
(4) البحار: (51/152) (52/96)، إثبات الهداة: (3/486).
(5) غيبة الطوسي: (280)، البحار: (52/158)، إثبات الهداة: (3/515، 580).(1/253)
وعن أبي جعفر الثاني قال: وله سيف مغمد، فإذا حان وقت خروجه اقتلع ذلك السيف من غمده وأنطقه الله عز وجل، فناداه السيف: اخرج يا ولي الله، فلا يحل لك أن تقعد عن أعداء الله(1).
وحددت بعض الروايات سيفه بأنه سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)، وفي بعضها بأنه ذو الفقار(3).
وكذلك أصحابه، فعن الصادق قال: إذا قام القائم أتى رحبة الكوفة فقال برجله هكذا، وأومأ بيده إلى موضع، ثم قال: احفروا ههنا، فيحفرون فيستخرجون اثني عشر ألف درع، واثني عشر ألف سيف، واثني عشر ألف بيضة، لكل بيضة وجهان، ثم يقول: من لم يكن عليه مثل ما عليكم فاقتلوه(4).
وعز على آخر أن تكون سيوفهم من الأرض فأنزلها من السماء، فعن الصادق: إذا قام القائم نزلت سيوف القتال على كل سيف اسم الرجل واسم أبيه(5).
وعلى أي حال، فالروايات الدالة على خروجه وكذا أصحابه بالسيوف كثيرة، ونجتزئ بما أوردناه(6).
__________
(1) كمال الدين:(157)، عيون الأخبار:(38)، إعلام الورى:(381)،البحار:(36/208)(52/311).
(2) إثبات الهداة: (3/588).
(3) البحار: (36/335) (52/171، 307، 361، 380)، غيبة النعماني: (209)، كفاية الأثر:(19).
(4) الاختصاص: (334)، البحار: (52/377)، إثبات الهداة: (3/558).
(5) غيبة النعماني: (162، 214)، البحار: (52/356).
(6) انظر: الإرشاد: (359)، غيبة النعماني: (103، 109، 122، 153، 154، 160)، كمال الدين: (302، 307، 316)، البحار: (2/201)(24/46، 310)(37/22)(51/50،51،58،148،217) (52/99، 202، 338، 347، 348، 353، 388، 389، 390) (100/58) (102/9)، إثبات الهداة: (3/440، 448، 451، 515، 522، 540، 568، 584، 588)، إعلام الورى: (402).(1/254)
عاد بنا الحديث إلى الاختلاف في شئونه، ومنها: في أي يوم سيكون خروجه وأين؟ عن الصادق قال: يوم النيروز هو اليوم الذي يظهر فيه قائمنا أهل البيت، وما من يوم نيروز إلا ونحن نتوقع فيه الفرج؛ لأنه من أيامنا حفظته الفرس وضيعتموه (1).
لا يفوتك أن تتدبر في مسألة انتظار الإمام السادس للثاني عشر في حياته، كما لا يفوتك مغزى الولاء لهذه الأعياد.
وفي قول: يوم عاشوراء يوم السبت(2).
وفي آخر: يوم الجمعة(3).
أما أين؟
ففي رواية: من قرية في اليمن تسمى كرعة(4).
وفي أخرى: مكة(5).
وكذلك الاختلاف في عمره عند خروجه، ففي بعض الروايات أنه ابن ثلاثين سنة.
وفي أخرى: اثنتين وثلاثين سنة.
وفي أخرى: ابن أربعين سنة.
وأخرى: ابن ثمانين سنة.
وأخرى: إن ذلك إلى الله عز وجل.
عن المفضل أنه سأل الصادق: يا سيدي، يعود شاباً أو يظهر في شيبته؟ فقال: سبحان الله! وهل يعرف ذلك؟ يظهر كيف شاء وبأي صورة شاء(6).
__________
(1) البحار: (52/276، 308) (59/119)، إثبات الهداة: (3/571).
(2) غيبة النعماني: (189)، الإرشاد: (362)، غيبة الطوسي: (274)، منتخب الأثر: (464، 365)، البحار:(52/285، 290، 297)، إثبات الهداة:(3/453، 491، 514، 543، 570).
(3) الخصال: (394)، البحار: (52/279)، إثبات الهداة: (3/496).
(4) كفاية الأثر: (20)، منتخب الأثر: (466)، النجم الثاقب: (ح:62)، البحار: (36/335) (51/95) (52/380).
(5) غيبة الطوسي: (112)، الكافي: (1/340)، غيبة النعماني: (119)، البحار: (52/153، 157)، منتخب الأثر: (467)، إثبات الهداة: (3/562، 565، 586).
(6) غيبة الطوسي: (258، 259)، البحار: (52/279، 285، 287، 319) (53/7)، غيبة النعماني:(99، 158)، كمال الدين:(2/366)، إثبات الهداة:(3/575)، إعلام الورى:(401).(1/255)
وكذا اختلف القوم في كم يملك عند خروجه، بين (7) سنوات، و(19) سنة، و(19) سنة وأشهر، و(40) سنة، و(70) سنة، و(120) سنة، و(309) سنوات(1).
نعود إلى حديثنا عن غيبة المهدي وحال المسلمين فيها، ونورد بعضاً مما أورده القوم عن الأئمة في ذلك حتى تنجلي الغمة ثم نعلق على ذلك بما يفتح الله علينا.
عن أمير المؤمنين رضي الله عنه قال: للقائم منا غيبة أمدها طويل، كأني بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه(2).
وقال: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى، ولا علم يرى، يبرأ بعضكم من بعض(3).
وقال: لا تنفك هذه الشيعة حتى تكون بمنزلة المعز لا يدري الخابس على أيها يضع يده، فليس لهم شرف يشرفونه، ولا سناد يستندون إليه في أمورهم(4).
وعن الباقر قال: لا يزالون ولا تزالون حتى يبعث الله لهذا الأمر من لا تدرون خلق أم لم يخلق(5).
__________
(1) انظر هذه الروايات في: غيبة الطوسي: (273، 283)، العياشي: (2/326)، البصائر: (130)، البحار: (52/280، 287، 291، 298، 299، 337، 338، 339، 340، 386، 390) (53/145، 146)، إثبات الهداة: (3/299، 512، 517، 528، 529، 547، 556، 557، 575، 584)، إعلام الورى:(342، 432، 434)، الإرشاد:(363)، غيبة النعماني: (99، 231، 232)، الاختصاص: (257).
(2) كمال الدين: (286)، غيبة النعماني: (127)، البحار: (51/109، 110، 114، 119)، إثبات الهداة: (3/463، 464، 486)، إعلام الورى: (400).
(3) غيبة الطوسي: (207)، البحار: (51/111) (52/112)، كمال الدين: (326)، إثبات الهداة: (3/473، 511).
(4) غيبة النعماني: (127)، روضة الكافي: (263)، البحار: (51/114) (52/110، 263).
(5) غيبة النعماني: (121، 122)، البحار: (51/139).(1/256)
وعن الصادق: إن للقائم غيبتين، يقال في أحدهما هلك، ولا يدرى في أي وادٍ سلك(1).
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المهدي من ولدي تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم(2).
وعن الصادق قال: أما والله ليغيبن عنكم مهديكم، حتى يقول الجاهل منكم: ما لله في آل محمد حاجة(3).
وعنه أيضاً قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات، ويقول بعضهم: قتل، ويقول بعضهم: ذهب، حتى لا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير، لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره، إلا المولى الذي يرى أمره(4).
وعن الكاظم قال: لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة؛ حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به(5).
وعنه أيضاً لما سُئِلَ عن تأويل قول الله عز وجل: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)) [الملك:30]؟ فقال: إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون(6).
وعن الصادق قال: إن لصاحب هذا الأمر غيبةً، المتمسك فيها بدينه كالخارط لشوك القتاد بيده(7).
__________
(1) غيبة النعماني: (115، 76)، كمال الدين: (2/16)، الكافي: (1/336)، غيبة الطوسي: (217، 205)، البحار:(52/156، 157، 228، 281)، إثبات الهداة: (3/473، 514، 533).
(2) البحار: (51/72).
(3) كمال الدين: (285، 287)، غيبة الطوسي: (207)، البحار: (51/68، 119، 135، 145) (52/101)، إثبات الهداة: (3/459، 463، 464، 472، 510، 532)، إعلام الورى: (400).
(4) غيبة الطوسي: (111)، غيبة النعماني: (89)، البحار: (52/153) (53/324).
(5) كمال الدين: (358)، غيبة الطوسي: (204)، البحار: (51/150) (52/113)، إثبات الهداة: (3/476).
(6) البحار: (24/100) (51/151)، نور الثقلين: (5/387)، الصافي: (5/206)، البرهان: (4/367)، إثبات الهداة: (3/476).
(7) البحار: (52/111، 135)، إثبات الهداة: (3/473).(1/257)
وعن العسكري قال: أما إنه له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون(1).
وعن الصادق قال: ثم يغيب في آخر يوم من سنة ست وستين ومائتين، فلا تراه عين أحد(2).
تكذيبه لمن سيدعي مشاهدته في غيبته الكبرى:
ويؤيد عدم الرؤية هذه ما أورده القوم عن المهدي نفسه في ذلك، حيث قال في التوقيع الذي خرج إلى السمري: يا علي بن محمد السمري، اسمع أعظم الله أجر إخوانك فيك، فأنت ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(3).
فما رأي القوم أن نقول لهؤلاء الذين ادعوا مشاهدته والفوز بلقائه ممن مضى وممن سيأتي، كما ملأ القوم كتبهم بقصصهم بأنهم كذابون ومفترون بضمانة هذه الرواية.
وعن الصادق قال: يفقد الناس إمامهم فيشهدهم الموسم فيراهم ولا يرونه(4)؟
وفي رواية: إن للقائم غيبتين يرجع في إحداهما والأخرى لا يدرى أين هو؟ يشهد المواسم، يرى الناس ولا يرونه(5).
وفي رواية: إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة، فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه(6).
__________
(1) البحار: (51/160)، إثبات الهداة: (3/482).
(2) البحار: (53/6).
(3) كمال الدين: (2/193)، غيبة الطوسي: (243)، البحار: (51/361) (52/151) (53/318).
(4) كمال الدين: (325، 330، 404)، غيبة الطوسي: (102)، غيبة النعماني: (116)، الكافي: (1/337، 339)، البحار: (52/151)، إثبات الهداة: (3/443، 500).
(5) غيبة النعماني:(117)، البحار:(52/156)، الكافي: (1/339)، إثبات الهداة: (3/444).
(6) كمال الدين:(2/114)، البحار:(52/152)، من لا يحضره الفقيه:(2/520)، إثبات الهداة:(3/452).(1/258)
الكلام في اللطف:
تقودنا هذه الروايات الصريحة بافتتان الخلق بغيبته، والصريحة باستحالة رؤيته، والمكذبة لمدعي رؤيته أو الفوز بلقائه إلى مسألة اللطف.
وقد مرَّ بك تعريف موجز عن مفهوم اللطف في أول الكتاب، حيث ذكرنا هناك أن الشيعة يعتقدون أن الإمامة كالنبوة لطف من الله تعالى، فلا بد أن يكون في كل عصرٍ إمام هادٍ يخلف النبي، من وظائفه: هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم، وإقامة العدل بينهم، ورفع الظلم والعدوان من بينهم، وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب نصب الإمام بعد الرسول(1).
وحيث إننا التزمنا في هذا الكتاب الابتعاد عن التأويلات الفلسفية والكلامية والترهات العقلية التي لا تجدي ولن تجدي، والتزمنا بالاقتصار على إيراد النصوص لما لها من وقع على نفس القارئ من حيث القبول والمصداقية، ولحجيتها الملزمة في مثل هذه المسائل عوضاً عن المتاهات الكلامية التي يعرف أصحابها سلفاً أنها ترويج لبضائع كاسدة لم يقتنع واضعوها بها فضلاً عمن وضعت له، نورد هنا بعضاً مما ذكره القوم ليتبين لنا حقيقة القول بهذا اللطف الذي صدعوا به الرءوس، ولبسوا فيه على النفوس.
رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية(2).
وعن الصادق: الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حي يعرف(3).
__________
(1) عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: (ص:89)، وانظر أيضاً: بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية: (273، 287) وما بعدها.
(2) الاختصاص: (268، 269)، البحار: (23/92).
(3) الاختصاص: (268، 269)، قرب الإسناد: (153)، البصائر: (143)، البحار: (23/2، 3، 30، 51) (49/267)، إثبات الهداة: (1/138، 139).(1/259)
وفي رواية: من مات وليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية، قيل: إمام حي؟ قال: إمام حي، إمام حي(1).
وعن يعقوب السراج قال: قلت لأبي عبدالله: تخلو الأرض من عالم منكم حي ظاهر تفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم؟ فقال: لا، إذاً لا يعبد الله يا يوسف(2).
وعن عمر بن يزيد، عن أبي الحسن الأول قال: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية، إمام حي يعرفه، فقلت: لم أسمع أباك يذكر هذا، يعني: إماماً حياً، فقال: قد والله قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية(3).
وعن الصادق: إن الله لا يدع الأرض إلا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم، وإذا نقصوا أكمله لهم، فقال: خذوه كاملاً، ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم ولم يفرق بين الحق والباطل(4).
والروايات كهذه كثيرة، وأقوال القوم فيها مضطربة(5)، ولكن من منهم اليوم يعرف إمام زمانه الحي والظاهر حتى يفزع إليه في حلاله وحرامه أو يسمع له ويطيع؟
__________
(1) الاختصاص: (269)، البحار: (23/92)، إثبات الهداة: (1/139).
(2) البصائر: (143)، علل الشرايع: (76)، البحار: (23/21، 51) (24/217)، إثبات الهداة: (1/120).
(3) الاختصاص: (269)، البحار: (23/92)، إثبات الهداة: (1/129، 139).
(4) علل الشرايع: (76، 77، 78)، البصائر: (96، 143، 289)، الاختصاص: (289)، كمال الدين: (117، 118، 128، 129)، غيبة النعماني:(68)، المحاسن:(235)، البحار:(23/21، 24-27،39) = = (26/178)، إثبات الهداة: (1/106، 108).
(5) انظر مثلا: إثبات الهداة: (1/139).(1/260)
وهكذا نجد أن القوم قد عادوا بنا إلى أصل الدعوى، وأصل الخلاف بإسقاط القول باللطف ووجوب العصمة، إقراراً منهم بعدم جدوى الحلول المتمثلة عند القوم بوجوب النص من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نصب الإمام بالتأويلات التي ذكرناها، إذ إن ذلك اللطف انتهى بوفاة العسكري، حيث عدنا إلى إلزامهم بالقول بالاضطرار إلى الحجة تماماً كحال المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بإسقاط أحد الأمرين للآخر.
ومعنى ذلك أن وجوب اللطف من الله، والمتمثل في نصب إمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم قائم تماماً بذات الأسباب بعد العسكري، وقد عرفت الحال بعده إلى يومنا هذا.
اقرأ معي هذه الروايات أيضاً: عن المغيرة قال: قلت لأبي عبدالله: يكون فترة لا يعرف المسلمون إمامهم فيها؟ قال: يقال ذلك، قلت: فكيف نصنع؟ قال: إذا كان ذلك فتمسكوا بالأمر الأول حتى يتبين لكم الآخر.
وفي رواية: إذا أصبحت وأمسيت يوماً لا ترى فيه إماماً من آل محمد، فأحب من كنت تحب، وأبغض من كنت تبغض، ووال من كنت توالي، وانتظر الفرج صباحاً ومساءً.
وفي أخرى: كيف أنتم إذا صرتم في حال لا يكون فيها إمام هدى ولا علم يرى، فلا ينجو من تلك الحيرة إلا من دعا بدعاء الغريق، فقيل: هذا والله البلاء فكيف نصنع -جعلت فداك- حينئذٍ؟ قال: إذا كان ذلك ولن تدركه، فتمسكوا بما في أيديكم حتى يصح لكم الأمر.
وفي أخرى: تمسكوا بالأمر الأول الذي أنتم عليه حتى يتبين لكم(1).
__________
(1) غيبة النعماني: (105)، الكافي: (1/342)، البحار: (52/132، 148، 149)، كمال الدين: (327، 328، 329)، إثبات الهداة: (3/446، 474، 475، 534).(1/261)
وعن عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن خاله الصادق قال: قلت له: إن كان كون ولا أراني الله يومك فبمن أأتم؟ فأومأ إلى موسى، فقلت له: فإن مضى فإلى من؟ قال: فإلى ولده، قلت: فإن مضى ولده وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أأتم؟ قال: بولده، ثم هكذا أبداً، فقلت: فإن أنا لم أعرفه ولم أعرف موضعه فما أصنع؟ قال: تقول: اللهم إني أتولى من بقي من حججك، من ولد الإمام الماضي، فإن ذلك يجزيك(1).
فالدلالة واضحة في هذه الروايات وأمثالها بانتفاء استمرارية اللطف الذي ألزمنا القوم به.
وكذلك لا تغتر بالقائل بالتمسك بأقوال الأئمة الماضين، فإن ذلك إن كان حاصلاً فكذلك في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته سواء بسواء.
وفيه فساد القول بالعصمة؛ لاحتمال تطرق الخطأ والزلل والنسيان والسهو من الناقلين لعلم الأئمة دون الإمام المعصوم عند القوم، وهذا ظاهر في اختلاف المراجع في العصر الواحد، كما لا يفوتك من هذه الروايات قول الصادق: يقال ذلك، ولا يفوتنك أيضاً جهل عيسى بن عبدالله بتسلسل الأئمة، فتدبر في ذلك.
وعن الصادق قال: يأتي على الناس زمان يصيبهم فيها سبطة، يأرز العلم فيها كما تأرز الحية في حجرها، فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم نجم، قلت: فما السبطة؟ قال: الفترة، قلت: فكيف نصنع فيما بين ذلك؟ قال: كونوا على ما أنتم عليه، حتى يطلع الله عليكم نجمكم.
وفي رواية: كيف أنتم إذا وقعت السبطة بين المسجدين، يأرز العلم فيها كما تأرز الحية في جحرها، واختلف الشيعة بينهم، وسمى بعضهم بعضاً كذابين، ويتفل بعضهم في وجوه بعض؟ فقلت: ما عند ذلك من خير؟ قال: الخير كله عند ذلك -يقوله ثلاثاً- وقد قرب الفرج(2).
__________
(1) كمال الدين: (328، 383)، البحار: (27/297) (48/16) (52/148)، إثبات الهداة: (3/157، 228، 321)، الكافي: (1/309).
(2) غيبة النعماني: (105، 138)، الكافي: (1/340)، البحار: (52/134)، غيبة الطوسي: (267).(1/262)
وعنه أيضاً قال: ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى(1).
فهذه الروايات -وهي غيض من فيض- واضحة الدلالة على فساد التأويلات التي خلصت إلى القول بوجوب اللطف والتي أدت إلى وجوب القول بإمامة علي بن أبي طالب والأئمة من بعده وكفر من خالف ذلك، وقد رأيت انقطاع هذا اللطف بعد سنة (260) للهجرة، كما هو الحال الآن، فكيف ألزمونا بوجوب الأول دون الآخر، وإذا قالوا بالآخر فكيف ألزمونا بالأول، وهذا لا يخفى على من تدبر.
سيرته عند خروجه:
وعلى أي حال, لنتغاض عن كل ما ذكرناه، ولننظر ماذا سيصنع صاحبنا إذا خرج بعد كل هذه القرون من الانتظار والحيرة، وبعد أن يسمي بعضنا بعضاً كذابين، ويتفل بعضنا في وجوه بعض.
يروي القوم أن أول ما يفعله المهدي عند خروجه نبش قبري الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويفعل بهما الأفاعيل!
فعن بشير النبال قال: قال أبو عبدالله: هل تدري أول ما يبدأ به القائم؟ قلت: لا، قال: يخرج هذين رطبين غضين فيحرقهما ويذرهما في الريح، ويكسر المسجد(2).
وفي رواية: إذا قدم القائم وثب أن يكسر الحائط الذي على القبر، فيبعث الله تعالى ريحاً شديدة وصواعق ورعوداً، حتى يقول الناس: إنما ذا لذا، فيتفرق أصحابه عنه حتى لا يبقى معه أحد، فيأخذ المعول بيده، فيكون أول من يضرب بالمعول، ثم يرجع إليه أصحابه إذا رأوه يضرب المعول بيده، فيكون ذلك اليوم فضل بعضهم على بعض بقدر سبقهم إليه، فيهدمون الحائط ثم يخرجهما غضين رطبين، فيلعنهما ويتبرأ منهما ويصلبهما، ثم ينزلهما ويحرقهما، ثم يذريهما في الريح(3).
ويبدو أن هذا التخاذل سمة عند أصحاب الأئمة.
__________
(1) البحار: (52/149) (95/326).
(2) البحار: (52/386).
(3) المصدر السابق.(1/263)
وعن عبد العظيم الحسني، عن الجواد قال: فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله عز وجل، فقلت: يا سيدي، وكيف يعلم أن الله قد رضي؟ قال: يلقي في قلبه الرحمة، فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما(1).
والمجلسي لما أورد الرواية في بحاره، لم يزد على أن قال في بيانه وكله حماس: يعني باللات والعزى صنمي قريش: أبا بكر وعمر(2).
وفي رواية: عن الصادق قال: فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما، فلفتنة الناس بهما يومئذٍ أشد من فتنة العجل والسامري(3).
أقول: روايات إخراجهما رضي الله عنهما وحرقهما عديدة، وقد ذكرها العديد من علماء القوم(4)، فلذا لا أرى بأساً من ذكر تفاصيلها ليكون القارئ على بينة من أول عمل يقوم به مهدي القوم عند خروجه ليملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
__________
(1) كمال الدين: (352)، البحار: (52/283)، إثبات الهداة: (3/469).
(2) البحار: (52/284).
(3) كمال الدين: (1/364)، عيون الأخبار: (1/58)، البحار: (36/245) (52/379).
(4) انظر إن شئت: إثبات الهداة: (1/476)(3/584)، عيون الأخبار:(1/61)، كمال الدين:(146)، دلائل الإمامة: (238)، نور الثقلين: (3/120).(1/264)
يروي القوم عن المفضل، عن الصادق في قصة طويلة فيها أحوال المهدي عند خروجه، قال: ثم يسير إلى مدينة جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وردها كان فيها مقام عجيب يظهر فيه سرور المؤمنين وخزي الكافرين، قال المفضل: يا سيدي، ما هو ذاك؟ قال: يرد إلى قبر جدي صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا معاشر الخلائق، هذا قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم يا مهدي آل محمد، فيقول: ومن معه في القبر؟ فيقولون: صاحباه وضجيعاه صلى الله عليه وسلم، فيقول:وكيف دفنا من بين الخلق مع جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعسى المدفون غيرهما؟ فيقول الناس: يا مهدي آل محمد صلى الله عليه وسلم، ماههنا غيرهما، إنهما دفنا معه لأنهما خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا زوجتيه، فيقول للخلق بعد ثلاث: أخرجوهما من قبريهما، فيخرجان غضين طريين لم يتغير خلقهما ولم يشحب لونهما، فيقول: هل فيكم من يعرفهما؟ فيقولون: نعرفهما بالصفة وليس ضجيعاً جدك غيرهما، فيقول: هل فيكم أحد يقول غير هذا أو يشك فيهما؟ فيقولون: لا، فيؤخر إخراجهما ثلاثة أيام، ثم ينشر الخبر في الناس ويحضر المهدي ويكشف الجدران عن القبرين، ويقول للنقباء: ابحثوا عنهما وانبشوهما، فيبحثون بأيديهم حتى يصلون إليهما، فيخرجان غضين طريين كصورتهما، فيكشف عنهما أكفانهما، ويأمر برفعهما على دوحة يابسة نخرة فيصلبهما عليها، فتحيى الشجرة وتورق ويطول فرعها، فيقول المرتابون من أهل ولايتهما: هذا -والله- الشرف حقاً، ولقد فزنا بمحبتهما وولايتهما، ويخبر من أخفى نفسه ممن في نفسه مقياس حبة من محبتهما وولايتهما، فيحضرونهما ويرونهما ويفتنون بهما، وينادي منادي المهدي: كل من أحب صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه، فلينفرد جانباً، فيتجزأ الخلق جزأين: أحدهما: موالٍ، والآخر: متبرئ منهما، فيعرض المهدي على أوليائهما البراءة منهما، فيقولون: يا مهدي آل رسول الله صلى الله(1/265)
عليه وسلم، نحن لم نتبرأ منهما، ولسنا نعلم أن لهما عند الله وعندك هذه المنزلة، وهذا الذي بدا لنا من فضلهما، أنتبرأ الساعة منهما وقد رأينا منهما ما رأينا في هذا الوقت من نضارتهما وغضاضتهما وحياة الشجرة بهما؟ بل والله نتبرأ منك وممن آمن بك ومن لا يؤمن بهما، ومن صلبهما، وأخرجهما، وفعل بهما ما فعل، فيأمر المهدي ريحاً سوداء، فتهب عليهم فتجعلهم كأعجاز نخلٍ خاوية، ثم يأمر بإنزالهما، فينزلان إليه فيحييهما بإذن الله تعالى، ويأمر الخلائق بالاجتماع، ثم يقص عليهم قصص فعالهما في كل كور ودور حتى يقص عليهم قتل هابيل بن آدم عليه السلام، وجمع النار لإبراهيم عليه السلام، وطرح يوسف عليه السلام في الجب، وحبس يونس عليه السلام في الحوت، وقتل يحيى عليه السلام، وصلب عيسى عليه السلام، وعذاب جرجيس ودانيال عليهما السلام، وضرب سلمان الفارسي، وإشعال النار على باب أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين لإحراقهم بها، وضرب يد الصديقة الكبرى فاطمة بالسوط، ورفس بطنها وإسقاطها محسناً، وسم الحسن، وقتل الحسين، وذبح أطفاله وبني عمه وأنصاره، وسبي ذراري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإراقة دماء آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكل دم سفك، وكل فرج نكح حراماً، وكل رين وخبث وفاحشة وإثم وظلم وجور وغشم منذ عهد آدم عليه السلام إلى وقت قيام قائمنا، كل ذلك يعدده عليهما، ويلزمهما إياه، فيعترفان به ثم يأمر بهما فيقتص منهما في ذلك الوقت بمظالم من حضر، ثم يصلبهما على الشجرة، ويأمر ناراً تخرج من الأرض فتحرقهما والشجرة، ثم يأمر ريحاً فتنسفهما في اليم نسفاً، قال المفضل: يا سيدي، ذلك آخر عذابهما؟ قال: هيهات يا مفضل، والله ليردن وليحضرن السيد الأكبر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصديق الأكبر أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة، وكل من محَّض الإيمان محضاً، أو محض الكفر محضاً، وليقتصن منهما جميعاً حتى إنهما ليقتلان في كل يوم(1/266)
وليلة ألف قتلة ويردان إلى ما شاء ربهما(1).
ولعلَّ عمله الثاني هو ما سيفعله بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فعن عبدالرحيم القصير، عن أبي جعفر قال: أما لو قام قائمنا لقد ردت إليه الحميراء حتى يجلدها الحد، وحتى ينتقم لابنة محمد فاطمة منها، قلت: جعلت فداك، ولم يجلدها الحد؟ قال: لفريتها على أم إبراهيم عليه السلام، قلت: فكيف أخره الله للقائم؟ فقال له: إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة، وبعث القائم نقمة(2).
وحيث إن صاحبنا سيكون نقمة، لذا فليس من المستبعد أن يضع القوم ما يناسب نقمته وينسون اللطف والعدل، أو إن شئت الدقة فقل: نقمة القوم.
عن الصادق قال: إذا قام القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم أقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة فضرب أعناقهم، ثم خمسمائة أخرى، حتى يفعل ذلك ست مرات، قيل: ويبلغ عدد هؤلاء هذا؟ قال: نعم منهم ومن مواليهم(3).
وفي رواية: تقول قريش: اخرجوا بنا إلى هذا الطاغية، فوالله أن لو كان محمدياً ما فعل، ولو كان علوياً ما فعل، ولو كان فاطمياً ما فعل(4).
وهذا مصداق لروايتهم عن الصادق: إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف وما يأخذ منها إلا السيف(5).
__________
(1) البحار: (53/12).
(2) علل الشرايع: (2/267)، البحار: (52/314)، إثبات الهداة: (3/498)، دلائل الإمامة: (256).
(3) الإرشاد: (343)، غيبة النعماني: (155)، البحار: (52/338، 349)، إعلام الورى: (431)، إثبات الهداة: (3/527، 540).
(4) تفسير العياشي: (2/57)، البحار: (52/342)، وانظر أيضاً: إثبات الهداة: (3/539).
(5) غيبة النعماني: (155)، البحار: (52/355)، إثبات الهداة: (3/540).(1/267)
وللقوم في تفسير مثل هذه الروايات قول طريف يسمى بالرجعة، وهو أن الله تعالى يعيد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز فريقاً ويذل فريقاً آخر، وذلك عند قيام المهدي(1).
وعلى أي حال، ليس هذا الكتاب محل تناول هذه العقيدة، ولكن نواصل حديثنا عن سيرته عند خروجه حسب روايات القوم.
عن الهروي قال: قلت للرضا: يا ابن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق أنه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين بفعال آبائها؟
فقال: هو كذلك(2).
وعن بدر بن خليل الأزدي قال: سمعت أبا جعفر يقول: إذا قام القائم وبعث إلى بني أمية بالشام هربوا إلى الروم، فيقول لهم الروم: لا ندخلكم حتى تتنصروا، فيعلقون في أعناقهم الصلبان ويدخلونهم، فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصلح، فيقول أصحاب القائم: لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منا، قال: فيدفعونهم إليهم(3).
وعن الصادق: ثلاثة عشر مدينة وطائفة يحارب القائم أهلها ويحاربونه: أهل مكة، وأهل المدينة، وأهل الشام، وبنو أمية، وأهل البصرة، وأهل دميسان، والأكراد، والأعراب، وضبة، وغني، وباهلة، وأزد، وأهل الري(4).
وله في الكوفة حكايات، فمن ذلك:
__________
(1) عقائد الإمامية: (104).
(2) علل الشرايع: (1/219)، عيون الأخبار: (1/247)، البحار: (45/295، 296، 298) (52/313)، إثبات الهداة: (3/455، 497، 530).
(3) روضة الكافي: (51)، العياشي: (343)، البحار: (52/377، 388)، إثبات الهداة: (3/450).
(4) البحار: (52/363)، إثبات الهداة: (3/544).(1/268)
عن الباقر قال: إذا قام القائم سار إلى الكوفة، فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفس، يدعون البترية، عليهم السلاح، فيقولون له: ارجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم، ثم يدخل الكوفة، فيقتل بها كل منافق مرتاب، ويهدم قصورها، ويقتل مقاتليها، حتى يرضى الله عز وعلا(1).
وفي حقيقة الأمر أن تناول مسألة المهدي يطول، وهذا الايجاز الشديد والشديد جداً في ذكر أموره وأحواله قطرة من بحر إن لم يكن محيطاً، ويقيني أن ما أوردته يعد اختصاراً مخلاً، وكذلك أخشى التطويل الممل؛ لأن كتابنا هذا -كما ذكرت في المقدمة- يتناول مسائل الإمامة بإيجاز، ولكن إذا كان في العمر بقية سيكون لنا مع مهدي القوم -إن شاء الله- بحث مستقل.
يكون بعد المهدي اثنا عشر مهدياً:
ولكن قبل أن أنهي حديثي عن المهدي، أورد هنا بعض روايات القوم المتصلة بموضوعه، وهي روايات أجزم بأن أكثر قراء هذا الكتاب لم يسمع بها من قبل ولم يقف عليها.
عن أبي بصير قال: قلت للصادق: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت من أبيك أنه قال: يكون بعد القائم اثنا عشر مهدياً، فقال: إنما قال: اثني عشر مهدياً ولم يقل: اثني عشر إماماً، ولكنهم قوم من شيعتنا، يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا(2).
وفي رواية: إن منا بعد القائم اثني عشر مهدياً من ولد الحسين(3).
وعن أمير المؤمنين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أول الاثني عشر الإمام(4).
__________
(1) الإرشاد: (364)، البحار: (52/338) (والبترية من طوائف الزيدية تنسب إلى المغيرة بن سعيد، كان يلقب بالأبتر)، إعلام الورى: (431)، إثبات الهداة: (3/528).
(2) كمال الدين: (335)، البحار: (53/145).
(3) البحار: (53/148)، غيبة الطوسي: (285).
(4) غيبة الطوسي: (105)، البحار: (36/261) (53/148).(1/269)
وعن الباقر: والله ليملكن رجل منا أهل البيت الأرض بعد موته ثلاثمائة سنة، ويزداد تسعة، قال: قلت: فمتى ذلك؟ قال: بعد موت القائم(1).
وقد اضطرب القوم في رد هذا الإشكال أو المأزق إن شئت أن تسميه، وأوردوا في ذلك وجوهاً لا تستحق الذكر(2).
والغريب أن مهدينا لن يمضي إلا قبل القيامة بأربعين يوماً(3).
وكل ما مرَّ بك من روايات الاثني عشر الذين يكونون بعد القائم، والرجل من أهل البيت الذي سيحكم ثلاثمائة سنة ويزداد تسعاً، يجب أن يكون في هذه الأربعين يوماً المتبقية من عمر الدنيا!
والأغرب أن هذا المضي قبل القيامة بأربعين يوماً يخالف ما أورده القوم من عدم خلو الأرض من حجة، كقولهم عن الصادق: ما تبقى الأرض يوماً واحداً بغير إمام منا تفزع إليه الأمة(4).
بل ولا ساعة؛ لقولهم عن الباقر: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله(5).
__________
(1) تفسير العياشي: (2/352)، مختصر البصائر: (130)، البحار:(53/146)، غيبة النعماني:(231)، غيبة الطوسي: (286)، الاختصاص: (257)، البرهان: (2/465).
(2) انظر إن شئت: البحار: (53/148)، الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، باب: في أنه هل بعد دولة المهدي دولة أم لا؟ للحر العاملي: (392)، إثبات الهداة: (1/110)، غيبة الطوسي: (285) (الحاشية).
(3) الإرشاد: (345)، إعلام الورى: (435)، كمال الدين: (220)، المحاسن: (236)، الكافي: (1/329)، البصائر: (141)، البحار: (23/41) (53/145، 146)، إثبات الهداة:(1/110)، غيبة الطوسي: (146، 218).
(4) كمال الدين: (221)، البصائر: (143، 150)، البحار: (23/42، 50، 53)، إثبات الهداة: (1/130).
(5) كمال الدين:(194، 195، 196)، غيبة النعماني:(88)، البصائر:(124)، البحار:(23/34، 35).(1/270)
ورووا أن الصادق سئل: تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لو بقيت الأرض بغير إمام ساعة لساخت(1).
بل ولا أقل من ذلك، فلما سئل الرضا، قال: لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها(2).
وعن الصادق قال: لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام، وإن آخر من يموت الإمام؛ لئلا يحتج أحدهم على الله عز وجل أنه تركه بغير حجة(3).
بل ويبدو أن ذلك كان مثار خلاف بين الأئمة، ففي رواية محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا، قال: قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: لا، قال: قلت: فإنا نروي عن أبي عبدالله أنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط الله على أهل الأرض أو على العباد، قال: لا، لا تبقى، إذاً لساخت.
وفي رواية: معاذ الله لا تبقى ساعة، إذاً لساخت(4).
__________
(1) علل الشرايع: (76، 77)، كمال الدين: (194، 195، 197)، غيبة الطوسي: (99،132،142) غيبة النعماني: (89)، عيون الأخبار: (1/246، 247)، البصائر: (144)، البحار: (23/21، 24، = = 28، 29، 34، 35، 37)، المناقب: (1/245).
(2) عيون أخبار الرضا: (1/247)، إثبات الهداة: (1/101، 106)، كمال الدين: (197)، البحار: (23/29)، علل الشرايع: (77)، البصائر: (144).
(3) علل الشرايع: (76)، كمال الدين: (117، 134، 135)، البصائر: (134)، البحار: (23/21، 22، 36، 43، 52، 53)، الكافي: (1/180)، إثبات الهداة: (1/80).
(4) الكافي: (1/179)، إثبات الهداة: (1/78، 100، 105، 106) (وعلل الرواية بالتقية -ولا أدري أي فرق بين القولين حتى استوجبت إحداها التقية دون الأخرى)، علل الشرايع: (77)، عيون الأخبار: (150)، غيبة النعماني: (99)، البحار: (23/24، 28).(1/271)
والروايات في الباب كثيرة(1).
ولا يسعف القوم القول بأن روايات الاثني عشر الذين يكونون بعد القائم وكذا الرجل من أهل البيت الذي يحكم ثلاثمائة سنة ويزداد تسعاً، إنما يكون في هذه الأربعين يوماً، ففساد هذا القول بيِّن، وذلك أن روايات عدم خلو الأرض إنما هي من إمامٍ وليس من مهدي، ولعل في قول الصادق كما في رواية أبي بصير الأولى، حيث قال: إنما قال اثني عشر مهدياً، ولم يقل: اثني عشر إماماً، أو رواية الرضا: إن الأرض لا تخلو من أن يكون فيها إمام منا(2) وغيرها.. دليل على هذا التفريق، هذا وناهيك عن كون المدة المتبقية من عمر الدنيا وهي أربعون يوماً لا تستوعب كل هؤلاء، فضلاً عن الرجل من أهل البيت الذي سيحكم ثلاثمائة سنة ويزداد تسعاً.
فتبين لك -أيها القارئ العزيز- أن هؤلاء الأئمة من آل البيت رحمهم الله ورضي عنهم، كُذب عليهم ونُسب إليهم من الكذب مالا يعلمه إلا الله، وهم ولا شك أناس صالحون لكن قوّلوا مالم يقولوا، وافتري عليهم الكثير والكثير، وعند الله يجتمع الخصوم.
هذا وإن الدين باقٍ إلى قيام الساعة بنقل العلماء الصالحين له، فالله قد أمر بسؤال أهل الذكر والعلم، وأمر بأن ينفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، دون أن يخصها بأناس دون أناس.
__________
(1) انظر مثلاً: البحار: ج (23) باب: الاضطرار إلى الحجة وأن الأرض لا تخلو من حجة، وفيه(118) رواية، إثبات الهداة: (1/77) وما بعدها، (97، 98، 100، 101)، والباب السادس وفيه عشرات الروايات، غيبة الطوسي: (111، 132، 134)، البصائر: (331، 484، 485، 486، 487، 488، 489، 511، 516)، نور الثقلين: (3/44) (4/369، 370)، أمالي الصدوق: (157)، الكافي:(1/178) وما بعدها، غيبة النعماني: (19، 87-91)، كمال الدين: (194-225، 695).
(2) كمال الدين: (133)، البحار: (23/42)، إثبات الهداة: (1/110).(1/272)
وفي البابين التاليين يتضح لك حقيقة الأمر، وهل نص على الأئمة الاثني عشر في القرآن والسنة أم لا؟ والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خلاصة الباب:
لا شك -عزيزي القارئ- أن النتيجة التي خرجنا منها في هذا الباب مؤداها: أن الذي وضع عقيدة الإمامة، وأوجب النص على الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وحدد أساميهم، ونسب كل هذا إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الأئمة عليهم السلام وهم منها براء.
أقول: إن هذا الذي وضع هذه العقائد لم تستقيم له الأمور في إثبات: متى كان النص على فرضه؟ ولا بد؛ فالباطل يحطم بعضه بعضاً، حيث رأينا كيف أن آلاف الراويات التي وضعها كل فريق من فرق الشيعة تتعارض مع مسيرة التاريخ، وبعد موت كل إمام، وكيف أن عظماء أصحاب الأئمة اختلفوا في تحديد الإمام اللاحق مما أدى إلى افتراقهم وتشتتهم.
ومن غرائب الأمور: أن الإمامية قد وضعوا كل تلك الروايات التي تذكر تسلسل الأئمة بأسمائهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المهدي، ومع ذلك يأتي كبير مراجعهم في هذا العصر وينفي وجود نص على تسمية هؤلاء الأئمة، حيث يقول الخوئي: الروايات المتواترة الواصلة إلينا من طريق العامة والخاصة قد حددت الأئمة عليهم السلام باثني عشر من ناحية العدد ولم تحددهم بأسمائهم عليهم السلام واحداً بعد واحد، حتى لا يمكن فرض الشك في الإمام اللاحق بعد رحلة الإمام السابق، بل قد تقتضي المصلحة في ذلك الزمان اختفاءه والتستر عليه لدى الناس؛ بل لدى أصحابهم عليهم السلام إلا أصحاب السر لهم، وقد اتفقت هذه القضية في غير هذا المورد والله العالم(1).
فهل الخوئي -وهو من هو في علم الحديث عند الشيعة، وصاحب أكبر موسوعة في علم الرجال عندهم- لم يقف على شيء مما أوردناه في مقدمة الباب؟
وصدق الله القائل: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء:82]
__________
(1) صراط النجاة: (ج:2/452).(1/273)
الباب الثاني : الإمامة والقرآن
الإمامة والقرآن:
في القرآن الكريم مئات المواضع التي تتحدث عن التقوى والأخلاق الفاضلة وترغب فيهما وتحث عليهما؛ كالصبر والتوبة والاستغفار والإحسان والعفو والصفح والصدق وأداء الأمانة والحياء وغض البصر والشكر وغيرها.
فهذه الأخيرة -مثلاً- ورد فيها أكثر من سبعين آية، ونحن نعلم بأن فضيلة الشكر هذه ليست من أركان الدين أو أصوله، وإنما من تقوى القلوب وفضائل الأعمال.
واختيارنا للشكر وذكر عدد آياته لا يعني أنها الفضيلة الوحيدة التي جاء فيها هذا العدد من الآيات؛ بل إنها لا تقل شأناً عن الكثير من مسائل الأخلاق التي ذكرناها آنفاً.
فلا شك أنك أدركت أن القرآن الكريم إذا كان قد أورد كل هذه الآيات في فضيلة من فضائل الأعمال، فالأَولى أن يرد مئات الآيات في أركان الإسلام، فهذا حاصل تماماً، فقد أورد القرآن الكريم مئات الآيات الكريمة في الصلاة والزكاة، وعشرات الآيات في الصوم والحج، كما أورد مثلها في الإيمان بالملائكة، والكتب السماوية، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.
لا شك أن القارئ قد أدرك ما رمينا إليه من هذه التوطئة، فالإمامة التي مرَّت منزلتها بك في مقدمة الباب الأول، والتي هي من أعظم أركان الدين عند القوم، ولا تقبل أخواتها إلا بها، وعليها مدار قبول الأعمال، والله قد أخذ المواثيق على الأنبياء والرسل عند بعثتهم بها، والأئمة علة خلق السموات والأرض والجنة والنار والأفلاك والعرش والكرسي والملائكة والجن والإنس و.. و.. إلى آخر ما أوردناه في الباب الأول من كتب القوم.(1/274)
فلاشك أن تناول مسألة بهذه الخطورة يجب أن ينزل فيها من الآيات أضعاف ما نزل في الأركان الأخرى، فضلاً عن فروع الدين وفضائل الأعمال، فإننا -مثلاً- نجد ذكر الكثير من الأنبياء عليهم السلام مع تفاصيل دعوتهم؛ بالرغم من أن الله عز وجل قد أخذ المواثيق عليهم عند بعثتهم بالإمامة -كما عرفت- فضلاً عن أن الأئمة أفضل من الأنبياء عليهم السلام عند القوم.
وقد نضطر هنا للوقوف بعض الشيء لبيان هذه المسألة -أعني: تفضيل الأئمة على الأنبياء عليهم السلام عند القوم- لرفع ما قد يقع من لبس عند بعض من ينكر نسبة هذا القول إلى الشيعة.(1/275)
بيان عقيدة الشيعة في تفضيل الأئمة على الأنبياء عليهم السلام:
اعلم أن هذه المسألة من المسلمات عندهم، بل ومن ضروريات المذهب، ولست أجازف باتهامهم بما لا يعتقدونه، ولعل في ذكرنا لبعض رواياتهم وأقوالهم في المسألة ما يؤيد صحة ما ذهبنا إليه.
روى القوم عن الرضا أنه قال: إن آدم لما أكرمه الله - تعالى ذكره - بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال في نفسه: هل خلق الله بشراً أفضل مني؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه، فناداه: ارفع رأسك يا آدم، فانظر إلى ساق عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش، فوجد عليه مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم عليه السلام: يا رب، من هؤلاء؟ فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم منها، فأخرجهما الله عز وجل من جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض(1).
وقال: نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد، فينا نزل القرآن وفينا معدن الرسالة(2).
وعن الصادق قال: إن الله أخذ ميثاق الخلائق ومواثيق الأنبياء والرسل لمحمد بالنبوة، ولعلي بن أبي طالب بالولاية(3).
وعنه أيضاً قال: إن أمرنا صعب مستصعب لا يقر به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل(4).
__________
(1) عيون الأخبار: (170)، البحار: (11/164) (16/362) (26/273)، معاني الأخبار: (42).
(2) عيون الأخبار: (225)، البحار: (26/279) (68/44).
(3) أمالي الطوسي: (64)، البحار: (26/272).
(4) معاني الأخبار: (115)، إعلام الورى: (266)، الخصال: (208)، البحار: (2/71، 183، 184، 191، 195، 196، 197)(10/102)(25/347)(26/273)(53/69، 81) (67/249).(1/276)
وعنه أيضاً قال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن تكون أرض أو سماء أو جن أو إنس أو شمس أو قمر، فلما أراد أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه، فقال لهم: من ربكم؟ فكان أول من نطق رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة، فقالوا: أنت ربنا، فحملهم العلم والدين، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة علمي وديني وأمنائي في خلقي وهم المسؤولون(1).
وعن الباقر قال: أخذ الله الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم، وأن هذا محمداً رسول الله، وأن هذا علياً أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى، فثبتت لهم النبوة، وأخذ الميثاق على أولي العزم: إني ربكم، ومحمد رسول الله، وعلي أمير المؤمنين، وأوصياؤه من بعده ولاة أمري، وخزان علمي، وإن المهدي أنتصر به لديني، وأظهر به دولتي، وأنتقم به من أعدائي، وأُعبد به طوعاً وكرهاً، قالوا: أقررنا وشهدنا يا رب، ولم يجحد آدم ولم يقر، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به، وهو قوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)) [طه:115]، إنما يعني: فترك(2).
وعن أبي الحسن: ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله نبياً إلا بنبوة محمد وولاية وصيه علي(3).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا علي، ما بعث الله نبياً إلا وقد دعاه إلى ولايتك طائعاً أو كارهاً (4).
__________
(1) توحيد الصدوق: (334)، البحار: (3/334)، (26/277)، (57/95)، الكافي: (1/133).
(2) بصائر الدرجات: (21)، تأويل الآيات: (1/319)، البرهان: (3/45)، الصافي: (3/323) = = علل الشرايع: (122)، نور الثقلين: (3/401)، الكافي: (2/8)، البحار: (26/279).
(3) البصائر: (21)، البحار: (26/280) (38/46).
(4) البصائر: (21)، البحار: (11/60) (26/280)، الاختصاص: (343).(1/277)
وعن الباقر: إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيين على ولاية علي، وأخذ عهد النبيين بولاية علي(1).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تكاملت النبوة لنبي في الأظلة حتى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي، ومثلوا له فأقروا بطاعتهم وولايتهم(2).
وعن الصادق: ما نبئ نبي قط إلا بمعرفة حقنا، وبفضلنا على من سوانا(3).
وعن الباقر: ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبياً قط إلا بها(4).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أسري بي أتاني ملك، فقال: يا محمد، سل من أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا؟ فقلت: معاشر الرسل والنبيين، على ما بعثكم الله قبلي؟ قالوا: على ولايتك يا محمد، وولاية علي بن أبي طالب(5).
وعن الصادق قال: علم النبي صلى الله عليه وسلم علم النبيين بأسره، وأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم فجعله محمد عند علي، فقال رجل: فعلي أعلم أو بعض الأنبياء؟ فنظر الصادق إلى بعض أصحابه، فقال: إن الله يفتح مسامع من يشاء، أقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ذلك كله عند علي، فيقول: علي أعلم أو بعض الأنبياء(6)!
__________
(1) البصائر: (21)، البحار: (26/281).
(2) البصائر: (51)، البحار: (26/281).
(3) البصائر: (51)، البحار: (26/281).
(4) البصائر: (22)، البحار: (27/136) (26/281) (100/262)، أمالي الطوسي: (63)، أمالي المفيد: (77).
(5) المحتضر: (125)، البحار: (26/307، 318) (36/154)، البرهان: (4/147)، تأويل الآيات: = = (2/563)، المائة منقبة: (82).
(6) البصائر: (62)، البحار: (26/195).(1/278)
وعن سيف التمار قال: كنا مع أبي عبدالله في الحجر، فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة، وقلنا: ليس علينا عين، فقال: ورب الكعبة، ورب الكعبة، ورب الكعبة، إني لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما(1).
أقول: الروايات في الباب كثيرة جداً، ولا يسعنا حصرها، ولعلَّ في سردنا لبعض الأبواب التي وضعها القوم في المقام كفاية لمن أراد المزيد، فانظر مثلاً:
باب: تفضيلهم على الأنبياء وعلى جميع الخلق، وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر الخلق، وأن أولي العزم إنما صاروا أولي العزم بحبهم(2).
باب: أنهم أعلم من الأنبياء(3).
باب: أن عندهم جميع علم الملائكة والأنبياء، وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء عليهم السلام، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله(4).
باب: أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بهم صلوات الله عليهم(5).
باب: أنهم يقدرون على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء(6).
باب: أنهم يظهرون بعد موتهم ويظهر منهم الغرائب، ويأتيهم أرواح الأنبياء عليهم السلام، وتظهر لهم الأموات من أوليائهم وأعدائهم(7).
وغيرها من الأبواب التي أوردناها في مقدمة الباب الأول، فراجعها هناك.
وكذلك صنفوا في ذلك تصانيف مستقلة:
__________
(1) البصائر: (63)، البحار: (13/300) (17/144)(26/111، 196)، البرهان:(2/379، 380)، الكافي: (1/260)، البحار: (26/267-319) وفيه (88) رواية.
(2) البحار: (26/194-200)، البصائر: (227-231) وفيه (11) رواية.
(3) البحار: (26/159-179) وفيه (63) رواية، البصائر: (109-120) وفيه (42) رواية.
(4) البحار: (26/319-334) وفيه (16) رواية.
(5) البحار: (27/29-31) وفيه (4) روايات، البصائر: (269-274) وفيه (13) رواية.
(6) البحار: (27/302-308) وفيه (13) رواية.
(7) البحار: (27/302-308) وفيه (13) رواية.(1/279)
كتفضيل الأئمة على الأنبياء، لهاشم البحراني.
وتفضيل الأئمة على غير جدهم من الأنبياء، للمولى كاظم الهزاز.
وتفضيل أمير المؤمنين على من عدا خاتم النبيين، للمجلسي. والاسم ذاته للسيد دلدار اللكهنوي.
وتفضيل علي على أولي العزم من الرسل، لهاشم البحراني أيضاً، وغيرها(1).
وقال الصدوق في اعتقاداته: يجب أن يُعتقد أن الله عز وجل لم يخلق خلقاً أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم والأئمة، وأنهم أحب الخلق إلى الله عز وجل وأكرمهم، وأولهم إقراراً به لما أخذ الله ميثاق النبيين في الذر، وأن الله تعالى أعطى كل نبي على قدر معرفته نبينا صلى الله عليه وسلم وسبقه إلى الإقرار به، ويُعتقد أن الله تعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته، وأنه لولاهم ما خلق السماء ولا الأرض ولا الجنة ولا النار ولا آدم ولا حواء ولا الملائكة ولا شيئاً مما خلق(2).
وأكد المجلسي قول الصدوق وأيده، وقال: اعلم أن ما ذكره رحمه الله من فضل نبينا وأئمتنا صلوات الله عليهم على جميع المخلوقات، وكون أئمتنا أفضل من سائر الأنبياء، هو الذي لا يرتاب فيه من تتبع أخبارهم على وجه الإذعان واليقين، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى، وإنما أوردنا في هذا الباب قليلاً منها(3)، وهي متفرقة في الأبواب لاسيما باب: صفات الأنبياء وأوصافهم، وباب: أنهم كلمة الله، وباب: بدو أنوارهم، وباب: أنهم أعلم من الأنبياء، وأبواب فضائل أمير المؤمنين وفاطمة صلوات الله عليهم، وعليه عمدة الإمامية، ولا يأبى ذلك إلا جاهل بالأخبار(4).
__________
(1) الذريعة: (4/358).
(2) اعتقاد الصدوق: (106)، البحار: (26/297).
(3) أي: باب: تفضيلهم على الأنبياء.. إلخ، والذي نقلنا منه بعض الروايات كما مرَّ بك.
(4) البحار: (26/297).(1/280)
وقال المفيد: قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة من آل محمد على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (1).
ويروي القوم أن عدد الأنبياء والأوصياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي.
وفي رواية: مائة ألف نبي وأربعة وأربعون نبياً، ومثلهم أوصياء(2).
بيان أنه لم يرد في القرآن الكريم ذكر للإمامة وموقف الشيعة من هذه الحقيقة:
ونحن نجد في القرآن ذكر هؤلاء الأنبياء في مئات المواضع، ولكن لم نقف على موضع واحد فيه ذكر لأحد من هؤلاء الأوصياء، سواءً المائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، أو المائة ألف وأربعة وأربعون، بل ولا آية واحدة تتحدث عن أكرم هؤلاء وأفضلهم، بل وأفضل من الأنبياء كما عرفت.
والقرآن الذي لم يغادر شيئاً إلا وبَيّنَه، كما يؤكد ذلك القوم برواية الصادق: والله إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، ثم سكت، ثم قال: أعلمه عن كتاب الله أنظر إليه هكذا، ثم بسط كفه، وقال: إن الله يقول: فيه تبيان كل شيء.
__________
(1) أوائل المقالات: (42)، البحار: (26/298).
(2) الخصال: (640)، أمالي الصدوق: (142)، اعتقادات الصدوق: (96)، البصائر: (33)، الاختصاص: (263)، سعد السعود: (101)، البحار: (11/28، 30، 41، 58، 59) (13/405) (16/352، 372) (18/318) (27/6) (38/4، 6) (39/342)(40/42)(60/242) (92/85) (101/94)، كامل الزيارات: (179)، المناقب: (3/47).(1/281)
وفي رواية: ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه، فقال: علمت من كتاب الله أن الله يقول: فيه تبيان كل شيء(1).
وقوله: ما ترك الله شيئاً تحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه(2).
فهذا القرآن قد ذكر السموات والأرض وما بينهما وما فيهما، والجنة والنار وما فيهما، في مئات المواضع، فكان لابد ألا يدع القرآن ذكر ما كان سبباً لخلق كل هذا وهو الإمامة والأئمة، وقد علمت منزلتهما، دون أن يكون له نصيب الأسد من البيان، ولكن شيئاً من هذا لم يكن.
__________
(1) كشف الغمة: (2/430)، البصائر: (35)، البحار: (26/111) (47/35) (92/86)، البرهان: (2/378، 379)، نور الثقلين: (3/73، 74، 76)، الصافي: (3/151)، العياشي: (2/288)، الميزان: (12/327)، والآية (89) من سورة النحل وهي في المصحف هكذا: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء.
(2) الكافي: (1/59)، نور الثقلين: (3/74)، الصافي: (1/56،151)، المحاسن: (267)، البحار: == (68/237) (92/81).(1/282)
فأمام هذه الحقيقة الخطيرة المتمثلة في خلو القرآن الكريم عن آحاد الآيات المؤيدة لعقيدة القوم في الإمامة، والتي تؤكدها صراحة بعض الروايات، كراوية أبي بصير الذي سأل الصادق: إن الناس يقولون: لِمَ لم يسم علي وأهل بيته في كتاب الله عز وجل؟ فقال: قولوا لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي فسر ذلك، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهماً درهم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي فسَّر ذلك لهم، ونزل الحج... إلى آخر الرواية، حيث ذكر فيها بيان إمامة علي بالسنة لا بالقرآن(1).
فأمام هذه الحقيقة لجأ الشيعة إلى وسائل ثلاث لحل هذا الإشكال، وقد عبرت عنها بالاتجاهات.
أصحاب الاتجاه الأول وتأويل مُعظَم آيات القرآن الكريم لإثبات نزولها في الأئمة والإمامة:
الاتجاه الأول: أَوّلَ معظمَ آيات القرآن الكريم، وجعلها لا تخلو من كون نزولها في أهل البيت سواء في بيان منزلتهم أو ولايتهم.. أو ما شابه ذلك، بحيث تتعلق بهم على نحوٍ ما، أو في ذم أعدائهم من الصحابة رضوان الله عليهم، أو المخالفين للمذهب بزعمهم.. وهكذا.
وأصحاب هذا الاتجاه اجتهدوا في لَيِّ أعناق معظم آيات القرآن وتأويلها بحيث لا تخرج عن غرضهم، وأيسر السبل التي انتهجها هؤلاء في بيان ذلك هو وضع الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة، بدءاً ببسملة سورة الفاتحة، وانتهاءً بالمعوذتين.
__________
(1) الكافي: (1/286)، إثبات الهداة:(1/441)، البحار:(35/211)، نور الثقلين:(1/502)، العياشي: (1/276)، الميزان: (4/411)، البرهان: (1/385)، تفسير فرات: (1/110)، الصافي: (1/462)، إثبات الهداة: (1/441).(1/283)
ففي الأولى -مثلاً- رووا عن الصادق أنه سئل عن تفسير بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله، قال السائل: فقلت: الله؟ قال: الألف آلاء الله على خلقه، والنعم بولايتنا، واللام إلزام خلقه بولايتنا، قال: قلت: فالهاء؟ قال: هوان لمن خالف محمداً وآل محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: الرحمن؟ قال: بجميع العالم، قال: قلت: الرحيم؟ قال: بالمؤمنين وهم شيعة آل محمد صلى الله عليه وسلم (1).
وفي الأخرى: رووا عنه أيضاً: أن جبرئيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن فلاناً سحرك، وجعل السحر في بئر بني فلان، فابعث إليه -يعني: إلى البئر- أوثق الناس عندك، وأعظمهم في عينك، وهو عديل نفسك حتى يأتيك بالسحر، قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً، فاستخرج حقاً وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم... الرواية(2).
وفي حقيقة الأمر قد أعرضنا عن ذكر أمثلة على هذا الاتجاه، وذلك لسهولة الوقوف عليها في أكثر التفاسير الشيعية المطبوعة والتي لا تخلو منها، وبالأخص تلك التي جعلت حكراً على الآيات التي تمثل هذا الاتجاه، كتأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، وهو مطبوع في مجلدين، وحوالي تسعمائة صفحة من الحجم المتوسط، وغيره.
__________
(1) التوحيد: (230)، البرهان: (1/44)، البحار: (85/51) (92/231)، معاني الأخبار: (3)، تأويل الآيات الظاهرة: (1/24)، نور الثقلين: (1/12).
(2) طب الأئمة:(118)، البحار:(18/69)(63/23)(93/364)(92/125)(95/125)، البرهان: (4/529)، تأويل الآيات الظاهرة: (2/862)، الصافي: (5/396)، تفسير فرات: (2/620)، نور الثقلين: (5/718).(1/284)
أصحاب الاتجاه الثاني والقول بتحريف القرآن وذكر بعض روايات التحريف عند الشيعة:
أما الاتجاه الثاني: فهو اتجاه خطير في العقيدة يؤدي بصاحبه إلى الكفر والخروج من الملة، والذي اضطر أصحابه إلى الأخذ به والقول به هو قناعتُهم التامة بخلو القرآن الكريم من الحجج والبراهين التي تؤيد عقيدتهم في الإمامة وتعارضه مع الكثير من العقائد الأخرى المنبثقة عن القول بالإمامة.
وأصحابنا هؤلاء لم يقنعوا بالاتجاه الأول لفساده البين فجاءوا بأفسد منه، ولا شك أن اضطرارهم إلى هذا من أبين الدلائل وأظهرها على فساد القول بالإمامة والنص.
ويتمثل هذا الاتجاه بالقول بتحريف القرآن.
ويبدأ أصحابنا هؤلاء بالتوطئة القائلة بأن القرآن الموجود بين الدفتين ليس هو ذلك القرآن الذي أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن الموجود بين أيدينا قد حذفت منه آيات كثيرة، بل وسور فيها ذكر الإمامة وآل محمد واسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك فضائح المهاجرين والأنصار وغيرهم، مما سيتبين لك قريباً، وأن القرآن كما أنزل إنما جمعه أمير المؤمنين علي، ثم توارثه الأئمة، وهو عند المهدي الآن وسيظهره عند خروجه.
وأيدوا قولهم هذا بروايات وضعوها على لسان الأئمة، كقول الباقر: ما من أحدٍ من الناس يقول: إنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلا كذاب، وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.
وفي رواية: ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلا وصي محمد صلى الله عليه وسلم (1).
ووضعوا روايات في قصة هذا الجمع المزعوم.
__________
(1) البصائر: (137)، البحار: (92/48، 88، 89)، الكافي: (1/228)، مرآة الأنوار: (37)، البرهان: (1/15) (4/551)، تفسير القمي: (2/455).(1/285)
منها: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علي القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر، وقال: يا علي، اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه وانصرف، ثم أحضروا زيد بن ثابت -وكان قارئاً للقرآن- فقال له عمر: إن علياً جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان فضيحة وهتكاً للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه قد بطل كل عملكم. قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: ما حيلته دون أن نقتله ونستريح منه، فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد، فلم يقدر على ذلك، فلما استخلف عمر، سأل علياً أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم، فقال: يا أبا الحسن، إن جئت بالقرآن الذي كنت قد جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه، فقال: هيهات ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم، ولا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: ما جئتنا به، إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي، قال عمر: فهل لإظهاره وقت معلوم؟ فقال: نعم، إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه، فتجري السنة به صلوات الله عليه(1).
وكذلك لا بأس من ذكر بعض حكايات القائم هذا والقرآن المزعوم:
ففي رواية: إن المهدي عند ظهوره يتلو القرآن، فيقول المسلمون: هذا والله القرآن حقاً الذي أنزله الله على محمد، وما أسقط وبدل وحرَّف لعن الله من أسقطه وبدَّله وحرَّفه(2).
__________
(1) الاحتجاج: (155)، البحار: (92/42) (93/42)، مرآة الأنوار: (38).
(2) فصل الخطاب: (99، 239)، محجة العلماء: (140)، البحار: (53/9)، حق اليقين: (2/36).(1/286)
وفي أخرى: عن علي عليه السلام قال: كأني بالعجم في فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلمون الناس القرآن كما أنزل، قلت -أي: الراوي-: يا أمير المؤمنين، أو ليس هو هذا كما أنزل؟ فقال: لا، محي منه سبعون من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، وما ترك أبو لهب إلا للإزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عمه(1).
وأيد القوم هذا الجزء الأخير من الرواية بروايات أخرى شبيهة، منها: عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: دفع إلي أبو الحسن مصحفاً، وقال: لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه: لم يكن الذين كفروا، فوجدت فيها أسماء سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم.
وفي رواية: ففتحته فوقعت بين يدي سورة لم يكن، فإذا هي أطول وأكثر مما يقرؤها الناس.
وعن أبي عبدالله قال: أنزل الله في القرآن سبعة بأسمائهم، فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب.
وفي رواية: أنه نقص أربعين اسماً من سورة تبت(2).
وعنه قال: إن في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فألقيت(3).
وعنه قال: لو قرىء القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمَّين(4).
__________
(1) غيبة النعماني: (218)، البحار: (52/364) (92/60)، فصل الخطاب: (17، 238)، مرآة الأنوار: (37).
(2) الكافي: (2/631)، فصل الخطاب: (238، 349، 350)، مرآة الأنوار: (37)، رجال الكشي: (247، 492)، البحار: (92/54)، معجم الخوئي: (14/245).
(3) تفسير العياشي: (1/13)، مشارق الشموس: (127)، البحار: (92/55، 95، 97)، مرآة الأنوار: (37)، تفسير الصافي: (1/41)، تفسير البرهان: (1/15، 20).
(4) تفسير العياشي: (1/13)، فصل الخطاب: (237)، مشارق الشموس: (126)، البحار: (92/55، 74، 115)، مرآة الأنوار: (37)، الصافي: (1/41)، البرهان: (1/22).(1/287)
وعن الباقر: لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص ما خفي حقنا على ذي حجى، ولو قام قائمنا فنطق صدقه القرآن(1).
وعنه أنه سئل: ليس في القرآن بنو هاشم؟ فقال: محيت والله فيما محي، ولقد قال عمرو بن العاص على منبر مصر: محي من القرآن ألف حرف بألف درهم، وأعطيت مائتي ألف درهم على أن يمحى [إن شانئك هو الأبتر] فقالوا: لا يجوز ذلك، فكيف جاز ذلك لهم ولم يجز لي؟(2)
وعنه قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يا ابن سنان -أي: الراوي- إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة؛ لكن نقصوها وحرَّفوها(3).
وزعموا أن ربع هذا القرآن المزعوم قد اشتمل على ذكر الإمامة والأئمة، وآخر على أعدائهم، فعن الباقر: نزل القرآن أرباعاً: ربعاً فيه عدونا، وربعاً فينا، وربعاً فيه سنن وأمثال، وربعاً فيه فرائض وأحكام(4).
ويقتضي هذا القول أن يكون أكثر من ألف وستمائة آية قد تناولت مسألة الإمامة والأئمة، ومثلها في أعدائهم، هذا باعتبار أن القرآن الموجود بين أيدينا الآن حوالي (6666) آية، أو (6263) آية، على خلاف(5).
__________
(1) تفسير العياشي: (1/13)، فصل الخطاب: (238)، مشارق الشموس: (126)، البحار: (92/55، 115)، البيان:(230)، مرآة الأنوار:(37)، الصافي:(1/41)، البرهان:(1/22).
(2) كنز الفوائد:(2)، البحار:(35/315)، مرآة الأنوار:(37)، البرهان: (4/152)، تأويل الآيات: (2/569).
(3) ثواب الأعمال: (106)، البحار: (35/235) (92/50، 288)، فصل الخطاب: (320)، الصافي: (4/209)، البرهان: (3/289)، مرآة الأنوار: (37).
(4) فصل الخطاب: (158، 247، 248)، الكافي:(2/627، 628) البيان:(230)، العياشي:(1/20)، البحار: (24/305) (36/117) (92/74، 114)، تفسير فرات: (1/46، 47، 48، 138)، البرهان: (1/21)، تأويل الآيات: (1/18)، الصافي: (1/24).
(5) الكافي: (2/634) (الحاشية).(1/288)
ومرد الاختلاف -كما لا يخفى عليك- راجع إلى تجزئة بعضهم للآية الطويلة واحتسابها أكثر من آية، بناءً على انقطاع النفس في أثنائها، فظنوها أكثر من آية، من غير زيادة أو نقصان في الألفاظ والأحرف، فتنبه، والله تعالى أعلم.
وقد علمت فساد هذا القول لخلو القرآن الكريم عن آحاد الآيات في الأئمة أو أعدائهم، حتى لو كان باعتبار الاتجاه الأول الذي ذكرناه، وكان بيّن الفساد، إلا أن يكون تدليلاً على أصحاب الاتجاه الذي نتحدث عنه الآن، وهو القول بحذف الكثير من الآيات، بل السور، ويؤيد أصحاب هذا الاتجاه رأيهم بروايات نسبوها إلى الأئمة، كقول الصادق: إن القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية.
وفي رواية: ثمانية عشر ألف آية(1).
وهذا بيّن في اختفاء أكثر من عشرة آلاف آية من القرآن الكريم الموجود بين أيدينا الآن.
ورواية الزنديق الطويلة مع علي عليه السلام الذي قال فيها فيما قال: وأما ظهورك على تناكر قوله: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)) [النساء:3]، وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتام، فهو كما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن(2).
__________
(1) الكافي: (2/634)، فصل الخطاب: (132، 235، 236، 271، 353)، محجة العلماء: (168)، مرآة العقول: (12/525).
(2) الاحتجاج: (254)، البحار: (92/47) (93/121)، فصل الخطاب:(271)، مرآة العقول:(48)، الصافي: (1/49، 420)، البرهان: (4/539).(1/289)
وهذا الكلام -كما لا يخفى عليك أيها القارئ العزيز- جهل قبيح، إذ أن سبب نزول الآية: أن الرجل تكون عنده اليتيمة يحفظها فيرغب في نكاحها فربما حصل منه ميل وجور، فبيَّن الله أن النساء غيرهن كثر فقال: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا)) [النساء:3] الآية، وذلك إرشاداً لمن خاف ألا يقسط فيهن إذا تزوجهن بأن يتركهن وينكح غيرهن.
ورواية الباقر: إن القرآن قد طرح منه آي كثير، ولم يزد فيه إلا حروف أخطأت بها الكتبة وتوهمتها الرجال(1).
ذكر نماذج لأقوال بعض علماء الشيعة القائلين بالتحريف:
قبل أن أخوض في ذكر بعض النماذج لمن قال بالتحريف أحب أن أقف وقفة مع الروايات الواردة في التحريف.
فقد وردت روايات كثيرة تثبت تحريف القرآن الكريم، ولهذا جعلها من قال بالتحريف مستنداً له على قوله، بينما يتمسك من يقول بأنه لا يعتقد بالتحريف بقوله: إن هذه الروايات ضعيفة وليست صحيحة..
وذكر أقوال علماء المذهب الكبار في هذه القضية ينهي النزاع، إذ كلامهم ليس حديثاً حتى يقال بأنه ضعيف أو مكذوب، وإنما يعتبر بياناً واضحاً على ما يعتقده أصحاب هذا المذهب..
ومع ذلك فإن من علماء الشيعة من صرح بصحة بعض هذه الروايات وأنه لا شك بصدورها عن المعصومين؛ كما سيأتي بيانه بإذن الله.
ومن الأمثلة على ذلك: قول الخوئي -وهو ممن له باع في معرفة الحديث، وله موسوعة ضخمة في الرجال- حيث يقول: إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها: ما روي بطريق معتبر(2).
__________
(1) تفسير العياشي: (1/203)، فصل الخطاب: (158)، مشارق الشموس:(127)، الصافي:(1/41)، البرهان: (1/295)، نور الثقلين: (1/358)، البحار: (15/179).
(2) البيان في تفسير القرآن: (226)، وانظر أيضاً إقراره بالتحريف صراحة في: (198، 199، 247، 257) من الكتاب نفسه.(1/290)
وإذا كان بعضها لا شك بصدوره عن المعصوم فإن هذا كافٍ لبيان وجوب الاعتقاد بذلك عند الشيعة؛ لأنه لا يجوز مخالفة المعصوم فيما يخبر به، فالراد عليه كالراد على الله..، وهذا يبين لك سبب قول علماء الشيعة بالتحريف، مع الأسباب الأخرى التي ذكرتها لك في بداية هذا الباب.
وتأكيداً لذلك أورد ثلاثة أمثلة فقط لما روي بطريق معتبر مما أجمع علماء رجال الشيعة على تصحيحه -والأمثلة كثيرة- ثم أورد أقوال بعض العلماء القائلين بالتحريف بإذن الله.
الرواية الأولى: روى الكليني في آخر كتاب: فضل القرآن من الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله، قال: إن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية (1).
الرواة:
1) محمد بن يعقوب الكليني: ثقة الإسلام عند الإمامية.
2) محمد بن يحيى العطار: قال عنه النجاشي: (شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة عين كثير الحديث)، وقال عنه الطوسي: (قمي كثير الرواية)، وهو يروي كثيراً جداً عن أحمد بن محمد بن عيسى، إذ روى عنه قرابة ثلاثة آلاف رواية، كما أن الكليني روى عنه أكثر من خمسة آلاف رواية في الكافي.
3) أحمد بن محمد بن عيسى: قال عنه النجاشي: (شيخ القميين، ووجيههم، وفقيههم غير مدافع)، وقال عنه الطوسي في الفهرست: (شيخ قم، ووجيهها وفقيهها غير مدافع)، وقد روى عن علي بن الحكم قرابة ألف رواية.
4) علي بن الحكم بن الزبير النخعي: قال عنه الطوسي: (ثقة جليل القدر).
5) هشام بن سالم: قال عنه النجاشي: (ثقة ثقة)، وعده الشيخ المفيد في رسالته العددية من الرؤساء والأعلام، المأخوذ منهم الحلال والحرام، والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم بشيء، ولا طريق إلى ذم واحد منهم.
__________
(1) الكافي: (2/634).(1/291)
الرواية الثانية: روى الكليني في الروضة: عن محمد، عن أحمد، عن ابن فضال، عن الرضا أنه قرأ: (فأنزل الله سكينته على علي وأيده بجنود لم تروها) قلت: هكذا؟ قال: هكذا نقرؤها، وهكذا تنزيلها(1).
أقول: أولاً: تنزيل هذه الآية في المصحف الموجود بين أيدي المسلمين اليوم هكذا: ((فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا)) [التوبة:40]، فأين نزلت الآية التي تذكرها الرواية؟!
وثانياً: لاحظ أن هذه الصيغة هي التي يقرأ بها الإمام القرآن، فهي ليست مجرد نزول تفسير.
أما الرواة فكما يلي:
1) محمد بن يعقوب الكليني: ثقة الإسلام عند الإمامية.
2-3) محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن محمد بن عيسى سبقت ترجمتهما في الرواية السابقة.
4) علي بن الحسن بن فضال: حكي عن بعضهم عده من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وتصديقهم والإقرار لهم بالفقه والعلم، وقال عنه الطوسي في الفهرست: (روى عن الرضا عليه السلام، وكان خصيصاً به، كان جليل القدر عظيم المنزلة، زاهداً ورعاً، ثقة في الحديث وفي رواياته)، ووثقه في رجاله في أصحاب الرضا.
الرواية الثالثة: روى الكليني في الروضة: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بريد بن معاوية، قال: تلا أبو جعفر: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعاً في الأمر فأرجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم)، ثم قال: كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم؟ إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) [النساء:59] (2).
__________
(1) الكافي: (8/378).
(2) الكافي: (8/184).(1/292)
أقول: ويبدو أن هناك رأياً آخر لعلي بن إبراهيم القمي شيخ الكليني حول هذه الرواية، فقد قال في تفسيره قول الله تعالى: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]: حدثني أبي، عن حماد، عن حريز، عن أبي عبدالله، قال: نزلت: (فإن تنازعتم في شيء فأرجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم).
الآية في القرآن الكريم هكذا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء:59].
الرواة:
1) محمد بن يعقوب الكليني: ثقة الإسلام عند الإمامية.
2) علي بن إبراهيم القمي: شيخ مفسري الشيعة، روى عن أبيه أكثر من ستة آلاف رواية! وكذلك روى عنه الكليني في الكافي قرابة ستة آلاف رواية.
3) إبراهيم بن هاشم: هو أكثر رواة الإمامية حديثاً، إذ تزيد رواياته عن ستة آلاف رواية، روى منها ثلاثة آلاف رواية عن شيخه محمد بن أبي عمير، لكنه ليس ثقة عند جميع الشيعة، فبعضهم ينزل حديثه إلى مرتبة الحسن، لكن روايته مقبولة، وإنما الخلاف بينهم هل روايته صحيحة أم حسنة.
4) محمد بن أبي عمير: قال عنه النجاشي: (جليل القدر، عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين)، وقال عنه شيخ الطائفة الطوسي: (كان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة)، وقد روى عن عمر بن أذينة قرابة أربعمائة رواية.
5) عمر بن أذينة: قال عنه النجاشي: (شيخ أصحابنا البصريين ووجههم)، وقال عنه الطوسي (ثقة)، ووثقه أيضاً في رجاله في أصحاب الكاظم.(1/293)
6) بريد بن معاوية العجلي الكوفي: قال عنه النجاشي: (وجه من وجوه أصحابنا، وفقيه أيضاً، له محل عند الأئمة)، وقال الكشي في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبدالله: (اجتمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبدالله عليهما السلام، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، قالوا: وأفقه الستة زرارة).
فهذه الروايات السابقة صحيحة باتفاق علماء الرجال الشيعة، وهذا الكتاب - الكافي - له مكانة عظيمة عندهم، وكذا مؤلفه، وهذا يدلك على اعتقادهم بتحريف القرآن الكريم، وهو ما صرح به علماؤهم قديماً وحديثاً، وإليك بيان ذلك.
والغريب أن هذا الاتجاه لم يغادر أحداً من علماء القوم المعتبرين، حتى من ظن ذلك فيهم أو ادعى لهم، وإليك بياناً موجزاً عن هذا:
يقول الشيخ المفيد: إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم، باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان(1).
وقال: اتفقت الإمامية على أن أئمة الضلال خالفوا في كثيرٍ من تأليف القرآن، وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم(2).
وقال: إن الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله وليس فيه شيء من كلام البشر، وهو جمهور المنزل، والباقي مما أنزله الله تعالى قرآناً عند المستحفظ للشريعة، المستودع للأحكام لم يضع منه شيء، وإن كان الذي جمع ما بين الدفتين الآن لم يجعله -أي: عثمان- في جملة ما جمع لأسباب دعته إلى ذلك:
منها: قصوره عن معرفة بعضه.
ومنها: ما شك فيه.
ومنها: ما عمد بنفسه.
__________
(1) أوائل المقالات: (91)، فصل الخطاب: (30).
(2) أوائل المقالات: (48)، فصل الخطاب: (30)، محجة العلماء: (142).(1/294)
ومنها: ما تعمد إخراجه منه، وقد جمع أمير المؤمنين القرآن من أوله إلى آخره، وألفه بحسب ما وجب من تأليفه(1).
ويقول الكاشاني في تفسيره وبعد أن أورد الكثير من الروايات الدالة على التحريف: المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها: اسم علي في كثير من المواضع، ومنها غير ذلك، وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم (2).
وقال في موضع آخر: كما أن الدواعي كانت متوفرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين، كذلك كانت متوفرة على تغييره من المنافقين المبدلين للوصية المغيرين للخلافة لتضمنه ما يضاد رأيهم وهواهم، والتغيير فيه إن وقع فإنما وقع قبل انتشاره في البلدان واستقراره على ما هو عليه الآن(3).
وخلص إلى القول: بأنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن، إذ على هذا يحتمل أن كل آية منه قد حُرِّفت وغيرت، ويكون على خلاف ما أنزل الله، فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً، فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه، والوصية بالتمسك به.. إلى غير ذلك(4).
__________
(1) البحار: (92/74).
(2) تفسير الصافي: المقدمة السادسة: (1/49).
(3) المصدر السابق: (1/54).
(4) المصدر السابق: (1/51).(1/295)
ويقول المجلسي في معرض شرحه للكافي، في رواية هشام بن سالم، عن الصادق: إن القرآن الذي جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية: الخبر صحيح، ولا يخفى أن هذا الخبر وكثيراً من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً؛ بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن الأخبار في الإمامة، فكيف يثبتونها بالخبر(1).
وقال: إن عثمان حذف من هذا القرآن ثلاثة أشياء: مناقب أمير المؤمنين علي، وأهل بيته، وذم قريش والخلفاء الثلاثة، مثل آية: يا ليتني لم أتخذ أبا بكر خليلاً(2).
وقد أورد في تذكرته تمام سورة الولاية التي يدَّعي كشأن أضرابه أن عثمان رضي الله عنه قد حذفها من القرآن(3).
ويقول نعمة الله الجزائري في أنواره: إنه قد استفاض في الأخبار أن القرآن كما أنزل لم يؤلفه إلا أمير المؤمنين بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي بعد موته ستة أشهر مشتغلاً بجمعه، فلمَّا جمعه كما أنزل أتى به إلى المتخلفين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هذا كتاب الله كما أنزل، فقال عمر بن الخطاب: لا حاجة بنا إليك ولا إلى قرآنك، عندنا قرآن كتبه عثمان، فقال لهم علي: لن تروه بعد هذا اليوم ولا يراه أحد حتى يظهر ولدي المهدي. وفي ذلك القرآن زيادات كثيرة وهو خالٍ من التحريف(4).
__________
(1) مرآة العقول: (12/525)، فصل الخطاب: (353).
(2) تذكرة الأئمة: (9).
(3) تذكرة الأئمة: (9، 10).
(4) الأنوار النعمانية: (2/360).(1/296)
وقال في موضع آخر: ولا تعجب من كثرة الأخبار الموضوعة، فإنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم قد غيروا وبدَّلوا في الدين ما هو أعظم من هذا؛ كتغييرهم القرآن وتحريف كلماته، وحذف ما فيه من مدائح آل الرسول والأئمة الطاهرين وفضائح المنافقين وإظهار مساويهم، كما سيأتي في نور القرآن(1).
ونور القرآن هذا قد حذف تماماً من الكتاب، واكتفى المحقق الطباطبائي بالقول كما في الحاشية: إن القرآن الذي أنزله الله تعالى على رسوله وجعله معجزة باقية له إلى يوم القيامة هو القرآن الموجود بين أيدينا الآن لا زيادة فيه ولا نقصان ولا تحريف ولا تغيير(2).
ولعلنا نلتمس له العذر في حذف هذا الباب بأكمله من الكتاب إذا علمنا أن صاحبنا الجزائري يرى كما يروي عنه صاحب فصل الخطاب: أن الأخبار الدالة على التحريف تزيد على ألفي حديث(3).
فعجز عن رد هذه الروايات التي نظن أن الجزائري قد أورد الكثير منها في هذا النور، فحذفه محققنا وتركنا في الظلمات!!
ويقول العاملي: اعلم أن الحق الذي لا محيص عنه بحسب الأخبار المتواترة الآتية وغيرها: أن القرآن الذي في أيدينا قد وقع فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من التغيرات، وأسقط الذين جمعوه بعده كثيراً من الكلمات والآيات، وأن القرآن المحفوظ عما ذكر الموافق لما أنزله تعالى، ما جمعه إلا علي وحفظه إلى أن وصل إلى ابنه الحسن.. وهكذا إلى أن انتهى إلى القائم، وهو اليوم عنده صلوات الله عليه(4).
وفي موضع آخر قال -بعد أن أسهب في إثبات هذه المسألة وأورد أسماء من قال به ممن سبقوه وفند من ظن أنهم أنكروه- قال: وعندي من وضوح صحة هذا القول بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع، وأنه من أكبر مفاسد غصب الخلافة، فتدبر(5)!
__________
(1) المصدر السابق: (1/97).
(2) المصدر السابق: (1/97).
(3) فصل الخطاب: (251).
(4) مرآة الأنوار: (36).
(5) المصدر السابق: (49).(1/297)
ويقول البحراني بعد إنكاره لمسألة القراءات السبع: ومما يدفع ما ادعوه -أي: تواترها- أيضاً استفاضة الأخبار المتكاثرة بوقوع النقص في القرآن والحذف منه، كما هو مذهب جملة من مشايخنا المتقدمين والمتأخرين(1).
وفي موضع آخر وفي معرض تعليقه على قراءة آية الوضوء: ((وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)) [المائدة:6]، على النصب، قال: وليس بالبعيد أن هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز؛ لثبوت التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصاناً، وإن كان بعض أصحابنا ادعى الإجماع على نفي الأول، إلا أن في الأخبار ما يرده، كما أنهم تصرفوا في قوله تعالى في آية الغار لدفع العار عن شيخ الفجار(2)، حيث إن الوارد في أخبارنا أنها نزلت: فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها، فحذفوا لفظ (رسوله) وجعلوا محله الضمير، ويقرب بالبال -كما ذكر أيضاً بعض علمائنا- الإبدال، أن توسيط آية ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، في خطاب الأزواج من ذلك القبيل(3).
أقول: يقصد بقوله: كما ذكر بعض علمائنا الإبدال، المجلسي، حيث قال: فلعل آية التطهير أيضاً وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه، أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات لبعض مصالحهم الدنيوية، ولو سلم عدم التغيير في الترتيب، فنقول: سيأتي أخبار مستفيضة بأنه سقط من القرآن آيات كثيرة، فلعله سقط مما قبل الآية وما بعدها آيات(4).
__________
(1) الحدائق الناضرة: (8/10).
(2) أي: أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
(3) الحدائق الناضرة: (2/289، 290)، ولم يزد محقق الكتاب محمد تقي الايرواني على هذا القول سوى قوله: إن الآية الأولى من سورة التوبة ورقمها(40)، والأخرى من سورة الأحزاب ورقمها(33).
(4) البحار: (35/235)، محجة العلماء: (163)، فصل الخطاب: (320)، وانظر أيضاً قولاً آخر شبيه له في البحار: (65/110).(1/298)
وقد تناول الطهراني مسألة التحريف بإسهاب وتوسع، إذ نقل إجماع الشيعة على القول بهذه المسألة، وذكر أقوالهم، وفنَّد -على حد زعمه- أقوال أهل السنة في كون القرآن الموجود بين الدفتين هو القرآن بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، كما زيَّف أقوال أضرابه المنكرين للتحريف وطعن فيهم، وخلص إلى القول بإجماع الشيعة على هذه المسألة، بل وكونه من ضروريات مذهبهم(1).
أما النوري الطبرسي فقد صنف كتاباً مستقلاً في المسألة، قال في مقدمته: هذا كتاب لطيف، وسفر شريف، عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)(2).
وكتابه هذا زهاء أربعمائة صفحة، أورد فيه كل ما وقف عليه من أخبار وأقوال ونصوص بلغت المئات، كلها في إثبات مسألة التحريف.
وعند طبعه عام (1298) للهجرة، ثارت حوله ضجة عند القوم لافتضاح معتقدهم في هذه المسألة، ولم يقف المصنف مكتوف اليدين إزاء ما قيل فيه، بل صنف رسالة في دفع الشبهات التي أثيرت حوله(3).
ويقول السيد عدنان: إن القول بالتحريف والتغيير من المسلمات عند الفرقة المحقة، وكونه من ضروريات مذهبهم، وبه تظافرت أخبارهم(4).
وبعد أن أورد الروايات الدالة على التحريف وتفنيد أقوال المنكرين، خلص إلى القول بأن الأخبار من طريق أهل البيت كثيرة -إن لم تكن متواترة- على أن القرآن الذي بأيدينا ليس هو القرآن بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو محرف ومغير، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها: اسم علي في كثير من المواضع.
ومنها: لفظة آل محمد.
ومنها: أسماء المنافقين.
__________
(1) محجة العلماء في الأدلة العقلية، محمد هادي الطهراني.
(2) فصل الخطاب: (2).
(3) انظر في ذلك مثلاً: الذريعة: (10/220) (16/231)، الأنوار النعمانية: (2/364) (الحاشية) تعليق محقق الكتاب.
(4) مشارق الشموس: (126).(1/299)
ومنها: غير ذلك، وأنه ليس على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم كما في تفسير علي بن إبراهيم(1).
وعلى أي حال، فهذه المسألة فيها طول، ونجتزئ بما أوردناه من أقوال.
نماذج لأقوال بعض المعاصرين القائلين بالتحريف:
والطريف في الأمر أن عدد القائلين بالتحريف عند القوم في زيادة، بمعنى أن المتأخرين منهم لم يستطيعوا أن يخفوا هذه العقيدة رغم تمسحهم بمسوح التقية.
فانظر -مثلاً- الخوئي، رغم أنه حاول أن ينكر هذه العقيدة، إلا أنه ومن حيث يشعر أو لا يشعر نراه بإزاء تواتر روايات التحريف من طرق الشيعة يقول: إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر(2).
وقبله قال الخميني: ولعلَّ القرآن الذي جمعه -أي: علي عليه السلام- وأراد تبليغه إلى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القرآن الكريم مع جميع الخصوصيات الدخيلة في فهمه المضبوطة عنده بتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بلغ الأحكام حتى أرش الخدش على الأمة، لكن من لم يفت منه شيء من الأحكام وضبط جميعها كتاباً وسنة هو أمير المؤمنين في حين فات من القوم كثير منها لقلة اهتمامهم بذلك(3).
__________
(1) المصدر السابق: (127).
(2) البيان في تفسير القرآن: (226)، وانظر أيضاً إقراره بالتحريف صراحة في: (198، 199، 247، 257) من الكتاب نفسه.
(3) التعادل والترجيح: (26).(1/300)
وفي موضع آخر قالها صراحة: أولئك -أي: الصحابة- الذين لم يكن يهمهم إلا الدنيا والحصول على الحكم دون الإسلام والقرآن، والذين اتخذوا القرآن مجرد ذريعة لتحقيق نواياهم الفاسدة، قد سهل عليهم إخراج تلك الآيات من كتاب الله -أي: الدالة على خلافة علي بن أبي طالب عليه السلام- وكذلك تحريف الكتاب السماوي، وإقصاء القرآن عن أنظار الدنيا على وجه دائم، بحيث يبقى هذا العار في حق القرآن والمسلمين إلى يوم القيامة، إن تهمة التحريف التي يوجهونها إلى اليهود والنصارى إنما هي ثابتة عليهم(1).
هذا بالإضافة إلى أن الخميني وكذا صاحبه الخوئي من الموثقين لدعاء صنمي قريش، والذي يتضمن على فقرات دالة على وقوع التحريف.
وعلى أي حال، ليس هذا الكتاب مكان تناول هذه المسألة، فإن غرضنا من ذكر بعض أقوال القوم في تحريف القرآن هو بيان أسباب اضطرارهم لذلك.
وكنا قد جمعنا المئات من النصوص والروايات والأقوال من طرق القوم في التحريف تصلح مادة لكتاب، ونسأل الله أن يرى النور.
نماذج من الآيات التي ادعوا حذف كلمة بني هاشم وآل محمد منها:
وعلى أي حال، لابد من ذكر نماذج من هذا الاتجاه، ففيها صلة بموضوع كتابنا هذا، فمن الآيات التي ادعى القوم حذف كلمة بني هاشم منها: ما روي عن الصادق: ولو نشاء لجعلنا من بني هاشم ملائكة في الأرض يخلفون، قال الراوي: ليس في القرآن بني هاشم؟ فقال أبو عبدالله: محيت والله فيما محي(2).
__________
(1) كشف الأستار: (114) (طبعة طهران).
(2) البرهان: (4/151)، فصل الخطاب: (328)، تأويل الآيات: (2/569)، البحار: (35/315).(1/301)
ومن الآيات التي ادعى القوم حذف كلمة آل محمد منها: قول الأمير عليه السلام في رواية الزنديق الطويلة: وكذلك قوله: سلام على يس، لأن الله سمى به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: يس والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، لعلمه بأنهم يسقطون قول الله: سلام على آل محمد، كما أسقطوا غيره(1).
وعن الباقر: نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا: فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم قولاً غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد حقهم رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون(2).
وعن الصادق أنه قرأ: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين، قال: هكذا نزلت.
وفي رواية: فأسقطوا آل محمد من الكتاب.
وفي أخرى: فمحوها وتركوا آل إبراهيم وآل عمران.
وفي أخرى: فوضعوا اسماً مكان اسم.
وفي أخرى: حرفاً مكان حرف(3).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون لآل محمد، فحذفوا آل محمد(4).
__________
(1) الاحتجاج: (253)، البحار: (92/46)، (93/120)، البرهان: (4/34)، الصافي: (4/282)، فصل الخطاب: (322).
(2) الكافي: (1/424)، الصافي: (1/136)، البرهان: (1/104)، القمي: (1/248)، فصل الخطاب: (254)، البحار: (24/222، 224) (92/64)، العياشي: (1/45).
(3) القمي: (1/108)، البرهان: (1/277)، الصافي: (1/328-329)، تأويل الآيات: (1/105)، نور الثقلين:(1/274)، أمالي الشيخ:(188)، البحار:(11/24)(23/222، 225، 227) (92/56)، العياشي: (1/193)، تفسير فرات: (1/78)، التبيان:(2/441)، فصل الخطاب:(264، 265)، محجة العلماء: (130)، البيان: (233)، مجمع البيان: (1/735)، جوامع الجامع: (1/202).
(4) البحار: (93/27)، فصل الخطاب: (270).(1/302)
وعن الصادق: نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: إن الذين ظلموا آل محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم(1).
وعنه: هكذا نزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم في آل محمد وأنتم تعلمون(2).
وعنه: نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الآية هكذا: ولا يزيد الظالمين آل محمد حقهم إلا خساراً(3).
وعنه: وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً لآل محمد، كذا نزلت(4).
وعن الباقر: نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية هكذا: وقال الظالمون لآل محمد حقهم إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً(5).
وعن الصادق: وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم أي منقلب ينقلبون، هكذا والله نزلت(6).
__________
(1) الكافي: (1/424)، القمي: (1/159)، البرهان: (1/428)، فصل الخطاب: (278)، البحار: (24/224) (35/57) (36/93، 99) (92/64)، الصافي: (1/523)، العياشي: (1/311)، تأويل الآيات: (1/143)، المناقب: (2/301).
(2) فصل الخطاب: (290).
(3) كنز الفوائد: (140)، الصافي: (3/213)، البرهان: (2/443)، البحار: (24/226) (92/65)، فصل الخطاب: (304)، العياشي: (2/338)، تأويل الآيات: (1/290)، نور الثقلين: (3/213).
(4) كنز الفوائد: (159، 207)، البحار: (23/361) (24/222، 257)، فصل الخطاب: (308)، تأويل الآيات: (1/318)، البرهان: (3/44).
(5) البرهان: (3/156)، الصافي: (4/5)، تأويل الآيات: (1/371)، القمي: (2/88)، البحار: (24/20، 24) (92/64)، فصل الخطاب: (315)، كنز الفوائد: (179)، تفسير فرات: (1/291)، نور الثقلين: (4/7).
(6) الصافي: (4/57)، البرهان: (3/194)، فصل الخطاب: (218)، جوامع الجامع: (2/205)، تأويل الآيات: (1/400)، نور الثقلين: (4/72)، القمي: (1/23، 2/101).(1/303)
وعن الباقر: نزلت هذه الآية هكذا: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم آل محمد حقهم أنكم في العذاب مشتركون(1).
والأمثلة في ذلك كثيرة، ونكتفي بما أوردناه.
نماذج من الآيات التي ادعوا حذف ما يختص بالإمامة منها:
ومن الآيات التي ادعى القوم حذف ما يتعلق بالإمامة والأئمة منها: قول الباقر: في قراءة علي عليه السلام وهو التنزيل الذي نزل به جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، الوصية لرسول الله، والإمام بعده(2).
وفي رواية: عن الكاظم أنه قال لبعض أصحابه: كيف تقرأ هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم ماذا؟ قال: مسلمون، فقال: سبحان الله! يوقع عليهم الإيمان فيسميهم مؤمنين ثم يسألهم الإسلام، والإيمان فوق الإسلام، قال: هكذا يُقرأ في قراءة زيد، قال: إنما هي في قراءة علي صلوات الله عليه وهو التنزيل الذي نزل به جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم: إلا وأنتم مسلمون لرسول الله ثم الإمام من بعده(3).
وعن الصادق: ولتكن منكم أئمة(4).
وعن ابن سنان قال: قرأت عند أبي عبدالله: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:110]
فقال: خير أمة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابْنَيْ علي؟
__________
(1) الصافي: (4/392)، البرهان: (4/143)، فصل الخطاب: (328)، كنز الفوائد: (290)، القمي: (2/260)، البحار: (24/230) (35/368) (36/153)، تأويل الآيات: (2/557).
(2) البحار: (2/206) (23/258)، المناقب: (3/207)، البرهان: (1/156).
(3) فصل الخطاب: (267)، الصافي: (1/365)، التبيان: (2/544)، البرهان: (1/304)، العياشي: (1/217)، البحار: (2/206) (23/358).
(4) البرهان: (1/308)، فصل الخطاب: (268)، مجمع البيان: (1/807)، تأويل الآيات: (1/118).(1/304)
قال: فقلت: جعلت فداك، كيف نزلت؟ قال: نزلت: كنتم خير أئمة أخرجت للناس، ألا ترى مدح الله لهم: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله(1).
وعن الباقر: لو أن الجهال من هذه الأمة يعرفون متى سمي أمير المؤمنين لم ينكروا، إن الله تبارك وتعالى حين أخذ ميثاق ذرية آدم، وذلك فيما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، فنزل به جبرئيل كما قرأناه يا جابر -راوي الحديث- ألم تسمع الله يقول: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وأن محمداً رسولي، وأن علياً أمير المؤمنين.
وفي رواية: هكذا نزل به جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي أخرى: هكذا أنزل الله في كتابه(2).
وعن الصادق أن رجلاً قرأ عنده: ((وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) [التوبة:105]، فقال: ليس هكذا هي، إنما هي والمأمونون، ونحن المأمونون(3).
وعنه أنه قرأ: أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم.
__________
(1) القمي: (1/22، 110)، البرهان: (1/34، 308)، الصافي: (1/370)، فصل الخطاب: (268)، العياشي: (1/195)، البحار: (24/153، 154) (92/60، 75)، مرآة الأنوار: (48)، مجمع البيان: (1/807)، تأويل الآيات: (1/121)، نور الثقلين: (1/317).
(2) الكافي: (1/412)، وقال المولى محمد صالح في شرحه: أشار إلى أن هذا كان منزلاً وحذفه المحرفون المنافقون حسداً وعناداً، البرهان: (2/47)، فصل الخطاب: (286، 287، 288)، البحار: (37/311-332)، تفسير فرات: (1/146)، العياشي: (2/43، 44)، الأنوار النعمانية: (1/277)، تأويل الآيات: (1/180).
(3) الكافي: (1/424)، فصل الخطاب: (291)، البرهان: (2/157)، الصافي: (2/373)، نور الثقلين: (2/263).(1/305)
وفي رواية: قال الراوي: جعلت فداك، أئمة؟ قال: إي والله أئمة، قلت: فإنا نقرأ أربى، فقال: وما أربى، وأومأ بيده فطرحها(1).
وعن الباقر قال: قال الله عز وجل: ألم تكن آياتي تتلى عليكم في علي فكنتم بها تكذبون(2).
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله: ((وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)) [الفرقان:74]، قال: لقد سألت ربك عظيماً، إنما هي: واجعل لنا من المتقين إماماً.
وفي رواية: قد سألوا عظيماً أن يجعلهم للمتقين أئمة، فقيل له: كيف هذا يا ابن رسول الله؟ قال: إنما أنزل الله: واجعل لنا من المتقين إماماً(3).
وعن أبي الحسن الماضي: وذرني يا محمد والمكذبين وصيك أولي النعمة، قلت -أي: الراوي-: إن هذا تنزيل؟ قال: نعم(4).
نماذج من الآيات التي ادعوا حذف اسم علي بن أبي طالب عليه السلام منها:
ونختم ذلك بذكر نماذج من الآيات التي حذف منها اسم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بزعم القوم، من ذلك:
__________
(1) البرهان: (2/282، 283)، البحار: (36/149) (92/60) (93/27)، القمي: (1/391)، الصافي: (3/154)، فصل الخطاب: (302)، العياشي: (1/290)، الكافي: (1/292)، تأويل الآيات: (1/262).
(2) كنز الفوائد: (182)، البحار: (24/258).
(3) فصل الخطاب: (316)، البرهان: (1/34، 3/177)، جوامع الجامع: (2/182)، الصافي: (4/27)، القمي: (1/22) (2/117)، البحار: (92/62)، تأويل الآيات: (1/384).
(4) الكافي: (1/343)، البرهان: (4/398)، الصافي: (5/242)، البحار: (24/338)، فصل الخطاب: (339).(1/306)
قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي، فإن لم تفعل عذبتك عذاباً أليماً، فطرح العدوي -بزعمهم- اسم علي(1).
وعن الباقر: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي فأتوا بسورة من مثله(2).
وعنه أيضاً قال: نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا: بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في علي بغياً(3).
وعنه قال: نزلت هذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا والله: وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم في علي قالوا أساطير الأولين(4).
وعن الصادق: نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الآية هكذا: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا في علي نوراً مبيناً(5).
__________
(1) المناقب: (2/41)، فصل الخطاب: (282)، والمقصود بالعدوي: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظر أيضاً: فصل الخطاب: (242، 280، 281)، كشف الغمة: (1/326)، البرهان: (1/34، 437، 491)، محجة العلماء: (130)، الصافي: (2/51)، البحار: (35/58)، القمي: (1/23).
(2) الكافي:(1/417)، البرهان:(1/70)(3/70)، القمي: (1/35)، البحار: (23/373)(35/75)، فصل الخطاب: (254)، البيان: (230)، تأويل الآيات: (1/42).
(3) الكافي: (1/417)، الصافي: (1/162)، البرهان: (1/128)، فصل الخطاب: (256)، البحار: (23/372) (36/98، 130)، تفسير فرات: (1/60)، العياشي: (1/69)، تأويل الآيات: (1/76)، نور الثقلين: (1/86).
(4) البرهان: (1/130) (2/363)، فصل الخطاب: (256، 301)، العياشي: (2/279)، القمي: = = (1/385)، البحار: (35/58) (36/104، 141)، تفسير فرات: (1/234).
(5) الكافي: (1/417)، البرهان: (1/373)، البحار: (23/373) (35/57)، فصل الخطاب:(273).(1/307)
وفي رواية: عن الباقر: نزلت هذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلت في علي مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم.. إلى قوله: مفعولاً(1).
وعن الصادق: وما يوعظون به في علي.. هكذا نزلت(2).
وعنه قال: إنما نزلت: لكن الله يشهد بما أنزل في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً(3).
وعنه قال: نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم في ولاية علي فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا بولايته فإن لله ما في السموات وما في الأرض(4).
__________
(1) البرهان: (1/374)، فصل الخطاب: (273)، الكافي: (1/417)، وقال المولى صالح في شرحه للكافي: ظاهر هذا الحديث على أن قوله تعالى في علي نوراً مبيناً في نظم القرآن، والمنافقون حرفوه وأسقطوه، البحار: (9/193)، العياشي: (1/272)، نور الثقلين: (1/486).
(2) الكافي:(1/417، 424)، البرهان: (1/391)، الصافي: (1/467)، البحار: (23/303)، العياشي: (1/256)، فصل الخطاب: (277)، تأويل الآيات: (1/136).
(3) البرهان: (1/428)، القمي: (1/159)، الصافي: (1/523)، البحار: (36/93، 99)(92/64)، فصل الخطاب: (278)، نور الثقلين: (1/576)، العياشي: (1/311).
(4) الكافي: (1/424)، البرهان: (1/428)، البحار: (35/58)، الصافي: (1/523)، فصل الخطاب: (279)، العياشي: (1/311)، تأويل الآيات: (1/143)، المناقب: (2/301).(1/308)
وعنه قال: نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: وقل الحق من ربكم في ولاية علي، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنا أعتدنا للظالمين آل محمد حقهم ناراً أحاط بهم سرادقها(1).
وعنه قال: نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: فأبى أكثر الناس بولاية علي إلا كفوراً(2).
وعنه قال: ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي والأئمة من بعده فقد فاز فوزاً عظيماً، هكذا نزلت(3).
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون بعلي.
وفي رواية: بعلي منتقمون.
وفي أخرى: محيت والله من القرآن واختلست والله من القرآن(4).
وعن الصادق: إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ في علي.. هكذا نزلت(5).
__________
(1) الكافي: (1/425)، كنز الفوائد: (141)، العياشي: (2/353)، تأويل الآيات: (1/292، 293)، القمي: (2/9)، نور الثقلين: (3/258)، البرهان: (2/465، 466)، الصافي: (3/241)، فصل الخطاب:(305)، البحار:(23/379، 381)(24/221، 222، 226)(35/57)(36/83)(92/65).
(2) البرهان: (2/445) (3/169)، فصل الخطاب: (304، 316)، الكافي: (1/425)، الصافي: (3/216)، البحار: (23/379، 381، 382) (35/57) (36/105) (92/64)، كنز الفوائد: (140، 141)، تأويل الآيات: (1/291)، المناقب: (2/301)، العياشي: (2/340).
(3) الكافي: (1/414)، الصافي: (4/206)، القمي: (2/198)، البرهان: (3/340)، البحار: (23/303) (35/57)، فصل الخطاب: (320)، تأويل الآيات: (2/469)، نور الثقلين: (4/309).
(4) جوامع الجامع: (2/513)، مجمع البيان: (9/75)، البرهان: (4/144)، فصل الخطاب: (328)، البحار: (32/313)، تأويل الآيات: (2/560).
(5) البرهان: (4/172)، تأويل الآيات: (2/578)، كنز الفوائد: (301)، فصل الخطاب: (329)، البحار: (24/320).(1/309)
وعنه قال: والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد في علي وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.. هكذا نزلت(1).
وعن الباقر: نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية هكذا: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله في علي، إلا أنه كشط الاسم(2).
وقوله: إن علي إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل، فمحي اسمه وكشط عن هذه الموضع(3).
وعنه قال: إنما توعدون لصادق في علي.. هكذا نزلت(4).
وعن أبي الحسن الماضي قال: ولو كره الكافرون بولاية علي، قال السائل: هذا تنزيل؟ قال: أما هذا الحرف فتنزيل، وأما غيره فتأويل(5).
وعن الصادق: سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين بولاية علي ليس له دافع، ثم قال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: هكذا هي في مصحف فاطمة.
__________
(1) الصافي: (5/21)، البرهان: (4/180)، تأويل الآيات: (2/583)، القمي: (2/277)، كنز الفوائد: (338)، فصل الخطاب: (332)، البحار: (24/321) (36/86).
(2) البرهان: (4/182)، الصافي: (5/22)، كنز الفوائد: (303)، القمي: (2/278)، جوامع الجامع: (556)، مجمع البيان: (9/149)، البحار: (23/385)(24/321)(36/87)، فصل الخطاب:(332)، تأويل الآيات: (2/584)، نور الثقلين: (5/31).
(3) القمي: (2/259)، الصافي: (4/397)، البحار:(24/399)(89/277)، نور الثقلين:(4/609)، البرهان: (4/151).
(4) البرهان: (4/230)، فصل الخطاب: (332)، البحار: (36/162)، تأويل الآيات: (2/614).
(5) الكافي: (1/432)، البحار: (23/318) (24/336)، البرهان: (4/329)، فصل الخطاب: (335)، تأويل الآيات: (2/687)، نور الثقلين: (5/317).(1/310)
وفي أخرى: هكذا هو مثبت في مصحف فاطمة(1).
وعن علي عليه السلام قال: ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابياً، فحرفوها، فقالوا: تراباً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من مخاطبتي بأبي تراب(2).
وعن الصادق: والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، خلق الزوجين الذكر والأنثى، ولعلي الآخرة والأولى، قال: نزلت هكذا(3).
وعن المقداد بن الأسود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم اعضدني، واشدد أزري، واشرح صدري، وارفع ذكري، فنزل جبرئيل، وقال: اقرأ يا محمد: ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك بعلي صهرك، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبتها ابن مسعود، وانتقصها عثمان(4).
ولا نطيل عليك، ففيما أوردناه كفاية لبيان المقصود.
__________
(1) الكافي: (1/422) (8/57)، البرهان: (4/381)، الروضة: (49)، الصافي: (5/524)، البحار: (23/378) (35/57، 324) (37/176)، فصل الخطاب: (339)، المناقب: (2/301)، نور الثقلين: (5/411، 412)، تأويل الآيات: (2/723).
(2) فصل الخطاب: (341)، البحار: (35/51، 60) (92/62) (93/27).
(3) البرهان: (4/471)، الصافي: (5/336)، فصل الخطاب: (345، 346)، كنز الفوائد: (390)، البحار: (24/398، 399)، تأويل الآيات: (2/808).
(4) البرهان: (4/375)، فصل الخطاب: (346)، الفضائل: (159)، الروضة: (30)، البحار: (36/116)، محجة العلماء: (131)، وانظر أيضاً: مولد النبي (217).(1/311)
الكلام في حقيقة نسبة الشيعة فرية التحريف إلى أهل السنة:
الغريب أنه رغم كل هذا فإن هناك من القوم من لا يزال يكابر ويحاول أن يوهم البسطاء والسذج من بني جلدته أو من غيرهم بأن مسألة التحريف هذه من المسلمات عند الفريقين(1) -أي: السنة والشيعة- وذلك بإيراده -وبشكل ممل ومكرر- روايات من طرق أهل السنة في نسخ التلاوة أو القراءات، أو بعض الروايات الموضوعة التي تكلم العلماء في وضعها، أو أوردوها لصلتها بالموضوع دون اعتقاد صحتها، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله.
ومحاولتهم التلبيس على البسطاء والسذج إنما هي من أجل حفظ ماء الوجه أمام أتباعهم ومقلديهم، وإلا فمحاولة نسبة التحريف إلى أهل السنة -أيضاً- ظلم وأي ظلم، وأشد منه حصر القول بالتحريف على أهل السنة وتبرئة ساحة الشيعة منه، وهذا من العجب العجاب!
لقد سبق -قبل قليل- ذكر تصريح علمائهم الأولين، وكذا العلماء المعاصرين، في القول بالتحريف بما لا يمكن معه المخادعة والمراوغة، حيث جعلوا النصوص فيه من المتواتر، والقول به من ضروريات مذهب التشيع.
ومن باب العدل والإنصاف فإن هناك من علماء الشيعة من لم يصرح في الظاهر بالقول بالتحريف؛ كالشريف المرتضى، والشيخ الصدوق، وشيخ الطائفة الطوسي، والطبرسي.
__________
(1) انظر مثلاً: شبهات حول الشيعة لعباس الموسوي: (46)، نقض الوشيعة، لمحسن الأمين: (164)، البرهان على عدم تحريف القرآن لمرتضى الرضوي: (179)، الجوامع والفوارق بين السنة والشيعة، لمحمد جواد مغنية: (305)، القرآن ودعاوى التحريف، لرسول جعفريان: (39)، مع الدكتور موسى الموسوي في كتابه الشيعة والتصحيح لعلاء القزويني: (293)، مع الصادقين للتيجاني السماوي:(199)، كشف الحقائق لعلي آل محسن: (67)، البيان للخوئي: (201).(1/312)
وكل من أراد من القوم نفي هذه الفرية عنهم يحيلنا إلى أقوال هؤلاء، وهؤلاء إنما أرادوا بنفيهم لعقيدة التحريف القول بأن الشيعة كسائر المسلمين يعتقدون بهذا القرآن، لعلمهم بأن الاعتقاد بكونه محرفاً يخرج بقائله عن الإسلام والمسلمين.
وبغض النظر عن حقيقة أقوال هؤلاء والاضطراب في ذلك، حيث إن بعضهم أورد في مصنفاته ما يدل على القول بالتحريف، وكذلك كون بعضهم شيخاً للبعض وتلميذاً لآخرين، كالشيخ المفيد الذي مرَّ قوله وإقراره بالتحريف، فهو من تلاميذ الشيخ الصدوق، ومن شيوخ المرتضى علم الهدى، وشيخ الطائفة الطوسي، وهؤلاء -كما عرفت- أنكروا التحريف.
فإن هذا يضع أمامنا علامة استفهام كبيرة لحقيقة الأمر، وهل أقوالهم هذه صدرت على وجه التقية أم خلافه؟ وحيث إن أهل مكة أدرى بشعابها، ندع الكلام فيهم إلى أضرابهم:
يقول الجزائري: والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها: سد باب الطعن عليها؛ بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها، وسيأتي الجواب عن هذا، كيف وهؤلاء الأعلام رووا في مؤلفاتهم أخباراً كثيرة تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا نزلت ثم غُيِّرت إلى هذا(1).
ويقول النوري: لم يعرف الخلاف صريحاً إلا من هؤلاء المشايخ الأربعة وما حكى عنهم المفيد، ثم شاع هذا المذهب بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم، حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: إنه حكي عليه الإجماع، وبعد ملاحظة ما ذكرناه تعرف أن دعواه جرأة عظيمة، وكيف يمكن دعوى الإجماع بل الشهرة المطلقة على مسألة خالفها جمهور القدماء وجُلَّ المحدثين وأساطين المتأخرين، بل رأينا كثيراً من كتب الأصول خالية عن ذكر هذه المسألة، ولعل المتتبع يجد صدق ما قلناه ونقلناه.(2)
__________
(1) الأنوار النعمانية: (2/358).
(2) فصل الخطاب: (37).(1/313)
وقال في موضع آخر في معرض رده على المرتضى: كيف وقد عد هو في الشافي من مطاعن عثمان: إن من عظيم ما أقدم عليه جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وإبطاله ما لاشك أنه من القرآن، ولولا جواز كون بعض ما أبطله أو جميعه من القرآن لما كان ذلك طعناً(1).
وفي رده على الطوسي قال: لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان -وهو الكتاب الذي ادعى فيه الطوسي بأن القرآن غير محرف- أن طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج وابن زيد وأمثالهم، ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة عليهم السلام إلا قليلاً في بعض المواضع لعله وافقه في نقله المخالفون، بل عدَّ الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذي حمدت طرائقهم ومدحت مذاهبهم، وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة، فمن المحتمل أن يكون هذا القول منه نحو ذلك.
ومما يؤكد كون وضع هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجليل علي بن طاوس في سعد السعود، وهذا لفظه: نحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر بن الحسن الطوسي في كتاب التبيان، وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفصيل المكي من المدني والخلاف في أوقاته(2).
ويقول الطهراني: وكيف كان فالمتبع هو البرهان لا الأساطين والأعيان، ولا يعرف لهؤلاء موافق إلى ذلك الزمان، وإنما شاع بعد عصر الطبرسي مع أن إسناده إلى الشيخ والطبرسي في غاية الإشكال، فدعوى الإجماع على عدم التحريف عجيبة حيث لا يعرف سوى الصدوق والمرتضى إلى عصرٍ متأخر المتأخرين، وقد عرفت الذاهبين إلى الحق(3).
__________
(1) فصل الخطاب: (35).
(2) فصل الخطاب: (37)، محجة العلماء: (156).
(3) محجة العلماء: (158).(1/314)
وهكذا حمل أقوالهم على التقية سائر من رد عليهم ممن اعتقد بالتحريف، ولا يسعنا هنا الإسهاب في بيان هذا الأمر حتى لا نخرج عن موضوع الكتاب.
ولا زال أذناب هؤلاء في أيامنا هذه ينتهجون مناهجهم وهم يرون في التقية فسحة وملاذاً آمناً.
فهذا شرف الدين الموسوي يقول: نُسب إلى الشيعة القول بالتحريف بإسقاط كلمات وآيات، فأقول: نعوذ بالله من هذا القول، ونبرأ إلى الله من هذا الجهل، وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفترٍ علينا، فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته(1).
وهذا آخر وهو الأميني يقول: ليت هذا المجترئ -أي: ابن حزم- أشار إلى مصدر فريته من كتاب للشيعة موثوق به أو حكاية عن عالم من علمائهم تقيم له الجامعة وزناً، أو طالب من رواد علومهم ولو لم يعرفه أكثرهم، بل نتنازل معه إلى قول جاهل من جهالهم أو قروي من بسطائهم أو ثرثار، كمثل هذا الرجل يرمي القول على عواهنه، لكن القارئ إذا فحص ونقَّب لا يجد في طليعة الإمامية إلا نفاة هذه الفرية، كالشيخ الصدوق في عقايده، والشيخ المفيد، وعلم الهدى، وشيخ الطائفة الطوسي في التبيان، وأمين الإسلام في مجمع البيان.. وهذه فرق الشيعة في مقدمتهم الإمامية مجمعة على أن ما بين الدفتين هو ذلك الكتاب لا ريب فيه(2).
فانظر إلى مساوئ التقية وكيف تصل بصاحبها إلى هذا الدرك من فساد العقيدة، وخبث السريرة، واستحلال التلبيس على عباد الله، فهل كان يرى أن عقائد أضرابه بمنأى عن غيره حتى يجد لنفسه هذه الحرية في الإنكار والتقية.
__________
(1) أجوبة مسائل جار الله: (28).
(2) الغدير: (3/101).(1/315)
فهل أن القمي، والصفار، والكليني، والمفيد -الذي جعله من المنكرين للتحريف- والعياشي، وفرات، والطبرسي -صاحب الاحتجاج- والكاشاني، والمجلسي، والجزائري والبحراني، والعاملي، والطهراني، والنوري، والطبرسي، والسيد عدنان.. وغيرهم ممن ذكرناهم أو لم نذكرهم، فهل هؤلاء من أساطين القوم الذين أسسوا بنيان التشيع وقعدوا قواعده وأصلوا أصوله، أم إنهم من جهالهم أو قروييهم أو ثرثاريهم؟!
والطريف أن الأميني في الكتاب نفسه، وهو في فورة حماسه في حشد كل ما يراه قد طَعَنَ في الخلفاء من روايات موضوعة أو لا تخدم غرضه، فقد أقر من حيث يشعر أو لا يشعر بالتحريف حيث قال:
إن بيعة الصديق رضي الله عنه قد عمَّ شؤمها الإسلام، وزرعت في قلوب أهلها الآثام، وعنفت سلمانها، وطردت مقدادها، ونفت جندبها، وفتقت بطن عمارها، وحرفت القرآن، وبدلت الأحكام، وغيرت المقام(1).
تماماً كما فعل الخوئي في بيانه حيث نفى التحريف أولاً، ثم قال من حيث أراد أو لم يرد كما مر بك.
إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر.
ولا أريد أن أطيل عليك، فليس هذا موضع التوسع في هذه المسألة كما ذكرت لك، ولكن هي إشارات مختصرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الحديث عن اتهاماتهم لأهل السنة والجماعة بالتحريف:
فكما ذكرنا آنفاً أن هناك من القوم من لا يزال يكابر ويحاول أن يوهم البسطاء والسذج من بني جلدته أو من غيرهم بأن مسألة التحريف هذه من المسلمات عند الفريقين -أي: السنة والشيعة- وذلك بإيراده -وبشكل ممل ومكرر- روايات من طرق أهل السنة في نسخ التلاوة أو القراءات، أو بعض الروايات الموضوعة التي تكلم العلماء في وضعها، ومن أمثلة هذه الروايات:
__________
(1) الغدير: (9/388).(1/316)
عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: (إن الله عز وجل بعث محمداً بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل إليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده) ثم قال: كنا نقرأ: (ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) أو: (إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم).
وعن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن).
وعن أبي موسى الأشعري أنه بعث إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها:لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة).
وعن زر قال: قال أبي بن كعب: يا زر، كم آي تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: (73) آية، قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة.
وعن حميدة بنت أبي يونس قالت: (قرأ عليَّ أَبِي -وهو ابن ثمانين سنة- في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، وعلى الذين يصلون الصفوف الأول. قالت: قبل أن يغير عثمان المصاحف).
وعن عبد الرازق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: سمعت بجالة التميمي قال: وجد عمر بن الخطاب مصحفاً في حجر غلام في المسجد فيه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم).
وعن عروة قال: كان مكتوباً في مصحف عائشة: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر.(1/317)
وعن إبراهيم بن علقمة قال: (دخلت في نفر من أصحاب عبدالله الشام، فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا، فقال: أفيكم من يقرأ؟ فقلنا: نعم، قال: فأيكم؟ فأشاروا إلي، فقال: اقرأ، فقرأت: والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، قال: أنت سمعتها من فِي صاحبك؟ قلت: نعم، قال: وأنا سمعتها من فِي النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يأبون علينا).
وعن أبان بن عمران قال: قلت لعبدالرحمن بن أسود: إنك تقرأ: صراط من أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم وغير الضالين.
وغيرها، وهي لا تخرج عن هذا السياق.
أقول: أما القول بأن نسخ التلاوة تحريف فليس بصحيح؛ لأن نسخ التلاوة ثابت بكتاب الله، حيث يقول سبحانه: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) [البقرة:106]، وكقوله سبحانه: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد:39]، وهذا المراد به نسخ التلاوة..
والنسخ في الآية يشمل نسخ التلاوة والحكم، ولا يوجد دليل على إخراج نسخ التلاوة.
يقول الفيض الكاشاني في معنى الآية الأولى: ما ننسخ من آية بأن نرفع حكمها، أو ننسها بأن نرفع رسمها(1).
أضف إلى ذلك أن الذين يقولون بعدم التحريف يقولون بنسخ التلاوة، كالمرتضى والطبرسي والطوسي، فمثلاً يقول الطبرسي: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب، منها: ما يرتفع اللفظ ويثبت الحكم كآية الرجم(2)، وقال نحو هذا القول أبو جعفر الطوسي والعتاقي الحلي(3)، والوحيد الذي لم يثبت عنه القول بالتحريف بوجه من الوجوه وهو المرتضى يقول عن نسخ التلاوة: فصل في جواز نسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ التلاوة دونه(4).
__________
(1) الصافي: (1/178).
(2) مجمع البيان: (1/406).
(3) انظر: التبيان: (1/13)، وأقسام الناسخ والمنسوخ: (ص:35)، وانظر أيضاً إن شئت: ما ذكره النوري الطبرسي (ص:115).
(4) الذريعة إلى أصول الشريعة: (ص:428).(1/318)
أما إنكار بعض علماء الشيعة للقراءات، فنقول: إنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون، وهذا من الضلال المبين، فالقراءات ثابتة ومتواترة من طرقنا، وإلا فهم لا يستطيعون إثبات القرآن ولا من طريق واحد.
وأما إنكار الأحرف وأن القرآن نزل على سبعة أحرف، فأقول: بوب الصدوق: باب نزول القرآن على سبعة أحرف(1).
فالقرآن نزل على سبعة أحرف، وذلك على اختلاف اللهجات، فمثلاً: تأتي الآية بلفظ [جاء]، وتأتي بلفظ [أتى]، فهذا معنى الأحرف السبعة على القول الصحيح، فلما انتشر الإسلام في الناس كثر الخلاف في أوجه القراءة، ولذا جمعهم عثمان رضي الله عنه على مصحفٍ واحدٍ على لغة قريش.
وإلى هذا يعزى سبب الاختلاف في عددٍ من الروايات، حتى بين الصحابة أنفسهم، وكان ذلك قبل جمعهم على مصحف واحد.
وأما قول بعض علماء الشيعة: بأن اختلاف أهل السنة في البسملة دليل على أنها من المحرف.
فأقول: لا خلاف بينهم في جواز قراءتها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها، ولكن خلافهم: هل قرأها على أنها آية من القرآن، أو للتبرك، أو للفصل بين السور كما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنزل الله عليه البسملة للفصل بين السور.؟
قال الشوكاني: واعلم أن الأمة أجمعت على أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها، بخلاف ما لو نفى حرفاً مجمعاً عليه، أو أثبت ما لم يقل به أحد، فإنه يكفر بالإجماع -أي: بإجماع أهل السنة- ولا خلاف في إثباتها خطاً في أوائل السور في المصحف إلا في أول سورة براءة(2).
__________
(1) الخصال: (2/358).
(2) نيل الأوطار (2/32)، وانظر للاستزادة: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي، ومراقي السعود.(1/319)
فالكل مجمع على إثباتها كتابة في المصحف، وأنها ثابتة في المصحف الأصل، ولم يدع أحد إلى إزالتها من المصحف، فبقي خلافهم: هل هي آية فتدخل في ترقيم الآيات، أم إنها للفصل بين السور فلا تدخل في ترقيم الآيات؟
ناهيك أن من علماء الشيعة كالمجلسي -مثلاً- من عدَّ سورتي: الضحى والشرح سورة واحدة، وأنه ينبغي أن يقرأهما موضعاً واحداً ولا يفصل بينهما بالبسملة، وقد حكى المجلسي الخلاف في ذلك، قال: والأكثر على ترك البسملة(1).
فهل عدَّ الشيعة ذلك تحريفاً؟! أم هو كما قيل: رمتني بدائها وانسلت!
وأما عدم الجهر بالبسملة في الصلاة، فعندنا أنه يجوز الجهر وعدمه، وكلاهما ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً نقول: روي ذلك عن أبي عبدالله، فعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله عن الرجل يكون إماماً، يستفتح بالحمد ويترك: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) [الفاتحة:1] قال: لا يضره، ولا بأس عليه(2).
وعن محمد بن علي الحلبي أن أبا عبدالله سُئِلَ عمن يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) حين يريد يقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم، إن شاء سراً وإن شاء جهراً. فقيل: أفيقرؤها في السورة الأخرى؟ قال: لا(3).
بل خذ هذه الرواية وتأمل فيها، فعن مسمع البصري قال: صليت مع أبي عبد الله فقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:1-2] ثم قرأ السورة التي بعد الحمد ولم يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) [الفاتحة:1]، ثم قام في الثانية فقرأ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] ولم يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) [الفاتحة:1] (4).
__________
(1) بحار الأنوار: (82/46).
(2) التهذيب: (2/288)، الوسائل: (6/61-62)، الاستبصار: (1/132).
(3) الاستبصار: (1/312)، التهذيب: (2/68)، الوسائل: (6/61).
(4) التهذيب: (2/288)، الاستبصار: (1/311)، الوسائل: (6/47، 62).(1/320)
فعند تأمل هذه الرواية والتي قبلها -أيضاً- يتبن لك عدم إمكانية فعل ذلك تقية كما زعم بعضهم؛ بل إن التقية عندهم لا تجوز في ترك الجهر بالبسملة، فعن جعفر بن محمد أنه قال: التقية ديني ودين آبائي إلا في ثلاث: في شرب المسكر، وفي المسح على الخفين، وفي ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(1).
ناهيك عن أن كون تركها تقية لا يجوز، فهل يقول عاقل: إنه يجوز التحريف تقية؟!
أما زعم بعض الشيعة أن قول: آمين، زيادة زادها أهل السنة في كتاب الله.
فأقول: كان صلى الله عليه وسلم يقولها في الصلاة، ومعناها: اللهم استجب، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنها من القرآن، ولهذا لا تقال في غير الصلاة، وقولها في الصلاة سنة.
وأما ما عدا ذلك من الروايات التي يستدل بها الشيعة على أهل السنة، فهي إما روايات موضوعة تكلم العلماء في وضعها، أو أوردوها على سبيل ذكر كلما له صلة بالموضوع دون اعتقاد صحته، أو روايات راجعة إلى اختلاف القراءات أو الأحرف، أو راجعة إلى عدم علم الصحابي بأنها من القرآن، كظن ابن مسعود أن المعوذات ليست من القرآن، وإنما رقية كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي بها الحسن والحسين، وكان ذلك قبل جمع القرآن، أما بعد جمعه فلم يحصل أي اختلاف بينهم.
ونحن إنما نحتج على الشيعة بأقوال واعتقادات علمائهم وأساطينهم لا بروايات ونصوص فقط، ولم أجد حتى الآن -ولن أجد- من احتج منهم بقول عالم من علماء أهل السنة يقول بالتحريف أو يعتقده كشأن من ذكرنا من علماء القوم، فهل يدلنا القوم على أحد من علماء أهل السنة عبر التاريخ قال أو اعتقد بالتحريف؟!
وفي الختام أقول:
__________
(1) الوسائل: (14/478)، البحار: (63/495)، مستدرك الوسائل: (1/334) (12/258) (17/68)، دعائم الإسلام: (1/110، 160) (2/132).(1/321)
لا أدل على عدم قول أهل السنة بالتحريف من تصريحهم بكفر من قال بتحريف القرآن.. كما قال ابن قدامة رحمه الله: (ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه بين المسلمين أنه كافر).
وقال ابن حزم وغيره: (القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفر صريح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال أبو عثمان الحداد: (جميع من ينتحل التوحيد متفقون على أن الجحد لحرف من التنزيل كفر).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الحكم بكفر من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت) وغير ذلك كثير.
أما علماء الشيعة فغاية ما يقولون: بأن القائل بتحريف القرآن مخطئ أو مخترق أو مشتبه، وأنه قد جانب الصواب، ونحو هذه العبارات..، كما قال محمد حسين آل كاشف الغطاء: ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص أو تحريف فهو مخطئ بنص الكتاب العظيم: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].
وكما قال محمد رضا المظفر: ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي: ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) [فصلت:42].
وعدم قولهم بالكفر إنما هو فرار من إلزامهم بتكفير علمائهم القائلين بالتحريف، الأمر الذي يحاول كثير من الشيعة إخفاءه أو عدم الاعتراف به.
فليقل الشيعة إن كانوا صادقين: إن من قال بالتحريف فهو كافر لتكذيبه كلام الله الذي أخبر أنه تكفل بحفظه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، أم يخافون أن يكفروا بذلك علماءهم القائلين بالتحريف فيقدمون بذلك حب الدنيا، والتعصب المقيت، على مرضات الله سبحانه؟!
إننا نقول:من أحق أن نصدق، كلام الله الواحد القهار، أم كلام أولئك البشر الذين أوقفناك على أقوالهم؟!(1/322)
لكن نقول كما قال الله: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [المجادلة:22] فهذه دعوة لكل مسلم أن يتقي الله، ويراقبه وحده، ولا يخشى أي أحد غير الله إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
وإلا فمن حاججنا عنهم بالباطل لن يغنوا عنا من الله شيئاً، ولن يغني جدالنا عنهم شيئاً كما قال سبحانه: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)) [النساء:109].
فلا نجاة إلا بالاستغفار والالتجاء إلى الله الواحد القهار، مادام المرء في زمن المهلة، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
أصحاب الاتجاه الأخير واستدلالهم بالسنة في إثبات نزول بعض الآيات في الإمامة:
أما الاتجاه الأخير وهو أعدلها، فيتمثل في القول بنزول بعض الآيات في فضائل الأمير رضي الله عنه وولايته تأويلاً، مستدلين على ذلك التأويل بروايات تدلل على نزولها فيه وفي إمامته رضي الله عنه.
والروايات هذه لا تخلو من كونها إما موضوعة لا يصح منها شيء، أو صحيحة ولكن لا تخدم غرضهم، وليس فيها الدلالة المذكورة.
من هذه الآيات:
قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وقوله: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67].(1/323)
وقوله: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، وغيرها.
وهذه الدلائل -بزعم القوم- لا يكاد يخلو منها كتاب، وهي عمدة القوم في إثبات مسألة الإمامة من القرآن الكريم.
وأنت ترى للوهلة الأولى خلوها تماماً من اسم الأمير والأئمة أو ما يفيد نزولها فيهم، لذا اضطر القوم -كما ذكرنا- إلى الاستدلال بها عن طريق الأحاديث والروايات، أو ادعاء حذف اسم الأمير رضي الله عنه من بعضها كما يعتقد أصحاب الاتجاه الثاني.
وحيث إن أصحاب هذا الاتجاه قد اعتمدوا في إثبات نزول هذه الآيات في الإمام والإمامة على السنة، لذا فإننا سنرجئ الكلام فيها إلى الباب الآتي.
وختاماً: أود أن أنبه القارئ العزيز إلى أن الاتجاهات الثلاثة هذه، لا تعني بالضرورة أن كل واحد منها له من يمثله، بل إن كثيراً من العلماء -إن لم يكن أكثرهم- يمثلون هذه الاتجاهات جميعها، وإن كان ذلك يتفاوت بين عالم وآخر.
خلاصة الباب:
لاشك -عزيزي القاري- أنك وقفت على حقيقة أن أعظم أركان الدين عند الشيعة ليس لها نصيب في القرآن الكريم، ولا أدل على هذا من بطلان هذا المعتقد، ونحن نعلم يقيناً أن الله عز وجل لم يدع من شئون المسلم شيئاً إلا بينه، حتى بين حكم المحيض، حيث قال عز من قائل: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى)) [البقرة:222]، وهذا مصداق قوله عز وجل: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89].
فهل أن أذى المحيض أشد عند الله من أذى المسلمين بالفتن والحروب والتناحر والاختلاف لعشرات السنين بسبب الإمامة حتى يغفل ذكرها ويبين أذى المحيض؟!(1/324)
الباب الثالث : الإمامة والسنة
نبذة عن الوضع والوضاعين في الحديث:
لا يختلف اثنان في أن هناك الألوف من الأحاديث تحتويها مصادر المسلمين في شتى العلوم، كلها موضوعة على لسان رسول الله ومنسوبة إليه صلى الله عليه وسلم وإلى صحابته وإلى الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد تعددت أسباب هؤلاء الوضاعين بين زنادقة أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ووضعوا الأحاديث؛ استخفافاً بالدين، وتلبيساً على المسلمين، وبين أصحاب أهواء وعصبيات ومذاهب، يضعون ما ينتصرون به لمذاهبهم، وبين من وضع ذلك ترغيباً عن فضائل الأعمال وترهيباً من النار.. إلى غير ذلك من أسباب ذكرها وحاول استقصاءها الذين تكلموا في هذا الباب.
وكان لانتشار هذه الروايات في كتب الفقه والتفسير والتاريخ والسير والمغازي وغيرها أثر سيء في نشوء عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، أدَّت بدورها إلى ظهور فرق ومذاهب باطلة، جُلُّ بنيانها على هذه الموضوعات، ولم يكن يتورع أصحابها في أن يصيِّروا كل ما هوته قلوبهم حديثاً مكذوباً.
وكان المسلمون الأوائل لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة بين علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما، فلما وقعت صاروا يسألون عن الرجل، فإن كان من أهل السنة أخذوا حديثه، وإن كان من أهل البدعة ردوه.(1/325)
فصار الإسناد المتصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو السبيل إلى معرفة الشرائع والأحكام، فتشددوا في معرفة حال كل من وقع في إسناد حديث، حتى قيل لهم: أتريدون أن تزوجوه؟ وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (إن هذا العلم دِيْنٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم) وكان من هدي الرعيل الأول أن يأتوا بالإسناد قبل الحديث، ويقولون: لا يصلح أن يرقى السطح إلا بدرجة، وقالوا: ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد، وإنما يعلم صحة الحديث من الإسناد، وإن الإسناد سلاح المؤمن؛ فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل، وإن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ومثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرقى السطح بلا سلم، ومثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى وهو لا يدري، وغيرها من أقوال بينوا فيها أهمية الإسناد.
ولذلك ظهر علم الرجال الذي يبحث في أحوال رجال الأسانيد المنتهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو الأئمة رضي الله عنهم؛ لمعرفة صحة نسبة هذا الحديث أو ذاك إليهم من حيث خلو إسنادها من وضاعين إلى غيرها من علل وشذوذ.
وقد أورد القوم من طرقهم حثَّ الأئمة على التثبت في نقل الأخبار، فعن الصادق قال: إن المغيرة بن سعيد دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا محمد، فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وقال أيضاً: إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس(2).
__________
(1) الكشي: (195)، معجم الخوئي: (18/276).
(2) الكشي: (257)، البحار: (2/217)(25/262).(1/326)
وعن يونس بن عبدالرحمن قال: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه السلام، ووجدت أصحاب أبي عبدالله متوافرين، فسمعت منهم، وأخذت كتبهم، وعرضتها من بعد على أبي الحسن فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أصحاب أبي عبدالله، قال: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبدالله، لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن(1)، وغيرها.
ولهذا كله وضع القوم شروطاً لقبول الحديث، وهو ما اتصل سنده إلى الإمام المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات، وزاد البعض: أن يكون العدل ضابطاً، وأن لا يعتريه شذوذ، وأن لا يكون معللاً(2).
ووضعوا معايير علمية تثبت بها الوثاقة أو الحسن، منها: نص أحد أئمتهم المعصومين، أو نص أحد أعلامهم المتقدمين، كالبرقي، وابن قولويه، والكشي، والصدوق، والمفيد، والنجاشي، والطوسي، وأضرابهم، أو نص أحد أعلامهم المتأخرين، كمنتجب الدين، وابن شهرآشوب، أو دعوى الإجماع من قبل الأقدمين(3).
وقد اتفق القوم مع أهل السنة على حرمة نقل الحديث إذا كان موضوعاً لكونها إعانة على الإثم، وإشاعة للفاحشة، وإضلالاً للمسلمين، وأن من أراد أن يروي حديثاً ضعيفاً أو مشكوكاً في صحته بغير إسناد، يقول: رُوي، أو بلغنا، أو ورد، أو جاء، أو نقل، ونحوه من صيغ التمريض، ولا يذكره بصيغة الجزم، كقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أتى بالإسناد مع المتن لم يجب عليه بيان الحال، لأنه قد أتى به عند أهل الاعتبار(4).
__________
(1) رجال الكشي: (195)، البحار: (2/249)، معجم الخوئي: (18/276)(20/208).
(2) مقياس الهداية: (1/145) وما بعدها.
(3) معجم الخوئي: (1/39)، كليات في علم الرجال: (151).
(4) مقياس الهداية: (1/417).(1/327)
ولا شك أن قولهم: إن الإتيان بالخبر مع الإسناد يغني عن بيان الحال، صحيح على نحوٍ ما، فإن كثيراً من كتب المسلمين مليئة بالروايات الموضوعة بأسانيدها، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن علماءنا الأوائل كانوا يمرون بمراحل في التأليف، بدءاً بالجمع والذكر لكل ما سمعوه في المقام، وانتهاءً بتحقيق الروايات لتمييز الغث من السمين، كما فعل البخاري ومسلم، على خلاف في بعض الروايات، وقد يقتصر أكثرهم على الأول، أي: الجمع والذكر لكل ما سمعوه، معتقدين براءة ذمتهم ما داموا قد ذكروا الإسناد الذي يمكن من خلاله معرفة صدق الخبر من كذبه، وذلك لاستحالة تحقيق كل خبر في حينه لاعتبارات، منها: أنه ربما يكون للحديث المذكور طرق أخرى ينجبر بها، أو أن ضعف بعض الرواة لم يثبت عنده.. وغيرها، أضف إلى ذلك عدم اشتراطهم في ذكر الحديث أن يكون صحيحاً، كما صرحوا بذلك في مقدمة مصنفاتهم.
ومع هذا فلم يجز العلماء رواية أمثال هذه الموضوعات دون بيان وضعها، وعدوا من فعل ذلك مذنباً عليه التوبة.
ومن هنا جاء استغلال القوم لأمثال هذه الروايات المذكورة في كتب أهل السنة لإثبات معتقداتهم، رغم ما مرَّ بك من ذمهم لهذا السلوك، فعمدوا إلى الاحتجاج بها موهمين أتباعهم أن أمثال هذه الروايات متفق عليها بين الفريقين، وأن هذه العقائد من المسلّمات بين المسلمين، ملبسين بذلك الأمر على أكثر القراء الذين لا يميزون بين الإيعاز الذي هو مجرد ذكر الكتب التي ورد فيها هذا الحديث، وبين التحقيق الذي هو بيان صحة الحديث من ضعفه، أو ذكر من تكلم فيه من العلماء، وبيان عدم حجية تحقيق من عرف بتساهله في التصحيح، أو من لا يعتد بتصحيحه أصلاً.(1/328)
والأمر في المسألة فيه طول، ونحن في هذا الباب -إن شاء الله- لن نتطرق إلى روايات أهل السنة أو نتكلم في أسانيدها، فإن هذا الأمر قد حسم بما ذكرناه، وللقوم ما شاءوا من الوقت ليدلونا على رواية من روايات الباب الآتية وردت بطرق صحيحة عند أهل السنة لا يشوبها ضعف أو شذوذ أو علة، أو تصحيح من عرف بتساهله، ولكننا سنورد جميع روايات الباب من طرق القوم، ثم ننظر في أسانيدها وهل يصح منها شيء باعتبارات الصحة التي مرَّت بك آنفاً، هذا ناهيك عن وجوب التواتر الذي يوجبه القوم في مرويات عقائدهم.
الدليل الأول: الاستدلال بحديث بدء العشيرة ذكر الروايات ودراسة الأسانيد والرد على هذا الاستدلال:
نبدأ كلامنا بحديث بدء الدعوة أو يوم الدار، وسنأخذ في الاعتبار التسلسل الزمني والتاريخي لروايات الباب، وسنورد أولاً جميع الروايات المسندة من كتب القوم وندرس أسانيدها، ومن ثمَّ نتكلم في متونها.
الرواية الأولى: وهي أقدمها، رواها سليم بن قيس، عن أبان، عن سليم وعمر بن أبي سلمة، قالا في حديثٍ طويلٍ ذكرا فيه أن قيس بن سعد بن عبادة عدد على معاوية مناقب الأمير وأهل البيت، منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب وأبو لهب وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه علي عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر عمه أبي طالب، فقال: أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن من بعدي؟ فأمسك القوم حتى أعادها ثلاثاً، فقال علي: أنا يا رسول الله، فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه، وقال: اللهم املأ جوفه علماً وفهماً وحكماً، ثم قال لأبي طالب: يا أبا طالب، اسمع الآن لابنك وأطع فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسى، وآخى صلى الله عليه وسلم بين علي وبين نفسه(1).
__________
(1) كتاب سليم بن قيس: (199)، البحار: (33/174)، الغدير: (2/106).(1/329)
أقول: أبان بن أبي عياش تابعي ضعيف كما قال الطوسي، وقال فيه ابن الغضائري: ضعيف لا يلتفت إليه، وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه(1).
وسليم نفسه اضطربت أقوال القوم فيه وفي كتابه الذي حوى مسائل تخالف التاريخ وما عليه القوم، مثل: جعله الأئمة ثلاثة عشر، وقصة وعظ محمد بن أبي بكر أباه عند موته، مع أن عمر محمد وقتئذٍ كان أقل من ثلاث سنين، وهذه المخالفات تداركها علماء الشيعة وتمَّ حذفها من النسخ المطبوعة. وقد نسب البعض وضع الكتاب إلى أبان بن أبي عياش كما مرَّ بك، أو القول أنه لا يُعرف، ولا ذكِرَ في خبر، أو أن كتابه هذا موضوع لا مرية فيه، وأن تاريخ وضعه ربما يكون في أواخر الدولة الأموية.. إلى آخر ما قيل فيه(2).
الرواية الثانية: روى الصدوق، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رحمه الله، قال: حدثني عبدالعزيز بن يحيى الجلودي بالبصرة، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حدثنا أبوعباية، عن عمرو بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، أن رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين، بما ورثت ابن عمك دون عمك؟
__________
(1) معجم الخوئي: (1/141)، جامع الرواة: (1/9)، رجال ابن داود الحلي: (225).
(2) معجم الخوئي: (8/216)، رجال العلامة الحلي: (82)، تعليق الشعراني على شرح المازندراني للكافي:(2/373)، الموضوعات في الآثار والأخبار: (184)، دراسات في الحديث والمحدثين: (197)، خاتمة الوسائل:(210)، جامع الرواة: (1/374)، مجمع الرجال: (2/155) (3/157).(1/330)
فقال: يا معشر الناس، فافتحوا آذانكم واستمعوا، فقال: جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في بيت رجلٍ منا -أو قال: أكبرنا- فدعا بمد ونصف من طعام، وقدح يقال له: الغمر، فأكلنا وشربنا وبقي الطعام كما هو، والشراب كما هو، وفينا من يأكل الجذعة ويشرب الفَرَق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قد ترون هذه فأيكم يبايعني على أنه أخي ووارثي ووصيي؟ فقمت إليه وكنت أصغر القوم، فقلت: أنا، قال: اجلس، ثم قال ذلك ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول: اجلس، حتى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي، فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي(1).
أقول: هذه الرواية آفتها شيخ الصدوق، الطالقاني، قال فيه الخوئي بعد أن ذكر رواية عنه: هذه الرواية دلالة واضحة على تشيع محمد بن إبراهيم، وحسن عقيدته، وأما وثاقته فهي لم تثبت، وليس في ترضي الصدوق [قده] عليه دلالة على الحسن فضلاً عن الوثاقة(2).
وقال فيه الأردبيلي: لا أعلم حاله(3).
وربيعة مجهول عند الشيعة، ومختلف فيه عند أهل السنة، قال عنه الذهبي: لا يكاد يعرف.
__________
(1) علل الشرايع: (169)، البحار: (18/177)، البرهان: (4/519).
(2) معجم الخوئي: (14/220).
(3) جامع الرواة: (2/530).(1/331)
ومحمد بن زكريا هو ابن دينار الجوهري الغلابي البصري المتوفى سنة (298) هجرية(1)، ولا أظنه يروي عن ابن غياث الذي توفي قبله بحوالي (60) عاماً، والذي يبدو لي أن في السند انقطاعاً وتصحيفاً، فالمشهور الذي ورد من طرق أهل السنة، كما في مسند ابن حنبل رحمه الله [1/159]، عن القطيعي، قال: حدثنا عبدالله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا أبوعوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن علي رضي الله عنه قال... وذكر القصة، وفيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي، وليس في الحديث ذكر للوصاية والخلافة، وكذا لفظة (ووارثي) التي وردت من طريق الطبري [2/321]، والتي عزاها الأميني في غديره إلى مسند الإمام أحمد، دون أن يبين أن هذه الزيادة إنما هي عند الطبري، وكذا عدم ذكره أن رواية المسند إنما هي من زيادات القطيعي، عن عبدالله بن حنبل عن أبيه(2).
__________
(1) معجم الخوئي: (16/87)، جامع الرواة: (2/114)، النجاشي: (2/240).
(2) الغدير: (2/281).(1/332)
الرواية الثالثة: روى الصدوق، قال: حدثنا الطالقاني، قال: حدثنا عبدالعزيز، قال: حدثنا المغيرة بن محمد، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عبدالرحمن الأزدي، قال: حدثنا قيس بن الربيع وشريك بن عبدالله، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك المخلصين، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فقال: أيكم يكون أخي ووصيي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرض عليهم ذلك رجلاً رجلاً كلهم يأبى ذلك، حتى أتى علَيَّ، فقلتُ: أنا يا رسول الله، فقال: يا بني عبد المطلب، هذا أخي ووارثي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي، فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام(1).
أقول: قد عرفت حال الطالقاني من الرواية السابقة، أما المغيرة بن محمد فلم أقف على من ترجم له، ولا يعرف من هو في الناس، وكذا حال إبراهيم الأزدي، وقيس بن الربيع من البترية وهو مجهول(2).
وشريك بن عبدالله وإن كان صدوقاً إلا أنه يخطئ كثيراً، وقد تغيَّر حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وقد ورد في ذمه عن الصادق من طرق القوم رواية فيها قوله لما علم بأنه يرد شهادة شيعته -كما يذكر القوم-: لا تذلوا أنفسكم(3).
والأعمش ثقة لكنه يدلس، وكذا منهال، صدوق ربما وهم، وهو مجهول عند الرجاليين الشيعة(4).
__________
(1) علل الشرايع: (170)، البحار: (18/178)، الطرف: (7)، البرهان: (3/190)، نور الثقلين: (4/66)، الميزان: (15/336)، إثبات الهداة: (2/82).
(2) معجم الخوئي: (14/92)، رجال الطوسي: (133، 274).
(3) معجم الخوئي: (9/21، 24)، الكشي: ترجمة: (67).
(4) معجم الخوئي: (19/8)، الطوسي: (79، 101، 138، 313)، جامع الرواة: (2/269).(1/333)
الرواية الرابعة: روى الطوسي، قال: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري سنة ثمانٍ وثلاثمائة، قال: حدثنا محمد بن حيد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل الأبرش قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، قال أبو المفضل: وحدثنا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي واللفظ له، قال: حدثنا محمد بن الصباح الجرجرائي، قال: حدثني سلمة بن سالم الجعفي، عن سليمان الأعمش وأبي مريم جميعاً، عن المنهال بن عمرو، عن عبدالله بن الحارث بن نوفل، عن عبدالله بن عباس، عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال: فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت على ذلك، وجاءني جبرئيل صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك عز وجل، فاصنع لنا يا علي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم أجمع وهم أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به، فلمَّا وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذمة من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى صدروا مالهم بشيء من الطعام حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم.
وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم جئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً.(1/334)
وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لي من الغد: يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي، قال: ففعلت ثم جمعتهم، فدعاني بالطعام، فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس، وأكلوا ما لهم به من حاجة، ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني عبد المطلب، أنا والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي من بعدي؟
قال: فأمسك القوم وأحجموا عنها جميعاً، فقمت وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأخمشهم ساقاً، فقلت: أنا -يا نبي الله- أكون وزيرك على ما بعثك الله به، قال: فأخذ بيدي، ثم قال: إن هذا أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(1).
أقول: أبو المفضل وإن كان كثير الرواية إلا أن الأكثر على تضعيفه، فقد كان ثبتاً ثم خلط، وترك البعض الرواية عنه.
وقال آخرون: إنه وضاع، كثير المناكير(2).
وبقية السند من طرق أهل السنة، فالطبري هو صاحب التاريخ، وقد أورده في تاريخه [1/319] بالسند المذكور.
__________
(1) أمالي الطوسي: (592)، البحار: (18/191)(38/223)، البرهان:(3/190)، الغدير: == (2/278) إثبات الهداة: (1/297)(2/88).
(2) النجاشي: (2/321)، جامع الرواة: (2/144)، الطوسي: (511)، الفهرست: (170)، معجم الخوئي: (16/244)، مجمع الرجال: (5/247).(1/335)
والرازي إنما هو محمد بن حميد الرازي، وليس [حيد] كما في الأمالي والبحار، ولم يترجم له أحد من القوم، بل كل من جاء باسم [محمد بن حميد] في كتب الرجال عند الشيعة فهو مجهول الحال، ولكني وجدت الخوئي في معرض كلامه عن شريك ذكره وقال عنه: ليس بثقة(1).
أما أهل السنة فقد أسهبوا في ترجمته، وهو خلاف ما أوهم صاحب الغدير قراءه من أنه ثقة، وهذا ديدنه في كتابه جله، حيث ملأه بالأكاذيب والمغالطات، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في كتابنا [التقية والوجه الآخر] فصاحب الغدير هذا يغالط نفسه بنفسه، ومن ذلك: أنه نفى القول بتحريف القرآن في موضع وأثبته في آخر، فصاحبنا الرازي هذا قال فيه البخاري: في حديثه نظر.
وقال النسائي: ليس بثقة، وفي موضع آخر قال: كذاب.
وقال الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة.
وقال فضلك الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألفاً لا أحدث عنه بحرف.
وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحداً أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه على بعض.
وقال أيضاً: ما رأيت أحداً أحذق بالكذب من رجلين: سليمان الشاذكوني ومحمد بن حميد.
وقال جعفر بن محمد بن حماد: سمعت محمد بن عيسى الدامغاني يقول: لما مات هارون بن المغيرة سألت محمد بن حميد أن يخرج إليَّ جميع ما سمع، فأخرج إليَّ جزازات، فأحصيت جميع ما فيه ثلاثمائة ونيفاً وستين حديثاً، قال جعفر: وأخرج ابن حميد عن هارون بعدُ بضعة عشر ألف حديث.
وقال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد؟ فأومأ بإصبعه إلى فمه، فقلت له: كان يكذب؟ فقال برأسه: نعم، فقلت له: كان قد شاخ لعله كان يُعمل عليه ويُدلس عليه، فقال: لا يا بني، كان يتعمد.
__________
(1) معجم الخوئي: (16/47، 9/24)، جامع الرواة: (2/107).(1/336)
قال أبو نعيم بن عدي: سمعت أبا حاتم الرازي في منزله وعنده ابن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جداً، وأنه يحدث بما لم يسمعه.
وقال البيهقي: كان إمام الأئمة -يعني: ابن خزيمة- لا يروي عنه.
وقال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة: لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه؟ فقال: إنه لم يعرفه، لو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً.
وكذا الأبرش سلمة بن الفضل، فالأميني في غديره وهو يقول عن رجال سند حديثنا هذا: بأنهم ثقات، لم يذكر أن الأبرش هذا لم يترجم له أحد من أضرابه، وأنه ورد من أقوال أهل السنة فيه قول البخاري: عنده مناكير.
وقول علي بن المديني: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديثه.
وقول البرذعي عن أبي زرعة: كان أهل الري لا يرغبون فيه لمعان فيه من سوء رأيه وظلم فيه.
وأما إبراهيم بن موسى فسمعته غير مرة وأشار أبو زرعة إلى لسانه يريد الكذب.
وقول النسائي: إنه ضعيف.
وقول ابن حبان: يخطئ ويخالف.
وقول الترمذي: كان إسحاق يتكلم فيه.
وقال ابن عدي عن البخاري أيضاً: ضعفه إسحاق.
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم.
ومحمد بن إسحاق وإن كان صدوقاً إلا أنه يدلس، ورمي بالتشيع والقدر، ومن طريق القوم لم يرد فيه تعديل بحسب اعتبار طرقه عندهم(1)، بل إن السيد التفريشي ذكر في [أبي عبدالله المغازي] بعدما قال: غال، ويحتمل أن يكون اسمه محمد بن إسحاق صاحب المغازي، وهو غريب كما قال الخوئي(2).
أما أبو مريم عبد الغفار بن القاسم: فقال فيه أبو داود: أنا أشهد أن أبا مريم كذاب.
وقال شعبة: سمعت سماك الحنفي يقول لأبي مريم في شيء ذكره: كذبت والله.
وقال يحيى: ليس بثقة.
وقال ابن حنبل: كان يحدث بلايا في عثمان، وكان يشرب حتى يبول في ثيابه.
__________
(1) معجم الخوئي: (15/73، 75، 76)، جامع الرواة: (2/66، 67).
(2) معجم الخوئي: (2/77).(1/337)
وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم.
وقال ابن المديني: كان يضع الحديث.
وقال ابن حبان: كان ممن يروي المثالب في عثمان بن عفان، ويشرب الخمر حتى يسكر، ومع ذلك يقلب الأخبار، لا يجوز الاحتجاج به، وتركه أبو حاتم والنسائي والدارقطني، وضعفه الساجي وابن الجارود وابن شاهين.
هذا ما كان من شأن سند الطبري المذكور، وقد أسهبنا بعض الشيء في بيانه وبالأخص من طرق أهل السنة، لأن الأميني -كما ذكرنا- عندما استشهد برواية الطبري هذه في غديره، قال: ورجال السند كلهم ثقات إلا أبا مريم عبد الغفار بن القاسم، فقد ضعفه القوم وليس ذلك إلا لتشيعه، فقد أثنى عليه ابن عقدة وأطراه وبالغ في مدحه، ولم يقذف أحد منهم الحديث بضعف أو غمز لمكان أبي مريم في إسناده...
إلى أن قال: وليس من العجيب ما هملج به ابن تيمية من الحكم بوضع الحديث فهو ذاك المتعصب العنيد، وإن من عادته إنكار المسلّمات، ورفض الضروريات، وتحكماته معروفة، وعرف منه المنقبون أن مدار عدم صحة الحديث عنده هو تضمنه فضائل العترة الطاهرة.
أقول: لسنا بصدد رد افتراءاته على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه وغيرها وهي كثيرة، وحسبك قوله في إسناد روايتنا هذه، وقد عرفت حقيقتها.
ثم قال -وكأنه أخرج إلينا خبيئة أو وقف على حقيقة- تحت: جنايات على الحديث -وهو يتحدث عن روايتنا هذه- قال: منها: ما ارتكبها الطبري في تفسيره، فإنه بعد روايته له في تاريخه كما سمعت قلب عليه ظهر المجن في تفسيره، فأثبته برمته حرفياً متناً وإسناداً، غير أنه أجمل القول فيما لهج به رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل من يبادر إلى تلقي الدعوة بالقبول، قال: فقال: فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا؟ وقال في كلمته صلى الله عليه وسلم الأخيرة: ثم قال: إن هذا أخي وكذا وكذا، وتبعه على هذا التقلب ابن كثير في البداية والنهاية، وفي تفسيره فعل ابن كثير هذا وثقل عليه ذكر الكلمتين.(1/338)
ومنها: خزاية تحملها محمد حسين هيكل؛ حيث أثبت الحديث كما أوعزنا إليه في الطبعة الأولى من كتابه [حياة محمد] وأسقطها من الطبعة الثانية(1).
وكرر مغنية هذا القول في تفسيره، حيث قال: وذكر هذا الحديث محمد حسين هيكل في كتابه [حياة محمد] في الطبعة الأولى، وحذفه في الطبعة الثانية(2).
وجاء آخر وكان أكثر دقة، فحدد الثمن الذي قبضه هيكل لقاء حذف كلمة [خليفتي]، وهو خمسمائة جنيه.
وادعى آخر أنه رفض التحريف أولاً، وبعد أن ساوموه على شراء ألف نسخة من الكتاب وافق على ذلك، ورواه في الطبعة الثانية وما بعدها بدون كلمة [خليفتي من بعدي](3).
ولعله أن يأتينا آخر ويخبرنا كم قبض الطبري وابن كثير أيضاً لقاء كلمتي: كذا وكذا، وكذا فعل آخر دون أن يبين أن الأميني سبقه إلى ذلك، وسود ثلاث صفحات من كتابه بما ذكره الأميني عن الطبري وابن كثير وهيكل، وقال كلاماً شبيهاً بكلامه، وأوهم قراءه بأنه صاحب هذا الكشف العظيم(4)، وكذا فعل غيره وهم كثر(5).
__________
(1) الغدير: (1/206)(2/287)، متى وجدت الشيعة: (391).
(2) التفسير الكاشف: (5/522).
(3) في ظلال التشيع: (51) الحاشية، الأئمة الاثنى عشر، هاشم معروف: (1/170).
(4) سيد المرسلين لجعفر السبحاني: (1/394).
(5) انظر مثلاً: لماذا اخترت مذهب أهل البيت: (129)، حاشية المراجعة رقم:(20)، اتقوا الله للتيجاني (الحاشية): (32)، منهج في الانتماء المذهبي: (80)، الصحيح من سيرة النبي الأعظم: (2/12) = = فلسفة التوحيد والولاية: (132، 179)، سيرة المصطفى: (130)، قراءة في كتاب التشيع، لأحمد عمران: (176).(1/339)
أقول: لا ينقضي تعجبي من هؤلاء وهم من هم، وفيهم من له باع طويل في علم الرجال كهذا الأخير، كيف يتبجحون بكل هذا دون أن يبينوا حقيقة ما ذكروه، وهم لا شك لم يغب عنهم أسانيد أمثال هذه الروايات، رغم هذا أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، لا لشيء سوى أن الطبري أو ابن كثير جعلوا: كذا وكذا، بدلاً من: وصيي وخليفتي فيكم.
ولسائل أن يسأل عن قوله صلى الله عليه وسلم: وصيي وخليفتي فيكم، ماذا يعني من كلمة فيكم؟
لا شك أن هذا الأمر إنما هو في عشيرته، إذ كيف يلزموننا بالخلافة العامة، لكن إذا علمت أن شيئاً من هذه الأحاديث لم يصح، أرحت نفسك من أمثال هذه التأويلات.
وعلى أي حال، سنأتي على بيان بعض ذلك عند كلامنا على متون هذه الروايات، وسترى أنك تتمنى لو أن الطبري وابن كثير فعلوا تماماً كما فعل هيكل، أو كما فعل محقق الأنوار النعمانية عندما حذف باباً بأكمله وهو نور القرآن من الكتاب، كما مرَّ بك في الباب الثاني، وليس ثلاث كلمات استوجبت هذه الضجة وادعاء كل واحد منهم نسبة هذا الكشف إلى نفسه، ولا أجد أفضل من أن أنهي تعليقي هنا بالآية التي اختتم بها الأميني تعليقه السابق وهي قوله عز وجل: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)) [الكهف:103-104].
نعود إلى روايتنا السابقة ونواصل مناقشة سندها، قال أبو المفضل: وحدثنا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي واللفظ له، قال: حدثنا محمد بن الصباح الجرجرائي، قال: حدثني سلمة بن صباح الجعفي... السند.
فأبو المفضل قد عرفت حاله من السند السابق، أما الباغندي وكذا الجعفي فلم أجد من ترجم لهم من الفريقين، وحسب السند هذا، أما بقية رجال السند فقد تكلمنا فيهم.(1/340)
الرواية الخامسة: روى محمد بن العباس الماهيار، قال: حدثني عبدالله بن يزيد، عن إسماعيل بن إسحاق الراشدي وعلي بن محمد بن خالد، عن الحسن بن علي بن عفان، قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن هاشم السماوي، عن محمد بن عبدالله بن علي بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبيه، عن جده أبي رافع، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بني عبد المطلب في الشعب، وهم يومئذ ولد عبد المطلب لصلبه وأولادهم أربعون رجلاً، فصنع لهم رجل شاة ثم ثرد لهم وصبَّ عليها ذلك المرق واللحم، ثم قدمها إليهم فأكلوا منها حتى تضلعوا، ثم سقاهم عساً واحداً فشربوا كلهم من ذلك العس حتى رووا منه، فقال أبو لهب: والله إن منا لنفراً يأكل أحدهم الجفنة وما يصلحها ولا تكاد تشبعه، ويشرب الظرف من النبيذ فما يرويه، وإن ابن أبي كبشة دعانا على رجل شاة وعس من شرب فشبعنا وروينا منها، وإن هذا لهو السحر المبين، قال: ثم دعاهم، فقال لهم: إن الله عز وجل قد أمرني أن أَنْذِر عشيرتك الأقربين، ورهطك المخلصين، وأنتم عشيرتي الأقربون، ورهطي المخلصون، وإن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له من أهله أخاً ووارثاً ووزيراً ووصياً، فأيكم يقوم يبايعني على أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ووصيي وخليفتي في أهلي، ويكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ فسكت القوم، فقال: والله ليقومن من قائمكم أو ليكونن في غيركم ثم لتندمن، قال: فقام علي أمير المؤمنين وهم ينظرون إليه كلهم، فبايعه وأجابه إلى ما دعاه إليه، فقال له: ادن مني، فدنا منه، فقال: افتح فاك، ففتحه فنفث فيه من ريقه، وتفل بين كتفيه وبين ثدييه، فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك، أجابك لما دعوته إليه، فملأت فاه ووجهه بزاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ملأته علماً وحكماً وفقهاً(1)
__________
(1) البرهان: (3/190)، البحار: (24/258)(38/249)، تفسير فرات: (1/303)، تأويل الآيات = = الظاهرة: (1/393)، إثبات الهداة: (2/161).(1/341)
.
أقول: عبدالله بن يزيد، أو زيدان كما في رواية صاحب الكنز والبحار، لم يترجم له أحد، وكذا حال إسماعيل بن إسحاق الراشدي، وعلي بن محمد بن خالد أو مخلد كما في رواية صاحب الكنز والبحار، والحسن بن علي بن عفان، فلا أدري من هؤلاء، ولم أقف على من ترجم لهما من الفريقين، أما السماوي فإنما هو السمسار، كما في الكنز والبحار، وهو أيضاً لم أجد له ترجمة عند القوم، وقد ورد فيه جرح من طرق أهل السنة.
قال العقيلي: كان يضع الحديث على الثقات.
وكذَّبه ابن معين.
وقال النسائي وغيره: متروك.
وجرحه ابن حبان.
وقال ابن عدي: كان يضع الحديث.
أما محمد بن عبدالله بن علي بن أبي رافع فهو مجهول الحال عند الفريقين(1).
الرواية السادسة: عنه أيضاً، قال: حدثنا حسين بن الحكم الخيبري، عن محمد بن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عفان بن سلمان، قال: وحدثنا محمد بن أحمد الكاتب، عن جده، عن عفان، وحدثنا عبدالعزيز بن يحيى، عن موسى بن زكريا، عن عبد الواحد ابن غياث، قالا: حدثنا أبوعوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن أبي ربيعة بن ناجذ، أن رجلاً قال لعلي: يا أمير المؤمنين، لم ورثت ابن عمك دون عمك؟ فذكر تمام الرواية الأولى مع اختلافات يسيرة، ليس فيها ذكر: ووصيي(2).
أقول: الخيبري، لا يعرف من هو، وقد ورد اثنان باسم الحسين بن الحكم، وكلاهما مجهول الحال(3).
ومحمد بن جرير، إنما هو الطبري صاحب التاريخ، وقد أورد الرواية في تاريخه [2/321] قال: حدثني زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبوعوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد.
والضرير هذا مجهول الحال، وقد تكلمنا عن بعض رجال السند.
__________
(1) معجم الخوئي: (16/237، 241)، الطوسي: (293)، جامع الرواة: (2/143، 146)، مجمع الرجال: (5/245، 257).
(2) سعد السعود: (104)، البحار: (18/214).
(3) معجم الخوئي: (5/221)، جامع الرواة: (1/237).(1/342)
وعلى أي حال، روايتنا هذه -وكما ذكرنا- خالية من كلمة: [ووصيي] ولا نرى لزاماً التكلف في إثبات ضعف سندها، إلا بالمقدار الذي يثبت عدم صحة شيء في الباب يفيد القوم في الاحتجاج.
أما الطريق الآخر فقد تكلمنا عن رجاله، وموسى بن يحيى إنما هو محمد بن يحيى، كما في رواية الصدوق، ومحمد بن أحمد الكاتب لم أقف على ذكر له ولا لجده.
الرواية السابعة: عنه أيضاً، عن محمد الباهلي، عن إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، عن عمار بن حماد الأنصاري، عن عمرو بن شمر، عن مبارك بن فضالة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:..بعد أن ذكر قصة إعداد الطعام ودعوة بني عبد المطلب وعرض النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة عليهم كما في بقية الروايات.. قال: يا بني عبد المطلب، إني نذير لكم من الله عز وجل، إني أتيتكم بما لم يأتِ به أحد من العرب، فإن تطيعوني ترشدوا وتفلحوا وتنجحوا، إن هذه مائدة أمرني الله بها فصنعتها كما صنع عيسى بن مريم عليه السلام لقومه، فمن كفر بعد ذلك منكم فإن الله يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، واتقوا الله واسمعوا ما أقول لكم، واعلموا يا بني عبد المطلب أن الله لم يبعث رسولاً إلا جعل له أخاً ووزيراً ووصياً ووارثاً من أهله، وقد جعل لي وزيراً كما جعل للأنبياء قبلي.
وإن الله قد أرسلني إلى الناس كافة، وأنزل علي: (وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك المخلصين) وقد والله أنبأني به وسماه لي، ولكن أمرني أن أدعوكم وأنصح لكم، وأعرض عليكم لئلا يكون لكم الحجة فيما بعد، وأنتم عشيرتي وخالص رهطي، فأيكم يسبق إليها على أن يؤاخيني في الله ويؤازرني في الله عز وجل، ومع ذلك يكون لي يداً على جميع من خالفني فأتخذه وصياً وولياً ووزيراً، يؤدي عني، ويبلغ رسالتي، ويقضي ديني من بعدي وعداتي، مع أشياء أشترطها، فسكتوا، فأعادها ثلاث مرات كلها يسكتون، ويثبت فيها علي... القصة(1).
__________
(1) سعد السعود: (106)، البحار: (18/215).(1/343)
أقول: الباهلي مجهول(1)، وعمار بن حماد الأنصاري ليست له ترجمة، والظاهر أنه تصحيف، والصحيح أنه عبدالله بن حماد الأنصاري لوروده هكذا في جميع أسانيد رواية النهاوندي عنه، أو روايته عن ابن شمر.
وعلى أي حال، فالرجل مختلف فيه(2)، والنهاوندي ضعفه واتهمه في دينه كل من ترجم له(3)، وكذا عمرو بن شمر(4).
الرواية الثامنة: روى فرات بن إبراهيم الكوفي، قال: حدثني جعفر بن محمد بن أحمد بن يوسف الأودي -وفي نسخة الأزدي- معنعناً، عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر القصة(5).
أقول: فرات نفسه كما قال عنه المجلسي: لم يتعرض الأصحاب له بمدح أو قدح، وقال محقق التفسير: إن صفحات التاريخ لم تنقل إلينا من حياته شيئاً، ولم تفرد الكتب الرجالية التي بأيدينا له ترجمة لا بقليل ولا كثير، ولم تذكره حتى في خلال التراجم، أما اسمه واسم أبيه وجده فقد تردد كثيراً في أسانيد هذا الكتاب [أي: التفسير] وشواهد التنزيل، وكتب الشيخ الصدوق، والمجموعة التفسيرية المعروفة بتفسير القمي، وفضل زيارة الحسين لابن الشجري، وأما كنيته فلم تذكر إلا في [فضل زيارة الحسين] لابن الشجري الكوفي.. إلى أن قال: ولو أن هذه الكتب الآنفة الذكر لم تذكر فراتاً في ثنايا الأسانيد لأمكن التشكيك في وجود شخص بهذا الاسم والقول بأن هذا الاسم مستعار.
__________
(1) معجم الخوئي: (17/325)(2/360، 348).
(2) معجم الخوئي: (10/174)، مجمع الرجال: (3/279).
(3) معجم الخوئي: (1/204)، النجاشي: (1/94)، الفهرست: (33)، الخلاصة: (198)، الطوسي:(451)، مجمع الرجال: (1/37، 38)، جامع الرواة: (1/18).
(4) معجم الخوئي:(13/106)، النجاشي: (1/314)(2/132)، مجمع الرجال: (2/12)(4/286).
(5) تفسير فرات: (1/299).(1/344)
وقال: وربما كان من الناحية الفكرية والعقائدية زيدياً أو كان متعاطفاً معهم أو مخالطاً إياهم ومتمايلاً إليهم على الأقل؛ كما يبدو واضحاً لمن يلاحظ في الكتاب مشايخه وأسانيده وأحاديثه، فهو أشبه ما يكون بكتب الزيدية وليس فيه نص على الأئمة الاثني عشر.
وقال: وربما كان السبب في عدم ذكره في الكتب الرجالية هو أنه لم يكن إمامياً حتى تهتم الإمامية به، ولم يكن سنياً حتى تهتم السنة به، بل من الوسط الزيدي في الكوفة، والتفسير الموجود بين أيدينا هو براوية أبي الخير مقداد بن علي الحجازي المدني، عن أبي القاسم عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن العلوي الحسني أو الحسيني، عن فرات كما نلاحظ ذلك في بداية الكتاب ونهايته، والكتاب محذوف الأسانيد، وأكثر الرواة فيه غير مترجمين في الأصول الرجالية، كحال راوي التفسير عن فرات، وحسب هذه الرواية بل التفسير كله هذا(1).
الرواية التاسعة: عنه أيضاً قال: حدثني الحسين بن محمد بن مصعب البجلي معنعناً، عن علي بي أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214]، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر القصة(2).
أقول: قد عرفت قيمة الكتاب وأسانيده، وحسبك عنعنة روايتنا هذه، أما البجلي فلا يعرف من هو.
ولم أقف على غير هذه الروايات التي وردت بأسانيدها من طرق القوم، أما غيرها -وهي كثيرة- فقد أرسلت إرسال المسلمات، دون إسنادها إلى أحد، وهي كما عرفت من مقدمة هذا الباب ليس لها أي قيمة فيما نحن بصدده الآن، وقد عرفت أنه لم يصح من روايات حديث العشيرة في بدء الدعوة من طرق القوم الآنفة الذكر شيء، وكذا حال طرق أهل السنة.
هذا ما كان من شأن أسانيد القصة، أما شأن المتون فإليك بياناً موجزاً عنها:
__________
(1) انظر: مقدمة المحقق للتفسير: (1/10) ومابعدها، الذريعة:(4/298)، معجم الخوئي:(13/252)، البحار: (1/37).
(2) تفسير فرات: (1/301)، البحار: (38/223).(1/345)
فألفاظ الروايات مختلفة ومضطربة، ففي غير الروايات المذكورة وردت أخرى غير مسندة، منها اختلاف ألفاظها:
ففي إحداها: من يقم [يقوم] منكم يبايعني على أن يكون أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أهلي؟
وفي أخرى: أيكم يؤازرني على أمري على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟
وأخرى: من يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووليكم بعدي؟
وأخرى: فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي؟
وأخرى: من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري وخليفتي من بعدي؟
وأخرى: أيكم يكون أخي ووصيي ووارثي؟
وأخرى: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي، ويقضي ديني؟
وأخرى: من يكون وصيي ووزيري وخليفتي؟
وأخرى: أيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووزيري ووارثي دون أهلي ووصيي وخليفتي في أهلي، ويكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟
وأخرى: أيكم يسبق إليها على أن يؤاخيني في الله ويؤازرني في الله عز وجل، ومع ذلك يكون لي يداً على جميع من خالفني فأتخذه وصياً وولياً ووزيراً يؤدي عني ويبلغ رسالتي ويقضي ديني من بعدي وعداتي؟
وأخرى: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون خليفتي ويكون في الجنة؟وغيرها.(1)
__________
(1) المناقب: (2/252)، البرهان: (3/191)، البحار: (18/45، 163، 181، 212، 216)(33/175) (38/145،147،223،224،252)، الغدير: (2/279، 281، 282، 283، 284)، تفسير فرات: (1/302، 303)، مجمع البيان: (7/323)، العمدة: (38، 42)، الطرائف: (7)، جوامع الجامع: (2/204)، تفسير القمي:(2/100)، الصافي: (4/53)، سعد السعود: (106).(1/346)
وكذا الاختلاف في عدد مرات الدعوة، بين مرة واحدة، ومرتين، وثلاث(1).
والاختلاف في مكان القصة، بين الشعب(2) وبين بيت أكبرهم -أي: الحارث(3)- وبين بيت أبي طالب(4).
وكذا الاختلاف في عدد بني عبد المطلب، بين أربعين رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً(5)، أو ثلاثين(6).
__________
(1) علل الشرايع: (169، 170)، البحار: (18/44، 178، 181، 192، 212، 214، 215)(35/144)(38/144، 223، 249)، الطرف:(7)، البرهان:(3/190،191)(4/519)، نور الثقلين: (4/66)، الميزان: (15/336)، تفسير فرات: (1/303)، تأويل الآيات الظاهرة: (1/393)، إثبات الهداة: (2/161)، سعد السعود: (104، 106)، أمالي الطوسي: (592)، الغدير: (2/278)، العمدة: (38)، تفسير القمي: (2/100)، الصافي: (4/53).
(2) البحار: (18/163، 212)(38/249)، مجمع البيان: (7/323)، البرهان: (3/190)، تفسير فرات: (1/303)، تأويل الآيات الظاهرة: (1/393)، إثبات الهداة: (2/161).
(3) علل الشرايع: (169)، البحار: (18/178).
(4) البحار: (18/215)، سعد السعود: (106).
(5) البحار: (18/44،163،178،181،191،212)(35/144)(38/144، 221، 223، 249)، مجمع البيان: (7/322)، البرهان: (3/190، 191)(4/519)، تفسير فرات: (1/301، 303)، تأويل الآيات الظاهرة: (1/393)، إثبات الهداة: (2/161)، العمدة: (38)، علل الشرايع: (170)، الطرف: (7)، نور الثقلين: (4/66)، الميزان: (15/336)، أمالي الطوسي: (592)، الغدير: (2/278)، القمي: (2/100)، الصافي: (4/53)، جوامع الجامع: (2/203)، رسالة الإيمان: (389)، إعلام الورى: (167).
(6) البحار: (38/146، 252)، العمدة: (42)، الطرائف: (7).(1/347)
والغريب أن بني عبد المطلب لم يبلغوا هذا العدد لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فبنو عبد المطلب هم: الحارث، والزبير، وأبو طالب، والغيداق، والضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وعبدالله، فعبد الله قد مات قبل أن يولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الحارث، والزبير، والغيداق، والضرار، والمقوم، فقد هلكوا قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، ولم يعقب من أعمامه سوى أربعة: الحارث، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب، فأما الحارث فهو أكبرهم وولده أبو سفيان، والمغيرة، ونوفل، وربيعة، وعبد شمس، وأما أبو طالب فله أربعة أولاد ذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، وطالب مات قبل البعثة، وأما أبو لهب فأولاده ثلاثة: عتبة، وعتيبة، ومعتب، وأما العباس فكان له من الولد تسعة: عبدالله، وعبيد الله، والفضل، وقثم، ومعبد، وعبدالرحمن، وتمام، وكثير، والحارث، وهؤلاء جميعهم ولدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، سوى الفضل، وعبدالله، وعبيد الله، أما عبدالله فولد -كما ذكرنا في الباب الأول- في شعب أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنين، وعبيد الله ولد بعده، أي: أنهم ولدوا بعد نزول قول الله عز وجل: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] (1).
فإذا علمت هذا. فقد تحصل لديك أن عدد بني عبد المطلب عند نزول الآية لا يتجاوز العشرين، فأين هذا من الأربعين؟
والغريب من جعلهم خمسة وأربعين رجلاً وامرأتين(2)، ولا أدري ما شأن المرأتين والإمامة!
هذا ما كان من شأن الاضطراب في المتون واختلافها، وقد تركنا الكثير منها، وقد ردَّ العلماء على هذا الحديث من وجوه:
__________
(1) البحار: (15/163)(22/247، 260)، المناقب: (1/158)، إعلام الورى: (151).
(2) قادتنا كيف نعرفهم: (1/91).(1/348)
1- منها: أن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله، فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى ذلك وأعانوه على هذا الأمر بما فيهم حمزة وجعفر وغيرهم من بني عبد المطلب المدعوين إلى الوليمة، وأيضاً فإن كان عَرَض هذا الأمرَ على أربعين رجلاً أمكن أن يجيبوه أو أكثرهم أو عدد منهم، فلو أجابه منهم عدد، فمن سيكون الخليفة؟ لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بأن ينذرهم جميعاً، وكان يرغب في أن يكونوا جميعاً من أهل الاستجابة لهذه الدعوة، وهي لا تتسع إلا لواحد، فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم ليختار خليفة له ويبقي سائرهم كفاراً أم إن الخلافة أو الوصاية لم تكن ذات موضوع، وإنما كان المطلوب دخولهم جميعاً في الإسلام؟
2- ومنها: أن بني هاشم لم يكونوا معروفين بكثرة الأكل، بل ولا أحد منهم يحفظ عنه هذا.
3- ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا بني عبد المطلب ليسلموا، فما شأن علي رضي الله عنه حتى يتصدى للإجابة، ألم يكن مسلماً حينها؟!
4- ومنها: أن القوم رفضوا الإسلام وخرجوا يتضاحكون من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، فكيف يقول لهم: هذا خليفتي فيكم، ويأمرهم بالسمع والطاعة، وهم كفار لم يقبلوا الإسلام حتى يقبلوا خلافة علي؟
5- ومنها: الاضطراب بين ما حصل في هذه القصة، وبين قوله صلى الله عليه وسلم لما عرض الإسلام على بني كلاب، فقالوا: نبايعك على أن يكون لنا الأمر بعدك؟ فقال: الأمر لله، فإن شاء كان فيكم أو في غيركم، فمضوا ولم يبايعوه، وقالوا: لا نضرب لحربك بأسيافنا ثم تحكم علينا غيرك(1).
فأنت ترى أن هذا الأمر إلى الله وليس لاختيار يقع في أحد بيوتات بني عبد المطلب في مكة.
__________
(1) سبق تخريجه.(1/349)
وتكررت القصة -نفسها- بعد ذلك بسنين طويلة، وذلك لما جاءه عامر بن الطفيل في وفد بني عامر بن صعصعة في السنة العاشرة من الهجرة، وقال له: مالي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، قال: تجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك إلي، إنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاء(1).
ناهيك أن قوله صلى الله عليه وسلم هذا يتعارض مع رواياتنا هذه، والتي حسمت فيها مسألة الخلافة بزعم القوم.
6- ومنها: أن صيغة الأمر في الآية تأمر بالإنذار، لا بتعين الوصاية والخلافة.
7- ومنها: أن صيغ معظم الروايات إنما كانت في الخلافة والوصاية في بني عبد المطلب دون غيرهم، لا أقل من كون الدعوة وجهت إليهم دون سائر الناس كما تفيد الروايات، وهذا من أعظم الدلائل التي يتمسك بها من يرى أن وصاية الأمير رضي الله عنه على فرضها، إنما هي خاصة في الأهل دون عامة الناس.
ويؤيد هذا الرأي عشرات الروايات التي أوردها القوم، نذكر منها:
أ- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ألا أرضيك يا علي؟ قال: نعم يا رسول الله، فأخذ بيده فقال: أنت أخي ووزيري وخليفتي بعدي في أهلي، تقضي ديني وتبرئ ذمتي.
ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: أعطيت في علي تسعاً: ثلاثة في الدنيا، وثلاثة في الآخرة، واثنتان أرجوهما له، وواحدة أخافها عليه، فأما الثلاثة في الدنيا: ساتر عورتي، والقائم بأمر أهلي، ووصيي فيهم... الرواية.
ج- وعن علي رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت الوزير، والوصي، والخليفة في الأهل والمال.
د- وقال صلى الله عليه وسلم: يا علي، إن الله عز وجل أمرني أن أتخذك أخاً ووصياً، فأنت أخي ووصيي وخليفتي على أهلي في حياتي وبعد موتي.
هـ- وقوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: يا علي، اقبل وصيتي، وأنجز مواعيدي، وأد ديني. يا علي، اخلفني في أهلي.
__________
(1) سبق تخريجه.(1/350)
ز- وفي رواية: إن أخي ووصيي ووزيري وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب، يقضي ديني، وينجز موعدي.
يا بني هاشم.. يا بني عبد المطلب، لا تبغضوا علياً ولا تخالفوا عن أمره فتضلوا، ولا تحسدوه وترغبوا عنه فتكفروا.
ح- وفي أخرى: يا أخي، تقبل وصيتي، وتنجز عدتي، وتقضي عني ديني، وتقوم بأمر أهلي من بعدي.
ط- وأخرى: يا علي، أنت وصيي على أهل بيتي، حيهم وميتهم.
ي- وأخرى: يا علي، أنت أخي في الدنيا والآخرة، ووصيي وخليفتي في أهلي.
ك- وأخرى: إن أخي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير من أترك بعدي يقضي ديني، وينجز موعدي علي بن أبي طالب.
ل- وأخرى: ألا أوصيك يا علي، قال: بلى، قال: أنت أخي، ووزيري، وخليفتي في أهلي.
م- وأخرى: أخي ووزيري ووصيي وخليفتي على أهلي علي بن أبي طالب.
ن- وأخرى: يا علي، اقبل وصيتي واضمن ديني وعداتي. قال: نعم بأبي أنت وأمي، قال: يا علي، أنت أخي في الدنيا والآخرة، ووصيي وخليفتي في أهلي(1).
س- ويؤكدون هذا بما رووه من أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعلي: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك وصيه ووارثه وخليفته في أهله ونسائه ولم يخبرنا بأنك خليفته من بعده(2).
__________
(1) أمالي الطوسي:(16، 203، 212)، البحار:(22/499)(23/325)(35/50)(38/115، 146) (39/76، 337) (40/28، 35، 69)، علل الشرايع: (63)، إثبات الهداة: (2/73، 74، 81، 88، 159)، الخصال: (2/43، 50).
(2) إثبات الهداة: (2/109)، وعلق قائلاً: عدم إخباره لا يستلزم بطلان إخبار غيره، أقول: إن كان ثاني اثنين إذ هما في الغار لم يخبره من كان صديقه في الجاهلية والإسلام بأعظم أركان الإسلام، فجهل صاحب الإثبات المتوفى سنة (1104هـ) مستلزم من باب أولى.(1/351)
فهذه الأمثلة القليلة التي أوردناها واضحة الدلالة ولا تحتاج إلى تأويل، وكلها تدلك على هذا الحصر، وعلة تكراره صلى الله عليه وسلم في كل هذه المواضع، حتى كانت من أواخر كلماته، ولا يخفى عليك -وأنت جد عليم- أن الأهل داخلون في الأمة، والأمة ليسوا داخلين في الأهل، فتدبر!
وعلى ذكر هذه الروايات، هناك إشكال آخر لا يخلو من طرافة، وذلك أن أهل البيت عند القوم محصورون في أهل الكساء دون غيرهم، فهل يعني هذا أن نصوص التأمير والاستخلاف محمولة على بقية أهل الكساء فقط.
نعود إلى الردود:
8- ومنها: الإشكال في إيمان أبي طالب، فالرجل عند القوم من المؤمنين، وعونه ومؤازرته ونصرته للنبي صلى الله عليه وسلم من المسلمات، والروايات المذكورة أخرجته من ذلك كله، وأمر آخر: هو عدم استدراكه على النبي صلى الله عليه وسلم من أن أمر الوصاية محسومة منذ سنين، رغم أنه على علم بذلك عند القوم، وأوردوا في ذلك روايات ذكرناها في الباب الأول، كقوله لفاطمة بنت أسد لما جاءت إليه تبشره بمولد النبي صلى الله عليه وسلم: اصبري سبتاً آتيك بمثله إلا النبوة.
وفي رواية: إنك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره.
وفي أخرى: أما إنك ستلدين مولوداً يكون وصيه.
وفي أخرى: هو إنما يكون نبياً وأنت تلدين له وزيراً(1).
__________
(1) سبق تخريج جميع هذه الروايات وغيرها في الباب الأول.(1/352)
9- ومن الردود أيضاً: ما جاء في قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما والصادق رحمه الله: (وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين)(1).
وهذه القراءة وردت من طرق الفريقين، ويلزم على ثبوتها إشكال وهو: أن الإخلاص صفة المسلمين دون الكفار، وقد أورد القوم عن الباقر في قوله عز وجل: ورهطك منهم المخلصين، قال: علي، وحمزة، وجعفر، والحسن، والحسين، وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين(2).
وهذا يسقط الاستدلال بالرواية من وجوه؛ فإن كانت الدعوة للمؤمنين أو من ذكرنا آنفاً بطل قول الرسول صلى الله عليه وسلم من أصله، فإيمانهم يستلزم منه المؤازرة والمناصرة والمبايعة، وإن كان غير ذلك فابحث لك عن مخرج، فعدم إيمان جميع الحضور لا يقول به مؤمن.. فتدبر!
ثم إن حمزة وجعفراً لم يقل القوم بإمامتهم رغم رواية الباقر السابقة التي أقحم فيها بقية الأئمة في بيت الأكبر أو أبي طالب أو الشعب، فتدبر!
وعلى أي حال، فالشبهات والردود كثيرة، ونكتفي بما أوردناه، ونختم حديثنا في بيان ما صح في نزول هذه الآية:
__________
(1) مجمع البيان: (7/323)، فصل الخطاب: (142، 317)، الصافي: (4/53)، البرهان: (3/189، 190، 191، 192)، محجة العلماء: (130، 131، 132)، عيون الأخبار: (1/209)، تفسير القمي: (2/100)، البحار: (18/164، 178، 181، 212)(25/213، 215، 223)(38/249، 251)، تفسير فرات: (1/303)، تأويل الآيات الظاهرة: (1/393، 395)، إثبات الهداة: (2/161)، علل الشرايع: (170)، الطرف: (7)، نور الثقلين: (4/66، 68)، الميزان: (15/336).
(2) تفسير القمي: (2/101)، البرهان: (3/191، 192)، نور الثقلين: (4/69)، تأويل الآيات الظاهرة: (1/395)، البحار: (25/213، 215)، الصافي: (4/53).(1/353)
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تباً لك، ألهذا دعوتنا جميعاً؟ فأنزل الله تعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1]... إلى آخر السورة(1).
وهذه الرواية صحت من طرق أهل السنة أيضاً.
الدليل الثاني: الاستدلال بروايات: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) ذكر الروايات ودراسة الأسانيد والرد على هذا الاستدلال:
الاستدلال الثاني: هو نزول قوله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] الآيات، في شأن علي رضي الله عنه، وسنذكر أولاً الروايات من طرق القوم وندرس أسانيدها، ثم نتكلم في القصة:
__________
(1) مجمع البيان: (7/323)، البحار: (18/164، 193)(18/197)(35/145)، المناقب: (1/46)، الميزان: (15/333، 334)(20/386)، نور الثقلين: (4/68)(5/698)، الصافي: (5/389)، وانظر أيضاً: البحار: (9/132)(18/194).(1/354)
الرواية الأولى: الصدوق، قال: حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا بكر بن عبدالله، قال: حدثنا الحسن بن زياد الكوفي، قال: حدثنا علي بن الحكم، قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه قال: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبضه الله فيه اجتمع إليه أهل بيته وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله، إن حدث بك حدث فمن لنا بعدك؟ ومن القائم فينا بأمرك؟ فلم يجبهم جواباً وسكت عنهم، فلما كان اليوم الثاني أعادوا عليه القول فلم يجبهم عن شيء مما سألوه، فلما كان اليوم الثالث قالوا له: يا رسول الله، إن حدث بك حدث فمن لنا بعدك؟ ومن القائم فينا بأمرك؟ قال لهم: إذا كان غداً هبط نجم من السماء في دار رجل من أصحابي فانظروا من هو فهو خليفتي عليكم بعدي، والقائم فيكم بأمري، ولم يكن فيهم أحد إلا وهو يطمع أن يقول له: أنت القائم من بعدي، فلما كان اليوم الرابع جلس كل رجل منهم في حجرته ينتظر هبوط النجم إذ انقض نجم من السماء قد غلب ضوؤه على ضوء الدنيا حتى وقع في حجرة علي، فهاج القوم، وقالوا: والله لقد ضل هذا الرجل وغوى، وما ينطق في ابن عمه إلا بالهوى، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:1-4] إلى آخر السورة(1).
__________
(1) أمالي الصدوق: (468)، البرهان: (4/224)، البحار: (35/273)، المناقب: (3/10)، إثبات الهداة: (2/70، 169، 178)، تأويل الآيات الظاهرة: (2/621)، نور الثقلين: (5/145).(1/355)
أقول: القطان، قال فيه الخوئي: هو من مشايخ الصدوق، وتوهم بعضهم حسن الرجل من ترحم الصدوق عليه، وهو عجيب! كيف وقد ترحم الأئمة لعموم الزائرين لقبر الحسين؟ بل أفرط بعضهم فذكر أن الصدوق وصفه بالعدل، وهذا أعجب! فإن الصدوق لم يصفه بالعدل، إنما ذكر أنه كان معروفاً بأبي علي بن عبدربه [عبدويه] العدل، ومعنى أن هذا العدل كان لقباً له -وكلمة العدل، وكلمة الحافظ والمقرئ ونحوهما من الألقاب- وأين هذا من وصفه بالعدالة؟ ولا يبعد أن يكون الرجل من العامة، كما استظهر بعضهم(1).
وأحمد بن يحيى هو ابن زكريا القطان أبو العباس، وهو مجهول الحال(2)، وكذا بكر بن عبدالله بن حبيب المزني عند القوم(3).
أما الحسن بن زياد فلم أجد من ترجم له، ولا أظنه الصيقل أو العطار الكوفي، فإنهما من أصحاب الصادق، وصاحبنا يروي عن الصادق بواسطتين(4).
__________
(1) معجم الخوئي: (2/86).
(2) معجم الخوئي: (2/363).
(3) معجم الخوئي:(3/349)،جامع الرواة:(1/127)،النجاشي:(1/271)،مجمع الرجال:(1/275).
(4) معجم الخوئي: (4/331، 333)، مجمع الرجال: (2/111)، الكشي: ترجمة: (298)، النجاشي: (1/152)، الطوسي: (166، 183)، المناقب: (4/281)، جامع الرواة: (1/199، 200).(1/356)
الرواية الثانية: الصدوق، حدثنا الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي الكوفي، قال: حدثنا فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن علي الهمداني، قال: حدثني الحسين بن علي، قال: حدثني عبدالله بن سعيد الهاشمي، قال: حدثني عبد الواحد بن غياث، قال: حدثنا عاصم بن سليمان، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: صلينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلَّم أقبل علينا بوجهه، ثم قال: أما إنه سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر، فيسقط في دار أحدكم، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي وخليفتي والإمام بعدي، فلما كان قرب الفجر جلس كل واحد منا في داره ينتظر سقوط الكوكب في داره، وكان أطمع القوم في ذلك أبي، العباسُ بن عبد المطلب، فلما طلع الفجر انقض الكوكب من الهواء فسقط في دار علي بن أبي طالب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: يا علي، والذي بعثني بالنبوة لقد وجبت لك الوصية والخلافة والإمامة بعدي، فقال المنافقون عبدالله بن أبي وأصحابه: لقد ضل محمد في محبة ابن عمه وغوى، وما ينطق في شأنه إلا بالهوى، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1](1).
__________
(1) أمالي الصدوق: (453)، البرهان: (4/244)، البحار: (35/272)، تفسير فرات: (2/451) (الحاشية)، تأويل الآيات الظاهرة: (2/622)، بشارة المصطفى: (231)، نور الثقلين: (5/144)، إثبات الهداة: (2/68)، الصافي: (5/84).(1/357)
أقول: الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي لم يرد فيه سوى القول بأنه من مشايخ الصدوق، وقد ذكرنا لك قول الخوئي في هؤلاء(1)، وأضيف هنا -أيضاً- قول الصدوق نفسه في أحد مشايخه وهو أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الضّبي المرواني: ما لقيت أحداً أنصب منه، وبلغ من نصبه أنه كان يقول: اللهم صل على محمد فرداً، ويمتنع من الصلاة على آله.(2)
وعلى هذا فأي حجة لمن يقول بتوثيق مشايخ الصدوق إذا كان يروي عن أمثال هذا الناصبي الكافر النجس عندهم؟!
أما فرات بن إبراهيم الكوفي، فهو صاحب التفسير، وقد مرَّ الكلام فيه.
والهمداني والحسين بن علي والهاشمي. لم أقف على ذكرهم في كتب الرجال، وجويبر ضعيف جداً، والضحاك صدوق كثير الإرسال.
الرواية الثالثة: الصدوق، حدثنا أحمد بن محمد بن الصقر العدل، قال: حدثنا محمد بن العباس بن بسام، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن أبي الهيثم السعدي، قال: حدثني أحمد بن أبي الخطاب [أحمد بن الخطاب]، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن عبدالله بن عباس، بمثل الرواية السابقة إلا أنه قال في حديثه: يهوي كوكب من السماء مع طلوع الشمس فيسقط في دار أحدكم(3).
__________
(1) معجم الخوئي: (5/115).
(2) عيون أخبار الرضا: (2/312)، معاني الأخبار: (56)، علل الشرايع:(134)، معجم الخوئي: (2/92).
(3) أمالي الصدوق: (453)، البرهان: (4/244)، البحار: (35/273)، تفسير فرات:(2/452) (الحاشية)، نور الثقلين: (5/145).(1/358)
أقول: أحمد بن محمد بن الصقر لم يرد فيه سوى كونه من مشايخ الصدوق(1)، وقد عرفت آنفاً أن ذلك لا يدل على وثاقة الرجل وعلى ذكر مشايخ الصدوق، فالصدوق نفسه لم يسلم من الطعن فيه، والخلاف في توثيقه، حتى توقف البعض فيه بحجة أنه لم يصرح بتوثيقه أحد من علماء الرجال، ونعته البعض بالكذب، حيث قال: الصدوق كذوب، وذكر آخر وهو أسد الله الكاظمي في (كشف القناع) أن الصدوق يقوم بالتغيير في الأحاديث مما يورث سوء الظن به، وخلص إلى القول بأن أمره مضطرب جداً(2)، أما ابن بسام والسعدي والخطاب فلم أجد من ترجم لهم عند القوم.
الرواية الرابعة: الصدوق، حدثنا أحمد بن الحسن القطان المعروف بأبي علي بن عبدالله عبدربه [عبدويه] العدل، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن زكريا القطان، قال: حدثنا بكر بن عبدالله بن حبيب، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الكوفي الجعفي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبدالله السنجري [السحري] أبو إسحاق، عن يحيى بن الحسين المشهدي، عن أبي هارون العبدي، عن ربيعة السعدي، قال: سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1]؟
قال: هو النجم الذي هوى مع طلوع الفجر فسقط في حجرة علي بن أبي طالب، وكان أبي العباسُ يحب أن يسقط ذلك النجم في داره، فيحوز الوصية والخلافة والإمامة، ولكن أبى الله أن يكون ذلك غير علي بن أبي طالب(3).
__________
(1) معجم الخوئي: (2/128، 284، 333)، جامع الرواة: (1/67).
(2) معجم الخوئي: (16/323)، روضات الجنات: (6/136)، لؤلؤة البحرين: (374)، الخصال: مقدمة المحقق (صفحة:ب).
(3) أمالي الصدوق: (454)، البرهان: (4/244)، البحار: (35/273)، تفسير فرات: (2/452) (الحاشية)، إثبات الهداة: (2/69)، مستدرك الوسائل: (7/256).(1/359)
أقول: أما أحمد بن الحسن، وأبو العباس القطان، وابن حبيب، فقد مرت ترجمتهم في تخريج الرواية الأولى، والسنجري أو السحري والمشهدي غير معروفين، والعبدي مجهول الحال عند القوم(1)، كذاب ومتروك الحديث عند أهل السنة، وكذا السعدي عند القوم(2)، ولم يرد في حقهما توثيق إلا ما قيل عن وثاقة كل من ورد في أسانيد تفسير القمي، وقد بينا بطلان هذه الدعوى فيما سبق، فراجعها.
الرواية الخامسة: فرات بن إبراهيم، حدثني جعفر بن أحمد معنعناً، عن عائشة قالت: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس إذ قال له بعض أصحابه: من أخير الناس بعدك يا رسول الله؟ فأشار إلى نجم في السماء، فقال: من سقط هذا النجم في داره، فقال القوم: فما برحنا حتى سقط النجم في دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال بعض أصحابه ما قالوا: ما أشد ما رفع بضبع ابن عمه، فأنزل الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1](3).
أقول: حسب الرواية هذه أنها من روايات تفسير فرات، فضلاً عن كونها معنعنة.
الرواية السادسة: فرات، حدثنا أبو الحسن أحمد بن صالح الهمداني معنعناً، عن عبدالله بن بريدة الأسلمي، عن أبيه رضي الله عنه قال: انقض نجم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من وقع هذا النجم في داره فهو الخليفة، فوقع النجم في دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالت قريش: ضل محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] (4).
__________
(1) معجم الخوئي: (22/72)، جامع الرواة: (2/421).
(2) معجم الخوئي: (7/180).
(3) تفسير فرات: (2/449)، البحار: (35/280).
(4) تفسير فرات: (2/449)، البحار: (35/281).(1/360)
الرواية السابعة: فرات، حدثنا علي بن أحمد بن خلف الشيباني معنعناً، عن نوف البكالي، عن علي بن أبي طالب قال: جاءت جماعة من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، انصب لنا علماً يكون لنا من بعدك لنهتدي ولا نضل كما ضلت بنو إسرائيل بعد موسى بن عمران، فقد قال ربك: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) [الزمر:30]، ولسنا نطمع أن تعمر فينا ما عمر نوح في قومه، وقد عرفت منتهى أجلك ونريد أن نهتدي ولا نضل، قال: إنكم قريبو عهد بالجاهلية، وفي قلوب أقوام أضغان، وعسيت إن فعلت أن لا تقبلوا، ولكن من كان في منزله الليلة آية من غير ضير فهو صاحب الحق، قال: فلمَّا صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وانصرف إلى منزله سقط في منزلي نجم أضاءت له المدينة وما حولها، وانفلق بأربع فلق انشعبت في كل شعبة فلقة من غير ضير، قال نوف: قال لي جابر بن عبدالله: إن القوم أصروا على ذلك وأمسكوا، فلمَّا أوحى الله إلى نبيه أن ارفع ضبع ابن عمك، قال: ياجبرئيل، أخاف من تشتت قلوب القوم، فأوحى الله تعالى إليه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67] قال: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المهاجرون والأنصار، فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر قريش، لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم قال: يا معشر العرب، لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم قال: يا معشر الموالي، لكم اليوم الشرف صفوا صفوفكم، ثم دعا بدواة وقرطاس فأمر فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال: شهدتم؟ قالوا: نعم، قال: أفتعلمون أن الله مولاكم؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فقبض على ضبع علي بن أبي طالب، فرفعه للناس حتى تبين بياض إبطيه، ثم قال: من(1/361)
كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، فأنزل الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] (1).
الرواية الثامنة: فرات، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم معنعناً، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت جالساً مع فتية من بني هاشم عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ انقض كوكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من انقض هذا النجم في منزله فهو الوصي من بعدي، فقام فتية من بني هاشم، فإذا الكوكب قد انقض في منزل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قالوا: يا رسول الله، كل هذا رويت في علي، فأنزل الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] (2).
الرواية التاسعة: فرات، حدثنا محمد بن عيسى بن زكريا معنعناً، عن جعفر بن محمد قال: لما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم غدير خم، فذكر كلاماً، فأنزل الله تعالى على لسان جبرئيل عليه السلام، فقال له: يا محمد، إني منزل غداً ضحوة نجماً من السماء يغلب ضوؤه على ضوء الشمس، فأعلم أصحابك من سقط النجم في داره فهو الخليفة من بعدك، فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غداً يسقط من السماء نجم يغلب ضوؤه ضوء الشمس، فمن سقط ذلك النجم في داره فهو الخليفة من بعدي، فجلسوا كلهم كل في منزله يتوقع أن يسقط النجم في منزله، فما لبثوا أن سقط النجم في منزل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام، واجتمع القوم وقالوا: والله ما تكلم فيه إلا بالهوى، فأنزل الله تعالى على نبيه: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] (3).
__________
(1) تفسير فرات: (2/450)، البحار: (35/281).
(2) تفسير فرات:(2/451)، البحار:(35/283)، تأويل الآيات الظاهرة:(2/620)،الطرائف:(22) العمدة: (78)، البرهان: (4/246).
(3) تفسير فرات: (2/451)، البحار: (35/283).(1/362)
جميع الروايات السابقة من تفسير فرات بن إبراهيم، وقد أوقفناك على قيمة تفسيره هذا، وكذا حال فرات نفسه، ومعظم رجال الأسانيد السابقة -رغم أنها مبتورة ومعنعنة- مجاهيل عند القوم(1).
الرواية العاشرة: الماهيار، عن جعفر بن محمد العلوي، عن عبدالله بن محمد الزيات، عن جندل بن والق، عن محمد بن أبي عمير، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد الناس ولا فخر، وعلي سيد المؤمنين، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فقال رجل من قريش: والله ما يألو يطري ابن عمه، فأنزل الله سبحانه: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] (2).
فالزيات ليس له ذكر في كتب الرجال، وابن والق لم يترجم له القوم، وعند أهل السنة هو صدوق يغلط.
الرواية الحادية عشرة: الماهيار، حدثنا أحمد بن القاسم، عن منصور بن العباس، عن الحصين، عن العباس القصباني، عن داود بن الحصين، عن فضل بن عبد الملك، عن أبي عبدالله قال: لما أوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين يوم غدير خم افترق الناس ثلاث فرق، قالت فرقة: ضل محمد، وفرقة قالت: غوى، وفرقة قالت: بهواه يقول في أهل بيته وابن عمه، فأنزل الله سبحانه: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1](3).
أقول: ابن القاسم مجهول(4)، ومنصور بن العباس لم يوثقه أحد، وقال البعض باضطرابه(5).
__________
(1) معجم الخوئي: (19/185).
(2) تأويل الآيات الظاهرة: (2/623)، البحار: (24/322)، البرهان: (4/245)، كنز الفوائد:(314) (وفي البحار والكنز: محمد بن يحيى بدل ابن أبي عمير).
(3) تأويل الآيات الظاهرة: (2/623)، البحار: (24/434)، البرهان: (4/245)، شرح الأخبار: (1/473).
(4) معجم الخوئي: (2/190)(9/231)، الخلاصة: (205)، جامع الرواة: (1/58)، مجمع الرجال: (1/134).
(5) معجم الخوئي: (18/350)، النجاشي: (2/353)، الفهرست: (197)، الطوسي: (407، 423، 515)، مجمع الرجال: (6/144).(1/363)
ولا تغتر بقول الخوئي بوثاقة الرجل؛ لأنه وقع في إسناد كامل الزيارات لابن قولويه، لأن مبعث هذا القول عنده هو ما ذكره ابن قولويه في مقدمة كتابه المذكور من أنه لا يذكر فيه إلا ما ورد من طرق الثقات(1).
وقد استظهر البعض فساد هذا القول باعتبارات عدة، منها: أن قوله -أي: ابن قولويه- إنما هو محمول على مشايخه الذين صدر بهم سند أحاديث كتابه، لا كل من ورد في إسناد الروايات(2).
وعلى أي حال، يذكر البعض أن الخوئي قد تراجع عن توثيقه لكل من وقع في أسانيد الكتاب المذكور.
والحصين اختلفت نسخ المصادر في ذكره، بين: الحصين، كما مرَّ عن البرهان وبعض نسخ تأويل الآيات، وبين: منصور بن العباس الحصين، كما في بعض نسخ التأويل، وبين: داود بن الحصين، كما في البحار والكنز والتأويل، ولا أظنه داود بن الحصين الأسدي الكوفي الوارد في السند نفسه، وهو رغم الاختلاف فيه يروي عن الصادق، أما صاحبنا فروايته عن الصادق بثلاث وسائط(3)، ولا يبعد أن يكون الحصين الأول إنما هو من سهو النساخ.
وعلى أي حال، فهذا السند كله ظلمات.
هذه كل الروايات التي جاءت بأسانيدها من طرق القوم في نزول قوله عز وجل: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1]، في شأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورأيت أنه لم يصح منها شيء، ولعلك رأيت أيضاً خلو مصادر القوم المعتبرة منها، واقتصارها على كتب الصدوق وتفسير فرات والماهيار.. فتأمل!
أما المتون فإليك التعليق عليها:
__________
(1) معجم الخوئي: (1/50).
(2) انظر إن شئت: خاتمة مستدرك الوسائل: (3/522)، كليات في علم الرجال: (299).
(3) معجم الخوئي: (7/97)، النجاشي: (1/367)، تنقيح المقال: (1/408)، الطوسي: (349)، الفهرست: (97)، الخلاصة: (221)، مجمع الرجال: (2/280)، جامع الرواة: (1/302).(1/364)
لن نتكلم بطبيعة الحال عن اختلاف الألفاظ، لأنك لن تجد روايتين متشابهتين، سواء التي ذكرناها أو تلك التي أعرضنا عنها لعدم ورودها بأسانيدها، وهذا بيّن.
وإنما حسبك الاضطراب في وقت نزول النجم.
ففي رواية: مع طلوع الفجر.
وفي رواية: بعد طلوع الفجر.
وفي رواية: أن وقت نزوله ضحوة حتى غلب على ضوء الشمس كما في الرواية التاسعة.
وأيضاً: الاضطراب بين كون القصة في أوائل العهد المكي -باعتبار أن سورة النجم من أوائل ما نزل من القرآن- وبين كونها في المدينة بعد الهجرة.
وأيضاً: الاضطراب بين كونها في فتح مكة، أو عند عودته من الفتح ونزوله صلى الله عليه وسلم غدير خم، أو في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وهذا الأخير كما في الرواية الأولى -وهي أن نزولها كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم- لا أظن أن القوم يسرهم ثبوتها؛ ذلك أنه على فرض ثبوتها يسقط كل ما يورده القوم من استدلالات في إثبات الإمامة قبل هذا النص بما في ذلك روايات غدير خم، وقد تحدثنا بعض الشيء عن هذه الرواية في الباب الأول وأوردنا هناك بعض الشبهات.
وإذا عرفت -أيضاً- أن سورة النجم من أوائل ما نزل من القرآن في مكة، حيث نزل بعدها [63] سورة مكية، و[28] سورة مدنية، كما يعرف ذلك من تسلسل نزول القرآن الكريم؛ عرفت استحالة رواية عبدالله بن عباس رضي الله عنهما لهذه القصة، فابن عباس رضي الله عنهما كان مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، وعلى هذا فإما أنه لم يكن قد ولد بعد عند نزول هذه الآية، أو أن روايته لهذه القصة كانت في إحدى هذه السنين الثلاث في مكة، وهذا لا يقول به أحد.(1/365)
كما لم يختلف أحد من المسلمين شيعة كانوا أم سنة في أن سورة النجم من السور المكية إلا الآية [32] على خلاف؛ وهي قوله: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ)) [النجم:32]، وإذا عرفت هذا أيضاً -أي: من شأن نزول هذه السورة في أوائل العهد المكي- فاعلم بأن الاستدلال بهذه القصة مخالف لادعاء القوم أن الإمامة آخر ما نزل من الأركان، وأن ذلك كان بعد فريضة الحج، حيث أنزل الله فيها بزعمهم: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3]، أما في قصتنا هذه فلم تكن الزكاة والصوم والحج قد فرضت بعد.
وإذا تأملت هذا الاختلاف الشديد بين الروايات علمت أنها قد وضعت ونسبت إلى الأئمة، وكل ذلك لمحاولة إثبات هذه العقيدة المنحرفة؛ وقد قال سبحانه: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء:82].
ومن الردود أيضاً: أن من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: غويت، فهو كافر، والكفار لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالفروع قبل الشهادتين والدخول في الإسلام.
وبعيداً عن هذا كله: فمن المعلوم -حتى لدى الصغير- أن النجم عبارة عن كتلة مستديرة من غازات شديدة الحرارة، وأن هناك فرقاً بين الكواكب والنجوم، حيث إن النجوم ذات إضاءة ذاتية، بينما الكواكب تعكس ضوء النجوم، ولا ينبغي أن يكون النازل في أو على دار علي رضي الله عنه والذي غلب ضوؤه ضوء الدنيا أو الشمس لا ينبغي أن يكون كوكباً كما في بعض الروايات السابقة، لأنه كتلة حجرية غير مضيئة، إنما المضيء هو النجم، ولو افترضنا أن أصغر نجم هو بحجم الأرض، فأين تكون دار أمير المؤمنين رضي الله عنه في مكة أو المدينة من ذلك.(1/366)
فضلاً عن أن النجوم والكواكب لا تزول عن مستقرها ومداراتها، وإنما قيل بانفصال شهب من الكواكب تكون رجوماً للشياطين، وليست فضيلة أو كرامة لأحد.
ولأجل كل هذا وغيره، فقد نزه الكثير من علماء القوم مصنفاتهم -رغم احتوائها على الكثير من المآخذ- عن إيراد مثل هذه السفاسف(1).
بل ذهب بعضهم إلى التهكم بهذه الرواية قائلاً: إن أصغر النجوم هو أكبر من الأرض..فكيف يعقل استيعاب دار علي لنجم لا تستوعبه الأرض بأكملها(2)؟!
ومن الطرائف في قصتنا هذه، تحديد البعض لهذا النجم، فقد ذكر صاحب المناقب أن النجم كان الزهرة، وقيل: الثريا(3).
__________
(1) من هؤلاء: الطبرسي في مجمعه، والأميني في غديره، ومغنية في كشافه، والطباطبائي في ميزانه، وغيرهم.
(2) الأخبار الدخيلة، للتستري: (217)، الموضوعات في الآثار والأخبار، لهاشم معروف: (151).
(3) المناقب: (3/11)، البحار: (35/274).(1/367)
ومن الروايات الطريفة في موضوعنا، رواية ذكرها صاحب إرشاد القلوب، عن الباقر قال: اجتمع التسعة المفسدون في الأرض في دار الأقرع بن حابس التميمي وكان يسكنها في ذلك الوقت صهيب الرومي، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأيضاً ابن عوف الزهري، وأبوعبيدة بن الجراح(1)، فقالوا: لقد أكثر محمد في حق علي حباً حتى لو أمكنه أن يقول لنا: اعبدوه لقال، فقال سعد بن أبي وقاص: ليت محمداً أتانا فيه بآية من السماء كما آتاه الله في نفسه من الآيات مثل انشقاق القمر وغيره، وباتوا ليلتهم تلك، فنزل نجم من السماء حتى صار في ذروة جدار أمير المؤمنين معلقاً يضيء في سائر المدينة، حتى دخل ضياؤه في البيوت وفي الآثار وفي المغارات وفي المواضع المظلمة من بيوت الناس، فذعر أهل المدينة ذعراً شديداً، وخرجوا وهم لا يعلمون ذلك النجم على دار من نزل ولا هو متعلق، لكن يرونه على بعض منازل رسول الله، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجيج الناس خرج إلى المسجد ونادى في الناس: ما الذي أرعبكم وأخافكم، هذا النجم على دار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: أفلا تقولون لمنافقيكم التسعة الذين اجتمعوا في أمسكم في دار صهيب الرومي وقالوا فِيَّ وفي أخي علي بن أبي طالب ما قالوا؟
__________
(1) علة تحديد أسماء هؤلاء دون بقية الصحابة غير خافية، فهؤلاء التسعة مبشرون بالجنة عند أهل السنة.(1/368)
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مغلساً بها، وأقبل الناس يقولون: ما بقي نجم في السماء، وهذا النجم معلق، فقال لهم رسول الله: هذا حبيبي جبرئيل عليه السلام قد أنزل علي النجم قرآناً تسمعونه، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1] الآيات، ثم ارتفع النجم وهم ينظرون إليه والشمس قد بزغت وغاب النجم في السماء، فقال بعض المنافقين: لو شاء لأمر هذه الشمس فنادت باسم علي، وقالت: هذا ربكم فاعبدوه، فهبط جبرئيل عليه السلام وأخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بما قالوا، فاستدعى علياً وقال له: يا أبا الحسن، إن قوماً من منافقي أمتي ما قنعوا بآية النجم حتى قالوا: لو شاء محمد لأمر الشمس أن تنادي باسم علي وتقول: هذا ربكم فاعبدوه، وأمره أن يخرج إلى بقيع الغرقد في الغد ليخاطب الشمس وتخاطبه، فسمع الناس ما قال رسول الله وسمع التسعة المفسدون في الأرض، فقال بعضهم لبعض: لا تزالون تغرون محمداً بأن يظهر في ابن عمه كل آية ولبئس ما قال محمد في هذا اليوم، فقال اثنان منهم، وأقسما بالله جهد أيمانهما -وهما أبو بكر وعمر-: لا بد أن نحضر البقيع حتى ننظر ونسمع ما يكون من علي والشمس، فذكر خروجه ومخاطبته للشمس قائلاً: السلام عليك يا خلق الله الجديد، فأنطقها الله بلسان عربي مبين، فقالت: السلام عليك يا أخا رسول الله ووصيه، أشهد بأنك الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنك عبدالله وأخو رسوله حقاً... والقصة طويلة(1).
أما الروايات الصحيحة في تفسير هذه الآية فإليك ما يلي:
ذكر الطبرسي أن هناك أقوالاً في قوله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1]، منها: أن الله أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوماً متفرقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، فسمي القرآن نجماً لتفرقه في النزول.
__________
(1) إرشاد القلوب: (269)، البحار: (35/276).(1/369)
ومنها: أنه أراد الثريا، أقسم بها إذا سقطت مع الفجر، والعرب تطلق اسم النجمة على الثريا خاصة.
ومنها: أن المراد به جماعة النجوم إذا هوت، أي: سقطت وغابت وخفيت عن الحس وأراد به الخنس.
ومنها: أنه يعني به الرجوم من النجوم، وهو ما يرمى به الشياطين عند استراق السمع(1).
ويقول الطباطبائي: إن المراد بالنجم هو مطلق الجرم السماوي المضيء، وقد أقسم الله في كتابه بكثير من خلقه.
ومنها: عدة من الأجرام السماوية كالشمس والقمر وسائر السيارات، وعلى هذا فالمراد بهويّ النجم سقوطه للغروب(2).
ويقول مغنية: المراد بالنجم كل نجم؛ لأن الألف واللام للجنس، وأن معنى هوت النجوم أنها تسقط وتتناثر في الفضاء يوم القيامة بدليل قوله: ((وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ)) [الانفطار:2](3). وغيرها.
وكلها تدل دلالة واضحة على بُعد ما جاء في الروايات التي في موضوع الباب.
وعلى أي حال، ما كان أغنانا عن كل هذا لو لا أننا لازلنا نرى البعض يسود كتبه بأمثال هذه التخرصات التي لم يحتج بها الأمير نفسه في مواطن الاحتجاج في إثبات إمامته بزعم القوم.
وأخيراً فهذا الاستدلال يسقط الاستدلال السابق -أعني: حديث بدء الدعوة- لأن فيه أن الأمر الأول لم يكن أصلاً.. فتدبر!
الدليل الثالث: حديث تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخاتم ونزول قوله عز وجل:
((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55].
سنذكر أولاً جميع الروايات التي وردت مسندة من طرق القوم في هذا الشأن، ونتكلم في أسانيدها ثم ننظر في متونها:
__________
(1) مجمع البيان: (9/260).
(2) تفسير الميزان: (19/26).
(3) التفسير الكاشف: (7/173).(1/370)
الرواية الأولى: الصدوق، أخبرني علي بن حاتم، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعد [سعيد] الهمداني، قال: حدثنا جعفر بن عبدالله المحمدي، قال: حدثنا كثير بن عياش، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر في قول الله عز وجل: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55]، قال: إن رهطاً من اليهود أسلموا، منهم: عبدالله بن سلام، وأسد، وثعلبة، وابن خيامين، وابن صوريا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله، إن موسى عليه السلام أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ ومن ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا، فقاموا فأتوا المسجد، فإذا سائل خارج، فقال: يا سائل، أما أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم، قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي، قال: على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر أهل المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علي بن أبي طالب وليكم بعدي، قالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبعلي بن أبي طالب ولياً، فأنزل الله عز وجل: ((وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ)) [المائدة:56](1).
أقول: كثير بن عياش، ضعيف(2).
__________
(1) أمالي الصدوق: (107)، البحار: (35/183)، البرهان: (1/480)، الميزان: (6/16)، تأويل الآيات:(1/152)،الوسائل:(9/478)، المناقب:(2/209)، الصافي:(2/46)، نور الثقلين:(1/647)، إثبات الهداة: (2/54).
(2) معجم الخوئي: (7/322)(14/107)، جامع الرواة: (2/27)، مجمع الرواة: (3/75) (5/68).(1/371)
أما أبو الجارود زياد بن المنذر، فهو زيدي المذهب، والاختلاف فيه بيّن عند القوم، والأكثر على ذمه، والخوئي بعد أن أورد الروايات الذامة فيه على لسان الباقر والصادق ضعّف بعضها واضطرب في أخرى، وخلص إلى القول بأنه ثقة فقط لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات، وقد شهد ابن قولويه بوثاقة جميع رواتها، ولشهادة علي بن إبراهيم في تفسيره بوثاقة كل من وقع في إسناده(1).
أما وثاقة كل من وقع في أسانيد كامل الزيارات فقد أوقفناك على بطلان ذلك، وذكرنا استظهار البعض من أن قول ابن قولويه هذا إنما هو محمول على مشايخه الذين صدر بهم أسانيد روايات كتابه، لا كل من ورد في إسناد الروايات، ويكفيك دليلاً على ذلك روايتنا هذه، فعلي بن حاتم من شيوخ ابن قولويه، وهو وإن كان ثقة في نفسه إلا أنه يروي عن الضعفاء كما ذكرنا، وأما القول في وثاقة كل من وقع في أسانيد تفسير القمي فستقف عليه قريباً إن شاء الله.
__________
(1) معجم الخوئي: (7/321)، كليات في علم الرجال: (314، 407)، النجاشي: رقم (1/387)، رجال الطوسي:(122، 197)، مقياس الهداية: (2/353)، رجال الكشي:(150)، تنقيح المقال: (1/60، 459)، البحار: (37/32)، كمال الدين: (608)(الحاشية)، مجمع الرجال: (3/73)، الفهرست: (102)، جامع الرواة: (1/339)، الخلاصة: (223).(1/372)
الرواية الثانية: الصدوق، حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا عبدالرحمن بن محمد الحسني، قال: حدثني أبو جعفر محمد بن حفص الخثعمي، قال: حدثنا الحسن بن عبد الواحد، قال: حدثني أحمد بن التغلبي، قال: حدثني أحمد بن عبد الحميد، قال: حدثني حفص بن منصور العطار، قال: حدثنا أبو سعيد الوراق، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال:...وذكر حديثاً طويلاً فيه قول علي بن أبي طالب لأبي بكر رضي الله عنه قال: أنشدك بالله ألي الولاية من الله مع ولاية رسول الله في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك(1).
أقول: سند هذه الرواية ظلمات بعضها فوق بعض، وحسبنا قول محقق الكتاب فيه: الظاهر هو -أي: التغلبي- أحمد بن عبدالله بن ميمون التغلبي، قال ابن حجر: ثقة زاهد، وأما بقية رجال السند فمهملون أو مجاهيل(2)، وهو كما قال.
الرواية الثالثة: الصدوق، حدثنا أحمد بن الحسن القطان، ومحمد بن أحمد السناني، وعلي بن موسى الدقاق، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم المكتب، وعلي بن عبدالله الوراق، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن زكريا القطان، قال: حدثنا بكر بن عبدالله بن حبيب، قال: حدثنا تميم بن بهلول: قال: حدثنا سليمان بن حكيم، عن ثور بن يزيد، عن مكحول قال:...وذكر حديثاً طويلاً جداً في احتجاج الأمير على الصديق رضي الله عنهما، قال فيه: كنت أصلي في المسجد، فجاء سائل فسأل وأنا راكع، فناولته خاتمي من إصبعي، فأنزل الله تبارك وتعالى فِيّ: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55] (3).
__________
(1) الخصال: (548)، نور الثقلين: (1/645)، الاحتجاج: (118)، الميزان: (6/18).
(2) الخصال: (548) (الحاشية: للمحقق علي أكبر الغفاري).
(3) الخصال: (580)، نور الثقلين: (1/635)، الصافي: (2/45)، المستدرك: (7/256).(1/373)
أقول: سند هذه الرواية كسابقتها، فالسناني(1)، والوراق، والمكتب، وتميم بن بهلول، وابن زكريا القطان، وثور بن يزيد جميعهم مجهولون(2)، والبقية تقدمت تراجمهم.
الرواية الرابعة: الكليني، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محمد الهاشمي، عن أبيه، عن أحمد بن عيسى، عن أبي عبدالله في قول الله عز وجل: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55]، قال: إنما يعني أولى بكم، أي: أحق بكم وبأموركم وأنفسكم وأموالكم (الله ورسوله والذين آمنوا) يعني: علياً وأولاده الأئمة إلى يوم القيامة، ثم وصفهم الله عز وجل، فقال: ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] وكان أمير المؤمنين في صلاة الظهر وقد صلى ركعتين وهو راكع وعليه حلة قيمتها ألف دينار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كساه إياها، وكان النجاشي أهداها له، فجاء سائل فقال: السلام عليك يا ولي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين، فطرح الحلة إليه، وأومأ بيده إليه أن احملها: فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية وصير نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدقون وهم راكعون، والسائل الذي سأل أمير المؤمنين من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة(3).
__________
(1) معجم الخوئي: (15/20)، رجال ابن داود: (269).
(2) انظر تراجمهم في: معجم الخوئي: (5/174)(2/363)(3/378، 417) (12/85)(12/178).
(3) الكافي: (1/288،427)، البرهان: (1/480)، نور الثقلين: (1/643)، جامع الأحاديث: (8/441)، تأويل الآيات: (1/153)، الوسائل: (5/18)(9/51)، الصافي: (2/44)، البحار:(24/63).(1/374)
أقول: حسب الرواية هذه أن في سندها ضعفاء ومجاهيل، فمعلى بن محمد مضطرب الحديث والمذهب، ويروي عن الضعفاء(1)، ورغم هذا يقول عنه الخوئي: الظاهر أن الرجل ثقة يعتمد على رواياته، وأما قول النجاشي من اضطرابه في الحديث والمذهب فلا يكون مانعاً من وثاقته، وأما اضطرابه في المذهب فلم يثبت كما ذكره بعضهم، وعلى تقدير الثبوت فهو لا ينافي الوثاقة، وأما اضطرابه في الحديث فمعناه أنه قد يروي ما يعرف، وقد يروي ما ينكر، وهذا أيضاً لا ينافي الوثاقة، وأن روايته عن الضعفاء على ما ذكره ابن الغضائري، فهي على تقدير ثبوتها لا تضر بالعمل بما يرويه عن الثقات، فالظاهر أن الرجل معتمد عليه، والله أعلم.
أقول: والظاهر أن الخوئي اضطر إلى كل هذا؛ لأن صاحبنا وقع في أسانيد كتاب كامل الزيارات لابن قولويه، وقد عرفت رأيه في ذلك.
والحسن بن محمد الهاشمي ضعيف(2)، وأبوه(3) وأحمد بن عيسى مجهولان(4).
__________
(1) معجم الخوئي:(18/257)، مجمع الرجال:(6/113)،النجاشي:(2/365)،جامع الرواة:(2/251).
(2) النجاشي: (1/135).
(3) معجم الخوئي: (18/87).
(4) معجم الخوئي: (2/183).(1/375)
الرواية الخامسة: الطبرسي، حدثنا أبو الحمد مهدي بن نزار الحسني القايني، قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه الصيدلاني، قال: أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد الشعراني، قال: حدثنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين البياشاني، قال: حدثني المظفر بن الحسين الأنصاري، قال: حدثنا السدي بن علي الوراق، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، قال: بينا عبدالله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ أقبل رجل متعمم بعمامة، فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله إلا قال الرجل: قال رسول الله، فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه، وقال: يا أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا فَصُمَّتَا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا، يقول: علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان علي راكعاً، فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/376)
فلما فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال: ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)) [طه:32]^ فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: ((قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا)) [القصص:35]، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي، علياً اشدد به ظهري، قال أبوذر: فوالله ما استتم رسول الله الكلمة حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله، فقال: يا محمد، اقرأ، قال: ما أقرأ؟ قال: اقرأ: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55].(1)
أقول: آفة هذه الرواية عباية بن ربعي، فهو مجهول عند القوم(2)، وغالٍ وملحد ومتروك الحديث عند أهل السنة، وابن الربيع مجهول الحال عند القوم وهو من البترية(3)، والحماني قال فيه الخوئي: إنه لم تثبت وثاقته(4)، وكذا قال فيه البعض من أهل السنة واتهموه بسرقة الحديث، وبقية السند لم أقف لهم على ترجمة.
__________
(1) مجمع البيان: (3/324)، البرهان: (1/481)، البحار: (35/195)، كشف الغمة: (1/166)، الميزان: (6/21)، تأويل الآيات: (1/151)، إثبات الهداة:(2/120)(3/511)، المناقب:(2/208) = = التفسير الكاشف: (3/82).
(2) معجم الخوئي: (9/253)، الطوسي: (69)، مجمع الرجال: (3/253).
(3) الطوسي: (133)، مجمع الرجال: (5/62)، معجم الخوئي: (14/92)، جامع الرواة: (2/24).
(4) معجم الخوئي: (20/59)، النجاشي: (2/419)، الفهرست: (210، 229)، الطوسي: (517)، مجمع الرجال: (6/260)، رجال ابن داود: (204)، جامع الرواة: (2/330).(1/377)
الرواية السادسة: القمي، حدثني أبي، عن صفوان، عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبدالله بن سلام، إذ نزلت عليه هذه الآية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فاستقبله سائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، ذاك المصلي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو علي أمير المؤمنين(1).
قلت: أما والد القمي إبراهيم بن هاشم رغم كل ما قيل فيه، إلا أنه لم يصرح أحد بوثاقته، حتى قال الحلي في ذلك: لم أقف لأحدٍ من أصحابنا على قول في القدح فيه، ولا تعديل بالتنصيص والروايات عنه كثيرة، والأرجح قبول روايته(2).
وقد استمات الخوئي وغيره(3) في إثبات وثاقته ضاربين عرض الحائط كل الأمور التي تثبت بها الوثاقة أو الحسن، كنص أحد المعصومين، أو نص أحد الأعلام المتقدمين، أو نص أحد الأعلام المتأخرين، أو دعوى الإجماع من قبل الأقدمين، وغيرها من الأصول التي وضعوها في ذلك، وجاءوا بأمور لا تخلو من إشكال، منها: قول القمي نفسه بصحة كل ما ورد في تفسيره، ومنها: وقوعه في إسناد كامل الزيارات.
__________
(1) تفسير القمي: (1/178)، البرهان: (1/480، 483)، نور الثقلين: (1/645)، البحار: (35/186، 188)، الميزان: (6/17)، العياشي: (1/356)، الوسائل: (9/478)، إثبات الهداة: (2/140)، الصافي: (2/45).
(2) رجال الحلي: (4)، معجم الخوئي: (1/317).
(3) معجم الخوئي: (1/316)، مقدمة التفسير: (6).(1/378)
ولا شك أن الخوئي وغيره معذورون في ذلك؛ لأن رواياته تبلغ ستة آلاف ومائتين وأربعة عشر مورداً، فعزَّ عليهم إسقاط كل ذلك، ولكن الذي ينبغي أن لا نعذر فيه الخوئي ولا غيره على اجتهادهم في إثبات صحة هذا التفسير، هو تلك المصائب التي ملأ بها القمي تفسيره؛ كالقول بتحريف القرآن(1)، والطعن في الصحابة، وقذف أمهات المؤمنين بالفاحشة.. وغيرها، والروايات في ذلك كثيرة لا يسعنا ذكر شيء منها لعدم مناسبة المقام لذلك.
ولكن لا بأس من ذكر مثال على هذا الأخير -وهو قذف أمهات المؤمنين بالفاحشة رضي الله عنهن وأرضاهن- روى القمي في تفسير قوله عز وجل: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)) [التحريم:10]، عن أبي الحسن قال: والله ما عنى بقوله: فخانتاهما، إلا الفاحشة، وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق البصرة، وكان فلان يحبها، فلما أرادت أن تخرج إلى البصرة قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجي من غير محرم، فزوجت نفسها من فلان(2).
ولا شك أنك عرفت من هو فلان، وفي بعض النسخ جاء التصريح باسمه، وهو طلحة(3).
ولأمثال هذه الرواية وغيرها طعن بعض المحققين(4) من القوم في نسبة التفسير إلى القمي، أو القول أن التفسير ليس للقمي وحده، وإنما هو ملفق مما أملاه القمي على تلميذه أبي الفضل العباس، وما رواه التلميذ بسنده الخاص، عن أبي الجارود، عن الإمام الباقر، وأبوالفضل العباس هذا ليس له ذكر في الأصول الرجالية ولا يعرف من هو، وأبوالجارود مرت ترجمته.
__________
(1) انظر قوله في ذلك:(22، 23) من تفسيره، وقد ذكرنا نماذج من مروياته في التحريف في الباب الثاني.
(2) تفسير القمي: (2/362).
(3) البرهان: (4/358)، البحار: (22/240).
(4) البحار: (22/240)(الحاشية)، كليات في علم الرجال: (320).(1/379)
ومن الذين فصلوا القول في هذا الشيخ جعفر السبحاني، حيث خلص إلى القول: بأنه كيف يمكن الاعتماد على ما ذكر في ديباجة الكتاب(1) لو ثبت كون الديباجة لعلي بن إبراهيم نفسه؟
وقال: ثم إن الاعتماد على هذا التفسير بعد هذا الاختلاط مشكل جداً، خصوصاً مع ما فيه من الشذوذ في المتون(2).
ونختم تعليقنا بإيراد هذه الرواية: روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: استأذن على أبي جعفر قوم من أهل النواحي من الشيعة، فأذن لهم فدخلوا، فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب وله عشر سنين.(3)
فهذه الرواية مردودة عقلاً، وإسنادها مكون من علي بن إبراهيم وأبيه فقط، فواضع الرواية أحدهما لا محالة، وهما من تصدرا إسناد روايتنا السابقة.
الرواية السابعة: العياشي، عن خالد بن يزيد، عن المعمر بن المكي، عن إسحاق بن عبدالله بن محمد بن علي بن الحسن، عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جده، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه بذلك، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(4).
__________
(1) يشير إلى قول القمي في المقدمة من روايته للتفسير عن الثقات.
(2) كليات في علم الرجال: (309) وما بعده.
(3) الكافي: (1/496)، البحار: (50/93).
(4) تفسير العياشي: (1/355)، البحار: (35/187)، البرهان: (1/482)، إثبات الهداة: (2/135) (3/514)، الميزان: (6/18)، الوسائل: (9/479).(1/380)
أقول: العياشي نفسه وإن كان ثقة إلا أنه يروي عن الضعفاء كثيراً(1)، أما تفسيره فجل رواياته محذوفة الأسانيد(2)، وبقية رجال السند غير معروفين وليس لهم ذكر في كتب الرجال، والحسن بن زيد وردت فيه ذموم كثيرة(3).
الرواية الثامنة: فرات، حدثني الحسين بن سعيد معنعناً، عن أبي جعفر قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في مسجد، فمر مسكين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تُصُدِّقَ عليك بشيء؟
قال: نعم، مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، وأشار بيده فإذا هو علي بن أبي طالب، فنزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو وليكم من بعدي(4).
الرواية التاسعة: فرات، حدثني جعفر بن أحمد [محمد] معنعناً، عن عبدالله بن عطاء، عن أبي جعفر: نزلت في علي بن أبي طالب: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55] (5).
الرواية العاشرة: فرات، حدثني الحسين بن سعيد معنعناً، عن جعفر: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، نزلت في علي بن أبي طالب(6).
__________
(1) معجم الخوئي: (17/224).
(2) مقدمة التفسير: (1/7)، البحار: (1/28)، الذريعة: (4/295).
(3) معجم الخوئي: (4/335).
(4) تفسير فرات: (1/124)، البحار: (35/198)، مستدرك الوسائل: (7/258).
(5) تفسير فرات: (1/123)، البحار: (37/171).
(6) تفسير فرات: (1/125)، البحار: (35/198)، إثبات الهداة: (2/165).(1/381)
الرواية الحادية عشرة: فرات، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن الحسين [الحسن] بن أبي الخطاب، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون، عن سليمان بن طريف، عن محمد بن مسلم، أن سلاماً الجعفي قال لأبي جعفر: يا ابن رسول الله، حدثني عنك خيثمة عن قول الله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب، قال: صدق خيثمة(1).
الرواية الثانية عشرة: فرات، حدثني جعفر بن محمد بن سعيد الأحمسي معنعناً، عن أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية قال: أقبل سائل فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل سألت أحداً من أصحابي؟ قال: لا، قال: فأت المسجد فاسألهم ثم عد إليَّ فأخبرني، فأتى المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، قال: فمر بعلي وهو راكع فناوله يده فأخذ خاتمه، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: لا، فأرسل معه فإذا هو علي بن أبي طالب، قال: ونزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55] (2).
الرواية الثالثة عشرة: فرات، حدثنا الحسين بن الحكم الحبري، قال: حدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، نزلت في علي بن أبي طالب خاصة(3).
__________
(1) تفسير فرات: (1/124)، البحار: (35/198).
(2) تفسير فرات: (1/125).
(3) تفسير فرات: (1/126).(1/382)
الرواية الرابعة عشرة: فرات، حدثني عبيد بن كثير معنعناً، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، أتى عبدالله بن سلام ورهط معه من مسلمي أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهر، فقالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية ولا متحدث لنا دون هذا المسجد، وإن قومنا لما رأونا قد صدقنا الله ورسوله وتركنا دينهم أظهروا لنا العداوة، وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يجالسونا ولا يكلمونا فشق علينا، فبينا هم يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55] فتلا عليهم، فقالوا: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وأذن بلال بالصلاة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقاعد، وإذا مسكين يسأل فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: خاتم من فضة، قال: من أعطاك؟ قال: ذاك الرجل القائم، فإذا هو علي بن أبي طالب، قال: أنى أعطاك؟ قال: أعطانيه وهو راكع، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر عند ذلك يقول: ((وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ)) [المائدة:56](1).
__________
(1) تفسير فرات: (1/126)، إثبات الهداة: (2/165).(1/383)
الرواية الخامسة عشرة: فرات، حدثني أبو علي أحمد بن الحسين الحضرمي معنعناً، عن ابن عباس قال: لما نزلت: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55] جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا سائل فدعاه، فقال: من أعطاك من هذا المسجد؟ قال: ما أعطاني إلا هذا الراكع الساجد -يعني: علياً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعلها فِيَّ وفي أهل بيتي، قال: وكان في خاتم علي الذي أعطاه السائل: سبحان من فخري بأني له عبد(1).
الرواية السادسة عشرة: فرات، حدثنا جعفر بن أحمد معنعناً، عن علي، قال: نزلت هذه الآية على نبي الله وهو في بيته: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)) [المائدة:55] إلى قوله: ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد، ثم نادى سائل فسأل، فقال له: أعطاك أحد شيئاً؟ قال: لا. إلا ذاك الراكع أعطاني خاتمه يعني: علياً(2).
أقول: المرويات السابقة جميعها من تفسير فرات، وقد أوقفناك على قيمته، وحال مؤلفه، هذا فضلاً عن المجاهيل والمهملين فيها، ناهيك عن عنعنتها وانقطاعها.
فالحسين بن سعيد لا أظنه الأهوازي الثقة كما توهم محقق التفسير في ذكر مشايخه، بل المؤكد أنه ليس هو، فالأهوازي يروي عن الرضا وأبي جعفر الثاني وأبي الحسن الثالث، فهو في طبقة إبراهيم بن هاشم.
وفرات من أعلام الغيبة الصغرى، ومن معاصري الكليني صاحب الكافي، فكيف يروي عن الأهوازي وهو لم يدركه؟
وابن عطاء وابن طريف والجعفي والحبري مجاهيل عند القوم(3).
وإسماعيل بن إبراهيم والأحمسي والحضرمي لم أقف لهم على ترجمة.
__________
(1) تفسير فرات: (1/128)، البحار: (35/197).
(2) تفسير فرات: (1/128).
(3) معجم الخوئي: (8/182، 173) (10/254).(1/384)
وأبو هاشم لم يرد ذكره في الأصول الرجالية، وقال فيه صاحب المناقب: كان ثقة جليلاً، ولكن ليس في المناقب المطبوع من هذا شيء، كما ذكر الخوئي(1)، والكلبي متروك الحديث.
وعبيد كذبه كل من ترجم له من الفريقين(2).
الرواية السابعة عشرة: الطوسي المفيد، عن علي بن محمد الكاتب، عن الحسن بن علي الزعفراني، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن محمد بن علي، عن العباس بن عبدالله العنبري، عن عبدالرحمن بن الأسود اليشكري، عن عون بن عبيدالله، عن أبيه، عن جده أبي رافع قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو نائم وحية في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأوقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أنه يوحى إليه، فاضطجعت بينه وبين الحية، فقلت: إن كان منها سوء كان إلي دونه، فمكثت هنيئة، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55]، حتى أتى على آخر الآية، ثم قال: الحمد لله الذي أتم لعلي نعمته، وهنيئاً له بفضل الله الذي آتاه(3).
أقول: أما الكاتب فقد مرَّ الكلام عنه، والزعفراني مهمل(4)، وكذا حال الثقفي(5)، والعنبري لم أجد من ترجم له عند القوم، وابن الأسود مجهول الحال أيضاً(6).
__________
(1) معجم الخوئي: (10/306).
(2) معجم الخوئي: (11/75)، النجاشي: (2/39).
(3) أمالي الطوسي: (58)، البحار: (22/103)(35/184).
(4) معجم الخوئي: (6/66).
(5) معجم الخوئي: (1/287).
(6) معجم الخوئي: (9/309).(1/385)
الرواية الثامنة عشرة: الطوسي، أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل قال: حدثنا الحسن بن علي بن زكريا العاصمي، قال: حدثنا أحمد بن عبيدالله العدلي، قال: حدثنا الربيع بن يسار، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل قال فيه الأمير رضي الله عنه: هل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع ونزلت فيه: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] غيري؟... الرواية(1).
أقول: أبو المفضل مرَّ الكلام عنه، وكذا الأعمش، ولم أجد ترجمة للعاصمي أو العدلي، وكذا ابن يسار.
الرواية التاسعة عشرة: النجاشي، محمد بن جعفر، عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن أحمد بن يوسف، عن علي بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن إسماعيل بن محمد بن عبدالله بن علي بن الحسين، عن إسماعيل بن الحكم، عن عبدالله بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه، عن أبي رافع قال: وذكر تمام القصة السابقة(2).
أقول: أحمد بن يوسف إن كان القصباني فلم يرد فيه توثيق صريح، وإن كان مولى بني تيم الله فمحال أن يرويَ عنه ابن عقدة المولود سنة (249 هـ)، والذي ذكر النجاشي روايته عنه سنة (209هـ)(3)، وإسماعيل بن محمد وابن الحكم مجهولان(4).
__________
(1) أمالي الطوسي: (557)، إثبات الهداة: (2/86).
(2) رجال النجاشي: (62)، معجم الخوئي: (1/176)، البحار: (32/305).
(3) معجم الخوئي: (2/366، 367).
(4) معجم الخوئي: (3/131).(1/386)
الرواية العشرون: محمد بن سليمان الكوفي، قال: أجاز لي أبو أحمد عبدالرحمن بن أحمد الهمداني، قال: حدثني إبراهيم بن الحسن، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا حبان بن علي، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55] فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: خاتم من فضة، قال: من أعطاك؟ قال: ذاك الرجل القائم، قال: على أي حال أعطاك؟ قال: أعطاني وهو راكع، وإذا هو علي بن أبي طالب، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
أقول: الهمداني مجهول، وإبراهيم بن الحسن مشترك بين عدة مجاهيل عند الشيعة.
الرواية الحادية والعشرون: محمد بن سليمان الكوفي [بالسند المتقدم عن عبدالله بن محمد بن إبراهيم] حدثنا عبد ربه بن عبدالله بن عبد ربه العبدي البصري، قال: حدثنا أبو اليسع أيوب بن سليمان الحبطي، قال: حدثنا محمد بن مروان السدي، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس رضي الله عنهما.. فذكر رواية شبيهة بالرواية الرابعة عشرة(2).
أقول: حسب السند أن فيه مجاهيل، بل إن الإسناد الذي فيه السدي عن السائب الكلبي معدود في سلاسل الكذب الشهيرة!!
الرواية الثانية والعشرون: محمد بن سليمان الكوفي، قال: حدثنا عبيدالله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا قيس بن حفص وأحمد بن يزيد، قالا: حدثنا حسين بن حسن، قال: حدثنا أبو مريم، عن المنهال، عن عبيدالله بن محمد بن الحنفية، عن أبيه قال:...فذكر رواية شبيهة بالرواية الثانية عشرة(3).
__________
(1) مناقب أمير المؤمنين: (1/150).
(2) مناقب أمير المؤمنين: (1/169).
(3) مناقب أمير المؤمين: (1/179).(1/387)
أقول: محمد بن الحنفية نفسه ليس له توثيق خاص في كتب الشيعة، وابنه عبيدالله مجهول، والمنهال بن عمرو ضعيف عند أهل السنة، مجهول عند الشيعة.
الرواية الثالثة والعشرون: الطبري الشيعي قال: حدثني أبو الفرج المعافا، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، قال: حدثنا القاسم بن هاشم بن يونس النهشلي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين، قال: حدثنا معاذ بن مسلم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عامر.. فذكر الرواية الرابعة عشرة(1).
أقول: عطاء بن السائب مجهول عند الشيعة، ثقة عند السنة، اختلط في آخر عمره، والقاسم النهشلي مجهول، والحسن بن الحسين مشترك بين كثيرين.
وبعد.. فهذه حال كل الروايات المسندة التي وقفنا عليها من كتب القوم المعتبرة وغير المعتبرة في شأن هذه القصة، وقد رأيت أنه لم يصح منها شيء أصلاً من طرق الشيعة فضلاً عن طرق أهل السنة، رغم كل التهويلات التي استخدمها القوم عند الكلام في هذا الاستدلال من تواتر وصحة القصة في طرق أهل السنة ومن عدم خلو كتبهم منها، ضاربين عرض الحائط بيان الفرق بين الإيعاز وبين التخريج والتحقيق كما ذكرنا، مما يلبس الأمر على القارئ البسيط، مع أن مجرد عزو الحديث إلى كتاب ليس دليلاً على صحته باتفاق المسلمين شيعتهم وسنتهم.
ولا شك أن الروايات في شأن نزول هذه الآية في تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بخاتمه في الصلاة قد أوردها الكثير من علماء أهل السنة، إما لبيان ضعفها، أو من باب إيراد كل ما له شأن بنزول الآية دون اشتراط الصحة، أو إيرادها بأسانيدها مبرئين الذمة بذلك، ولكن لم يصح منها شيء.
__________
(1) دلائل الإمامة:(54)، مستدرك الوسائل:(7/256)، البحار: (35/186)، اليقين: (223).(1/388)
حتى الأميني الذي كان ديدنه الاستماتة في إثبات أحاديث الإمامة حتى لو كانت واهية، كحديث بدء الدعوة الذي مرَّ بك مثلاً، لم يورد في هذه القصة ولا رواية واحدة مناقشاً فيها سندها؛ لعلمه التام بعدم صحة شيء في ذلك، وإنما اكتفى بإيراد من ذكرها من علماء أهل السنة، موهماً قارئه بأن صحة القصة هذه من المسلمات عندهم، دون أن يبين حقيقة قول الكثير ممن ذكرهم في هذه الروايات في بيان عدم صحة شيء منها، وهذه هي الأمانة التي يتبجح بها ويطالبنا بها.
وعلى أي حال، لا نطيل الكلام في أسانيد روايات هذه القصة، فالمحك أن يدلنا القوم على سند صحيح للقصة من كتب أي من الفريقين، ولننتقل إلى الكلام في متونها.
الكلام في متون روايات تصدق علي رضي الله عنه بخاتمه وهو راكع:
من دلائل ضعف هذه القصة والاضطراب البين فيها الاختلاف في رواياتها، ففي روايات: أن نزول هذه الآية إنما كان في بيته صلى الله عليه وسلم.
وفي أخرى: في مجلسه صلى الله عليه وسلم مع اليهود.
وأخرى: في مسجده صلى الله عليه وسلم، بل ذكرت بعض الروايات أن نزولها إنما كان في المسجد الحرام، حيث دخل الأمير رضي الله عنه يوماً إلى الكعبة يصلي، فلما ركع أتاه سائل فتصدق عليه بحلقة خاتمه، فأنزل الله الآية(1).
وكذا الاختلاف في المتصدق به، بين خاتم كما في أكثر الروايات، وبين حلة كما في رواية الكافي، ولم يتردد البعض في القول بأن القصة ربما تكررت، فمرة تصدق بخاتم وأخرى بحلة(2).
والاختلاف أيضاً في الخاتم، بين كونه من فضة كما في بعض الروايات، وذهب كما في أخرى(3).
والاختلاف في نقشه أيضاً، بين الملك لله(4)، وبين سبحان من فخري بأني له عبد(5).
__________
(1) البحار: (37/128).
(2) تفسير الصافي: (2/46).
(3) البرهان: (1/484)، البحار: (35/196، 187).
(4) البحار: (35/203)، سعد السعود: (97).
(5) تفسير فرات: (1/128).(1/389)
وكذا الاختلاف في الصلاة، بين تطوع الظهر أو فريضته خلف النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وكذا دعاء السائل، بين السلام عليك يا ولي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين، هكذا ابتداءً، وبين اللهم أشهدك أني سألت في مسجد رسول الله، كما في أكثر الروايات.
والاختلاف في وقت نزول الآية، ففي بعض الروايات: أنها نزلت قبل القصة.
وأخرى: بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
والاختلاف في كيفية التصدق بالخاتم، بين نزع علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخاتم بنفسه، وبين نزع السائل له.
وكذا الاختلاف في وقت تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم لقومه، بين إخبارهم فور نزول الآية، وبين إرجاء ذلك إلى يوم الغدير(2).
والاختلاف في سؤال السائل، ففي بعض الروايات: أن السائل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم التصدق عليه أولاً.
وفي أخرى: أن السائل سأل أولاً في مسجد النبي ثم مرَّ به صلى الله عليه وسلم، وسؤال النبي له: هل تصدق عليك بشيء؟(3)
والتضارب في الروايات كثير ونجتزئ بما أوردناه.
ونذكر الآن بعض الردود على هذا الاستدلال:
1) منها: إن دلت هذه الآية على نفي إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كذلك تدل على سلب الإمامة عن بقية الأئمة الاثني عشر بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر من أهل السنة، فهؤلاء لم يؤت أحدهم الزكاة وهو راكع لو كان ذلك شرطاً فيمن يتولى أمر المسلمين.
__________
(1) انظر أيضاً: البحار: (35/190).
(2) البرهان: (1/480، 483، 484، 489)، البحار: (35/188)(37/156)، العياشي: (1/360)، الكافي: (1/289).
(3) انظر أيضاً: تفسير فرات: (1/125، 126).(1/390)
2) ومنها: أن صيغة الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون صيغة جمع، فكيف يصدق على علي رضي الله عنه وحده، حتى وإن كان ذلك جائزاً في اللغة، وعلى ذلك شواهد من القرآن، ولكن حمله على المفرد دون دليل هو الخلاف، والأميني الذي يبدو أنه لم يجد له مخرجاً أمام ضعف أسانيد هذه الروايات وتهافت الاستدلال بها؛ فقد أسهب في بيان أن في القرآن آيات عدة نزلت بصيغة الجمع وكان المراد بها المفرد(1)، ولا شك أن ما ذكره صحيح ولكن لا يفيد فيما نحن فيه، حيث إن الأمثلة التي أوردها إنما وردت فيها روايات صحيحة خلاف رواياتنا هذه.
3) ومنها: أن الله تعالى لا يثني على المرء إلا بمحمود، وفعل ذلك في الصلاة ليس بمستحب، ولو كان مستحباً لفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولحض عليه ولكرر علي رضي الله عنه فعله، وإن في الصلاة لشغلاً.
والغريب أن القوم يرون بطلان صلاة أهل السنة بالتكفير [أي: وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام]، ويعدون ذلك عملاً يستوجب البطلان(2)، ولا يعدون عمل الأمير رضي الله عنه من انشغاله بالسائل والاستماع إليه والإشارة إليه ونزع الحلة أو الخاتم من يده وإلقائه إليه.. إلى آخر ما ذكرته الروايات، حركات مبطلة للصلاة، رغم أن ذلك أيضاً يتعارض مع ما ذكره القوم في ذلك عنه وعن الأئمة كما في هذه الأمثلة، فضلاً عن معارضته لقوله عز وجل: ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)) [الأنفال:3].
فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى مصلياً يعبث بلحيته، فقال: أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه(3).
__________
(1) الغدير: (3/163).
(2) الخصال:(2/161)، دعائم الإسلام:(1/159)، قرب الإسناد:(125)، البحار:(10/277، 396) (84/203، 325)، المسائل المنتخبة للخوئي: (104)، زبدة الأحكام للأراكي: (100)، المسائل الإسلامية للشيرازي: (310).
(3) البحار: (84/261، 239)، الخصال: (2/165).(1/391)
وذكروا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان إذا حضر وقت الصلاة تلون وتزلزل، فقيل له: مالك؟ فقال: جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وأنا في ضعفي فلا أدري أحسن أداء ما حملت أو لا(1).
وهو القائل رضي الله عنه كما يروي القوم: طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشتغل قلبه بما تراه عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه(2). وهذا في غير الصلاة، فكيف لو كان في الصلاة، وكأن القوم يريدون أن يقولوا: إنه رضي الله عنه من الذين يقولون ما لا يفعلون.
وعن الصادق قال: إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع والإقبال على صلاتك، فإن الله يقول: ((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون:2](3).
وعنه أيضاً قال: إذا استقبلت القبلة فانس الدنيا وما فيها، والخلق وماهم فيه، واستفرغ قلبك عن كل شاغل يشغلك عن الله(4).
وقد أورد القوم عن الإمام زين العابدين رحمه الله روايات كثيرة عن صلاته وخشوعه فيها، نذكر منها:
__________
(1) البحار: (84/256)، المناقب: (2/124).
(2) البحار: (70/299)(84/261)، الكافي: (2/16).
(3) البحار: (84/260).
(4) البحار: (84/230)، مصباح الشريعة: (10).(1/392)
أنه كان قائماً يصلي حتى وقف ابنه الباقر وهو طفل إلى بئر في داره بالمدينة بعيدة القعر، فسقط فيها فنظرت إليه أمه فصرخت وأقبلت نحو البئر تستغيث وتقول: يا ابن رسول الله، غرق ولدك محمد، وهو لا ينثني عن صلاته وهو يسمع اضطراب ابنه في قعر البئر، فلما طال عليها ذلك قالت حزناً على ولدها: ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت رسول الله! فأقبل على صلاته ولم يخرج عنها إلا عن كمالها وإتمامها، ثم أقبل عليها وجلس على أرجاء البئر ومد يده إلى قعرها وكانت لا تنال إلا برشا طويل، فأخرج ابنه محمداً على يديه يناغي ويضحك لم يبتل به ثوب ولا جسد بالماء، فقال: هاك ضعيفة الإيمان بالله، فضحكت لسلامة ولدها وبكت لقوله: يا ضعيفة اليقين بالله، فقال: لا تثريب عليك اليوم، لو علمت أني كنت بين يدي جبار لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عني، أفمن يرى راحم بعده(1).
وعن الثمالي قال: رأيت علي بن الحسين يصلي فسقط رداؤه عن أحد منكبيه، فلم يسوه حتى فرغ من صلاته، فسألته عن ذلك؟ فقال: ويحك بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه(2).
وعن الصادق قال: كان أبي يقول: كان علي زين العابدين إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه(3).
وفي رواية: إن إبليس تمثل لعلي بن الحسين وهو في صلاته في صورة أفعى لها عشرة رؤوس محددة الأنياب منقلبة الأعين، وطلع عليه من الأرض من موضع سجوده، ثم تطاول في قبلته فلم يرعه ذلك، فانخفض إلى الأرض، وقبض على عشر أنامل رجلي علي بن الحسين فجعل يكدمها بأنيابه، فكان لا يكسر طرفه إليه، ولا يحول قدميه عن مقامه(4).
__________
(1) المناقب: (4/135)، البحار: (46/34)(84/245)، إثبات الهداة: (3/24).
(2) علل الشرايع: (233)، البحار: (46/61، 66)(84/237)، الخصال: (517).
(3) الكافي: (3/300)، البحار: (46/64)(84/229، 248).
(4) إثبات الهداة: (3/25).(1/393)
وعن الجعفي قال: صلى أبو جعفر ذات يوم فوقع على رأسه شيء فلم ينزعه من رأسه حتى قام إليه جعفر فنزعه من رأسه(1).
والروايات في الباب كثيرة جداً، وما أوردناه أقل القليل(2).
ولكن انظر كيف توفق بينها وبين فعل علي بن طالب رضي الله عنه من استماعه إلى السائل وانشغاله به؛ حتى لفت نظره إليه من دون بقية المصلين، وفي بعض الروايات أنه كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم (3)، ولا شك أنه في الصف الأول، ونزع الخاتم من إصبعه وألقاه إليه، أو نزع الحلة كما في الكافي، وهذا أشد، وطرحها إليه و.. و..
والكاظم لما سئل: عن الرجل يكون في الصلاة فيستمع الكلام أو غيره فينصت ليسمعه، ما عليه إن فعل ذلك؟
قال: هو نقص(4). فكيف بمن فعل كل ما فعل الأمير رضي الله عنه، وهو القائل بزعم القوم: إن وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة عمل، وليس في الصلاة عمل(5).
على أي حال، نعود إلى ما كنا فيه من ذكر الردود:
4) ومنها: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع، بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع، فلو تصدق المتصدق في حال القيام والقعود أما كان يستحق هذه الموالاة.
5) ومنها: أن علياً رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه الزكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان فقيراً، والزكاة إنما تجب على من ملك النصاب حولاً، وهو لم يكن من هؤلاء، وفقر أهل البيت غير خافٍ.
__________
(1) البحار: (84/252).
(2) للمزيد راجع: البحار: (84/226)(باب: آداب الصلاة).
(3) البرهان: (1/485).
(4) قرب الإسناد: (123)، البحار: (84/296).
(5) البحار: (10/277)(84/325).(1/394)
فقد روى القوم: أن علياً رضي الله عنه قال يوماً لفاطمة رضي الله عنها: يا فاطمة، هل عندك شيء تطعميني؟ قالت: والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أصبح عندي شيء يطعمه بشر، وما كان من شيء أطعمك منذ يومين إلا شيء أؤثرك به على نفسي وعلى الحسن والحسين، قال: أعلى الصبيين ألا أعلمتني فآتيكم بشيء؟ قالت: يا أبا الحسن، إني لأستحيي من إلهي أن أكلفك ما لا تقدر، فخرج فاستقرض ديناراً... الرواية(1).
وفي رواية أخرى: دخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة ووجدها صفراء من الجوع، فقال: مالي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله، الجوع(2).
فلا غرابة إذاً أن يقترض صلى الله عليه وسلم من شدة الفاقة ليؤمن قوت نفسه وعياله، وله في ذلك حكايات رواها القوم، منها:
ما رواه علي رضي الله عنه من أن يهودياً كان له على رسول الله دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك، قال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال: إذاً أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء الآخرة، والغداة(3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله توفي ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود على ثلاثين صاعاً من شعير، أخذها رزقاً لعياله(4).
وعن الصادق: مات رسول الله وعليه دين(5).
__________
(1) أمالي الطوسي: (626)، البحار: (14/197)(43/31، 59)(96/147)، تأويل الآيات: (1/108)، كشف الغمة: (1/469)، تفسير فرات: (1/83).
(2) الكافي: (5/528)، البحار: (43/62)، نور الثقلين: (3/587).
(3) أمالي الصدوق: (376)، البحار: (16/216).
(4) مكارم الأخلاق: (25)، الاحتجاج: (120)، قرب الإسناد: (44)، البحار: (16/239)(17/297) (103/144).
(5) الكافي: (1/253)(5/93)، التهذيب: (6/184)، البحار: (16/275)(43/321)(81/345) (103/142)، من لا يحضره الفقيه: (3/111)، الوسائل: (18/317).(1/395)
كل هذا رغم تشدده في أمر الدين حتى ثبت عنه صلى الله عليه وسلم تركه للصلاة على من كان عليه دين حتى لو كان قليلاً، فهذا رجل مات على عهده صلى الله عليه وسلم وعليه ديناران، فأخبر بذلك فأبى أن يصلي عليه(1).
ورجل آخر من الأنصار مات وعليه دين فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا تصلوا على صاحبكم حتى يقضي دينه(2).
ورووا أنه جعل الدَّيْن قرين الكفر في الاستعاذة منهما، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أعوذ بالله من الكفر والدين، قيل: يا رسول الله، أيعدل الدين بالكفر؟ فقال: نعم(3).
ورووا عن الصادق: قال صلى الله عليه وسلم: الدين راية الله عز وجل في الأرض، فإذا أراد أن يذل عبداً وضعه في عنقه(4).
وعن الباقر: كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله، إلا الدين فإنه لا كفارة له إلا أداؤه(5). وغيرها.
فما الذي اضطره صلى الله عليه وسلم إلى التدين وموته وهو عليه، رغم كل ما أورده القوم عنه في ذلك؟ فهل من كانت هذه حالهم تجب عليهم الزكاة؟
وكذا كان حال علي رضي الله عنه إلى وفاته، فيوم أن تزوج الزهراء رضي الله عنها عيرتها نساء قريش بفقره، فجاءت أباها صلى الله عليه وسلم شاكية: إنك زوجتني فقيراً لا مال له.
وفي أخرى: قلن: زوجك رسول الله من عائل لا مال له(6).
وهكذا عاش رضي الله عنه، ففي إحدى خطبه قال: والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها(7)؟
__________
(1) علل الشرايع:(528)، البحار:(81/344)(103/142)، من لا يحضره الفقيه:(3/111).
(2) علل الشرايع:(590)، المحاسن:(2/318)، البحار:(103/143)، الوسائل: (18/319).
(3) الخصال: (27)، علل الشرايع: (527)، البحار: (103/141).
(4) علل الشرايع: (529)، البحار: (103/142).
(5) علل الشرايع: (528)، الخصال: (9)، البحار: (103/141).
(6) سيأتي تخريج هذه الروايات.
(7) نور الثقلين: (5/16)، البحار: (40/346)(41/160)(66/320)(77/394).(1/396)
حتى اضطر أن يبيع متاعه ليوفر ثمن قوت يومه، فعنه رضي الله عنه أنه قال: من يشتري سيفي هذا؟ فوالله لو كان عندي ثمن إزار ما بعته(1).
وكان لا يزال رضي الله عنه يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين إلى أن مات مديوناً(2).
فعن الباقر قال: قبض علي وعليه دين ثمانمائة ألف درهم(3).
وهكذا كان حال أبنائه رضي الله عنهم، فعن الصادق قال: مات الحسن وعليه دين، ومات الحسين وعليه دين(4).
بل إن الحسين رضي الله عنه أتعب من جاء بعده، فقد أصيب وعليه دين بضعة وسبعون ألف دينار، فاهتم علي بن الحسين بدين أبيه حتى امتنع من الطعام والشراب والنوم في أكثر أيامه ولياليه(5).
ولا نطيل المسألة، ولكن هل ترى على هؤلاء زكاة لمالٍ يبلغ النصاب ويحول عليه الحول، ويفيض عن الحاجة، ويسلم من الدين؟
ونختم هذا برواية وضعها القوم في قصتنا هذه، تبين أن فقر علي رضي الله عنه من المسلمات، مختصرها قول البعض: وأي مال لعلي حتى يؤدي منه الزكاة(6)؟
6) ومنها: أن الروايات التي ذكرت أن خاتمه رضي الله عنه كان من ذهب(7)، خلاف ما ورد في النهي عن ذلك.
فعن الرضا قال: لا تصل في خاتم ذهب(8).
__________
(1) المناقب: (2/97)، البحار: (40/324)(42/43)، كشف المحجة: (124).
(2) أمالي الطوسي: (443)، البحار: (95/301)(108/57).
(3) كشف المحجة: (125)، البحار: (40/338)(103/142، 145)، الوسائل: (18/322)، وانظر أيضاً: من لا يحضره الفقيه: (3/111)، علل الشرايع: (590)، المحاسن: (2/318)، الوسائل: (18/317).
(4) البحار: (43/321)(81/344)(103/143)، الكافي: (5/93)، التهذيب: (6/184)، من لا يحضره الفقيه: (3/111)، المحاسن: (2/318)، الوسائل: (18/317).
(5) المناقب: (4/143)، البحار: (46/52).
(6) تفسير العسكري: (30)، البحار: (41/20)(96/193).
(7) البرهان: (1/484)، البحار: (35/187، 196)، المناقب: (3/3).
(8) فقه الرضا: (16)، البحار: (66/538)، الوسائل: (4/413).(1/397)
وعن الباقر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع: ذكر منها: التختم بالذهب(1).
وعن الصادق قال: قال النبي لعلي: إياك أن تتختم بالذهب(2).
وعن علي رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله -ولا أقول: نهاكم- عن التختم بالذهب(3)، فكيف توفق بينها؟
7) ومنها: أن إعطاء الخاتم لا يجزئ في الزكاة عند الإمامية، فهم لا يرون زكاة الحلي، وعلى هذا أيضاً الكثير من فقهاء المسلمين(4).
8) ومنها: أن الزكاة تؤدى فور وجوبها ولا ينتظر فيها السؤال.
وعليه لا يمتدح من لم يخرج الزكاة إلا بعد أن تطلب منه، وإنما يمتدح من أخرجها ابتداء فور وجوبها.
9) ومنها: أن هذه الآية بمنزلة قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43]، وهي تحث على صلاة الجماعة؛ لأن المصلي في الجماعة إنما يكون مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فإنه قد فاتته الركعة، أما القيام فلا يشترط فيه الإدراك.
__________
(1) قرب الإسناد: (48)، البحار: (66/538).
(2) قرب الإسناد: (66)، البحار: (66/339)، الوسائل: (4/416).
(3) معاني الأخبار: (301)، البحار: (66/539)، الوسائل: (4/414)(6/308).
(4) الانتصار: (80)، المختصر النافع: (81)، المسائل المنتخبة: (170)، زبدة الأحكام: (116، 169)، شرائع الإسلام: (1/150)، المسائل الإسلامية: (447)، البحار: (96/37، 38، 39، 41، 42)، قرب الإسناد: (135)، دعائم الإسلام: (464)، الحدائق الناضرة: (12/97، 98)، الوسائل: (9/156) وما بعدها.(1/398)
10) ومنها: أن الركوع يطلق ويراد به الخضوع، وذلك مثل قوله سبحانه: ((يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [آل عمران:43] فالمراد بالركوع الخضوع، إذ إن المرأة لا يطلب منها صلاة الجماعة، فالمراد بقوله: ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] أي: خاضعون لله، وليس المراد أنهم يؤتون الزكاة حال الركوع، فتأمل!
11) ومنها: أن هذه الآيات إنما نزلت في النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين، وأن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر، وهو قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:51-55].(1/399)
فالآيات واضحة كل الوضوح أنها في النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وقد وصف الله الذين في قلوبهم مرض بأنهم يوالون الكفار والمنافقين والمرتدين، وبيَّن أنهم لن يضروا الله شيئاً، ثم وصف المؤمنين بما وصفهم به، فهذا السياق العام يوجب لمن قرأه علماً يقينياً لا يمكنه دفعه عن نفسه، وهو أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه، وهل هؤلاء يرون -أيضاً- أن الولاية عند أهل الكتاب تكون بالمعنى نفسه [الوصاية] فتفسر بها على ذلك في هذه الآيات؟ أي: أن بعضهم وصي على بعض؟ كيف يكون ذلك؟
نعوذ بالله من صدأ الأذهان، ورين البهتان، والضلال بعد الإيمان.
12) ومنها: أن غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين، فيوالون علياً، ولا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن، كما يجب على كل مؤمن موالاة أمثاله من المؤمنين.
قال تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) [التحريم:4] فبيَّن الله أن كل صالح من المؤمنين مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الله مولاه وجبرئيل مولاه لا أن يكون صالح المؤمنين متولياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا متصرفاً فيه.(1/400)
قال تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [التوبة:71] (1) فجعل كل مؤمن ولياً لكل مؤمن، وذلك لا يوجب أن يكون أميراً عليه معصوماً لا يتولى عليه إلا هو، فكل مؤمن تقي فهو ولي لله والله وليه، كما قال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:257]، وقال: ((وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)) [الأحزاب:6].
فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأن هذا ولي هذا، وهذا ولي هذا، وأنهم أولياء الله، وأن الله وملائكته والمؤمنين أولياء رسوله، كما أن الله ورسوله والملائكة أولياء المؤمنين، وليس في شيء من هذه النصوص أن من كان ولياً للآخر كان أميراً عليه دون غيره وأنه يتصرف فيه دون الناس.
13) ومنها: أن الفرق بين الوَلاية [بالفتح]، والوِلاية [بالكسر] معروف، فالوَلاية [بالفتح] ضد العداوة وهي المذكورة في الآية، وليست هي الوِلاية [بالكسر] التي هي الإمارة(2).
فالأمير يسمى الوالي ولا يسمى الولي.
14) ومنها: أنه لو أراد الولاية التي هي الإمارة لقال: إنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا، ولم يقل: ومن يتول الله ورسوله، فإنه لا يقال: لمن ولي عليهم، ولا أنه يقال: تولوه، بل يقال: تولى عليهم.
__________
(1) وأورد القوم عن الباقر قوله في نزول هذه الآية: أي: إنما وليكم الله، فقال المسلمون: هذا بعضنا أولياء بعض، البرهان: (1/490)، شرح الأخبار: (104)، مما يدل على عدم فهم المسلمين لغير هذه الموالاة التي يريدها القوم.
(2) سنأتي على ذكر دلائل أخرى عند حديثنا في روايات: (من كنت مولاه).(1/401)
15) ومنها: أن الله سبحانه لا يوصف بأنه متول على عباده، وأنه أمير عليهم، ولا يقال: إن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي رضي الله عنه وغيره أمير المؤمنين، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يقال: إنه متولٍ على الناس وأنه أمير عليهم.
16) ومنها: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله ويكون غالباً، فإن أئمة العدل يتولون على المنافقين والكفار، كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم تحت حكمه ذميون ومنافقون، وكذلك كان تحت ولاية علي رضي الله عنه كفار ومنافقون، والله تعالى يقول: ((وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ)) [المائدة:56]، فلو أراد الإمارة لكان المعنى: أن كل من تأمر على الذين آمنوا فإنهم يكونون من حزبه الغالبين، وليس كذلك، وكذلك الكفار والمنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه وقدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.
17) ومنها: أن كلمة [إنما] تفيد الحصر، والحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف، بل كان في النصرة والمحبة.
18) ومنها: أن إمامته رضي الله عنه غير مرادة في زمان الخطاب، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حد للتأخير، فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير رضي الله عنه بعد مضي زمان أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
لذا وضعوا الكثير من الروايات بلفظ: [بعدي] كما مرَّ بك وسيأتي.(1/402)
19) ومنها: أن الأمر في الآية إن كان محمولاً على الإمارة كما يدعي القوم، فهو دليل على بطلان كل النصوص السابقة، خاصة إذا علمنا أن سورة المائدة التي منها هذه الآية من أواخر ما نزل من القرآن حيث لم ينزل بعدها إلا سورتا التوبة والنصر، والغريب أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في رواياتنا هذه يؤكد هذا، فكلها تدل على عدم علمه بخليفته -بزعم القوم- حتى نزول الآية وسؤاله عن هذا المتصدق والهيئة التي تصدق بها.. إلى آخر ما جاء في الروايات لمن تدبرها.
والحق أن الردود على هذا الاستدلال كثيرة، وما أوردنا فيه كفاية لمن طلب الحق، ولا بأس بأن نختم كلامنا ببعض الطرائف التي أوردها القوم مما يتصل بموضوعنا:
أ- منها: أن الخاتم الذي تصدق به علي رضي الله عنه على السائل كان خاتم سليمان عليه السلام (1).
ب- ومنها: أن الخاتم وزنه أربعة مثاقيل، حلقته من فضة، وفصه خمسة مثاقيل وهو من ياقوتة حمراء، وثمنه خراج الشام، وخراج الشام ثلاثمائة حمل من فضة، وأربعة أحمال من ذهب، وكان الخاتم لمران بن طوق، قتله علي رضي الله عنه وأخذ الخاتم من إصبعه وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الغنائم، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الخاتم، فأخذ الخاتم فأقبل وهو في إصبعه وتصدق به على السائل في أثناء ركوعه في أثناء صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم (2).
ج- ومنها: أن التصدق بالخاتم كان ليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة(3).
د- ومنها: أن جميع الأئمة تصدقوا وهم راكعون(4).
__________
(1) البرهان: (1/485)، شرح الأخبار: (1/226).
(2) البرهان: (1/485)، شرح الأخبار: (1/226).
(3) البرهان: (1/485)، مصباح الشريعة: (530)، البحار: (35/190)، شرح الأخبار: (1/226).
(4) الكافي: (1/288)، البرهان: (1/480)، نور الثقلين: (1/643)، جامع الأحاديث: (8/441)، تأويل الآيات: (1/153)، الوسائل: (6/334)، الصافي: (2/44).(1/403)
هـ- ومنها: أن السائل الذي سأله كان من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة(1).
و- ومنها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بأربعين خاتماً.
وفي رواية أخرى: أربعة وعشرين، وهو راكع، لينزل فيه ما نزل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2).
الدليل الرابع: الاستدلال بآية التطهير والرد على هذا الاستدلال وبيان من هم أهل البيت عليهم السلام:
هذا هو الاستدلال الرابع لهم، وهو قول الله عز وجل: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، ويقولون بأن نزولها في أهل الكساء خاصة، وهم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عنهم، وهي تدل على عصمتهم، والعصمة من شروط الإمامة.
أقول: لا شك في صحة حديث الكساء، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أدخل علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فيه، ثم قال: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33].
ولا يعني هذا بالضرورة صحة كل ما ورد في القصة، إذ إن معظمها لا يصح سنداً أو متناً إلا بالقدر الذي أوردناه أو قريباً منه.
وحيث إن القصة وردت من طرق صحيحة؛ فإن هذا يغنينا عن الكلام في أسانيد طرقها الأخرى، ولكن نتكلم في دلالتها على مقصود القوم، ونذكر الردود عليه.
فنقول: ليس في هذه الآية دلالة على العصمة ولا الإمامة، وبيان ذلك من وجوه:
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) أمالي الصدوق:(107)، البحار:(35/183، 203)، البرهان: (1/480)، الميزان: (6/16)، تأويل الآيات: (1/152)، الوسائل: (6/335)، المناقب: (3/4)، الصافي: (2/46)، نور الثقلين: (1/647)، إثبات الهداة: (2/55)، سعد السعود: (97).(1/404)
1- منها: أن قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، كقوله: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)) [المائدة:6]، وكقوله: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]، وكقوله: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [النساء:26].
وكقوله: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)) [النساء:28].
فإن إرادته عز وجل في هذه الآيات إرادة شرعية متضمنة لمحبته لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، وليس في ذلك أنه خلق هذا المراد فعلاً، ولا أنه قضاه وقدره، ولا أنه يكون لا محالة.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء، ولقال الله تعالى: إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيراً.
وبهذا يتبين لك أن الإرادة هنا إرادة شرعية؛ بدليل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وأن الآية ليس فيها دلالة على العصمة والإمامة كما هو ظاهر.
ويؤكد ذلك الرواية الأخرى التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية: اللهم أنا وأهل بيتي هؤلاء إليك لا إلى النار(1).
__________
(1) أمالي الطوسي: (562)، البحار: (25/240)(35/215، 219، 232)(37/63)، تفسير فرات: (1/333، 335).(1/405)
فلو كان مفهوم الرجس متحققاً هنا -كما يرى القوم- لما كان للدعاء هنا محل، ولو كانت مفيدة للعصمة فإنه ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرون في غزوة بدر قاطبة معصومين، لقوله تعالى فيهم: ((وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)) [المائدة:6] بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه: ((وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)) [المائدة:6] فإن وقوع هذا الإنعام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان.
وعلي أي حال، سيأتي الكلام عليه في مسألة العصمة.
2- ومما يدل على أن الآية ليست دالة على العصمة والإمامة: أن الخطاب في الآيات كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث بدأ بهن وختم بهن:(1/406)
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً)) [الأحزاب:28-34].
فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد، لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بضمير المذكر، لأنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، حيث تناول أهل البيت كلهم، وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أخص من غيرهم بذلك، لذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم.(1/407)
وهذا كما أن قوله: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)) [التوبة:108]، نزلت بسبب مسجد قباء، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك وهو مسجد المدينة.
ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية: اللهم إن هؤلاء أحق(1).
ونعود إلى صيغة التذكير ونضيف: أن زوج الرجل من أهل بيته، وهذا شائع في اللغة، كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أي: امرأتك ونساؤك، فيقول: هم بخير، وقد قال تعالى: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)) [هود:73]، والمخاطب بهذه الآية بالإجماع هي سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، وهذا دليل على أن زوجة الرجل من أهل البيت.
وقوله تعالى: ((فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا)) [القصص:29] والمخاطب هنا أيضاً زوجة موسى عليه السلام.
والشواهد على ذلك كثيرة، وسنأتي على ذكر أمثلة أخرى.
وقد تفطن إلى ذلك بعض علماء الشيعة فبدا عاجزاً عن رد هذا الإشكال فادعى أن في الآية تحريفاً.
فالمجلسي -مثلاً- في رده على هذا الإشكال قال: لعل آية التطهير وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه، أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات لبعض مصالحهم الدنيوية، وقد ظهر من الأخبار عدم ارتباطها بقصتهن، فالاعتماد في هذا الباب على النظم والترتيب ظاهر البطلان، ولو سلم عدم التغيير في الترتيب، فنقول: ستأتي أخبار مستفيضة بأنه سقط من القرآن آيات كثيرة، فلعله سقط مما قبل الآية وما بعدها آيات لو ثبتت لم يفت الربط الظاهري بينها(2).
__________
(1) البرهان: (3/321)، البحار: (35/217)، الطرائف: (29)، العمدة: (16، 21).
(2) البحار: (35/234)، محجة العلماء: (163)، فصل الخطاب:(320)، الحدائق الناضرة:(2/290).(1/408)
وقال أحد المعاصرين وهو أكثر حذراً في إخفاء عقيدته: فالآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها إما بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة(1).
وعلى أي حال، لا نسهب في تناول هذه الجزئية، فحسبنا أن اضطرار هؤلاء في جزء من آية -لا آية بأكملها- إلى كل هذه التأويلات دليل على بعدها عن مقصودهم، وصحة نزولها في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين.
نعود إلى الردود الدالة على عدم دلالة الآية على الإمامة والعصمة:
3- ومنها: أن ما اختص به الأمير والسبطان رضي الله عنهما من الآية -بزعم القوم- ثبت للزهراء رضي الله عنها، وخصائص الإمامة لا تثبت للنساء، فلو كان هذا دليلاً لكان من يتصف بما في الآية يستحق العصمة والإمامة، والزهراء رضي الله عنها كذلك وبذات الاعتبار، فدل على أن الآية لا يراد بها الإمامة ولا العصمة.
4- ومنها: خروج تسعة من الأئمة لعدم شمول الآية لهم، حيث اختصت الآية بثلاثة منهم.
5- ومنها: أن إذهاب الرجس لا يكون إلا بعد ثبوته، والشيعة يقولون بعصمة الأئمة منذ ولادتهم إلى وفاتهم، وسنوقفك على أقوالهم في هذا.
والحال أن الردود كثيرة، ولا يسعنا سردها جميعاً، وبالأخص مسألة الكلام في إرادة الله عز وجل، وعقيدة الشيعة فيها وتعارضها مع الآية.
ولكن لنتكلم قليلاً في مدلول الآية من حيث كونها دليلاً على العصمة وكون ذلك محصوراً في أهل الكساء دون غيرهم كما يزعم الشيعة، ونبدأ في الكلام أولاً في بيان من هم أهل البيت، ثم نتكلم في العصمة.
لا شك أن هناك خلافاً بين العلماء في تعيين أهل البيت:
فمن قائل: إنهم أمته.
وقائل: إنهم المتقون من أمته.
وقائل: إنهم زوجاته رضي الله عنهن.
وقائل: إنهم أقاربه صلى الله عليه وسلم ممن تحرم عليهم الصدقة.
__________
(1) الميزان: (16/312).(1/409)
وقائل: إنهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم،.. وقيل غير ذلك.
وهذا الأخير -أي: أنهم الخمسة (أصحاب الكساء)- من أغرب الأقوال، فلمجرد أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم كساءه عليهم، وقال: إنهم أهل بيتي، أخرج القوم كل من سواهم عن كونهم من أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وحملوا جميع النصوص الواردة في فضائل أهل بيته على هؤلاء.
ولا أدري ماذا عسى أن يكون سائر أقاربه؟
ولبيان فساد هذا القول وخلافه لمفهوم أهل بيت الرجل، وبيان أنه أعم من هذا الحصر الذي قال به القوم نقول:
إن الروايات من طرق القوم أكثر من أن تحصى في بيان أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعم مما يدعيه القوم أنفسهم، ولكن نذكر هنا الروايات المتعلقة بآية التطهير موضوع حديثنا، وسنتطرق إلى البقية عند حديثنا عن روايات الثقلين.. نقول:
أمثلة على ورود روايات عند القوم تدل على دخول غير علي والحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم في آل البيت:
أقول: قد ورد في بعض روايات الباب: أن أم سلمة رضي الله عنها راوية الحديث كانت ممن جللهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكساء مع الخمسة، حيث قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: ألست من أهلك؟ قال: بلى، قالت: فأدخلني في الكساء(1).
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إليك أنا وأهل بيتي لا إلى النار، فقلت: يا رسول الله، وأنا معكم؟ فقال: وأنت(2).
والغريب أن واثلة بن الأسقع وهو من الذين رووا حديث الكساء، بعد أن ذكر الحديث وقول النبي: اللهم هؤلاء أحق، قال: فقلت من ناحية البيت: وأنا من أهلك يا رسول الله؟ قال: وأنت من أهلي، قال واثلة: إنها لمن أرجى ما أرجو من عملي(3).
__________
(1) الطرائف: (30)، العمدة: (18)، البحار: (35/221)(45/198)، البرهان: (3/321).
(2) أمالي الطوسي: (85)، البحار: (25/240)(37/39، 402)، كشف الغمة: (1/47).
(3) البرهان: (3/321).(1/410)
فهل أن ابن الأسقع رضي الله عنه الذي أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك في السنة التاسعة من الهجرة من أهل البيت، وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن لسن من أهله؟!
وهذا علي لما احتج على أبي بكر رضي الله عنهما -بزعم القوم- قال له: أنشدك بالله ألي ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس أم لك ولأهل بيتك(1)؟
فإننا نعلم بالضرورة أنه رضي الله عنه يعني بقوله: [ولأهلي] الزهراء رضي الله عنها، أي: أن الزوجة من أهل بيت الرجل، وسيأتي -إن شاء الله- بقية الأدلة الدالة على عدم حصر أهل البيت في الآية على هؤلاء الخمسة عند الحديث عن روايات الثقلين.
أمثلة على دخول الزوجات في أهل بيت الرجل:
سبق في الروايات السابقة قول علي لأبي بكر رضي الله عنهما: أنشدك بالله ألي ولأهلي؟
والشواهد في دخول الزوجات في أهل بيت الرجل كثيرة، وقد ذكرنا بعض الآيات على ذلك، كقول الملائكة لسارة زوجة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)) [هود:73] وهذا المراد به زوجه بالإجماع.
والعجيب أن مفسري القوم عند ذكرهم لهذه الآية يمرون عليها مرور الكرام؛ خشية الخوض في بيان معنى الأهل في الآية؛ لوضوحه البين رغم إسهابهم في بيان المقصود بالأهل في آية التطهير.
ومن خاض فيه اضطرب، كقول صاحب مجمع البيان: ويعني بأهل البيت بيت إبراهيم عليه السلام، وإنما جعلت سارة من أهل بيته لأنها كانت ابنة عمه، ولا دلالة في الآية على أن زوجة الرجل من أهل بيته(2).
__________
(1) نور الثقلين: (4/271).
(2) مجمع البيان: (3/274).(1/411)
ولاشك أن القارئ لا يخفى عليه ما يرمي إليه الطبرسي من وراء هذا، وما الذي اضطره إلى هذا القول الذي لم ينقله عنه مفسرو القوم الذين جاءوا بعده لفساده البين، ولكن حتى على فرض اعتبار صحة قوله، فهل يُدخل القوم العمّ أو أولادَه في أهل بيت الرجل؟!
وكذلك ذكرنا قول الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ((فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)) [القصص:29].
وقال تعالى: ((وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)) [طه:9-10].
وقال تعالى: ((إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)) [النمل:7].
والمخاطب هنا -أيضاً- زوجة موسى عليه السلام، ولعله يأتينا طبرسي آخر ليقول: إن شعيب عليه السلام كان عمه!
وقال تعالى: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً)) [مريم:54-55].
فمن أهله الذين كان يأمرهم بالصلاة؟
وهذا كقوله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) [طه:132].
ولا شك في دخول زوجاته -أو خديجة رضي الله عنها على أقل تقدير- في الأهل، باعتبار أن السورة مكية، والأمير إنما تزوج الزهراء وأنجب السبطين رضي الله عنهما بعد الهجرة.(1/412)
وقال تعالى: ((وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ)) [العنكبوت:33].
وقال تعالى: ((قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)) [هود:81]. والمستثنى من جنس المستثنى منه.
وقال تعالى: ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)) [الحجر:65].
وقال تعالى: ((رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ)) [الشعراء:169-170].
وقال تعالى: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ)) [الأعراف:83].
وقال تعالى: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ)) [النمل:57].
وقال تعالى: ((إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ)) [الصافات:124-125].
وهذه الآيات صريحة ولا تحتاج إلى دليل في كون الزوجة من أهل الرجل، لا أقل من أن قوله تعالى: ((إِلاَّ امْرَأَتَكَ)) [هود:81]، أو: ((إِلاَّ امْرَأَتَهُ)) [النمل:57]، دليل على ذلك، فالمستثنى من جنس المستثنى منه.
وقال تعالى: ((وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [يوسف:25].(1/413)
فالمخاطب هنا عزيز مصر، وقولها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً؛ أي: زوجتك، وهذا بين.
وقال تعالى: ((وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)) [الصافات:75-76].
ولم يقل أحد: إن زوجة نوح لم تكن من الناجين، لأنها ليست من أهله عليه السلام.
والشواهد على ذلك كثيرة، وكلها تقتضي دخول زوجات الرجل في آله.
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)) [آل عمران:33].
وقال تعالى: ((إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الحجر:59].
وقال تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ)) [الحجر:61].
وقال تعالى: ((فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)) [النمل:56].
وقال تعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ)) [القمر:34].
فهذه الآيات والشواهد صريحة في دخول الزوجات في الآل، فمثلاً زوجات النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في آله.. وهكذا، كما هو صريح في الآيات، وكذا الشواهد من السنة وهي كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك لما نزلت الآيات في براءة عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت(1).
وفي رواية: يصرف عنا الرجس أهل البيت(2). ولا يحتاج الأمر إلى تعليق.
__________
(1) الخصال: (125)، البحار: (22/154، 155، 168) (38/302)(79/104)، تفسير القمي: (2/76)، الميزان: (15/104)، نور الثقلين: (1/582) (3/582)، الصافي:(3/424)، البرهان: (3/127)، الغرر والدرر: (1/77).
(2) البحار: (22/168)، تأويل الآيات: (2/604).(1/414)
ومن الغرائب أن القوم جعلوا نزول هذه الآيات في ذم عائشة رضي الله عنها لا لتبرئتها، وذلك لأنهم يقولون: إن عائشة هي التي قذفت مارية القبطية واتهمتها بالزنا، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم ليس منك وإنه ابن جريج القبطي(1).
والقصة لا تهمنا الآن، ولكن الذي يهمنا هو أنه على كلا القولين يتحقق المقصود، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم ذلك إنما كان في زوجته، سواء كانت عائشة أم مارية رضي الله عنهن.
عقيدة الشيعة في العصمة:
لنشرع الآن في الكلام عن العصمة، ولكن قبل ذلك دعنا نبين عقيدة القوم في العصمة:
يقول الصدوق: إن جميع الأنبياء والرسل والأئمة أفضل من الملائكة، وأنهم مطهرون من كل دنس ورجس لا يهمون بذنب صغير ولا كبير ولا يرتكبونه(2).
ويقول: اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة صلوات الله عليهم أنهم معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، واعتقادنا فيهم أنهم موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم إلى أواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا جهل(3).
__________
(1) البحار: (20/316)(35/153، 154، 155)(38/302)(79/103)، تفسير القمي: (2/75)، الخصال: (125)، الميزان: (15/89، 103)، نور الثقلين: (3/581)، الصافي: (3/423)، البرهان: (3/126، 127)، الغرر والدرر: (1/77)، علل الشرايع: (580)، ومنهم من صنف في ذلك كتاباً مستقلاً، وانظر مثلاً: حديث الإفك لجعفر مرتضى العاملي، أو بحث مستقل، البحار: (79/104) (الحاشية)، وغيرها.
(2) أمالي الصدوق: (620)، البحار: (10/393)، إرشاد القلوب: (1/19)، غرر الحكم: (119).
(3) اعتقادات الصدوق: (99)، البحار: (11/72)(17/96)(25/211)، قصص الأنبياء، للجزائري: (28)، عقائد الإمامية، للزنجاني: (158).(1/415)
ويقول علم الهدى: لا يجوز عليهم شيء من المعاصي والذنوب كبيراً كان أو صغيراً لا قبل النبوة ولا بعدها(1).
ويقول المفيد: الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم مِن بعدِهم معصومون في حال نبوتهم وإمامتهم من الكبائر والصغائر كلها(2).
ويقول المجلسي: الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة عمداً وخطأً ونسياناً قبل النبوة والإمامة وبعدها، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه(3).
وعد ذلك من ضروريات مذهب الإمامية(4).
ويقول: اعلم أن الإمامية اتفقوا على عصمة الأئمة من الذنوب صغيرها وكبيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلاً، لا عمداً ولا نسياناً ولا لخطأ في التأويل ولا للإسهاء من الله سبحانه(5).
ويقول المظفر: ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان(6).
وعلى هذا القول سائر الإمامية مما يغنينا عن ذكر أقوالهم جميعاً.
بيان معنى الرجس:
يزعم القوم أن نفي الرجس في آية التطهير دال وموجب للقول بعصمة الأئمة.
وقد رُدَّ على ذلك من وجوه عقلية كثيرة، ليس هذا الكتاب مكان ذكرها، ولكننا سنقتصر على إيراد النصوص الدالة على خلاف هذا القول، فهو أبلغ في المقصود كما سترى، ونبدأ قبل ذلك بإيراد معنى الرجس الذي في الآية والذي هو موضوع حديثنا، فنقول:
__________
(1) تنزيه الأنبياء: (2).
(2) تصحيح الاعتقاد: (60)، البحار: (17/96).
(3) البحار: (17/108)(25/350).
(4) البحار: (11/91).
(5) البحار: (11/90)(25/209).
(6) عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر: (91).(1/416)
وردت كلمة الرجس في القرآن في مواضع عدة، كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة:90].
وقوله: ((كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) [الأنعام:125].
وقوله: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)) [الأنعام:145].
وقوله: ((قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)) [الأعراف:71].
وقوله: ((سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ)) [التوبة:95].
وقوله: ((وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)) [التوبة:125].
وقوله: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)) [يونس:100].
وقوله: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30].
وليس فيما أوردناه من الآيات دليل على حمل مفهوم الرجس على الدلالة الموجبة للعصمة كما يدعيها هؤلاء في آية التطهير.
ويؤيد ذلك أيضاً روايات ذكرها القوم عن الأئمة في ذلك منها:
قول الصادق في قول الله عز وجل: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ)) [الأحزاب:33] قال: الرجس هو الشك(1).
__________
(1) معاني الأخبار:(138)، البحار: (19/287) (23/208) (35/208) (76/30) (72/152)، البرهان:(3/321)، وانظر أيضاً: نور الثقلين:(4/273، 274)، العياشي:(1/406)، البرهان:(1/553).(1/417)
وقول الباقر: الرجس هو الشك، والله لا نشك في ربنا -وفي رواية: في ديننا، وفي أخرى: في الله الحق ودينه- أبداً(1).
وقول الصادق في قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) [الأنعام:125]، قال: هو الشك(2).
فهل ترى في هذه الروايات أو تلك الآيات ما يستوجب القول بالعصمة التي يراها القوم لأئمتهم؟ لا شك أنهم سيأبون هذا التأويل.
لذا لا نرى بداً من أن نورد عليهم ما ينافي تلك العصمة المزعومة، ففي ذلك غنىً عن كل كلام وترفع عن أي خصام، ولك بعدها أن تحكم بنفسك.
__________
(1) العياشي:(1/277)، البحار: (10/139)(23/203)(35/212)(57/141)(72/152)، أمالي الطوسي: (573)، البرهان: (1/385) (3/309، 310، 316)، الكافي: (1/288)، نور الثقلين: (2/171) (4/277).
(2) تفسير العياشي:(1/406)، البحار:(72/128)، البرهان:(1/553)، الصافي: (1/550)، وانظر أيضاً: نور الثقلين: (2/138، 286).(1/418)
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة الأنبياء عليهم السلام:
قبل الحديث عن هذا أشير إلى أن المذهب الحق هو القول بعصمة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ الرسالة، وكذلك هم معصومون من الكبائر ومن الإصرار على الصغائر، وأيضاً هم معصومون مما يخل بالشرف والمروءة.. إلخ، أما الصغائر فقد تقع منهم لكنهم يتوبون منها ولا يصرون عليها، وتكون حالهم بعد التوبة خيراً منها قبل الوقوع في هذه الصغائر.. وهذا هو القول الحق؛ لموافقته لكتاب الله سبحانه من غير ليٍّ لأعناق النصوص أو تعسف في محاولة تأويلها، فمن الأدلة قوله سبحانه: ((وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)) [طه:121]، وقوله عن موسى عليه السلام: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [القصص:16]، وقوله عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) [الفتح:1-2]، وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ)) [التحريم:1]، وقوله: ((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) [الأحزاب:37]، وقوله: ((وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68] وغيرها من الآيات كثير، وكل هذا دال على وقوع الصغائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فوقوعها من الأئمة من باب أولى.. ولكن يتوبون منها ويعود حالهم بعد التوبة أحسن منه قبل وقوع المعصية الصغيرة والتوبة منها.
هذا ملخص مذهب أهل الحق، وإليك بياناً موجزاً لما وقع عند القوم من روايات في هذا الشأن.
نبدأ كلامنا بذكر بعض ما أورده القوم مما يتعلق بشأن الأنبياء عليهم السلام، ونبدأ بذكر آدم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم:
ففي قول الله تعالى: ((وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)) [طه:121].(1/419)
روى القوم عن الصادق أنه قال: كان لسان آدم العربية، فلما عصى ربه أبدله بالجنة ونعيمها الأرض والحرث، وبلسان العربية السريانية(1).
وعنه أيضاً قال: إذا كان يوم القيامة وحشر الناس يأتون إلى آدم، فيقولون: أنت أبونا وأنت نبي، فسل ربك يحكم بيننا ولو إلى النار، فيقول: لست بصاحبكم، خلقني ربي بيده، وحملني على عرشه، وأسجد لي ملائكته ثم أمرني فعصيته(2).
وذكروا في قوله تعالى: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)) [البقرة:37] عن الصادق قال: إن آدم عليه السلام نظر إلى أرواح الأئمة ومنزلتهم في الجنة فحسدهم وتمنى منزلتهم(3).
وفي رواية: لما أسكن الله تبارك وتعالى آدم الجنة مُثِّلَ له النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، فنظر إليهم بحسد، ثم عرضت عليه الولاية فأنكرها فرمته الجنة بأوراقها، فلما تاب إلى الله من حسده وأقر بالولاية ودعا بحق الخمسة: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، صلوات الله عليهم، وذلك قوله: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) [البقرة:37] (4).
__________
(1) الاختصاص: (264)، البحار: (11/56).
(2) العياشي: (2/333)، البرهان: (2/439)، نور الثقلين: (3/208)، البحار: (8/45).
(3) معاني الأخبار: (38، 42)، عيون الأخبار: (170)، البحار: (11/165، 174) (16/362).
(4) تفسير العياشي: (1/59)، البرهان: (1/87)، البحار: (11/187).(1/420)
وارجع كذلك إلى القول في الآيات الأخرى التي نزلت في شأنه وحواء عليهما السلام، كقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الأعراف:189-190].
وقوله تعالى: ((وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ)) [الأعراف:22].
ولك -أخي القارئ- أن تتأمل الآيات حتى ترى تعسف القوم في تأويلها لجعلها دالة على ما يريدون، فأين هذا التأويل من فصاحة القرآن الذي أنزل بلسان عربي مبين؟(1/421)
ومنها: سهوه ونسيانه، فقد روي عن الباقر: أن آدم قد وهب ثلاثين سنة من عمره لداود عليه السلام لما رأى قصر عمره، فلما مضى عمر آدم عليه السلام هبط ملك الموت لقبض روحه، فقال له آدم: يا ملك الموت، إنه بقي من عمري ثلاثون سنة، فقال له ملك الموت: يا آدم، ألم تجعلها لابنك داود النبي عليه السلام وطرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذريتك وعرضت عليك أعمارهم، فقال آدم عليه السلام: ما أذكر هذا، فقال له ملك الموت: يا آدم، لا تجحد، ألم تسأل الله عز وجل أن يثبتها لداود ويمحوها من عمرك فأثبتها لداود في الزبور ومحاها من عمرك في الذكر؟ قال آدم عليه السلام: حتى أعلم ذلك، قال الباقر: وكان آدم صادقاً لم يذكر ولم يجحد، فمن ذلك اليوم أمر الله تبارك وتعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل مسمى، لنسيان آدم وجحوده ما جعل على نفسه(1).
وفي نوح عليه السلام رووا عن الصادق أنه قال: إذا كان يوم القيامة وحشر الناس، يأتون آدم عليه السلام فيدلهم على نوح عليه السلام، فيقولون: سل ربك يحكم بيننا ولو إلى النار، فيقول: لست بصاحبكم، إني قلت: إن ابني من أهلي(2).
__________
(1) علل الشرايع: (185)، البحار: (4/102)، (11/258، 259)، كشف الغمة: (2/81).
(2) العياشي: (2/333)، البرهان: (2/439)، نور الثقلين: (3/208)، البحار: (8/45).(1/422)
إشارة إلى قوله تعالى: ((وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ)) [هود:45-46]، ثم ذكر أنه قال: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ)) [هود:47].
وهذا إبراهيم عليه السلام ذكروا في قوله تعالى: ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)) [الصافات:88-89]، عن الصادق أنه قال في قصة حشر الناس يوم القيامة ومجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام للشفاعة، فيقول: لست بصاحبكم، إني قلت: إني سقيم(1).
ورووا عنه أيضاً: أن عرفات سميت بعرفات لاعتراف إبراهيم عليه السلام بذنبه(2).
وعنه أيضاً: أن ملك الموت أتاه ليقبضه فكره إبراهيم الموت(3).
وللمزيد في شأن إبراهيم عليه السلام راجع الكلام في قوله تعالى: ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:76-78].
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) علل الشرايع: (150)، البحار: (12/108)(99/253).
(3) علل الشرايع: (24)، البحار: (12/79).(1/423)
وقوله تعالى: ((قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ)) [الأنبياء:62-63].
وقوله تعالى: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) [البقرة:260].
وقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)) [التوبة:114].
وقوله: ((يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)) [هود:74-76].
ورووا في قصة يوسف وإخوته، وقوله تعالى: ((قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ)) [يوسف:79]، أن يعقوب عليه السلام بعث بمكتوب إلى عزيز مصر يسأله أن يخلي سبيله، فنزل جبرئيل على يعقوب، فقال له: يا يعقوب، ربك يقول لك: من ابتلاك بمصائبك التي كتبت بها إلى عزيز مصر؟
قال يعقوب: بلوتني بها عقوبة منك وأدباً، قال الله: فهل كان يقدر على صرفها عنك أحد غيري؟ قال يعقوب: اللهم لا، قال: فما استحييت مني حين شكوت مصائبك إلى غيري ولم تستغث بي وتشكو ما بك إلي؟(1/424)
فقال يعقوب: أستغفرك يا إلهي وأتوب إليك، وأشكو بثي وحزني إليك، فقال الله تبارك وتعالى: قد بلغت بك يا يعقوب وبولدك الخاطئين العناية في أدبي، ولو كنت يا يعقوب شكوت مصائبك إلي عند نزولها بك واستغفرت وتبت إلي من ذنبك لصرفتها عنك بعد تقديري إياها، ولكن الشيطان أنساك ذكري فصرت إلى القنوط من رحمتي(1).
وهذا ابنه يوسف عليه السلام، روى القوم عن الرضا أن يوسف عليه السلام شكى في السجن إلى الله، فقال: يا رب، بم استحققت السجن؟ فأوحى الله إليه أنت اخترته حين قلت: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، هلاَّ قلت: العافية أحب إلي مما يدعونني إليه؟(2)
وقوله لصاحبه في السجن: ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)) [يوسف:42] حتى روى القوم في ذلك: أن جبرئيل أتاه بعد قوله هذا، فضربه برجله حتى كشط له الأرض السابعة، فقال له: يا يوسف، انظر ماذا ترى؟ قال: أرى حجراً صغيراً ففلق الحجر، فقال: ماذا ترى؟ قال: أرى دودة صغيرة، قال فمن رازقها: قال: الله، قال: فإن ربك يقول: لم أنس هذه الدودة في ذلك الحجر في قعر الأرض السابعة، أظننت أني أنساك حتى تقول للفتى: اذكرني عند ربك، لتلبثن في السجن بمقالتك هذه بضع سنين، فبكى يوسف عند ذلك حتى بكى لبكائه الحيطان، فتأذى به أهل السجن، فصالحهم على أن يبكي يوماً ويسكت يوماً، وكان في اليوم الذي يسكت أسوء حالاً(3).
__________
(1) نور الثقلين: (2/457)، العياشي: (2/202)، البرهان: (2/265)، الصافي: (3/42)، البحار: (12/314).
(2) تفسير القمي: (1/344)، نور الثقلين: (2/424)، البحار: (12/246)، البرهان: (2/268)، الصافي: (3/19).
(3) تفسير العياشي: (2/177)، البحار: (12/302)(71/150)، نور الثقلين: (2/427)، مجمع البيان: (5/359).(1/425)
وفي رواية: أن الله عز وجل قال ليوسف: ألست حببتك إلى أبيك وفضلتك على الناس بِالحُسْنِ؟ أَوَلَسْتُ الذي صرفت عنك كيد النساء؟ فما حملك على أن ترفع رغبتك أو تدعو مخلوقاً دوني؟ فالبث لما قلت في السجن بضع سنين(1).
وروى القوم في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عجبت من أخي يوسف كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق؟
وفي رواية: لولا كَلِمَتُهُ ما لبث في السجن طول ما لبث(2).
ورووا -أيضاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني، وحين أتاه الرسول، فقال: ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الاختلاف وبادرتهم الباب وما ابتغيت العذر(3).
ورووا أنه صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض، لولاَّه من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة(4).
__________
(1) تفسير العياشي: (2/188)، نور الثقلين: (2/427)، البحار: (12/230، 246، 301، 302) (71/113) (94/19)، البرهان: (2/254).
(2) مجمع البيان: (5/359)، نور الثقلين: (2/427).
(3) مجمع البيان: (5/367)، نور الثقلين: (2/431)، البحار: (12/303)، العياشي: (2/190).
(4) مجمع البيان: (5/372)، نور الثقلين: (2/432).(1/426)
ونختم هذا برواية القوم عن الصادق: لما أقبل يعقوب عليه السلام إلى مصر خرج يوسف عليه السلام ليستقبله، فلما رآه يوسف همَّ بأن يترجل ليعقوب، ثم نظر إلى ما هو فيه من الملك فلم يفعل، فلما سلم على يعقوب نزل جبرئيل عليه السلام، فقال له: يا يوسف، إن الله تبارك وتعالى يقول لك: ما منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح؟ ما أنت فيه؟ ابسط يدك، فبسطها فخرج من بين أصابعه نور، فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أنه لا يخرج من صلبك نبي أبداً عقوبة لك بما صنعت بيعقوب إذ لم تنزل إليه(1).
وللمزيد في شأن يوسف عليه السلام راجع الكلام في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) [يوسف:24].
وقوله: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ)) [يوسف:33].
وقوله: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)) [يوسف:100].
وقوله: ((قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)) [يوسف:55].
وأيوب عليه السلام إذ أوحى الله عز وجل إليه: هل تدري ما ذنبك إلى حين أصابك البلاء؟ قال: لا، قال: إنك دخلت على فرعون فداهنت في كلمتين(2).
وعلى ذكر أيوب عليه السلام فقد ذكر القوم أن الأنبياء عليهم السلام سيكونون يوم القيامة على قلب أيوب في السلامة من الغل(3)، فهل أن سواه لم يكونوا كذلك؟
__________
(1) علل الشرايع: (30)، البحار: (12/281)، نور الثقلين: (2/466، 467، 468)، تفسير القمي: (1/357).
(2) البحار: (12/348).
(3) الاختصاص: (356)، البحار: (8/218).(1/427)
وكذا من رواية القوم عن الصادق: ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه: التفكير في الوسوسة في الخلق، والطيرة، والحسد، إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده(1).
وفي موسى عليه السلام ذكر القوم عن الصادق، كما في رواية حشر الناس يوم القيامة الذي مر بك، فيأتون موسى عليه السلام فيقول: لست بصاحبكم إني قتلت نفساً(2). إشارة إلى قتله للقبطي.
وقول الله عز وجل على لسانه: ((قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) [القصص:15]، وقوله: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)) [القصص:16].
وللمزيد في شأنه عليه السلام راجع القول في قوله تعالى: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)) [الشعراء:12].
وقوله تعالى: ((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)) [طه:67].
وقوله تعالى: ((قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأعراف:150].
وقوله تعالى: ((لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)) [الكهف:73].
وقوله: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)) [يونس:88].
وشبيه به قوله عليه السلام في القصة التي يرويها القوم من إعطاء الله عز وجل للصياد الكافر الرزق الوفير دون المؤمن، فقال موسى عليه السلام: يا رب، عبدك الكافر تعطيه مع كفره، وعبدك المؤمن لم تخرج له غير سمكة صغيرة؟(3)
__________
(1) روضة الكافي: (108)، البحار: (58/323).
(2) العياشي: (2/333)، البرهان: (2/439)، نور الثقلين: (3/208)، البحار: (8/45).
(3) البحار: (13/350).(1/428)
وفي داود عليه السلام في قوله تعالى: ((وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) [ص:21-26].
روى القوم أنه خرَّ ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجداً ثم لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها، ثم يعود فيسجد أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة(1).
وعن الصادق: أنه بكى حتى هاج العشب من دموعه، وإن كان ليزفر الزفرة فيحرق ما نبت من دموعه(2).
__________
(1) البحار: (14/27).
(2) تفسير العياشي: (2/188)، البحار: (11/213)(12/303) (14/26)، البرهان: (2/254).(1/429)
وكذا بكى أربعين صباحاً لما أوحى الله عز وجل إليه: إنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئاً(1).
وفي الكافي: إن الله عز وجل أوحى إلى داود: إني قد غفرت ذنبك وجعلت عار ذنبك على بني إسرائيل، فقال: كيف يا رب وأنت لا تظلم؟ قال: إنهم لم يعاجلوك بالنكير(2).
وفي تفسير القمي عن الصادق في قصة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة: إن داود عليه السلام كان في محرابه يصلي، فإذا بطائر قد وقع بين يديه، فأعجبه جداً ونسي ما كان فيه، فقام ليأخذه فطار الطائر، فوقع على حائط بين داود وبين أوريا بن حنان، وكان داود قد بعث أوريا في بعث، فصعد داود الحائط ليأخذ الطير، وإذا امرأة أوريا جالسة تغتسل، فلما رأت ظل داود نشرت شعرها وغطت به بدنها، فنظر داود إليها وافتتن بها ورجع إلى محرابه ونسي ما كان فيه، وكتب إلى صاحبه في ذلك البعث أن ضع التابوت بينك وبين عدوك، وقدم أوريا بن حنان بين يدي التابوت، فقدمه وقتل، ثم بعث الله إليه الخصم إذ تسوروا المحراب، فلما قال داود: ((قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)) [ص:24] إلى قوله: ((فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ)) [ص:24].
__________
(1) الكافي: (5/74)، من لا يحضره الفقيه: (3/162)، التهذيب: (3/326)، الوسائل: (17/37)، البحار: (14/13)، نور الثقلين: (3/446).
(2) الكافي: (5/58)، البحار: (14/27)، تفسير القمي: (2/206)، البرهان: (4/44)، نور الثقلين: (4/449).(1/430)
قال: فضحك المستعدى عليه من الملائكة [وكانا ملكين]، وقال: حكم الرجل على نفسه، فقال داود: أتضحك وقد عصيت؟ لقد هممت أن أهشم فاك، قال: فعرجا، وقال المستعدى عليه: لو علم داود أنه أحق بهشم فيه مني، ففهم داود وذكر القضية فبقي أربعين يوماً ساجداً يبكي ليله ونهاره، ولا يقوم إلا وقت الصلاة حتى انخرق جبينه وسال الدم من عينه، فأوحى الله عز وجل إليه: تب يا داود، فقال: أي رب، وأنى لي بالتوبة؟ قال: صر إلى قبر أوريا حتى أبعثه إليك واسأله أن يغفر لك فإن غفر لك غفرت لك، قال: يا رب، فإن لم يفعل؟
قال: أستوهبك منه، فخرج إليه، فمر بجبل عليه نبي عابد يقال له: حزقيل، فقال: هذا النبي الخاطئ، فقال داود: يا حزقيل، أتأذن لي أن أصعد إليك؟
قال: لا، فإنك مذنب، فبكى داود عليه السلام، فأوحى الله عز وجل إلى حزقيل: يا حزقيل، لا تُعَيِّر داود بخطيئته، وسلني العافية، ثم مضى داود حتى أتى قبر أوريا فناداه فلم يجبه، ثم ناداه ثانية فلم يجبه، ثم ناداه ثالثة، فقال أوريا: مالك يا نبي الله، لقد شغلتني عن سروري وقرة عيني. قال: يا أوريا، اغفر لي وهب لي خطيئتي، فأوحى الله عز وجل: يا داود، بين له ما كان منك، فناداه داود فأجابه في الثالثة، فقال: يا أوريا، فعلت كذا وكذا، قال أوريا: أيفعل الأنبياء مثل هذا؟ فناداه فلم يجبه، فوقع داود عليه السلام على الأرض باكياً، فأوحى الله عز وجل إلى صاحب الفردوس ليكشف عنه، فكشف عنه، فقال أوريا: لمن هذا؟ فقال: لمن غفر لداود خطيئته، فقال: يا رب، قد وهبت له خطيئته(1).
__________
(1) تفسير القمي: (2/203)، البحار: (14/20)، نور الثقلين:(4/447)، البرهان: (4/43).(1/431)
وكذا شأن ابنه سليمان عليه السلام، فقد روى القمي في تفسيره في قول الله عز وجل: ((وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ)) [ص:30-33]، إن سليمان عليه السلام كان يحب الخيل ويستعرضها، فعرضت يوماً إلى أن غابت الشمس، وفاتته صلاة العصر، فاغتم من ذلك غماً شديداً، فدعا الله عز وجل أن يرد عليه الشمس حتى يصلي العصر، فرد الله سبحانه عليه الشمس إلى وقت العصر حتى صلاها، ثم دعا بالخيل فأقبل يضرب أعناقها وسوقها بالسيف حتى قتلها كلها(1).
فظاهر هذا كله انشغاله بالخيل حتى ألهاه وشغله عن ذكر ربه وفاتته الصلاة؛ مما اضطره إلى قتل الخيل كلها وهي لا ذنب لها.
وفي قوله عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة بشق ولد، ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فوالذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرساناً، ثم أناب إلى الله تعالى وفزع إلى الصلاة(2).
ومنها: قوله تعالى مخبراً عنه عليه السلام: ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) [ص:35].
__________
(1) تفسير القمي: (2/207)، البحار: (14/98، 101)، من لايحضره الفقيه: (1/202)، مجمع البيان: (8/475)، نور الثقلين: (4/455)، البرهان: (4/47).
(2) مجمع البيان: (8/375)، البحار: (14/107)، نور الثقلين: (4/457).(1/432)
فقد روى القوم عن الكاظم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله أخي سليمان بن داود ما أبخله(1)!
وذكروا أنه عليه السلام كان يفتقر إلى علم غيره حتى الحيوانات، فهذه نملة تقول له كما يروي القوم ذلك عن الصادق: أنت أكبر أم أبوك داود؟ قال سليمان عليه السلام: بل أبي داود، قالت النملة: فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود؟ قال سليمان: مالي بهذا علم، قالت النملة: لأن أباك داود داوى جرحه بود فسمي داود، وأنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك، ثم قالت النملة: هل تدري لم سخرت لك الريح من بين سائر المملكة؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم... الرواية(2).
وفي رواية: أن النملة قالت: هل علمت لم سمي أبوك داود؟ فقال: لا، قالت: لأنه داوى جرحه بود، هل تدري لم سميت سليمان؟ قال: لا، قالت: لأنك سليم ركنت إلى ما أوتيت لسلامة صدرك، وآن لك أن تلحق بأبيك(3).
وعلى أي حال، لا يسعنا حصر كل ما أورده القوم في شأن الأنبياء عليهم السلام مما يتعارض مع عقيدة العصمة، فإن ذلك سيخرجنا عن موضوع الكتاب من جهة، ويخرجنا عما التزمنا به من الإيجاز من جهة أخرى، ثم إننا سوف نورد روايات أخرى لاحقاً.
ولكن الحق أن كل ما ذكرناه قد لا نلزم به القوم، وذلك أن الأئمة أفضل من الأنبياء عندهم كما مر بك، وإنما أوردنا ذلك لما قد علمت من أن قولهم في عصمة الأئمة هو ذات القول في الأنبياء عليهم السلام، لذا نجد لزاماً أن نورد شيئاً مما ينافي العصمة المذكورة عن أصحاب الكساء، إذ بها يتحقق المقصود.
__________
(1) معاني الأخبار: (10)، علل الشرايع: (35)، البحار: (14/86).
(2) عيون الأخبار: (2/84)، علل الشرايع: (35)، البحار: (14/92).
(3) البحار: (14/93).(1/433)
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة محمد صلى الله عليه وسلم:
نبدأ بنبينا صلى الله عليه وسلم، إذ روى القوم عن الصادق في شأن قوله تعالى: ((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) [الأحزاب:37]، إن زيد بن حارثة أبطأ يوماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان قد زوجه من زينب بنت جحش- فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله يسأل عنه، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهر -وفي رواية: تغتسل- فنظر إليها وكانت جميلة حسنة، فقال: سبحان الله خالق النور! وتبارك الله أحسن الخالقين -وفي رواية: سبحان الذي خلقك- ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ووقعت زينب في قلبه موقعاً عجيباً، وجاء زيد إلى منزله، فأخبرته زينب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: هل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك قد وقعت في قلبه؟ فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أخبرتني زينب بكذا وكذا، فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال رسول الله: لا، اذهب فاتق الله وأمسك عليك زوجك، فأنزل الله هذه الآيات(1).
وروايات نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى النساء أمثال هذه النظرة كثيرة عند القوم، نذكر منها أيضاً: عن الصادق: قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته، فدخل على أم سلمة وكان يومها فأصاب منها، فخرج إلى الناس ورأسه يقطر، فقال: أيها الناس، إنما النظر من الشيطان، فمن وجد من ذلك شيئاً فليأت أهله(2).
__________
(1) تفسير القمي: (2/150)، البحار: (11/83)(22/215)، البرهان: (3/291).
(2) الكافي: (2/664)، البحار: (16/259)(22/227).(1/434)
والغريب أن القوم أوردوا في النهي عن إتيان الأهل في هذا الحال روايات عدة(1).
نعود إلى حديثنا.. وفي سبب نزول قوله تعالى: ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)) [النحل:126] إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى مصرع حمزة رضي الله عنه يوم أحد قال: لئن أمكنني الله من قريش لأقتلن سبعين رجلاً منهم.
وفي رواية: لئن ظفرت لأمثلن ولأمثلن(2).
وقال تعالى: ((وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) [الكهف:23-24]، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أناس من اليهود فسألوه عن أشياء، فقال لهم: تعالوا غداً أحدثكم ولم يستثن، فاحتبس جبرئيل عليه السلام أربعين يوماً، ثم أتاه فقال: ((وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً)) [الكهف:23] (3).
والروايات في آيات عتاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة:
كقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [الأنفال:67-68].
__________
(1) انظر مثلاً: العلل: (514)، أمالي الصدوق: (566)، البحار: (103/281).
(2) تفسير القمي: (1/394)، تفسير العياشي: (2/296)، البرهان: (2/389)، الصافي: (3/164، 165)، نور الثقلين: (3/95، 96)، البحار: (20/63)، المناقب: (1/193).
(3) من لا يحضره الفقيه:(3/362)، نور الثقلين:(3/255)، العياشي:(2/350)، البحار:(14/423) (16/136)(93/80)(104/230)، النوادر: (61)، البرهان: (2/644)، الصافي: (3/238).(1/435)
وقوله: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)) [التوبة:43] حيث أذن صلى الله عليه وسلم لقوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد.
وقوله: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)) [عبس:1-4].
وقوله: ((لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)) [آل عمران:128].
وقوله: ((إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً)) [النساء:105-107].
وقوله: ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)) [النساء:113] وغيرها، ومن أراد التفاصيل فعليه بطلبها في التفاسير.
هذا ما كان من شأن القرآن، أما الروايات فحدث ولا حرج، وإليك بعضها:
نبدأ ذلك بذكر ما يدل على جواز نسيانه وسهوه صلى الله عليه وسلم، وهو كما علمت خلاف ما عليه القوم كما مرَّ بك عند ذكرنا لعقيدة القوم في عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم، يقول الله عز وجل: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:68].
ويقول تعالى: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) [الكهف:24].(1/436)
ويقول: ((سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)) [الأعلى:6-7].
ويقول الصدوق: إن الغلاة والمفوضة -لعنهم الله- ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن شيخه ابن الوليد يقول: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن نرد جميع الأخبار، وفي ردها إبطال الدين والشريعة، وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلى الله عليه وسلم والرد على منكريه(1).
وقد تعرض الصدوق بسبب قوله هذا إلى انتقادات شديدة وتشنيعات كثيرة من القوم ليس هذا مكان بيانها، وإنما سنورد بعض الروايات التي تنافي العصمة من طرق القوم؛ لتجد الاضطراب الحاصل عندهم بنفسك.
عن جميل قال: سألت أبا عبدالله عن رجل صلى ركعتين ثم قام فذهب في حاجته، قال: يستقبل الصلاة، قلت: فيما يروي الناس، فذكر له حديث ذي الشمالين، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرح من مكانه، ولو برح استقبل(2).
وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله عن رجل صلى ركعتين ثم قام فذهب في حاجته، قال: استقبل الصلاة، قلت: فما بالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستقبل حين صلى ركعتين، فقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم لم ينفتل من موضعه(3).
وعن الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبدالله: إنا صلينا المغرب فسها الإمام فسلم في الركعتين فأعدنا الصلاة، فقال: لم أعدتم؟ أليس قد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين فأتم بركعتين؟ ألا أتممتم(4)؟
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: (1/234).
(2) تهذيب الأحكام: (1/234)، البحار: (17/100).
(3) تهذيب الأحكام: (1/234)، البحار: (17/100).
(4) تهذيب الأحكام: (1/186)، البحار: (17/100).(1/437)
وعنه أيضاً قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سها فسلم في ركعتين، ثم ذكر حديث ذي الشمالين، فقال: ثم قام فأضاف إليها ركعتين(1).
وعن علي رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر خمس ركعات، ثم انفتل، فقال له بعض القوم: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت بنا خمس ركعات، قال: فاستقبل القبلة وكبر وهو جالس، ثم سجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع ثم سلم، وكان يقول: هما المرغمتان(2).
والمضحك حمل القوم أمثال هذه الروايات على التقية، فهل أن علياً رضي الله عنه في الرواية الأخيرة مثلاً اختلق وألف تلك القصة تقية، فإما أن تكون القصة قد وقعت فيتحقق بها المقصود، وإما أن يكون علي رضي الله عنه قد اختلقها، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين.
وعن زيد الشحام قال: إن نبي الله صلى بالناس ركعتين، ثم نسي حتى انصرف، فقال له ذو الشمالين: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: أيها الناس أصدق ذو الشمالين؟ فقالوا: نعم، لم تصل إلا ركعتين، فقام فأتم ما بقي من صلاته(3).
وفي رواية أخرى: فقال: وما ذاك؟ فقال: إنما صليت ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقولون مثل قوله؟ قالوا: نعم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم بهم الصلاة وسجد بهم سجدتي السهو(4).
وعن الصادق قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقد عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، ثم صلاها حين استيقظ، ولكنه تنحى عن مكانه ذلك ثم صلى(5).
__________
(1) تهذيب الأحكام: (1/186)، البحار: (17/101)، نور الثقلين: (4/257)، الكافي: (3/355).
(2) تهذيب الأحكام: (1/236)، البحار: (17/101).
(3) تهذيب الأحكام: (1/236)، البحار: (17/101)، الكافي: (3/355).
(4) تهذيب الأحكام: (1/235)، الكافي: (3/81)، البحار: (17/104).
(5) الكافي: (2/81)، البحار: (17/103)، ولم يضعف أحد من القوم هذا الحديث، نور الثقلين: (4/256)، البحار: (21/42).(1/438)
وعن الباقر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة وجهر فيها بالقراءة، فلما انصرف قال لأصحابه: هل أسقطت شيئاً في القرآن؟ قال: فسكت القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفيكم أبي بن كعب؟ فقالوا: نعم، فقال: هل أسقطت فيها شيئاً؟ قال: نعم يا رسول الله، إنه كان كذا وكذا... الحديث(1).
والروايات في الباب كثيرة، وفيما أوردناه كفاية(2)، ونختمها برواية الهروي قال: قلت للرضا: يا ابن رسول الله، إن في سواد الكوفة قوماً يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا لعنهم الله، إن الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو(3).
ولا يفوتك مصدر أمثال هذه العقائد.
هذا ما كان من شأن سهوه صلى الله عليه وسلم، وكما ذكرنا فقد أعرضنا عن ذكر الكثير من الروايات في ذلك، وكذا ما كان من شأن بقية الأنبياء عليهم السلام في ذلك.
ولنتكلم الآن في باب آخر مما يتعارض مع معتقد القوم في العصمة، وهو قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكرت الروايات عن علي رضي الله عنه أن لبيد بن أعصم اليهودي قد سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا يأتي النساء، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام ونزل معه بالمعوذتين، فقال له: يا محمد، ما شأنك؟ قال: ما أدري، أنا بالحال الذي ترى، ثم أخبره بقصة سحر ابن أعصم له(4).
__________
(1) المحاسن: (236)، البحار: (17/105)(84/242).
(2) للاستزادة راجع: البحار: (17/97-129)(باب: سهوه ونومه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة).
(3) عيون أخبار الرضا: (2/203)، البحار: (17/105)(25/350)(44/271)، نور الثقلين: (1/564).
(4) تفسير فرات: (2/619)، طب الأئمة: (118)، مجمع البيان: (10/568)، المناقب: (1/395)، البحار: (18/69، 71)(25/155)(38/28، 63، 303)(63/23)(92/364، 366)(95/125)، نور الثقلين: (5/718، 719)، تأويل الآيات: (2/862)، البرهان: (4/529).(1/439)
وفي رواية عن الصادق: وكان صلى الله عليه وسلم يرى أنه يجامع وليس يجامع، وكان يريد الباب ولا يبصره حتى يلمسه بيده(1).
ومثلها في بدء الدعوة؛ حيث كان يقول لخديجة رضي الله عنها: قد خشيت أن يكون خالط عقلي شيء، وفي لفظ: لقد خشيت على عقلي(2).
ويبدو أن القوم أكثر دراية من النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه، فهم يرون عصمته من كل ذلك منذ مولده إلى وفاته كما مر بك، بينما هو صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك عن نفسه.
ومن الروايات الأخرى التي تتعارض مع اعتقادهم في عصمته بحسب تأويلهم: ما زعموه أنه لما فتر عنه الوحي جزع جزعاً شديداً، فقالت له خديجة: لقد قلاك ربك(3).
ومنها: قوله مرة لليهود: يا إخوة القردة والخنازير، فقالوا له: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً ولا سباباً، فاستحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع(4).
وفي رواية: قال الصادق: فسقطت العنزة من يده، وسقط رداؤه من خلفه، ورجع يمشي إلى ورائه حياءً مما قال لهم(5).
ومنها: ما كان منه يوم فتح مكة؛ حيث أخرج صلى الله عليه وسلم أصناماً من المسجد، وكان منها صنم على المروة، وطلبت إليه قريش أن يتركه وكان استحيا فهمَّ بتركه، ثم أمر بكسره فنزلت هذه الآية: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء:74] (6)
__________
(1) طب الأئمة: (114)، البحار: (92/365)(95/126)، البرهان: (4/529).
(2) المناقب: (1/40)، البحار: (18/194، 195).
(3) المناقب: (1/44)، البحار: (18/197).
(4) الإرشاد: (58)، البحار: (20/210، 262، 234)، إعلام الورى: (102)، البحار:(20/273) = = نور الثقلين: (4/262)، القمي: (2/165).
(5) العياشي: (2/306)، البحار: (17/53)(21/124)، نور الثقلين: (3/198).
(6) البحار: (22/53، 167)(38/301).(1/440)
ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بقتل القبطي على التهمة بغير بينة في قصة الإفك كما يرويها القوم، حتى تبين لعلي براءته(1).
ومنها: ما جاء في سورة التحريم، وملخصها في بعض الروايات: أن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما قالت: يا رسول الله، إن لي إلى أبي حاجة، فأذن لها أن تزوره، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقاً، فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً، فقالت حفصة: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أليس هي جاريتي قد أحل الله ذلك لي؟ اسكتي فهي حرام علي، ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن.
وفي رواية: إن النبي خلا في يوم لعائشة مع جاريته أم إبراهيم، فوقفت حفصة على ذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعلمي عائشة ذلك، وحرم مارية على نفسه، فنزل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التحريم:1] (2).
__________
(1) مجمع البيان: (10/313، 314)، تفسير القمي: (2/360)، البرهان: (4/352)، نور الثقلين: (5/367)، الصافي: (5/193، 194)، البحار: (22/229، 239)، أمالي الطوسي: (150).
(2) الاختصاص: (200)، البصائر: (121)، البحار: (39/155).(1/441)
ومنها: زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة، أنزل الله عليه: تترك من ناجيته غير مرة وتبعث من لم أناجه؟ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ براءة منه ودفعها إلى علي رضي الله عنه، فقال: أوصني يا رسول الله. فقال له: إن الله يوصيك ويناجيك، قال: فناجاه يوم براءة قبل صلاة الأولى إلى صلاة العصر(1).
وتذكرني هذه الرواية بالمثل القائل: كالمستجير من الرمضاء بالنار، حيث أرادوا نفي الفضيلة عن أبي بكر رضي الله عنه، فنفوا عصمة النبي صلى الله عليه وسلم.. فافهم!
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم جاع جوعاً شديداً، فأتى الكعبة فتعلق بأستارها، فقال: رب محمد لا تجع محمداً أكثر مما أجعته، فهبط جبرئيل عليه السلام عليه بورقة خضراء مكتوب فيها: ما أنصف الله من نفسه من اتهم الله في قضائه واستبطأه في رزقه(2).
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة الأئمة
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإليك شيئاً من فعله وقوله مما يتعارض مع ما يدعيه القوم له:
منها: اعترافه بذنبه، وخوفه من سلامة دينه، والروايات في ذلك كثيرة، كقوله: إلهي، كيف أدعوك وقد عصيتك(3).
وقوله: إلهي.. كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك! وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك!
إلهي.. إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك.. إلهي، أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي.. آه إن أنا قرأت في الصحف سيئةً أنا ناسيها وأنت محصيها! فتقول: خذوه، فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء.. آه من نار تنضج الأكباد والكلى.. آه من نار نزاعة للشوى.. آه من غمرة من ملهبات لظى.
__________
(1) أمالي الصدوق: (444)، البحار: (39/124)(71/141).
(2) أمالي الصدوق: (330)، البحار: (39/124)(71/141).
(3) البحار: (40/199)(100/449).(1/442)
ثم قال لأبي الدرداء: فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية(1).
وسئل: كم تتصدق؟ كم تخرج مالك؟ ألا تمسك؟ قال: إني والله لو أعلم أن الله تعالى قبل مني فرضاً واحداً لأمسكت، ولكني لا أدري أقبل سبحانه مني شيئاً أم لا(2).
وعندما أخبره صلى الله عليه وسلم بمقتله قال رضي الله عنه: يا رسول الله، في سلامة من ديني؟ قال صلى الله عليه وسلم: في سلامة من دينك(3).
وكان يقول: أسال الله أن لا يسلبني ديني ولا ينزع مني كرامته(4).
وتمنى أنه من الأربعة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الجنة تشتاق إلى أربعة، فقال: والله لأسألنه، فإن كنت منهم لأحمدن الله عز وجل، وإن لم أكن منهم لأسألن الله أن يجعلني منهم(5).
ولا زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بغفران الله لذنوبه.
__________
(1) أمالي الصدوق: (48)، البحار: (41/11، 12)، المناقب: (2/124).
(2) البحار: (41/138)(71/191).
(3) عيون الأخبار: (163)، أمالي الصدوق: (86)، كتاب سليم بن قيس: (72)، البحار: (28/55، 66، 75)(38/103)(39/55)(42/190)(96/358)، تفسير العسكري: (408)، إثبات الهداة: (1/264، 285)، كشف الغمة: (1/96)، الطرائف: (129).
(4) البحار: (38/141).
(5) اليقين: (18)، البحار: (22/332)(40/12).(1/443)
ففي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم عرفة وهو آخذ بيده رضي الله عنه، فقال: يا معشر الخلائق، إن الله تبارك وتعالى باهى بكم في هذا اليوم ليغفر لكم عامة، ثم التفت إلى علي، فقال له: وغفر لك يا علي خاصة(1).
فالمغفرة تقتضي الذنوب، وصرف الثاني عن ظاهره يقتضي بالضرورة صرف الأول، فتأمل!
وقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين علي بن أبي طالب؟ فيؤتى به فيحاسب حساباً يسيراً(2).
فلا غرابة إذاً أن يردد ويقول رضي الله عنه: لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطيء، ولا آمن من ذلك من فعلي(3).
فهو رضي الله عنه لم يدع العصمة لنفسه أصلاً ولا ادعاها له أحد من أصحابه، ولا زال أصحابه يخالفونه في كثيرٍ من أفعاله وأقواله، ولم يكن يحتج عليهم بأنه معصوم، بل كثيراً ما يردد: اسمعوا مني ما أقول لكم، فإن يكن حقاً فاقبلوه، وإن يكن باطلاً فأنكروه.
وفي رواية: فإن قلت حقاً صدقتموني، وإن قلت باطلاً ردوا علي ولا تهابوني، إنما أنا رجل كأحدكم.
وفي أخرى: إنما أنا رجل منكم، فإن قلت حقاً فصدقوني، وإن قلت غير ذلك فردوه علي(4).
وكان رضي الله عنه يفتقر إلى آراء أصحابه ويستشيرهم، فلما كتب إليه معاوية: إن كنت تريد الصلح فامح عنك اسم الخلافة، فاستشار بني هاشم(5).
__________
(1) أمالي الصدوق: (153، 313)، أمالي المفيد: (95)، كشف الغمة: (1/92)، بشارة المصطفى: (182)، البحار: (27/74،221)(38/108، 109)(39/257،265،274، 276، 284)(81/40)، أمالي الطوسي: (438).
(2) البحار: (8/25).
(3) روضة الكافي: (293)، البحار: (27/253)(41/154)(77/361).
(4) أمالي الطوسي: (518، 565)، البرهان: (3/315)، البحار: (32/263).
(5) رجال الكشي: (85)، البحار: (33/315).(1/444)
وفي رواية: قال الأحنف بن قيس: لا تمح هذا الاسم فإني أتخوف إن محوته لا يرجع إليك أبداً، فامتنع رضي الله عنه من محوه، فتراجع الخطاب فيه ملياً من النهار.
فقال الأشعث بن قيس: امح هذا الاسم نزحه الله(1).
وكان يقول لطلحة والزبير رضي الله عنهما: لو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه، ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه(2).
ولما أراد المسير إلى الشام دعا من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإنكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مباركو الأمر، مقاويل بالحق، وقد عزمنا على المسير إلى عدونا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم. فقام هشام بن عتبة، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عبادة، وسهل بن حنيف، فصوبوا رأيه وبذلوا إليه نصرته(3).
فلم يكن يرى أبداً أنه معصوم مستغنٍ عن مشورة غيره وكذا أصحابه، وإليك المزيد:
لما سار إلى معاوية بصفين مكث أياماً لا يرسل إلى معاوية أحداً ولا يأتيه من عنده أحد، قال أهل العراق: يا أمير المؤمنين، خلفنا نساءنا وذرارينا بالكوفة، وجئنا إلى أطراف الشام نتخذها وطناً، فأْذن لنا بالقتال، فإن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية الموت، ومنهم من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام(4).
وهذا هاشم لما صرع في صفين مرَّ على رجلٍ، فقال وهو صريع بين القتلى: أقرئ أمير المؤمنين السلام ورحمة الله، وقل له: أنشدك الله إلا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى، فإن الدبرة تصبح غداً لمن غلب على القتلى، فأخبر الرجل علياً بذلك، فسار علي رضي الله عنه في بعض الليل حتى جعل القتلى خلف ظهره وكانت الدبرة له عليهم(5).
__________
(1) أمالي الطوسي: (190)، البحار: (32/541)(33/316).
(2) البحار: (32/22، 30)، أمالي الطوسي: (735).
(3) البحار: (397).
(4) البحار: (32/556).
(5) البحار: (33/35).(1/445)
ولما أراد المسير إلى الشام اجتمع إليه وجوه أصحابه، فقالوا: لو كتبت يا أمير المؤمنين إلى معاوية وأصحابه قبل مسيرنا إليهم كتاباً تدعوهم إلى الحق، وتأمرهم بما لهم من الحظ تزداد عليهم قوة، فكتب إليه(1).
ولما عزم على الخروج من الكوفة إلى الحرورية وكان في أصحابه منجم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار، فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك أذى وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت(2).
وكذا ما كان من قصة قيس بن سعد وتلفيق معاوية كتاباً ونسبته إليه، فقرأه على أهل الشام، فشاع في الشام كلها أن قيساً صالح معاوية وأتت عيون علي رضي الله عنه إليه بذلك، فأعظمه وأكبره وتعجب له ودعا ابنيه حسناً وحسيناً وابنه محمداً وعبدالله بن جعفر، فأعلمهم بذلك، وقال: ما رأيكم؟ فقال عبدالله بن جعفر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيساً من مصر، قال علي: والله إني غير مصدق بهذا على قيس، فقال عبدالله: اعزله يا أمير المؤمنين؛ فإن كان حقاً ما قد قيل لا يعتزلك إن عزلته(3).
__________
(1) البحار: (33/74).
(2) البحار: (33/346)(58/224، 264).
(3) البحار: (33/538)، الغارات: (205).(1/446)
وكذا اختلاف أصحابه عليه بعد رفع المصاحف في صفين، فمن قائل بالقتال، ومن قائل بالمحاكمة إلى الكتاب، حتى قال رضي الله عنه: إنها كلمة حق يراد بها باطل، إنهم ما رفعوها وإنهم يعرفونها ولا يعملون بها ولكن الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الظالمين، فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفاً مقنعين في الحديد شاكي السلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين، قالوا: يا علي، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجب، فحاول إقناعهم فأبوا، وقالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك(1).
وكان رضي الله عنه يقول في ذلك: فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي، فظنوا أن ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه، وأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه، وأنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء، فلم يقبلوا ولم يطيعوا أمري وأبو إلا إجابته، كرهت أم هويت، شئت أم أبيت، حتى أخذ بعضهم يقول: إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلى ابن هند برمته(2).
حتى مالك بن الأشتر وهو من أعاظم أصحابه والذي سألوه أن يبعث إليه ليأتيه، لم يكن يختلف عنهم في عدم القول بعصمة علي رضي الله عنه، أو أنه لا يفتقر إلى آرائهم؛ بل كان يرى جواز مخالفته شأنه في ذلك شأن سائر الناس، وإليك بعضاً مما يدل على ذلك:
__________
(1) البحار: (32/312، 530)(33/534).
(2) البحار: (33/319)(38/181)، الخصال: (380).(1/447)
ففي قصة التحكيم بين الأمير ومعاوية واضطراره إلى اختيار أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال رضي الله عنه: والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح، ولقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره على كره مني(1).
ولما أراد أن يبعث جريراً إلى معاوية، قال له الأشتر: لا تبعثه ودعه ولا تصدقه، فوالله إني لأظن هواه هواهم ونيته نيتهم، ولما رجع من عند معاوية كثر قول الناس في التهمة له، واجتمع جرير والأشتر عند علي، فقال الأشتر: أما والله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيراً لك من هذا الذي أرخى من خناقه وأقام عنده حتى لم يدع باباً يرجو روحه إلا فتحه أو يخاف غمه إلا سده، وقال: أليس نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً، وأخبرتك بعداوته وغشه، فخرج علي رضي الله عنه إلى دار جرير فشعث منها وحرق مجلسه، وخرج أبو زرعة بن جرير، وقال: أصلحك الله، إن فيها أيضاً لغير جرير... الروايات(2).
وفي موقف آخر كلمه الأشتر بكلام يحضه على أهل الوقوف، فكره ذلك علي رضي الله عنه حتى شكاه، فما زال به حتى قال له: يا مالك دعني، فقال الأشتر: دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك، فقال له علي: كف عني، فانصرف الأشتر وهو مغضب(3).
وغضب عليه أيضاً لما ولى بني العباس على الحجاز واليمن والعراق، فقال له الأشتر: فلماذا قتلنا الشيخ بالأمس؟ أي: عثمان رضي الله عنه، ولما بلغ علياً رضي الله عنه مقولته أحضره ولاطفه واعتذر إليه(4).
والروايات في خلاف الأشتر مع علي رضي الله عنه واعتراضه عليه وفرض آرائه عليه كثيرة، حتى قال أصحابه رضي الله عنهم له: هل نحن إلا في حكم الأشتر(5).
__________
(1) البحار: (32/86، 101)، أمالي الطوسي: (68).
(2) البحار: (32/367، 381).
(3) أمالي الطوسي: (726)، البحار: (32/71).
(4) البحار: (42/176).
(5) البحار: (32/539)(33/313)، المناقب: (2/364).(1/448)
ولا ينتهي خلاف أصحابه، ففي التحكيم أصروا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه رغم كراهته لذلك، حتى قال: فأجبتكم كارهاً، ولو وجدت في ذلك الوقت أعواناً غيركم لما أجبتكم(1).
وحتى قال رضي الله عنه: إن عامة من معي يعصيني(2).
إلى أن أقر بأنه رضي الله عنه قد فقد السيطرة عليهم، فنراه يقول: أيها الناس: إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخَذَت منكم وترَكت، وهي لعدوكم أنهك، ولقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً(3).
فهل ترى من كل هذا مكاناً للعصمة التي يدعيها القوم له رضي الله عنه؟
__________
(1) المناقب: (2/375)، البحار: (33/395).
(2) البحار: (32/503).
(3) نهج البلاغة، من كلام له رضي الله عنه لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة، البحار: (33/306) (100/41).(1/449)
فإن أبى القوم إلا غياب ذلك عن الأصحاب، فهاكها من أهله بل ومن أصحاب الكساء رضي الله عنهم، فها هو ابنه الحسن رضي الله عنه لما كان ما كان من أمر خروج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم بكى بين يدي أبيه، وقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أستطيع أن أكلمك وبكى، فقال له أبوه: لا تبك يا بني، وتكلم ولا تحن حنين الجارية، فقال: يا أمير المؤمنين، إن القوم حصروا عثمان يطلبونه بما يطلبونه إما ظالمين أو مظلومين، فسألتك أن تعتزل الناس وتلحق بمكة، ثم خالفك طلحة والزبير، فسألتك أن لا تتبعهما وتدعهما، وأنا اليوم أسألك أن لا تقدم العراق وأذكرك بالله أن تقتل بمضيعة، فقال أمير المؤمنين: أما قولك: إن عثمان حصر، فما ذاك وما علي منه، وقد كنت بمعزل عن حصره، وأما قولك: ائت مكة، فوالله ما كنت لأكون الرجل الذي يستحل به مكة، وأما قولك: اعتزل العراق ودع طلحة والزبير، فوالله ما كنت لأكون كالضبع تنتظر حتى يدخل عليها طالبها فيضع الحبل في رجلها حتى يقطع عرقوبها ثم يخرجها فيمزقها إرباً إرباً(1).
وفي أحد مواقف صفين رأى الحسن من أبيه رضي الله عنهما تهوراً، فقال له: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى أصحابك، فقال: يا بني، إن لأبيك يوماً لن يعدوه(2).
فانظر مَن تُصوّب ومن تُخطّىء منهما، وبأيهما أخذت يتحقق المقصود.
وهذا عبدالله بن جعفر ذو الجناحين رضي الله عنه، لما بلغ الأمير رضي الله عنه مقتل محمد بن أبي بكر، جزع عليه جزعاً شديداً وقال: ما أخلق مصر أن يذهب آخر الدهر، فلوددت أني وجدت رجلاً يصلح لها فوجهته إليها، فقال -أي: عبدالله بن جعفر- تجد، فقال: من؟ فقال: الأشتر، قال: ادعه لي(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: (51)، البحار: (32/103)، وانظر أيضاً: نهج البلاغة: من كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال، البحار: (32/135).
(2) كشف الغمة: (2/248)، البحار: (32/599).
(3) الاختصاص: (79)، البحار: (33/589).(1/450)
فكيف غاب عنه رجل كالأشتر وهو من هو كما مرَّ بك؟
وكان من أهل البيت رضي الله عنهم من يستحل خيانته، ففي كتاب له رضي الله عنه إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فتكت وشغرت، قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم وتنوي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، فاختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه، كأنك لا أباً لغيرك حدرت على أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف من نقاش الحساب؟
أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد؟ فاتق الله، واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار، والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل فعلك الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفراً مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما(1).
__________
(1) نهج البلاغة: (499)، البحار: (33/499)(42/153، 181)، معرفة أخبار الرجال: (40).(1/451)
فماذا كان جواب ابن عباس رضي الله عنهما على كتاب علي رضي الله عنه؟
هل رأى ابن عباس رضي الله عنهما عصمة ابن عمه رضي الله عنه وهو يقول له ما مرَّ بك ليثوب إلى رشده ويستغفر ربه، أم إنه لم يجد في كلامه سوى مجتهد مخطئ لا عصمة لقوله ولا رداء لفه حوله النبي صلى الله عليه وسلم، فأذهب عنه الرجس فلا ينطق إلا حقاً كما يزعمون؟
انظر ما كان من رده على علي رضي الله عنهما جميعاً:
أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظم عليَّ ما أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأكثر مما أخذت والسلام(1).
فكتب إليه علي رضي الله عنه: أما بعد: فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم ويحل لك المحرم إنك لأنت المهتدي السعيد إذاً، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً، وضربت بها عطناً، تشتري بها مولدات مكة والمدينة والطائف تختارهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك، فارجع هداك الله إلى رشدك، وتب إلى الله ربك، وأخرج إلى المسلمين من أموالهم فعما قليل تفارق من ألفت، وتترك ما جمعت، وتغيب في صدع الأرض غير موسد ولا ممهد، قد فارقت الأحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، غنياً عما خلفت، فقيراً إلى ما قدمت والسلام(2).
فرد عليه ابن عباس رضي الله عنهما: أما بعد: فإنك قد أكثرت عليَّ، ووالله لأن ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها من ذهبها وعقيانها ولجينها أحب إلي من أن ألقاه بدم امرئ مسلم والسلام(3).
فها أنت ترى أن ابن عمه رضي الله عنه لا يرى فيه ما يراه القوم له، وأهل مكة أدرى بشعابها.
__________
(1) البحار: (33/501)(42/154، 184)، معرفة أخبار الرجال: (41).
(2) البحار: (33/501)(42/154، 184)، معرفة أخبار الرجال: (41).
(3) البحار: (33/502)(42/185)، معرفة أخبار الرجال: (42).(1/452)
إذاً: ليس من العجيب أن يأمر معاوية علياً رضي الله عنه بالتقوى فيرد عليه: فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها، وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم(1).
وكذا فعل مع الخوارج لما أمروه أن يستغفر الله ويتوب إليه بعد التحكيم، فقال: أنا أستغفر الله من كل ذنب(2).
عاد بنا الحديث إلى ذكر ما ينافي القول بالعصمة، ونورد هنا بعض الروايات المختلفة ففيها زيادة على بيان المقصود:
منها: أنه رضي الله عنه أخذ جارية من غنائم أحد السرايا قبل القسمة، فأنكر عليه ذلك من كان معه فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... القصة(3).
ويروي القوم عن الرضا: أفضل الأعمال عند الله عز وجل إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور(4).
والغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل القسمة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم حمل الأمير رضي الله عنه على فرس، فقال: بأبي أنت وأمي، مالي وللخيل؟ أنا لا أتبع أحداً ولا أفر من أحد، وإذا ارتديت سيفي لم أضعه إلا للذي أرتدي له(5).
__________
(1) البحار: (33/81).
(2) البحار: (33/353).
(3) بشارة المصطفى: (147)، العمدة: (141)، الإرشاد: (81)، إعلام الورى: (134)، البحار: (21/358)(38/148، 149)(39/276، 282)(40/83)، أمالي الطوسي: (255).
(4) عيون الأخبار: (2/28)، البحار: (69/393)(72/126)(99/16)(100/11)، صحيفة الرضا: (3)، أمالي المفيد: (67).
(5) الاختصاص: (150)، البحار: (40/104).(1/453)
ومنها: قتله رضي الله عنه للأعرابي الذي ادعى على النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين درهماً ثمن ناقة وكان صلى الله عليه وسلم قد استوفاها له، فقال له: يا علي، لم قتلت الأعرابي؟ قال: لأنه كذبك يا رسول الله، ومن كذبك فقد حل دمه ووجب قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي، والذي بعثني بالحق نبياً ما أخطأت حكم الله تبارك وتعالى فيه، ولا تعد إلى مثلها(1).
ومنها: اغتمامه لإقامته حدود الله عز وجل، حيث قضى في رجل كندي بقطع يده، وذلك أنه سرق، وكان الرجل من أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، فقال علي رضي الله عنه: ما أرى من حسن وجهك ونظافة ثوبك ومكانك من العرب تفعل مثل هذا الفعل، فنكس الكندي، ثم قال: الله الله في أمري يا أمير المؤمنين، فلا والله ما سرقت قط غير هذه الدفعة، فقال له: ويحك! قد عسى أن الله العلي الكريم لا يؤاخذك بذنب واحد أذنبته إن شاء، فبكى الكندي، فأطرق أمير المؤمنين ملياً ثم رفع رأسه، وقال: ما أجد يسعني إلا قطعك، فاقطعوه، فبكى الكندي، وتعلق بثوبه، فقال: الله الله في عيالي، فإنك إن قطعت يدي هلكت وهلك عيالي، وإني أعول ثلاثة عشر عيالاً مالهم غيري، فأطرق ملياً ينكت الأرض بيده، ثم قال: ما أجد يسعني إلا قطعك، أخرجوه فاقطعوا يده، فلما وقعت يده المقطوعة بين يدي أمير المؤمنين قال الكندي: والله لقد سرقت تسعة وتسعين مرة، وإن هذه تمام المائة، كل ذلك يستر الله علي، فقال علي: لقد فرج عني، قد كنت مغموماً بمقالتك الأولى(2).
وكذلك خدعه معاوية مرة عندما بَلَغَهُ أن النجاشي هجاه، فدس قوماً شهدوا عليه عند علي أنه شرب الخمر، فأخذه علي فحده، فغضب جماعة على علي في ذلك(3).
وكذلك همه بقطع يد رجل بريء اتهم بالسرقة(4).
__________
(1) أمالي الصدوق: (91)، البحار: (40/241).
(2) البحار: (40/287).
(3) المناقب: (1/340)، البحار: (41/9).
(4) الكافي: (7/264)، البحار: (40/314).(1/454)
ومنها: تعطيله لبعض حدود الله، وقوله -مثلاً- لرجل أَقَرَّ باللواط بزعم القوم: قم يا هذا فقد أبكيت ملائكة السماء وملائكة الأرض، فإن الله قد تاب عليك، فقم ولا تعاودن شيئاً مما قد فعلت(1).
ومنها: تحريمه بعض ما أحل الله عز وجل، حتى أنزل الله فيه قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ)) [المائدة:87] (2).
ومنها: خوفه من السلام على الشابة، وكان يقول: أتخوف أن يعجبني صوتها فيدخل علي أكثر ما أطلب من الأجر(3).
ومنها: جهله ببعض أحكام الحج(4).
وجهله بحكم المذي حتى أرسل من يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حياء لمكان الزهراء رضي الله عنها(5). فانظر متى كان زواجه منها رضي الله عنها ومتى كان سؤاله وماذا كان يفعل قبل علمه بالحكم.
ومنها: اختلاف القضاء عنه(6).
ومنها: دخوله يوماً على الزهراء رضي الله عنها وبه كآبة شديدة، فقالت له: يا علي، ما هذه الكآبة؟ فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى تكون المرأة أدنى من ربها؟ فلم ندر(7).
وسئل مرة ولم يجب، فقيل له: كنت عهدناك إذا سئلت عن المسألة كنت فيها كالسكة المحماة جواباً، فما بالك أبطأت اليوم عن جواب هذا الرجل حتى دخلت الحجرة ثم خرجت فأجبته؟ فقال: كنت حاقناً، ولا رأي لحاقن(8).
__________
(1) الكافي: (7/202)، البحار: (40/296)(50/170)(75/73).
(2) المناقب: (2/100)، البحار: (36/118) (40/328) (44/76) (70/116)، نور الثقلين:(1/664)، تفسير القمي:(1/186)، تفسير فرات:(1/132)، البرهان:(1/494)، الصافي: (2/79).
(3) الكافي: (5/535)، البحار: (40/335)(104/37).
(4) البحار: (21/383، 391، 396)، أمالي الطوسي: (256)، الكافي:(4/246)(5/456).
(5) البحار: (80/224)، الوسائل: (1/278)، المستدرك: (1/237)، التهذيب: (1/17).
(6) البحار: (10/266).
(7) نوادر الراوندي: (14)، البحار: (103/250).
(8) أمالي الطوسي: (526)، البحار: (42/187).(1/455)
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: يا علي، إن فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي، يسوؤني ما ساءها، ويسرني ما سرها، وإنها أول من يلحقني من أهل بيتي، فأحسن إليها بعدي، وأما الحسن والحسين فهما ابناي وريحانتاي، وهما سيدا شباب أهل الجنة، فليكرما عليك كسمعك وبصرك(1).
ومثلها للزهراء، فعن الصادق قال: أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: قل لفاطمة: لا تعصي علياً، فإنه إن غضب غضبت لغضبه(2).
فلا شك أن صدور أمثال هذه التحذيرات؛ بل ونزول وحي فيه لا يسعف القوم فيما ذهبوا إليه من القول بالعصمة، ولعلك من قراءة ما سيأتي ستقف على ما إذا كان الأمير والزهراء رضي الله عنهما قد أخذا بتلك الوصايا أم لا.
عن معاوية قال: دخل الحسن بن علي على جده صلى الله عليه وسلم وهو يتعثر بذيله، فأسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم سراً فرأيته وقد تغير لونه، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى منزل فاطمة، فأخذ بيدها فهزها إليه هزاً قوياً، ثم قال: يا فاطمة، إياك وغضب علي فإن الله يغضب لغضبه ويرضى لرضاه، ثم جاء علي فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم هزها إليه هزاً خفيفاً، ثم قال: يا أبا الحسن، إياك وغضب فاطمة، فإن الملائكة تغضب لغضبها وترضى لرضاها، فقلت: يا رسول الله، مضيت مذعوراً وقد رجعت مسروراً، فقال: يا معاوية، كيف لا أسر وقد أصلحت بين اثنين هما أكرم الخلق على الله(3).
__________
(1) البحار: (43/25).
(2) المناقب: (3/346)، أمالي الطوسي: (678)، البحار: (43/106، 152).
(3) البحار: (43/42، 146)، وانظر روايات أخرى في إصلاحه صلى الله عليه وسلم بينهما في (باب: كيفية معاشرتها مع علي رضي الله عنهما).(1/456)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه دخلا على فاطمة، فقال صلى الله عليه وسلم: عشينا غفر الله لك، فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب، فلما نظر علي بن أبي طالب إلى الطعام وشم ريحه رمى فاطمة ببصره رمياً شحيحاً، قالت له فاطمة: سبحان الله! ما أشح نظرك وأشده، هل أذنبت فيما بيني وبينك ذنباً استوجبت به السخطة؟ قال: وأي ذنب أعظم من ذنب أصبته، أليس عهدي إليك اليوم الماضي وأنت تحلفين بالله مجتهدة ما طعمت طعاماً مذ يومين؟ والقصة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة(1).
وفي قصة أخرى شبيهة بقصتنا هذه، قال: يا فاطمة، من أين لك هذا ولم يكن عهد عندنا شيئاً؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كل يا أبا الحسن ولا تسأل(2).
وعن الباقر: تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي بما خلفه، فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل رقاب الرجال(3).
وكان كثيراً ما يصلح صلى الله عليه وسلم بينهما، وكان يخرج من بيتهما فرحاً، ويسأل عن ذلك، فيقول: كيف لا أفرح وقد أصلحت بين اثنين أحب أهل الأرض إلى أهل السماء(4).
__________
(1) تفسير فرات: (1/85)، كشف الغمة: (2/98)، أمالي الطوسي: (628)، البحار: (37/104) (43/60)(14/198)(96/147)، تفسير العياشي: (1/195)، الصافي: (1/332)، البرهان: (1/282)، تأويل الآيات: (1/110).
(2) البحار: (43/74).
(3) البحار: (43/81).
(4) علل الشرايع: (63)، البحار: (35/50) (43/42، 146).(1/457)
وعن سلمان رضي الله عنه قال: قالت فاطمة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالذي بعثك بالحق مالي ولعلي منذ خمس سنين إلا مسك كبش نعلف عليها بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف(1).
وعن جابر رضي الله عنه في ذكر قصة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة فيمن أحل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر علي ذلك عليها، فقالت: أبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق: فذهبتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً على فاطمة بالذي صنعَت، مستفتياً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي ذكرت فأنكرت ذلك، قال: صدقت، صدقت(2).
وما دمنا بصدد هذا الموضوع، نضيف هنا أن الزهراء رضي الله عنها كثيراً ما كانت تشكو حالها إلى أبيها صلى الله عليه وسلم، وإليك بعض روايات القوم في ذلك:
فعن أبي سعيد قال: أتت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده ضعف الحال، فقال لها: أما تدرين ما منزلة علي عندي؟ الرواية(3).
وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة وقد جاءته ذات يوم تبكي وتقول: يا رسول الله، عيرتني نساء قريش بفقر علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضين يا فاطمة أني زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً.
__________
(1) البحار: (8/303)(43/88).
(2) أمالي الطوسي: (414)، الكافي: (3/234)، المنتقى: فيما كان سنة عشر من الهجرة، البحار: (8/303)(21/383، 391، 396، 404)(99/89، 91).
(3) أمالي الصدوق: (326)، أمالي الطوسي: (245)، البحار: (40/6).(1/458)
وفي رواية: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاطمة تحدثت نساء قريش وغيرهن وعيرنها، وقلن: زوجك رسول الله من عائل لا مال له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة، أما ترضين أن الله تبارك وتعالى اطلع اطلاعة إلى الأرض فاختار منها رجلين أحدهما أبوك والآخر بعلك؟
وفي رواية: قالت فاطمة رضي الله عنها: إنك زوجتني فقيراً لا مال له، فقال: زوجتك أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً(1).
__________
(1) الإرشاد: (16)، البحار: (40/17) (18/398) (37/91)، كشف اليقين: (158) (38/5) = = (40/18، 85، 178)(43/139)، أمالي الصدوق: (356)، تأويل الآيات: (1/272)، المحتضر: (143)، المناقب: (1/180)، إعلام الورى: (164).(1/459)
وعن خالد بن ربعي قال: إن علياً رضي الله عنه أتى منزله، فقالت له فاطمة رضي الله عنها: يا ابن عم، بعت الحائط الذي غرسه لك والدي؟ قال: نعم بخير منه عاجلاً وآجلاً، قالت: فأين الثمن؟ قال: دفعته إلى أعين استحييت أن أذلها بذل المسألة قبل أن تسألني، قالت فاطمة: أنا جائعة، وابناي جائعان، ولا أشك إلا وأنك مثلنا في الجوع، لم يكن لنا منه درهم؟ وأخذت بطرف ثوب علي، فقال علي: يا فاطمة خليني، فقالت: لا والله أو يحكم بيني وبينك أبي، فهبط جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول: أقرئ علياً مني السلام، وقل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على يديه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل علي وجد فاطمة ملازمة لعلي، فقال لها: يا بنية، مالك ملازمة لعلي؟ قالت: يا أبه، باع الحائط الذي غرسته له باثني عشر ألف درهم، لم يحبس لنا منه درهماً نشتري به طعاماً، فقال: يا بنية، إن جبرئيل يقرئني من ربي السلام، ويقول: أقرئ علياً من ربه السلام، وأمرني أن أقول لك: ليس لك أن تضربي على يديه، قالت فاطمة: فإني أستغفر الله ولا أعود أبداً(1).
وفي رواية: لما أراد أن يزوجها من علي أسر إليها، فقالت: يا رسول الله، أنت أولى بما ترى، غير أن نساء قريش تحدثني عنه أنه رجل دحداح البطن، طويل الذراعين، ضخم الكراديس، أنزع، عظيم العينين والسكنة، ضاحك السن، لا مال له(2).
وفي رواية: قالت: يا رسول الله، زوجتني عائلاً؟ فهز رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده معصمها، وقال: لا يا فاطمة، ولكن زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً(3).
__________
(1) أمالي الصدوق (379)، البحار: (41/45)، الأنوار النعمانية: (1/58)، المناقب: (2/79).
(2) البحار: (43/99).
(3) البحار: (43/149)، أمالي الطوسي: (253).(1/460)
وفي أخرى: قال صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا بنتي؟ قالت: قلة الطعام، وكثرة الهم، وشدة السقم، قال لها: أما والله ما عند الله خير لك مما ترغبين إليه يا فاطمة، أما ترضين أن زوجتك خير أمتي، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأفضلهم حلماً(1).
وفي أخرى: قال صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا بنية محمد؟ فقالت: حالنا كما ترى في كساء نصفه تحتنا ونصفه فوقنا(2).
وفي أخرى: عن الصادق: شكت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقالت: يا رسول الله، لا يدع شيئاً من رزقه إلا وزعه على المساكين، فقال لها: يا فاطمة، أتسخطينني في أخي وابن عمي، إن سخطه سخطي وإن سخطي سخط الله عز وجل (3).
وروايات شكواها علياً رضي الله عنهما جميعاً واعتراضها عليه كثيرة جداً، وما أوردناه أقلَّ القليل، وقد ذكر القوم أن رسول صلى الله عليه وسلم قال في ذم بعض شكوى بناته زوجها: اقني حياءك، فما أقبح بالمرأة ذات حسب ودين في كل يوم تشكو زوجها! وفي لفظ: إني لأستحيي للمرأة أن لا تزال تجر ذيولها تشكو زوجها(4).
__________
(1) كشف الغمة: (1/84)، البحار: (38/19).
(2) أمالي الطوسي: (418)، البحار: (37/43).
(3) البحار: (43/153)، كشف الغمة: (2/101).
(4) الكافي: (3/251)، البحار: (22/159، 161)(81/392).(1/461)
وفي قصة فدك زعم القوم أنها رضي الله عنها لما انصرفت من عند أبي بكر رضي الله عنه أقبلت على علي رضي الله عنه، فقالت له: يا ابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حَجرة الظنين، نقضت قادمة الآجل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة قد ابتزني نحيلة أبي، وليغة ابني، والله أجهد في ظلامتي، وأَلَدَّ في خصامي، حتى منعتني القيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا مانع ولا دافع، خرجت والله كاظمة، وعدت راغمة ولا خيار لي، ليتني مت قبل ذلتي، وتوفيت دون منيتي، عذيري والله فيك حامياً، ومنك داعياً، ويلاه في كل شارق، ويلاه مات العمد، ووهن العضد، شكواي إلى ربي، وعدواي إلى أبي(1).
وكأن القوم يريدون أن يقولوا: إن الزهراء رضي الله عنها لم تكن ترى في علي رضي الله عنه زوجاً مثالياً ولا نصيراً، وإنها لطالما شكت إلى أبيها الضيعة بعده عليه الصلاة والسلام، وهذه الرواية دليل على ذلك، وإليك أخرى: دخلت -أي: الراوي- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحالة التي قبض فيها، فإذا فاطمة عند رأسه، فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رأسه، فقال: حبيبتي فاطمة، ما الذي يبكيك؟ فقالت: أخشى الضيعة من بعدك، فقال: يا حبيبتي، أما علمت أن الله عز وجل اطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك، وأوحى إلي أن أنكحك إياه(2).
__________
(1) المناقب: (3/208)، البحار: (43/148)، أمالي الطوسي: (694).
(2) انظر: كفاية الأثر: (9، 17)، البحار: (22/536)(28/52)(36/307، 328، 369)(38/10) (51/79، 91)، كمال الدين: (250).(1/462)
وما دمنا نتحدث عن الزهراء رضي الله عنها؛ فلا بأس من ذكر بعض ما أورده القوم في شأنها مما ينافي العصمة.. دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها مرة وفي عنقها قلادة من ذهب كان قد اشتراها لها علي رضي الله عنه من فيء، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة، لا يقول الناس: إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وفي قصة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بفاطمة، فإذا هو بستر على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة فرجع فلم يدخل عليها، فعرفت رضي الله عنها غضبه لذلك، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبعثت به إلى أبيها، فقال: ما لآل محمد وللدنيا فإنهم خلقوا للآخرة(2).
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم لها مراراً عن البكاء، ففي مرض موته صلى الله عليه وسلم كانت تقول: واكرباه لكربك يا أبتاه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، إن النبي لا يشق عليه الجيب، ولا يخمش عليه الوجه، ولا يدعى عليه بالويل، ولكن قولي كما قال أبوك على إبراهيم: تدمع العينان، وقد يوجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب(3).
__________
(1) المناقب: (3/343)، البحار: (43/27، 81، 84)، وانظر أيضاً: البحار: (22/531) == أمالي الصدوق: (377).
(2) انظر لهذه القصة: أمالي الصدوق: (194)، البحار: (43/20، 83، 86).
(3) تفسير فرات: (2/586)، البحار: (22/458)(24/264)، كنز الفوائد: (400)، وانظر روايات أخرى: البحار:(22/460،531)(24/263)(68/54)، بشارة المصطفى:(154).(1/463)
وفي رواية: عن الباقر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: إذا أنا مت فلا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا ترخي عليَّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليَّ نائحة(1).
وفي رواية: يا بنية، لا تبكين ولا تؤذين جلساءك من الملائكة(2).
وفي رواية: أنها أكبت تنظر في وجهه وتندبه وتبكي، وتقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه، وقال بصوت ضئيل: يا بنية، هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه، ولكن قولي: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) [آل عمران:144] (3).
ومنها: أنها طلبت من أبيها صلوات الله وسلامه عليه جارية، فقال: يا فاطمة، والذي بعثني بالحق إن في المسجد أربعمائة رجل ما لهم طعام ولا شراب ولا ثياب، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت.
يا فاطمة، إني لا أريد أن ينفك عنك أجرك إلى الجارية، وإني أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل إذا طلب حقه منك، ثم علمها صلاة التسبيح(4).
ومنها: أنها رضي الله عنها لما ولدت الحسن رضي الله عنه لفته في خرقة صفراء خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال: ألم أنهكم أن تلفوه في صفراء -وفي لفظ: ألم أعهد إليكن ألا تلفوا المولود في خرقة صفراء- ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها(5).
__________
(1) الكافي: (4/66)، معاني الأخبار: (110)، البحار: (22/460، 496)(82/76).
(2) الطرف: (45)، البحار: (22/493).
(3) الإرشاد: (98)، إعلام الورى: (143)، البحار: (22/470).
(4) المناقب: (3/341)، نور الثقلين: (3/157)، البحار: (43/85)، كشف الغمة: (2/99).
(5) أمالي الطوسي:(377)، منتخب الأثر:(89)، البحار:(36/350، 352)(43/238، 239، 240) (44/250)(104/109، 111)، إثبات الهداة: (1/596)، أمالي الصدوق: (134).(1/464)
وعلى أي حال، نكتفي بما أوردناه عنها رضي الله عنها، ونعود إلى ما كنا فيه من الحديث عن علي رضي الله عنه.
ومنها: أن الزهراء قالت في وصية موتها له: يا ابن العم، إني أجد الموت الذي لا محيص عنه، وأنا أعلم أنك بعدي لا تصبر على قلة التزويج، فإن أنت تزوجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة واجعل لأولادي يوماً وليلة يا أبا الحسن، ولا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنهما بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما(1).
ومنها: عن الصادق في رواية طويلة فيها أن الزهراء رضي الله عنها أخبرت أن علياً رضي الله عنه خطب بنت أبي جهل، فدخلها من الغيرة ما لا تملك، فاشتد غمها من ذلك وبقيت متفكرة حتى أمست وجاء الليل، فحملت الحسن والحسين وأم كلثوم ثم تحولت إلى حجرة أبيها، فجاء علي فدخل حجرته فلم ير فاطمة، فاشتد لذلك غمه وعظم عليه ولم يعلم القصة، فاستحيا أن يدعوها من منزل أبيها فخرج إلى المسجد، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما بفاطمة من الحزن دخل المسجد فلم يزل يصلي، وكلما صلى ركعتين دعا الله أن يذهب ما بفاطمة من الحزن والغم، ثم أخذهم جميعاً إلى علي، فقال: يا علي، أما علمت أن فاطمة بضعة مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال: فما دعاك إلى ما صنعت؟ فقال علي: والذي بعثك بالحق نبياً ما كان مني مما بلغها شيء ولا حدثت به نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت وصدقت، ففرحت فاطمة بذلك(2).
ومنها: وصايا النبي صلى الله عليه وسلم له، فعن الصادق قال: كان فيما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً: يا علي، أنهاك عن ثلاث خصال عظام: الحسد، والحرص، والكذب.
وفي رواية: والكبرياء.
__________
(1) البحار: (43/178).
(2) علل الشرايع: (185)، البحار: (43/202)، الأنوار النعمانية: (1/73).(1/465)
وفي رواية: يا علي، إياك والكذب؛ فإن الكذب يسود الوجه ثم يكتب عند الله كذاباً. وقال: يا علي، احذر الغيبة والنميمة؛ فإن الغيبة تفطر، والنميمة توجب عذاب القبر. وقال: يا علي، لا تحلف بالله كاذباً ولا صادقاً من غير ضرورة.
وفي أخرى: يا علي، أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى فالصدق ولا تخرجن من فيك كذبة أبداً... الحديث(1).
وعنه أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن، فقال له وهو يوصيه: أنهاك من أن تخفر عهداً وتعين عليه، وأنهاك عن المكر فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وأنهاك عن البغي فإنه من بُغي عليه لينصرنه الله(2).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: يا علي، لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه(3).
وعلى ذكر بعثة الأمير رضي الله عنه إلى اليمن، فقد أورد القوم في ذلك ما ينافي العصمة، منها: ما رواه عن نفسه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: قلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء(4).
وفي رواية: فقلت له: يا رسول الله، إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث(5).
وفي أخرى: يا رسول الله، إنهم كهول وذو أسنان، وأنا فتى وربما لم أصب فيما أحكم به بينهم(6).
نعود إلى حديثنا فنقول: ومما رووه في كتبهم مما ينافي العصمة: اعتراضه على كثير من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الخصال: (1/62)، البحار: (69/370، 371) (72/261) (73/233، 251) (77/44، 46، 52، 67، 90، 112)، التحف: (13)، روضة الكافي: (79).
(2) أمالي الطوسي: (608)، البحار: (21/361)(77/69).
(3) الكافي: (5/28، 36)، التهذيب: (6/141)، البحار: (19/167)(21/361) (104/364).
(4) إعلام الورى: (137)، البحار: (21/360)(40/177، 178، 244)، كشف الغمة: (1/111، 120)، المناقب: (1/84)، الإرشاد: (93).
(5) البصائر: (503)، البحار: (21/362).
(6) البحار: (40/87).(1/466)
فمنها: ما كان منه يوم الحديبية، فلما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح وقرأه على سهيل بن عمرو، قال: لو كنا نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبدالله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: امح رسول الله؟ فقال: يا رسول الله، إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة.
وفي رواية: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً.
وفي أخرى: لا والله لا أمحوك أبداً.
وفي أخرى: فجعل يتلكأ ويأبى، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمحاه(1).
ومنها: ما كان منه يوم تبوك حيث خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، تخلفني مع النساء والصبيان؟
وفي بعض الروايات: أنه لحق به، فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي، ألم أخلفك على المدينة؟
وفي أخرى: لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن المنافقين يزعمون أنك خلفتني استثقالاً ومقتاً.
وفي أخرى: حتى جاء ثنية الوداع وهو يبكي، ويقول: تخلفني مع الخوالف؟
وفي أخرى: قال: أخرج معك؟ قال: لا، فبكى، فلا زال يعارض ذلك حتى استرضاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى(2).
__________
(1) الإرشاد: (61)، إعلام الورى: (190)، البحار: (20/333، 352، 359، 362، 371)(33/314، 317، 351)(38/328).
(2) أمالي الطوسي: (193، 218)، إثبات الهداة: (2/89)، نور الثقلين: (3/378)، البحار: (10/21، 233) (21/10، 208، 213، 232، 238، 245، 260، 261) (23/297) (33/218)(37/255، 259،261، 262، 263، 264، 267، 278)(38/242)(40/51) (44/75)، تفسير العسكري: (191، 233)، الاحتجاج: (180)، إعلام الورى:(130)، الإرشاد:(80) == أمالي الطوسي: (313، 610)، المناقب: (3/15)، كمال الدين: (264).(1/467)
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر علياً بما يلقى بعده، فبكى علي رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، أسألك بحقي عليك وحق قرابتي وحق صحبتي لما دعوت الله عز وجل أن يقبضني إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسألني أن أدعو ربي لأجل مؤجل؟(1)
ومنها: جهله بمسألة استدركها عليه إبليس، وذلك فيما يرويه القوم من أنه رضي الله عنه صرع إبليس يوماً وجلس على صدره ووضع يديه في حلقه ليخنقه، فقال له: لا تفعل يا أبا الحسن؛ فإني من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم(2).
وفي رواية: قال: لأقتلنك إن شاء الله، فقال: لن تقدر على ذلك إلى أجل معلوم عند ربي(3).
وفي رواية: بعد أن أخبره صلى الله عليه وسلم بأنه إبليس، قال: لو علمت يا رسول الله لضربته بالسيف فخلصت أمتك منه، فقال له إبليس: ظلمتني يا أبا الحسن، أما سمعت الله عز وجل يقول: ((وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ)) [الإسراء:64] (4).
وفي رواية: قال: أقتله يا رسول الله؟ وفي لفظ: لأقتلنه يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما علمت يا علي أنه قد أجل إلى يوم الوقت المعلوم؟ فتركه(5).
ومنها: ما كان منه يوم المؤاخاة عندما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، حيث زعم القوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: آخيت بين أصحابك وتركتني؟
وفي لفظ: وتركتني فرداً لا أخ لي(6).
__________
(1) أمالي الطوسي: (2/115)، المناقب: (2/51)، البحار: (28/47)(27/209).
(2) عيون الأخبار: (229)، البحار: (27/149)(39/171، 174)(63/245).
(3) علل الشرايع: (85)، البحار: (27/151)(39/174).
(4) البحار: (18/88)(39/166)، المحاسن: (332)(63/236، 215).
(5) اليقين في إمرة المؤمنين: (71)، المناقب: (1/411)، البحار: (39/171، 179).
(6) أمالي الصدوق: (209)، المناقب: (1/367)، الطرائف: (17)، كنز الكراجكي: (281)، البحار: (38/334، 336، 338).(1/468)
وفي رواية: أنه رضي الله عنه جاء تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد(1).
وفي أخرى: فانصرف باكي العين، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين يا رسول الله، قال: يا بلال، اذهب فأتني به، فمضى بلال إلى علي وقد دخل منزله باكي العين، فقالت فاطمة: ما يبكيك لا أبكى الله عينك؟ قال: يا فاطمة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وأنا واقف يراني ويعرف مكاني ولم يؤاخ بيني وبين أحد(2).
وفي أخرى: فخرج مغضباً حتى أتى جدولاً من الأرض وتوسد ذراعه ونام فيه تسفي الريح عليه، فطلبه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده على تلك الصفة، فركزه برجله، وقال له: قم فما صلحت أن تكون إلا أبا تراب، أغضبت حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم أؤاخ بينك وبين أحد منهم؟(3)
وفي أخرى قال: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، فإن كان هذا من سخط علي فلك العتبى والكرامة(4).
__________
(1) المناقب: (1/367)، البحار: (37/186)(38/336، 344)، إثبات الهداة: (2/142)، وفيه: فاغتم غماً شديداً، نور الثقلين: (3/624)، تفسير القمي: (2/84)، البرهان:(3/153).
(2) كشف الغمة: (1/335)، البحار: (38/343).
(3) البحار: (35/61)(38/347)، المناقب: (2/57).
(4) كشف الغمة: (1/333)، البحار: (38/342).(1/469)
ومنها: أن فاطمة رضي الله عنها دخلت بيتها، فإذا رأس علي في حجر جارية، فقالت: يا أبا الحسن، فعلتها؟ فقال: لا والله يا بنت محمد ما فعلت شيئاً، فما الذي تريدين؟ فلحقها من الغيرة ما يلحق المرأة على زوجها، فتبرقعت ببرقعها ووضعت خمارها على رأسها تريد النبي صلى الله عليه وسلم تشكو علياً، فنزل جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا محمد، الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: هذه فاطمة تأتيك تشكو علياً فلا تقبلن منها، فلما دخلت فاطمة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعي إلى بعلك، وقولي له: رغم أنفي لرضاك، فرجعت فاطمة، فقالت: يا ابن عم، رغم أنفي لرضاك رغم أنفي لرضاك، فقال علي: يا فاطمة، شكوتني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واحياءاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
ومنها: أخذه رضي الله عنه لمفاتيح الكعبة من عثمان بن أبي طلحة يوم فتح مكة ولوى يده، فنزل قول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)) [النساء:58]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه(2).
ونكتفي بما أوردناه عن علي رضي الله عنه، وننقل بعض روايات القوم عن السبطين رضي الله عنهما مما ينافي العصمة المزعومة.
من ذلك: وصية الأمير للحسن رضي الله عنه: يا بني، اقتل قاتلي -أي: ابن ملجم- وإياك والمثلة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهها ولو بالكلب العقور(3).
__________
(1) بشارة المصطفى: (122)، البحار: (39/207)(43/147)، الأنوار النعمانية: (1/79)، البرهان: (4/224)، علل الشرايع: (163).
(2) المناقب: (1/404)، البحار: (21/116).
(3) الاختصاص: (150)، البحار: (40/105)، نهج البلاغة: (512).(1/470)
وفي رواية: يا بني، أنت ولي الأمر بعدي وولي الدم، فإن عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة، ولا تأثم(1).
وعلى ذكر مقتل الأمير رضي الله عنه فقد كان مضطرباً ليلتها اضطراباً أدى إلى تناقض أفعاله، كما تبينه رواية القوم هذه: قالت له أم كلثوم: ما هذا الذي أسهرك؟ فقال: إني مقتول لو قد أصبحت، وأتاه ابن النباح فآذنه بالصلاة، فمشى غير بعيد ثم رجع، فقالت له أم كلثوم: مر جعدة فليصل بالناس، فقال: نعم، مروا جعدة فليصل بالناس، ثم قال: لا مفر من الأجل، فخرج إلى المسجد... القصة(2).
ومن وصاياه له أيضاً: يا بني، ابك على خطيئتك، ولا تكن الدنيا أكبر همك، وأوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها، وأوصيك بخشية الله في سر أمرك وعلانيتك، وأنهاك عن التسرع بالقول والفعل، وإياك ومواطن التهمة والمجلس المظنون به السوء، فإن قرين السوء يغير جليسه، وإياك والجلوس في الطرقات، ودع المماراة ومجاراة من لا عقل له ولا علم، واقتصد يا بني في معيشتك، وإني لم آلك يا بني نصحاً وهذا فراق بيني وبينك، وأوصيك بأخيك محمد خيراً... الرواية(3).
ولعل في قوله: وأوصيك بأخيك محمد خيراً، رد على من سيرد قائلاً: إنما هذه الوصايا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، فتدبر!
__________
(1) الكافي: (1/298)، التهذيب: (9/176)، الفقيه: (4/189)، البحار: (42/213، 250)، إثبات الهداة: (2/544، 545).
(2) الإرشاد: (8)، إثبات الهداة: (2/475)، البحار: (42/226، 238، 277)، المناقب: (2/79)، إعلام الورى: (161).
(3) أمالي المفيد:(129)، أمالي الطوسي:(6، 27)، البحار:(42/202)(78/98) (42/245، 247، 250) (77/196).(1/471)
ومنها: أنه نزل بالحسن رضي الله عنه ضيف، فاستقرض من قنبر رطلاً من العسل الذي جاء به من اليمن، فلما قعد علي رضي الله عنه ليقسمها قال: يا قنبر، قد حدث في هذا الزق حدث، قال: صدق فوك، وأخبره الخبر، فهم بضرب الحسن، فقال: ما حملك على أن أخذت منه قبل القسمة؟ قال: إن لنا فيه حقاً، فإذا أعطيناه رددناه، قال: فداك أبوك، وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم، لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ثنيتك لأوجعتك ضرباً، ثم قال: اللهم اغفر للحسن فإنه لا يعرف(1).
تذكرني هذه الرواية برواية اصطفاء الأمير لجارية قبل القسمة كما مر بك آنفاً.
ومنها: أنه كان رجلاً مطلاقاً حتى حذر علي رضي الله عنه الناس من ذلك، فعن الصادق قال: أتى رجل إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقال له: جئتك مستشيراً، إن الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر خطبوا إلي، فقال أمير المؤمنين: المستشار مؤتمن، أما الحسن فإنه مطلاق للنساء، ولكن زوجها الحسين، فإنه خير لابنتك(2).
وعن الصادق أيضاً قال: إن علياً قال وهو على المنبر: لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق، فقام رجل من همدان، فقال: بلى والله لنزوجنه، وهو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين، فإن شاء أمسك وإن شاء طلق(3).
وفي رواية: عن الصادق أيضاً قال: إن الحسن بن علي طلق خمسين امرأة، فقام علي بالكوفة، فقال: يا معشر أهل الكوفة، لا تنكحوا الحسن فإنه رجل مطلاق(4).
__________
(1) المناقب: (2/107)، البحار: (41/112)(42/117)(وفيه الحسين بدل الحسن)، كشف الغمة: (1/175).
(2) المحاسن: (601)، البحار: (43/338)(75/101).
(3) الكافي: (6/56)، البحار: (44/172).
(4) الكافي: (6/56)، البحار: (44/172).(1/472)
وقد خطب إلى عبدالرحمن بن الحارث بنته، فأطرق عبدالرحمن ثم رفع رأسه، فقال: والله ما على وجه الأرض من يمشي عليها أعز منك، ولكنك تعلم أن ابنتي بضعة مني وأنت مطلاق، فأخاف أن تطلقها، وإن فعلت خشيت أن يتغير قلبي عليك لأنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن شرطت أن لا تطلقها زوجتك، فسكت الحسن وقام وخرج، فسمع منه يقول: ما أراد عبدالرحمن إلا أن يجعل ابنته طوقاً في عنقي.
وروي أنه خطب إلى منظور بن ريان ابنته خولة، فقال: والله إني لأنكحك، وإني لأعلم أنك غلق طلق ملق غير أنك أكرم العرب بيتاً وأكرمهم نفساً(1).
حتى روي أنه تزوج مائتين وخمسين امرأة، وقد قيل: ثلاثمائة، وكان علي يضجر من ذلك، فكان يقول في خطبته: إن الحسن مطلاق، فلا تنكحوه. وروي أن هذه النساء كلهن خرجن خلف جنازته حافيات(2).
ومنها: أن مروان بن الحكم خطب يوماً، فذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فنال منه والحسن بن علي جالس، فبلغ ذلك الحسين فجاء إلى مروان، فقال: يا ابن الزرقاء، أنت الواقع في علي، ثم دخل على الحسن، فقال: تسمع هذا يسب أباك فلا تقول له شيئاً(3).
وفي رواية: أن معاوية صعد المنبر، فخطب الناس وذكر علياً ونال منه، فقام الحسين ليرد عليه، فأخذ بيده الحسن فأجلسه(4).
ومنها: أنه رضي الله عنه قال في مسألة: إن أصبت فمن الله ثم من أمير المؤمنين، وإن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا أخطئ إن شاء الله(5).
__________
(1) المناقب: (4/38)، البحار: (44/171، 173).
(2) المناقب: (4/30)، البحار: (44/158، 169).
(3) البحار: (43/344)(44/211)، تفسير فرات: (1/253).
(4) الإرشاد: (173)، البحار: (44/49).
(5) الكافي: (7/202)، البحار: (43/353).(1/473)
ولم يفهم شيعته هذه العصمة التي يزعمها له القوم، وقد مر بك معاتبة أصحابه له على صلحه ومبايعته لمعاوية، فهذا يقول له: داهنت معاوية وصالحته، وقائل يقول: ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلهم يأخذ العطاء وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، وذاك يسميه بمذل المؤمنين، وآخر يقول له: يا مسود وجه المؤمن، وآخر: سودت وجوه المؤمنين، وآخر: يا مذل المؤمنين.
وفي رواية: ومسود وجوه المؤمنين(1).
وكذا كان شأن الحسين رضي الله عنه، فوصايا أبيه رضي الله عنه له كثيرة: بتقوى الله، وأن لا يبغي الدنيا وإن بغته، وأن لا يأسف على شيء منها زوي عنه، وأن يقول الحق، وأن يعمل للأجر، وأن يكون للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، وغيرها(2).
وهدده مرة لما دعا رجلاً إلى المبارزة، فعلم به فقال: لئن عدت إلى مثل هذا لأعاقبنك، ولئن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنك، أما علمت أنه بغي(3).
وجرى بينه وبين ابن الحنفية كلام، فكتب ابن الحنفية إلى الحسين رضي الله عنهما: أما بعد: يا أخي، فإن أبي وأباك علي، لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمك بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ملء الأرض ذهباً ملك أمي ما وفت بأمك، فإذا قرأت كتابي هذا فصر إلي حتى تترضاني، فإنك أحق بالفضل مني، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، ففعل الحسين ذلك، فلم يجر بعد ذلك بينهما شيء(4).
وكتب إليه أخوه الحسن يلومه على إعطاء الشعراء، فكتب إليه: أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقى العرض(5).
__________
(1) سبق تخريج جميع هذه الروايات في الباب الأول.
(2) انظر مثلاً: نهج البلاغة: (511).
(3) الكافي: (5/35)، التهذيب: (6/169)، البحار: (33/446، 454).
(4) المناقب: (4/73)، البحار: (44/196).
(5) كشف الغمة: (2/206)، البحار: (44/195).(1/474)
ويروي القوم من وصية أخيه الحسن له في قصة دفنه: واحملني إلى قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألحدني إلى جانبه، فإن منعت من ذلك وستمنع فلا تخاصم ولا تحارب، وردني إلى البقيع(1).
وكذلك نصيحة أصحابه له بعدم الخروج إلى العراق، حيث لم يستصوبوا رأيه مما يدل على عدم قولهم بعصمته(2).
وهذا ما رآه هو بنفسه حتى طلب من يزيد الموادعة وسأله الرجعة(3).
وعلى أي حال، لا يسعنا حصر كل ماورد في حق الأئمة، وكنا نود أن نكتفي بإيراد مايخالف عصمة أهل الكساء لصلته بموضوعنا، ولكن لا نرى بأساً من أن نمر مروراً سريعاً على شيء مما يتعلق ببقية الأئمة أو بعضهم، فهذا زين العابدين يقول لغلامه في مسألة حصلت بينهما: قم فأت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين خطيئته يوم الدين، وأنت حر لوجه الله(4).
وكان يقول في دعائه: اللهم إن استغفاري لك مع مخالفتي لَلُؤم، وإن تركي الاستغفار مع سعة رحمتك لَعجز، فيا سيدي! إلى كم تتقرب وتتحبب وأنت غني عني؟ وإلى كم أبتعّد منك وأنا إليك محتاج فقير(5)؟
__________
(1) إثبات الهداة: (2/566).
(2) البحار: (44/364)(45/86، 89، 96، 99).
(3) البحار: (45/324).
(4) كنز جامع الفوائد: (299)، البحار: (23/384)(46/92).
(5) البحار: (25/238)، وانظر روايات أخرى في استغفاره: أمالي الطوسي:(427) == أمالي الصدوق: (182، 257).(1/475)
وها هي فاطمة بنت علي بن أبي طالب لا ترى أنه معصوم، فلما نظرت إلى ما يفعله بنفسه من الدأب في العبادة أتت جابر بن عبدالله رضي الله عنه، فقالت له: يا صاحب رسول الله، إن لنا عليكم حقوقاً، من حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه الله وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه، إدآباً منه لنفسه في العبادة(1).
فلم تفهم أن زين العابدين معصوم ولا يصدر عنه ما يخالف الشرع، حتى رأت أن تنصحه وكذا فعل جابر، ومثله عن عباد البصري الذي اعترض عليه اختياره الحج على الجهاد(2).
وهذا الباقر أوصاه أبوه فيما أوصاه: عليك بحسن الخلق(3).
وفي موضع: يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله(4).
وكان يسأل جابراً الأنصاري رضي الله عنه عن مناسك الحج(5).
ويحيل في بعض ما يسأل عنه إلى موسى، كما يروي القوم أنه سئل عن مسألة، فقال: إذا لقيت موسى فاسأله عنها(6).
ولا أدري من موسى هذا، فإن كان الكاظم فهو محال لولادته بعد الباقر بسنين، وإن كان آخر تحقق المطلوب.
وهذا ابنه الصادق روى القوم عنه أنه إذا أراد الحج وهمَّ بالتلبية انقطع صوته في حلقه، وكاد أن يخر من راحلته، فيقال له: لا بد من أن تقول، فيقول: كيف أجسر أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن يقول عز وجل لي: لا لبيك ولا سعديك(7).
__________
(1) أمالي الطوسي: (647)، البحار: (46/60)(71/185)، بشارة المصطفى: (79).
(2) البحار: (46/116)(100/18)، معجم الخوئي: (9/210).
(3) كفاية الأثر: (319)، البحار: (46/232).
(4) الكافي: (2/331)، البحار:(46/153)(75/308)(78/118)، أمالي الصدوق:(110).
(5) أمالي الطوسي: (143)، البحار: (21/383، 403).
(6) البصائر: (13)، البحار: (23/182).
(7) الخصال: (79)، علل الشرايع: (234)، أمالي الصدوق: (169)، المناقب: (3/396)، البحار: (47/16)(99/181).(1/476)
وعن حمران قال: قلت لأبي عبدالله: أنبياء أنتم؟ قال: لا، قلت: حدثني من لا أتهم أنك قلت: إنكم أنبياء؟ قال: من هو أبا الخطاب؟ قلت: نعم، قال: كنت إذاً أهجر(1).
وعنه أيضاً قال: فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضر ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإن عذبنا فبذنوبنا، والله مالنا على الله من حجة ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبورون ومنشرون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون(2).
والصادق في رواية ملخصها: أن أباه كان في داره مع جارية، إذ أقبل ملك الموت وقبض الجارية، فكسر الصادق البيت الذي رأى فيه أبوه ما رأى، ثم ندم، فقال: ليت ما هدمت من الدار أني لم أكسره(3).
وعنه: إنا لنذنب ونسيء ثم نتوب إلى الله متاباً(4).
وكان أصحابه يستدركون عليه بعض المسائل، فهذا عباد البصري ينكر عليه نحره هديه في منزله بمكة(5)، وينكر عليه وضعه يده على الأرض وهو يأكل(6)، ويأخذ عليه لبسه لبعض الثياب(7).
وعن الفضيل قال: ذكرت لأبي عبدالله السهو، فقال: وينفلت من ذلك أحد؟ ربما أقعدت الخادم خلفي يحفظ علي صلاتي(8).
وكذا فعل الأرقط ابن عمه حيث كان الصادق عند إسماعيل حين قبض، فلما رأى الأرقط جزع الصادق، قال: يا أبا عبدالله، قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتدع، ثم قال: صدقت أنا لك اليوم أشكر(9).
__________
(1) البصائر: (134)، البحار: (25/56)(52/320).
(2) الكشي: (147)، البحار: (25/289).
(3) البصائر: (64)، البحار: (26/359).
(4) البحار: (25/207).
(5) التهذيب: (5/374)، معجم الخوئي: (9/210).
(6) الكافي: (6/271)، البحار: (47/360)(66/390).
(7) البحار: (79/315).
(8) البحار: (25/350)(88/230)، السرائر: (483).
(9) كمال الدين: (78)، البحار: (47/250).(1/477)
حتى إسماعيل ابنه كان يستدرك عليه، ففي مرة سأل الفيض الصادق: جعلت فداك، نتقبل من هؤلاء الضياع فنقبلها بأكثر مما نتقبلها، فقال: لا بأس به، فقال له إسماعيل ابنه: لم تفهم يا أبه، فقال الصادق: أنا لم أفهم، أقول لك: الزمني فلا تفعل؟! فقام إسماعيل مغضباً(1).
وهذا الكاظم كان يقول في سجدة الشكر: رب عصيتك بلساني ولو شئت وعزتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئت وعزتك لأكمهتني، وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزتك لأصممتني، وعصيتك بيدي ولو شئت وعزتك لمنعتني، وعصيتك بفرجي ولو شئت وعزتك لأعقمتني، وعصيتك برجلي ولو شئت وعزتك لجذمتني، وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي ولم يكن هذا جزاك مني(2).
وهذا الرضا قال: حلفت بالعتق -ولا أحلف بالعتق إلا أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك- إن كنت أرى أني خير من هذا -وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه- بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه(3).
وقال له رجل: أنت والله خير الناس، فقال له: لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله عز وجل، وأطوع له، ما نسخت هذه الآية: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات:13] (4).
والحق أن الروايات في الباب كثيرة جداً لا يسعنا حصرها.
روايات من طرق الشيعة تنافي عصمة الملائكة عليهم السلام:
قبل أن نختم ما أوردناه لا بأس من المرور سريعاً على بعض ما يتعارض مع عصمة الملائكة، وقد عرفت قول القوم فيهم.
من هذه المرويات: رواية عن ملك يقال له: فطرس، كان من الحملة، بعثه الله عز وجل في شيء فأبطأ عليه، فكسر جناحه، وألقاه في جزيرة على الأرض.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) كشف الغمة:(3/46)، البحار:(25/203)(86/203)، الكافي:(3/236)، التهذيب:(2/111).
(3) عيون الأخبار: (2/237)، البحار: (49/95).
(4) عيون الأخبار: (2/236)، البحار: (46/177)(49/95)(96/224).(1/478)
وفي رواية: عرض عليه ولاية علي فأباها فكسر جناحه(1).
ورواية عن ملك بين المؤمنين يقال له: صلصائيل، بعثه الله في بعث فأبطأ فسلبه ريشه ودق جناحيه وأسكنه في جزيرة من جزائر البحر(2).
وآخر يقال له: دردائيل، كان له ستة عشر ألف جناح، فجعل يوماً يقول في نفسه: أفوق ربنا جل جلاله شيء؟ فسلبه الله أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة(3).
وآخر يقول عن نفسه: إني ملك من ملائكة الله الكروبيين، غفلت عن ذكر ربي طرفة عين، فغضب علي ربي ومسخني ثعباناً وطردني من السماء إلى الأرض(4).
وآخرون يروي القوم أنهم اعترضوا على قضاء الله في الحسين رضي الله عنه، حيث قالوا لما قتل: إلهنا وسيدنا أتغفل عمن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك(5)؟
وآخر أمره الله عز وجل أن يخبر أحد الملوك أنه متوفيه، ففعل، ثم أمره أن يخبره أنه عز وجل قد زاد في عمره، فقال الملك: يا رب، إنك تعلم أني لم أكذب قط، فأوحى الله عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك، والله لا يسأل عما يفعل(6).
وهذا جبرئيل عليه السلام يجادل ربه في إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا رب، خليلك إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره، سلطت عليه عدوه يحرقه بالنار، فقال: اسكت، إنما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت، هو عبدي آخذه إن شئت(7).
__________
(1) أمالي الصدوق: (118)، البحار: (26/340)(43/244، 251)(44/182)(50/66)، الكشي: (486)، إثبات الهداة: (2/580)، البصائر: (20، 68)، أمالي الطوسي: (680).
(2) البحار: (43/259).
(3) كمال الدين: (268)، البحار: (43/248)(59/184).
(4) البحار: (4/112)(13/382)(43/313).
(5) البحار: (37/293)(45/221)(51/28).
(6) نور الثقلين: (2/520)(4/355).
(7) تفسير القمي: (2/47)، الصافي: (3/345)، نور الثقلين: (3/432)، البرهان: (3/63)، البحار: (12/33).(1/479)
وفي رواية: عن الرضا قال: غضب جبرئيل عليه السلام، فأوحى الله عز وجل: ما يغضبك يا جبرئيل؟ قال: يا رب، خليلك... فذكر الحديث(1).
وكذا تصرفه من تلقاء نفسه، فعن الصادق قال: ما أتى جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كئيباً حزيناً، ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون، فلما أمره الله بنزول هذه الآية: ((أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ)) [يونس:91]، نزل عليه وهو ضاحك مستبشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أتيتني يا جبرئيل إلا وتبينت الحزن في وجهك حتى الساعة، قال: يا محمد، لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، ثم قلت له: ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، عملت ذلك من غير أمر الله، خفت أن يلحقه الرحمة من الله ويعذبني على ما فعلت، فلما كان الآن وأمرني الله أن أؤدي إليك ما قلته أنا لفرعون، آمنت وعلمت أن ذلك كان لله رضى(2).
وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما احتضر وكشف الثوب عن وجهه ونظر إليه: عند الشدائد تخذلني؟ فقال: يا محمد، إنك ميت وإنهم ميتون، كل نفس ذائقة الموت(3).
وكأن القوم أرادو القول بأن الخذلان لا ينافي العصمة.
وكما ذكرنا، فإن ما أوردناه قليل من كثير، ولا يسعنا حصره لكثرته، وللخوف من الخروج عن موضوع الكتاب.
وعلى أي حال، لا شك أن هناك تأويلات وردوداً لكل ما أوردناه، وقد ذكر القوم بعضاً من ذلك في كتبهم وأكثرها يمجها العقل وفيها ما يضحك.
__________
(1) أمالي الصدوق: (274)، البحار: (11/63)(12/35)، الخصال: (163).
(2) تفسير القمي: (1/316)، نور الثقلين: (2/318)، البرهان: (2/195)، البحار: (13/117).
(3) أمالي الصدوق: (508)، البحار: (22/510).(1/480)
وإن كنا نرى في هذه الروايات المنسوبة للأنبياء والأئمة: أن جملة من هذه الروايات لا يصح، وجملة منها صحيح لكن زيد فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه، وجملة منها واقع لا محالة، ولكننا نلتمس العذر لهم،ونعلم أن لهم من الحسنات ما تمحى به السيئات، كما قال سبحانه: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114].
وليعلم أيضاً -كما مر ذكره- أننا نقول بعصمة الأنبياء من الكبائر ومن الإصرار على الصغائر، وكذا مما يخل بالشرف والمروءة، وأما ما يقع منهم من صغائر فإنهم يتوبون منها ويعود حالهم بعد التوبة أحسن مما كان قبل المعصية، وسبق ذكر الأدلة على ذلك.
وأما الملائكة، فهم كما قال الله عنهم: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)) [الأنبياء:26-27]^ وعليه لا تصح تلك الروايات عند الشيعة.
وأما علي والحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم فغير معصومين من باب أولى، وهم من أهل الجنة بلا شك ولا مرية؛ بل الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وفاطمة سيدة نساء العالمين، وعلي -ولاشك- أفضل من الحسن والحسين.
ولكن ليعلم القارئ أن إيرادنا لكل ما مر ليس لأجل اعتقادنا بها أو لمناقشتها، لذا فإننا سردناه سرداً دون تعليق إلا فيما ندر، وإنما ذكرناه لأجل إيضاح اعتقاد القوم بعقيدة العصمة التي قالوا فيها: إن الأئمة معصومون مطهرون من كل دنس، وإنهم لا يذنبون ذنباً لا صغيراً ولا كبيراً، لا خطأ ولا نسياناً، ولا للإسهاء من الله تعالى، من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه... إلى آخر ماقالوه وقد نقلناه لك.(1/481)
وقد رأيت أنهم -وكذا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم- لم يَخْلوا حسب روايات هؤلاء من كل ما ادعاه القوم لهم، فهم يذنبون ويخطئون ويستغفرون وينسون ويسهون، ويخالف أفعال وأقوال بعضهم البعض، ويشكو أحدهم من الآخر، ولم يخلوا حتى من أحاسيس وصفات الغيرة والحسد والشك.. إلى آخر ما مر بك.
وليعلم القارئ أيضاً أن من رد كل ما ذكرناه وأوله وصرفه عن ظاهره لهو غير عاجز عن تبرئة كل الخلق وتأويل ما يوهم خطأهم فضلاً عن تبرئة الشيخين وذي النورين رضي الله عنهم، فلو كان طالباً للحق مريداً له فإنه سينظر إلى أفعالهم بعين الإنصاف، وأن ما وقع منهم إما أنه زيد فيه ونقص، وإما أنهم معذورون فيه، وإما أنه خطأ ومعصية لايقارن ببحر حسناتهم، ولهم من الحسنات الكثير والكثير مما يحصل به غفران سيئاتهم، ولهم من فضل الصحبة ما لا يدركه من بعدهم، كما أن لهم من الفضائل ما لا يخفى على من طلب الحق، وكذلك يقال في غيرهم من كبار الصحابة كعلي والحسن والحسين وطلحة والزبير رضي الله عن الجميع وأرضاهم، وجعلنا ممن قال الله فيهم بعد أن أثنى على المهاجرين والأنصار: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10] فكل من جاء بعد المهاجرين والأنصار واستغفر لهم؛ رجي له هذا الثواب، والله المستعان.
ثم اعلم أن إسهابنا بعض الشيء في الكلام عن آية التطهير ومدلولها نابع من كون هذه الآية أحد أهم دعامتين يبني عليهما القوم عقيدة الإمامة؛ باعتبار العصمة هنا، والنص في الأخرى، وهي رواية غدير خم.
الاستدلال بخبر الطائر وذكر الروايات ودراسة أسانيدها والرد على هذا الاستدلال:(1/482)
أما الاستدلال بخبر الطائر، وأن علياً رضي الله عنه أحب الخلق إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من كان أفضل من جميع الصحابة رضوان الله عليهم لا يجوز تقدم غيره عليه، فقبل الكلام فيه نورد طرقه، ونتكلم في أسانيده، ثم ننظر في متونه:
الرواية الأولى: الطوسي، أبوعمرو، عن ابن عقدة، عن محمد بن أحمد بن الحسن، عن يوسف بن عدي، عن حماد بن المختار، عن عبد الملك بن عمير، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طائر فوضع بين يديه، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي فدق الباب، فقلت: من ذا؟ فقال: أنا علي، فقلت: إن النبي على حاجة، حتى فعل ذلك ثلاثاً، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حبسك؟ قال: قد جئت ثلاث مرات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماحملك على ذلك؟ قال: قلت: كنت أحب أن يكون رجلاً من قومي(1).
أقول: أبوعمرو، هو عبد الواحد بن محمد بن عبدالله بن محمد بن خشام، وهو من مشايخ الطوسي من العامة عند من ذكره من القوم، ولم نقف على من ذكر حاله، وابن عقدة مرت ترجمته، ومحمد بن أحمد بن الحسن مجهول(2)،أما المختار فلم أجد له ترجمة.
الرواية الثانية: محمد بن علي بن عبد الصمد، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن القاسم الفارسي، عن عبدالله بن أبي حامد، عن محمد بن إبراهيم بن أحمد، عن أحمد بن مدرك، عن إبراهيم بن سعد، عن حسين بن محمد، عن سليمان بن قرط، عن محمد بن شعيب، عن داود بن علي بن عبدالله بن عباس، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطير، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، فجاء علي، فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: (259)، المناقب: (1/435)، البحار: (38/350، 352)(43/38).
(2) معجم الخوئي: (14/324).
(3) بشارة المصطفى: (202)، البحار: (38/355).(1/483)
أقول: سند هذه الرواية ظلمات بعضها فوق بعض، فبين مجهول كابن سعد، وابن شعيب، وداود، وأبيه، وغير مترجم له كالفارسي، ومحمد بن أحمد، وابن مدرك، وابن قرط.
الرواية الثالثة: الطوسي، أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن مورويه الجندى سابوري من أصل كتابه، قال: حدثنا علي بن منصور الترجماني، قال: أخبرنا الحسن بن عنبثة النهشلي، قال: حدثنا شريك بن عبدالله النخعي القاضي، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي... فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة الطير(1).
أقول: أبوالمفضل ضعيف كما مر بك، وبقية السند بين مجاهيل كابن ميمون، ومن ليست له ترجمة كابن مورويه والترجماني والنهشلي، وقد تكلمنا في شريك وأبي اسحاق.
الرواية الرابعة: الصدوق، حدثنا أبي، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي هدبة، عن أنس رضي الله عنه... فذكر القصة(2).
أقول: قد تكلمنا فيما مضى عن بعض رجال السند، وحسب السند هذا أن فيه إبراهيم بن هدبة، فقد ضعفه وتركه كل من ترجم له.
الرواية الخامسة: الطوسي، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد إجازة، قال: حدثنا علي بن محمد بن حبيبة الكندي، قال: حدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا أبوغيلان سعد بن طالب الشيباني، عن إسحاق، عن أبي الطفيل، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حديث طويل: أنشدكم بالله هل فيكم أحد أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم بطير، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فدخلت عليه(3)؟
أقول: مضى الكلام في البعض، والشيباني مجهول الحال(4)، والكندي وحسن بن حسين لم أجد لهم تراجم.
__________
(1) أمالي الطوسي: (568)، البرهان: (3/315).
(2) أمالي الصدوق: (521)، البحار: (38/353)، إثبات الهداة: (2/70).
(3) أمالي الطوسي: (342).
(4) معجم الخوئي: (8/67).(1/484)
الرواية السادسة: الطوسي: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا الحسن بن علي بن زكريا العاصمي، قال: حدثنا أحمد بن عبيدالله العدلي، قال: حدثنا الربيع بن يسار، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، يرفعه إلى أبي ذر، أن علياً رضي الله عنه قال: فذكر الرواية(1).
أقول: مر السند بتمامه، وكذا الكلام فيه عند حديثنا عن روايات التصدق بالخاتم في الرواية الثامنة عشرة.
الرواية السابعة: الصدوق: حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا أبو العباس القطان، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدثنا عبدالله بن داهر، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سنان، عن المفضل، عن عمر، عن أبي عبدالله، في رواية طويلة ذكر فيها حديث الطير(2).
أقول: مر الكلام في أكثر رجال السند، وابن داهر ضعيف(3)، ولم أجد ترجمة لأبيه.
الرواية الأخيرة: الكراجكي: عن علي بن الحسن بن مندة، عن الحسن بن يعقوب البزاز، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال:...فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة الطير(4).
أقول: ابن مندة لم يصرح بوثاقته أحد(5)، والبزاز لم أجد له ترجمة، ومر الكلام في الباقي.
هذه الروايات -جل ما وقفت عليه من خبر الطير- بأسانيدها من طرق الإمامية، وغيرها إما منقولة من طرق أهل السنة، وقد بينا القول فيها في مقدمة الباب، وإما إرسالها إرسال المسلمات دون سند، وحسبها هذا في فساد حجيتها فيما نحن فيه.
فإذا عرفت بأنه لم يصح شيء من طرق الرواية عند الفريقين، يكون الكلام في المتن.
الكلام في متن حديث الطائر:
__________
(1) أمالي الطوسي: (557).
(2) علل الشرايع: (161)، مختصر البصائر: (216)، المحتضر: (69)، البحار: (39/194)، البرهان: (4/224)، تأويل الآيات: (2/790).
(3) معجم الخوئي: (10/183)، النجاشي: (2/33).
(4) البحار: (60/300).
(5) معجم الخوئي: (11/367).(1/485)
أول ذلك الاضطراب غير الخافي في مجموع الروايات، سواء المسندة منها أو غير المسندة، منها مثلاً:
أن الطارق في بعض الروايات كان علياً كما مر بك.
وفي أخرى: عائشة(1).
وأخرى: أبا رافع(2).
ومن ذلك: اختلاف دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، بين قوله: اللهم يسر لي عبداً يحبك ويحبني(3)، وبين قوله: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، وفي لفظ: إليك وإلي، كما في معظم الروايات، وبين قوله: ليت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وإمام المتقين عندي يأكل معي(4)، وغيرها.
ومن ذلك: من الذي أهدى إليه الطائر؟ فمن لفظ مطلق دون تحديد، ومن كونه جبرئيل عليه السلام (5)، ومن كونها امرأة من الأنصار(6).
ومن ذلك: عدد الطير، من واحد كما في أكثر الروايات، وطيرين كما في البعض الآخر(7).
وغيرها من اضطراب الروايات.
وقد رُد على هذا الاستدلال من وجوه:
أولاً: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله.
ثانياً: أن هذا الحديث يناقض مذهب القوم، فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن علياً أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده، وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.
__________
(1) الاحتجاج: (197)، البحار: (32/277)(38/348).
(2) اليقين: (13)، بشارة المصطفى: (203)، البحار: (38/351).
(3) الاحتجاج: (104)، البحار: (38/349).
(4) اليقين: (13)، بشارة المصطفى: (203)، البحار: (38/351).
(5) الاحتجاج: (104)، البحار: (38/348).
(6) الطرائف: (18)، البحار: (38/355).
(7) الطرائف: (18)، البحار: (38/355).(1/486)
ثالثاً: أنه لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامة، فكأين من أولياء وأنبياء كانوا أحب الخلق إلى الله في زمانهم ولم يكونوا ذوي رياسة عامة، كزكريا ويحيى وشمويل الذي كان طالوت في زمنه صاحب رياسة عامة بنص إلهي.
رابعاً: أن يقال: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن علياً أحب الخلق إلى الله أو لا يعرف، فإن كان يعرف ذلك فيمكنه أن يرسل في طلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول: اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق إليك، فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك؟ ولو سمى علياً رضي الله عنه لاستراح أنس رضي الله عنه من الرجاء الباطل، ولم يغلق الباب في وجه علي، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه يعرف ذلك.
ثم إن في لفظة: (أحب الخلق إليك وإلي) إشكال، فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه.
أقول: والغريب أن في روايات القوم ما يفيد عدم معرفة الصحابة، وكذا أهل البيت رضي الله عنهم مَن أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم حتى لحظة وفاته، فمن تلك الروايات:
أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: ادعوا لي حبيبي، فجعل يدعى له رجل بعد رجل، فيعرض عنه، فقيل لفاطمة: امضي إلى علي فما نرى رسول الله يريد غير علي، فبعثت فاطمة إلى علي(1).
وروايات قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: ادعوا لي خليلي أو حبيبي، وجهل الناس به أو دعوةِ غيرِ علي رضي الله عنه -كما يزعم القوم- كثيرة(2).
__________
(1) أمالي الصدوق: (379)، الطرائف: (38)، البحار: (22/510)(38/308، 312).
(2) انظرأيضاً: الخصال: (2/173، 186)، البصائر: (88، 90، 91)، الاختصاص: (285)، البحار: (22/461، 462، 463، 464، 473)(38/308، 312)(40/215)، إثبات الوصية: (18)، إعلام الورى: (142)، المناقب: (1/236).(1/487)
ب- ومن روايات عدم علمه رضي الله عنه عند القوم، أنه قال: يا رسول الله، أينا أحب إليك أنا أم فاطمة؟ قال: فاطمة أحب إلي منك(1).
ج- وقال رضي الله عنه: كانت فاطمة من أحب أهله إليه(2).
د- ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اللهم هذه ابنتي وأحب الخلق إلي(3).
هـ- وعن أسامة رضي الله عنه، أن علياً والعباس رضي الله عنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أي أهلك أحب إليك؟ قال: فاطمة(4).
و- واجتمع علي يوماً وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، فجعل كل واحد منهم يقول: أنا أحبكم إلى رسول الله، فانطلقوا إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، جئنا نسألك: من أحب الناس إليك؟ قال: فاطمة.. الحديث(5).
ولا شك أن جعفراً -مثلاً- ما جعل نفسه إزاء الأمير رضي الله عنه لو علم بقصة الطير، حتى وإن علم، فكيف يصنع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم له: يا جعفر، أشبهت خلقي وخلقي(6)؟
ز- وقال: خلق الناس شتى، وخلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة، أو قال: من طينة واحدة(7).
ح- وقال له لما قدم من الحبشة يوم فتح خيبر: أيها الناس: ما أدري بأيهما أنا أُسَرّ، أبافتتاحي خيبر أم بقدوم ابن عمي جعفر، وبكى فرحاً برؤيته(8).
فنراه هنا جعل فتح خيبر وهو ما هو بإزاء مقدم جعفر رضي الله عنه.
__________
(1) كشف الغمة: (2/90)، البحار: (36/72)(43/38)، إعلام الورى: (156).
(2) البحار: (43/82).
(3) البحار: (43/96).
(4) البحار: (43/68).
(5) البحار: (38/307)(43/68).
(6) البحار: (20/372)(21/64)(38/307، 328)(41/151).
(7) البحار: (21/64).
(8) عيون الأخبار: (1/231)، التهذيب: (1/175)، الخصال: (2/82)، إعلام الورى: (63)، نوادر الراوندي:(33)، البحار:(21/7،23، 24، 25، 63)(22/276)(38/294)(39/207)(76/282) (91/206، 211)، بشارة المصطفى: (177).(1/488)
ط- ويبدو أن أهل السماء أيضاً لم يعرفوا ذلك، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يروي القوم- قال: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى الحسين(1).
ولا أقل من كون معظم هذه الروايات في المدينة وبعد روايات الطير لمن تدبر وإن كان الأمران سيان، وقد رأيتَ أن هذه المحبة لم تخلص له.
الاستدلال بحديث الثقلين:
أما الاستدلال بحديث الثقلين، فقبل الكلام فيه نقول: رغم اضطراب أسانيد روايات الفريقين فيه، إلا أنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة، وطرق يعضد بعضها بعضاً، ويرقى إلى مرتبة الصحة بالشواهد والمتابعات، أنه قال: إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا.. فاقتصرت بعض الروايات على ذكر كتاب الله(2).
وفي أخرى: وعترتي(3).
__________
(1) البحار: (43/297).
(2) الخصال: (2/84)، البحار: (21/381)(77/119).
(3) كمال الدين: (122)، معاني الأخبار: (32)، الخصال: (1/43)، أمالي الصدوق:(231)، البصائر: (122)، عيون الأخبار: (1/60)(2/68)، بشارة المصطفى: (204)، العمدة: (51، 52)، الطرائف: (28، 34)، الاحتجاج: رسالة العسكري إلى أهل الأهواز في الجبر والتفويض، البحار: (2/226)(23/109، 131، 141، 145، 147، 152)(24/234)(33/248، 249)(37/107، 137، 168، 185، 191)(38/99)(44/248، 249)(93/2)، إثبات الهداة: (1/485، 488، 497، 498، 613)(2/139، 184)، المناقب: (1/235).(1/489)
وأخرى: وعترتي أهل بيتي(1).
وأخرى: وسنتي(2).
فإذا علمت ثبوت هذه الروايات والألفاظ فيكون الكلام في وجه الاستدلال.. أما القرآن فقد علمت موقف القوم منه في الباب الثاني؛ إذ لم يتمسكوا بكتاب الله لزعمهم أنه محرف، وقد زيد فيه ونقص، فعليه سقط نصف استدلالهم بالحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله.. الحديث.
بيان من هم عترة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته:
أما العترة فالأمر فيه واسع، فعترة الرجل في اللغة هم نسله كولده وولد ولده، أي: الذكور من الأولاد، وهذا إشكال قد يخرج علياً رضي الله عنه من كونه من العترة.
__________
(1) أمالي المفيد: (28، 79)، الطرائف: (28، 29)، العمدة: (34، 35)، كمال الدين: (70، 98، 225، 227، 228، 229، 230، 234)، البصائر: (413، 414)، تفسير العياشي: (1/15، 16)، عيون الأخبار: (1/199)(2/31)، صحيفة الرضا: (23، 24)، أمالي الطوسي: (491)، الكافي: (1/294)، معاني الأخبار: (32)، أمالي الصدوق: (338، 422)، كنز الفوائد: (367)، كشف الغمة:(43)، الاحتجاج:(249)، غيبة النعماني:(17، 27، 37، 47)، نور الثقلين: (5/193، 605، 690)، البحار: (2/226)(22/475، 476) (23/95، 106، 107، 108، 113، 114، 132، = = 133، 134، 135، 136، 140، 141، 145، 146، 147، 152، 156) (24/324-325) (35/184) (37/114، 128، 129) (92/13، 52)، منتخب الأثر: (45، 107)، تأويل الآيات: (1/117، 122)، إثبات الهداة: (1/61، 444، 489، 496، 497، 498، 499، 509، 529، 530، 551، 557، 558، 562، 564، 568، 571، 581، 588، 591، 610، 612، 619، 625، 631، 634، 639، 640، 649، 650، 657، 658، 698).
(2) كمال الدين: (226)، البحار: (23/132)، وقد أورد القوم عن النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة الأمر بالرجوع إلى القرآن والسنة في حال الاختلاف.(1/490)
وتوسع البعض، فقال: إن عترة الرجل هم أدنى قومه إليه في النسب، ورهطه، ورهط الرجل قومه وقبيلته.. إلى غير ذلك(1).
وعلى الأخير ندلل ببعض الروايات: فعن علي رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إنك لتحب عقيلاً؟ قال: إي والله، إني لأحبه حبين: حباً له وحباً لحب أبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون، ثم بكى رسول الله حتى جرت دموعه على صدره، ثم قال: إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي(2).
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وعن عمران بن الحصين قال: خطبنا رسول الله، فقال: معاشر الناس، إني راحل عن قريب، ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً، فقام إليه سلمان، فقال: يا رسول الله، أليس الأئمة بعدك من عترتك؟ فقال: نعم، الأئمة بعدي من عترتي(4).
وعن الحسين رضي الله عنه قال بعد أن جمع ولده وإخوته وأهل بيته ونظر إليهم فبكى ساعة: اللهم إنا عترة نبيك(5).
وعن الباقر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله إن في أهل بيتي من عترتي لهداة مهتدين(6).
وعن الصادق: نحن ولاة أمر الله، وورثة وصي الله، وعترة نبي الله(7).
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في: البحار: (23/151، 157)(90/260، 261)، كمال الدين: (100، 105، 118، 231).
(2) أمالي الصدوق: (78)، البحار: (22/288)(44/287).
(3) كمال الدين: (234)، معاني الأخبار: (32)، البحار: (23/149، 158)(28/325).
(4) كفاية الأثر: (17)، البحار: (36/330).
(5) الإرشاد: (226)، البحار: (44/383).
(6) بصائر الدرجات: (15)، البحار: (23/152)(44/383).
(7) البصائر: (19)، البحار: (26/260).(1/491)
وعن الباقر في قوله عز وجل: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) [إبراهيم:37]: نحن بقية تلك العترة(1).
وعن زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنه قال: أنا من العترة(2).
وكذا قال أبناء مسلم بن عقيل رضي الله عنهم (3).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم بالسمع والطاعة للسابقين من عترتي، فإنهم يصدونكم عن البغي، ويهدونكم إلى الرشد، ويدعونكم إلى الحق، فيحيون كتابي وسنتي ويميتون البدع(4).
نعم، قد يسأل سائل فيقول: إنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بالتمسك بالعترة وهو لفظ عام؛ ولكنه خص التمسك بالأهل من دون سائر العترة بقوله: وعترتي أهل بيتي، فوجه الحكم إلى من استحق هذين الاسمين.
فنقول: لِمَ لَم يقتصر على ذكر الأهل فحسب، فيقول: وكتاب الله وأهل بيتي؟ هذا على فرض حمل الأهل على ما يراه القوم، فمعلوم أن الأهل داخلون في العترة وليس العكس، ولكن إذا علمنا من هم الأهل -كما مرَّ بك في آية التطهير- لا نرى داعياً لكل هذا التكلف، ولكن لا بأس أن نزيد هنا نصوصاً أخرى تدل على أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعم وأشمل بكثير من هذا الحصر.
فقد سبق ذكر رواية أم سلمة، ورواية واثلة بن الأسقع، وجعلهما من آل البيت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواية علي رضي الله عنه وجعله زوجة الرجل من آل بيته، فراجعها إن شئت، وإليك مزيداً من الروايات:
__________
(1) البحار: (12/89، 93)(23/223-225)، نور الثقلين: (2/549)(1/328)، تأويل الآيات: (1/246)، البرهان: (2/319)، العياشي: (2/231).
(2) كفاية الأثر: (326-328)، البحار: (46/198، 201، 202)، إثبات الهداة: (1/604، 605)، منتخب الأثر: (129، 245).
(3) أمالي الصدوق: (77، 78، 79)، البحار: (45/101، 103).
(4) البحار: (16/375).(1/492)
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الثقلين نفسه بعد أن قال: إني تارك فيكم الثقلين.. الحديث، قيل له: فمن أهل بيتك؟ قال: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس(1).
والطريف أن القوم وضعوا رواية في موضوعنا هذا تفيدنا ولا تخدمهم، حيث زعموا أن الباقر قال في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، لو سكت رسول الله ولم يبين أهلها لادعاها آل عباس، وآل عقيل، وآل فلان، وآل فلان، ولكن أنزل في كتابه: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33]، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم تحت الكساء.. وذكر القصة(2).
فهم يقرون هنا بأن حديث الثقلين إنما كان قبل نزول آية التطهير التي بيَّن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم -بزعمهم- من هم أهل البيت، وعلى هذا فمن هم الذين أوصى أصحابه بالتمسك بهم مع القرآن كما في حديث الثقلين في غدير خم، وذلك في الفترة الفاصلة بين حديث الثقلين هذا، وبين نزول آيه التطهير كذلك؟ فتأمل!
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين، أولهما: كتاب الله، ثم قال: وأهل بيتي، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن من حرم عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم(3).
__________
(1) كشف الغمة: (1/44)، البحار: (23/115)(25/237)(35/211، 229).
(2) العياشي: (1/277)، البحار: (35/211)، البرهان: (1/385)(3/309)، الكافي: (1/286).
(3) البحار: (23/114-115)(35/229)، العمدة: (35).(1/493)
وفي مرض موته صلى الله عليه وسلم لما سمع البكاء قال: من هؤلاء؟ قالوا: الأنصار، فقال: من هنا من أهل بيتي؟ قالوا: علي والعباس، فدعاهما وخرج متوكئاً عليهما.. الرواية(1).
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي في المسجد، إذ دخل العباس بن عبد المطلب فسلم، فرد النبي ورحب به، فقال: يا رسول الله، بم فضل علينا أهل البيت علي بن أبي طالب والمعادن واحدة؟ فقال النبي: إذن أخبرك يا عم.. الرواية(2).
وعن الباقر قال: لما أمر العباس وغيره بسد الأبواب وأذن لعلي بترك بابه، جاء العباس وغيره من آل محمد، فقالوا: يارسول الله، ما بال علي يدخل ويخرج؟ فقال رسول الله: ذلك إلى الله، فسلموا له حكمه(3).
فمن يقصد بقوله: وجاء العباس وغيره من آل محمد؟! وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة: زوجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكبرهم علماً(4).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبدالمطلب، أنا محمد أنا رسول الله، ألا وإني خلقت من طينة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي وحمزة وجعفر(5).
وقال صلى الله عليه وسلم: إن إلهي اختارني في ثلاثة من أهل بيتي، وأنا سيد الثلاثة وأتقاهم لله ولافخر، اختارني وعلياً وجعفراً ابني أبي طالب، وحمزة بن عبدالمطلب(6).
__________
(1) الاحتجاج: (43)، البحار: (28/177).
(2) البحار: (43/17).
(3) تفسير العسكري: (20)، البحار: (33/184)(39/25)(86/260).
(4) البحار: (32/184).
(5) الخصال: (95)، أمالي الصدوق: (172)، البحار: (7/231)(11/380)(22/274)، نور الثقلين: (2/47).
(6) أمالي الطوسي: (89)، البحار: (22/277)(35/214)، تفسير فرات: (1/340).(1/494)
وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته لفاطمة رضي الله عنها بعد أن سألته: أي أهل البيت أفضل؟ قال: علي بعدي أفضل أمتي، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي بعد علي وبعدك وبعد ابنَيَّ وسبطَيَّ(1).
وفي غزوة بدر لما استشهد شيبة بن عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم فيه: بأنه أول شهيد من أهل بيتي(2).
وإن شئت أعم من هذه الروايات فإليكها:
قال صلى الله عليه وسلم: يا بني عبدالمطلب، إني سألت الله لكم أن يعلم جاهلكم، وأن يثبت قائمكم، وأن يهدي ضالكم، وأن يجعلكم نجداء جوداء رحماء، ولو أن رجلاً صلى وصف قدميه بين الركن والمقام ولقي الله ببغضكم أهل البيت دخل النار(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده، لو أن رجلاً صنف بين الركن والمقام صائماً وراكعاً وساجداً، ثم لقي الله عز وجل غير محب لأهل بيتي لم ينفعه ذلك، قالوا: ومن أهل بيتك يا رسول الله؟ أو أي أهل بيتك هؤلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: من أجاب منهم دعوتي، واستقبل قبلتي، ومن خلقه الله مني ومن لحمي ودمي، فقالوا: نحن نحب الله ورسوله وأهل بيت رسوله، فقال: بخٍ بخ، فأنتم إذاً منهم، أنتم إذاً منهم ومعهم، والمرء مع من أحب وله ما اكتسب(4).
فكم من أهل بيته استجاب لدعوته؟
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عمن يغسله، ويكفنه، ويدخله القبر؟ قال: رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى(5).
__________
(1) كمال الدين: (251)، سليم بن قيس: (70)، البحار: (28/53).
(2) البحار: (19/225، 254)، مجمع البيان: (4/526)، نور الثقلين: (2/131)، البرهان: (2/66)، تفسير القمي: (1/264).
(3) أمالي الطوسي: (117)، البحار: (27/173)، أمالي المفيد: (148).
(4) أمالي الطوسي: (644)، البحار: (27/105)، كشف الغمة: (1/124).
(5) أمالي الطوسي: (129، 210)، البحار: (22/455، 531)، المناقب: (1/238، 240).(1/495)
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي: يا علي، كن أنت وابنتي فاطمة والحسن والحسين، وكبروا خمساً وسبعين، ثم من جاء من أهل بيتي يصلون علي فوجاً فوجاً... الحديث(1).
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي في مرض موته: يا أخي، تقبل وصيتي، وتنجز عني ديني، وتقوم بأمر أهلي من بعدي... الحديث(2).
ومثلها روايات الخليفة في الأهل التي ذكرناها في الباب الأول، فهل يرى القوم أنه رضي الله عنه مضيع للزهراء والسبطين رضي الله عنهم حتى يأمره صلى الله عليه وسلم أو يأمر غيره بالقيام بأمرهم بعده؟!
وهذا الحسن رضي الله عنه في كتاب الصلح إلى معاوية، قال: وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء، وبما أعطى الله من نفسه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة سراً ولا جهراً، ولا يتخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق(3).
ونحن نعلم أنه رضي الله عنه عندما قال هذا لمعاوية كان أبوه الأمير وأمه الزهراء رضي الله عنهما قد ماتا، وهو قد ذكر بقية أهل الكساء، وهم نفسه وأخوه الحسين رضي الله عنهما، فمن يقصد بقوله: ولا لأحد من أهل بيت رسول الله؟!
وعن الصادق قال: ليس منا أحد إلا وله عدو من أهل بيته(4). فمن يا ترى مِنْ أهل الكساء كان عدواً لأهل الكساء؟!
وعلى أي حال، فالمسألة فيها طول، والروايات القليلة التي أوردناها كلها تدل دلالة واضحة على فساد الحصر المذكور عند القوم، وقد بينا عند حديثنا عن روايات آية التطهير أن خروج باقي الأئمة مستلزم بذات الاعتبار، ونزيد هنا أن بعض الروايات ذهبت إلى أبعد من هذا ولو على سبيل التشريف كما في بعضها:
__________
(1) الطرف: (45)، البحار: (22/494)(81/379).
(2) الإرشاد: (97)، إعلام الورى: (84)، البحار: (22/469، 501).
(3) البحار: (44/65)، كشف الغمة: (2/193).
(4) البحار: (46/180)(47/273).(1/496)
فعن الديلمي قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، من الآل؟ قال: ذرية محمد.
وفي رواية: عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله: من آل محمد؟ قال: ذريته(1).
وعن الرضا أنه سئل عن العترة: أهم الآل أم غير الآل؟ فقال: هم الآل(2).
وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمتي آلي.
وفي أخرى: قال: آل محمد أمته(3).
وعن الباقر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بمن مات من بني هاشم خاصة شيئاً لا يصنعه بأحد من المسلمين، كان إذا صلى على الهاشمي ونضح قبره بالماء وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفه على القبر حتى ترى أصابعه في الطين، فكان الغريب يقدم أو المسافر من أهل المدينة فيرى القبر الجديد عليه أثر كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: من مات من آل محمد صلى الله عليه وسلم (4)؟
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي رضي الله عنه: سلمان منا أهل البيت(5).
__________
(1) معاني الأخبار:(33)، أمالي الصدوق:(145)،البحار:(25/216)،إثبات الهداة:(1/490، 528).
(2) عيون الأخبار: (126)، تحف العقول: (415)، أمالي الصدوق: (312)، البحار: (25/221).
(3) أمالي الصدوق: (312)، عيون الأخبار: (126)، تحف العقول: (415)، البحار: (25/221).
(4) الكافي: (3/55)، البحار: (16/261).
(5) أمالي الصدوق: (209)، عيون الأخبار: (2/70)، الاحتجاج: (139)، الكشي: (8، 10، 13)، البصائر: (17، 18)، الاختصاص: (341)، الكافي: (1/401)، اليقين: (183)، الطرائف: (28)، مجمع البيان: (2/427) (5/167)، البحار: (2/190) (10/123) (11/131، 148، 313) (17/170)(18/19، 135)(20/189، 198)(22/319، 326، 330، 331، 343، 348، 349، 373، 374، 385، 391) (23/111) (36/334) (37/331)(63/218)(68/28، 55)(73/287)(75/443)، تفسير العسكري: (121)، البرهان: (1/2).(1/497)
ولأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: يا أبا ذر، إنك منا أهل البيت(1).
وللمقداد رضي الله عنه: المقداد منا أهل البيت(2).
وقال علي في الزبير رضي الله عنه: مازال الزبير رجلاً منا أهل البيت(3).
وقال في الراهب الذي لقيه في طريقه إلى صفين وأسلم واستشهد معه في المعركة: هذا منا أهل البيت(4).
وكذا قول الصادق لأكثر من واحد من أصحابه: إنه منا أهل البيت(5).
وقال ابن الحنفية رضي الله عنه في قوله تعالى: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23]، قال: نحن من أهل البيت وقرابته(6).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن حارثة، فقال: المقتول في الله، والمصلوب في أمتي، والمظلوم من أهل بيتي سمي هذا، وأشار بيده إلى زيد بن حارثة، فقال: ادن مني يا زيد، زادك اسمك عندي حباً، فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي(7).
حتى جبرئيل عليه السلام، ففي بعض روايات الكساء أنه دخل فيه فَتضاعفَ حُسنه وبهاؤه، ولما سألته الملائكة عن ذلك؟ قال: كيف لا أكون كذلك وقد شرفت بأن جعلت من آل محمد وأهل بيته(8).
__________
(1) أمالي الطوسي: (536)، البحار: (77/76).
(2) إثبات الوصية: (33).
(3) البحار: (28/347)(32/108)(41/145)، الخصال: (157).
(4) البحار: (32/427)(38/59).
(5) البحار: (47/345، 349)(83/155)، الاختصاص: (68، 195)، أمالي الطوسي: (44)، نور الثقلين: (2/547).
(6) تفسير فرات: (2/399)، البحار: (23/248).
(7) مستطرفات السرائر فيما استطرفه من رواية ابن قولويه، البحار: (46/192).
(8) تفسير العسكري:(376)، إرشاد القلوب:(214)، كنز جامع الفوائد:(483)، البحار: (17/262) (26/343، 345)، وانظر أيضاً: تأويل الآيات: (2/834)، البحار: (26/344)، إرشاد القلوب: (2/403).(1/498)
وهذا الباقر يقول لسعد بن عبد الملك وهو من بني أمية: أنت أموي منا أهل البيت(1).
ويروي القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: يا عائشة، إنك لتقاتلين علياً، ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر من أهل بيتي وأصحابي(2).
فمن من أصحاب الكساء كان معها رضي الله عنهم أجمعين؟
وعن محمد بن علي بن الحنفية قال: إنما حبنا أهل البيت شيء يكتبه الله في أيمن قلب العبد(3).
ولا نمل القارئ بإيراد كل ماورد في الباب، فهي كثيرة جداً، ولم نعلق على أكثرها، إنما سردناها سرداً هنا لدلالتها الواضحة في بيان المقصود، وأن مفهوم أهل البيت أعم بكثير مما يراه القوم، بعد بيان فساد الحصر المزعوم في الخمسة أصحاب الكساء.
موقف الشيعة من الثقلين:
ثم إن القوم يقرون بأن القرآن لم يرفع الخلاف بين المسلمين؛ بل نرى القرآن سبباً في اضطراب الكثير من عقائدهم لما فيه من تعارض لها، حتى أفضى بهم الأمر إلى القول بتعرضه للتحريف كما مر بك في الباب الثاني، وأن القرآن كما أنزل إنما هو عند صاحب الزمان الذي اختفى به وسيأتي به عند خروجه، لتجد نفسك مطالباً بالتمسك بثقلين: أحدهما: محرف، والآخر: غائب، ولا يعدون ذلك من الضلال.
__________
(1) الاختصاص: (85)، البحار: (46/337)، البرهان: (2/319).
(2) الاحتجاج: (104)، البحار: (32/278)(38/349).
(3) تأويل الآيات: (2/676)، البحار: (23/366، 389)، كنز الفوائد: (335).(1/499)
أضف إلى ذلك ما ذكرناه عند حديثنا عن آية التطهير من اختلاف أهل البيت مع بعضهم البعض، وكذا اختلاف أجوبتهم في المسألة الواحدة، بل واختلاف الإمام نفسه في المسألة(1).
واضطراب القوم في تأويل ذلك، والذي كان من ثمراته اختلاف المراجع في العصر الواحد، حتى إنك لا تكاد تجد عند القوم خبراً إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، حتى أدى ذلك إلى رجوع الكثير من الشيعة عن مذهبهم، كما اعترف بهذا شيخ الطائفة الطوسي(2).
إلى آخر ما تحمله مصنفاتهم من عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وكلها منسوبة إلى أهل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم.
الكلام في أول من درس أسانيد الروايات عند الشيعة:
لا يملك أحد منهم أن يرد هذه الأحاديث أو يضعف أسانيدها , ومن يجرؤ على فعل ذلك يتعرض لهجوم عنيف من طائفته مهما كانت منزلته عظيمة عندهم، كشأن العلامة الحلي الذي يعد من أوائل من تعرض لأسانيد روايات الشيعة بالدراسة والتخريج، وكان من نتائج ذلك أن سقط ثلثا روايات أمهات كتبهم كالكافي للكليني مثلاً، والذي يبلغ عدد رواياته حوالي [16199]، فلم يصح منها باعتبار مقاييس القوم المتواضعة سوى [5072](3).
__________
(1) انظر إن شئت: البحار: (2/228، 236، 237، 238، 241)(23/185)(24/125)(25/330، 332)(37/33)(75/428)(72/178)(92/95)، البصائر:(106، 113)،الاختصاص:(306،330)، الكافي: (1/65، 265)، تأويل الآيات: (1/21)، البرهان: (1/20)، العياشي: (1/23)، الصافي: (1/17)، وانظرأيضاً: الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، للطوسي، وهو كتاب مستقل في هذا الباب.
(2) تهذيب الأحكام: (1/2)، الحدائق الناضرة: (1/90)، رجال الطوسي: المقدمة: (73).
(3) لؤلؤة البحرين: (394)، كليات في علم الرجال: (357).(1/500)
أضف إلى ذلك ما وقع في أمهات كتبهم من التحريف، فقد زيد على الكافي -مثلاً- عشرون كتاباً، وكل كتاب مشتمل على أبواب، وكل باب مشتمل على عدة أحاديث، وقد زيد بعد الكليني بعدة قرون.
هذا بالنسبة لأعظم مصادر القوم وعمدتهم في استنباط الأحكام(1)، والذي ذكر مصنفه الكليني أنه ألفه في عشرين سنة، وأورد فيه ما صح من آثار عن الصادقين(2)، والذي يعتقد بعض علماء القوم أن كتابه هذا قد عرض على المهدي فاستحسنه، وقال: كافٍ لشيعتنا(3).
وقس على ذلك بقية مصادرهم.
وقد تعرض الحلي لهجوم عنيف من طائفته بسبب ما قام به، حتى قالوا فيه: هدم الدين مرتين: إحداهما: يوم السقيفة، وثانيهما: يوم ولد العلامة(4).
ولا شك أن ما قالوه في الحلي صحيح باعتبار أن ما قام به يعد هدماً لدين الإمامية، وكذا استخدامهم لكلمة (دين) فتأمل!
انقسام الشيعة بعدها إلى أصوليين وإخباريين:
لقد انقسم القوم بعد ذلك إلى طائفتين: إخبارية وأصولية على ما نراهم اليوم.
والإخبارية: هم الذين لا يرون الأدلة الشرعية إلا الكتاب والحديث، وكل ما نقل عن الأئمة فهو حديث عندهم وهو حجة؛ لأنه نقل عن معصومين، وما نقل عنهم فهو حجة على اليقين، ولا ينظر إلى هذا الحديث ما منزلته وما شأنه ما دام قد وجد في الأصول الأربعمائة(5).
والأصولية: هم الذين يلجئُون في مقام استنباط الأحكام الشرعية إلى الأدلة الأربعة من: الكتاب، والسنة، والإجماع، ودليل العقل(6).
__________
(1) انظرمنزلة الكافي عند القوم: (24)، وما بعدها من الكتاب نفسه.
(2) الكافي: (1/8).
(3) الكافي: (1/25).
(4) أعيان الشيعة: (5/401)، مقياس الهداية: (1/137)، الحدائق الناضرة: (1/170).
(5) أعيان الشيعة: (1/93).
(6) أعيان الشيعة: (17/453)، مع علماء النجف الأشرف: (10) مصادر الاستنباط.(2/1)
وقد شنَّع كل فريقٍ منهم على الآخر وحمل عليه، ووضع للرد عليه مصنفات، واتهمه بالخروج عن التشيع الصحيح.. إلى آخر ما لا يمكن ذكره مخافة الخروج عن موضوع الكتاب.
الاستدلال بحديث غدير خم وغلو الشيعة فيه وبيان أنه لم يصح في يوم الغدير نزول شيء من القرآن الكريم وذكر الروايات ودراسة أسانيدها:
نختم هذا الباب بالكلام في رواية غدير خم الذي هو أصل من أصول القوم في إثبات معتقد الإمامة، وعليه المعول الأول في بناء هذا الركن، حيث وضعوا في فضائل يومه عشرات الروايات، وجعلوه عيداً من أعظم أعيادهم، واستحبوا صومه.. إلى غير ذلك من فضائل وأعمال.
ولا أرى بأساً من ذكر شذرات يسيرة من ذلك قبل الدخول في تفاصيله:
روى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي(1).
وعن الصادق: أن فرات بن أحنف سأله: جعلت فداك، للمسلمين عيد أفضل من الفطر والأضحى ويوم الجمعة ويوم عرفة؟ فقال لي: نعم أفضلها وأعظمها وأشرفها عند الله منزلة وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأنزل على نبيه محمد: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3]، قال: قلت: وأي يوم هو؟ فقال لي: إن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا أراد أحدهم أن يعقد الوصية والإمامة للوصي من بعده ففعل ذلك جعلوا ذلك اليوم عيداً، وإنه اليوم الذي نصب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً للناس علماً، وأنزل فيه ما أنزل.. إلى أن قال: هو يوم عبادة وصلاة وشكر لله وحمد له، وسرور لِمَا منّ الله عليكم من ولايتنا، وإني أحب لكم أن تصوموا فيه(2).
__________
(1) أمالي الصدوق: (109)، البحار: (37/109)(97/110).
(2) تفسير فرات: (1/118)، البحار: (37/169)، وانظر أيضاً: الكافي: (4/148، 149)، الخصال: (264)، إثبات الهداة: (2/15، 72).(2/2)
والروايات في ذلك كثيرة(1).
ومن روايات استحباب صومه زيادة على ما مرَّ بك: ما رووه عن الصادق أنه قال: إن صيامه يعدل صيام ستين شهراً، وفي لفظ: كفارة ستين سنة(2)، بل وصيام عمر الدنيا(3)، بل ويعدل عند الله في كل عام مائة حجة ومائة عمرة مبرورات متقبلات(4).
ومن روايات استحباب الصلاة في موضع الغدير: ما نسبوه إلى الصادق أنه قال: يستحب الصلاة في مسجد الغدير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام فيه أمير المؤمنين، وهو موضع أظهر الله عز وجل فيه الحق(5).
__________
(1) البحار: (37/156، 171، 172)(97/111، 112)(98/322)، الكافي: (4/147، 149)، إثبات الهداة: (2/78، 91)، الغدير: (1/285)، من لا يحضره الفقيه: (2/54)، الخصال: (126)، ثواب الأعمال: (67، 68).
(2) الكافي: (4/148)، البحار: (37/108، 172)(97/110)(98/298، 321، 322)(100/358)، أمالي الصدوق: (12)، إثبات الهداة: (2/15)، الغدير: (1/285، 286)، مصباح الطوسي: (513)، من لا يحضره الفقية: (2/55)، ثواب الأعمال: (68)، الإقبال: (300)، بشارة المصطفى: (323).
(3) تهذيب الأحكام:(3/143)، إثبات الهداة:(2/25)، البحار: (98/303، 321)، الإقبال:(475).
(4) تهذيب الأحكام: (3/143)، الغدير: (1/286)، البحار: (98/303، 321)، الإقبال: (475).
(5) الكافي: (4/567)، التهذيب: (6/19)، من لا يحضره الفقيه: (2/335)، البحار: (37/173).(2/3)
وجعلوا صلاة ركعتين يوم الغدير تعدل عند الله مائة ألف حجة ومائة ألف عمرة، ومن فطر فيه مؤمناً كان كمن أطعم فئاماً وفئاماً وفئاماً، فعد الصادق إلى عشرة، ثم قال: أتدري كم الفئام؟ قال الراوي: لا، قال: مائة ألف، كل فئام كان له ثواب من أطعم بعددها من النبيين والصديقين والشهداء في حرم الله عز وجل، وسقاهم في يوم ذي مسغبة، والدرهم فيه بألف ألف درهم، ثم قال: لعلك ترى أن الله عز وجل خلق يوماً أعظم حرمة منه، لا والله لا والله لا والله(1).
وخم: غدير يقع في وادي الأراك على عشرة فراسخ من المدينة وعلى أربعة أميال من الجحفة، ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنده في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.. وغيره من ألفاظ قريبة وردت من طرق يشد بعضها بعضاً.
ولكن لا شك أن حديثاً كهذا لا يستوجب كل ما أورده القوم فيه، والذي ذكرنا بعضاً منه آنفاً، ولا يستوجب وضع المجلدات الكبار فيه، كما فعل البعض، حيث أضاع جُلَّ عمره في تتبع مواطن الجرح فيما يَظُن، وترك مواضع البرء -وما أكثرها- من تاريخنا الإسلامي، تماماً كما يفعل الذباب.
وحيث إن ديدن القوم وضع الأحاديث لإثبات معتقدهم، فلا شك أنهم قد أطلقوا العنان لتفكيرهم في روايتنا هذه -خاصة وأن لها أصلاً- حيث نسجوا حولها الأساطير، فغدا باعاً بعد أن كان ذراعاً.
ومن ذلك: جعلهم نزول بعض الآيات فيها كآية التبليغ، وآية إكمال الدين وإتمام النعمة.. وغيرها، كما سيأتي.
__________
(1) التهذيب: (3/143)، مصباح الزائر (الفصل السابع)، مصباح المتهجد: (524)، البحار: (97/118) (98/322)، وللمزيد من روايات فضائل يوم الغدير انظر: فضل يوم الغدير وصومه، البحار: (97/110-119)، باب أعمال يوم الغدير وليلته وأدعيتها، البحار: (98/298-323).(2/4)
وتفنن كل واحد منهم في جعل هذا الأصل الذي ذكرناه من الحديث بطريقته الخاصة، حتى جعلها البعض أقرب إلى الروايات القصصية منها إلى الهدي النبوي.
ولا نطيل في هذا، ولكن نشرع في بيان المطلوب.. فقد ذكرنا أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الغدير هو قوله الذي ذكرناه أو قريباً منه، أما القوم فقد ملئُوا كتبهم من أن الله عز وجل قد حذَّر نبيه من كتمان أمر الوصية، حتى أنزل في ذلك قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67]، فقام خطيباً في الناس في غدير خم، وكان ذلك يوم الثامن عشر من ذي الحجة، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، فأنزل الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
فهذا موجز للقصة، وكما ذكرنا أنه لم يصح من قصتنا هذه إلا ما أثبتناه، أما الشطر الثاني من الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: وانصر من نصره، واخذل من خذله... فقد اضطربت طرق هذه الزيادة، ولا ينبغي لها أن تصح لمخالفتها الواقع، فإن الله عز وجل قد نصر من خذله -بزعم القوم- وخذل من نصره، فضلاً عن أن فيه عدم استجابة الله عز وجل لدعائه صلى الله عليه وسلم على افتراضه، ولا يهمنا الكلام في أسانيد هذه الزيادة؛ فليس فيها ما يستوجب ذلك، ولكن الذي يهمنا هنا -وقبل الكلام في وجه الدلالة فيه- هو بيان أنه لم يصح في قصة الغدير نزول شيء من كتاب الله، رغم استماتة القوم في إثبات ذلك، وإليك البيان:(2/5)
الرواية الأولى: أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس بغدير خم.. فذكر القصة، ثم قال: فلم ينزل حتى نزلت هذه الآية: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي، وبولاية علي من بعدي(1).
أقول: تطرقنا إلى هذا السند عند كلامنا على الرواية الأولى للدليل الأول في هذا الباب، وهو الاستدلال بحديث يوم الدار، فراجعه إن شئت.
الرواية الثانية: الصفار: حدثنا أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي النعمان، عن محمد بن مروان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر في قوله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، قال: هي الولاية(2).
أقول: أحمد بن محمد هو أحد أشخاص، فإن كان البرقي فهو وإن كان ثقة في نفسه إلا أنه يروي عن الضعفاء واعتمد المراسيل، وله كتاب في تحريف القرآن احتج به صاحب فصل الخطاب، وذكر ابن الغضائري طعن القميين فيه وإبعاده عن قم، وإن لم يوافقه أضرابه في ذلك بحجة أن الطعن إنما هو في من يروي عنه، وأن من أبعده أعاده إليه واعتذر إليه(3).
وإن كان السياري فهو متروك الرواية عند كل من ترجم له لفساد مذهبه وغلوه(4).
__________
(1) سليم بن قيس: (152)، البحار: (37/195).
(2) بصائر الدرجات: (151)، الميزان: (6/54)، البحار: (24/386).
(3) انظرلذلك: معجم الخوئي: (2/260)، النجاشي: (1/204)، الفهرست: (48)، رجال الحلي: (14)، جامع الرواة: (1/63)، مجمع الرجال: (1/138).
(4) معجم الخوئي: (2/282)، النجاشي: (1/211)، الفهرست: (51)، مجمع الرجال: (1/149)، جامع الرواة: (1/67)، الكشي ترجمة (502).(2/6)
وإن كان الأشعري فعلى ما ورد في توثيقه، إلا أن الكليني أورد ما يدل على ذمه(1).
وإن كان ابن أبي النصر البزنطي فهو الذي روى فيه القوم أن الرضا دفع إليه بمصحف، وقال له: لا تنظر فيه، وقرأت فيه: ((لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا)) [البينة:1]، فوجدت فيها سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، قال: فبعث إلي: ابعث إلي بالمصحف(2). ففيه القول بتحريف القرآن وعدم طاعته لإمامه، وحسبُه إحداهما.
وإن كان ابن إسماعيل فهو مجهول(3).
وإن كان ابن عمرو بن عبد العزيز فلم أجد له ترجمة.
هؤلاء شيوخ الصفار الذين تبدأ أسماؤهم بأحمد بن محمد كما ذكر ذلك محقق البصائر.
أما الصفار فحسبك إحالتنا لك لما أوردناه في الباب الأول عند ذكرنا لمنزلة الإمامة، فاقرأ ما ذكرناه عن أبواب بصائره، ثم احكم على الرجل بنفسك.
أما ابن مروان فمجهول.
الرواية الثالثة: القمي: حدثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر، قال: آخر فريضة أنزلها الله الولاية، ثم لم ينزل بعدها فريضة، ثم أنزل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] بكراع الغميم(4).
أقول: مرَّ الكلام عن تفسير القمي، والعلاء لم يصرح أحد بوثاقته، وتوثيق الخوئي له إنما لوروده في إسناد كامل الزيارات(5)، وقد مرَّ الكلام في بيان فساد ذلك.
__________
(1) الكافي: (1/324).
(2) الكافي: (2/631)، فصل الخطاب: (349)، مرآة الأنوار: (37)، الكشي: (492)، البحار: (92/54)، الصافي: (1/41)، البصائر: (246)، معجم الخوئي: (2/234)، مجمع الرجال:(1/158).
(3) معجم الخوئي: (2/250).
(4) تفسير القمي: (2/176)، نور الثقلين: (1/588)، مجمع البيان: (3/246)، الميزان: (5/200)، البرهان: (1/434)(كراع الغميم: وادي بينه وبين المدينة نحو ثلاثين ميلاً).
(5) معجم الخوئي: (5/184).(2/7)
الرواية الرابعة: القمي: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، عن أبي عبدالله قال: لما أمر الله نبيه أن ينصب أمير المؤمنين للناس في قوله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي، بغدير خم، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر، وحثوا التراب على رؤوسهم، فقال لهم إبليس: مالكم؟ فقالوا: إن هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة.
فقال لهم إبليس: كلا، إن الذين حوله قد وعدوني فيه عدة لن يخلفوني، فأنزل الله تعالى على رسوله: ((وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ)) [سبأ:20] (1).
أقول: ذكرنا الكلام في القمي وتفسيره، وهذه الرواية أحد نماذج التحريف الذي ملأ به تفسيره، حيث ذكر اسم علي رضي الله عنه في الآية، وأضيف أن القمي في تفسير قول الله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:110]، قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، قال: قرئت عند أبي عبدالله: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:110]، فقال أبو عبدالله: [خير أمة] يقتلون الحسن والحسين؟ فقال القارئ: جعلت فداك، كيف نزلت؟ قال: نزلت: [كنتم خير أئمة أخرجت للناس]، ألا ترى مدح الله لهم: ((تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110].
فإسناد هذه الرواية المنكرة التي تثبت تحريف القرآن هو نفس إسناد الرواية التي تذكر خبر الغدير، فإما أن نصدق هؤلاء الرواة في كل ما يروونه، أو أن نرد كل ما يروونه.
__________
(1) تفسير القمي: (2/176)، البحار: (37/119)، إثبات الهداة: (2/142)، نور الثقلين:(1/658).(2/8)
الرواية الخامسة: فرات: جعفر بن محمد الأزدي، عن محمد بن الحسين الصائغ، عن الحسن بن علي الصيرفي، عن محمد البزار، عن فرات بن أحنف، عن أبي عبدالله، قال: قلت له: جعلت فداك، للمسلمين عيد أفضل من الفطر والأضحى ويوم الجمعة ويوم عرفة؟ قال: نعم، أفضلها وأعظمها وأشرفها عند الله منزلة، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأنزل على نبيه محمد: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3].. فذكر قصة الولاية(1).
الرواية السادسة: فرات: الحسين بن سعيد معنعناً، عن إبراهيم بن محمد بن إسحاق العطار وكان من أصحاب جعفر، قال: سمعته يقول في قول الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3] قال: في علي(2).
الرواية السابعة: فرات: معنعناً عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]. فذكر القصة(3).
الرواية الثامنة: فرات: الحسين بن الحكم، قال: حدثنا سعيد بن عثمان، عن أبي مريم، عن عبدالله بن عطاء، قال: كنت جالساً مع أبي جعفر، فقال: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل للناس: من كنت مولاه فعلي مولاه، فلم يبلغ بذلك وخاف الناس، فأوحي إليه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]. فذكر القصة(4).
__________
(1) فرات: (1/118)، البحار: (37/169).
(2) فرات: (1/117)، البحار: (37/170).
(3) فرات: (1/130)، البحار: (37/170)، إثبات الهداة: (2/164).
(4) فرات: (1/130)، البحار: (37/170)، إثبات الهداة: (2/164).(2/9)
الرواية التاسعة: فرات: جعفر بن أحمد معنعناً، عن عبدالله بن عطاء، قال: كنت جالساً عند أبي جعفر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن سلام جالس في صحن المسجد، قال: جعلت فداك، هذا الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا، ولكنه صاحبكم علي بن أبي طالب، أنزل فيه: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55]، ونزل فيه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]. فذكر القصة(1).
الرواية العاشرة: فرات: الحسين بن سعيد معنعناً، عن جعفر: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3] قال: بعلي بن أبي طالب(2).
الرواية الحادية عشرة: فرات: جعفر بن أحمد بن يوسف معنعناً، عن أبي جعفر في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]. فذكر القصة(3).
__________
(1) فرات: (1/123)، البحار: (37/171).
(2) فرات: (1/117)، البحار: (37/171).
(3) فرات: (1/130)، البحار: (37/171).(2/10)
الرواية الثانية عشرة: فرات: حدثني إسحاق بن محمد بن القاسم بن صالح بن خالد الهاشمي، قال: حدثنا أبو بكر الرازي محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن نبهان بن عاصم بن زيد بن ظريف مولى علي بن أبي طالب، قال: حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن أبي مريم، عن يونس بن حسان، عن عطية، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: كنت والله جالساً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نزل بنا غدير خم، وقد غص المجلس بالمهاجرين والأنصار، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدميه، فقال: أيها الناس، إن الله أمرني بأمر، فقال: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67]، فذكر القصة(1).
الرواية الثالثة عشرة: فرات: حدثنا الحسين بن الحكم الحبري، قال: حدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنه قال في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، نزلت في علي... فذكر القصة(2).
الرواية الرابعة عشرة: فرات: حدثني الحسين بن سعيد، قال: حدثنا علي بن حفص العوسي، قال: حدثنا يقطين الجواليقي، عن جعفر، عن أبيه في قوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ)) [المائدة:3]، قال: نزلت في علي بن أبي طالب خاصة دون الناس(3).
الرواية الخامسة عشرة: فرات: حدثني جعفر بن محمد الفزاري معنعناً، عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر يقول حين أنزل الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، قال: فكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب(4).
__________
(1) فرات: (2/516)، البحار: (37/193).
(2) فرات: (1/131).
(3) فرات: (1/119)، البحار: (36/129).
(4) فرات: (1/119)، البحار: (36/131).(2/11)
الرواية السادسة عشرة: فرات: حدثني علي بن أحمد بن خلف الشيباني، قال: حدثنا عبدالله بن علي بن المتوكل الفلسطيني، عن بشر بن غياث، عن سليمان بن عمرو العامري، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة أيام الموسم إذ التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي، فقال: هنيئاً لك وطوبى لك يا أبا الحسن، إن الله قد أنزل عليَّ آية محكمة غير متشابهة، ذكري وإياك فيها سواء، فقال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3] (1).
الرواية السابعة عشرة: فرات: حدثني عبيد بن عبدالواحد معنعناً، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينا نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات إذ قال: أفيكم علي بن أبي طالب؟ قلنا: بلى يا رسول الله، فقربه منه وضرب بيده على منكبه، ثم قال: طوبى لك يا علي، نزلت علي آية ذكري وإياك فيها سواء، فقال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، فقال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية: اليوم أكملت لكم دينكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأتممت عليكم نعمتي بعلي، ورضيت لكم الإسلام ديناً بعرفات(2).
الرواية الثامنة عشرة: فرات: حدثنا علي بن محمد بن مخلد الجعفي معنعناً، عن طاوس، عن أبيه، قال: سمعت محمد بن علي يقول: نزل جبرئيل عليه السلام على النبي بعرفات يوم الجمعة، فقال: يا محمد، الله يقرئك السلام، ويقول: قل لأمتك: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بولاية علي بن أبي طالب(3).
__________
(1) فرات: (1/119)، البحار: (36/133).
(2) فرات: (1/120)، البحار: (7/236)(36/133).
(3) فرات: (2/497)، البحار: (37/173).(2/12)
أقول: الروايات السابقة كلها من تفسير فرات بن إبراهيم، وقد أسهبنا الكلام فيه وفي تفسيره عند ردنا على الاستدلال الأول، حيث ذكرنا فيه قول بعض مشايخ الإمامية بأنه لم يتعرض الأصحاب له بمدح أو قدح، وأن التاريخ لم يذكر من حياته شيئاً، ولم تفرد له الكتب الرجالية ترجمة لا بقليل ولا كثير، ولم تذكره حتى في أثناء التراجم، وكذا أبوه وجده إلا ما تردد في أسانيد بعض الكتب كالتفسير نفسه، وشواهد التنزيل، وكتب الشيخ الصدوق، والمجموعة التفسيرية المعروفة بتفسير القمي، وفضل زيارة الحسين لابن الشجري، وأما كنيته فلم تذكر إلا في [فضل زيارة الحسين] لابن الشجري الكوفي،
ولو أن هذه الكتب الآنفة الذكر لم تذكر فراتاً في ثنايا أسانيدها لأمكن التشكيك في وجود شخص بهذا الاسم، والقول بأن هذا الاسم مستعار كما اعترف القوم بذلك، وأنه ربما كان من الناحية الفكرية والعقائدية زيدياً، وتفسيره برواية أبي الخير مقداد بن علي الحجازي المدني، عن أبي القاسم عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن العلوي الحسني أو الحسيني، عن فرات كما نلاحظ ذلك في بداية الكتاب ونهايته، والكتاب محذوف الأسانيد، وأكثر الرواة فيه غير مترجمين في الأصول الرجالية، كحال راوي التفسير عن فرات.(2/13)
أما أحوال رجال أسانيد الروايات السابقة، فالأزدي مجهول(1)، والصائغ قال فيه النجاشي: ضعيف جداً، وقيل: غالٍ، وكذا قال كل من ترجم له(2)، والصيرفي مجهول(3)، وكذا حال كل من البزار(4)، وسعيد بن عثمان(5)، وابن عطاء(6)، وعلي بن حفص(7)، وطاوس وأبيه(8)، وأما الحسين بن سعيد فكما ذكرنا ليس الأهوازي الثقة، وابن أحنف يرمى بالغلو والتفريط بالقول والكذب ولا يُرتَفع به ولا بذكره(9)، والعطار، وابن الحكم، وسعيد بن عثمان، وإسحاق بن محمد الهاشمي، ويونس بن حسان، والشهابي، والفلسطيني، وابن غياث، والعامري، وابن مخلد لم أجد لهم ترجمة، وأبومريم، وسلمة، وحسن، والكلبي، وأبوالجارود بين متروك الحديث ومختلف فيه.
الرواية التاسعة عشرة: الصدوق: حدثنا الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، قال: حدثنا فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، قال: حدثنا محمد بن ظهير، قال: حدثنا عبدالله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق، عن آبائه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي، وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علماً لأمتي، يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً... الرواية(10).
__________
(1) معجم الخوئي: (4/123).
(2) معجم الخوئي: (16/8)، النجاشي: (2/224)، رجال ابن داود: (272)، رجال الحلي: (255)، مجمع الرجال: (5/197).
(3) معجم الخوئي: (5/66).
(4) معجم الخوئي: (14/215).
(5) معجم الخوئي: (8/125).
(6) معجم الخوئي: (10/254).
(7) معجم الخوئي: (11/380).
(8) معجم الخوئي: (9/154).
(9) معجم الخوئي: (13/253)، الطوسي: (99)، الكشي: ترجمة (57)، رجال الحلي: (247) = = مجمع الرجال: (5/13).
(10) أمالي الصدوق: (109)، البحار: (37/109)، نور الثقلين: (1/589).(2/14)
أقول: الهاشمي مرَّ الكلام عنه وكذا فرات، وابن ظهير مجهول الحال(1).
الرواية العشرون: الصدوق: حدثني أبي، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن أبيه، عن خلف بن حماد الأسدي، عن أبي الحسن العبدي، عن سليمان الأعمش، عن عباية بن ربعي، عن عبدالله بن عباس، قال:..ثم ذكر حديثاً طويلاً فيه أن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج بأن ينصب علياً وزيراً، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يحدث الناس بشيء كراهية أن يتهموه؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بجاهلية، حتى مضى لذلك ستة أيام، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)) [هود:12]، فاحتمل رسول الله ذلك حتى كان يوم الثامن، فأنزل: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهديد بعد وعيد، لأمضين أمر الله عز وجل، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجبة في الدنيا والآخرة، فكان ما كان من قصة الغدير، فأنزل تبارك تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].. الرواية(2).
__________
(1) معجم الخوئي: (16/195)، الطوسي: (292).
(2) أمالي الصدوق: (290)، البحار: (37/109)(59/248)(18/338)، المحتضر: (148)، نور الثقلين:(1/654)، البرهان: (2/211)، تأويل الآيات:(1/157)، إثبات الهداة:(2/61).(2/15)
أقول: مرَّ الكلام على أكثر رجال هذا السند، ووالد البرقي مختلف فيه(1)، والعبدي مجهول(2).
الرواية الحادية والعشرون: الصدوق: حدثنا أبوالعباس محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو أحمد القاسم بن محمد بن علي الهاروني، قال: حدثني أبوحامد عمران بن موسى بن إبراهيم، عن الحسن بن القاسم الرقام، قال: حدثني القاسم بن مسلم، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا.. وذكر حديثاً طويلاً فيه: وأنزل في حجة الوداع وفي آخر عمره صلى الله عليه وسلم: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، وأمر الإمامة في تمام الدين(3).
أقول: أما الطالقاني فقد عرفت حاله، وبقية رجال السند لم يترجم لهم أحد، عدا عبدالعزيز بن مسلم وهو مجهول الحال(4).
الرواية الثانية والعشرون: الصدوق: أبي رضي الله عنه قال: حدثنا سعد بن عبدالله، قال: حدثني أحمد بن الحسين بن سعيد، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم وأحمد بن زكريا، عن محمد بن نعيم، عن يزداد بن إبراهيم، عمن حدثه من أصحابنا، عن أبي عبدالله، عن علي قال في حديث طويل في آخره: وإن بولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينهم، وأتم عليهم النعم، ورضي إسلامهم، إذ يقول يوم الولاية لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، أخبرهم أني أكملت لهم اليوم دينهم، ورضيت لهم الإسلام ديناً، وأتممت عليهم نعمتي، كل ذلك مَنَّ الله به علي فله الحمد(5).
__________
(1) معجم الخوئي: (16/64)، النجاشي: (2/220)، تنقيح المقال: (3/112)، مجمع الرجال: (5/205)، جامع الرواة: (2/110).
(2) معجم الخوئي: (21/117).
(3) عيون الأخبار: (1/195)، نور الثقلين: (1/589)، الميزان: (5/200).
(4) معجم الخوئي: (10/35)، رجال الطوسي: (383).
(5) الخصال: (414)، نور الثقلين: (1/590).(2/16)
أقول: أحمد بن الحسين بن سعيد هو ابن مهران الأهوازي، ضعفوه وقالوا: هو غالٍ وحديثه يعرف وينكر، ولا يعمل برواياته(1)، وأحمد بن زكريا مجهول، وكل من كان بهذا الاسم مجهول(2)، وكذا حال ابن نعيم، ويزداد هذا لا يعرف من هو، وكذا عمن حدثه.
الرواية الثالثة والعشرون: الصدوق: حدثنا علي بن أحمد بن عبدالله البرقي، عن أبيه عن محمد بن خالد البرقي، قال: حدثنا سهل بن مرزبان الفارسي، قال: حدثنا محمد بن منصور، عن عبدالله بن جعفر، عن محمد بن الفيض بن المختار، عن أبيه، عن الباقر، عن أبيه، عن جده، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديثٍ طويل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولقد أنزل الله عز وجل إليَّ: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، يعني: في ولايتك يا علي، ((وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67]، ولو لم أبلغ ما أمرت به من ولايتك لحبط عملي(3).
أقول: علي بن أحمد البرقي مجهول، وأحمد وأبوه مرَّ الكلام فيهما، والفارسي لم أجد له ترجمة، فإن كان سهل بن بحر الفارسي -ولا أظنه- فهو مجهول(4)، وابن الفيض مجهول(5)، وأبوه ورد فيه مايدل على ذمه(6).
__________
(1) معجم الخوئي: (2/93)، النجاشي: (1/207)(2/243)، الفهرست: (46، 175)، رجال الطوسي: (447، 453)، رجال الحلي: (202)، مجمع الرجال: (1/106).
(2) معجم الخوئي: (2/117، 118)، الطوسي: (410).
(3) أمالي الصدوق: (296)، نور الثقلين: (1/654)، البرهان: (1/489)، البحار: (38/105).
(4) معجم الخوئي: (8/333).
(5) معجم الخوئي: (17/124)، الطوسي: (298).
(6) معجم الخوئي: (13/347)، الكشي: (202)، مجمع الرجال: (5/40).(2/17)
الرواية الرابعة والعشرون: الصدوق: حدثنا أبي، ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما، قالا: حدثنا سعد بن عبدالله، قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن عمر بن أذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، قال: رأيت علياً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان، وجماعة يتحدثون ويتذاكرون العلم والفقه، فذكر حديثاً طويلاً فيه ذكر علي لقصة غدير خم ونزول قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، وتكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: الله أكبر بتمام النعمة، وكمال نبوتي، ودين الله عز وجل، وولاية علي بعدي(1).
أقول: مرَّ الكلام في ابن أبي عياش وسليم.
الرواية الخامسة والعشرون: الصدوق، حدثنا الحسن بن محمد بن الحسن السكوني في منزله بالكوفة، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا أبوجعفر بن السري وأبو نصر بن موسى بن أيوب الخلال، قالا: حدثنا علي بن سعيد، قال: حدثنا ضمرة بن شوذب، عن مطر، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهراً وهو يوم غدير خم، لما أخذ رسول الله بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال..، وذكر القصة ونزول آية الإكمال(2).
أقول: السكوني وإن كان من مشايخ الصدوق إلا أنه مجهول الحال(3)، وكذا حال ابن حوشب(4)، ولم أعثر على تراجم بقية رجال السند.
__________
(1) كمال الدين: (260)، إثبات الهداة: (1/508).
(2) أمالي الصدوق: (12)، البحار: (37/108)(97/110).
(3) معجم الخوئي: (5/114).
(4) معجم الخوئي: (9/46).(2/18)
الرواية السادسة والعشرون: الصدوق: الدقاق، عن الكليني، عن علي بن محمد، عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري، أن الحسن بن علي رضي الله عنه قال في حديثٍ طويل: فلما منَّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] (1).
أقول: حسب السند الدقاق علي بن أحمد، لم يرد فيه سوى القول بأنه من مشايخ الصدوق، وقد أوقفناك على القول في هذا.
الرواية السابعة والعشرون: الكليني: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، ومحمد بن الحسين جميعاً، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، قال: سمعت أبا جعفر يقول: فرض الله عز وجل على العباد خمساً، أخذوا أربعاً وتركوا واحداً.. إلى قوله: ثم نزلت الولاية وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة أنزل الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3]، وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب، فقال عند ذلك رسول صلى الله عليه وسلم: أمتي حديثو عهد بالجاهلية، ومتى أخبرهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني، فأتتني عزيمة من الله عز وجل، وأوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني، فنزلت: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [المائدة:67] فذكر القصة(2).
__________
(1) نور الثقلين: (1/590)، البحار: (23/99).
(2) الكافي:(1/290)، نور الثقلين:(1/587، 651)، البرهان: (1/488)، الصافي: (1/52)، إثبات الهداة: (1/443).(2/19)
أقول: أحمد بن محمد بن عيسى ذكر الكليني رواية -في سندها مقال- ما يفيد ذمه وأنه كان شديد التعصب في العروبة(1)، أما منصور فقد ذكر الكشي والصدوق ما يدل على ذمه، وقد ذكرنا ذلك في الباب الأول(2)، وأبوالجارود تكلمنا فيه فيما مضى.
الرواية الثامنة والعشرون: الكليني: الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن محمد بن جمهور، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن منصور بن يونس، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر مثله(3).
أقول: السند هذا كسابقه، ومعلى بن محمد مضطرب الحديث والمذهب، وقد مر ذكره، وابن جمهور قال فيه القوم: ضعيف في الحديث، فاسد المذهب، وقيل: فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها، غال له أشعار يحلل فيها محرمات الله عز وجل، رغم كل هذا وثقه الخوئي، وكذا فعل مع معلى بن محمد فقط لورودهما في إسناد كامل الزيارات(4)، وعلى أي حال فقد تكلمنا في ذلك.
__________
(1) الكافي: (1/324)، إثبات الهداة: (1/443).
(2) معجم الخوئي:(15/177)، النجاشي: (2/225)، الفهرست: (176)، مجمع الرجال:(5/184).
(3) الكافي: (1/324)، معجم الخوئي: (2/299).
(4) معجم الخوئي: (18/355)، الكشي: ترجمة (338)، مجمع الرجال: (6/145)، جامع الرواة: = = (2/268).(2/20)
الرواية التاسعة والعشرون: الكليني: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعاً، عن أبي جعفر، قال: أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ)) [المائدة:55]، وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي، فأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يفسر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله عز وجل إليه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، فذكر قصة الغدير، ثم قال: وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3] (1)
قلت: رغم ما قد يقال من توثيق سند هذه الرواية، إلا أن في إيرادنا للتالي ما قد يوقفك على طامته:
روى علي بن إبراهيم القمي -أيضاً- في تفسير سورة النساء، فقال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر، قال: [ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك يا علي فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً] هكذا نزلت!!
وروى الكليني في الروضة: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن بريد بن معاوية، قال: تلا أبو جعفر: [أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن خفتم تنازعاً في الأمر فأرجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم].
ثم قال: كيف يأمر بطاعتهم ويرخص في منازعتهم؟ إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: [أطيعوا الله وأطيعوا الرسول].
__________
(1) الكافي: (1/289)، نور الثقلين: (1/587، 646، 652)، وانظر أيضاً: المناقب: (527)، البحار: (37/156)، إثبات الهداة: (2/3).(2/21)
فهاتان روايتان تحكيان وقوع التحريف في القرآن، وكلاهما مروي بنفس إسناد الرواية السابقة، فإما أن يصدق الشيعة جميع هذه الروايات، وإما أن يردوها جميعاً، أما الانتقائية فلا محل لها عند المنصفين.
الرواية الثلاثون: الكليني: محمد بن الحسين وغيره، عن سهل، عن محمد بن عيسى ومحمد بن يحيى ومحمد بن الحسين جميعاً، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر وعبدالكريم بن عمرو، عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبدالله… في حديث طويل يقول فيه: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه السلام، فقال: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [المائدة:67]، فنادى الناس فاجتمعوا.. فذكر القصة(1).
__________
(1) الكافي: (1/293)، نور الثقلين: (1/653)، إثبات الهداة: (2/5).(2/22)
أقول: سهل هذا ضعيف الحديث، غير معتمد عليه، ومتهم بالغلو والكذب(1)، ومحمد بن سنان وإن اختلف فيه إلا أن ابن عقدة والنجاشي والطوسي والمفيد وابن الغضائري ضعفوه، والفضل بن شاذان عده من الكذابين(2)، وعبدالكريم واقفي خبيث كما ذكر الطوسي، وكذا ذكر النجاشي والكشي أنه واقفي أيضاً، ورغم هذا عُدَّ من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام(3)، وابن أبي الديلم ضعيف(4).
الرواية الحادية والثلاثون: الكليني: محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن علي بن عكاية التميمي، عن الحسين بن النضر الفهري، عن أبي عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر، أن أمير المؤمنين خطب الناس بالمدينة، فذكر خطبة الوسيلة وهي طويلة ذكر فيها قصة الغدير، ثم قال: وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3]، فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الرب جل ذكره(5).
__________
(1) معجم الخوئي:(8/337)، النجاشي: (1/417)، جامع الرواة: (1/393)، رجال الحلي:(228)، مجمع الرجال: (3/179)، تنقيح المقال: (2/75)، الفهرست: (110)، الكشي: ترجمة: (623).
(2) معجم الخوئي: (16/160)، النجاشي: (2/208)، تنقيح المقال: (3/135)، الفهرست: (173)، الطوسي: (386)، الكشي: ترجمة (154، 419، 245)، التهذيب: (7/361)، الاستبصار: (3/224)، رجال ابن داود: (273)، مجمع الرجال: (5/222).
(3) الطوسي: (354)، غيبة الطوسي: (42)، مجمع الرجال: (4/101)، جامع الرواة: (1/463)، معجم الخوئي: (10/65)، النجاشي: (2/62).
(4) معجم الخوئي: (9/269)، رجال الحلي: (245)، رجال ابن داود: (255)، جامع الرواة: (1/439).
(5) روضة الكافي: (16)، نور الثقلين: (1/588).(2/23)
أقول: ابن معمر مجهول(1)، وكذا شأن ابن عكاية التميمي(2)، والفهري(3)، والأوزاعي(4).
وأما عمرو بن شمر فضعيف جداً(5)، وجابر بن يزيد مختلف فيه(6).
الرواية الثانية والثلاثون: العياشي، عن جعفر بن محمد الخزاعي، عن أبيه قال: سمعت أبا عبدالله يقول: لما نزل رسول الله عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل عليه السلام، فقال له: يا محمد، إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: قل لأمتك: اليوم أكملت لكم دينكم بولاية علي بن أبي طالب، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً، ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج وهي الخامسة، ولست أقبل هذه الأربعة إلا بها(7).
الرواية الثالثة والثلاثون: العياشي، عن أذينة، قال: سمعت زرارة، عن أبي جعفر: أن الفريضة كانت تنزل ثم تنزل الفريضة الأخرى، فكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3] (8)
__________
(1) معجم الخوئي: (17/29)، الطوسي: (500).
(2) معجم الخوئي: (16/333).
(3) معجم الخوئي: (6/108).
(4) معجم الخوئي: (21/260).
(5) معجم الخوئي: (13/106)(4/18)، النجاشي: (1/314)(2/132)، مجمع الرجال:(4/286)، جامع الرواة: (1/623).
(6) معجم الخوئي: (4/126)، النجاشي: (1/313)، الكشي: ترجمة (78)، مجمع الرجال: (2/7)، جامع الرواة: (1/144).
(7) تفسير العياشي: (1/322)، البرهان: (1/444)، البحار: (37/138).
(8) العياشي: (1/322)، البرهان: (1/444)، البحار: (37/138)، الصافي: (2/10).(2/24)
الرواية الرابعة والثلاثون: العياشي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله، قالا: أمر الله محمداً أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: حامى ابن عمه، وأن تطغوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بولايته يوم غدير خم(1).
الرواية الخامسة والثلاثون: العياشي، عن صفوان بن الجمال، قال: قال أبو عبدالله: لما نزلت هذه الآية بالولاية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدوحات -دوحات غدير خم- فقممن، ثم نادى: الصلاة جامعة، ثم قال: أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم.. فذكر القصة(2).
__________
(1) العياشي: (1/360)، البحار: (37/139، 249)، الميزان: (6/53)، مجمع البيان: (6/344)، البرهان: (1/489)، إثبات الهداة: (2/120)، وفيه عن ابن أبي عمير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله.
(2) العياشي: (1/357)، البحار: (37/138)، البرهان: (1/485)، إثبات الهداة:(2/135).(2/25)
الرواية السادسة والثلاثون: العياشي: عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر، قال: لما نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [المائدة:67]، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً حتى أتى الجحفة، فلم يأخذ بيده فَرَقاً من الناس، فلما نزل الجحفة يوم الغدير في مكان يقال له: مهيعة، فنادى: الصلاة جامعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أولى بكم من أنفسكم؟ … فذكر القصة(1).
الرواية السابعة والثلاثون: العياشي: عن عمر بن يزيد، قال: قال أبو عبدالله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة حاجاً ومعه خمسة آلاف، ورجع من مكة وقد شيعه خمسة آلاف من أهل مكة، فلما انتهى إلى الجحفة نزل جبرئيل بولاية علي وقد كانت نزلت ولايته بمنى، وامتنع رسول الله من القيام بها لمكان الناس، فقال: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67] (2).
__________
(1) العياشي: (1/360)، البحار: (37/139)، الميزان: (6/53)، البرهان: (1/489)، إثبات الهداة: (3/543).
(2) العياشي:(1/361)، البحار: (37/140)، البرهان: (1/489)، إثبات الهداة: (3/544).(2/26)
الرواية الثامنة والثلاثون: العياشي: عن زياد بن المنذر أبي الجارود صاحب الدمدمة الجارودية، قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي بالأبطح وهو يحدث الناس، فذكر حديثاً طويلاً فيه: أن جبرئيل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة والزكاة والصيام والحج.. إلى أن قال: ثم أتاه، فقال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تَدُل أمتك مَنْ وليهم على مثل ما دللتهم عليه في صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب، أمتي حديثو عهد بالجاهلية، فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [المائدة:67] فذكر القصة(1).
الرواية التاسعة والثلاثون: العياشي: عن أبي الجارود، عن أبي جعفر، قال: لما أنزل الله على نبيه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]... فذكر قصة الغدير(2).
الرواية الأربعون: العياشي: عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما، قال: إنه لما نزلت هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55]، شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وخشي أن تكذبه قريش، فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، فقام بذلك يوم غدير خم(3).
__________
(1) العياشي:(1/361)، البحار: (37/141)، البرهان: (1/490)، إثبات الهداة: (3/545)، شرح الأخبار: (1/104).
(2) العياشي: (1/362)، البحار: (37/141)، الميزان: (6/54)، البرهان: (1/490).
(3) العياشي:(1/357)، البرهان: (1/483)، إثبات الهداة: (2/135)، البحار: (35/188).(2/27)
أقول: الروايات السابقة كلها من مرويات العياشي الذي ذكرنا أنه كان يروي عن الضعفاء كثيراً، وأن تفسيره هذا محذوف الأسانيد كما ترى، فضلاً عن أنه حوى الكثير من مسائل التحريف والطعن في سلف هذه الأمة والغلو، وغيرها من عقائد فاسدة تماماً كشأن تفسير القمي، ولا يتسع المقام هنا لبيان ذلك.
وبقية من ذكروا في الأسانيد بين مجاهيل ومتروكين، فالخزاعي مجهول(1) كحال أبيه، وزرارة مختلف فيه كما مر، وابن سدير واقفي(2)، وأبوه وردت في ذمه روايات(3)، وابن يزيد مختلف فيه(4)، وابن صالح ضعيف كذاب يضع الحديث(5)، أما عن بعض أصحابه فلا يدرى من هم.
وعلى أي حال، فإن انقطاع معظم أسانيد الروايات السابقة يفقدها الحجية في مواطن الخلاف كالذي نحن فيه الآن.
الرواية الحادية والأربعون: الطوسي: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضل، قال: حدثنا أبومحمد الفضل بن محمد بن المسيب الشعراني بجرجان، قال: حدثنا هارون بن عمر بن عبدالعزيز بن محمد أبو موسى المجاشعي، قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبدالله، عن علي أمير المؤمنين، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بني الإسلام على خمس خصال، فذكر الصلاة والزكاة والصيام والحج وختم ذلك بالولاية، فأنزل الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] (6).
__________
(1) معجم الخوئي: (4/126).
(2) معجم الخوئي: (6/300)، الكشي: ترجمة (429)، الطوسي: (346).
(3) معجم الخوئي: (8/34)، روضة الكافي: (272)، مجمع الرجال: (3/97)، جامع الرواة: (1/350).
(4) معجم الخوئي: (13/62).
(5) معجم الخوئي: (18/286)، مجمع الرجال: (6/122)، جامع الرواة: (2/256).
(6) أمالي الطوسي: (529)، الميزان: (5/200)، البرهان: (1/435)، البحار: (68/379).(2/28)
أقول: أبو المفضل مرَّ الكلام عنه، والشعراني لم أجد له ترجمة، والمجاشعي مجهول(1)، ومحمد بن جعفر وإن كان ابن الصادق إلا أنه وردت في ذمه روايات(2).
الرواية الثانية والأربعون: الطوسي: أخبرنا أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان، قال: أخبرنا أبوالحسن أحمد بن محمد بن الوليد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن المفضل بن عمر، عن الصادق قال: قال أمير المؤمنين: بولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينهم، وأتم عليهم النعم، ورضي لهم إسلامهم، إذ يقول يوم الولاية لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، أخبرهم أني أكملت لهم اليوم دينهم، وأتممت عليهم النعم، ورضيت لهم إسلامهم، كل ذلك مَنَّ الله به علي فله الحمد(3).
أقول: أبوالحسن بن الوليد مجهول الحال رغم توثيق البعض له دون مستند، حتى قال الخوئي في ذلك: لا يمكننا الحكم بوثاقته، ثم فنَّد أقوال القائلين بتوثيقه.. إلى أن خلص إلى القول: إنه لم تثبت وثاقة الرجل بوجه(4).
وقد التبس أمر صاحبنا أبي الحسن على مصنف كتاب معلم الشيعة الشيخ المفيد، فأورد في ترجمة شيوخه قول صاحب الكنى والألقاب في أبيه أبي جعفر محمد بن الحسن ابن الوليد من أنه شيخ القميين وفقيههم ومتقدمهم ووجههم ثقة ثقة عين مسكون إليه(5).
__________
(1) معجم الخوئي: (19/228).
(2) معجم الخوئي:(15/161)، عيون الأخبار: (1/51، 72)(2/221، 224)، كمال الدين:(293)، كشف الغمة: (3/23).
(3) أمالي الطوسي: (208)، البرهان: (1/435).
(4) معجم الخوئي: (2/256).
(5) معلم الشيعة: (49).(2/29)
أما بقية رجال السند فقد تكلمنا فيهم، والمفضل بن عمر قيل فيه: فاسد المذهب، مضطرب الرواية، لايُعبأ به، ضعيف، متهافت، مرتفع القول، لا يجوز أن يكتب حديثه، بل كفر ولعن على لسان أبي عبدالله ودعا إلى لعنه والبراءة منه(1).
الرواية الثالثة والأربعون: الطوسي: أخبرنا الحسين بن عبيدالله، عن علي بن محمد العلوي، قال: حدثنا الحسن بن العلي بن الصالح بن الصالح بن شعيب الجوهري، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن محمد بن محمد، عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه قال: حدثنا الحسن بن علي رضي الله عنه قال في حديثٍ طويل: إن الله لما منَّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3] الآية(2).
أقول: العلوي مجهول(3)، وكذا الجوهري(4)، وأما النيسابوري فإنما هو من أصحاب العسكري(5)، ولا أعرف وجهاً لروايته هنا عن الصادق، ولعل في السند انقطاعاً.
وعلي أي حال، كتاب الأمالي نفسه -الذي نقلنا منه الروايات السابقة- فيه كلام ونظر عند القوم أنفسهم(6).
__________
(1) انظر تفصيل ذلك: معجم الخوئي: (18/292-303)، النجاشي: (2/359)، الكشي: ترجمة (154)، تنقيح المقال: (3/238)، مجمع الرجال: (6/123)، جامع الرواة: (2/258)، رجال الحلي: (258).
(2) أمالي الطوسي: (654)، البرهان: (1/435).
(3) معجم الخوئي: (12/172).
(4) معجم الخوئي: (5/39).
(5) معجم الخوئي: (3/37)، الطوسي: (428)، الكشي: ترجمة: (470)، مجمع الرجال: == (1/54، 185)، جامع الرواة: (1/80).
(6) انظرمقدمة كتاب الأمالي: (42)، الذريعة: (2/313)، البحار: (1/27).(2/30)
الرواية الرابعة والأربعون: الطوسي: الحسين بن الحسن الحسيني، قال: حدثنا محمد بن موسى الهمداني، قال: حدثنا علي بن حسان الواسطي، قال: حدثنا علي بن الحسين العبدي، قال: سمعت أبا عبدالله الصادق يقول: …فذكر حديثاً طويلاً في فضائل يوم غدير خم، وفيه: وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك، وأشهد أن علياً صلوات الله عليه أمير المؤمنين ووليهم ومولاهم، ربنا إننا سمعنا بالنداء وصدقنا المنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نادى بنداء عنك بالذي أمرته به أن يبلغ ما أنزلت إليه من ولاية ولي أمرك، فحذرته وأنذرته إن لم يبلغ أن تسخط عليه.. إلى أن قال: وإن الإقرار بولايته تمام توحيدك والإخلاص بوحدانيتك وكمال دينك وتمام نعمتك وفضلك على جميع خلقك وبريتك، فإنك قلت وقولك الحق: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] (1).
آفة الرواية هذه الهمداني، فقد قيل فيه: إنه غال، وكان يضع الحديث، وإنه ضعيف، يروي عن الضعفاء، بل قال الصدوق في سند روايتنا هذه: فإن شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصححه، ويقول: إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني وكان غير ثقة، وفي نسخة: كذاباً(2)، والعبدي مجهول(3)، والحسين بن الحسن الحسيني مجهول، وفي الرواية انقطاع كبير، إذ إن الطوسي يروي الرواية عن جعفر الصادق بأربع وسائط، رغم أن بين وفاتيهما حوالي (300) سنة!!
__________
(1) تهذيب الأحكام: (3/143)، نور الثقلين: (1/589، 653)، إثبات الهداة: (2/24).
(2) معجم الخوئي: (17/282)، من لا يحضره الفقيه: (2/55).
(3) معجم الخوئي: (11/378).(2/31)
الرواية الخامسة والأربعون: علي بن عبدالله الزيادي، عن جعفر بن محمد الدوريستي، عن أبيه، عن الصدوق، عن أبيه، عن سعيد، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن زرارة قال: سمعت الصادق قال: فذكر أن جبرئيل جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، إن الله تعالى يقرئك السلام، وقرأ هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبرئيل، إن الناس حديثو عهد بالإسلام، فأخشى أن يضطربوا ولا يطيعوا، فعرج جبرئيل عليه السلام إلى مكانه ونزل عليه في اليوم الثاني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بغدير، فقال له: يا محمد، قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67]، فقال له: يا جبرئيل، أخشى من أصحابي أن يخالفوني، فعرج جبرئيل ونزل عليه في اليوم الثالث وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع يقال له: غدير خم، وقال له: يا رسول الله، قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67]، فلما سمع رسول الله هذه المقالة قال للناس: أنيخوا ناقتي، فوالله ما أبرح من هذا المكان حتى أبلغ رسالة ربي.. فذكر بقية قصة الغدير(1).
أقول: الزيادي لم أجد له ترجمة، وكذا الدوريستي الأب، وابن أبي الخطاب الأب مجهول(2)، وابن سنان وزرارة سبق ذكرهما.
__________
(1) جامع الأخبار: (10)، البحار: (37/165).
(2) معجم الخوئي: (5/177)، الكشي: ترجمة: (166).(2/32)
الرواية السادسة والأربعون: الطبرسي، حدثنا أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدثنا أبوالقاسم عبيد الله بن عبدالله الحسكاني، قال أخبرنا أبو عبدالله الشيرازي، قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني، قال: حدثنا أبو أحمد البصري، قال: حدثنا أحمد بن عمار بن خالد، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي، وقال: من كنت مولاه... فذكر الحديث(1).
أقول: مرَّ بيان جهالة وضعف الحماني، وابن الربيع، والعبدي، وبقية رجال السند لم أقف على ذكر أكثرهم.
__________
(1) مجمع البيان: (3/246)، البحار: (37/248)، الميزان: (5/201)، البرهان: (1/435)، إثبات الهداة: (2/119).(2/33)
الرواية السابعة والأربعون: الطبرسي، حدثني السيد العالم العابد أبوجعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي رضي الله عنه، قال: أخبرنا الشيخ أبو علي الحسن بن الشيخ السعيد أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي رضي الله عنه، قال: أخبرني الشيخ السعيد الوالد أبوجعفر قدس الله روحه، قال: أخبرني جماعة، عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري، قال: أخبرنا أبوعلي محمد بن همام، قال: أخبرنا علي السوري، قال: أخبرنا أبومحمد العلوي من ولد الأفطس وكان من عباد الله الصالحين، قال: حدثنا محمد بن موسى الهمداني، قال: حدثنا محمد بن خالد الطيالسي، قال: حدثنا سيف بن عميرة وصالح بن عقبة جميعاً، عن قيس بن سمعان، عن علقمة بن محمد الحضرمي، عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه قال:..ثم ذكر رواية طويلة جداً جاوزت عشر صفحات لحديث لم يتجاوز الكلمات التي مرت بك في مقدمة هذا الاستدلال، والذي يهمنا منها ذكره أن جبرئيل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: إني لم أقبض نبياً من الأنبياء إلا بعد إكمال ديني وحجتي وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي، وذلك إكمال توحيدي وديني، وإتمام نعمتي على خلقي باتباع وليي وطاعته، وذلك أني لا أترك أرضي بغير ولي ولا قيّم ليكون حجة لي على خلقي، فاليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً بولاية وليي.. إلى أن قال: فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا ويرجعوا إلى الجاهلية لما عرف من عدواتهم، ولما تنطوي عليه أنفسهم لعلي من العداوة والبغضاء، وسأل جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس، وانتظر أن يأتيه جبرئيل عليه السلام بالعصمة من الناس عن الله جل اسمه، فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف، فأتاه جبرئيل عليه السلام في مسجد الخيف فأمره بأن يعهد عهده ويقيم علياً علماً للناس يهتدون به، ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله بالذي أراد(2/34)
حتى بلغ كراع الغميم بين مكة والمدينة، فأتاه جبرئيل فأمره بالذي أتاه فيه من قبل ولم يأته بالعصمة، فقال: يا جبرئيل، إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في علي، فرحل فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرئيل على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس، فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يقرئك السلام، ويقول لك: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، وكان أوائلهم قريباً من الجحفة، فأمره أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان؛ ليقيم علياً علماً للناس، ويبلغهم ما أنزل الله في علي... فذكر بقية القصة(1).
أقول: أغنانا محقق الاحتجاج عن دراسة سند روايتنا هذه، حيث ذكر(2) أن فيها من ليس لهم ترجمة كالسوري وابن سمعان، ومجاهيل كالطيالسي والحضرمي، وضعفاء كالهمداني، الذي مر ذكره آنفاً، ولكن فاته أمور:
منها: أنه لم يذكر قول ابن الغضائري وابن داود وغيرهما في صالح بن عقبة من أنه غالٍ كذاب لا يلتفت إليه، وليس حديثه بشيء، وأنه كثير المناكير(3).
ومنها: أن ولد الأفطس ليس هو يحيى المكنى أبا محمد العلوي كما استظهر الخوئي لاختلاف الطبقة(4)، والظاهر أن الرجل مجهول ولا عبرة بتوثيق الطبرسي له.
الرواية الثامنة والأربعون: محمد بن العباس، عن محمد بن القاسم، عن عبيد بن سالم، عن جعفر بن عبدالله المحمدي، عن الحسن بن إسماعيل، عن أبي موسى المشرقاني قال: …وذكر رواية فيها نزول آية التبليغ في شأن الغدير(5).
__________
(1) الاحتجاج: (55)، البحار: (37/201)، نور الثقلين: (1/654)، الميزان: (5/200)، البرهان: (1/443)، الصافي: (1/53).
(2) الاحتجاج: (55)(الحاشية).
(3) معجم الخوئي: (9/78)، مجمع الرجال: (3/206)، رجال ابن داود: (250).
(4) معجم الخوئي: (22/41).
(5) كنز جامع الفوائد: (274)، البحار: (23/362)(36/152)، البرهان: (4/83).(2/35)
أقول: عبيد بن سالم، إن كان العجلي فهو مجهول، ولا توجد ترجمة بهذا الاسم لغيره(1)، والمحمدي لا يعرف من هو على وجه التحديد(2)، والحسن بن الأفطس لم أجد له ترجمة، وكذا المشرقاني.
الرواية التاسعة والأربعون: الحلي، المظفر بن جعفر بن الحسين، عن محمد بن معمر، عن حمدان المعافي، عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده، قال: …فذكر رواية طويلة فيها نزول آية التبليغ في شأن الغدير(3).
أقول: المظفر لم أجد له ترجمة، وابن معمر مجهول(4)، وكذا حال المعافي(5).
وبعد.. فهذه هي جل الروايات التي أوردها القوم في إثبات نزول آيتي التبليغ وإكمال الدين في غدير خم، والتي وقفنا عليها من كتبهم حتى القرن السادس، وقد رأيت أنه لم يصح منها شيء ألبتة، ناهيك عن القول بتواترها بزعم القوم.
وليت شعري! هل يدلنا القوم ولو على رواية واحدة على الأقل صحت في هذا الباب دون أن يَروِي رواتُها المناكيرَ في مواضع أخرى، أو في غير هذا الباب؛ كفضائل يوم الغدير والذي ذكرنا بعضاً منها في مقدمة هذا الاستدلال، وأعرضنا عن بيان تهافت أسانيدها لفسادها البين؟
__________
(1) معجم الخوئي: (11/53)، الطوسي: (240).
(2) معجم الخوئي: (4/76)، جامع الرواة: (1/153).
(3) اليقين: (131)، البحار: (37/325).
(4) معجم الخوئي: (17/30)، الطوسي: (500)، مجمع الرجال: (5/279).
(5) معجم الخوئي: (6/251)، النجاشي: (1/331)، مجمع الرجال: (2/233)، جامع الرواة: (1/278).(2/36)
أو هل يدلنا القوم على رواية مسندة معتبرة لتلك التهويلات المصطنعة والتكلف الواضح كما في بعض الروايات التي وضعوها؛ لتناسب مزاعمهم في شأن القصة من رد من تقدم من القوم وحبس من تأخر، وأنه كان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء.. إلى آخر ما نسجته خيالاتهم، وأن حسان بن ثابت أنشد في ذلك أبياتاً معروفة.. وغيرها من مسائل أوهموا الخلق، أو هكذا ظنوا أنها من المسلمات عند جميع المسلمين بتفاصيلها المزعومة عند القوم، وأن كتب أهل السنة طافحة بذكرها، دون بيان الفرق بين الإيعاز والتخريج كما ذكرنا، ودون بيان أن ما أورده أهل السنة إنما كان على سبيل ذكر كل ما له صلة بالباب الذي يصنفون فيه، وليس بالضرورة اعتقادهم بصحة ما أوردوه فيه، وهذا هو علة إيراد مؤرخي ومحدثي المسلمين قاطبة من شيعة وسنة للروايات بأسانيدها، عملاً بمبدأ أن من أسند فقد برئت ذمته، وإنما على المحقق أن يتبين صحة تلك المرويات بعد دراسة أسانيدها، حتى قيل في ذلك ما أوردناه في مقدمة هذا الباب.
وليت الأميني الذي سَود أو سُود له كل هذه الصفحات من غديره، بيَّن لنا أهمية ذكر الأسانيد التي تشغل عادة لو جمعت مجلداً أو أكثر من أصل مجموع المصنف ذاته.
وليته أخبرنا عن كل تلك المصنفات التي وضعها أضرابه في علم الرجال، حتى جمعها آقابزرك الطهراني فبلغت المئات(1)، لماذا وضعت لو كانت المسألة بِبَساطةِ نَقلِ الأميني وأمثاله للروايات دون بيان صحتها إلا فيما يتعارض مع معتقدهم؟ فتجده وأمثاله ينقلون ما يؤيد معتقدهم بلا زمام ولا خطام من دون بيان صحة أو إثبات، فإذا عارض معتقدهم فهنا تأتي محاولة التمحيص والتنقيب، وهل حملهم على كل ذلك إلا الهوى المحض لا طلب الحق! فالله المستعان.
__________
(1) انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ثم جمعها في كتاب مستقل أسماه: مصفي المقال في مصنفي علم الرجال.(2/37)
وعلى أي حال، فقد أوقفناك على حال روايات القوم فيما زعموه، ورأيت أنه لم يصح منها شيء من طرقهم فكيف بطرق مخالفيهم!
وبينا أن الصحيح الذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق علي رضي الله عنه قوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) وغيره من ألفاظ قريبة كما ذكرنا يشد بعضها بعضاً.
الرد على الاستدلال بما صح من الروايات
إذا عرفت هذا فيكون الكلام فيما صح من أمر الغدير وبيان وجه الاستدلال به، ولكن قبل هذا لا أرى بأساً من تعليق بسيط فيما يتعلق بشأن زعم نزول الآيتين الكريمتين: [التبليغ، وإكمال الدين] في قصة الغدير.
فأقول: إن القوم أثبتوا في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحارسه أصحابه، فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، فترك الحرس حين أخبره تعالى أنه يعصمه من الناس لقوله: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)) [المائدة:67].
وفي رواية: قال لحراس من أصحابه كانوا يحرسونه -منهم: سعد، وحذيفة-: الحقوا بملاحقكم، فإن الله سبحانه عصمني من الناس(1).. وغيرها.
__________
(1) تفسير فرات: (1/131)، البحار: (16/257)(22/249).(2/38)
وهذا تماماً ما أثبته أهل السنة في كتبهم من طرق صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك أن سورة المائدة -التي منها هاتان الآيتان- قد نزلت بالمدينة، إلا آية إكمال الدين، وقد أثبت القوم ذلك في تفاسيرهم(1)، وهو الصحيح، وآية إكمال الدين هذه نزلت يوم عرفات، كما ثبت بالنقل الصحيح، وقد سلَّم القوم بذلك(2).
فتبين عندك أنه لم ينزل يوم الغدير الذي هو يوم الثامن عشر من ذي الحجة شيء من القرآن، وحسب هذا الاستدلال كل هذا الاضطراب.
وهذا أيضاً يجرنا إلى القول بأن ما أنزل الله بشأنه آية إكمال الدين يوم عرفة إنما كان ركن الحج الذي هو آخر أركان الدين.
نعم، نزلت بعض مسائل الحلال والحرام بعدها، وإنما القول هنا بإكمال أركان الإسلام، وهذا يعني أن الغدير وما كان فيه لم يكن من أركان الإسلام، هذا إن كان فيه أصلاً ما يفيد ذلك، وستقف على خلافه.
وكان للقوم في هذا الإشكال -أعني: أن أركان الإسلام اكتملت بركن الحج ونزول آية الإكمال، وهي تفيد الحصر الزمني بذلك اليوم والإكمال بصيغة وقوع الفعل لقوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] أي: أن يوم إكمال الدين إنما كان يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وليس يوم الغدير الذي كان في اليوم الثامن عشر منه.
أقول: وقد كان للقوم في هذا الإشكال اضطرابٌ بيِّنٌ وتكلف واضح في رده:
__________
(1) جوامع الجامع: (1/355)، مجمع البيان: (3/231)، التفسير الكاشف: (3/5)، تفسير الصافي: (2/5)، البرهان: (1/340)، تفسير الميزان: (5/156).
(2) الكافي: (1/199، 290)، نور الثقلين: (1/588، 589، 651)، البحار: (7/236)(36/133) (37/138، 173)(58/368)، فرات: (1/119، 120)، العياشي: (1/322)، البرهان: (1/435 = = 444)، التفسير الكاشف: (3/5، 13)، الميزان: (5/170، 195، 197)، مجمع البيان: (2/231).(2/39)
فمن ذلك: قول أحدهم: إنه من الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3]، وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة، فأخر النبي صلى الله عليه وسلم بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة(1).
وقبله نسبوا إلى الباقر أنه قال في حديث طويل عما فرض الله عز وجل على العباد، ثم نزلت الولاية، وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، أنزل الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) [المائدة:3] وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب... الرواية(2).
فأنت ترى هنا تصريحاً بنزولها يوم عرفة، أي: يوم التاسع من ذي الحجة، فكيف يزعم القوم أنها نزلت يوم الثامن عشر منه، أي: يوم الغدير، وقد رد البعض على هذه الرواية بأن عرفة يحتمل أن تكون هنا بالضم، وهي اسم لثلاثة عشر موضعاً، فلا يبعد أن يكون أحدها قريباً من غدير خم(3)، والقوم معذورون، إذ قد اضطربوا بهذه الروايات.
ثم لا أدري كيف يمكن تلاوة آية تفيد وقوع الإكمال للدين، وفي يوم محدد وهو يوم عرفة في هذا الحشد الهائل ممن كان معه صلى الله عليه وسلم والذي بلغ في رواية تسعين ألفاً.
وفي أخرى: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً.
وأخرى: مائة ألف وعشرون ألفاً.
وأخرى: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وقيل غير ذلك(4).
__________
(1) الميزان: (5/196).
(2) الكافي: (1/290)، نور الثقلين: (1/588، 651)، البحار: (58/368)، البرهان: (1/488)، الصافي: (1/52)، إثبات الهداة: (1/443).
(3) البحار: (58/371).
(4) الغدير: (1/9)، إثبات الوصية: (19)، إثبات الهداة: (2/139).(2/40)
وبعد بيان مناسك الحج الذي هو آخر الأركان، وذكرِ القواعد العامة للإسلام كما جاء في خطبة الوداع باتفاق المسلمين، وقوله صلى الله عليه وسلم: ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ فقال من حضر: نعم، فقال: اللهم اشهد، وأمر بتبليغ الحاضر للغائب، ويكون مما أمر بتبليغه حصل ذلك اليوم.
لا أدري كيف يكون هذا؟ ثم يأتي قائل فيقول: إن أمر الولاية نزل يوم عرفة، فأخر النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك حتى بلغ غدير خم الذي يقع على بعد عشرة فراسخ من المدينة، وعلى أربعة أميال من الجحفة، حيث إن كثيراً من الذين حجوا معه أو أكثرهم لم يكونوا معه يوم الغدير، بل بقي أهل مكة في موطنهم، ورجع أهل الطائف وأهل اليمن وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى مواطنهم، وإنما رجع معه أهل المدينة ومن كان قريباً منها، حيث لم يبق معه يوم الغدير -حسب روايات القوم- سوى اثني عشر ألف رجل، أو عشرة آلاف رجل كما في أخرى، أو ألف وثلاثمائة رجل كما في رواية الباقر(1)، من أصل المائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً الذين كانوا معه يوم عرفة، كما مرَّ بك.
فدل ذلك على أن ما جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه كالذي بلغه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والذي لم يصح فيه ذكر لعلي رضي الله عنه، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: هل بلغت؟ دليل على أن الله عز وجل ضمن له العصمة من الناس إذا بلغ الرسالة، مما يدل على أن نزول آية التبليغ سابقة ليوم عرفة فضلاً عن يوم الغدير، حيث لم يكن خائفاً من أحد يحتاج أن يعتصم منه، بل كل من كان معه مسلمون منقادون له، ليس فيهم كافر، والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق ليس فيهم من يحاربه ولا من يخاف الرسول صلى الله عليه وسلم منه، كما قيل في ذلك.
__________
(1) تفسير العياشي: (1/358، 361)، البحار: (37/139، 140، 158، 165، 193)، جامع الأخبار: (10)، البرهان: (1/485، 489)، إثبات الهداة: (2/139، 170)(3/544)، تفسير فرات: (2/516)، المناقب: (3/26).(2/41)
ومن الطرائف: أن القوم ملئُوا كتبهم من حماس النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ ولاية علي رضي الله عنه إلى قومه قبل ذلك بكثير، خلافاً لمشيئة الله عز وجل كما تروي رواياتهم، وهو الأمر الذي نراه قد انقلب تماماً هنا، فمن هذه الروايات:
ما نسبوه إلى الباقر أنه قال في قوله تعالى: ((وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [الإسراء:110] قال: لا تجهر بولاية علي فهو الصلاة، ولا بما أكرمتك به حتى آمرك، فأما قوله: ((وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)) [الإسراء:110] يقول: تسألني أن آذن لك أن تجهر بأمر علي بولايته، فأذن له بإظهار ذلك يوم غدير خم، فهو قوله يومئذٍ: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه(1).
فأنت ترى أنه صلى الله عليه وسلم بزعم القوم أراد إبلاغ ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل الغدير بأكثر من عشر سنوات، إذا علمنا أن سورة الإسراء التي منها هذه الآية من السور المكية.
بل نراه يوم عرفة غير هائب لقومه في بيان فضائل علي على الملأ، كما يروي القوم أنه صلى الله عليه وسلم قال: إني رسول الله إليكم غير هائب لقومي ولا محاب لقرابتي، هذا جبرئيل يخبرني أن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب علياً في حياتي وبعد موتي(2).
ثم يقولون بتردده حتى يوم الغدير، والغريب أن القوم وهم يقولون بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بالصورة التي ذكرناها لك عند الكلام في آية التطهير، وبالرغم من استماتتهم في رد كل ما ينافي تلك العصمة، نراهم هنا يستميتون في بيان خلاف ذلك، لأنهم يرون أن في ذلك خدمة لمعتقدهم.
__________
(1) العياشي: (2/342)، البرهان: (2/454)، البحار: (36/106، 171)، نور الثقلين: (3/235).
(2) بشارة المصطفى: (182)، البحار: (39/152، 276، 284).(2/42)
فلم نر أحداً منهم رد على هذا الأمر الذي فيه خلاف النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ أمرٍ من أمور الشرع، حتى بدأ الناس ينفضون من حوله ويعودون إلى أوطانهم، حتى لم يبق معه سوى القليل، وكان جبرئيل عليه السلام ينزل المرة تلو الأخرى بالأمر بتبليغ رسالة ربه، والنبي صلى الله عليه وسلم يتردد، حتى استوجب غضب الله عز وجل وتهديده، حتى قال هو صلى الله عليه وسلم كما مرَّ بك بزعم القوم: تهديد بعد وعيد، لأمضين أمر الله عز وجل، فإن يتهموني ويكذبوني فهو أهون علي من أن يعاقبني العقوبة الموجبة في الدنيا والآخرة.
فلم نجد أحداً منهم رد هذا الخلاف البين المنافي للعصمة بل نرى العكس، فقد وضعوا في إثبات ذلك روايات عدة، منها ما هو في غير هذه المناسبة، بل إن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم بزعمهم منذ بدء الدعوة، فمن هذه الروايات:
عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ياعلي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال: فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فَصَمتُّ على ذلك وجاءني جبرئيل عليه السلام، فقال: يا محمد، إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك عز وجل... الرواية(1).
__________
(1) أمالي الطوسي: (20)، تفسير فرات: (1/301)، البحار: (18/191)(38/223).(2/43)
وعن جابر الجعفي قال: قرأت عند أبي جعفر قول الله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128] قال: بلى والله، إن له من الأمر شيئاً وشيئاً وشيئاً، وليس حيث ذهبت، ولكني أخبرك، ثم ذكر أن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار ولاية علي رضي الله عنه، ففكر في عداوة قومه له ومعرفته بهم.. إلى أن قال: ضاق عن ذلك صدره، فأخبر الله أنه ليس له من هذا الأمر شيء(1).
ومنها: أن جبرئيل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بولاية علي، فقال: يا جبرئيل، أخاف مِنْ تشتت قلوب القوم -وفي رواية: وبكى- فقال له جبرئيل عليه السلام: مالك يا محمد أجزعت من أمر الله؟ فقال: كلا يا جبرئيل، ولكن قد علم ربي ما لقيت من قريش إذ لم يقروا لي بالرسالة حتى أمرني بجهادي، وأهبط إلي جنوداً من السماء فنصروني، فكيف يقروا لعلي من بعدي؟ فانصرف عنه جبرئيل، ثم نزل عليه: ((فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)) [هود:12] (2).
وفي أخرى متصلة بالغدير: عن الباقر قال: فلم يبلغ ذلك وخاف الناس.
وفي أخرى: وامتنع رسول الله من القيام بها لمكان الناس(3).
بل وجعلوا ذلك في أدعية يوم الغدير، حيث ذكروا في ذلك عن الصادق في دعاءٍ طويل فيه: أمرته أن يبلغ عنك ما أنزلت إليه من موالاة ولي المؤمنين وحذرته وأنذرته إن لم يبلغ أن تسخط عليه(4).. وهكذا.
__________
(1) العياشي: (1/220)، البرهان: (1/314)، البحار: (17/11، 12)(25/337)، إثبات الهداة: (3/531)، الصافي: (1/296).
(2) تفسير العياشي: (2/103)، البرهان: (2/135)، إثبات الهداة: (3/546).
(3) البحار: (35/282)(37/127، 140، 151، 170)، فرات: (1/131)(2/450)، العياشي: (1/361)(2/103)، البرهان: (1/489)(2/145)، إثبات الهداة: (2/164) (3/544، 546).
(4) البحار: (98/304)، الإقبال: (476).(2/44)
بل وذكروا أن حفيد إبليس كان أحرص على ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رووا أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، وقال: من تكون؟ فقال: أنا الهام بن الهيم بن لاقيس بن إبليس، فقال صلى الله عليه وسلم: بينك وبين إبليس أبوان؟ قال: نعم يا رسول الله، فذكر حديثاً طويلاً فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الهام حاجته؟ فقال: حاجتي أن تأمر أمتك أن لا يخالفوا أمر الوصي(1)، وغيرها.
فكيف يقرون بصدور كل هذا منه صلى الله عليه وسلم من تردد وخشية الناس، وهو الذي نزل عليه قوله تعالى: ((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) [الأحزاب:37] في مسألة من المباحات، بينما نجده هنا في مسألة من أعظم أركان الدين بزعم القوم.
ومن الطرائف: أن من قال من المسلمين بجواز الخطأ على الأنبياء إنما قال ذلك في الجانب البشري لا التشريعي، أو فيما يبلغه صلى الله عليه وسلم عن ربه، خلافاً لمعتقد القوم في العصمة من أن الأنبياء والأئمة معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، وأن ذلك يكون قبل النبوة والإمامة وبعدها، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه، فلا يقع منهم ذنب أصلاً لا عمداً ولا نسياناً ولا خطأ في التأويل ولا إسهاءً من الله سبحانه... إلى آخر ما قالوه في هذا الشأن، وقد مرَّ بك، ولكن تراهم هنا قد تغاضوا عن كل ما بنوه وأسسوه، وجوزوا ذلك عليه، وهذا في الجانب التبليغي، وهذا من عجائب التناقضات عند القوم وما أكثرها!
__________
(1) البحار: (38/54)(63/100)، الروضة: (41)، البصائر: (28).(2/45)
نعود إلى الكلام أيضاً في شأن هذه الآية -أعني: آية التبليغ- فالاستدلال هنا كما ترى وكما ذكرنا إنما هو بالقرآن، والآية عامة في كل ما نزل، وليس فيها ذكر لشيء معين، وما ذهب إليه القوم هو الاستدلال بالخبر لا بالقرآن لخلوه من ذكر علي رضي الله عنه.
وعندما تفطن بعضهم إلى هذا -مع يقينهم بعدم صحة كل ما أوردوه في إثبات نزول الآية في هذا المقام كما مر بك- ذهب إلى القول بأن اسم علي رضي الله عنه كان من ضمن ألفاظ الآية إلا أنه حذف.
ومن ذلك: قول القمي صاحب التفسير في مقدمته: وأما ما هو محرف، فمنه قوله: [يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي وإن لم تفعل فما بلغت رسالته](1).
ومنها: ما رووه عن زر، عن أبي عبدالله قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسول بلع ما أنزل إليك من ربك أن علياً مولى المؤمنين، فإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس(2).
ومنها: عن عيسى بن عبدالله، عن أبيه، عن جده في قوله: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي، وإن لم تفعل عذبتك عذاباً أليما، فطرح عدوي -أي: عمر- اسم علي(3). وغيرها(4).
فليس هناك أدل من هذا على تهافت هذا الاستدلال.
__________
(1) تفسير القمي: (1/23)، البرهان: (1/34).
(2) كشف الغمة: (1/326)، البرهان: (1/491)، البحار: (37/178).
(3) البحار: (35/58).
(4) للمزيد انظر: الصافي: (2/51)، نور الثقلين: (1/653)، الاحتجاج: (57)، البحار: (37/137، 201)، فصل الخطاب: (281)، محجة العلماء: (130).(2/46)
إلى هنا تبين لنا بالدلائل القاطعة فساد كل ما قيل في شأن الغدير من نزول آيات من القرآن، ومن تردد النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ ما أمر به، ومن كون ذلك منذ يوم عرفة، ومن روايات مصطنعة بتكلف بَيّن، مثل رَدِّ مَنْ تقدم من القوم وحبس من تأخر، وأنه كان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء.. إلى آخر ما وضعوه في ذلك، حتى خلصنا إلى بيان أن ما كان من شأن غدير خم ليس سوى قوله صلى الله عليه وسلم: (من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) ولكن ما الذي استوجب قوله صلى الله عليه وسلم لهذا في حق علي رضي الله عنه؟
لا جدال في أن علياً رضي الله عنه كان في اليمن عند خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع، وأنه رضي الله عنه لحق به وحج معه(1)، وهناك في اليمن حصلت أمور بينه وبين أصحابه توضحها روايات عدة:
منها: ما رواه عمرو بن شاس الأسلمي: أنه كان مع علي بن أبي طالب في اليمن، فجفاه بعض الجفاة فوجد عليه في نفسه، فلما قدم المدينة اشتكاه عند من لقيه، فأقبل يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، فنظر إليه حتى جلس إليه، فقال: يا عمرو بن شاس، لقد آذيتني، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أعوذ بالله وبالإسلام أن أؤذي رسول الله، فقال: من آذى علياً فقد آذاني(2).
__________
(1) الإرشاد: (89)، إعلام الورى: (137)، الكافي: (2/233)، أمالي الطوسي: (252)، البحار: (21/373، 383، 384، 389، 391، 396).
(2) إعلام الورى: (137)، البحار: (21/360).(2/47)
وعن الباقر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى اليمن، فذكر قضاءه في مسألة فيها أن علياً رضي الله عنه قد أبطل دم رجل مقتول، فجاء أولياؤه من اليمن إلى النبي يشكون علياً فيما حكم عليهم، فقالوا: إن علياً ظلمنا وأبطل دم صاحبنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن علياً ليس بظلام(1).
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد التوجه إلى الحج كاتب علياً رضي الله عنه بالتوجه إلى الحج من اليمن، فخرج بمن معه من العسكر الذي صحبه إلى اليمن ومعه الحلل التي كان أخذها من أهل نجران، فلما قارب مكة خلف على الجيش رجلاً، فأدرك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمره بالعودة إلى جيشه، فلما لقيهم وجدهم قد لبسوا الحلل التي كانت معهم، فأنكر ذلك عليهم، وانتزعها منهم، فاضطغنوا لذلك عليه، فلما دخلوا مكة كثرت شكايتهم من أمير المؤمنين رضي الله عنه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى في الناس: ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب؛ فإنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه(2).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمشى في السرية وأصاب جارية، فأنكروا ذلك عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله، فقالوا: إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بما صنع علي.. فذكر شكوى الأربعة وإعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) (3).
وهكذا بدأت تتضح الصورة.
__________
(1) البحار: (21/362)(38/101) (40/316) (104/389، 400)، أمالي الصدوق: (348)، الكافي: (7/372).
(2) الإرشاد: (89)، إعلام الورى: (138)، البحار: (21/383)، المناقب: (2/110).
(3) البحار: (37/320)(38/149).(2/48)
وعن بريدة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فلما قدمنا قال: كيف رأيتم صحابة صاحبكم؟ قال: فإما شكوته أو شكاه غيري، قال: فرفعت رأسي وكنت رجلاً مكباباً، قال: فإذا النبي قد احمر وجهه وهو يقول: من كنت وليه فعلي وليه(1).
وفي رواية عنه أيضاً رضي الله عنه قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: فمن كنت مولاه فعلي مولاه(2).
وفي أخرى: أن رجلاً كان باليمن فجفاه علي بن أبي طالب، فقال: لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن علي فشنا عليه، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل علي الكتاب واختصني بالرسالة عن سخط تقول، ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: ألا تعلم أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه(3).
فدلت هذه الروايات على أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم لذلك إنما كان بسبب ما ذكرناه من شكوى الناس منه رضي الله عنه، وأنه ليس المراد به الدلالة على الوصاية إليه لجعله على سبب، وبعد تفرق الحجيج وانصراف كل أهل ناحية إلى ناحيتهم.
__________
(1) البحار: (37/220).
(2) البحار: (37/187)، الطرائف: (35)، العمدة: (45).
(3) أمالي الطوسي: (610)، البحار: (33/218)(38/130).(2/49)
والغريب أن كتب القوم تذكر أن قوله صلى الله عليه وسلم في حق علي رضي الله عنه: من كنت مولاه فعلي مولاه، قد كان تكرر منه قبل الغدير بسنين عديدة، مما يدل على أنه ليس فيما كان في يوم الغدير خاصية مختلفة لقوله هذا عن ذي قبل سوى أن قوله يوم ذاك كان في محضر الكثير من أصحابه الذين خرجوا معه للحج، ومن تكرار شكوى الناس منه في اليمن، فتوهم من توهم أن قوله ذلك إنما كان لبيان إمامته، وأضافوا من عند أنفسهم ما يؤيد هذا الزعم؛ من نزول آيات التهديد والوعيد للنبي صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ ذلك الزعم... إلى آخر ما مر بك.
وكما ذكرنا أن ذلك كان منه قبل الغدير، فقد ذكر القوم الكثير من الروايات في ذلك:
منها: ما كان يوم المؤاخاة الذي ذكرناه، حيث آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وترك علياً فبكى فذهب إلى بيته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً رضي الله عنه في طلبه، فقال: يا علي، أجب النبي، فأتى علي النبي، فقال النبي: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فقال: آخيت بين المهاجرين والأنصار يا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخ بيني وبين أحد، قال: إنما ذخرتك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى يا رسول الله، أنَّى لي بذلك؟ فأخد بيده فأرقاه المنبر، فقال: اللهم إن هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه(1).
والمؤاخاة كانت في بداية الهجرة.
__________
(1) الروضة: (11)، البحار: (37/186)(38/344).(2/50)
ومنها: ما كان يوم التصدق بالخاتم بزعمهم، فعن زيد بن الحسن، عن جده رضي الله عنه قال: سمعت عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ذلك، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55]، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(1).
ومنها: ما جاء في حديث الطير وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، فجاء علي، فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(2). وغيرها.
فهذه مواطن قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهي مقولة الغدير تماماً، فما الذي استوجب كل ما ذكره القوم في حادثة الغدير من قصص وحكايات، وتهديد ونزول آيات، ما داموا يقرون أنه لم يكن منه غير هذه المقولة، وقد وردت عنه صلى الله عليه وسلم منذ سنين عدة كما رأيت.
فإن كان في هذا دلالة على الإمامة فقد ذكرها قبل الغدير، وإن لم يكن فقد أسقط في يد القوم.
__________
(1) العياشي: (1/356)، البرهان: (1/482)، البحار: (35/187).
(2) بشارة المصطفى: (202)، البحار: (38/354).(2/51)
وهذا تماماً كقولنا الذي كررناه، وهو إن كان ما نحن فيه من استدلال هو دليل النص على الإمامة، فقد أبطلوا النصوص السابقة منذ بدء العشيرة، مروراً بحادثة ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) [النجم:1]، والتصدق بالخاتم، ناهيك عما أوردناه في مقدمة الباب الأول(1)، وإن كان العكس فأي جديد في الغدير؟!
ويذكرني هذا بقول الصدوق في حديث الغدير: ونظرنا فيما يجمع له النبي صلى الله عليه وسلم الناس ويخطب به ويعظم الشأن فيه، فإذا هو شيء لا يجوز أن يكونوا علموه فكرره عليهم، ولا شيء لا يفيدهم بالقول فيه معنى، لأن ذلك صفة العابث، والعبث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منفي(2).
فهذا اعتراف من صدوق القوم أن كل ما مر بك من أول الكتاب إلى الاستدلال السابق ليس فيه ما يفيد النص على الإمامة لعلي رضي الله عنه؛ لأنه بزعمه لا يجوز أن يكون شيئاً علموه فكرره عليهم.
وبعيداً عن كل ما ذكرناه، لنتكلم الآن في دلالة ما صح من حديث غدير خم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، حيث إن هذا الجزء يكاد يتفق عليه جميع المسلمين، وهو صحيح كما ذكرنا في مقدمة هذا الاستدلال.
فنقول: ورد ذكر الموالاة ومشتقاتها في القرآن الكريم في عشرات المواضع منها: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55].
__________
(1) ولعل ما يؤيد ذلك رواية القوم عن الباقر أنه قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة وقد بلّغ جميع الشرايع قومه ما خلا الحج والولاية، البرهان: (1/436)، البحار: (37/201)، الاحتجاج: (33).
(2) معاني الأخبار: (67)، البحار: (37/225).(2/52)
وقوله: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) [التوبة:71].
وقوله: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) [الجاثية:19].
وقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)) [محمد:11].
وقوله: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)) [البقرة:257].
وقوله: ((وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الشورى:8-9].
وقوله: ((إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)) [الأعراف:196].
وقوله: ((لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:28].
وقوله: ((الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [النساء:139].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [النساء:144].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)) [المائدة:51].
وقوله: ((إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:27].
وقوله: ((إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [الأعراف:30].(2/53)
وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)) [الأنفال:72].
وقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [الأنفال:73].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)) [التوبة:23].
وقوله: ((وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) [الجاثية:19].
وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) [الممتحنة:1]
وقوله: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) [الأحزاب:6].
وقوله: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) [الأنفال:40].
وقوله: ((مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [الحديد:15].
وقوله: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) [التحريم:4].(2/54)
فهذه الأمثلة من الآيات، وكذلك ما ورد في السنة الشريفة من الأحاديث وكذلك الآثار، تدل على أن معنى الموالاة تحمل على وجوه عدة ومعانٍ مشتركة قد تبلغ الثلاثين، ولا أرى بأساً من إيرادها، وهي: الرب، العم، ابن العم، الابن، ابن الأخت، المعتِق [بالكسر]، المعتَق [بالفتح]، العبد، المالك، التابع، المنعم عليه، الشريك، الحليف، الصاحب، الجار، النزيل، الصهر، القريب، المنعم، الفقيد، الولي، الأولى بالشيء، السيد غير المالك والمعتق، المحب، الناصر، المتصرف في الأمر، المتولي في الأمر(1)، وغيرها.
ولا شك أن الكثير من هذه الألفاظ لا تنطبق على حديثنا، ولكن أقربها إلى مدلوله هي لفظة [الموالاة] التي هي ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، وليست الإمارة والخلافة، لذا لم يقل صلى الله عليه وسلم: من كنت واليه فعلي واليه أو قريباً من هذا.
وسنأتي على ذكر الكثير من الأحاديث التي وضعها القوم بهذه الألفاظ الواضحة، إقراراً منهم بعدم صراحة لفظ الموالاة في حديثنا هذا المستوجب للخلافة العامة، وإنما اللفظ الوارد: من كنت مولاه فعلي مولاه.
وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين؛ فإن المؤمنين أولياء الله وهو مولاهم، وفي الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقع التقييد بلفظ [بعدي]، بل يدل سياق الكلام على التسوية بين الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه كما هو الأظهر، وشركة علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في التصرف في عهده ممتنعة، فهذا أدل دليل على أن المراد وجوب محبته، إذ لا محذور في اجتماع محبتين، بل إحداهما مستلزمة للأخرى، سواء في حياتهما أو بعد وفاتهما صلوات الله عليهما، أما اجتماع التصرفين ففيه محذورات كثيرة كما لا يخفى.
__________
(1) الغدير: (1/362)، البحار: (37/225، 237)، معاني الأخبار: (67).(2/55)
وهذا يذكرنا بما أوردنا من ردود عند الكلام في استدلال التصدق بالخاتم، حيث ذكرنا هناك أن إمامته رضي الله عنه غير مرادة في زمان الخطاب، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً، تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حد للتأخير، فليكن ذلك بالنسبة إلى علي بعد مضي زمان أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وبهذا يتحقق الوفاق بين الفريقين.
نعم، لا يخلو تخصيص علي رضي الله عنه بالذكر بهذه الموالاة التي هي ضد المعاداة من علة، وقد بينا أن ذلك بسبب ما ذكرناه من شكوى الناس، ومن علمه صلى الله عليه وسلم بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس لإمامته بل ومحاربته، حتى احتج هو رضي الله عنه بحديث الغدير لإلزامهم بموالاته ومناصرته.
وهذا موافق تماماً لقول العسكري لما سأله الحسن بن طريف: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ قال: أراد بذلك أن جعله علماً يعرف به حزب الله عند الفرقة(1).
وهذا الحسين رضي الله عنه يقول لجيش الشام: أتعلمون أن علياً ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: نعم(2).
فهل فهموا من ذلك ما فهمه القوم، حتى بايعوا غيره، وقاتلوا ابنه رضي الله عنهما؟! وهكذا..
فأنت ترى أن القوم قد أوردوا في مصنفاتهم ما يفيد عدم فهم الناس لحديث غدير خم على أنها الخلافة العامة للمؤمنين كما يدعون، وإليك المزيد من هذه الروايات:
عن أبي إسحاق قال: قلت لعلي بن الحسين: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه... الرواية(3)؟
__________
(1) كشف الغمة: (3/303)، البحار: (37/223)(50/290)، إثبات الهداة: (2/139).
(2) أمالي الصدوق: (135)، البحار: (44/318).
(3) أمالي الصدوق: (107)، معاني الأخبار: (65)، البحار: (37/223)، إثبات الهداة: (2/34).(2/56)
وعن أبان بن تغلب قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقال: يا أبا سعيد، تسأل عن مثل هذا؟(1)
وعن أبي التيهان قال: أنا أشهد على النبي أنه أقام علياً، فقالت الأنصار: ما أقامه إلا للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه ولي من كان رسول الله مولاه(2).
ويؤكد هذا رواية الصادق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وعلي أولى به من بعدي، فقيل لي: ما معنى ذلك؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك ديناً أو ضياعاً فَعَلَيَّ، وَمَن ترك مالاً فلورثته(3).
فانظر هنا.. فرغم صراحة اللفظ إلا أنه لم يحمل على الخلافة العامة.. فتأمل!
وعن الصادق أيضاً قال: لما أقام رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوم غدير خم، أنزل الله تعالى على لسان جبرئيل، فقال له: يا محمد، إني منزل غداً ضحوة نجماً من السماء يغلب ضوؤه على ضوء الشمس، فأعلم أصحابك أنه من سقط ذلك النجم في داره فهو الخليفة من بعدك، فأعلمهم رسول الله، فجلسوا كلهم كل في منزله يتوقع أن يسقط النجم في منزله، فما لبثوا أن سقط النجم في منزل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة(4).
فكأن واضع هذه الرواية المضحكة يؤكد ما نحن بصدده من عدم فهم من حضر الغدير وقد عرفت عددهم، وعرفت معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي مولاه، من أنها تعني الخلافة بعده كما يزعم القوم، حتى انتظروا إلى يوم التاسع عشر من ذي الحجة ليروا على دار من سيسقط ذلك النجم، فيكون الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) معاني الأخبار: (66)، البحار: (37/223).
(2) الخصال: (465)، البحار: (28/213).
(3) الكافي: (1/407)، البحار: (27/248)، نور الثقلين: (4/240، 237).
(4) فرات: (2/452)، البحار: (35/283).(2/57)
والروايات في الباب كثيرة، وكلها تدل على خلاف مفهوم القوم ومقصودهم منها، وإليك المزيد:
عن سالم قال: قيل لعمر: نراك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنه مولاي.
وعن الباقر قال: جاء أعرابيان إلى عمر يختصمان، فقال عمر: يا أبا الحسن، اقض بينهما. فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: يا أمير المؤمنين، هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر فأخذ بتلبيبه ولبّبه، ثم قال: ويحك ما تدري من هذا؟! هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن(1).
فاسأل نفسك: هل فهم من وثب إلى الأعرابي أنه وثب على حق من اشتكى منه الأعرابي؟
ولعل أبلغ من هذا كله ذكر ما كان من أهل البيت، وهل أنهم فهموا مما كان من شأن الغدير ما ادعاه القوم لهم؟
ذكر القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: أما ترضى أن تكون أخي وأكون أخاك وتكون وليي ووصيي ووارثي(2)؟
فهل يعني الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لعلي رضي الله عنه: وتكون أميراً أو خليفة علي؟
وعن الصادق قال: لما فتح رسول الله مكة قام على الصفا، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبدالمطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، لا تقولوا: إن محمداً منا، فوالله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون(3).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله ليلة الإسراء: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي أن علياً وليي ووليُّ رسولي ووليُّ المؤمنين بعد رسولي(4).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: إنك وليي، ووليي ولي الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله.
__________
(1) البحار: (40/124).
(2) أمالي الطوسي: (211)، البحار: (37/14).
(3) صفات الشيعة: (4)، البحار: (21/111).
(4) البحار: (23/282)، تفسير فرات: (1/342).(2/58)
وفي رواية: ووليك وليي، ووليي ولي الله(1).
فماذا تفهم من هذه النصوص غير الموالاة التي هي المحبة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هبط عليّ جبرئيل، وقال: يا محمد، الله يقرئك السلام، ويقول لك: قد فرضت الصلاة ووضعتها عن المعتل والمجنون والصبي، وفرضت الصوم ووضعته عن المسافر، وفرضت الحج ووضعته عن المعتل، وفرضت الزكاة ووضعتها عن المعدم، وفرضت حب علي بن أبي طالب وفرضت محبته على أهل السماء والأرض، فلم أعط أحداً رخصة(2).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الكساء: من والاهم فقد والاني، ومن عاداهم فقد عاداني(3).
وعن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى أمير المؤمنين، فقالوا: السلام عليك يا مولانا، فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ فقالوا: سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وكان فيهم نفر من الأنصار، منهم: أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله(4).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد رضي الله عنه: أنت أخونا ومولانا(5).
فهذه الروايات التي سردناها سرداً دون تعليق وغيرها كثير، تدل بوضوح على معنى الموالاة، بخلاف ما يدعيه القوم.
ولعل في ذكرنا للرواية الآتية كخاتمة لما أسلفناه أبلغ التدليل على مقصودنا، ففيها غنىً عن كل ما مر.
__________
(1) الخصال: (2/50، 15)، أمالي الشيخ: (310)، سليم بن قيس: (153)، البحار: (39/337، 339، 352).
(2) الروضة: (27)، الفضائل: (155)، المحتضر: (101)، البحار: (27/129)(40/47)(54/387).
(3) أمالي الصدوق: (283)، البحار: (35/210).
(4) العمدة: (46)، البحار: (37/148، 177).
(5) البحار: (20/373)(37/307).(2/59)
تقول الرواية: إن هارون الرشيد سأل الكاظم: إنكم تقولون: إن جميع المسلمين عبيدنا وجوارينا، وإنكم تقولون: من يكون لنا عليه حق ولا يوصله إلينا فليس بمسلم. فكان مما رد عليه الكاظم: إن الذين زعموا ذلك فقد كذبوا، ولكن ندعي أن ولاء جميع الخلائق لنا -يعني: ولاء الدين- وهؤلاء الجهال يظنونه ولاء الملك، حملوا دعواهم على ذلك، ونحن ندعي ذلك لقول النبي يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وما كان يطلب بذلك إلا ولاء الدين(1).
وقد ذكر القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: سألت الله عز وجل أن يجعلك ولي كل مؤمن ومؤمنة ففعل(2).
فتدبر قوله: [ففعل]. فتحصل لديك من كل ما مر بك الاضطراب الشديد في فهم مقصود الموالاة، مما يتنافى مع القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يريد بيان أعظم ركن من أركان الإسلام بزعم القوم، وفي هذا الحشد- قد استخدم كلاماً مبهماً لبس على الناس أمرهم، وهو الذي أوتي جوامع الكلم، والقائل: أنا أفصح العرب.
ويبدو أن القوم قد تفطنوا لهذا، أعني: عدم صراحة نص الغدير على مقصود الإمامة والخلافة، فوضعوا عشرات الروايات وكلها تدل دلالة واضحة على المقصود، وكأنهم بذلك أرادوا القول بأن هكذا كان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول، لا كما قال.
ومن هذه الروايات: زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم قال في علي رضي الله عنه: هو إمام المسلمين ومولى المؤمنين وأميرهم بعدي(3).
وفي رواية: علي إمام كل مؤمن بعدي(4).
وفي أخرى: أنت الإمام بعدي والأمير(5).
وفي أخرى: أمير كل مسلم وأمير كل مؤمن بعدي(6).
__________
(1) فرج المهموم: (107)، البحار: (48/147).
(2) الاحتجاج: (84)، البحار: (40/2).
(3) أمالي الصدوق: (347)، البحار: (38/107).
(4) معاني الأخبار: (66)، البحار: (38/121).
(5) البحار: (38/146).
(6) منتخب الأثر: (92).(2/60)
إلى غيرها من الألفاظ التي تفيد أنه رضي الله عنه خليفة بعده صلى الله عليه وسلم (1).
بل ظنوا أنهم جعلوا رواية الغدير أكثر وضوحاً عندما جعلوها هكذا: من كنت وليه فعلي وليه، ومن كنت إمامه فعلي إمامه، ومن كنت أميره فعلي أميره(2).
وعن ابن نباتة قال: خرج علينا أمير المؤمنين ذات يوم ويده في يد ولده الحسن، وهو يقول: خرج علينا رسول الله ذات يوم ويدي في يده هكذا، وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيدهم أخي هذا، وهو إمام كل مسلم وأمير كل مؤمن بعد وفاتي، ألا وإني أقول: إن خير الخلق بعدي وسيدهم ابني هذا، وهو إمام كل مسلم وأمير كل مؤمن بعد وفاتي(3).
فانظر وضوح اللفظ في هذا المحضر قليل العدد، وغموضه يوم الغدير رغم العدد الذي حضره، وكذلك جهل الحسن رضي الله عنه والناس بإمامته لولا بيان الأمير رضي الله عنه لذلك.
بيان عدم فهم علي رضي الله عنه من حديث الغدير أن الموالاة فيها تعني الخلافة العامة:
مدح الأمير للشيخين رضي الله عنهم أجمعين:
ثم إن علياً رضي الله عنه لم يفهم من رواية الغدير ولا غير الغدير أن ولايته واجبة وخلافها كفر وبطلان وهو يقول:
__________
(1) للمزيد انظر: أمالي الصدوق: (12، 31، 99، 108، 222، 234، 288، 312، 523، 525)، إثبات الهداة: (1/526، 529، 533، 534، 573، 586، 587، 593، 607، 647، 656، 659) (2/40، 48، 49، 71، 80، 81، 99، 114، 117، 118، 119، 129، 130، 143، 147،175، 179)، نور الثقلين: (1/395)، أمالي الطوسي: (253، 438)، منتخب الأثر: (264)، البحار: (33/18)(38/326)، كفاية الأثر: (120)، الطرائف: (18).
(2) معاني الأخبار: (66)، عيون الأخبار: (224)، البحار: (37/224)(38/112).
(3) كمال الدين: (150)، البحار: (36/253).(2/61)
أما بعد: فإن الله سبحانه بعث محمداً، فأنقذ به من الضلالة، ونعش به من الهلكة، وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه، فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل رسول الله وأحق بالأمر، فغفرنا ذلك لهما(1).
وفي موطن آخر قال: ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين أحييا السيرة ولم يعدوا السنة(2).
وقال فيهما: فتولى أبو بكر تلك الأمور، وسدد وقارب واقتصد، وتولى عمر الأمر، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة(3).
إقرار الأمير رضي الله عنه بعدم إحداث من سبقوه في الدين:
لم يفهم الأمير رضي الله عنه من رواية الغدير ولا غير الغدير أن ولاية من سبقوه إحداث في الدين، وهو يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره له بما يلقى بعده، فقال: فعلام أقاتلهم؟ قال: على الإحداث في الدين(4).
فهل قاتل الأمير أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، أم التزم التقية خوفاً كما يزعم الشيعة، وهو القائل: والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، أم قال عن ولايتهم كما روى القوم: فلم أر بحمد الله إلا خيرا(5)؟
__________
(1) البحار: (32/456)، وانظر أيضاً: البحار: (33/568-569).
(2) البحار: (33/535).
(3) البحار: (33/568).
(4) أمالي الطوسي: (513)، البحار: (28/48)، إثبات الهداة: (1/300)، نور الثقلين: (5/69)، وانظر روايات أخرى في عدم إحداث أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في الدين: البحار: (32/243، 297، 299، 303، 308).
(5) المناقب: (1/323)، البحار: (28/67)(41/5).(2/62)
هل فهم رضي الله عنه من رواية الغدير وغير الغدير ما فهمه القوم وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك..
إلى أن قال: وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة(1).
يقول هذا عندما اضطربت الأمور في عهده، ولم يقله في الشيخين أو ذي النورين رضي الله عنهم، إنما قال فيهما ما قال من حسن السيرة، والعدل في الأمة، والخير الذي رآه في ولايتهم.
ويذكرني هذا بروايتهم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الذي يروي فيه الرضا، عن آبائه، عن علي رضي الله عنهم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: أبوذر صديق هذه الأمة(2)، وهو يقول لعثمان رضي الله عنه: اتبع سنة صاحبيك، لا يكن لأحدٍ عليك كلام(3).
وفي رواية: ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر، هل هديك كهديهم؟(4).
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبرأ من خمسة: من الناكثين وهم أصحاب الجمل، ومن القاسطين وهم أصحاب الشام، ومن الخوارج وهم أهل النهروان، ومن القدرية وهم الذين ضاهوا النصارى في دينهم، فقالوا: لا قدر، ومن المرجئة الذين ضاهوا اليهود في دينهم، فقالوا: الله أعلم(5).
__________
(1) نهج البلاغة: (241)، من كلام له يبين سبب طلبه الحكم ويصف الإمام الحق.
(2) عيون الأخبار: (2/70)، البحار: (22/405).
(3) البحار: (22/419).
(4) البحار: (22/418).
(5) الكشي: (38)، البحار: (42/152).(2/63)
فهل أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتبري من أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهم الذين اغتصبوا حق الأمير وأتوا بأعظم من أفعال هؤلاء الخمسة الذين أمر بالتبري منهم بزعم القوم.
أبداً: لم يفهم علي رضي الله عنه أن خلافة الشيخين خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن فلاناً دون آخر أحق بالخلافة من غيره.
كراهة الأمير رضي الله عنه للخلافة ورغبته في مبايعة غيره:
لم يفهم رضي الله عنه لا من الغدير ولا غير الغدير أنه أحق بالخلافة، وهو لا يزال يردد القول بكراهيته لها، وهو يعلم يقيناً قول الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36].
وقوله: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [القصص:68].
وقوله: ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) [الزخرف:31].(2/64)
ألم يعلم رضي الله عنه أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنها مثلها لطف من الله عز وجل، ولا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى، وليس للبشر حق اختيار الإمام وتعيينه، بل وليس للإمام نفسه حق تعيين من يأتي من بعده، وأن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود لرجل مسمى ليس للإمام أن يرويها عمن يكون من بعده، وأن بها أخذ الله المواثيق من الأنبياء عند بعثهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له بزعمهم: يا علي، ما بعث الله نبياً إلا وقد دعاه إلى ولايتك طائعاً أو كارهاً، والقائل: لم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلا وأخذ عليه الميثاق لمحمد بالنبوة ولعلي بالإمامة، والقائل صلى الله عليه وسلم: التاركون ولاية علي خارجون عن الإسلام، والجاحد لولاية علي كعابد وثن، وقوله هو رضي الله عنه بزعمهم: لو أن عبداً عبد الله ألف سنة لايقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت، ولو أن عبداً عبد الله ألف سنة وجاء بعمل اثنين وسبعين نبياً مايقبل الله منه حتى يعرف ولايتنا أهل البيت وإلا أكبه الله على منخريه في نار جهنم، وغيرها من مئات بل وألوف الآيات والأحاديث التي ذكرنا منها القليل في مقدمة الباب الأول.
ألم يفهم من كل هذا أنه خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك واجب المعرفة، وأنه لا يعذر الناس بترك الولاية، وأن من مات ولا يعرف إمامه أو شك فيه مات ميتَةَ جاهليةٍ وكفرٍ ونفاقٍ، وأن من أنكر واحداً منهم فقد أنكر الجميع، حتى حكى المفيد إجماع الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار؟!(2/65)
ألم يعلم كل هذا وهو يقول لمن جاءه مبايعاً: ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارهاً للولاية على أمة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك؛ لأني سمعت رسول الله يقول: أيما والٍ ولي الأمر من بعدي أقيم على حد الصراط ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلاً أنجاه الله بعدله، وإن كان جائراً انتقض به الصراط حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه، ولكن لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم(1)؟!
هل تفهم -عزيزي القارئ- من هذه الرواية أن هناك نصاً على من يأتي بعده صلى الله عليه وسلم، أو أن هناك شروطاً يجب أن تتوفر فيه فحسب؟ وهل من جاء بعده سينجيه بعدله، كما قال رضي الله عنه: (فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة) أم سينتقض بهم الصراط لجورهم، كما يرى من يدعي أنه من شيعته رضي الله عنه؟
ألم يعلم أنه الخليفة الحق والمنصوب من الله عز وجل وغيره غاصب لهذا الحق، وهو يقول لطلحة والزبير: نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها وفي موضع آخر: فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها، فخفت أن أردكم فتختلف الأمة(2)؟!
ألم يعلم كل هذا، وهو يقول للمهاجرين والأنصار وقد جاءوا لبيعته: لا حاجة لي في أمركم أنا بمن اخترتم راض(3)؟!
فهل فاته أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس للبشر حق اختيار الإمام وتعيينه؟!
هل رأى ذلك وهو يقول في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما يروى: أخذا حقي وقد تركته لهما تجاوز الله عنهما(4)؟!
__________
(1) أمالي الطوسي: (736)، البحار: (32/17، 26).
(2) أمالي الطوسي: (736)، البحار: (32/21، 50).
(3) البحار: (32/31) نقلاً عن الكافية لإبطال توبة الخاطئة، للمفيد.
(4) البحار: (61، 113).(2/66)
ويقول لطلحة لما برز الناس للبيعة عند بيت المال: ابسط يدك للبيعة، فقال له طلحة: أنت أحق بذلك مني، وقد استجمع لك الناس ولم يجتمعوا لي(1).
فهل كان له الاختيار والأمر في أن يبايع هذا أو يتركه لذاك، أو أن ذلك إلى الله وليس للبشر حق الاختيار، وأن طلحة وقبله الشيخين رضي الله عنهم سيكونون بذلك أئمة ليسوا من الله؟!
ألم يفهم رضي الله عنه ما فهمه مَن يرون أنهم من شيعته أن كل ما مر بك من نصوص الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما هي في إمامته دون غيره؟!
وهل يرى القوم أن الأمير نسي تحذيره وكذا بقية الأئمة لشيعتهم بزعمهم بأن لا ينصبوا رجلاً دون الحجة(2)؟!
ألم يعلم رضي الله عنه أنه منصوص من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتيتموني لتبايعوني، فقلت: لا حاجة في ذلك، ودخلت منزلي فاستخرجتموني، فقبضت يدي فبسطتموها وتداككتم علي حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل، وقد علم الله سبحانه أني كنت كارهاً للحكومة بين أمة محمد(3)؟!
ألم يعلم كل ذلك وهو يقول لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه: دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً(4)؟!
__________
(1) البحار: (32/32) نقلاً عن الكافية لإبطال توبة الخاطئة.
(2) الكافي: (2/297، 298)، معاني الأخبار: (169، 180)، البحار: (73/151، 153).
(3) البحار: (32/63).
(4) نهج البلاغة: (178)، من كلام له لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه، البحار: (32/8، 23، 35)(41/116)، المناقب: (2/110).(2/67)
فهل رأى رضي الله عنه أن اختياره أو اختيار الصحابة خير من اختيار الله عز وجل، وهو يقرأ: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68]؟!
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمهم: إن الله خلق آدم من طين كيف يشاء، ثم قال: ويختار، إن الله اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا، فجعلني الرسول وجعل علي بن أبي طالب الوصي، ثم قال: ما كان لهم الخيرة، يعني: ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكن أختار من أشاء(1).
فهل رأى ذلك؟ وهل هذا إلا كمن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهذا أو ذاك: ابسط يدك للنبوة؟!
ألم يقبل رضي الله عنه ويطع مشيئة الله في جعله خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم القوم بهذه الرواية من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة الإسراء: فتح لعلي أبواب السماء والحجب حتى نظر إلي ونظرت إليه، ثم قال: إن أول ما كلمني به أن قال: يا محمد، انظر تحتك فنظرت إلى الحجب قد انخرقت، وإلى أبواب السماء قد فتحت، ونظرت إلى علي وهو رافع رأسه إلي، فكلمني وكلمته، وكلمني ربي عز وجل: يا محمد، إني جعلت علياً وصيك ووزيرك وخليفتك من بعدك، فأعلمه فهو يسمع كلامك، فأعلمته وأنا بين يدي ربي عز وجل، فقال لي: قد قبلت وأطعت، فأمر الملائكة أن تسلم عليه ففعلت، فرد السلام... إلى آخر الرواية(2)؟!
فهل علم رضي الله عنه هذا وهو يقول: والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها فكرهت خلافكم(3)؟!
__________
(1) البحار: (36/167)، الطرائف: (24).
(2) البحار: (16/318)(38/158)(39/159)، أمالي الطوسي: (64)، الروضة: (39)، الفضائل:(177)، الخصال: (141).
(3) أمالي الطوسي: (740)، نهج البلاغة: (397)، البحار: (32/30، 50).(2/68)
هل كان يرى مخالفة الله الذي اختاره من دون الناس من فوق سبع سموات، هل كان يرى مخالفته جائزة، وطاعة البشر واجبة؟!
هل علم هذا عندما قال: وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداكك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطيء الضعيف.. إلى آخر ماقاله رضي الله عنه واصفاً بيعته بالخلافة(1)؟!
هل علم هذا وهو يقول: إني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى أكرهوني(2).
وقال: فلما رأيت ذلك منكم رويت في أمري وأمركم، وقلت: إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحداً يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي(3)؟!
هل وهل.. وهو لا يزال يردد ويقول بكراهته لأمر لولاه لما خلق الله شيئاً، حتى قال لابن عباس رضي الله عنه وقد رآه يخصف نعله: ما قيمة هذه النعل؟ فقال: لا قيمة لها، فقال: والله لهي أحب إلي من إمرتكم(4).
إقرار الأمير رضي الله عنه بمبدأ الشورى:
أبداً لم يكن رضي الله عنه يرى أن مشروعية خلافته مستمدة من تلك النصوص التي زعمها القوم له، وقد علمت حالها جميعاً، وأنه لو كان من ذلك شيء حق لقاتل عليها حتى لو تظاهرت العرب كلها عليه، بل كان يرى أن شرعية خلافته إنما هي مستمدة من مبدأ الشورى الذي أقره القرآن وأكده الرسول صلى الله عليه وسلم بهديه وسنته.
كيف لا وهو القائل رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عز وجل قد أذن ذلك(5).
__________
(1) نهج البلاغة: (430)، البحار: (32/51)، وانظرأيضاً: البحار:(32/34، 78، 98)(33/569) = = المناقب: (2/375)، الإرشاد: (130)، الاحتجاج: (161).
(2) المناقب: (2/37)، البحار: (32/120، 126، 135)، كشف الغمة: (1/238).
(3) الإرشاد: (139)، البحار: (32/387).
(4) البحار: (32/76، 113)، الإرشاد: (132).
(5) عيون الأخبار: (2/67).(2/69)
ويقول لمعاوية: إن الناس تبع المهاجرين والأنصار وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم على هذه الأمة ويركبهم ويشق عصاهم.
فلما بلغ معاوية ذلك قال: ليس كما يقول، فما بال من هو ههنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فقال رضي الله عنه: ويْحَكُم! هذا للبدريين دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلا وقد بايعني وهو معي، أو قد أقام ورضي، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم(1).
وقال لمعاوية في موطنٍ آخر: إن بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام؛ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيراً(2).
فهو يرى إجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم على رجل هو رضاً لله.
بل ولا يرى بيعته دون رضاهم كما قال: إن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين وفي ملأ وجماعة(3).
وهو القائل رضي الله عنه: وما كان الله ليجعلهم على ضلال ولا يضربهم بعمى(4).
وقال له في موطن آخر: إن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر بالمدينة وهو أمير لأبي بكر على الشام.
__________
(1) البحار: (32/450).
(2) البحار: (32/368)(33/76)، وانظر أيضاً: نهج البلاغة: (446)، نور الثقلين: (1/551).
(3) البحار: (32/23).
(4) البحار: (32/380)(33/78)، شرح النهج للبحراني: (4/356)، نهج السعادة: (4/94).(2/70)
أما قولك: إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها، فإنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب لا يستثنى فيها النظر، ولا يستأنف فيها الخيار، والخارج منها طاعن، والمروي فيها مداهن(1).
وكان يقول له: واعلم أنك من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا يعرض فيهم الشورى(2).
وكذلك قال ابنه الحسن لمعاوية في كتاب الصلح الذي استقر بينهما: هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان: صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين(3).
فهل ترى بعد كل هذا أن الأمير أو ابنه رضي الله عنهما يرون رأي من زعموا أنهم من شيعتهم من أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد نصا عليهما رضي الله عنهما، أو أنهم يقررون مبدأ الشورى وبه يستمدون شرعية إمامتهم للمؤمنين دون أن يتطرقوا إلى ذكر أي نص من تلك النصوص التي زعمها القوم لهم، وهم في تلك الحال من الخلاف، وفي موطن هم بأمس الحاجة فيه إلى ذكر نص من تلك النصوص لو وجدت، ليرد به على معاوية الذي احتج عليه بعدم اجتماع أهل الشام عليه؟
__________
(1) البحار: (33/81، 82).
(2) المناقب: (2/349)، البحار: (32/570)(33/78).
(3) كشف الغمة: (2/145)، البحار: (44/65).(2/71)
فهل قال له علي رضي الله عنه مثلاً: ليس لاختيار أهل الشام أو بيعتهم شأن أو قيمة، ما دام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد نصا على إمامتي؟ أو أنه رضي الله عنه دلل على بيعته باجتماع أهل المدينة عليه، حتى لم ير شرعية لخلافته إلا بقياس ذلك على بيعة الصديق، والفاروق، وذي النورين رضي الله عنهم أجمعين، وأن بيعتهم كانت لله رضاً، وأنهم كانوا خلفاء راشدين، يستحقون أن يدعوا من جاء بعدهم بالاقتداء بهم، لا أنهم مغتصبون لحق غيرهم.
ولم ير خلاف ذلك وهو يؤكد شرعيتهم، ويعلم يقيناً باعتبار معتقد القوم أن الإمامة لا تكون بالاختيار أو الشورى إنما بنص من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جاء من غير هذا الطريق فهو كافر ومن يتولاه فهو مثله، وأن من ترك ولايته خارج عن الإسلام كما نسبوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما مرَّ بك، ووضعوا في ذلك العشرات من الروايات وجعلوا لها أبواباً، مثل: باب: أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية، وباب: كفر المخالفين والنصّاب، وغيرها.
فهل يرى القوم أنه رضي الله عنه ترك حقه وهو يعلم أن تركه ذلك خروج عن الإسلام وإحباط للأعمال والطاعات كما يزعمون، وهو يتولى من سبقه ويؤكد شرعية إمامتهم؛ بل ويستمد شرعية إمامته من إمامتهم، ويرى أن ذلك كان لله رضاً، وأنهما قد أحسنا السيرة وعدلا في الأمة، وأنه كان يرى الخيرية في وزارته لهم دون إمامته، ويدعو إلى بيعة غيره، ويؤكد لهم التزامه لمن اختاروه بأنه سيكون أطوعهم له كما قال؟
فلم ير رضي الله عنه باعتبار معتقد القوم أن الخير فيما اختاره الله عز وجل، بل رأى خلاف ذلك، فرأى أن كونه وزيراً خير من اختيار الله عز وجل له بأن يكون أميراً.
هكذا يريد منا القوم أن نقول، وهكذا يريد لنا القوم أن نعتقد فيه رضي الله عنه.(2/72)
بل ويرى أن اختيار ذلك إلى البشر خير من تولية إمام منصوب من الله، ويحث الناس على طاعة من اختاروه، ويتقدمهم في ذلك، وهو يعلم باعتبار القوم أن ذلك خلاف إرادة الله عز وجل، وأن الله عز وجل قد نصَّ على إمامته قبل خلق كل شيء بملايين السنين، وأنه علة خلق كل شيء.
ويرينا القوم أنه ضرب بعرض الحائط كل هذا، وترك كل تلك النصوص التي زعمها القوم له منذ بدء العشيرة، مروراً بـ: إنما وليكم الله، وإنما يريد الله، وعشرات غيرها، بل ومئات، وانتهاء بحادثة الغدير، ليرى تنصيب غيره، وترك ما أمر به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويطلب بذلك رضا الناس بسخط الله عز وجل.
وكأنه نسي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلب رضى الناس بسخط الله جعل الله حامده من الناس ذاماً(1).
وقوله: لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله(2).
وهو يرى أن من تولى على المسلمين دونه غير عاص لله، كيف وهو يدعو إلى طاعته، ويرى أن ذلك لله رضاً.
وكأنه نسيَ قوله صلى الله عليه وسلم: من أرضى سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله(3).
بل قوله هو رضي الله عنه: لا دين لمن دان بطاعة المخلوق في معصية الخالق(4)، وغيرها.
__________
(1) الكافي: (2/372)، الخصال: (1/5)، البحار: (73/391، 393)، وقال في بيانه: كالذين تركوا = = متابعة أئمة الحق لرضا أئمة الجور.
(2) الكافي: (2/373)، أمالي الطوسي: (1/76)، البحار: (73/392، 393)، وقال في بيانه: أي: لا إيمان أو عبادة لمن دان -أي: عبدالله- بطاعة من عصى الله -أي: غير المعصوم- فإنه لا يجوز طاعة غير المعصوم.
(3) الكافي: (2/373)، البحار: (73/393)، وقال في بيانه: يمكن حمله على من أرضى خلفاء الجور بإنكار أئمة الحق.
(4) عيون الأخبار: (2/43)، صحيفة الرضا: (43)، البحار: (73/393).(2/73)
فضلاً عن عشرات الروايات الأخرى في عقاب من ادعى الإمامة بغير حق أو أطاع إماماً جائراً، كقولهم عن الصادق: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماماً من الله، ومن زعم أن لهما -أي: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما- في الإسلام نصيب.
وقوله في قوله تعالى: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)) [الزمر:60]، قال: من ادعى أنه إمام وليس بإمام، وإن كان علوياً فاطمياً.
وقوله: من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر.
وقوله: إن هذا الأمر لا يدعيه غير صاحبه إلا بتر الله عمره.
وقوله: من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع.
وقول الباقر: من ادعى مقامنا -يعني: الإمامة- فهو كافر. وغيرها وهي كثيرة(1).
بهذا تكون أقوال الأمير رضي الله عنه السابقة قد أسقطت كل ما أوردناه من أول الكتاب من أحاديث وروايات منسوبة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة رضي الله عنهم أجمعين.
وأكد إقراره رضي الله عنه بمنهج القرآن الكريم: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) [آل عمران:159].
و: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:38].
لذا فلا عجب من أن يردد رضي الله عنه: إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً.
ولا عجب من أن يقول لمعاوية في المهاجرين والأنصار: وما كان الله ليجعلهم -وفي لفظ: ليجمعهم- على ضلالة ولا يضربهم بالعمى(2).
__________
(1) انظرهذه الروايات في:البحار:(7/212)(8/363)(25/110-115)(72/138)،الكافي:(1/373)، العياشي: (1/178)، المناقب:(1/259)، غيبة النعماني:(70، 71، 72، 73)، ثواب الأعمال:(206).
(2) سبق تخريجه.(2/74)
ويقول للخوارج وقد خطئوه وضللوه: فإن أبيتم إلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت فلم تضللون عامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بضلالي(1)؟
كيف لا وهو رضي الله عنه قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجتمع أمتي على ضلالة(2).
خلاصة الباب:
رأيت -عزيزي القاري- في هذا الباب كيف أن الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو من أعظم المطايا لأهل الأهواء في تصيير أهوائهم أحاديث وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وقد أوقفناك على عشرات النصوص في تحذير الأئمة عليهم السلام من كثرة الكذابين عليهم، ودعوتهم لعرض تلك النصوص على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تبين ذلك جلياً في تهافت أسانيد أعظم عقيدة عند الشيعة، حتى لم يكد يسلم لهم منها شيء، ثم رأينا كيف أن متون تلك الروايات تتعارض مع العقل السليم والنقل الصحيح، وكيف أن الأئمة أنفسهم قد نفوا تلك المزاعم بأقوالهم وأفعالهم رضي الله عنهم.
__________
(1) البحار: (33/373).
(2) الاحتجاج: (450)، إرشاد القلوب: (2/225)، البحار: (2/225) (5/20، 68) (16/350، 399) (44/36).(2/75)
الباب الرابع : الإمامة والصحابة
الإمامة والصحابة:
أيها القارئ الكريم: لعلك تتساءل بعد كل هذا عن تلك المواقف التي تروى عن الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم أجمعين، أعني: تلك الروايات التي يرددها الشيعة في كتبهم ومجالسهم، كمظلومية الزهراء رضي الله عنها، وغصب الخلافة من علي رضي الله عنه، وإجباره على البيعة.. ونحو هذا.
فأقول: ها قد حططنا رحالنا هناك لنقف على جلية الأمر، وحقيقة الحال.
إننا لم نبحث ونتعب أنفسنا في تحقيق الروايات الكثيرة السابقة سنداً ومتناً إلا لنعرف الحقيقة عن تلك القضية الجوهرية (قضية الإمامة والنص) والتي يعتبرها البعض -كما أسلفنا- أهم أركان الإسلام، بينما يرى البعض الآخر أنه لا وجود لها ألبتة في عهد النبوة وإنما أوجدت بعده بزمن طويل.
وقبل أن أدخل في المراد أقول:
إنك لو سألت شيعياً: هل ترضى أن نتهمكم أيها الشيعة بأنكم تقولون بأن جبريل عليه السلام أخطأ فنزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن عندكم ما يسمى بليلة الطفية ونحو ذلك؟ لقال لك فوراً: لا، ولا يمكن أن نرضى!
فإن قلت له: إن الناس يقولون ذلك!
فسيقول لك: لابد من التثبت، واسألنا فنحن نجيبك بالحقيقة، وحُسيْنِيَّاتنا مفتوحة، فلو أردت أن تنظر وتتأكد بنفسك فتعال.
ولهذا أقول لكل شيعي: لماذا لا يطبق الشيعة هذا على غيرهم؟ بل لماذا لا يطبقونه على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(2/76)
إذا كانوا يجعلون الحسينيات دليلاً على رد هذا الادعاء، أفلا يكون القرآن دليلاً على رد تلك الادعاءات الكثيرة التي كُذبت على الصحابة؟ ولا أقل من تلك الآيات التي أخبر الله عز وجلفيها بأنه وعدهم جنات تجري تحتها الأنهار، كقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100].
أليس وعد الله للمهاجرين والأنصار حقٌ لا مرية فيه، والله لا يخلف الميعاد، وهو قد وعدهم بجنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، أم أن تلك الروايات الكاذبة كافية لرد كلام الله عز وجل وضربه عرض الحائط؟!!
ولنا أن نسأل العامي فضلاً عن المتعلم: هل كلام الله عز وجل مقدم عندك أم كلام علمائك وأسيادك؟!
أيهما أعظم في قلبك.. وأيهما تريد أن يكون شافعاً لك يوم القيامة.. وأيهما تتصور أن يكون عذراً لك يوم القيامة.. هل هو اتباعك للقرآن أم اتباعك للعلماء وترك القرآن أو تأويله وتفسيره كما تحب؟
الله يقول بأنه وعدهم جنات تجري تحتها الأنهار، وأنت تقول: ارتدوا وبدلوا وغيروا!!
أيحتمل عندك أن كلام الله خطأ، ولا يحتمل عندك أن تلك الروايات وأقوال العلماء هي الخطأ؟!
يا من تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وتؤمن بالله سبحانه وتعالى، أترضى أن ينال أحدٌ من الله سبحانه أو من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أيرضيك أن يسبهما أحد؟! وهل سمعت أحداً سبهما يوماً من الأيام؟
لا شك أنك ستقول: لا، ولكن ألا تعلم أن سبَّ زوجاتِ النبي صلى الله عليه وسلم سبٌ لله سبحانه وسبٌ لرسوله أيضاً؟! فإن قلت: كيف؟ قلت لك: إن النبي صلى الله عليه وسلم بقي مع زوجاته طيلة حياته ولم يطلقهن حتى توفي عنهن، أفيرضى أحد أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه بقي مع امرأة كافرة أو مرتدة أو منافقة أو حتى فاسدة؟! وهذا ما يقوله بعض الشيعة وللأسف الشديد، أوليس هذا من أعظم السب له صلى الله عليه وسلم؟! فهو اتهام له باختيار الزوجة الفاسدة، بل أليس هذا اتهام لله سبحانه الذي رضي لرسوله امرأة مثل هذه، وهو سبحانه يعلم ما سيحصل في المستقبل؟!(2/77)
وكذا يقال بالنسبة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كيف يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصاحب رءوس المنافقين طيلة حياته، بل ويُؤمِّر أبا بكر على الحج، ويجعله يؤم الناس في حياته؟! أفليس الطعن في أبي بكر وكذا عمر رضي الله عنهما طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف لا، وهو قد غر الأمة بمثل هؤلاء كما يدعي الشيعة والعياذ بالله.
فإن قيل: إن ردتهم أو نفاقهم حصل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال: إذن أنتم أقررتم بأنه لا يوجد أي نص في كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم يدل على نفاقهم وارتدادهم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لكنتم متهمين له برعايته المنافقين وتقريبهم وغر الأمة بهم، وأما بعد وفاته فقد انقطع الوحي كما نعلم جميعاً، وسيأتي مزيد توضيح إن شاء الله.
وعليه أقول: إنه عند النظر في تلك الروايات، بل وفي الروايات الأخرى التي تعارضها، والتي فيها نفي للنص أو مدح للصحابة والتي تروى عن أئمة آل البيت رحمهم الله وهي الموافقة لظاهر القرآن، يتضح عدم وجود نص على إمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأمر إنما كان شورى، وهذا يبين لك بطلان تلك المزاعم في غصب الخلافة وإجبار علي رضي الله عنه على البيعة، وكذا مظلومية الزهراء رضي الله عنها، ونحو ذلك.
فبهذه القاعدة العامة النافعة يتبين لك أن تلك الروايات منها ما هو كذب صريح، ومنها ما هو صحيح لكن زيد فيه ونقص، أو غُيِّر عن وجهه وبولغ فيه، أو حُمل على غير محمله، ومع ذلك فهم بشر غير معصومين، يحصل منهم الخطأ والنسيان، والله هو الذين يحاسبهم، ولهم من فضل الصحبة ما لا يدانيهم فيه أحد.(2/78)
ولست بصدد الحديث عن بيان تلك الروايات، لكن أقول: إن تلك الحقبة وذلك الجيل إنما هو نتاج تربية محمد صلى الله عليه وسلم، والذي لو تأملنا فيه بعين الإنصاف لا التبعية لوجدناه جيلاً مثالياً.. كيف لا وقد تربى في مدرسة المربي الأول، أفضل المربين، صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا أردت الدليل الواضح البين على هذا فاقرأ قوله سبحانه وتعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الجمعة:2].
فتأمل! من هم الذين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وعلمهم إياه، وعلمهم السنة كذلك، ورباهم وزكاهم، وكانوا قبل كل ذلك في ضلال مبين، فإذا قرأت هذه الآية وتدبرت معناها عرفت منزلة أولئك الصحب الذين يكفرهم بعض الشيعة ويلعنونهم والعياذ بالله!
إن المتأمل لكتاب الله يجد الثناء العاطر على ذلك الجيل الفريد، سواء المهاجرين أو الأنصار، وسواء من أسلم قبل الفتح أو بعده، وهم درجات ولا شك ((وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) [النساء:95].
قف عند ثناء الله على الصحابة الكرام، وكذا ذمه للمنافقين، فإنك ستجد أنهم صنفان متغايران، ولهذا ذكر الله الصحابة ومدحهم ثم ذكر المنافقين وذمهم، ولم يقل ولا في آية واحدة: إن هؤلاء المنافقين هم من وعدهم الله الحسنى قبل ذلك، بل تحدث سبحانه عن صنفين متغايرين، كما قال سبحانه: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100] ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)) [التوبة:101].(2/79)
فلاحظ أنه تكلم عن السابقين من المهاجرين والأنصار ووعدهم بالخلود في الجنة، ثم تكلم عن المنافقين، وإذا لم يكن الخلفاء الراشدون أول المهاجرين والأنصار فمن يكون إذن؟!
ومن المؤسف جداً أن يتدخل الهوى في دين المرء، فلا يقبل من الدين إلا ما وافق هواه، وأما ما خالفه فيرده بأي سبيل كان، ومثاله تعسفهم في تأويل قوله سبحانه: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)) [الفتح:29] فهذه الآية نص صريح في الثناءِ على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفِهم بأفضل الأوصاف، ومع ذلك حاول بعضهم رد الآية بكل ما استطاع من قوة، فقال: إن قوله في آخر الآية: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29] يدل على التبعيض! مع أن الآية لم تتحدث إلا عن المؤمنين وحدهم، الذين هم: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)) [الفتح:29] فهل يوصف بهذه الأوصاف أحد منافق أو كافر حتى يقول هذا وأمثاله: إن الله وعد الذين آمنوا من هؤلاء فقط دون البقية؟!
و[منهم] في الآية لبيان الجنس أو للتأكيد، فمثال بيان الجنس قوله سبحانه: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ)) [الحج:30] فلا يعني هذا أن نجتنب الرجس من الأوثان فقط دون بقية الأوثان، بل المراد: اجتنبوا الرجس من جنس هذه الأوثان، ومثال التأكيد قوله سبحانه: ((وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [الإسراء:82] فليست (من) هنا للتبعيض بل للتأكيد، فكذا آيتنا هذه.(2/80)
أضف إلى ذلك أن الله وصفهم في التوراة بدون قوله: منهم، أي: إلى قوله: ((سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ)) [الفتح:29] فهل الله عز وجل لم يبين البيان الكافي في التوراة؟! وكذا يقال في وصفه لهم في الإنجيل، ولهذا يتعين كون (منهم) في القرآن لبيان الجنس أو للتأكيد؛ لأن الكتب السماوية لا يمكن أن يعارض بعضها بعضاً.
فهل رأيت كيف يتحكم الهوى بصاحبه والعياذ بالله؟! أضف إلى ذلك: قول علي رضي الله عنه في نهج البلاغة لما تكلم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم ويقبضون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله همرت أعينهم حتى ابتلت جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب) (1).
فبالله عليك: أيهما الذي يوافق القرآن، كلام علي رضي الله عنه، أم كلام أولئك القوم الذين يدعون محبة آل البيت رضوان الله عليهم دون أن يتبعوهم إلا فيما يوافق أهواءهم والعياذ بالله؟!
__________
(1) نهج البلاغة (ص:190) شرح محمد عبده.(2/81)
وتأمل مدحه -أيضاً- لعمر بن الخطاب رضي الله عنه [وقيل: لأبي بكر] قال رضي الله عنه: (لله بلاء فلان(1)، لقد قوم الأود(2)، وداوى العمد(3)، وأقام السنة، وخلف البدعة، وذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها، أدى لله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي إليها الضال، ولا يستيقن المهتدي..)(4).
وكما ذكرت لك فقد تدخل الهوى تجاه هذا الكلام الجزل من الإمام علي رضي الله عنه؛ وذلك لأنه ينسف مذهب الشيعة من أساسه، كما قال الشيخ ميثم البحراني(5): (واعلم أن الشيعة قد أوردوا هنا سؤالاً، فقالوا: إن هذه الممادح التي ذكرها في حق أحد الرجلين تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهما وأخذهما لمنصب الخلافة، فإما أن لا يكون هذا الكلام من كلامه رضي الله عنه، وإما أن يكون إجماعنا خطأ).
وقد ذهب الشيعة كل مذهب في محاولة رد هذا النص الواضح البين، كقولهم: إنه قاله لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم في الشيخين أشد الاعتقاد، وهذا فيه اتهام له بالكذب من أجل الدنيا، حاشاه رضي الله عنه، ثم هل يحتاج رضي الله عنه إلى كل هذه التأكيدات والمبالغات لو لم يرد حقيقة المدح؟!
__________
(1) ورويت (لله بلاد فلان) وقال ابن أبي الحديد: سألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي؟ فقال لي: هو عمر بن الخطاب، فقلت له: أيثني عليه أمير المؤمنين هذا الثناء؟ فقال: نعم، ويقول أيضاً: إذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة وذهب نقي الثوب قليل العيب، وأنه أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه فهذا غاية ما يكون المدح. [شرح نهج البلاغة:2/4].
(2) الأود: العوج.
(3) العمد بالتحريك: العلة، انظر صبحي الصالح في تعليقه على نهج البلاغة (ص:671).
(4) نهج البلاغة (ص:430) شرح محمد عبده.
(5) ميثم بن علي البحراني (كمال الدين) من شيوخ الإمامية، من أهل البحرين، من كتبه: (شرح نهج البلاغة)، توفي في البحرين سنة: (679هـ)، معجم المؤلفين: (13/55).(2/82)
ولكن أقول للشيعة: بل كلام سيدنا علي رضي الله عنه صحيح، وإجماع الشيعة خطأ ولا شك، فارجعوا إلى كلام الله سبحانه وتعالى، وارجعوا إلى قول علي رضي الله عنه الواضح البين ففيه الرشاد.
ولعلنا في هذا الباب أن نعرج باختصار شديد على جوانب يسيرة تبين لنا حقيقة ذلك الجيل، وحقيقة العلاقة بين سائر الصحابة وبين آل البيت رضوان الله على الجميع.
فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
لا جدال في أن الله عز وجل قد ختم بعثة رسله وأنبيائه بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك في أن من ختمت به رسالات السماء يجب أن يكون أفضل الأنبياء والرسل عليهم السلام.
ومن هنا فلا بد أن يكون من بعث فيهم وإليهم أفضل الأمم وأعظمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفيتم سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله(1).
والروايات من طرق القوم في إثبات هذا كثيرة، وسوف نورد بعضها:
فعن علي رضي الله عنه قال: لما خلق الله محمداً نوراً قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وآدم وحواء، قال: أنت صفيي وأنت حبيبي وخير خلقي، أمتك خير أمة أخرجت للناس(2).
وعنه أيضاً قال: إن الله تعالى بعث جبرئيل إلى النبي أن بشر أمتك بالزين والسناء والرفعة والكرامة والنصر والتمكين في الأرض(3).
وروى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة ثمانون صفاً.
وفي رواية: عشرون ومائة ألف صف، ثمانون ألف صف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأربعون ألف صف من سائر الأمم(4).
__________
(1) مجمع البيان: (1/810).
(2) البحار: (15/29).
(3) إرشاد القلوب: (2/217-226)، إعلام الورى: (20)، البحار:(16/342، 347، 349) (18/122)، إثبات الهداة: (1/363).
(4) الخصال: (150)، الاحتجاج: (192)، الكافي: (2/596)، البحار: (7/130، 131)، نور الثقلين: (3/469) (5/219)، الصافي: (5/125).(2/83)
وقال صلى الله عليه وسلم: يدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب.
وفي بعض الروايات: ومع كل واحد سبعون ألفا(1).
وقال صلى الله عليه وسلم: أنا أكثر النبيين تبعاً يوم القيامة(2).
وقال رضوان خازن الجنة: إن الله قسم الجنة لأمة محمد أثلاثاً، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث تشفع لهم فتشفع فيهم(3).
وقد كان لإظهار الله عز وجل لفضل ومنزلة هذه الأمة سبب في أن يتمنى الأنبياء والرسل عليهم السلام أن يكونوا أمتهم أو أن يكونوا منهم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله تعالى جلَّ ثناؤه أرى إبراهيم صورة محمد وأمته، فقال: يا رب، ما رأيت من أمم الأنبياء أنور ولا أزهر من هذه الأمة فمن هذا؟ فنودي هذا محمد(4).
وهذا موسى عليه السلام يخبره ربه عز وجل: إن فضل أمة محمد على جميع الأمم كفضله -وفي بعض المصادر: كفضلي- على جميع خلقي؟ فقال موسى: يا رب، ليتني كنت أراهم، فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى، إنك لن تراهم، فليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنات -جنات عدن والفردوس- بحضرة محمد، في نعيمها يتقلبون، وفي خيراتها يتبحبحون(5).
ولما سأله أن يكون منهم أبى الله عز وجل عليه ذلك.
__________
(1) مجمع البيان: (9/331)، نور الثقلين: (3/469) (5/220).
(2) أمالي الصدوق: (179)، البحار: (8/22).
(3) البحار: (17/298)، الخرائج: (183).
(4) إرشاد القلوب: (2/217)، البحار: (16/347).
(5) علل الشرايع: (416)، عيون الأخبار: (1/220)، تفسير العسكري: (31)، البحار: (13/341) (26/275) (92/224) (99/185)، تأويل الآيات: (1/418)، البرهان: (3/228)، نور الثقلين: (4/130).(2/84)
فعن الرضا قال: إن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل: يا رب، اجعلني من أمة محمد. فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، إنك لا تصل إلى ذلك(1).
وفي رواية: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همَّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، وإن همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم السابقون وهم المشفوع لهم فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد، قال موسى عليه السلام: رب اجعلني من أمة أحمد(2).
وهذا عيسى عليه السلام سأل ربه عن عين طوبى في الجنة؟ فقال له: حرام يا عيسى على الأمم أن يشربوا منها حتى يشرب منها أمة ذلك النبي.
وفي رواية: وتلك الجنة محرمة على الأمم حتى يدخلها أمة ذلك النبي(3).
__________
(1) عيون الأخبار:(200)، صحيفة الرضا: (29) كتاب أبي الجعد: (10)، البحار:(13/344)(16/354) (17/32) (26/268)، تفسير الكاشف: (7/88)، مجمع البيان: (5/178).
(2) إثبات الهداة: (1/191)، البحار: (57/317).
(3) أمالي الصدوق: (164)، البحار: (14/286)، إثبات الهداة: (1/171، 197)، وانظر روايات أخرى في تحريم دخول الأمم السابقة الجنة قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم: البحار: (8/5) (16/326) (26/318) (27/129)(36/64)(39/214، 218)(45/403)، تأويل الآيات:(2/629)، البرهان:(4/262)، كشف الغمة: (1/321)، المحتضر: (97).(2/85)
وعندما يمر الأنبياء على فقراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: هؤلاء من الملائكة، وتقول الملائكة: هؤلاء من الأنبياء، فيقولون: نحن لا ملائكة ولا أنبياء، بل نفر من فقراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: بم نلتم هذه الكرامة؟ فيقولون: لم يكن أعمالنا شديداً، ولم نصم الدهر، ولم نقم الليل، ولكن أقمنا الصلوات الخمس، وإذا سمعنا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فاضت دموعنا على خدودنا(1).
حتى الأبالسة -وكما ذكرنا- لم يخف عليهم منزلة هذه الأمة، فهاهم يقولون لإبليس: إن هذه أمة مرحومة معصومة، ومالنا ولا لك عليهم سبيل(2).
وذلك لقول الله عز وجل بأنهم أمة مرحومة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أمتي أمة مرحومة(3).
فلا غرابة -إذاً- أن نرى الملائكة يوم القيامة يدعون ربهم أن يسلم هذه الأمة وييسر عليهم الحساب، فقد روى القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نعي إليه نفسه قال وسألته الزهراء رضي الله عنها: أين ألقاك؟ قال: عند الصراط، جبرئيل عن يميني، وميكائيل عن يساري، والملائكة من خلفي وقدامي ينادون: رب سلم أمة محمد من النار ويسر عليهم الحساب(4).
وقد ذكر صاحب روضة الواعظين أن الله سبحانه أعطى هذه الأمة مرتبة الخليل، ومرتبة الكليم، ومرتبة الحبيب:
فأما مرتبة الخليل فإن إبراهيم عليه السلام سأل ربه خمس حاجات فأعطاها إياه بسؤاله، وأعطى ذلك هذه الأمة بلا سؤال:
__________
(1) جامع الأخبار: (129)، البحار: (72/48).
(2) إثبات الهداة: (2/21)، البحار: (28/261).
(3) نور الثقلين: (3/523)، البحار: (14/286)(16/145)(52/181)، أمالي الصدوق: (164)، كمال الدين: (96).
(4) أمالي الصدوق: (507، 508)، البحار: (22/509).(2/86)
الأول: سأل الخليل المغفرة بالتعريض، فقال: ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) [الشعراء:82]، وأعطى هذه الأمة بلا سؤال، فقال: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53].
والثاني: سأل الخليل، فقال: ((وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ)) [الشعراء:87]، وقال لهذه الأمة: ((يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) [التحريم:8].
والثالث: سأل الخليل الوراثة، فقال: ((وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ)) [الشعراء:85]، وقال لهذه الأمة: ((أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون:10-11].
والرابع: سأل الخليل القبول، فقال: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)) [البقرة:127]، وقال لهذه الأمة: ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) [الشورى:25].
والخامس: سأل الخليل الأعقاب، فقال: ((رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ)) [الصافات:100] وقال لهذه الأمة: ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ)) [الأنعام:165].
ثم أعطى الخليل ست مراتب بلا سؤال، وأعطى هذه الأمة جميع ذلك بلا سؤال:
الأول: قال للخليل: ((مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً)) [آل عمران:67]، وقال لهذه الأمة: ((هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ)) [الحج:78].
والثاني: قال للخليل: ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) [الأنبياء:69]، وقال لهذه الأمة: ((وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)) [آل عمران:103].(2/87)
والثالث: قال للخليل: ((فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)) [الصافات:101]، وقال لهذه الأمة: ((وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً)) [الأحزاب:47].
والرابع: قال للخليل: ((سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) [الصافات:109]، وقال لهذه الأمة: ((قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)) [النمل:59].
والخامس: قال للخليل: ((وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ)) [ص:45]، وقال لأمة الحبيب: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ)) [الفرقان:63].
والسادس: قال للخليل: ((شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ)) [النحل:121]، وقال لهذه الأمة: ((هُوَ اجْتَبَاكُمْ)) [الحج:78].
وأما مرتبة الكليم فإن الله تعالى أعطى الكليم عشر مراتب، وأعطى أمة محمد عشر أمثالها:
الأول: قال للكليم: ((وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ)) [الشعراء:65]، وقال لأمة محمد: ((كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)) [يونس:103].
والثاني: أعطى الكليم النصرة فقال: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) [طه:46]، وقال لأمة محمد: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)) [النحل:128].
والثالث: القربة، قال: ((وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً)) [مريم:52]، وقال لهذه الأمة: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ)) [الواقعة:85].
والرابع: المنة، قال تعالى: ((وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ)) [الصافات:114]، وقال لهذه الأمة: ((بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ)) [الحجرات:17].
والخامس: الأمن والرفعة، فقال: ((قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)) [طه:68]، وقال لهذه الأمة: ((وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:139].(2/88)
والسادس: المعرفة والشرح في الصدر، قال الكليم: ((رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)) [طه:25]، فأعطاه ذلك بقوله: ((قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)) [طه:36]، وقال لأمة محمد: ((أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)) [الزمر:22].
والسابع: التيسير، قال: ((وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)) [طه:26]، وقال لهذه الأمة: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)) [البقرة:185].
والثامن: الإجابة، قال تعالى: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)) [يونس:89]، وقال لهذه الأمة: ((وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)) [الشورى:26].
والتاسع: المغفرة، قال الكليم: ((فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [القصص:16]، وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: ((يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)) [إبراهيم:10].
والعاشر: النجاح، قال: ((قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)) [طه:36]، وقال لهذه الأمة: ((وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)) [إبراهيم:34]، وفي ضمنها وما لم تسألوه كقوله: ((سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)) [فصلت:10] أي: لمن سأل ولمن لم يسأل.
وأما مرتبة الحبيب فإن الله سبحانه أعطى حبيبه صلى الله عليه وسلم تسع مراتب، وأعطى أمته مثلها تسعاً:
الأول: التوبة، قال للحبيب: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ)) [التوبة:117].
وقال لأمته: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) [النساء:27]، وقال: ((ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)) [التوبة:118].
والثاني: المغفرة، قال تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ)) [الفتح:2]، وقال لأمته: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)) [الزمر:53].(2/89)
والثالث: النعمة، قال له: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) [الفتح:2]، وقال لأمته: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)) [المائدة:3].
والرابع: النصرة، قال تعالى: ((وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً)) [الفتح:3]، وقال لأمته: ((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم:47].
والخامس: الصلوات، قال له: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)) [الأحزاب:56]، وقال لأمته: ((هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ)) [الأحزاب:43].
والسادس: الصفوة، قال للحبيب: ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ)) [الحج:75] يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال لأمته: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) [فاطر:32].
والسابع: الهداية، قال للحبيب: ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)) [الفتح:2]، وقال لأمته: ((وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الحج:54].
والثامن: السلام، قال للحبيب في ليلة المعراج: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) وقال لأمته: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) [الأنعام:54].
والتاسع: الرضا، قال للحبيب: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) [الضحى:5]، وقال لأمته: ((لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ)) [الحج:59]، يعني: الجنة.(2/90)
وعن الصادق، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مما أعطى الله به أمتي وفضلهم به على سائر الأمم ثلاث خصال لم يعطها إلا نبي، وذلك أن الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبياً قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك، وإن الله تبارك وتعالى أعطى ذلك لأمتي، حيث يقول: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج:78]، يقول: من ضيق.
وكان إذا بعث نبياً قال له: إذا أحزنك أمر تكرهه فادعني أستجب لك، وإن الله أعطى أمتي ذلك، حيث يقول: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60].
وكان إذا بعث نبياً جعله شهيداً على قومه، وإن الله تبارك وتعالى جعل أمتي شهداء على الخلق، حيث يقول: ((لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) [الحج:78] (1).
ومن رحمة الله سبحانه على هذه الأمة وتخصيصه إياهم دون الأمم ما خص به شريعتهم من التخفيف والتيسير، فقال سبحانه: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)) [النساء:28].
وقال: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)) [المائدة:6].
وقال: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج:78].
وقال: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)) [البقرة:185].
وقال: ((وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) [الأعراف:157] وغيرها من الآيات.
وكان مما أنعم الله تعالى على هذه الأمة أن الأمم الماضية كانوا إذا أصابهم بول أو غائط أو شيء من النجاسات كان تكليفهم قطعه وإبانته من أجسادهم، وخفف عن هذه الأمة بأن جعل الماء طهوراً لما يصيب أبدانهم وأثوابهم، قال الله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)) [الفرقان:48].
__________
(1) قرب الإسناد: (56)، البحار: (22/443) (23/340) (93/290).(2/91)
ومنها: أنهم كانوا يعتزلون النساء في حال الحيض، فلم يكونوا يؤاكلونهن ولا يجالسونهن، وما أصاب الحائض من الثياب والفرش والأواني وغير ذلك نجس، حتى لا يجوز الانتفاع به، وأباح لنا جميع ذلك إلا المجامعة.
ومنها: أن صلاتهم كانت خمسين، وصلاتنا خمس، وفيها ثواب الخمسين، وزكاتهم ربع المال، وزكاتنا ربع العشر، وثوابه ربع المال.
ومنها: أنهم كانوا إذا فرغوا من الطعام ليلة صيامهم حرم عليهم الطعام والشراب والجماع إلى مثلها من الغد، وأحل الله لنا التسحر والوطء في ليالي الصوم، فقال: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ)) [البقرة:187] يعني: بياض النهار من سواد الليل، وقال: ((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)) [البقرة:187]، يعني: الجماع.
ومنها: كانت الأمم السالفة تجعل قربانها على أعناقها إلى بيت المقدس، فمن قبل ذلك منه أرسلت عليه نار فأكلته، ومن لم يقبل منه رجع مثبوراً، وقد جعل الله قربان أمة محمد صلى الله عليه وسلم في بطون فقرائها ومساكينها، فمن قبل ذلك منه ضعف له أضعافاً مضاعفة، ومن لم يقبل منه رفعت عنه به من عقوبات الدنيا.
ومنها: أن الله تعالى كتب عليهم القصاص في التوراة والدية في القتل والجراح ولم يرخص لهم في العفو وأخذ الدية، ولم يفرق بين الخطأ والعمد في وجوب القصاص، فقال: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)) [المائدة:45]، ثم خفف عنا في ذلك فخير بين القصاص والدية والعفو، وفرق بين الخطأ والعمد، فقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) [البقرة:178] إلى قوله: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)) [البقرة:178].(2/92)
ومن ذلك: تخفيف الله عنهم في أمر التوبة، فقال لبني إسرائيل: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [البقرة:54]، فكانت توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، الأب ابنه، والابن أباه، والأخ أخاه، والأم ولدها، ومن فر من القتل أو دفع عن نفسه أو اتقى السيف بيده أو ترحم على ذي رحمة لم تقبل توبته، ثم أمرهم الله بالكف عن القتل بعد أن قتلوا سبعين ألفاً في مكان واحد، فهذه توبتهم.
وجعل توبتنا: الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، وترك العود بالأبدان، فقال عز وجل: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [آل عمران:135]، وقال: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ)) [المائدة:74]، وقال: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)) [الحديد:16].
ومن الأمم السالفة من ينظر إلى امرأة بريبة يؤمر بقلع العين لتقبل عنه التوبة، وكفارتنا فيه غض البصر، والتوبة بالقلب، والعزم على ترك العودة إليه.
وكان منهم من يلاقي بدنه امرأة حراماً، فيكون التوبة منه إبانة ذلك العضو من نفسه، وتوبتنا فيه الندم وترك العود إليه.(2/93)
ومن يرتكب منهم الخطيئة في خفية وخلوة يخرج وخطيئته مصورة على باب داره: ألا إن فلان بن فلان ارتكب البارحة خطيئة كذا وكذا، وكان ينادى عليه من السماء بذلك فيفتضح وينتهك ستره، ومن يرتكب منا الخطيئة ويخفيها عن الأبصار فيطلع عليه ربه، يقول للملائكة: عبدي قد ستر منا الخطيئة ويخفيها عن الأبصار، فيطلع عليه ربه، فيقول للملائكة: عبدي قد ستر ذنبه عن أبناء جنسه لقلة ثقته بهم، والتجأ إلي لعله تتبعه رحمتي، اشهدوا أني قد غفرتها له لثقته برحمتي، فإذا كان يوم القيامة وأوقف للعرض والحساب يقول: عبدي أنا الذي سترتها عليك في الدنيا، وأنا الذي أسترها عليك اليوم.
ومما فضل الله به هذه الأمة أن قيض لهم الأكرمين من الملائكة يستغفرون لهم ويسترحمون لهم من الرحمة، فقال سبحانه: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) [غافر:7]، قال صلى الله عليه وسلم: المؤمنون شهداء في الأرض، وما رأوه حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: يا ليتني قد لقيت إخواني، فقيل: يا رسول الله، أولسنا إخوانك آمنا بك وهاجرنا معك واتبعناك ونصرناك؟ قال: بلى، ولكن إخواني الذين يأتون من بعدكم، يؤمنون بي كإيمانكم، ويحبوني كحبكم، وينصروني كنصركم، ويصدقوني كتصديقكم، ياليتني قد لقيت إخواني(1).
ولا يسعنا هنا حصر كل ما ورد في بيان فضائل أمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيما أوردناه كفاية.
__________
(1) روضة الواعظين:(255)، البحار:(16/341)(22/444)، وانظرأيضاً:إرشاد القلوب:(2/217).(2/94)
فإذا علمت هذا فيقيناً أن الرعيل الأول من هذه الأمة الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأمة وأعظمها، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، حيث قال: إن الله أخرجني في خير قرن من أمتي(1).
وعن الكاظم، عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القرون أربعة، أنا في أفضلها قرناً(2).
وهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء: مرحباً بالنبي الصالح، والابن الصالح، والمبعوث الصالح، في الزمان الصالح(3).
وغيرها من روايات تظهر فضل أناس ذلك الزمان الصالح، والقرن المفضل، وهم جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد ذكر القوم عن العسكري رحمه الله، أن آدم عليه السلام سأل الله عز وجل أن يعرفه بفضل صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: إن رجلاً من خيار أصحاب محمد لو وزن به جميع أصحاب المرسلين لرجح عليهم، يا آدم: لو أحب رجل من الكفار أو جميعهم رجلاً من آل محمد وأصحابه الخيرين لكافأه الله عن ذلك بأن يختم له بالتوبة والإيمان ثم يدخله الله الجنة، إن الله ليفيض على كل واحد من محبي محمد وآل محمد وأصحابه من الرحمة ما لو قسمت على عدد كعدد كل ما خلق الله من أول الدهر إلى آخره وكانوا كفاراً لكفاهم ولأداهم إلى عاقبة محمودة الإيمان بالله حتى يستحقوا به الجنة، ولو أن رجلاً ممن يبغض آل محمد وأصحابه الخيرين أو واحداً منهم لعذبه الله عذاباً لو قسم على مثل عدد ما خلق الله لأهلكهم الله أجمعين(4).
__________
(1) علل الشرايع: (45)، الخصال: (2/47)، معاني الأخبار: (19)، البحار: (16/92).
(2) نوادر الراوندي: (16)، البحار: (22/309).
(3) سعد السعود: (101)، البحار: (18/318)، المستدرك: (1/250)، تأويل الآيات: (1/266)، تفسير القمي: (1/397، 400، 401).
(4) تفسير العسكري: (157)، البحار: (26/331).(2/95)
وروى القوم عن الرضا، أن موسى عليه السلام سأل ربه: هل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ فقال عز وجل: يا موسى، أما علمت أن فضل صحابة محمد على جميع صحابة الأنبياء المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين، وفضل محمد على جميع المرسلين؟(1)
الفضل والخيرية التي من مستلزماتها الوسطية، أكدَّها الله عز وجل في آيات عدة، كقوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) [البقرة:143].
ولا يخفى أن أول من خوطب بهذه الآية هم الصحابة رضوان الله عليهم، تماماً كما كانوا أول من خاطب الله عز وجل في قوله: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110].
ويقول الطبرسي في تفسير الآية: معناه أنتم خير أمة، وإنما قال: (كنتم) لتقدم البشارة لهم في الكتب الماضية(2). وقد ذكرنا بعضاً من ذلك.
ويقول الطباطبائي في ميزانه: الآية تمدح حال المؤمنين في أول ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار(3).
وفيهم قال صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني.
وفي رواية: إلى السابع ثم سكت(4).
__________
(1) علل الشرايع: (416)، عيون الأخبار: (1/220)، تفسير العسكري: (31)، البحار: (13/341) (26/275) (92/224) (99/185)، تأويل الآيات: (1/418)، البرهان: (3/228)، نور الثقلين: (4/130).
(2) مجمع البيان: (1/810).
(3) تفسير الميزان: (3/376).
(4) أمالي الصدوق: (327)، أمالي الطوسي: (454)، البحار: (22/305، 313)(70/12).(2/96)
فضائل الصحابة من القرآن والسنة وأقوال أئمة الشيعة:
والقرآن مليء بعشرات النصوص الدالة على إيمان وفضل هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، كقوله تعالى: ((وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:62-64].
وقوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الأنفال:74-75].
وقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100].
قال الطبرسي: وفي هذه الآية دلالة على فضل السابقين ومزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين، فمنها: مفارقة العشائر والأقربين، ومنها: مباينة المألوف من الدين، ومنها: نصرة الإسلام وقلة العدد وكثرة العدو، ومنها: السبق إلى الإيمان والدعاء إليه(1).
__________
(1) مجمع البيان: (5/98)، البحار: (22/302) (69/59).(2/97)
ويقول الطباطبائي: المراد بالسابقين هم الذين أسسوا أساس الدين ورفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه ويهتز راياته، صنف منهم بالإيمان واللحوق بالنبي صلى الله عليه وسلم والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالإيمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع(1).
وكذلك لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم إلا وتحدثت عن جهادهم في سبيل الله عز وجل، اقرأ مثلاً قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التوبة:20-22].
وقوله: ((لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:88-89].
وقوله: ((وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [الحديد:10].
__________
(1) تفسير الميزان: (9/373).(2/98)
وقوله تعالى: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) [آل عمران:172-174].
وقوله تعالى: ((إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)) [الأنفال:11].
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما سأله أن يدعه يضرب عنقه، قال: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم(1).
وقال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة:214].
قال الطبرسي: قيل: نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذ تركوا ديارهم وأموالهم ومسهم الضر(2).
__________
(1) مجمع البيان: (9/270)، الإرشاد: (34)، إعلام الورى: (66)، البحار: (21/94، 121، 125)، نور الثقلين: (5/301)، تفسير فرات: (2/421).
(2) مجمع البيان: (1/546)، البحار: (20/188).(2/99)
وفيهم يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
فجاء بفرقان من الله منزل ... ... مبينة آياته لذوي العقل
فآمن أقوام كرام وأيقنوا ... ... وأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل
وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم ... ... فزادهم الرحمن خبلاً على خبل
وأمكن منهم يوم بدر رسوله ... ... وقوماً غضاباً فعلهم أحسن الفعل
بأيديهم بيض خفاف قواطع ... ... وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل(1)
وقد وصف الله تعالى أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالصدق والتقوى، ووعدهم بالفلاح في مواطن كثيرة، منها:
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة:119]، ذكر بعض المفسرين أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم(2).
ولا تخفى منزلة من أمرنا بالاقتداء بهم، وهذا الأمر باقٍ إلى يوم القيامة ولا يحتج هنا بأن هذا إنما كان في حال الصلاح قبل الردة كما يدعي القوم، فإن ذلك مقياس البشر، لا مقياس علام الغيوب الذي لا تخفى عنه خافية في السماء أو الأرض فضلاً عن سرائر النفوس.
وفيهم يقول عز وجل: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29].
__________
(1) ديوان أمير المؤمنين رضي الله عنه: (107)، البحار: (19/316) (41/94)، المناقب: (1/85) (3/144).
(2) انظر مثلاً: مجمع البيان: (3/122).(2/100)
ففي هذه الآية مع غيرها من الدلائل دليل على أن الله يغيظ بالصحابة رضوان الله عليهم من ينتقص من حقهم ومنزلتهم التي أنزلهم الله.
وعلى صلة بالآية السابقة، روى القوم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل قوم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن نزلت هذه الآية: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29] قال: إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أبيض، ونادى منادٍ: ليقم سيد المؤمنين ومعه الذين آمنوا فقد بعث محمد، فيقوم علي بن أبي طالب فيعطي الله اللواء من النور الأبيض بيده، تحته جميع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لا يخالطهم غيرهم حتى يجلس على منبر من نور رب العزة، ويعرض الجميع عليه رجلاً رجلاً فيعطى أجره ونوره، فإذا أتى على آخرهم قيل لهم: قد عرفتم موضعكم ومنازلكم من الجنة، إن ربكم يقول لكم: عندي لكم مغفرة وأجر عظيم -يعني: الجنة- فيقوم علي بن طالب والقوم تحت لوائه معهم حتى يدخل الجنة(1).
نعود إلى ما كنا فيه من ذكر فضائل الصحابة من القرآن، يقول الله عز وجل: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)) [الفتح:18-20].
__________
(1) أمالي الطوسي: (387)، البحار: (8/4) (23/388) (39/213)، كنز جامع الفوائد: (345)، البرهان: (4/202)، المناقب: (3/27)، نور الثقلين: (5/79، 245).(2/101)
يقول الطبرسي: يعني بيعة الحديبية، وتسمى بيعة الرضوان لهذه الآية ورضا الله سبحانه عنهم، وإرادته تعظيمهم وإثابتهم، وهذا إخبار منه سبحانه أنه رضي عن المؤمنين إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية تحت الشجرة المعروفة وهي شجرة السمرة(1)، وكان عدد الصحابة رضوان الله عليهم يوم بيعة الرضوان ألفاً ومائتين، وقيل: وأربعمائة، وقيل: وخمسائة، وقيل: وثمانمائة(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرنا الله عز وجل أنه رضي عنهم -عن أصحاب الشجرة- فعلم ما في قلوبهم، هل حدثنا أحد أنه سخط عليهم بعد؟(3)
وعلى أي حال، لا يسعنا هنا حصر جميع الآيات الدالة على فضائل الصحابة خشية خروجنا عما التزمنا به من الإيجاز في كل موضوع، لذا فإننا نختم هذا بإيراد التالي، ففيما أوردناه آنفاً غنىً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
__________
(1) مجمع البيان: (5/176).
(2) مجمع البيان: (5/167)، البحار: (20/346، 365) (24/93) (36/55، 121)، روضة الكافي: (322)، تأويل الآيات: (2/595)، البرهان: (4/196)، المناقب: (2/22).
(3) الإرشاد:(13)، روضة الواعظين:(75)، البحار:(38/243)(40/51)، تفسير فرات: (2/421).(2/102)
يقول الله عز وجل: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:8-10].(2/103)
روى القوم أن نفراً من أهل العراق وفدوا على الإمام زين العابدين رحمه الله، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم، قال لهم: ألا تخبروني: أنتم المهاجرون الأولون ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)) [الحشر:8]؟ قالوا: لا. قال: فأنتم ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9] قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) [الحشر:10] اخرجوا عني فعل الله بكم(1).
__________
(1) كشف الغمة: (2/291).(2/104)
ولم يزل وهو يرى نفسه من الفريق الثالث يدعو الله لهم بالمغفرة، يقول في أحد أدعيته: اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له، حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ومن كثرت في إعزاز دينك من مظلومهم، اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) [الحشر:10] خير جزائك الذين قصدوا سمتهم، وتحروا وجهتهم في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفو آثارهم والائتمام لهم يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يتفقون عليهم ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم (1).
ولا عجب في أن ينتهج الإمام السجاد نهج جده أمير المؤمنين رضي الله عنه في بيان فضائلهم لأهل العراق.
__________
(1) الصحيفة السجادية: من دعائه في الصلاة على أتباع الرسل ومصدقيهم.(2/105)
فعن الباقر قال: صلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالناس الصبح بالعراق، فلما انصرف وعظهم فبكى وأبكاهم من خوف الله تعالى، ثم قال: أما والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنهم ليصبحون ويمسون شعثاً غبراً خمصاً بين أعينهم كركب المعزى، يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، يناجون ربهم، ويسألونه فكاك رقابهم من النار، والله لقد رأيتهم مع ذلك وهم جميع مشفقون منه خائفون(1).
وعن زين العابدين قال: صلى أمير المؤمنين الفجر ثم لم يزل في موضعه حتى صارت الشمس على قيد رمح، وأقبل على الناس بوجهه، فقال: والله لقد أدركت أقواماً يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يخالفون بين جباههم وركبهم كأن زفير النار في آذانهم إذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر(2).
وكان رضي الله عنه يقول لمعاوية: أما بعد: فإن لله عباداً آمنوا بالتنزيل، وعرفوا التأويل، وفقهوا في الدين، وبيَّن الله فضلهم في القرآن الكريم، وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم، فكنتم فيمن دخل هذا الدين إما رغبة وإما رهبة، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وفاز المهاجرون والأنصار بفضلهم، ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به فيجور ويظلم(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: (62)، البحار: (22/306)، وقال في بيانه: جميع، أي: مجتمعون على الحق لم يتفرقوا كتفرقكم.
(2) الكافي: (2/236)، البحار: (41/24) (42/247) (67/360).
(3) البحار: (32/429).(2/106)
وقال فيهم الإمام الصادق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً.. ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجيء ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير(1).
وإذا قارنت هذه الرواية بقوله سبحانه عن المهاجرين والأنصار: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100].
أقول: إذا قارنت هذه الرواية بهذة الآية علمت أن الله عز وجل لما وعدهم بالجنات والخلود فيها دل ذلك على أنهم يموتون على الإيمان والهدى، ولا ينافي هذا وقوع المعاصي منهم فهم غير معصومين، ووعد الله حقٌ لا خلف فيه، ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً.
وبناءً على هذا يتضح أن هؤلاء المهاجرين والأنصار لا يمكن أن يكونوا هم المرادون في حديث الحوض؛ لوعد الله عز وجل لهم بالجنات والخلود فيها ووعد الله حق، وكذا لإخباره أنه رضي عنهم كما في نفس الآية، وأما المراد بحديث الحوض ففيه عدة أقوال، ومنها: أنه من أسلم ولم يحسن إسلامه ممن كان باليمامة مثلاً وشهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اتبع بعد ذلك أحد الذين ادعوا النبوة كطليحة وسجاح أوغيرهما.
وينبغي أن يعلم -أيضاً- أن هؤلاء قليلٌ لا كما يصورهم بعض أصحاب الهوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يعرض عليه زمرٌ من أصحابه.
وفي رواية: رجالٌ.
__________
(1) الخصال: (640)، البحار: (22/305)، حدائق الأنس: (200).(2/107)
وفي رواية: أناسٌ. ثم بيَّن أن من يخلص من بين تلك الزمر مثل همل النعم، ولم يقل: إنَّ الذين يردون عليه جميع أصحابه ولا يخلص منهم إلا مثل همل النعم، فتأمل الفرق!
ومن أقوال الإمام الصادق رحمه الله: كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع حصاة في فمه، فإذا أراد أن يتكلم بما علم أنه لله وفي الله ولوجه الله أخرجها، وإن كثيراً من الصحابة كانوا يتنفسون تنفس الغرقى، ويتكلمون شبه المرضى(1).
لذا صلح أمرهم، كما قال علي رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: إن صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلاك آخرها بالشح والأمل(2).
وكان من عظمة هذا الجيل المثالي، أن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي من بعده أن يذكرهم بسوء أو ينتقصهم، وكأنَّ الله عز وجل أطلعه على الغيب ليرى ما سيؤول إليه الأمر، فقال: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا(3).
وعن الصادق، عن آبائه، عن علي رضي الله عنه قال: أوصيكم بأصحاب نبيكم، لا تسبوهم وهم الذين لم يحدثوا بعده ولم يؤووا محدثاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم(4).
ولا يسعف القوم حمل قوله هذا على من لم يحدث بعده، فإن علياً رضي الله عنه وهو راوي الحديث لم ير ذلك في أهل الشام الذين رأوا الخروج عليه، حيث قال فيهم:
إن ربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق لرسوله صلى الله عليه وسلم ولا يستزيدونا، الأمر واحدٌ إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء(5). فتدبر في هذا! وهل أنت أعلم أم علي رضي الله عنه؟!
__________
(1) مصباح الشريعة: (20)، البحار: (71/284).
(2) أمالي الصدوق: (189)، البحار: (70/173، 311) (73/164، 300).
(3) نور الثقلين: (4/407)، البحار: (58/276).
(4) أمالي الطوسي: (332)، البحار: (22/306)، حياة القلوب: (2/621).
(5) البحار: (33/306)، نهج البلاغة: (141).(2/108)
ولا زال يوصي من سيأتي بعدهم بالتمسك بكتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وسلم وهديهم رضي الله عنهم، ويؤكد أن ظهور هذا الدين إنما بمن بقي منهم رضي الله عنهم.
فعن الصادق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل به لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت فيه سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا به، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيما أخذ اهتدى، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة(1).
وعن الكاظم عن آبائه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا قبضت دنا من أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا قبض أصحابي دنا من أمتي ما يوعدون، ولا يزال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من قد رآني(2).
ولقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على درجة عالية من الأخلاق في تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعتهم وحبهم وإخلاصهم له، فهذا أنس رضي الله عنه يقول: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته(3).
وعن البراء بن عازب قال: لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله عن الأمر فأؤخره سنتين من هيبته(4).
وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة من أدم، وقد رأيت بلالاً الحبشي وقد خرج من عنده ومعه فضل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدره الناس، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به وجهه، ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من يدي صاحبه فمسح وجهه، وكذلك فعل بفضل وضوء أمير المؤمنين(5).
__________
(1) معاني الأخبار: (50)، البحار: (22/307).
(2) نوادر الراوندي: (23)، البحار: (22/309).
(3) مكارم الأخلاق: (16)، البحار: (16/229).
(4) المصادر السابقة.
(5) البحار: (17/33).(2/109)
وعن ابن شريك قال: أتيت النبي وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير.
وعن عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى من تعظيم أصحابه له وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقاً ولا يتنخم نخامةً إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، فلما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش، إني أتيت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت مَلِكاً في قومه مثل محمد في أصحابه.
وعن أنس قال: لقد رأيت رسول الله والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن يقع شعرة إلا في يد رجل(1).
ولما أراد المشركون قتل زيد بن الدثنة قالوا له: أتحب أنك الآن في أهلك وأن محمداً مكانك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً يشاك بشوكة وأني جالس في أهلي، فقال أبوسفيان: والله ما رأيت من قوم قط أشد حباً لصاحبهم من أصحاب محمد(2).
وكشأن أصحابه رضوان الله عليهم معه كان هو صلى الله عليه وسلم في محبته وتعامله معهم، من ذلك: ما رواه عنه ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر(3).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده(4).
__________
(1) البحار: (17/32) (20/332، 343)، شرح الشفاء: (1/67)، مجمع البيان: (9/117)، المناقب: (1/203).
(2) المنتقى في مولود المصطفى: فيما كان سنة أربع من الهجرة، البحار: (20/152).
(3) مكارم الأخلاق: (21)، البحار: (16/236).
(4) مكارم الأخلاق: (17)، البحار: (16/233).(2/110)
وكان يقول صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة(1).
ولم يقتصر بيانه صلى الله عليه وسلم لفضائلهم في حياته -كما يزعم القوم- من أن ذلك إنما هو في حال صلاحهم، بل كأنه أراد إثبات فساد قولهم هذا، بأن بين فضلهم في حال وفاته، وذلك باستغفاره لما قد يبدر منهم من ذنوب، فعن الباقر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مقامي بين أظهركم خيرٌ لكم، وإن مفارقتي إياكم خيرٌ لكم، أما مقامي فلقول الله عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) [الأنفال:33]، أما مفارقتي لأن أعمالكم تعرض علي كل اثنين وخميس، فما كان حسناً حمدت الله تعالى عليه، وما كان سيئاً استغفرت لكم(2).
وجعل ثبات المؤمنين على الصراط بسبب شدة حبهم لأصحابه رضي الله عنهم، فعن الباقر، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أثبتكم على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي ولأصحابي(3).
__________
(1) المناقب: (1/185)، البحار: (19/124)(22/354)، نور الثقلين:(4/244)، القمي:(2/153).
(2) البصائر: (131)، العياشي: (2/59)، البحار: (17/149) (23/338، 349)، أمالي الطوسي: (421)، نور الثقلين: (2/151، 153، 264)، البرهان: (2/79)، الصافي: (2/300)، القمي: (1/276)، معاني الأخبار: (113).
(3) البحار: (27/133).(2/111)
وقد كان الأصحاب من مهاجرين وأنصار وكذا أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين يختصمون لا في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فحسب، فإن ذلك من المسلمات، ولكن في أيهم أولى بذلك الحب، وأيهم أحب إليه، فعن كعب بن عجرة، أن المهاجرين والأنصار وبني هاشم اختصموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا أولى به وأحب إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنتم يا معشر الأنصار فإنما أنا أخوكم، فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة، وأما أنتم يا معشر المهاجرين فإنما أنا منكم، فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة، وأما أنتم يا بني هاشم فأنتم مني وإلي، فقمنا وكلنا راضٍ مغتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وعلى ذكر الأنصار، روى القوم عن الصادق أنه قال: ما سلت السيوف ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف ولا جهر بأذان ولا أنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ)) حتى أسلم أبناء القيلة: الأوس والخزرج(2).
وما دمنا في ذكرهم، فلا بأس في إيراد شيء من فضائلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار.
يا معشر الأنصار: أما ترضون أن يرجع غيركم بالشاء والنعم وترجعون أنتم وفي سهمكم رسول الله؟ قالوا: بلى رضينا، قال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ: الأنصار كرشي وعيبتي، لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم اغفر للأنصار(3).
وزاد الطبرسي رحمه الله بعد قوله: لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار(4).
__________
(1) البحار: (22/312).
(2) البحار: (22/312).
(3) الإرشاد: (75)، إعلام الورى: (126)، البحار: (21/159، 172).
(4) مجمع البيان: (5/19)، البحار: (21/162) (22/137)، التفسير الكاشف: (7/290).(2/112)
قال الصادق: جاءت فخذ من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه فرد عليهم السلام، فقالوا: يا رسول الله، لنا إليك حاجة. فقال: هاتوا حاجتكم، قالوا: إنها عظيمة، فقال: هاتوها ما هي؟ قالوا: أن تضمن لنا على ربك الجنة. قال: فنكس رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ثم نكت في الأرض ثم رفع رأسه، فقال: أفعل ذلك بكم على أن لا تسألوا أحداً شيئاً، قال: فكان الرجل منهم يكون في السفر فيسقط سوطه فيكره أن يقول لإنسان: ناولنيه، فراراً من المسألة، فينزل فيأخذه، ويكون على المائدة فيكون بعض الجلساء أقرب إلى الماء منه، فلا يقول: ناولنيه حتى يقوم فيشرب(1).
وقال لامرأة أنصارية وهبت نفسها له صلى الله عليه وسلم: رحمك الله ورحمكم يا معشر الأنصار، نصرني رجالكم، ورغبت في نساؤكم(2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس رضي الله عنهم دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه، فقالوا: يا رسول الله، هذه الأنصار في المسجد تبكي رجالها ونساؤها عليك، فقال: وما يبكيهم؟ قالوا: يخافون أن تموت، فقال: أعطوني أيديكم، فخرج في ملحفة وعصابة حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال فيما قاله: أوصيكم بهذا الحي من الأنصار، فقد عرفتم بلاءهم عند الله عز وجل وعند رسوله وعند المؤمنين، ألم يوسعوا في الديار، ويشاطروا الثمار، ويؤثروا وبهم الخصاصة؟ فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسن الأنصار، وليتجاوز عن مسيئهم، وكان آخر مجلس جلسه حتى لقى الله عز وجل (3).
__________
(1) الكافي: (3/127)، البحار: (22/129، 142)، أمالي الطوسي: (675).
(2) تفسير القمي: (2/169)، البحار: (22/196، 211)، الكافي: (4/79)، نور الثقلين: (4/292، 293)، الصافي: (4/196).
(3) أمالي المفيد: (28)، البحار: (22/475) (28/177).(2/113)
وقال صلى الله عليه وسلم: ألا وإن الأنصار ترسي، فاعفوا عن مسيئهم وأعينوا محسنهم(1).
وعن الكاظم قال: لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاة دعا الأنصار، وقال: يا معشر الأنصار، قد حان الفراق، وقد دعيت وأنا مجيب الداعي، وقد جاورتم فأحسنتم الجوار، ونصرتم فأحسنتم النصرة، وواسيتم في الأموال، ووسعتم في المسلمين، وبذلتم لله مهج النفوس، والله يجزيكم بما فعلتم الجزاء الأوفى(2).
وقال علي رضي الله عنه في مدحهم: هم والله ربوا الإسلام كما يربى الفلو مع غنائهم بأيديهم السياط وألسنتهم السلاط(3).
وليس بعزيز على الله بعد كل هذا أن يجعلهم أئمة ويجعلهم وارثين وأن يستخلفهم في الأرض، كما قال في محكم كتابه: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)) [النور:55]، فالله عز وجل وعد في هذه الآيات المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء، ولا بد من وقوع ما وعد به ضرورةً، لامتناع الخلف في وعده تعالى، ووقع ذلك في عهد الخلفاء الراشدين الذين كانوا حاضرين وقت نزول هذه الآيات، كما ذكر ذلك بعض المفسرين.
بشارات الرسول التي تحققت في عهد الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم :
__________
(1) أمالي الطوسي: (261)، البحار: (22/312) (23/146)، البرهان: (1/11).
(2) البحار: (22/476).
(3) نهج البلاغة: (184)، البحار: (22/312).(2/114)
وعلى ذكر هذه الآيات ووقوع ما وعد الله به المؤمنين من الاستخلاف في الأرض، والحاصل في حق الثلاثة رضي الله عنهم الأمر الذي لا يراه القوم، نورد هنا بعضاً من البشارات النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والتي وعد بها أصحابه ووقعت في عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم :
منها: ما كان يوم حفر الخندق، عندما اعترضت المسلمين صخرة فاستعصت عليهم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول وضرب به ضربة فلمعت منها برقة كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة فتح، فكبر المسلمون، ثم ضرب ضربة أخرى، فلمعت برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم عن الأولى: أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الضربة الثانية فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم، فأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا، فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويعلمكم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق -أي:الخوف- ولا تستطيعون أن تبرزوا؟ فنزل القرآن: ((وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)) [الأحزاب:12] (1).
فمتى تحققت هذه البشارات؟ وهل تجد هنا مكاناً لما نسب إليه صلى الله عليه وسلم من قوله: وانصر من نصره، واخذل من خذله؟
__________
(1) مجمع البيان: (2/428) (4/534)، الخصال: (1/77)، أمالي الصدوق: (188)، إعلام الورى: (100)، البحار: (17/169، 171) (20/190، 219، 241)، وانظر أيضاً: نور الثقلين: (4/245)، إثبات الهداة: (1/239، 284، 345)، أمالي الصدوق: (258)، تفسير القمي: (2/154).(2/115)
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فاستوصوا بالقبط خيراً، كان لهم رحم وذمة. يعني: أن أم إبراهيم منهم، أي: مارية القبطية(1).
وفي رواية: الله الله في القبط، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً في سبيل الله(2).
ومن البشارات التي تدل على عدالة الصحابة وإيمانهم، قوله صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا -يعني: الحسن بن علي رضي الله عنهما- سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين، وكان كما قال صلى الله عليه وسلم (3).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: يقتل بهذه الحَرة خيار أمتي بعد أصحابي، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قتل يوم الحرة سبع مائة رجل من حملة القرآن، فيهم ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وبهذا يظهر فساد القول بخلاف الصحابة رضوان الله عليهم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واغتصاب الخلفاء الثلاثة لحق علي رضي الله عنهم أجمعين، وتصرفهم في الأرض بغير وجه حق، وقد رأيت أن ظاهر أحوالهم معه وأحواله معهم رضي الله عنهم أجمعين تنبئ بخلاف ذلك، فلم يكن يجمعهم سوى المحبة والاحترام، وإقرار كل واحد منهم لفضيلة الآخر.
إقرار الصحابة بفضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين:
__________
(1) المناقب: (1/109)، البحار: (18/131).
(2) أمالي الطوسي: (258)، البحار: (18/144).
(3) إعلام الورى: (45)، المناقب: (1/140)، البحار: (18/142) (43/298، 299، 305، 317).
(4) إعلام الورى: (210)، البحار: (18/125)، إثبات الهداة: (1/365).(2/116)
ولعل في انتقالنا للحديث عن علاقتهم رضي الله عنهم مع علي رضي الله عنه وذكر نصوص في هذا المقام ما يزيل شبهة اختلافهم المزعوم، فإن ذلك أبلغ في المراد في بيان ما كانوا عليه من ألفة حميمة ومحبة خالصة لا تشوبها تلك الترهات التي أراد من أراد أن يصور بها ذلك المجتمع العظيم، من مجتمع مليىء بالأحقاد والضغائن والمؤامرات والاغتيالات والعدواة.. إلى آخر ما ذكروه، وحيث إننا لا يسعنا ذكر موقف كل صحابي على حدة مع الأمير وموقفه معه، فإننا نذكر موقفاً عاماً لهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وحبهم له، وذلك على كل حال من طرق القوم:
فعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد إذا أقبل علي قالوا: قد جاء خير البرية(1).
وكانوا يعملون على إرضائه والاقتداء بهديه رضي الله عنه، فلما ورد بسبي الفرس إلى المدينة في عهد الفاروق رضي الله عنه أعتق الأمير رضي الله عنه لوجه الله حقه وحق بني هاشم، فقالت المهاجرون والأنصار: قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله، فقال: اللهم فاشهد أنهم قد وهبوا وقبلت وأعتقت، ولم يخالفه عمر رضي الله عنه في ذلك، وقال: سبق إليها علي بن أبي طالب ونقض عزمتي في الأعاجم(2).
وفي رواية: قد وهبت لله ولك يا أبا الحسن ما يخصني وسائر ما لم يوهب لك(3).
وكانوا يحفظون له قدره في أدق المسائل، فانظر -مثلاً- ما ذكره القوم عن أبي رافع رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس ثم أراد أن يقوم لا يأخذ بيده غير علي، وإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون ذلك له، فلا يأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره(4).
__________
(1) أمالي الطوسي: (213)، البحار: (38/5)، نور الثقلين: (5/644)، الصافي: (5/355)، البرهان: (4/491).
(2) المناقب: (4/48)، البحار: (45/330).
(3) دلائل الإمامة: (81)، البحار: (46/15) (100/56) (104/199).
(4) البحار: (38/297).(2/117)
إقرار أهل البيت بفضائل الصديق والفاروق وذي النورين رضي الله عنهم:
ننتقل الآن إلى ذكر موقف علي من الشيخين رضي الله عنهم، وموقفهما معه، دون التطرق إلى ذكر بقية الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأسباب لا يجهلها أحد، ومنها: أن النصيب الأكبر من عداوة القوم للصحابة إنما هي متوجهة إليهما، ثم قس على هذا اعتقادهم فيمن دونهما.
فنقول: إن تلك المسألة لم تكد تغادر حتى أدق المسائل، مما لها دلالة لا تخفى على المنصف المتجرد من الأهواء المسبقة، في إظهار العلاقة الحميمة التي تربط بعضهم ببعض.(2/118)
فمنها مثلاً: أن علياً رضي الله عنه لم يفته أن يسمي أحد أبنائه بأبي بكر(1)، وآخر بعمر(2)، وثالثاً بعثمان(3).
وهؤلاء الثلاثة ولدوا في عهد الخلفاء الثلاثة كما لا يخفى، وكأن الأمير رضي الله عنه قد علم بما سيقوله من يدعي أنه من شيعته في هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم، فأراد أن يحرجهم ويكشفهم.
__________
(1) الإرشاد: (167)، المناقب: (4/107، 112)، مقاتل الطالبيين: (91)، أمالي الصدوق: (131)، إعلام الورى: (203، 250)، البحار: (42/74، 90، 92)(45/36، 63)(44/313)، الاختصاص: (82)، معجم الخوئي: (21/66)، الأنوار النعمانية: (3/263).
(2) الإرشاد: (167)، المناقب: (4/112)، مقاتل الطالبيين: (89)، معاني الأخبار: (356)، الكافي: (1/286، 309، 411، 442)، إعلام الورى: (203)، البحار: (1/172) (15/23) (16/291) (19/75) (24/213) (25/214، 253) (26/262) (27/297، 305) (36/388) (37/102) (38/332)(42/74، 75، 89، 90، 91، 92، 93) (43/159) (45/38، 62) (46/181)(48/16) (60/200) (61/158)، إثبات الهداة: (3/156)، علل الشرايع: (183)، البصائر: (50، 286)، أمالي الطوسي: (54، 426، 439، 467، 475، 507، 556)، الاختصاص: (128)، كمال الدين: (328)، نور الثقلين: (1/65، 76)، الإمامة والتبصرة: (171)، غيبة الطوسي: (187)، غيبة النعماني: (102)، معجم الخوئي: (13/45).
(3) الإرشاد: (167)، المناقب: (2/109) (4/112)، مقاتل الطالبيين: (89)، إعلام الورى: (203، 243، 250)، البحار: (42/74، 89، 91) (43/291)(44/313، 391) (45/37، 63، 67)، الأنوار النعمانية: (3/263)، وانظر أيضاً: أمالي الصدوق: (131)، معجم الخوئي: (11/116).(2/119)
وكذلك كان شأن ابنه الحسن رضي الله عنه حيث سمى أحد أبنائه بأبي بكر(1)، وآخر، بل واثنين آخرين بعمر(2).
وستقف بعد قليل على علة تسميته أسماء أبنائه بعمر مراراً.
ولم يخالفهم في ذلك الحسين رضي الله عنه، فقد سمَّى أحد أبنائه بأبي بكر(3)، وآخر بعمر(4).
وكذلك شأن ابنه زين العابدين رحمه الله، حيث سمَّى أحد أولاده باسم الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه (5).
وآخر بعثمان(6)، أما هو فقد أحب أن يكنى بأبي بكر(7).
وكذا حال بقية أهل البيت، فها هو الكاظم يسمي أحد أبنائه بأبي بكر(8)، وآخر بعمر(9)، وكان ابنه الرضا يكنى بأبي بكر(10).
ولعل في سرد بعض من هذه الأسماء أيضاً ما يؤيد أن حب آل البيت لهم ممتد في أبنائهم وأبناء أبنائهم:
__________
(1) مقاتل الطالبيين: (92)، المناقب: (4/112)، إعلام الورى: (212، 243)، البحار: (44/163، 168، 169) (45/36، 63، 67)، معجم الخوئي: (21/66)، الإرشاد: (240)، الأنوار النعمانية: (3/263).
(2) المناقب: (4/112)، البحار: (44/168) (45/63)، معجم الخوئي: (13/25)، إعلام الورى: (212)، دلائل الإمامة: (63).
(3) التنبيه والإشراق: (263).
(4) المناقب: (4/113)، البحار: (45/63)، معجم الخوئي: (13/25).
(5) المناقب: (4/176)، الإرشاد: (277، 278)، كفاية الأثر: (319)، الكافي: (1/358، 361)، إعلام الورى: (257، 258)، معجم الخوئي: (13/47)، البحار: (10/249، 250) (36/388) (40/68)(43/243) (44/151)(46/122، 155، 156، 157، 166، 167، 230)(47/279 = = 283)، أمالي الطوسي: (2)، كفاية الأثر: (31)، نور الثقلين: (2/87)، إثبات الهداة:(1/281، 600)(3/34)، غيبة النعماني:(125)، منتخب الأثر: (248)، مقاتل الطالبيين: (464، 490، 525).
(6) البحار: (10/250).
(7) المناقب: (4/175)، كشف الغمة: (2/260)، البحار: (46/4، 5).
(8) كشف الغمة: (2/217).
(9) كشف الغمة: (3/41)، البحار: (48/282).
(10) مقاتل الطالبيين: (453).(2/120)
أبو بكر بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب (1).
عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(2).
عمر بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي(3).
عمر بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب(4).
عمر بن الحسن بن علي بن الحسن(5).
عمر بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(6).
عمر بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(7).
ولا شك أن لعامل الاسم دلالة نفسية لا تخفى، ولعل من يزعم أنه من شيعة الأمير وأهل بيته رضي الله عنهم أن يسأل نفسه إن كان يستطيع أن يسمي أحد أبنائه باسم من اغتصب حق الأمير، والرواية الآتية تدل على أهمية عامل الاسم هذا.
روى القوم أن معاوية استعمل مروان بن الحكم على المدينة وأمره أن يفرض لشباب قريش، ففرض لهم، فقال علي بن الحسين: فأتيته، فقال: ما اسمك؟ فقلت: علي بن الحسين، فقال: ما اسم أخيك؟ فقلت: علي، فقال: علي وعلي؟ مايريد أبوك أن يدع أحداً من ولده إلا سماه علياً؟ ثم فرض لي فرجعت إلى أبي فأخبرته، فقال: لو ولد لي مائة لأحببت أن لا أسمي أحداً منهم إلا علياً(8).
وفي رواية: أن يزيد قال له: واعجباً لأبيك سمى علياً وعلياً؟ فقال: إن أبي أحب أباه، فسمى باسمه مراراً(9).
فتأمل أنه لما أحب أباه سمى باسمه مراراً، وكذا كل من سبق ممن سمى أبا بكر أو سمى عمر فهو محب لأبي بكر وعمر، ولذا سمى باسميهما رضي الله عن الجميع.
__________
(1) مقاتل الطالبيين: (122).
(2) مقاتل الطالبيين: (506).
(3) مقاتل الطالبيين: (537).
(4) مقاتل الطالبيين: (556).
(5) مقاتل الطالبيين: (443)، البحار: (48/163).
(6) عيون الأخبار: (2/208)، البحار: (49/33)، المناقب: (4/335).
(7) عيون الأخبار: (2/209)، البحار: (49/221).
(8) الكافي: (6/19)، البحار: (44/211).
(9) المناقب: (4/174)، البحار: (45/175، 329).(2/121)
فضائل الصديق وعائشة رضي الله عنهما وروايتهما فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لاشك أن علياً وكذا أهل بيته رضي الله عنهم يعرفون قدر هؤلاء ومنزلتهم وصحبتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلاءهم لنصرة الإسلام بما لا يخفى على العدو فضلاً عن الصديق.
فها هو أبوجهل يقول: من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير، أو جاء بابن أبي قحافة أو دل عليه فله مائة بعير(1).
فجعل مكافأة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق ورفيقه في الغار رضي الله عنه سواء.
فلا غرابة أن يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بنبيين من أولي العزم، وهما: إبراهيم وعيسى عليهما السلام(2).
كيف لا يقولها في صاحب الموقف العظيم يوم حروب الردة، حيث قال: لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولا أنقصكم شيئاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولأجاهدنكم، ولو منعتموني عقالاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتكم عليه(3).
ولشدة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له وتدليلاً على عظمة الموالاة بينهما صاهره وتزوج ابنته عائشة رضي الله عنها ولها من العمر ست أو سبع سنوات على خلاف(4).
الصديقة المبرأة من فوق سبع سموات كما في حادثة الإفك، الغائبة الحاضرة في قلبه صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البحار: (19/40)، المنتقى في مولود المصطفى: في خروجه وخروج أبي بكر إلى الغار.
(2) أمالي الطوسي: (274)، البحار: (19/272).
(3) أمالي الطوسي: (268)، البحار: (28/11)، وانظر أيضاً: البحار: (10/436).
(4) المناقب: (1/173)، إعلام الورى: (86)، البحار: (19/23) (22/191، 202، 235)، المنتقى في مولود المصطفى: حوادث السنة العاشرة.(2/122)
فعن علي رضي الله عنه قال: دخلت السوق، فابتعت لحماً بدرهم وذرة بدرهم، فأتيت بهما فاطمة، حتى إذا فرغت من الخبز والطبخ قالت: لو أتيت أبي فدعوته، فخرجت وهو مضطجع يقول: أعوذ بالله من الجوع ضجيعاً، فقلت: يا رسول الله، عندنا طعام، فاتكأ علي ومضينا نحو فاطمة، فلما دخلنا قال: هلمي من طعامنا، ثم قال: اغرفي لعائشة فغرفت(1).
وكان أزواجه صلى الله عليه وسلم يعلمن شدة حبه لها رضي الله عنهن، فكن يهبن لياليهن لها كما فعلت سودة بنت زمعة بعد نزول آية التخيير(2).
وعن الصادق قال: إنما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان عائشة، فاخترن الله ورسوله، ولم يكن لهن أن يخترن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وقد سمَّى بعض الأئمة بناتهم بعائشة، كالكاظم(4)، والرضا(5)، والهادي(6).. فتأمل هذا أيضاً!
وقد كانت الصديقة رضي الله عنها تحفظ قدر الأمير رضي الله عنه وتذكر فضائله ولا تكتمها رغم كل ما حصل وقيل، وهذه الروايات التي أوردها القوم من طرقهم ترد عليهم:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رجلاً كان أحب إلى رسول الله منه، وما رأيت امرأة كانت أحب إلى رسول الله من امرأته(7).
وعنها رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علي بن أبي طالب، فقال: هذا سيد العرب(8).
__________
(1) قرب الإسناد: (137)، البحار: (17/232) (18/30).
(2) إعلام الورى: (88)، مجمع البيان: (8/366)، البحار: (22/182، 205).
(3) الكافي: (4/123)، البحار: (22/213).
(4) الإرشاد: (323)، البحار: (48/287، 303، 320)، إعلام الورى: (301).
(5) كشف الغمة: (3/113)، البحار: (49/222).
(6) إعلام الورى: (349)، الإرشاد: (314)، البحار: (50/231).
(7) أمالي الطوسي: (254)، البحار: (37/40).
(8) معاني الأخبار: (103)، أمالي الصدوق: (42)، البحار: (38/93، 150).(2/123)
وعنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذكر علي عبادة(1).
وعنها رضي الله عنها قالت: زينوا مجالسكم بذكر علي(2).
وقالت رضي الله عنها وقد سئلت: من كان أحب الناس إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة، فقلت: إنما سألتك عن الرجال؟ قالت: زوجها، والله إنه كان صواماً قواماً، ولقد سالت نفس رسول الله في يده فردها إلى فيه(3).
وعنها رضي الله عنها قالت -وقد ذكر عندها علي بن أبي طالب-: كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
وعن جميع بن عمير قال: قالت عمتي لعائشة وأنا أسمع له: أنت مسيرك إلى علي ما كان؟ قالت: دعينا منك، إنه ما كان من الرجال أحب إلى رسول الله من علي، ولا من النساء أحب إليه من فاطمة(5).
وكانت تتذكر هذا المسير، فتقول رضي الله عنها: والله لو كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون كلهم ذكر مثل عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فثكلتهم بموت أو قتل كان أيسر علي من خروجي على علي(6).
وسئلت رضي الله عنها عنه، فقالت: ذاك خير البشر، ولا يشك فيه إلا كافر(7).
وفي رواية: ذاك من خير البرية ولا يشك فيه إلا كافر(8).
__________
(1) العمدة: (191)، البحار: (38/199، 200).
(2) العمدة: (192)، البحار: (38/201).
(3) الطرائف:(38)، كشف الغمة:(1/244)، البحار:(32/272)(38/313)(40/152)(43/53).
(4) كشف الغمة: (1/376)، البحار: (40/51).
(5) أمالي الطوسي:(341)، الطرائف:(30)، البحار:(35/222)(40/120)(43/23، 38).
(6) البحار: (44/34).
(7) أمالي الصدوق: (71)، إيضاح دفائن النواصب: (43)، البحار: (26/306)(38/5، 7)، مذهب أهل البيت: (18)، إثبات الهداة: (2/52)، المناقب: (4/67).
(8) البحار: (38/13).(2/124)
وقالت لأخيها محمد بن أبي بكر رضي الله عنه: الزم علي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله يقول: الحق مع علي، وعلي مع الحق لا يفترقان حتى يردا على الحوض(1).
ولما بلغها قتله رضي الله عنه للخوارج قالت رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتلهم خير أمتي بعدي.
وفي رواية: هم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة وأعظمهم عند الله تعالى يوم القيامة وسيلة.
وفي أخرى: اللهم إنهم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي، وما كان بيني وبينه إلا مايكون بين المرأة وأحمائها(2).
والحق أن الروايات التي ذكرها القوم من طرقهم عن الصديقة رضي الله عنها في بيان فضائله رضي الله عنه كثيرة، وإنما أوردناها لنتساءل عن سر ذكر القوم للروايات الموضوعة في العداء الموهوم بينهما رضي الله عنهم، والتكتم عن ذكر الروايات السابقة وكلها من طرق القوم.
وعلى أي حال، نعود إلى ما كنا فيه من ذكر الصديق رضي الله عنه، ونورد هنا ما أورده القوم من طرقهم في بيان ذكر الصديق رضي الله عنه لفضائل علي رضي الله عنه، والحال هنا كالحال فيما مر من شأن ابنته رضي الله عنها.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه علي، فقلت له: يا أبه، أراك تكثر النظر إلى وجه علي؟ فقال: يا بنية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النظر إلى وجه علي عبادة(3).
__________
(1) البحار: (38/28)، وانظر أيضاً: (ص:33، 38، 39).
(2) انظر هذه الروايات في: البحار: (33/332، 333، 340)، كشف الغمة: (1/158).
(3) العمدة: (192)، البحار: (26/229) (38/201)، وانظر أيضاً: البحار: (38/198)، المناقب: (2/5).(2/125)
وعن الشعبي قال: مر علي بن أبي طالب على أبي بكر ومعه أصحابه، فسلم عليهم ومضى، فقال أبو بكر: من سرَّه أن ينظر إلى أول الناس في الإسلام سبقاً، وأقرب الناس برسول الله قرابة، فلينظر إلى علي بن أبي طالب(1).
وعن عثمان بن عفان، عن عمر بن الخطاب، عن أبي بكر بن أبي قحافة، قال: سمعت رسول الله يقول: إن الله تبارك وتعالى خلق من نور وجه علي بن أبي طالب ملائكة يسبحون ويقدسون ويكتبون ثواب ذلك لمحبيه ومحبي ولده(2).
وينبغي ألا يفوتك سند الرواية هذه.
ومثلها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى خلق من نورٍ وجه علي بن أبي طالب سبعين ألف ألف ملك يسبحون ويقدسون ويكتبون ذلك لمحبيه ومحبي ولده(3).
وفي رواية: أن أبا بكر رضي الله عنه صلَّى العصر ثم خرج يمشي ومعه علي، فرأى الحسن يلعب بين الصبيان، فحمله أبو بكر على عاتقه، وقال: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيهاً بعلي، وعلي يضحك(4).
ولما قتل رضي الله عنه عمرو بن ود، قام أبو بكر رضي الله عنه وقبل رأسه.
وفي رواية: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما(5).
ودوره وكذا دور صاحبيه رضي الله عنهم في قصة زواجه من الزهراء رضي الله عنها لا يخفى، فقد ذكرت الروايات عنه أنه قال: أتاني أبو بكر وعمر فقالا: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فاطمة(6).
__________
(1) الفصول المختارة: (207، 214)، البحار: (38/272).
(2) جامع الأخبار: (208)، البحار: (40/125).
(3) إيضاح دفائن النواصب: (48)، البحار: (27/118).
(4) البحار: (43/287، 301).
(5) الإرشاد: (55)، مجمع البيان: (8/343)، البحار: (20/206، 258)(39/4)(41/91).
(6) أمالي الطوسي: (38)، البحار: (43/93).(2/126)
وروى القوم أن أبا بكر وعمر كانا ذات يومٍ جالسين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما سعد بن معاذ الأنصاري، فتذاكروا من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: قد خطبها الأشراف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمرها إلى ربها إن شاء أن يزوجها زوجها، وإن علي بن أبي طالب لم يخطبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرها له، ولا أراه يمنعه من ذلك إلا قلة ذات اليد، وإنه ليقع في نفسي أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما يحبسانها عليه، قال: ثم أقبل أبو بكر على عمر بن الخطاب وعلى سعد بن معاذ، فقال: هل لكما في القيام إلى علي بن أبي طالب حتى نذكر له هذا، فإن منعه قلة ذات اليد واسيناه وأسعفناه؟ فقال له سعد بن معاذ: وفقك الله يا أبا بكر، فما زلت موفقاً، قوموا بنا على بركة الله ويمنه، قال سلمان الفارسي: فخرجوا من المسجد والتمسوا علياً، فقال له أبو بكر: يا أبا الحسن، إنه لم يبق خصلة من خصال الخير إلا ولك فيها سابقة، وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي عرفت من القرابة والصحبة والسابقة، وقد خطب الأشراف من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة فردهم، وقال: إن أمرها إلى ربها، إن شاء أن يزوجها زوجها، فما يمنعك أن تذكرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخطبها منه، فإني أرجو أن يكون الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما يحبسانها عليك، قال: فتغرغرت عينا علي بالدموع، وقال: يا أبا بكر، لقد هيجت مني ساكناً، وأيقظتني لأمر كنت عنه غافلاً، والله إن فاطمة لموضع رغبة، وما مثلي قعد عن مثلها غير أنه يمنعني من ذلك قلة ذات اليد، فقال أبو بكر: لا تقل هذا يا أبا الحسن، فإن الدنيا وما فيها عند الله تعالى ورسوله كهباء منثور... الرواية(1).
__________
(1) البحار: (43/125).(2/127)
وقال رضي الله عنه ذاكراً لذلك: فخرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً وأنا لا أعقل فرحاً وسروراً، فاستقبلني أبو بكر وعمر، فقالا: ما وراءك؟ فقلت: زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وأخبرني أن الله عز وجل زوجنيها من السماء، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج في أثري ليظهر ذلك بحضرة الناس، ففرحا بذلك فرحاً شديداً، ورجعا إلى المسجد(1).
رغم أنهما رضي الله عنهما قد طلبا الزهراء رضي الله عنها من أبيها صلى الله عليه وسلم مراراً(2).
وفضائل الصديق رضي الله عنه كثيرة، وحسبنا قول الأمير رضي الله عنه مراراً وتكراراً على منبر الكوفة: لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري(3).
وهكذا شأن أبنائه وأحفاده، فهذا الصادق يفتخر ويقول: ولدني أبو بكر مرتين(4).
وذلك أن أمه هي أم فروة بنت القاسم بنت أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم.
وهذا الإمام الجواد يقول في معرض كلامه عن بعض المرويات في الفضائل: لست بمنكر فضائل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر(5).
ونجتزئ بهذه الروايات في فضائل أبي بكر رضي الله عنه والذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصديق، والذي يروي القوم أن عروة بن عبدالله سأل الباقر عن حلية السيوف؟ فقال: لابأس به، قد حلَّى أبو بكر الصديق رضي الله عنه سيفه، فقال: فتقول الصديق؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة، وقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة(6).
__________
(1) البحار: (43/129).
(2) المناقب: (3/345)، إعلام الورى: (47)، البحار: (19/112)(43/107، 108، 124).
(3) الفصول المختارة: (167)، الصراط المستقيم: (3/152)، البحار: (10/417)، الاختصاص: (128).
(4) عمدة الطالب: (195).
(5) الاحتجاج: (229-230)، البحار: (50/80، 81).
(6) كشف الغمة: (2/360).(2/128)
فضائل الفاروق عمر رضي الله عنه من طرق الشيعة:
أما الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقرأ ما أورده القوم في كتبهم لتقف على فضله ومنزلته.
فكما شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بإبراهيم وعيسى عليهما السلام، فقد شبه عمر بنوح وموسى عليهما السلام(1).
وكان صلى الله عليه وسلم يعرف قدره، ويقدر رأيه، فقد روي أن المسلمين لما كانوا بإزاء الروم إذ أصاب الناس جوع، فجاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في نحر الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما ترى فإن الأنصار جاءونى يستأذنوني في نحر الإبل؟ فقال: يا نبي الله، فكيف لنا إذا لقينا العدو غداً رجالاً جياعاً؟ فقال: ما ترى؟ قال: مر أباطلحة فلينادِ في الناس بعزمة منك: لا يبقى أحد عنده طعام إلا جاء به، وبسط الأنطاع فجعل الرجل يجيء بالمد ونصف المد، فكان جميع ماجاءوا به سبعة وعشرين صاعاً أو ثمانية وعشرين صاعاً لا يجاوز الثلاثين، واجتمع الناس يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ أربعة آلاف رجل، فدعا رسول الله ثم أدخل يده في الطعام، فأكلوا جميعاً وبقي كثير من الطعام(2).
فاسأل نفسك عن علة استشارته صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه من دون هؤلاء الأربعة آلاف.
وكان صلى الله عليه وسلم يذكره إذا ما أهدي شيئاً، فعن تميم الداري قال: أهدي فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: الورد، فأعطاه عمر(3).
__________
(1) أمالي الطوسي: (274)، البحار: (19/271).
(2) أمالي الطوسي: (266)، البحار: (18/23)، المناقب: (1/89)، إثبات الهداة: (1/304).
(3) البحار: (16/127)، المنتقى: الفصل الرابع في جامع أوصافه.(2/129)
وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يبشره بالآخرة، فعندما قال له الفاروق رضي الله عنه: لأنت أكرم على الله من قيصر وكسرى، وهما فيه من الدنيا، وأنت على الحصير قد أثر في جنبك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن يكون لهم الدنيا ولنا الآخرة(1).
وفي أخرى: قال رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجلت طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنما أخرت لنا طيباتنا(2).
إقرار أهل البيت عليهم السلام بفضائل الفاروق رضي الله عنه:
وكذا كان حب علي لعمر رضي الله عنهما، اقرأ معي هذه الروايات:
جاء في نهج البلاغة -وهو من أعظم كتب الشيعة منزلة، حتى قالوا فيه: كتاب كأن الله رصع لفظه بجوهر آيات الكتاب المنزل، وبلغت شروحه ثمانين كتاباً- جاء فيه: أن علياً رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما شاوره في الخروج إلى غزو الروم: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن ظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين(3).
وعندما استشاره لقتال الفرس بنفسه قال له: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ولا يضمه، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً.
__________
(1) مكارم الأخلاق: (150)، البحار: (16/257، 385).
(2) مجمع البيان: (5/87)، البحار: (66/320)، نور الثقلين: (5/16).
(3) نهج البلاغة: (247).(2/130)
والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب واصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك، وطمعهم فيك(1). فلا عجب إذاً أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يعز الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه (2).
روايات عمر في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
وكان رضي الله عنه وزيره ومستشاره، ولم يكن بينهم سوى المودة والاحترام، فعندما يكون علي رضي الله عنه بحضرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في حل بعض المشكلات، فيقول: أتأذن لي أن أقضي بينهم؟ فيرد عمر: سبحان الله! وكيف لا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أعلمكم علي بن أبي طالب. وذلك كما يروي القوم(3).
وعندما يكون علي غائباً ويريده الفاروق رضي الله عنه في شيء يذهب إليه بنفسه وهو الخليفة، فيلقاه علي رضي الله عنه في الطريق، فيقول له: هلاَّ أرسلت إلينا فنأتيك؟ فيقول عمر رضي الله عنه: الحكم يؤتى إليه في بيته(4).
__________
(1) نهج البلاغة: (257)، الميزان: (15/160)، البحار: (40/193).
(2) نور الثقلين: (3/267)، البحار: (75/12)، العياشي: (2/355)، البرهان: (2/472)، الصافي: (3/246).
(3) الكافي: (7/424)، التهذيب: (2/93)، المناقب: (1/494)، البحار: (40/305).
(4) المناقب: (1/492)، البحار: (40/231)، وانظر أيضاً: الكافي: (7/216، 249)، البحار: (40/298، 299).(2/131)
وهل هناك أعظم من تزويج علي رضي الله عنه ابنته أم كلثوم للفاروق عمر رضي الله عنه(1).
وعندما توفي عمر رضي الله عنه قال فيه علي رضي الله عنه: لله بلاء فلان، فلقد قوم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف الفتنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستقين المهتدي(2).
وقال فيه وفي صاحبه الصديق رضي الله عنهما: لعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد، فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا(3).
فلا غرابة إذاً أن نرى الأمير رضي الله عنه وقد دخل على الفاروق رضي الله عنه بعد وفاته وهو مسجى، فيقول: لوددت أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا المسجى.
وفي رواية: إني لأرجو الله أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا المسجى(4).
وقد ملأ القوم مصنفاتهم من روايات مدح الفاروق رضي الله عنه لعلي رضي الله عنه، فمثلاً لما قيل لعمر: نراك تصنع بعلي شيئاً لا تصنعه بأحدٍ من أصحاب النبي؟ قال: إنه مولاي(5).
فالقوم بهذه الرواية يؤكدون بأن معنى الموالاة والولاية بعيدة جداً عما حملت عليه من كونها الخلافة العامة للمؤمنين، وإلا ما ذكرها الفاروق رضي الله عنه وهو يرى أنه قد اغتصبها.
__________
(1) الطرائف: (19)، كنز الكراجكي: (166، 167)، إعلام الورى: (204)، الكافي: (5/346) (6/115، 116)، الشافي: (215)، الصراط المستقيم: (3/130)، العمدة: (150، 157)، البحار: (10/373) (25/247-249) (42/91، 93، 97، 108)، الخرائج: (825).
(2) نهج البلاغة: (430).
(3) شرح نهج البلاغة: (15/67)، وقعة صفين: (88).
(4) الفصول المختارة: (58)، إرشاد القلوب: (336)، معاني الأخبار: (412)، البحار: (10/296) (28/105، 117).
(5) البحار: (40/124).(2/132)
ويؤكد هذا أيضاً هذه الرواية التي ذكرها القوم عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاشر المسلمين، أنصتوا يرحمكم الله، واعلموا أن في جهنم وادياً يعرف بوادي الضباع، وفي ذلك الوادي بئر، وفي ذلك البئر حية، فشكت جهنم من ذلك إلى الله عز وجل، وشكا الوادي من تلك البئر، وشكا ذلك البئر من تلك الحية إلى الله تعالى في كل يوم سبعين مرة، فقيل: يارسول الله، ولمن هذا العذاب المضاعف الذي يشكو بعضه من بعض؟ قال: هو لمن يأتي يوم القيامة وهو غير ملتزم بولاية علي بن أبي طالب(1).
وفي رواية: هذا مشكل لا يحله إلا نبي، أو وصي نبي فقوموا بنا إلى أبي الحسن(2).
وعن الأعمش قال: جاء رجل مشجوج الرأس يستعدي عمر على علي، فقال علي: مررت بهذا وهو يقاوم امرأة فسمعت ما كرهت، فقال عمر: إن لله عيوناً وإن علياً من عيون الله في الأرض.
وفي رواية للأصمعي أنه قال: رأيته ينظر إلى حريم الله، فقال عمر: اذهب وقعت عليك عين من عيون الله، وحجاب من حجب الله، تلك يد الله اليمنى يضعها حيث يشاء(3).
وعن عروة بن الزبير قال: إن رجلاً وقع في علي بن أبي طالب بمحضر من عمر، فقال له عمر: تعرف صاحب هذا القبر؟ هو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وعلي بن أبي طالب بن عبدالمطلب، فلا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن أبغضته آذيت هذا في قبره(4).
__________
(1) الروضة: (9)، البحار: (39/250).
(2) الفضائل: (110)، الروضة: (6)، البحار: (40/269).
(3) البحار: (39/88).
(4) أمالي الطوسي: (443)، أمالي الصدوق: (234)، العمدة: (111)، البحار: (39/303) (40/117).(2/133)
وعن ابن عمر قال: سألني أبي عمر بن الخطاب، فقال لي: يا بني، من أخير الناس بعد رسول الله؟ فقلت له: من أحل الله له ما حرَّم على الناس وحرَّم عليه ما أحل للناس، فقال: والله لقد قلت وصدقت، حرمت على علي بن أبي طالب الصدقة وأحلت للناس، وحرم عليهم أن يدخلوا المسجد جنباً وأحل له(1).
وسأل رجل عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تفسير سبحان الله؟ فقال: إن في هذا الحائط رجلاً كان إذا سئل أنبأ، وإذا سكت ابتدأ، فدخل الرجل فإذا هو علي بن أبي طالب(2).
وكان رضي الله عنه يأمر أصحابه، ويقول: لا تعصوا لعلي أمراً(3).
وروى القوم أن أسقفاً من نجران سأله مسألة فلم يجد له جواباً، وبينما هو كذلك فإذا بباب المسجد علي بن أبي طالب، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه والجماعة على أقدامهم، وقال: يا مولاي، أين أنت عن هذا الأسقف الذي قد علا منه الكلام؟ أخبره يا مولاي بالعجل إنه يريد الإسلام، فأنت البدر التمام، ومصباح الظلام، وابن عم رسول الأنام(4).
ورووا أنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن السموات والأرض وضعتا في كفة ووضع إيمان علي في كفة لرجح إيمان علي(5).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن في علي خصالاً لأن يكون فيَّ إحداهن أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، سمعت رسول الله يقول: اللهم ارحمه وترحم عليه، وانصره وانتصر به، وأعنه واستعن به، فإنه عبدك وكتيبة رسولك(6).
__________
(1) أمالي الطوسي: (297)، البحار: (40/120).
(2) التوحيد للصدوق: (328)، البحار: (40/121).
(3) الكافي: (7/324)، التهذيب: (2/92)، البحار: (40/305).
(4) الفضائل: (202)، الروضة: (145)، البحار: (10/58).
(5) أمالي الطوسي: (243)، البحار: (38/208، 249) (40/119، 236).
(6) أمالي الطوسي: (372، 586)، البحار: (40/71).(2/134)
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حب علي براءة من النار(1).
وعن علي بن الحسين، عن أبيه رضي الله عنهم قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عيادة بني هاشم سنة، وزيارتهم نافلة(2).
ولا يفوتك السند.
وكثيراً ما كان يردد رضي الله عنه: اللهم إني أعوذ بك من معضلة ليس لها أبو الحسن، و: لا أبقاني الله لمعضلةٍ ليس لها أبو الحسن، و: لا أبقاني الله بعدك، و: لولا علي لهلك عمر، و: لا عشت في أمة لست فيها يا أبا الحسن، و: يا أبا الحسن منكم أخذنا العلم وإليكم يعود، بعد أن قبَّل ما بين عينيه، و: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر(3).
ولما دوَّن الدواوين بدأ بالحسن والحسين فملأ حجرهما من المال، فقال ابن عمر: تقدمهما علي ولي صحبة وهجرة دونهما؟ فقال عمر: اسكت لا أم لك، أبوهما خير من أبيك، وأمهما خير من أمك(4).
فهل عاقل يقول بعد ذلك بخلاف هذا، وأن عمر رضي الله عنه ظلم آل البيت وفعل وفعل مما تورده كثير من الروايات المكذوبة عنهم، والحق أنهم كانوا متحابين متآلفين، وهذا يبينه لك أيضاً ما يلي:
أهل البيت رحمهم الله وفضائل الصحابة رضوان الله عليهم:
ولم يكن حال بقية الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم خلاف حال الأمير رضي الله عنه في حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومعرفة قدرهم وصدقهم كما مرَّ بك من روايات.
__________
(1) البحار: (39/285).
(2) أمالي الطوسي: (345)، البحار: (40/121).
(3) تأويل الآيات: (2/582)، البرهان: (4/174)، البحار: (23/163) (40/104، 148، 180، 196، 227، 228، 229، 233، 234، 235، 236، 274، 277، 286، 306) (41/141) (79/52، 53، 89) (99/219) (104/66، 386)، المناقب: (2/31)، الكافي: (7/265)، الاختصاص: (111)، الأنوار النعمانية: (1/39)، أمالي الطوسي: (490)، نور الثقلين: (1/155) (2/304).
(4) البحار: (38/9).(2/135)
فهذا الحسين رضي الله عنه يحتج على أعدائه يوم كربلاء ويأمرهم بسؤال من بقي من الصحابة رضوان الله عليهم ليخبروهم بفضله، حيث قال: وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، اسألوا جابر بن عبدالله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة -أي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبطين رضي الله عنهما: هذان سيدا شباب أهل الجنة- من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولأخي(1).
فهل رأى في هؤلاء كاتمين لفضائل أهل البيت رضي الله عنهم وهو يأمر أعداءه بسؤالهم؟!
وهذا الصادق وقد سأله ابن حازم عن أصحاب رسول الله صدقوا على محمد أم كذبوا؟ فيقول: بل صدقوا، قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيبه بعد ذلك بما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها البعض(2).
ولعمري ما حاد قول أهل البيت رضي الله عنهم عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وفي مرض موته: ليبلغ الشاهد الغائب، وكذا قال في مرض موته صلى الله عليه وسلم (3).
فلم يكن يراهم كذابين ويأمرهم بالتبليغ.
وعندما كان من يدعي أنه من شيعة أهل البيت في الكوفة يشتمون أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سأله أبو حنيفة رحمه الله، وقال: يا ابن رسول الله، لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإني تركت بها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم؟ فقال: لا يقبلون مني(4).
ولعمري فقد صدق الصادق رحمه الله، فلا يزال أهل الكوفة هم أهل الكوفة إلى يومنا هذا.
__________
(1) البحار: (45/7).
(2) الكافي: (1/65)، البحار: (2/228).
(3) الكافي: (1/403)، الخصال: (2/84) الطرف: (19، 33، 34)، الشافي: (177)، البحار: (21/138، 381)(22/478، 486)(23/165)(27/69)(27/69)(52/262)(77/119).
(4) البحار: (10/220).(2/136)
وكيف يرضى بشتمهم وقد علم أن جده صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن سب أبي جهل وهو من هو، فقال: يأتيكم عكرمة مؤمناً مهاجراً فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ(1).
وقال لأبيه: إن الله يا أباجهل إنما دفع عنك العذاب لعلمه بأنه سيخرج من صلبك ذرية طيبة عكرمة ابنك(2).
وعكرمة رضي الله عنه أسلم بعد فتح مكة، فهل كان أبوجهل رأس الكفر كالصديق والفاروق وذي النورين وبقية المهاجرين والأنصار والأصحاب رضي الله عنهم؟!
وكيف يرضى بلعنهم وقد علم أن جده أمير المؤمنين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقب عند ذلك ثلاثة: الريح الحمراء، والخسف، والمسخ.. الحديث(3).
فالأئمة كانوا يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، بل قد رووا فضائلهم وأثنوا عليهم، ودافعوا عنهم، ولكن من ينتسب إلى هؤلاء الأئمة هم الذين يسبون، ووضعوا في ذلك روايات ونسبوها إلى الأئمة، ولم يستجيبوا للأئمة في ترك السب لهوى في نفوسهم والله حسيبهم ومجازيهم.
والحق أن هذه المسألة يطول فيها الكلام، ولو ذهبنا إلى إيراد كل ما ورد في فضل الصحابة رضي الله عنهم -من كتب القوم بطبيعة الحال- لطال بنا المقام وخرجنا عن موضوع الكتاب، ولكن فيما أوردناه في هذه العجالة كفاية لمن شرح الله صدره.
مما سبق تبين لك لِمَ أثنى الله على ذلك الجيل وهو أعلم بهم حين أثنى عليهم، فهل يصح بعد ذلك لمن يدعي حب آل البيت أن ينقل الروايات المكذوبة عنهم والتي تخالف القرآن ويردها العقل، ويترك تلك الروايات الصحيحة المنقولة عن الأئمة والتي هي موافقة لكتاب الله تعالى؟!!
__________
(1) البحار: (21/144)، المنتقى: فيما كان سنة ثمان من الهجرة.
(2) تفسير الإمام العسكري: (212)، الاحتجاج: (18)، البحار: (17/352).
(3) الخصال: (2/91)، البحار: (6/304، 305) (52/193) (77/157)، كمال الدين: (477)، أمالي الطوسي: (528).(2/137)
عقيدة الشيعة في الصحابة:
إن السؤال الجدير بالطرح هنا هو: ما موقف القوم من تلك الروايات وكلها من طرق الأئمة وثابتة في مصنفاتهم وقد رأيت أنها تخالف عقيدتهم في الصحابة؟
قبل أن نجيب على ذلك نبين بإيجاز نتفاً من هذه العقيدة حتى تتضح الصورة، وندع الروايات هي التي تتكلم:
أُولى هذه الروايات تذكر أن الصحابة رضوان الله عليهم قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا علي وبنو هاشم وأبو ذر وسلمان في أناس يسير(1).
ثم جاءت روايات أخرى استثنت الكثير ممن في الرواية السابقة، فرووا عن الصادق أنه قال: الولاية للمؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم واجبة، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود الكندي، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنيف، وأبي أيوب الأنصاري، وعبدالله بن الصامت، وعبادة بن الصامت، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وأبي سعيد الخدري، ومن نحا نحوهم وفعل مثل فعلهم(2).
وعزَّ على آخرين أن يجدوا هذا العدد من الصحابة رضي الله عنهم لم يرتدوا، فجعلوا من لم يرتد بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، وحددوا هؤلاء الأربعة بالمقداد بن الأسود، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر (3).
__________
(1) سليم بن قيس: (249)، البحار: (28/297).
(2) عيون الأخبار: (269)، الخصال: (2/153)، البحار: (10/227، 358) (22/325) (27/52) (68/263)، نور الثقلين: (4/258).
(3) سليم بن قيس: (92)، البحار: (22/28/282).(2/138)
ثم أسقط عمار بن ياسر رضي الله عنه، فرووا عن الباقر أنه قال: كان الناس أهل ردة، وفي رواية: ارتد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، فقال الراوي: ومن الثلاثة؟ قال: المقداد، وأبو ذر، وسلمان الفارسي(1).
وعن المفضل قال: عرضت على أبي عبدالله أصحاب الردة، فكلما سميت إنساناً، قال: اعزب، حتى قلت: حذيفة؟ قال: اعزب، قلت: ابن مسعود؟ قال: اعزب، ثم قال: إن كنت تريد الذين لم يدخلهم شيء فعليك بهؤلاء الثلاثة: أبي ذر، وسلمان، والمقداد(2).
وعن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر: جعلت فداك، ما أقلنا، لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها، فقال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك؟ المهاجرين والأنصار ذهبوا، إلا -وأشار بيده ثلاثة- فقلت: جعلت فداك، ما حال عمار؟ قال: رحم الله عماراً أبا اليقظان بايع وقتل شهيداً، فقلت في نفسي: ما شيء أفضل من الشهادة؟ فنظر إليَّ، فقال: لعلك ترى أنه مثل الثلاثة، هيهات، هيهات(3).
أقول: لعل سبب ذلك أنه رضي الله عنه كثيراً ما كان يردد: غداً ألقىالأحبة، محمداً وصحبه، وفي لفظ: وحزبه(4). فشطب اسمه من قائمة غير المرتدين.
ثم أسقط الجميع سوى المقداد، فرووا عن الباقر أنه قال: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد.
__________
(1) العياشي: (1/223)، البحار: (22/333، 351، 352، 440) (28/236، 238، 239، 255، 259) (42/181) (67/164)، الكشي: (4، 5، 8، 9، 11)، تاريخ اليعقوبي: (2/116)، الكافي: (8/245)، الاختصاص: (6، 10، 70)، قاموس الرجال: (3/350)، البرهان: (1/319)، الصافي: (1/389)، تأويل الآيات: (1/123)، نور الثقلين: (1/396).
(2) السرائر: (468)، روضة الواعظين: (242)، البحار: (22/114، 332، 342).
(3) الكافي: (2/244)، البحار: (22/345) (33/11)، رجال الكشي: (31).
(4) الخصال: (158)، البحار: (22/360) (33/11، 14، 20، 21)، رجال الكشي: (31)، كشف الغمة: (1/261)، كفاية الأثر: (120)، الاختصاص: (10).(2/139)
وفي رواية: ما بقي أحد إلا وقد جال جولة، إلا المقداد بن الأسود فإن قلبه كان مثل زبر الحديد(1).
ولعل سبب إسقاطهم لسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما، أنهما كانا يتوليان الشيخين، فحسب الأول أنه كان والياً للفاروق رضي الله عنه على المدائن(2)، وكان يردد كشأن عمار: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.
أما الآخر فقد مرَّ بك طرف من قوله لعثمان رضي الله عنه: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.
وفي رواية: أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر، هل هديك كهديهم؟ فدفعا ثمن ذلك.
أما القوم فيذكرون أن سبب ذلك ما رووه عن الصادق أنه قال: إن سلمان كان منه إلى ارتفاع النهار، فعاقبه الله أن وجيء في عنقه حتى صيرت كهيئة السَّلعة حمراء، وأبو ذر كان منه إلى وقت الظهر، فعاقبه الله إلى أن سلَّط عليه عثمان حتى حمله على قتب وأكل لحمة إليته وطرده عن جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود(3).
ولعل أن تكون هناك رواية أسقطته أيضاً ولم أقف عليها.
روايات من طرق الشيعة تناقض مسألة ردة الصحابة رضي الله عنهم:
والطريف أن من تناقضات القوم التي لا تنتهي: أنهم أوردوا روايات تناقض روايات الارتداد، كرواية الكافي: عن الباقر قال: إن الناس لما صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنين من أن يدعو إلى نفسه إلا نظره للناس، وتخوفاً عليهم أن يرتدوا عن الإسلام، فيعبدوا الأوثان، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكان أحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن الإسلام(4).
__________
(1) الكشي:(7، 8، 11)، الاختصاص:(9، 10، 11)، البحار:(22/342، 440)(28/239، 260).
(2) الاختصاص: (9)، البحار: (28/260).
(3) البحار: (22/360، 374)، الاحتجاج: (41)، الفضائل: (113).
(4) الكافي: (8/295)، البحار: (28/255).(2/140)
وقول الأمير في شأن الخلافة: وايم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه، فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً(1).
وعن الصادق وقد سئل: ما منع أمير المؤمنين أن يدعو الناس إلى نفسه ويجرد في عدوه سيفه؟ فقال: تخوف أن يرتدوا ولا يشهدوا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
نعود إلى تساؤلنا السابق، وهو أن ما أوردناه يتعارض مع دعوى القوم ومعتقدهم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل وقف القوم أمام هذه الروايات وعشرات أمثالها موقف المتفرج؟!
لا شك أن الكثير من بسطاء الشيعة قد يدهشون من وجود أمثال هذه الروايات وهي صريحة الدلالة على إيمان الصحابة رضوان الله عليهم وفضلهم، وقد كان لي بعض المواقف مع بعضهم ممن استغرب وجود أمثال تلك المرويات في بطون كتبهم مما يتعارض مع الصورة المشوهة التي رسمها لهم علماؤهم، حتى يتسنى لهم إظهار مذهبهم بالصورة التي يريدونها، حتى بلغ بهم الأمر أن خشي هؤلاء العلماء مع تعاقب الأزمنة أن يذكروا كل تلك الفضائل أو يتعرضوا لها.
بل كان العكس؛ فلا يزال الكثير من علماء الشيعة - إن لم نقل أكثرهم - صار أشبه بالذباب الذي يتتبع مواطن الجرح ويدع مواطن البرء.
فلا يزال الكثير منهم يبحث في مزابل التاريخ عن روايات موضوعة واهية لمن له أدنى دراية بعلم الحديث ليظهرها للغافلين أو المغفلين من بني جلدته، أو ينتقي من تلك الروايات التي تتحدث عما شجر من خلاف محمود بين الصحابة ليظهرها بالشكل الذي يريد وهي أبعد ما تكون عن حقيقتها.
__________
(1) البحار: (32/61، 111)، الإرشاد: (131)، أمالي المفيد: (155).
(2) أمالي الطوسي: (234)، وانظر أيضاً: البحار: (49/192)، عيون الأخبار: (2/188).(2/141)
ولكن لن تسمع منهم أبداً من يملك الجرأة وهو على المنبر ليذكر شيئاً مما ذكرناه، لا أقل من ذكرهم للمصيبة أيام عاشوراء، وأن ممن قتل مع الحسين رضي الله عنه أبو بكر بن علي، وعمر بن علي، وعثمان بن علي، وأبو بكر بن الحسن، وعمر بن الحسن... وهكذا.
لأنه يعرف تماماً ما ستثيره هذه الأسماء لو ذكرت -مثلاً- عند ذاك الجالس تحت منبره، وقد رضع الحقد لهؤلاء العظماء.
رد الشيعة لجميع فضائل الصحابة وصرفها وتأويلها:
وعلى أي حال، لسنا بصدد تحليل هذه المسائل، وإنما كنا في ذكر موقف القوم من هذه الفضائل.
أقول: لم يقف القوم مكتوفي الأيدي أمام كل هذا؛ بل كانت لهم ردود وتأويلات.
وأما ما كان من فضائلهم في القرآن الكريم فقد علمت قولهم في ذلك من ادعاء التحريف والتغيير فيه، أو صرف آياته إلى ما يخدم غرضهم بما لا داعي لتكراره.
أما ما كان من شأن الروايات فقد اضطرب القوم اضطراباً شديداً في صرف هذه الروايات عن ظاهرها؛ حتى فتحوا الباب على أنفسهم ليواجهوا بمثله، وسنذكر بعض هذه التأويلات لتقف عليها، ففيها طرافة وفضائل لم نذكرها.
فضائل الصدّيق رضي الله عنه في آية الغار وموقف الشيعة منها والرد عليها:
من ذلك قولهم في آية الغار، وهي قول الله تعالى: ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [التوبة:40].
فقد اتفق المسلمون شيعة وسنة في نزول هذه الآية في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه ونزولها في غار ثور في طريقهما إلى المدينة.
وفي الآية فضائل جمة للصديق رضي الله عنه:(2/142)
منها: عتاب الله للمسلمين جميعاً، وخروج الصديق منها.
ومنها: النص على صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت ذلك لغيره من أصحابه، حتى قالوا في ذلك: إن إنكار صحبته كفر.
ومنها: ما تضمنته من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله: ((لا تَحْزَنْ)) [التوبة:40] وتعليل ذلك بمعية الله سبحانه الخاصة المفادة بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] وهي كقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: ((قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) [طه:46]، ولم يثبت مثل ذلك في غيره، بل لم يثبت لنبي معية الله سبحانه له ولآخر من أصحابه، وكان في ذلك إشارة إلى أنه ليس فيهم كالصديق رضي الله عنه.
ومنها: نزول السكينة على الصديق على خلاف في المسألة.
وعلى أي حال، لا نطيل المقام في المسألة، وإنما مرادنا إيقافك على تأويلات القوم للفضائل وصرفها عن ظاهرها، وإليك أقوالهم في آية الغار:
أول ذلك: قولهم بالتحريف، وأن هذه الآية حذف منها كلمة (رسوله).
فعن ابن الحجال قال: كنت عند أبي الحسن الثاني ومعي الحسن بن الجهم، فقال له الحسن: إنهم يحتجون علينا بقول الله تبارك وتعالى: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)) [التوبة:40] قال: وما لهم في ذلك؟ فوالله لقد قال الله: (فأنزل الله سكينته عليه)، وما ذكره فيها بخير، قال: قلت له أنا: جعلت فداك، وهكذا تقرءُونها؟ قال: هكذا قرأتها.
وفي رواية: عن زرارة قال: قال أبو جعفر: ((فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ)) [الفتح:26] ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله(1)؟
__________
(1) العياشي: (2/94)، البحار: (19/80)، الصافي: (2/344)، الكافي: (8/378)، البرهان: (2/128، 129)، نور الثقلين: (2/220).(2/143)
وذكر البحراني: أن الصحابة تصرفوا في هذه الآية لدفع العار عن شيخ الفجار -يعني: الصديق رضي الله عنه- حيث الوارد في أخبارنا أنها نزلت: [فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها]، فحذفوا لفظ [رسوله] وجعلوا محله الضمير.
ثم تفننوا في صرف جميع وجوه الفضيلة في الآية إلى ضدها، نذكر منها:
أن وصفهما بالاجتماع في مكان واحد ليس فيه فضيلة؛ لأن المكان يجمع المؤمن والكافر، ومثلوا لذلك بأمثلة كسفينة نوح حيث جمعت النبي والشيطان والبهيمة.
ومنها: أن ذكر الصحبة يجمع المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)) [الكهف:37].
وأيضاً: اسم الصحبة يطلق على العاقل والبهيمة، والدليل على ذلك من كلام العرب أنهم سموا الحمار صاحباً، فقالوا:
إن الحمار مع الحمار مطية ... ... فإذا خلوت به فبئس الصاحب
ومنها: أن قوله: ((لا تَحْزَنْ)) [التوبة:40] وبال عليه ومنقصة له، ودليل على خطئه، لأن قوله: ((لا تَحْزَنْ)) [التوبة:40] نهي، وصورة النهي قول القائل: لا تفعل، فلا يخلو أن يكون الحزن وقع من أبي بكر طاعة أو معصية، فإن كان طاعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن كان معصية فقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وقد شهدت الآية بعصيانه بدليل أنه نهاه، أما قوله: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله معه، وعبَّر عن نفسه بلفظ الجمع كقوله: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].(2/144)
وقد قيل أيضاً في هذا: إن أبا بكر قال: يا رسول الله، حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] أي: معي ومع أخي علي بن أبي طالب.
أما نزول السكينة فإنما كان ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، فدل إخراجه من السكينة على إخراجه من الإيمان.
وأضافوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة فوجئ بأبي بكر في الطريق، فخاف أن يدل كفار قريش عليه، فاضطر إلى أخذه معه، لأن أبا بكر أراد الهرب من مكة ومفارقة النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته.
ومنها: التكدير على النبي صلى الله عليه وسلم بجزعه في الغار، وقد كان يكفي النبي صلى الله عليه وسلم تعلق خاطره المقدس بالسلامة من الكفار، فزاده جزع صاحبه شغلاً في خاطره، ولو لم يصحبه لاستراح من كدر جزعه واشتغال سرائره، وكان الخوف على النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن أوحي إليه، من أن يبلغ الجزع بأبي بكر أن يخرج من الغار ويخبر به الطالبين له من الأشرار، فصار معه كالمشغول بحفظ نفسه من ذل صاحبه وضعفه، زيادة على ما كان مشغولاً بحفظ نفسه، وغيرها.
ومن الطرائف: أن علماء القوم تسابقوا إلى ادعاء هذه الكشوفات العظيمة ونسبتها إلى أنفسهم، فمنهم من نسب هذه الأكاذيب إلى الأئمة، ومنهم من نسبها إلى نفسه.. وهكذا(1).
وأطرف منه ذكرهم -رغم كل هذا- أن الزنادقة كانوا يعرفون فضيلة الغار حيث يروون مثلاً: أن ابن الكواء قال لعلي: أين كنت حيث ذكر الله أبا بكر فقال: ثاني اثنين إذ هما في الغار(2)؟
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك في: الفصول المختارة: (20)، الاحتجاج: (279)، البحار: (10/297) == (19/95) (27/321، 327) (72/143)، الإقبال: (593)، تفسير الإمام العسكري: (466) (الحاشية)، عيون الأخبار: (2/186)، الأنوار النعمانية: (1/84).
(2) البرهان: (2/126)، البحار: (33/430) (36/43).(2/145)
والكلام في شأن ملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم للصديق رضي الله عنه في الطريق وأخذه معه مخافة أن يشي به إلى الكفار، ترده رواية عند القوم تقول:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج من بين القوم ليلة الهجرة مضى حتى أتى إلى أبي بكر فنهض معه وذهبا إلى الغار(1).
بل وأوردوا قول الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ابتياع الرواحل: قد كنت أعددت لي ولك يا نبي الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب(2).
والواقع أن الردود على هذه الحماقات وعلى ما يأتي كثيرة، ولا يسعنا إيرادها، بل ليس ذلك غايتنا هنا أصلاً، ويمكن لمن أرادها أن يطلبها من مظانها(3).
ولكن لا بأس من أن نورد هنا بعضاً منها ليتبين للقارئ فساد ما مر:
قال تعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام: ((قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) [طه:46].
وقال تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [يونس:65].
وقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)) [الحجر:88]
وقال تعالى: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) [النحل:127].
وكرر ذلك فقال تعالى: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) [النمل:70]
وقال تعالى: ((وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ)) [العنكبوت:33].
__________
(1) أمالي الطوسي: (479)، البحار: (19/61)، وانظر أيضاً: البحار: (40/50)، كشف الغمة: (1/85).
(2) أمالي الطوسي: (480)، البحار: (19/62).
(3) انظر مثلاً: روح المعاني: (10/100)، منهاج السنة: (4/239) وما بعدها.(2/146)
وقال تعالى: ((قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى)) [طه:21].
وقال تعالى: ((قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى)) [طه:68].
وقال تعالى: ((وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)) [النمل:10].
وقال تعالى: ((وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ)) [القصص:31].
والآيات في الباب كثيرة، فاسأل القوم هل أن قوله: [لا تخافا - لا يحزنك - لا تحزن - لا تخف] وبال على الأنبياء عليهم السلام ومنقصة لهم، ودليل على خطئهم، لأن قوله: [لا تخافا - لا يحزنك - لا تحزن - لا تخف] نهي، وصورة النهي قول القائل: لا تفعل، فلا يخلو أن يكون الحزن والخوف وقع من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام طاعة أو معصية، فإن كان طاعة فإن الله عز وجل لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها، وإن كان معصية فقد نهاهم عز وجل عنها، وقد شهدت الآيات بعصيانهم بدليل أن الله عز وجل نهاهم؟!
فتدبر ما سيئول إليه منطق القوم!
ولم يشأ القوم أن يتركوا القصة تنتهي إلى هنا، بل جعلوا نهاية رحلة الهجرة بالصورة التي توضحها هذه الرواية.(2/147)
تقول الرواية: إن أبا بكر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فنزل بهم ينتظر قدوم علي، قال أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك، وهم يتريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم ههنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم إليك إلى شهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً أسرعه: ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عز وجل، وأحب أهل بيتي إلي، فقد وقاني بنفسه من المشركين، قال: فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخله من ذلك حسد لعلي، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في علي، وأول خلاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق حتى دخل المدينة وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء حتى ينتظر علياً(1).
وعلى ذكر لقب الصديق، فقد قلب القوم هذه المنقبة إلى مثلبة، فقد أنكر بعضهم كلياً أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقَّب أبا بكر بالصديق، وأقر آخرون بذلك ولكن جعلوها هكذا كما تقول رواية عن خالد بن نجيح، قال: قلت لأبي عبدالله: جعلت فداك، سمَّى رسول الله أبا بكر بالصديق؟ قال: نعم، قال: فكيف؟ قال: حين كان معه في الغار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب تضطرب في البحر ضالة، قال: يا رسول الله، وإنك لتراها؟ قال: نعم، قال: فتقدر أن ترينيها؟ قال: ادن مني، قال: فدنا منه، فمسح على عينيه، ثم قال: انظر، فنظر أبو بكر فرأى السفينة وهي تضطرب في البحر، ثم نظر إلى قصور أهل المدينة، فقال في نفسه: الآن صدقت إنك ساحر، فقال رسول الله: أنت الصديق(2).
__________
(1) الروضة: (281)، البحار: (19/116).
(2) تفسير القمي: (1/289)، البرهان: (2/125، 128)، البصائر: (422)، البحار: (18/109) (19/53، 71) (53/75)، نور الثقلين: (2/220)، وانظر أيضاً: إثبات الهداة: (1/241، 315، 317)، الروضة:(218)، الاختصاص: (19)، الصافي: (2/344).(2/148)
وهكذا.. وكأنهم بهذا يفتحون الباب لمبغضي الأمير رضي الله عنه لأن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالمبيت على فراشه ليلة الهجرة إلا ليقتله المشركون ظناً منهم أنه النبي، فيستريح منه، ولو علم فيه خيراً لاصطحبه معه.
ولو قيل بأن العبرة في ذلك أنه رضي الله عنه قد افتدى الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، فيقال: ليس في الأمر افتداء، وذلك أن الأمير -كما يرى القوم- سيكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر موته مستبعد هنا فتنتفي الفضيلة المنسوبة إليه، وإن كان احتمال الموت قائماً فقد أبطلوا القول بإمامته.
وهكذا تؤول سائر فضائله رضي الله عنه، فيقال مثلاً في قوله صلى الله عليه وسلم له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم في صحبته خيراً أو لرأيه ومشورته منفعة لاصطحبه معه في تلك الغزوة -أي: غزوة تبوك- ففي هذه الغزوة لم يأذن لأحدٍ بالتخلف عنها وهي آخر مغازيه، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع له فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة؛ لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحد كما كان يبقي في جميع مغازيه، وقد اصطحب النبي صلى الله عليه وسلم من يعظم انتفاعه به ومعاونته له، ويحتاج إلى مشاورته والانتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه، والمتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا كله.(2/149)
وقد أدرك علي رضي الله عنه ذلك -أي: أنه لا فائدة ترجى من ورائه إن بقي- فأخذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وتواتر قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، تخلفني مع النساء والصبيان؟ وفي بعض الروايات: أنه لحق به، فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي، ألم أخلفك على المدينة؟ فما زال يعارض ذلك حتى استرضاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؛ ويؤول هذا -أيضاً- بأن المراد بالمنزلة التخلف والمكث عند من بقي من النساء والصبيان فحسب كما تخلف هارون على من بقي لما خرج موسى للقاء ربه.
وهذه -أيضاً- لا تخلو من معارضتها لعقيدة العصمة، فلا بد أن يكون ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم صوابا وذلك لعصمته، أو خلاف ذلك بدلالة اعتراض الأمير على ذلك.
والقول كثير في المسألة.
وكذا شجاعته يمكن أن تؤول بأن ذلك إنما كان ملك على صورته، وليس هو رضي الله عنه، وقد روى القوم أن الملائكة كانت تقاتل في صورته(1)، إذ ربما يكون ما ظهر منه هنا أو هناك من شجاعة وبطولة إنما كان من هذا الملك أو ذاك.
وإن رد على ذلك بأن نزول الملائكة على صورته في ذاته فضيلة له، رد على ذلك بأن الملائكة بل وجبرئيل أعظم الملائكة كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً على صورة دحية الكلبي رضي الله عنه (2)، وهكذا..
__________
(1) البحار: (41/100)، الفصول المختارة: (81).
(2) المناقب: (1/199) (2/253) (3/353)، البحار: (18/268)(22/332، 400، 401) (37/307) (45/91) (52/306) (59/192، 209، 210)، الكافي:(2/597)، أمالي الصدوق:(283)، اليقين: (18)، أمالي الطوسي: (40، 615)، إثبات الهداة: (2/42، 43، 90، 159، 180)، تأويل الآيات: (1/185)، نور الثقلين: (2/173)، العياشي: (2/74)، البرهان: (2/98).(2/150)
حتى في أبسط المسائل كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له: أعلى الله كعبك يا علي(1).
فيمكن أن يؤوله الناصبة على أن ذلك إنما كان دعاء عليه لا له، فإعلاء الكعب كناية عن الصلب.
وهكذا سائر فضائله رضي الله عنه، ونحن نعلم تماماً فساد ما مر بك، ولكن هل يرضى القوم هذا المنهج، وهل به سيسلم أحد إذا ما نحن صرفنا ظاهر النصوص وأولناها؟!!
وهل ننسى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه وقد قتل اليهودي الذي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال له: قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال أسامة: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت، فحلف أسامة بعد ذلك أنه لا يقاتل أحداً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(2).
وقوله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس رضي الله عنه يوم بدر وقد قال له: إنني أسلمت، فقال: الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقاً فإن الله عز وجل سيجزيك عليه، فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا(3).
__________
(1) البحار: (38/298، 316) (76/56)، المناقب: (1/389)، فقه الرضا: (53).
(2) تفسير القمي: (1/156)، البرهان: (1/406)، الصافي: (1/485)، البحار:(21/11، 65)(22/93)، نور الثقلين: (1/535).
(3) تفسير القمي: (1/267)، نور الثقلين: (2/134)، البحار: (19/258)، البرهان: (2/67).(2/151)
وما رواه الصادق أنه كان في بني إسرائيل عابد، فأوحى الله إلى داود أنه مراء، قال: ثم إنه مات فلم يشهد جنازته داود عليه السلام، قال: فقام أربعون من بني إسرائيل، فقالوا: اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منا، فاغفر له، قال: فلما غسل أتى أربعون غير الأربعين، وقالوا: اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منا فاغفر له، فلما وضع في قبره قام أربعون غيرهم، فقالوا: اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيراً وأنت أعلم به منا فاغفر له، قال: فأوحى الله إلى داود عليه السلام: ما منعك أن تصلي عليه؟ فقال داود: للذي أخبرتني، قال: فأوحى الله إليه أنه قد شهد قوم فأجزت شهادتهم، وغفرت له ما علمت مما لا يعلمون(1).
نعود إلى ما كنا فيه من الحديث عن فضيلة صحبة الصديق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، ونكتفي بما أوردناه، إذ مطاعن القوم في ذلك كثيرة، وكذلك الردود، ولكن ننهي ذلك بهذه الرواية التي أوردها القوم.
فقد ذكروا أن الله عز وجل أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في قصة ليلة المبيت: آمرك أن تستصحب أبا بكر فإنه إن آنسك وساعدك ووازرك وثبت على ما يعاهدك ويعاقدك كان في الجنة من رفقائك، وفي غرفاتها من خلصائك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أرضيت أن تكون معي يا أبا بكر تطلب كما أطلب، وتعرف بأنك أنت الذي تحملني على ما أدعيه، فتحمل عني أنواع العذاب؟
__________
(1) البحار: (82/60، 61).(2/152)
قال أبو بكر: يا رسول الله، أما أنا لو عشت عمر الدنيا أعذب في جميعها أشد عذاب لا ينزل علي موت مريح ولا فرج منج، وكان في ذلك محبتك لكان ذلك أحب إليَّ من أن أتنعم فيها وأنا مالك لجميع ممالك ملوكها في مخالفتك، وهل أنا ومالي وولدي إلا فداؤك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا جرم أن اطلع الله على قلبك ووجد ما فيه موافقاً لما جرى على لسانك، جعلك مني بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد، وبمنزلة الروح من البدن كعلي الذي هو مني كذلك(1).
وعلى ذكر التشبيه بالمنزلة، فقد أورد القوم عن الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد(2).
ولا شك أنك تنتظر كيف أولوا هذا الحديث، فإليكها: روى القوم أن معنى ذلك أنهم سيسألون عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لقوله تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)) [الإسراء:36] (3).
حتى وإن قلت: إن الآية عامة لجميع المكلفين فلم خص هؤلاء الثلاثة بالذكر؟ تجدهم يقولون: إنهم لشدة خلطتهم واطلاعهم على ما أبداه في أمير المؤمنين بمنزلة السمع والبصر والفؤاد، فتكون الحجة عليهم أتم، ولذا خصوا في تلك الآية مع عموم السؤال لجميع المكلفين(4).
__________
(1) تفسير العسكري: (465)، البحار: (19/80)، مدينة المعاجز: (75)، إثبات الهداة: (3/596).
(2) عيون الأخبار: (1/280)، البرهان: (2/420)، نور الثقلين: (3/164)، معاني الأخبار: (387).
(3) عيون الأخبار: (174)، البرهان: (2/420)، نور الثقلين: (3/165)، إثبات الهداة: (2/27).
(4) البحار: (36/77).(2/153)
وكذا قولهم في بعثة أبي بكر رضي الله عنه بسورة براءة إلى المشركين الذي أجمع عليه المفسرون ونقله الأخباريون من شيعة وسنه، ثم أخذها منه ودفعها إلى علي رضي الله عنه لم تسلم من رد القوم لها، فقد عزَّ على القوم أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه ابتداء، فرووا أن الباقر قال: لا والله ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ببراءة أهو كان يبعث بها ثم يأخذها منه... الرواية(1).
نعود إلى ذكر أقوال القوم في تأويل وصرف الفضائل:
منها: ما كان من شأن آيات الإفك التي نزلت في تبرئة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما المبرأة من فوق سبع سموات في القصة المعروفة، فالقوم قلبوا القصة رأساً على عقب، فجعلوا كل تلك الآيات نازلة في ذم عائشة لا تبرئتها، فقالوا: إن هذه الآيات نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة(2).
ومنها: قولهم في لقب الفاروق رضي الله عنه، فعن خالد بن يحيى قال: قلت لأبي عبدالله: لم سمي عمر الفاروق؟ قال: نعم، ألا ترى أنه قد فرق بين الحق والباطل وأخذ الناس بالباطل(3).
ولا أدري إن كانت هذة الرواية مدحاً له أم ذماً، وإن كنت أظنها الأخيرة، ولكن ما ذنب عمر رضي الله عنه إن أخذ الناس بالباطل؟
ومنها: قول علي رضي الله عنه في الفاروق رضي الله عنه لما قبض: لوددت أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا.
وفي رواية: إني لأرجو أن ألقى الله تعالى بصحيفة هذا المسجى.
__________
(1) العياشي: (2/80)، نور الثقلين: (2/180)، البرهان: (2/101)، البحار: (35/295).
(2) انظر أقوالهم في المسألة في: تفسير القمي: (2/75)، البحار: (20/316)(22/154، 155، 168) (79/103)(الحاشية)، الخصال:(2/125)، كتاب حديث الإفك لجعفر مرتضى، تأويل الآيات: (2/603).
(3) الفصول المختارة:(58)، البحار:(10/296) (28/105، 117)، معاني الأخبار: (412)، إرشاد القلوب: (2/119).(2/154)
فكان تأويلهم لهذا أن عمر واطأ أبا بكر والمغيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة على كتابة صحيفة بينهم يتعاقدون فيها على أنه إذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورثوا أحداً من أهل بيته، ولم يولوهم مقامه من بعده، وكانت الصحيفة لعمر إذ كان عماد القوم، فالصحيفة التي ود أمير المؤمنين ورجا أن يلقى الله عز وجل بها هي هذه الصحيفة ليخاصمه بها ويحتج عليه بمضمونها(1).
وعلى ذكر هذه الصحيفة وذكر سالم مولى أبي حذيفة، روى القوم عن الصادق، أن تلقيب سالم بالأمين لأنهم لما كتبوا الصحيفة وضعوها على يد سالم، فصار الأمين(2).
ولا ننسى تأويلهم لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، فقد أورد القوم عن محمد بن مروان قال: سألت أبا عبدالله: جعلت فداك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فقال: يا محمد، قد والله قال ذلك، وكان أشد عليَّ من ضرب العنق، ثم أقبل علي، فقال: هل تدري ما أنزل الله يا محمد؟ قلت: أنت أعلم جعلت فداك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في دار الأرقم، فقال: اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فأنزل الله: ((وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)) [الكهف:51] (3)
__________
(1) الفصول المختارة: (58)، البحار:(10/296)(28/105، 117)، معاني الأخبار: (412)، إرشاد القلوب: (2/119).
(2) البحار: (53/75).
(3) نور الثقلين: (3/268)، البحار: (75/12)، العياشي: (2/355)، البرهان: (2/472)، الصافي: (3/246).(2/155)
ومنها: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا سارية الجبل -في الرواية المشهورة- فقالوا: إنما كان ذلك أن عمر شكا إلى علي رضي الله عنه غمة لانقطاع خبر عسكر المسلمين فأخبرهم بخبرهم، وأن عسكر المشركين أحاطوا بهم، وأنهم إن لم يصعدوا الجبل قتلوا عن آخرهم فسأله أن يريه إياهم، فصعد المنبر معه، ومسح على عينيه فرآهم، وقال: يا سارية الجبل، فسمعوا صوته، ثم جاء الخبر بما قال علي رضي الله عنه، ووعده عمر أنه إن فعل ذلك خلع نفسه ولم يفعل(1).
ومنها: صلاته رضي الله عنه خلف الثلاثة رضي الله عنهم، قالوا في ذلك: جعلهم بمثل سواري المسجد(2).
ومنها: جلوس أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش يوم بدر، حيث كانوا معه في مستقره يدبران الأمر معه صلى الله عليه وسلم، ولولا أنهما أفضل الخلق عنده ما اختصهما بالجلوس معه، قالوا في ذلك: إنه صلى الله عليه وسلم علم أنهما لا يصلحان للقتال، فإما أن ينهزما أو يوليا الدبر كما صنعا يوم أحد وخيبر وحنين، أو يلحقهما من الخوف والجزع فيصيران إلى أهل الشرك مستأمنين(3).
رغم كذب ادعاء الهروبات هذه إلا أن الطريف الذي يستحق الذكر هنا أن قصة الجلوس في العريش هذه إنما كانت يوم بدر، وغزوة بدر كانت أولى الغزوات، فكيف تفسر هذا؟! والغريب أن يردد ذلك أساطين القوم كالمفيد والحلي، وهو أمر لا يجهله حتى الصبيان!
ومنها: ما تواتر من قول علي رضي الله عنه على منبر الكوفة: لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري(4).
__________
(1) إثبات الهداة: (2/496).
(2) الفصول المختارة: (41)، البحار: (10/373)، المناقب: (1/274).
(3) الفصول المختارة: (15)، البحار: (10/417).
(4) الكشي: ترجمة رقم: (257)، معجم الخوئي: (8/153، 326)، الفصول المختارة: (127).(2/156)
فمن ذلك: ما قاله المفيد: إنما أَوجب عليه حد المفتري من حيث أَوجب لهما بالمفاضلة ما لا يستحقانه من الفضل؛ لأن المفاضلة لا تكون إلا بين متقاربين في الفضل، والرجلان -أي: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما- بجحدهما النص قد خرجا عن الإيمان، فبطل أن يكون لهما فضل في الإسلام، فكيف يحصل لهما ما يقارب فضل أمير المؤمنين؟(1)
أما قول المفيد فغير مفيد ولا يستحق الرد.
ومن ذلك: ما ذكره الفضل بن شاذان، حيث قال: إنما روى هذا الحديث سويد بن غفلة، وقد أجمع أهل الآثار على أنه كثير الغلط.
أما كذب الادعاء الآخر -أي: القول بإجماع أهل الآثار على أنه كثير الغلط- فليته دلنا على هؤلاء، وحسبك رد الخوئي على رواية ابن شاذان هذه بعد إيراده لأقوال أضرابه في وثاقة ابن غفلة وأنه من أولياء أمير المؤمنين بقوله: هذه الرواية مرسلة لا يعتمد عليها، وكيف يصح ذلك وقد اعتمد الفضل بنفسه على رواية سويد بن غفلة كما عرفت، على أن هذه الرواية رويت عن سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، دون سويد ابن غفلة(2).
ويشير بقوله: وقد اعتمد الفضل بنفسه على رواية سويد بن غفلة، إلى ما أورده الطوسي في تهذيبه من طريق ابن شاذان نفسه، عن حنان، قال: كنت جالساً عند سويد ابن غفلة، فذكر حديثاً، ثم قال الطوسي: قال الفضل: وهذا الخبر أصح مما رواه سلمة ابن كهيل؛ لأن سلمة لم يدرك علياً، وسويد قد أدرك علياً(3).
ومثل هذا القول قوله رضي الله عنه: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، فمن راد للخبر من أصله، ومن قائل: إن الباقر سئل عن هذا القول، فقال: إن الرجل يفضل على نفسه من ليس هو مثله حباً وتكرماً(4).
__________
(1) الفصول المختارة: (127)، البحار: (10/377).
(2) معجم الخوئي: (8/326).
(3) التهذيب: (9/331)، معجم الخوئي: (8/325).
(4) الاختصاص: (128)، البحار: (49/192).(2/157)
ومنها: ما جاء في بعض الروايات في أسباب نزول قوله تعالى: ((وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً)) [التحريم:3]، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشَّر زوجته حفصة بنت عمر رضي الله عنهما بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سيلي الخلافة بعده، ومن بعده سيلي عمر بن الخطاب(1)، زادوا في ذلك بأن حفصة لما أخبرت عائشة وأخبرا أبويهما بذلك، اجتمعوا على أن يسموا رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وعلى ذكر البشارة هذه، فقد زعم القوم أن ولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مذكورة في كتاب دانيال عليه السلام، وأنهما رضي الله عنهما كانا على علم بهذا؛ لهذا أسلما وتبعا النبي صلى الله عليه وسلم طلباً للولاية التي ذكرها دانيال في كتابه الموجود الآن بأيدي أهل الكتاب في الفصل التاسع منه(3).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر. قال العلامة الحلي في ذلك: إن الاقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة، وهو أيضاً معارض لحديث: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم(4).
وقال آخر وهو أيضاً لم يستطع رد الحديث لصحته: هذا الخبر لا يداني خبر الغدير؛ لأنه من الآحاد، وقال: إن قوله: (بعدي) مجمل ليس فيه دلالة على المراد بعد وفاتي، أو بعد حالٍ من أحوالي.
__________
(1) تفسير القمي: (2/360)، البرهان: (4/352)، الصافي: (5/194)، مجمع البيان: (5/472)، الميزان: (19/338)، نور الثقلين: (5/367)، جوامع الجامع: (2/711)، تأويل الآيات الظاهرة: (2/697).
(2) تفسير القمي: (2/361)، البرهان: (4/352)، الصافي: (5/194)، نور الثقلين: (5/368).
(3) فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب: (200).
(4) الصراط المستقيم: (3/127، 144، 146)، البحار: (23/155)(30/589)(49/189)، أعلام الدين: (142)، عيون أخبار الرضا: (2/185)، شرح نهج البلاغة: (13/287)(17/173)، الإفصاح: (219، 224).(2/158)
أقول:هل يرى القوم هذا التأويل في جميع الروايات التي وضعوها في إمامة عليرضي الله عنه.
وقال آخر: إن سبب هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سالكاً بعض الطريق وهما متأخران عنه، فقال صلى الله عليه وسلم لبعض من سأله عن الطريق الذي يسلكه به: اقتدوا باللذين من بعدي.
وقال آخر: إن الحديث روي بصيغة: (أبو بكر وعمر)، ومنهم من روى: (أبا بكر وعمر) ولو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب: اقتدوا باللذين من بعدي: كتاب الله والعترة يا أبا بكر وعمر، ومعنى قوله بالرفع: اقتدوا أيها الناس وأبو بكر وعمر باللذين من بعدي: كتاب الله والعترة(1).
وعلى ذكر رواية: (أصحابي كالنجوم) فقد عدَّ المحدثون من أهل السنة هذا الحديث من الموضوعات، ورغم ذلك يروي القوم عن الأئمة ما يفيد صحته، فعن الرضا أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وعن قوله صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي) فقال: هذا صحيح، يريد من لم يغير بعده ولم يبدل، قيل: وكيف نعلم أنهم قد غيَّروا وبدلوا؟ قال: لما يرونه من أنه صلى الله عليه وسلم قال: ليذادن رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بعداً لهم وسحقاً. أفترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل(2)؟
والطريف أن علم الهدى وغيره خالفوا الرضا في هذا، فبينما يرى الرضا صحة الحديث الأول باعتبار الثاني، يرى هؤلاء ضعف الأول باعتبار الحديث الثاني(3).
__________
(1) البحار: (23/162، 163) (49/191)، عيون الأخبار: (2/186).
(2) عيون الأخبار: (2/93)، البحار: (82/19).
(3) تلخيص الشافي: (2/248)، البحار: (28/19) (الحاشية).(2/159)
ومن لم يعجبه كل ذلك فقد روي عن الباقر، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيها أخذ اهتدي، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة، فقيل: يا رسول الله، ومَنْ مِنْ أصحابك؟ قال: أهل بيتي(1).
فهذا يصحح الحديث، وذاك يضعفه، وآخر يصححه ولكن يحمل مقصود الصحبة في الحديث على أهل البيت.. وهكذا.
والغريب أن كل رواية فيها مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن المقصود منها أهل البيت، كالرواية السابقة، ورواية افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي(2).
فالمجلسي عند نقله للرواية السابقة عن الصدوق حذف كلمة (وأصحابي)، وجعل محلها (وأهل بيتي) (3)، فعلها مرتين وأراح نفسه من عناء التأويل.
وعلى أي حال، لسائلٍ أن يتساءل: هل يحمل القوم روايات: (ليذادن رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي.. الحديث) على أهل البيت؟
وما دمنا في ذكر النجوم، فمقولة: إن أبا بكر وعمر شمسا هذه الأمة وقمرا هذه الأمة، ذكروا فيها عن الرضا أنه قال: إن الشمس والقمر يعذبان، فلما استغرب هذا منه قال: إنما عناهما لعنهما الله، أو ليس قد روى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس والقمر نوران في النار؟ قيل: بلى، فقال: وهما في النار والله ما عنى غيرهما(4).
__________
(1) معاني الأخبار: (156)، البحار: (2/220) (22/307).
(2) معاني الأخبار: (323)، البحار: (28/3، 4، 30).
(3) البحار: (28/3، 4).
(4) تفسير القمي:(2/321)، الصافي:(5/107)، البحار: (7/120) (24/68) (36/172)، البرهان: (4/263)، تأويل الآيات: (2/633)، نور الثقلين: (5/188).(2/160)
ويبدو أن واضع هذه الرواية لم يقف على ما وضعه آخر وهو قول الصادق: ((وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)) [الشمس:1]، الشمس أمير المؤمنين، والقمر الحسن والحسين، أو قوله صلى الله عليه وسلم: [مثلي فيكم مثل الشمس، ومثل علي مثل القمر](1).
حتى زواج الفاروق رضي الله عنه من أم كلثوم ابنة علي رضي الله عنه، وزواج عثمان ذي النورين من رقية وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان للقوم فيهما تأويلات وردود، فزواج عثمان رضي الله عنه من بنتين من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم قد ثقل على القوم وهم يرون أن من فضائل علي رضي الله عنه زواجه من الزهراء رضي الله عنها، فكيف بمن تزوج ببنتين من بناته صلى الله عليه وسلم؟! فكان مما قالوه في ذلك: أن رقية وأم كلثوم ليستا من بناته صلى الله عليه وسلم (2).
ولم يكتفوا بذلك؛ بل زادوا أن عثمان رضي الله عنه قد قتلهما(3).. وغيرها من التأويلات لهذه الزيجة أعرضنا عن ذكرها.
__________
(1) انظر هذه الروايات وغيرها في: البحار: (16/88، 89) (24/70، 72، 73، 74، 75، 76، 79) (53/120)(58/140)، البرهان: (4/467)، تأويل الآيات: (2/803، 806)، كنز الفوائد: (389)، روضة الكافي: (50)، معاني الأخبار: (39)، إثبات الوصية: (30)، أمالي الطوسي: (528)، نور الثقلين: (1/36)(5/585)، المناقب: (1/283)، الصافي:(5/333)، القمي:(2/422)، تفسير فرات: (2/561، 562، 563).
(2) المناقب: (1/162)، البحار: (22/152، 191)، الأنوار النعمانية: (1/80، 81) (الحاشية).
(3) البحار: (6/261) (9/251) (20/145) (22/159، 161، 163) (81/392)، الكافي: (3/64، 69)، تفسير القمي: (2/421)، نور الثقلين:(5/580)، الصافي: (5/330)، البرهان:(4/463).(2/161)
أما قولهم في زواج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أم كلثوم رضي الله عنها، فمنهم من رفض الزواج من أصله، وقال: إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر لم يثبت، وطريقه من الزبير بن بكار ولم يكن موثوقاً به في النقل، وكان متهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين وغير مأمون(1).
هذا رغم أن كتب القوم الرجالية تورد في ترجمة ابن بكار هذا أنه أعلم الناس قاطبة بأخبار قريش وأنسابها، وأنه نقل عنه روايات يظهر منها بطلان مذهب العامة، وحقيقة مذهب الخاصة(2).
ورغم أن أخبار هذه الزيجة وردت من طرق كثيرة ليس فيها ابن بكار، حتى قال المجلسي في قول المفيد الآنف الذكر: إن إنكار المفيد رحمه الله أصل الواقعة إنما هو لبيان أنه لم يثبت ذلك من طرقهم، وإلا فبعد ورود ما مرَّ من الأخبار إنكار ذلك عجيب(3).
أما أنا فلا أرى قول المفيد عجيباً فماذا عساه أن يقول؟!
ومنهم من قال: إن من تزوجها عمر رضي الله عنه لم تكن سوى جنية من نجران وليست أم كلثوم، فرووا عن الصادق أنه قال: إن أمير المؤمنين أرسل إلى جنية من أهل نجران يهودية يقال لها: سحيقة بنت جريرية، فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم وحجبت الأبصار عن أم كلثوم وبعث بها إلى الرجل، فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوماً، فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر ذلك للناس فقتل وحوت الميراث وانصرفت إلى نجران، وأظهر أمير المؤمنين أم كلثوم(4).
__________
(1) رسائل الشيخ المفيد: (61)، البحار: (42/107)، الأنوار النعمانية: (1/81)(الحاشية).
(2) معجم الخوئي: (7/215).
(3) البحار: (42/109).
(4) البحار: (42/88)، نقلاً عن الخرائج، وقال محقق الكتاب في الحاشية: لم نجده في المصدر المطبوع، أقول: لعل أحداً من جن نجران حذف الرواية، الأنوار النعمانية: (1/84).(2/162)
أما من أقر بهذه الزيجة، فقال: إن الصادق قال في ذلك: إن ذلك فرج غصبناه(1).
ولعمري إن حكاية ابن بكار وجنية نجران أحب إلي من نسبة هذا إلى الصادق رحمه الله.
وقد علق المجلسي على الرواية السابقة وغيرها التي تؤكد هذه الزيجة بقوله: هذه الأخبار لا تنافي ما مرَّ من قصة الجنية، لأنها قصة مخيفة أطلعوا عليها خواصهم، ولم يكن يتم بها الاحتجاج على المخالفين.
بل ربما كانوا يحترزون عن إظهار أمثال تلك الأمور لأكثر الشيعة أيضاً، لئلا تقبله عقولهم، ولئلا يغلوا فيهم(2).
وعلى أي حال، ففيما ذكرناه من تأويلات لهذا الزواج كفاية وإلا لطال بنا المقام.
وكذا قولهم في روايات مدح الأمير لخلافة الشيخين رضي الله عنهما التي مرت بك، من أنها على الظاهر عند الناس أو تقية، ثم أراحوا أنفسهم فقالوا: بل الظاهر أنها من إلحاقات المخالفين(3)، وللقوم عذرهم.
وقالوا في الروايات المنافية لردة الصحابة رضوان الله عليهم؛ كرواية الكافي التي مرَّت بك وفيها قول الباقر من أن علياً رضي الله عنه كان الأحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن الإسلام... الرواية.
قالوا: أي على ظاهره، وهذا لا ينافي ما مر وسيأتي(4) أن الناس ارتدوا إلا ثلاثة، لأن المراد فيها ارتدادهم عن الدين واقعاً، وهذا محمول على بقائهم على صورة الإسلام وظاهره، وإن كانوا في أكثر الأحكام الواقعية في حكم الكفار(5).
ويقول المجلسي مضطراً بعد أن أورد العشرات من الروايات في فضائل الصحابة: وينبغي أن تعلم أن هذه الفضائل إنما هي لمن كان مؤمناً منهم لا المنافقين، كغاصبي الخلافة وأضرابهم وأتباعهم ولمن ثبت منهم على الإيمان واتِّباع الأئمة الراشدين لا الناكثين الذين ارتدوا عن الدين(6).
__________
(1) الكافي: (5/346)، البحار: (42/106)، الأنوار النعمانية: (1/82).
(2) البحار: (42/106).
(3) البحار: (33/574).
(4) ذكرنا بعض هذه الروايات.
(5) البحار: (28/255).
(6) البحار: (22/313).(2/163)
أي: أن كل هذه الآيات والروايات التي ذكرناها في هذا الباب لا تنطبق إلا على الثلاثة الذين لم يرتدوا كما مرَّ بك، وهم بهذا يعلنون فشل صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل العظيم حتى توفي وترك بعده أكثر من مائة ألف من المنافقين والناكثين والمرتدين.
حتى من تفاءل خيراً وظن أن أناساً آخرين دخلوا الدين بعد ردة الصحابة يفاجأ بارتدادهم بعد مقتل الحسين إلا ثلاثة أيضاً، كما يروي القوم ذلك عن الصادق(1).
ولم يسلم من تأويلهم أيضاً نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا الأئمة عن لعن الصحابة رضوان الله عليهم، وإليك واحدة من تلك وهي كثيرة:
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ فذكر منها: ولعن آخر هذه الأمة أولها.
قال الصدوق: يعني بقوله: ولعن آخر هذه الأمة أولها الخوارج الذين يلعنون أمير المؤمنين وهو أول الأمة إيماناً بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم (2).
وهكذا وكما فعل غيره، جعل آخر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة بعد وفاته!
اضطراب الشيعة في رد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمن سبقوه:
وقبل كل هذا أو بعده اضطربوا في رد بيعة علي رضي الله عنه للثلاثة رضي الله عنهم، كقولهم:
__________
(1) الاختصاص: (64، 205)، البحار: (46/144) (74/220)، الكشي: (113).
(2) الخصال: (500)، البحار: (6/304) (52/193) (77/305)، وانظر أيضاً: كمال الدين: (2/207)، كنز الفوائد: (144).(2/164)
إنه تأخر في بيعته -كما تذكر بعض الروايات- وليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالاً أو يكون ضلالاً وتركه هدى وصواباً وتركه صواباً، أو يكون خطأ وتركه خطأ، فلو كان التأخير ضلالاً وباطلاً لكان أمير المؤمنين قد ضل بعد النبي صلى الله عليه وسلم بترك الهدى الذي يجب المصير إليه، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالاً، وإن كان تأخره هدى وصواباً وتركه خطأ، فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال، إلى أن خلصوا إلى القول بأنه رضي الله عنه لم يبايع من سبقوه قط(1).
ولا نرد على هذا سوى سؤال القوم عن الروايات العديدة من طرقهم والتي تدل صراحة على بيعته رضي الله عنه لمن سبقوه، كقوله لنفر من قريش في ذكر البيعة فبايعتم أبا بكر وعدلتم عني فبايعت أبا بكر كما بايعتموه، ثم بايعت عمر كما بايعتموه، ثم بايعتم عثمان فبايعته(2).
وقد أقر بذلك آل كاشف الغطاء حيث قال: وحين رأى -أي: عليّ بن أبي طالب- أن الخليفتين، أعني الخليفة الأول والثاني -أي: أبو بكر وعمر- بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهييز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا بايع وسالم.(3)
بل واستعداده لبيعة غيرهم، كقوله لطلحة لما برز الناس للبيعة عند بيت المال: ابسط يدك للبيعة، فقال له طلحة: أنت أحق بذلك مني، وقد استجمع لك الناس ولم يجتمعوا لي(4). وغيرها وهي كثيرة حتى أقر بها المتأخرون(5).
فانظر كيف توفق بينها؟!
__________
(1) الفصول المختارة:(31) في الدلالة على أن أمير المؤمنين لم يبايع أبا بكر، البحار: (10/427).
(2) انظرالرواية بتمامها في: أمالي الطوسي: (518)، البحار: (32/262).
(3) أصل الشيعة وأصولها: (124).
(4) البحار: (32/32)، نقلاً عن الكافية لإبطال توبة الخاطئة.
(5) أصل الشيعة وأصولها: (66).(2/165)
وعلى أي حال، نكرر هنا ونقول: إنه لا يسعنا حصر كل ما أورده القوم في ذلك، فإن هذا يحتاج إلى كتابٍ مستقل بذاته، وكنا قد جمعنا مئات النصوص من مصنفات القوم في تكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم وشتمهم ولعنهم وبغضهم وصرف فضائلهم رضوان الله عليهم، ونسأل الله عز وجل أن ترى النور.
ولكن اسأل نفسك -عزيزي القارئ- بعد كل هذا عن صحة الاعتقاد بالإمامة أو وجوبها، وقد عرفت ووقفت على بطلان النص على أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكذا العصمة، وموقف القرآن منهما، وهذه السيرة العطرة التي مرت بك عن موقف الصحابة وأهل البيت بعضهم من بعض رضي الله عنهم أجمعين، ثم انظر هل تجد مكاناً لعقائد القوم؟
تعظيم الشيعة لليهود والنصارى:
ومن الأمور الغريبة عند القوم، أنهم وهم يستميتون في إثبات أن مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم كان خليطاً من المنافقين والحاقدين والمتآمرين، ثم المرتدين عن الإسلام، ورغم استماتتهم في صرف كل ما من شأنه أنه فضيلة لهم بشتى الطرق حتى لو كان يمجها العقل، تراهم يظهرون أهل الكتاب بمنزلةٍ لم يجعلوها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاقرأ معي مثلاً هذه الروايات وهي طويلة، ولكننا أخذنا منها مواضع الحاجة:
سأل يهوديان علياً رضي الله عنه: أين ربك؟ فأجابهما عن ذلك، فقالا: إنك لأنت الخليفة حقاً، وإنك لأنت أحق بهذا الأمر وأولى به ممن غلبك عليه(1).
__________
(1) التوحيد: (173)، البحار: (10/20).(2/166)
وجاء يهودي آخر وسأله عن أول حجر وضع على وجه الأرض، وأول شجرة نبتت على وجه الأرض، وأول عين نبعت على وجه الأرض، وكم لهذه الأمة بعد نبيها من إمام عادل، وأين مَنزِلَ محمدٍ من الجنة، ومن يسكن معه، وعن وصي محمدٍ كم يعيش بعده وهل يموت أو يقتل؟ فأجابه رضي الله عنه عن كل ذلك، فوثب إليه اليهودي، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنك وصي رسول الله(1).
وجاءه آخران من يهود خيبر وسألاه عن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والستة والسبعة والثمانية والتسعة والعشرة والعشرين والثلاثين والأربعين والخمسين والستين والسبعين والثمانين والتسعين والمائة؟ فأجابهما عن ذلك فأسلما على يديه(2).
وجاء قوم من اليهود في عهد عمر رضي الله عنه وسألوا عن أقفال السموات السبع ومفاتيحها، وعن قبر سار بصاحبه، وعمن أنذر قومه ليس من الجن ولا من الإنس، وعن موضع طلعت عليه الشمس ولم تعد إليه، وعن خمسة لم يخلقوا في الأرحام، وعن واحد واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة وحادي عشر وثاني عشر؟ فأجابهما علي رضي الله عنه عن ذلك، فأقبل اليهود يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك ابن عم رسول الله، ثم أقبلوا على عمر، فقالوا: نشهد أن هذا أخو رسول الله، وأنه أحق بهذا المقام منك، وأسلم من كان معهم وحسن إسلامهم(3).
__________
(1) كمال الدين: (280، 284، 285)، البحار: (22/10) (36/374، 381)، غيبة النعماني: (51)، غيبة الطوسي: (106)، إعلام الورى: (367)، الكافي: (1/530)، إثبات الهداة: (2/412)، منتخب الأثر: (62).
(2) الخصال: (148)، البحار: (10/6).
(3) الخصال: (65)، البحار: (10/7).(2/167)
وسأله يهودي: أخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله؟ فأجابه عن ذلك، فأسلم اليهودي(1).
وسأله آخر: أخبرني عن قرار هذه الأرض، وشبَّه الولد أعمامه، ومن أي النطفتين يكون الشعر والعضم والعصب؟ ولم سميت السماء سماء، والدنيا دنيا، والآخرة آخرة، وآدم آدم، وحواء حواء، والدرهم درهماً، والدينار ديناراً؟ ولم قيل للفرس: أجد، وللبغل:عد، وللحمار: حر؟ فأجابه عن كل ذلك، فأسلم على يده ولازمه حتى قتل في صفين(2).
وآخر أسلم لأن علياً رضي الله عنه أخبره باسم عين شربوا منها في طريقهم إلى صفين، فكان أول من أصابته الشهادة، فنزل علي رضي الله عنه وعيناه تهملان، وهو يقول: المرء مع من أحب، الراهب معنا يوم القيامة ورفيقي في الجنة(3).
وسأله آخر عن أول حرف كلَّم الله تعالى به نبيكم لما أسري به ورجع من عند ربه، وعن الملك الذي زحم نبيكم ولم يسلم عليه، وعن الأربعة الذين كشف عنهم مالك طبقاً من النار وكلموا نبيكم، وعن منبر نبيكم أي موضع هي من الجنة؟ فأجابه عن كل ذلك، فأسلم، وقال: أشهد أنك عالم هذه الأمة ووصي رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
وسأله يهودي آخر: أين الله؟ فأجابه، فأسلم وقال: أشهد أنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه(5).
__________
(1) التوحيد: (385)، عيون الأخبار: (210)، صحيفة الرضا: (38)، البحار: (10/11، 26، 53)، أمالي الطوسي: (173)، الفضائل: (178)، الروضة: (137)، الاحتجاج: (108)، نور الثقلين: (2/207).
(2) علل الشرايع: الرواية الأولى من كتاب البحار: (10/12).
(3) أمالي الصدوق: (155).
(4) غيبة النعماني: (53)، البحار: (10/24).
(5) الإرشاد: (95)، نور الثقلين: (5/260)، البحار: (3/309) (40/249).(2/168)
وآخران كانا صديقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قد آمنا بموسى رسول الله، وأتيا محمداً صلى الله عليه وسلم وسمعا منه، ثم أتياه، وقالا: إنك لأنت الخليفة حقاً، نجد صفتك في كتبنا ونقرأه في كنائسنا، فما منع صاحبيك أن يكونا جعلاك في موضعك الذي أنت أهله؟ فقال رضي الله عنه: قدما وأخرا وحسابهما على الله عز وجل (1).
أقول: في الرواية دليل على أن خلافة الشيخين رضي الله عنهما لو تأخرت لكانت صحيحة.
وسأله أسقف نجراني: أنتم تقولون: إن لله جنة عرضها السموات والأرض، فأين تكون النار وغيرها؟ فأجابه عن ذلك، فقال الأسقف: مد يدك فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك خليفة الله في أرضه ووصي رسوله(2).
وآخر فسر له قول الناقوس عندما يدق، فأسلم(3).
حتى من مات منهم على الكفر فكان له نصيب من ذلك، فقد روى القوم: أن يهودياً كان يحب علياً حباً شديداً، فمات ولم يسلم، فقال تعالى: أما جنتي فليس له فيها نصيب، ولكن يا نار لا تهيديه -أي: لا تزعجيه-(4)، وغيرها(5).
والروايات في الباب كثيرة وطويلة، وما أوردناه يوفي بالمقصود، وهو أن القوم أرادوا أن يقولوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطوال دعوته التي امتدت إلى ثلاثة وعشرين عاماً لم يستطع أن يخرج من الذين قال فيهم الله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) [البقرة:143].
وقال: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110].
__________
(1) نور الثقلين: (2/81)، البحار: (3/326) (10/20).
(2) الفضائل: (202)، الروضة: (145)، البحار: (10/58).
(3) أمالي الصدوق: (187).
(4) المناقب: (2/3)، البحار: (39/258).
(5) للمزيد انظر: إثبات الهداة: (2/118، 432).(2/169)
وقال: ((وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [الأنفال:62-63].
وقال: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الأنفال:74-75].
وقال: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة:100].
وقال: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التوبة:20-22].(2/170)
وقال: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) [آل عمران:172-174].
وقال: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29].
وغيرها من الآيات التي ذكرناها في مقدمة الباب.
نقول: لم يستطع أن يخرج من هؤلاء الأصحاب سوى عصابات من المنافقين والمجرمين والمتآمرين الحاقدين، ما إن تركهم حتى ارتدوا على أعقابهم، معلنين فشل صاحب الرسالة.
بينما يرينا القوم أن علياً رضي الله عنه وفي لحظاتٍ استطاع أن يقنع من قال الله تعالى فيهم: ((وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) [البقرة:120].
وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائدة:51].(2/171)
وقال: ((وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) [المائدة:64].
وقال: ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)) [المائدة:82].
وقال: ((وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [التوبة:30] بمجرد أن أجابهم عن أول شجرة نبتت على الأرض، أو عن الواحد والاثنين، أو لماذا قيل للبغل: عد وللحمار: حر؟
ذكر من أنكر ولاية علي بن أبي طالب من الأنبياء والملائكة والجمادات والحيوانات والنباتات وسائر المخلوقات:
قبل أن أختم الباب، أود أن أذكر حقيقة لا يعلمها كثير من الناس إن لم يكن أكثرهم، هذه الحقيقة هي أن الصحابة رضي الله عنهم ليسوا هم فقط من أنكر أو لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بزعم القوم، بل هناك آخرون، ومنهم من غير البشر أو الأحياء، وإليك بعض الروايات التي تبين لك من هؤلاء الآخرون أو ما هذه الأشياء، وهي لا تخلو من طرافة أرى أن القارئ بحاجة إليها بعد كل ما مر، وكذلك ستجد بينها ذكر من أقر بالولاية من تلك المخلوقات بعد أن عرضت عليه.(2/172)
من هؤلاء آدم عليه السلام، فزعموا أن آدم عليه السلام عرضت عليه الولاية فأنكرها حسداً فرمته الجنة بأوراقها، فلما تاب إلى الله من حسده وأقر بالولاية ودعا بحق هؤلاء الخمسة: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين صلوات الله عليهم، غفر الله له(1).
وفي رواية: فنظر إليهم بعين الحسد وتمني منزلتهم، فتسلط الشيطان عليه حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم؛ فأخرجهما الله عز وجل عن جنته وأهبطهما إلى جوار الأرض(2).
ومنهم: يونس عليه السلام، حيث رووا أن علياً رضي الله عنه قال: إن الله عرض ولايتي على أهل السموات وعلى أهل الأرض فأقر بها من أقر، وأنكرها من أنكر.. أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقر بها(3).
__________
(1) العياشي: (1/60)، البرهان: (1/87)، البحار: (11/187).
(2) عيون الأخبار: (170)، البحار: (26/273).
(3) البصائر: (22)، البحار: (14/391)، تفسير فرات: (1/264)، البحار: (26/333).(2/173)
وفي رواية: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه دخل على زين العابدين، وقال: يا ابن الحسين، أنت الذي تقول: إن يونس بن متّى إنما لقي من الحوت ما لقي لأنه عرضت عليه ولاية جدي فتوقف عندها؟ قال: بلى ثكلتك أمك، قال: فأرني برهان ذلك إن كنت من الصادقين، فأمر بشد عينيه بعصابة وعيني بعصابة، ثم أمر بعد ساعة بفتح أعيننا، فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه، فقال ابن عمر: يا سيدي، دمي في رقبتك، الله الله في نفسي، فقال:هيه وأريه إن كنت من الصادقين، ثم قال: يا أيها الحوت، قال: فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم وهو يقول: لبيك لبيك يا ولي الله، فقال: من أنت؟ قال: أنا حوت يونس يا سيدي، قال: أنبئنا بالخبر، قال: يا سيدي، إن الله تعالى لم يبعث نبياً من آدم إلى أن صار جدك محمد إلا وقد عرض عليه ولايتكم أهل البيت، فمن قبلها من الأنبياء سلم وتخلص، ومن توقف عنها وتمنع من حملها لقي ما لقي آدم عليه السلام من المعصية، وما لقي نوح من الغرق، وما لقي إبراهيم عليه السلام من النار، وما لقي يوسف عليه السلام من الجب، وما لقي أيوب عليه السلام من البلاء، وما لقي داود عليه السلام من الخطيئة، إلى أن بعث الله يونس عليه السلام، فأوحى الله إليه: أن يا يونس، تول أمير المؤمنين علياً والأئمة الراشدين من صلبه. قال: فكيف أتولى من لم أره ولم أعرفه، وذهب مغتاظاً، فأوحى الله تعالى إلي أن التقمي يونس ولا توهني له عظماً، فمكث في بطني أربعين صباحاً يطوف معي البحار في ظلمات ثلاث، ينادي: أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وقد قبلت ولاية علي بن أبي طالب والأئمة الراشدين من ولده، فلما آمن بولايتكم أمرني ربي فقذفته على ساحل البحر، فقال زين العابدين: ارجع أيها الحوت إلى وكرك، واستوى الماء(1).
__________
(1) المناقب: (4/138)، البرهان: (4/37)، دلائل الإمامة: (92)، البحار: (14/401) (65/218).(2/174)
ورووا عن الصادق: إن الله عز وجل عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة.
وفي رواية: ما قبلها قبول أهل الكوفة(1).
وعن علي رضي الله عنه: إن الله عرض أمانتي وولايتي على الطيور، فأول من آمن بها البزاة البيض والقنابر، وأول من جحدها البوم والعنقاء، فلعنهما الله تعالى من بين الطيور، فأما البوم فلا تقدر أن تظهر بالنهار لبغض الطيور لها، وأما العنقاء فغابت في البحار لا ترى، وإن الله عرض أمانتي على الأرضين، فكل بقعة آمنت بولايتي جعلها طيبة زكية، وجعل نباتها وثمرتها حلواً عذباً، وجعل ماءها زلالاً، وكل بقعة جحدت إمامتي وأنكرت ولايتي جعلها سبخاً، وجعل نباتها مراً علقماً، وجعل ثمرها العوسج والحنظل، وجعل ماءها ملحاً أجاجاً(2).
وعلى ذكر البومة، أقول: حتى البومة لم تسلم من خلاف القوم فيها، فقد أورد القوم ما يخالف ما مر من علة اختفائها في النهار، فعن الصادق: أنها لم تزل تأوي العمران أبداً، فلما قتل الحسين آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبداً، ولا تأوي إلا الخراب، فلا تزال نهارها صائمة حزينة، حتى يجنها الليل، فإذا جنها الليل فلا تزال ترن على الحسين حتى تصبح(3).
وعن الباقر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: أنت الذي احتج الله بك في ابتدائه الخلق حيث أقامهم أشباحاً، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ومحمد رسولي؟ قالوا: بلى، قال: وعلي أمير المؤمنين؟ فأبى الخلق جميعاً استكباراً وعتواً عن ولايتك إلا نفر قليل، وهم أقل الأقلين وهم أصحاب اليمين(4).
وروى القوم أن جملاً قال لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، عليك السلام.
__________
(1) البصائر: (22)، البحار: (23/281).
(2) المناقب:(2/141)، البحار:(3/281)(41/245)، وانظرأيضاً: الإقبال:(464)، البحار:(27/262).
(3) كامل الزيارات: الباب (31)، البحار: (45/214).
(4) أمالي الطوسي: (146)، اليقين: (80)، البحار: (26/272) (37/311).(2/175)
وفي رواية: يا أمير المؤمنين، وخير الوصيين.. الرواية(1).
وقال سبع: يا أمير المؤمنين، ويا خير الوصيين، ويا وارث علم النبيين، ويا مفرق بين الحق والباطل، ما افترست منذ سبع شيئاً، وقد أضر بي الجوع... الرواية(2).
وروى القوم أن منسوب مياة الفرات ارتفع يوماً فلجأ الناس إلى علي رضي الله عنه، فجاء ووقف على الفرات فوقف الناس ينظرون، فتكلم بالعبرانية كلاماً فنقص الفرات ذراعاً، فقال: حسبكم؟ قالوا: زدنا، فضربه بقضيب كان معه، فإذا بالحيتان فاغرة أفواهها، فقالت: يا أمير المؤمنين، عرضت ولايتك علينا فقبلناها ما خلا الجري والمارماهي والزمار(3).
وكان يوماً في الكوفة إذ أحاط به اليهود، فقالوا: أنت الذي تزعم أن الجري منا معشر اليهود ثم مسخ؟ فقال لهم: نعم، ثم ضرب بيده إلى الأرض فتناول منها عوداً فشقه اثنتين، وتكلم عليه بكلام وتفل عليه، ثم رمى به في الفرات، فإذا الجري يتراكب بعضهم على بعضٍ، يقولون بصوت عالٍ: يا أمير المؤمنين، نحن طائفة من بني إسرائيل، عرضت علينا ولايتكم فأبينا أن نقبلها فمسخنا الله جرياً(4).
وروى القوم أن جبرئيل عليه السلام خطب في الوحوش: يا معشر الوحوش، إن الله عز وجل قد دعا محمداً فأجابه، واستخلف على عباده من بعده علي بن أبي طالب وأمركم أن تبايعوه، فقالوا: سمعنا وأطعنا، ما خلا الذئب فإنه جحد(5).
وروى القوم: أن الأوز قال له رضي الله عنه: السلام عليك يا أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين(6).
__________
(1) الفضائل: (68)، اليقين: (73)، البحار: (40/268) (41/231، 236).
(2) اليقين: (65)، الروضة: (40)، الفضائل: (179)، البحار: (41/233).
(3) اليقين: (154)، البحار: (41/237).
(4) الخرائج والجرائح: (135)، البحار: (41/241)، وانظر أيضاً: مشارق الأنوار: (94)، البحار: (27/271).
(5) اليقين: (156)، البحار: (41/238).
(6) البحار: (41/242).(2/176)
وروى القوم: أن اليهود لما ناظرته رضي الله عنه في النبوة، نادى جمال اليهود: أيتها الجمال، اشهدي لمحمد ووصيه، فنطقت جمالهم وثيابهم كلها: صدقت يا علي، إن محمداً رسول الله، وإنك يا علي حقاً وصيه(1).
وفي موقف آخر: فأنطق الله ثيابهم التي عليهم وخفافهم التي في أرجلهم، يقول كل واحد منها لِلابِسِه: كذبت يا عدو الله، بل النبي محمد هذا، والوصي علي هذا(2).
ورووا أن أسداً قال لأحد أصحاب علي رضي الله عنه: أقرئ وصي محمد مني السلام(3).
ورووا عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما قالا: إن الله عز وجل عرض ولايتنا على المياه، فما قبل ولايتنا عذب وطاب، وما جحد ولايتنا جعله الله عز وجل مراً وملحاً أجاجاً(4).
ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل عرض الولاية على الملائكة، فمن قبلها كان عنده من المقربين(5).
وعن الصادق: أن ممن لم يقبلها من الملائكة ملكاً يقال له: فطرس، فكسر الله جناحه(6).
ورووا: أن الله عز وجل عرض ولاية علي على السموات والأرض فقبلتاهما(7).
وأنه رضي الله عنه سلم على الشمس فردت: عليك السلام يا أخا رسول الله ووصيه(8).
__________
(1) معاني الأخبار: (12)، البحار: (10/17) (41/244).
(2) إثبات الهداة: (2/151).
(3) إعلام الورى: (184)، البحار: (41/246).
(4) الكافي: (6/389)، البحار: (43/320).
(5) كمال الدين: (146)، عيون الأخبار: (34)، البحار: (36/245).
(6) البصائر: (20)، البحار: (26/341).
(7) البحار: (17/13).
(8) إرشاد القلوب: (2/83)، البحار: (35/278، 279).(2/177)
وأن الحصى نطقت في يده رضي الله عنه قائلة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبعلي بن أبي طالب ولياً(1). وكذا فعلت شجرة(2)، وصخرة(3)، والنخل أيضاً، حيث ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي مع علي رضي الله عنه بين نخلات، فنادت نخلة إلى نخلة: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وصيه، فسميت الصيحانية(4).
وكذا ذكروا بساطاً وسوطاً شهدا بإمامته رضي الله عنه (5)، والحمير أيضاً، فهذا حمار لكعب بن الأشرف شهد أن علياً ولي الله ووصي رسوله صلى الله عليه وسلم (6)، والعقيق الأحمر؛ حيث ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: تختم بالعقيق الأحمر، فإنه أقر لله عز وجل بالوحدانية، ولي بالنبوة، ولك يا علي بالوصية، ولولدك بالإمامة(7).
ويظهر من هذه الرواية أن هناك فرقاً بين الوصي والإمام.
حتى البطيخ، فقد ذكروا أن علياً رضي الله عنه أخذ بطيخة ليأكلها فوجدها مرة فرمى بها، وقال: بعداً وسحقاً، فقيل: يا أمير المؤمنين، وما هذه البطيخة؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى أخذ عقد مودتنا على كل حيوان ونبات، فما قبل الميثاق كان عذباً طيباً وما لم يقبل الميثاق كان مالحاً زعاقاً(8).
__________
(1) أمالي الطوسي: (178)، البحار: (17/373).
(2) إثبات الهداة: (2/151).
(3) الفضائل: (107)، البحار: (33/46).
(4) البحار: (17/365).
(5) تفسير العسكري: (33)، البحار: (17/304)، إثبات الهداة: (2/150).
(6) تفسير العسكري: (36)، البحار: (17/306)، إثبات الهداة: (2/150).
(7) علل الشرايع: (64)، البحار: (27/280، 283)، وانظر أيضاً: عيون الأخبار، العمدة: (197).
(8) علل الشرايع: (159)، البحار: (27/280).(2/178)
وفي رواية: إن الله تبارك وتعالى طرح حبي على الحجر والمدر والبحار والجبال والشجر، فما أجاب إلى حبي عذب وطاب، وما لم يجب إلى حبي خبث ومر، وإني لأظن أن هذا البطيخ مما لم يجب إلى حبي(1).
وفي أخرى: إن الله تبارك وتعالى عرض ولايتنا على أهل السماوات وأهل الأرض من الجن والإنس والثمر وغير ذلك، فما قبل منه ولايتنا طاب وطهر وعذب، وما لم يقبل منه خبث وردىء ونتن(2).
وهكذا.. حتى جعلوا من جانبٍ آخر الحيوانات تعترض من لا يحب أهل البيت، فهذا كلب ذمي عض اثنين من الصحابة فشكو أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله، فقال الكلب: يا رسول الله، إن القوم الذين ذكرتهم منافقون نواصب، يبغضون ابن عمك علي بن أبي طالب، ولولا أنهم كذلك ما تعرضت لهم، ولكنهم جاءُوا يرفضون علياً ويسبونه، فأخذتني الحمية الأبية والنخوة العربية، ففعلت بهم(3).
وهذا ظبي أمر الصادق بشيء، فقال الظبي: برئت من ولايتكم أهل البيت إن لم أفل(4).
وهذا عقرب رفض نوح عليه السلام أن يحمله معه في السفينة، فقال: عاهدتك أن لا ألسع أحداً يقول: سلام على محمد وآل محمد، وعلى نوح في العالمين(5).
ولا نطيل عليك، ففيما سبق غنية عن التطويل.
وهكذا تجد أن القوم يرون أن من ذكرنا من أنبياء عليهم السلام، وأكثر من مائة ألف صحابي رضي الله عنهم من أعظم أمة اختارها الله عز وجل لخاتم أنبيائه، وأعظمهم جحدوا ولاية علي رضي الله عنه، بينما يرون أن حمار كعب بن الأشرف وحتى كلاب أهل الذمة أخذتها النخوة العربية، قد أقرت بفضل أهل البيت رضي الله عنهم وبولايتهم!!
خلاصة الباب:
__________
(1) بشارة المصطفى: (205)، البحار: (27/282).
(2) الاختصاص: (249)، البحار: (27/283).
(3) الروضة: (37)، البحار: (41/247).
(4) البصائر: (100)، البحار: (47/86).
(5) البحار: (11/342).(2/179)
لا شك -عزيزي القارئ- أنك قد تيقنت من أن الصورة التي يستميت الشيعة في إظهارها عن هذا الجيل المثالي مغايرة تماماً للواقع، فالله عز وجل هو الذي بعث في هذا الجيل أعظم أنبيائه حيث علمهم القرآن والسنة، بل وزكاهم وطهرهم ليبلغوا هذا العلم إلى من بعدهم، كما قال سبحانه: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [آل عمران:164] وقال: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الجمعة:2]
وتبين لك أيضاً أن هذا الجيل المثالي وعده الله جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، وذلك في قوله سبحانه: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100]، ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ)) [التوبة:101] فجعل المهاجرين والأنصار غير المنافقين كما سبق ذكره في أول الباب.(2/180)
كما تبين لك -أيضاً- أن هؤلاء الصحابة الكرام لم يكونوا ليكتموا النص لو كان موجوداً، بل إن علياً رضي الله عنه وأرضاه كان يقول لخصومه: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد؛ وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، ويصليه جهنم وساءت مصيراً(1).
وبهذا كله يتبين أن ذلك الجيل هو خير القرون، وأن كثيراً مما ينسب إليهم إنما هو كذب وافتراء يخالف كتاب الله سبحانه وتعالى ويكذبه، كما يخالف ثناء علي رضي الله عنه على أولئك الصحابة وثنائهم عليه، فرضي الله عن الجميع..
خاتمة الكتاب
وبعد.. فقد أوقفناك على شيء من عقيدة الشيعة الإمامية الاثني عشرية في الإمامة، وقد أعرضنا عن ذكر الكثير من النصوص المتصلة بموضوع كتابنا، فضلاً عن النصوص المتعلقة بالعقائد الأخرى ذات الصلة بالإمامة، وهي سائر العبادات والمعاملات.
وقد تبين لك من كل ذلك مدى الاضطراب الحاصل عند الشيعة في هذه العقيدة التي هي الأساس في دين الإمامية.
وقد رأيت في الباب الأول كيف أن هذه النصوص يسقط بعضها بعضاً، وتتعارض كل رواية مع الأخرى، وكيف أن أهل البيت أنفسهم قد أنكروا نسبة أمثال هذه العقائد إليهم، وكيف أن عقيدة التقية لا تسعف القوم في رد أمثال هذه الروايات.
ثم تبين لك موقف القوم من القرآن الذي لم يرد فيه ذكر لهذا المعتقد، رغم منزلته العظيمة التي أوقفناك عليها، حتى اضطروا للزعم بأن الصحابة رضوان الله عليهم وعلى رأسهم الشيخان حذفوا الآيات الدالة على إمامة علي رضي الله عنه.
__________
(1) سبق تخريج هذه الروايات من طرق الشيعة في الباب الثالث.(2/181)
وأنت ترى قبح هذا القول وفظاعته وبعده عن الحقيقة، ومخالفته للكتاب والسنة، وقد غفلوا أو تغافلوا عن قوله سبحانه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].
ثم بينا في الباب الثالث أنه لم يصح من روايات النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الأئمة من أهل البيت رضوان الله عليهم من طرق القوم شيء فضلاً عن روايات أهل السنة، ودعونا القوم إلى إيراد ما يخالف دعوانا في ذلك، ولهم من الوقت ما شاءوا.
ثم ختمنا كتابنا ببيان فضائل الصحابة رضي الله عنهم من القرآن والسنة وأقوال أئمة الشيعة، بما يستحيل معه التوفيق بين عقيدة القوم فيهم وبين القول بمخالفتهم لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنص على علي رضي الله عنه كما يزعمون.
وقد تبين لك أن عقيدة من ينتسب إلى أئمة آل البيت مخالف في الحقيقة لمعتقد آل البيت، بل إن معتقد أئمة آل البيت هو بعينه معتقد أهل السنة والجماعة، وهو الموافق لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعسف ولا تكلف.. والله المستعان.
وعلى أي حال، فهذا قليل من كثير مما يتعلق بهذا الموضوع، وهو موضوع كبير كما ترى، وجهدنا هذا جهد فردي لم نستعن فيه بأحد إلا بالله عز وجل الذي يسر لنا بمنه وكرمه وفضله من الدواعي والهمم ما جعلنا نأتي على بعض كتب القوم الموجودة بين أيدينا، وزادنا هذا الاطلاع حرصاً على بيان جلية هذا الأمر، إحقاقاً للحق، وابتغاءً للأجر، والقضية قبل ذلك وبعده هي طلب الحق معرفة وقصداً وعملاً، بلا هوى أو تعصب، وبدون جحود أو مكابرة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، فنسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله الا أنت، أستغفرك وأتوب إليك(2/182)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أهم مصادر الكتاب
القرآن الكريم.
إثبات الهداة: محمد بن الحسن الحر العاملي - المطبعة العلمية - قم.
الاحتجاج: أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي -مؤسسة أهل البيت والأعلمي - بيروت.
الحدائق الناضرة: يوسف البحراني - دار الأضواء - بيروت.
الاختصاص: محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
الإرشاد: محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
إرشاد القلوب: الحسن بن محمد الديلمي - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
الاستبصار: محمد بن جعفر الطوسي، شيخ الطائفة - دار الأضواء - بيروت.
إعلام الورى: الفضل بن الحسن الطبرسي - دار المعرفة - بيروت.
كمال الدين: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الصدوق - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
أمالي الصدوق: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الصدوق - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
أمالي الطوسي: محمد بن الحسن الطوسي، شيخ الطائفة - مكتبة العرفان - الكويت.
أمالي المفيد: محمد بن محمد بن النعمان، المفيد - دار التيار الجديد ودار المرتضى.
الإمامة والتبصرة: علي بن الحسين القمي - مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - بيروت.
الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت.
البرهان في تفسير القرآن: هاشم البحراني - مؤسسة الوفاء - بيروت.
بصائر الدرجات: محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي - منشورات مكتبة المرعشي النجفي - قم.
البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي - دار الزهراء - بيروت.
تأويل الآيات الظاهرة: شرف الدين علي الحسيني الاسترابادي النجفي - مدرسة الإمام المهدي - قم.
تفسير العسكري: المنسوب للإمام العسكري - مدرسة الإمام المهدي - قم.
تفسير الصافي: الفيض الكاشاني - مؤسسة الأعلمي - بيروت.(2/183)
تفسير العياشي: محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
تفسير فرات: فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي -مؤسسة النعمان- بيروت.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
تفسير الميزان: محمد حسين الطباطبائي - مؤسسة إسماعيليان - قم.
تفسير نور الثقلين: عبد علي بن جمعة العرسي الحويزي - مؤسسة إسماعيليان - قم.
تهذيب الأحكام: محمد بن جعفر الطوسي، شيخ الطائفة - دار الأضواء - بيروت.
جامع الرواة: محمد بن علي الأردبيلي الحائري -دار الأضواء- بيروت.
الخصال: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الصدوق- مؤسسة الأعلمي - بيروت.
دلائل الإمامة: محمد بن جرير بن رستم الطبري - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آقا بزرك الطهراني -مؤسسة إسماعيليان- قم.
رجال النجاشي: أحمد بن علي النجاشي - دار الأضواء - بيروت.
رجال ابن داود: تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلي - منشورات الرضي - قم.
رجال الحلي: الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي - دار الذخائر للمطبوعات - قم.
رجال الطوسي: محمد بن جعفر الطوسي، شيخ الطائفة - دار الذخائر للمطبوعات - قم.
رجال الكشي: محمد بن عمر الكشي.
عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر - دار الصفوة - بيروت.
علل الشرايع: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الصدوق - المكتبة الحيدرية - النجف.
عيون أخبار الرضا: محمد بن علي بن بابويه القمي، الصدوق - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
الغدير: عبدالحسين أحمد الأميني النجفي -دار الكتب الإسلامية- طهران.
غيبة النعماني: محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
غيبة الطوسي: محمد بن جعفر الطوسي، شيخ الطائفة - مكتبة الألفين - الكويت.
فرق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختي - دار الأضواء - بيروت.
الفصول المختارة: محمد بن محمد بن النعمان، المفيد - دار الأضواء - بيروت.(2/184)
الفهرست: محمد بن جعفر الطوسي، شيخ الطائفة - مؤسسة الوفاء - بيروت.
الكافي: محمد بن يعقوب الكليني - دار الأضواء - بيروت.
كليات في علم الرجال: جعفر السبحاني - دار الميزان - بيروت، ومنشورات الحوزة العلمية - قم.
كشف الغمة: علي بن عيسى الإربلي - دار الأضواء - بيروت.
كنز الفوائد: محمد بن علي بن عثمان الكراجكي - دار الأضواء - بيروت.
مجمع البيان: الفضل بن الحسن الطبرسي - انتشارات ناصر خسرو - طهران.
مجمع الرجال: عناية الله علي القهبائي - مؤسسة اسماعليان - قم.
معاني الأخبار: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الصدوق - مكتبة الصدوق - طهران.
معجم أحاديث المهدي: الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلامية - قم.
معجم رجال الخوئي: أبو القاسم الخوئي -منشورات مدينة العلم - قم.
مقاتل الطالبيين: لأبي الفرج الاصفهاني - مؤسسة الأعلمي - بيروت.
مناقب آل أبي طالب: محمد بن علي بن شهرأشوب المازندراني - دار الأضواء - بيروت.
من لا يحضره الفقيه: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الصدوق - دار الأضواء - بيروت.
منتخب الأثر: لطف الله الصافي - مكتبة الصدر - طهران.
نهج البلاغة: المنسوب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه -دار الأندلس- بيروت.
وغيرها من المصادر المذكورة في الحواشي.
موقع فيصل نور(2/185)