للشيخ
حمود بن عبدالله التويجري
رحمه الله تعالى إقامة البرهان في الرد على من أنكر
خروج المهدي
والدجال ونزول المسيح في آخر الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم
…الحمدلله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
…فقد رأيت في المجلة المسماة [ المسلمون ] مقالا لعبدالكريم الخطيب أنكر فيه ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ظهور المهدي في آخر الزمان ، وما أخبر به من خروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ، وهذه جراءة عظيمة وخطيرة جدا ، لأن إنكار الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومقابلتها بالرد والاطراح ، يدل على الاستخفاف بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويستلزم مشاقته واتباع غير سبيل المؤمنين ، وقد قال الله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } وقال تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } وليس إنكار الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر الهين ، لأن الله تعالى يقول : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .(1/1)
…وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) . وهذا يدل على وجوب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان في الماضي ، وما يكون في المستقبل ، ويدل أيضا على أن عصمة الدم والمال إنما تكون لمن آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وبكل ما جاء به ، ومن لم يؤمن به وبما جاء به فليس بمعصوم الدم والمال ، وفي هذا أبلغ تشديد على من يرد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويعارضها برأيه أو برأي غيره .
…وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة . وقال إسحاق بن راهوية : من بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر . وقال أبو محمد البربهاري في شرح السنة : إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها ، أو ينكر شيئا من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتهمه على الإسلام فإنه رجل رديء المذهب والقول ، وإنما يطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه . وقال أيضا : لا يخرج أحد من أهل القبلة عن الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل ، أو يرد شيئا من آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو يصلي لغير الله ، أو يذبح لغير الله ، فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام . وقال أيضا : من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله ، ومن رد حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم .(1/2)
…وقال إبراهيم بن أحمد بن شاقلا : من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ، ولا جرح في ناقليها وتجرأ على ردها فقد تهجم على رد الإسلام . وقال ابن حزم في كتاب الأحكام : جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله ففرض اتباعه ، وأنه تفسير لمراد الله في القرآن وبيان مجمله . انتهى .
…وإذا علم ما ذكرته من الآيات والحديث وأقوال أهل العلم في التشديد على الذين يردون الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فليعلم أيضا أنه قد ثبت في ظهور المهدي في آخر الزمان عشرة أحاديث ، وقد ذكرتها وذكرت كلام العلماء في تصحيحها في أول كتاب ( الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر ) فلتراجع هناك .
…وأما خروج الدجال فقد جاء فيه أكثر من مائة وتسعين حديثا من الصحاح والحسان ، وقد ذكرتها في الجزء الثاني من ( إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة ) فلتراجع هناك . وقد تواترت الأحاديث في خروج الدجال من وجوه متعددة ذكرتها في ( إتحاف الجماعة ) ولو لم يكن منها سوى الأمر بالاستعاذة من فتنة الدجال في كل صلاة لكان ذلك كافيا في إثبات خروجه ، والرد على من أنكر ذلك ، وقد روى عبدالرزاق بإسناد حسن ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إنه سيخرج بعدكم قوم يكذبون بالرجم ويكذبون بالدجال ويكذبون بالحوض ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بقوم يخرجون من النار . وهذا الأثر له حكم المرفوع لأن فيه إخبارا عن أمر غيبي وذلك لا يقال من قبل الرأي ، وإنما يقال عن توقيف .(1/3)
…وقد ظهر مصداق ما جاء فيه من التكذيب بالدجال وغيره ، فأنكرت طوائف كثيرة من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة خروج الدجال بالكلية ، وردوا الأحاديث الواردة فيه ، ذكر ذلك ابن كثير في النهاية قال : وخرجوا بذلك عن حيز العلماء لردهم ما تواترت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر النووي في شرح مسلم أن مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار إثبات خروج الدجال خلافا لمن أنكره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة . انتهى .
…وقد تبع الخوارج والجهمية والمعتزلة على إنكار خروج الدجال كثير من المنتسبين إلى العلم في زماننا وقبله بزمان ، وأنكر بعضهم كثيرا من أشراط الساعة مما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعضهم يتأولها على ما يوافق عقليته الفاسدة ، وقد ذكرت بعض أقوالهم في ( إتحاف الجماعة ) فلتراجع هناك . ولو كان الذين أشرنا إليهم أهل علم على الحقيقة لما ردوا شيئا من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكانوا يقابلونها بالرضا والقبول والتسليم .
…وأما نزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام في آخر الزمان ، فقد جاء فيه آيات من القرآن ، وتواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإخبار بنزوله ، وأنه يقتل الدجال ويكون في هذه الأمة حكما عدلا وإماما مقسطا ، وجاء في ذلك آثار كثيرة عن الصحابة والتابعين ، وذكر بعضهم الإجماع على نزوله ، وأنه لم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة ، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافهم ، وقد ذكرت ذلك مستوفى في ( إتحاف الجماعة ) فليراجع هناك .
…وأما ما جاء في العنوان الأول عن نزول عيسى في آخر لزمان هو حقيقة يؤكدها القرآن أم مسألة تتنافى مع الإسلام ؟(1/4)
…فجوابه أن يقال : بل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان حقيقة يؤكدها القرآن ، قال الله تعالى في صفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - : { وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى } وقد تواترت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان ، فيجب الإيمان بذلك لقول الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } وقد جاء في ذلك آيتان من القرآن :
…إحداهما : قول الله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال ابن عباس رضي الله عنهما : قبل موت عيسى بن مريم . رواه ابن جرير بإسناد صحيح . وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : خروج عيسى بن مريم . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين . ووافقه الذهبي في تلخيصه . وروى أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : يعني أنه سيدركه أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى فيؤمنون به . وروى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية نحو قول ابن عباس رضي الله عنهما .
…وهذا القول هو الصحيح في تفسير الآية ، وقد اختاره ابن جرير وابن كثير ، وبه يقول أبو مالك والحسن وقتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم . قال الحسن : والله إنه لحي الآن عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون . رواه ابن جرير .
…وأما قول من قال من المفسرين : إن الضمير في قوله : { قبل موته } يعود إلى الكتابي . فليس فيه معارضة لما تقدم فقد يؤمن كل كتابي عند احتضاره بأن عيسى عبد الله ورسوله ، ولكن لا ينفعه إيمانه في هذه الحالة ، وأما الذين يؤمنون به بعد نزوله في آخر الزمان فإن إيمانهم به ينفعهم ، والله أعلم (1).
__________
(1) * هذا فيه نظر وقد عارض هذا القول المهدي في رده على سلمان العودة فليراجع ما ذكر . ص75 من كتاب ( كشف اللثام عن جهل سلمان العودة على أمر مهدي الإسلام ) .(1/5)
…الآية الثانية : قوله تعالى : { وإنه لعلم للساعة } وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والأعمش : { وإنه لعَلَم للساعة }بفتح العين واللام أي أمارة وعلامة على اقتراب الساعة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وإنه لعلم للساعة } قال : هو خروج عيسى بن مريم يوم القيامة . رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم في مستدركه وصححه هو والذهبي . وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : { وإنه لعلم للساعة } قال : ( نزول عيسى بن مريم قبل يوم القيامة ) صححه الحاكم والذهبي . وقد روي عن أبي هريرة ومجاهد والحسن وقتادة وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والضحاك نحو قول ابن عباس رضي الله عنهما .
…ومما جاء في الآيتين والأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان ، وما قاله ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما من السلف في تفسير الآيتين من سورة النساء وسورة الزخرف يعلم أن نزول عيسى عليه الصلاة والسلام حق ، والحق لا يتنافى مع الإسلام ، ومن زعم أن نزوله يتنافى مع الإسلام فهو ممن يشك في إسلامه ، لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله ، إذ لابد في تحقيقها من التصديق بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمور الغيب مما كان فيما مضى ، وما سيكون في المستقبل .
…وأما قول بعض المتخرصين : إن الأحاديث الواردة في نزول عيسى كلها مزيفة لا يقبلها العقل .
…فجوابه أن يقال : هذه مكابرة لا تصدر من رجل له أدنى مسكة من عقل ودين . وإذا كان عقل المرء فاسدا فلا شك أنه يتصور الحق في صورة الباطل ، وقد جاء في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام أكثر من خمسين حديثا مرفوعا أكثرها من الصحاح والباقي غالبه من الحسان ، فمن زعم أنها كلها مزيفة فلا شك أنه فاسد العقل والدين .(1/6)
…وأما قول المتخرص : إن نزول المسيح لا يقره المنطق .
…فجوابه أن يقال : أما المنطق المستقيم ، والعقل السليم الذي يدور مع الحق حيثما دار فإنه لا يتوقف عن قبول ما جاء في كتاب الله تعالى ، وما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزول المسيح في آخر الزمان ، وأما المنطق المنحرف ، والعقل الفاسد ، فإنه لا يتوقف عن رد الحق وعدم قبوله ، ولا عبرة بالعقول الفاسدة ولا بأهلها .
…وأما قوله : وهو مستحيل لأن محمدا هو آخر الأنبياء بنص القرآن .(1/7)
…فجوابه أن يقال : إن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد ، ولا يحكم بالإنجيل ، وإنما يحكم بكتاب الله تعالى ، وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون واحدا من هذه الأمة ، وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم ) وفي رواية لمسلم : ( كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم ) . قال الوليد بن مسلم : فقلت : لابن أبي ذئب : إن الأوزاعي حدثنا عن الزهري عن نافع عن أبي هريرة : ( فأمكم منكم ) قال ابن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم ؟ قلت : تخبرني . قال : فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى ، وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - . وقال أبو ذر الهروي : حدثنا الجوزقي عن بعض المتقدمين قال : معنى ( إمامكم منكم ) أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل . وقال ابن التين : معنى قوله ( وإمامكم منكم ) أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة ، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم . وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ( إن الدجال خارج ـ فذكر الحديث وفيه ـ ثم يجي عيسى بن مريم عليهما السلام مصدقا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملته ، فيقتل الدجال ثم إنما هو قيام الساعة ) وقد رواه الطبراني ، قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح . وروى الطبراني أيضا في الكبير والأوسط ، عن عبدالله بن المغفل رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما أهبط الله تعالى إلى الأرض منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال ـ فذكر الحديث وفيه ـ ثم ينزل عيسى بن مريم مصدقا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملته إماما مهديا وحكما عدلا فيقتل الدجال ) . قال الهيثمي : رجاله ثقات ، وفي(1/8)
بعضهم ضعف لا يضر اهـ . قلت : والحديث قبله يشهد له ويقويه .
…وأما قوله في أحد العناوين : لو كان من أصول الإيمان الاعتقاد برجعة المسيح ، أو ظهور الدجال أو المهدي لجاء ذلك في القرآن صريحا محكما .
…فجوابه أن يقال : كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بوقوعه فالإيمان به واجب ، وذلك من تحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله ، وتحقيقها من أصول الإيمان ، ولا يكون المرء مؤمنا معصوم الدم والمال حتى يحقق الشهادة بالرسالة ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
…وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بظهور المهدي في آخر الزمان ، وبخروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ، فوجب الإيمان بذلك تصديقا لقول الله تعالى : { وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى } وعملا بقول الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } وبما جاء في آيات كثيرة من الأمر بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والإيمان به لا يتم إلا بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وتصديق أخباره والتمسك بسنته ، وعملا أيضا بما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدم ذكره .
…وأما قوله : ثم كيف يملأ المسيح الدنيا عدلا بعد أن ملئت جورا ؟ وهل هذا من سنة الله تعالى في الحياة الإنسانية ؟ وكيف يفيض المال عند رجعة المسيح فلا يقبله أحد ؟(1/9)
…فجوابه أن يقال : من علم أن الله على كل شيء قدير ، وأنه ما شاء كان ، وعلم أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا الحق ، ولا يخبر إلا بالصدق ، لم يشك في شيء مما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيجب على المسلم أن يؤمن بكل ما جاء عن الله تعالى ، وما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعترض على أخبار الصادق المصدوق بكيف ولم ، وغير ذلك من أنواع الاستفهام الذي يدل على الشك فيما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم الإيمان به . وقد قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } .
…وأما قوله : وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب ) .
…فجوابه أن يقال : إن الكاتب قد صحف في لفظ الحديث حيث قال فيه : ويضع الحرب . والذي في الحديث : ( ويضع الجزية ) . ومن تعمد التصحيف في أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو داخل في عداد الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) ولعل الكاتب لم يتعمد التصحيف وإنما وقع منه سهوا ، أو وجده في بعض الكتب التي لم تصحح من الأخطاء المطبعية .
وأما قوله : وبعد فإن هذه المرويات من الأحاديث والأخبار ، في شأن رجعة المسيح عليه السلام ، أو في شأن ظهور الدجال أو المهدي لا متعلق لها بالعقيدة ، سواء أصحت أو لم تصح ، وأن العقيدة الإسلامية قائمة على الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر والحساب والجزاء والجنة والنار .
…فجوابه من وجهين :(1/10)
…أحدهما أن يقال : كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالإيمان به متعلق بالعقيدة ، لأنه لا يتم الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بالإيمان بأخباره ، ومن لم يؤمن بأخباره فهو فاسد العقيدة ، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيه أن عصمة الدم والمال إنما تكون لمن آمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثاني أن يقال : إن أهل السنة والجماعة قد تلقوا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظهور المهدي ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام بالقبول ، ودونوا ذلك في كتب الصحاح والسنن والمسانيد ، وذكروا مضمونه في كتب العقائد ، قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في عقيدة أهل السنة والجماعة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار : والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر والأحاديث التي جاءت فيه ، والإيمان بأن ذلك كله كائن وأن عيسى بن مريم ينزل فيقتله بباب لد . انتهى .
وقال أبو محمد البربهاري رحمه الله تعالى في شرح السنة : والإيمان بنزول عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - ينزل فيقتل الدجال ، ويتزوج ويصلي خلف القائم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويموت ويدفنه المسلمون . انتهى . والقائم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المهدي كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم المهدي تعال صلِّ بنا فيقول : لا إن بعضهم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة ) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده بإسناد جيد ، وقد ذكره ابن القيم في الكتاب ( المنار المنيف ) وقال : إسناده جيد .
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى في العقيدة المشهورة : ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء . انتهى .(1/11)
وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه ( مقالات الإسلاميين ) : جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئا ـ إلى أن قال ـ ويصدقون بخروج الدجال ، وأن عيسى بن مريم يقتله . انتهى . وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على التصديق بخروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام وقتله الدجال . والعبرة بأهل الحديث والسنة ، ولا عبرة بمن خالفهم من أهل البدع والضلالة والجهالة .
وقال أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني المالكي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة : والإيمان بما ثبت من خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام حكما عدلا يقتل الدجال . انتهى .
وقال أبو أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد في عقيدة له : وأن الآيات التي تظهر عند قرب الساعة من الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها وغيرها من الآيات التي وردت بها الأخبار الصحاح حق . انتهى .
وقال الموفق أبو محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي في عقيدته المشهورة : ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا ، نعلم أنه صدق وحق ـ إلى أن قال ـ ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة وأشباه ذلك مما صح به النقل . انتهى .(1/12)
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى : مسألة : عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - حي رفعه الله تعالى إليه بروحه وبدنه ، وقوله تعالى : { إني متوفيك } أي قابضك ، وكذلك ثبت أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيقتل الدجال ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية حكما عدلا مقسطا ، ويراد بالتوفي الاستيفاء ، ويراد به الموت ، ويراد به النوم ، ويدل كل واحد القرينة التي معه . انتهى .
وقال القاضي عياض في شرح مسلم : نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق صحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله ، فوجب إثباته وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم ، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى : { وخاتم النبيين } وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا نبي بعدي ) وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ . وهذا استدلال فاسد لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا ، ولا في الأحاديث شيء من هذا ، بل صحت الأحاديث أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ، ويحي من أمور شرعنا ما هجره الناس . انتهى كلامه ، وقد نقله النووي في شرح مسلم وأقره .
وقال المناوي في شرح الجامع الصغير : أجمعوا على نزول عيسى عليه الصلاة والسلام نبيا لكنه بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - . وقال المناوي أيضا : حكى في المطامح إجماع الأمة على نزوله ولم يخالف أحد من أهل الشريعة في ذلك ، وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة . انتهى .
وقال السفاريني في شرح عقيدته : نزول المسيح عيسى بن مريم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة ، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافه ، وقد انعقد الإجماع على أنه ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية . انتهى .(1/13)
هذا ما ذكره علماء المسلمين في خروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان ، وفيه أبلغ رد على قول الخطيب أن المرويات من الأحاديث والأخبار في شأن رجعة المسيح ، أو في شأن ظهور الدجال لا متعلق لها بالعقيدة .
ومما ذكرته عن أهل العلم يتضح أن الخطيب قد خالف عقيدة أهل السنة والجماعة ، وإجماعهم على خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، ووافق أعداء الإسلام والمسلمين من الفلاسفة والملاحدة الذين أنكروا خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام .
وأما قوله : ولو كان من أصول الإيمان ، الإيمان برجعة عيسى أو ظهور الدجال أو المهدي لجاء ذلك في القرآن الكريم صريحا محكما .
فجوابه أن يقال : كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المغيبات مما كان فيما مضى وما سيكون في المستقبل ، فالإيمان به داخل في ضمن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك من أعظم أصول الإيمان ، وقد جاء الأمر بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في آيات كثيرة من القرآن وكلها محكمات . والإيمان بأخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - داخل أيضا في ضمن قول الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } وداخل أيضا في ضمن قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وداخل أيضا في ضمن قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وهذه الآيات كلها محكمات ، وكلها تدل على أن تصديق أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعظم أصول الإيمان .(1/14)
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } قال : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ، ثم جعل يتلو هذه الآية : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } .
وأما قوله : إن مثل هذه الأخبار تفتح على الناس أبوابا من الفتن حيث تتطلع نفوس كثيرة إلى ادعائها كما حدث من ادعاء كثيرين لأنفسهم بأنهم المهدي المنتظر فأوقعوا الفرقة والقتال بين المسلمين ، وأنه ليس ببعيد أن يقوم في الناس يوما من يدَّعي أنه المسيح المنتظر فكيف تكون الحال حينئذ ؟! .
فجوابه أن يقال : إن الأخبار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترد بمثل هذه الاحتمالات والتعليلات الخاطئة ، بل تصدق وتقابل بالقبول والتسليم ، ولو افتتن بمضمونها من افتتن من الناس . وقد قال الله تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس : { وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين } وهكذا يقال في الأخبار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تقابل بالقبول والتصديق ، ولا يلتفت إلى ما يكون من أهل الفتن الذين يتأولون الأحاديث على غير تأويلها ويطبقونها على ما لا تنطبق عليه .(1/15)
ويقال أيضا : إن المهدي المنتظر إنما يخرج في آخر الزمان قرب خروج الدجال وعند انتشار الفوضى والفتن ، ثم ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام فيصلي خلف المهدي أول ما ينزل كما جاء ذلك في حديث جابر الذي تقدم ذكره ، ثم يذهب إلى الدجال فيقتله ، وحينئذ يكون قيام الساعة قريبا جدا ، وعلى هذا فمن ادَّعى من المفتونين أنه المهدي المنتظر ، ولم يخرج الدجال في زمانه ، فإنه دجال كاذب(1) ، وكذلك من ادَّعى أنه المسيح بن مريم ولم يكن الدجال قد خرج قبله فإنه دجال كاذب ، وللمسيح بن مريم علامتان لا تكونان لغيره من الناس :
إحداهما : أنه يقتل الدجال كما تواترت بذلك الأحاديث .
والثانية : أنه لا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات ، ونَفَسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، كما جاء ذلك في حديث النواس بن سمعان ، الذي رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة ، وقال الترمذي : غريب حسن صحيح . وفي هاتين العلامتين قطع لأطماع كل دجال يدَّعي أنه المسيح بن مريم .
__________
(1) * هذا اللازم يعد لغوا من الكلام لا حاجة له في تقرير صحة اعتقاد المهدي عن نفسه أنه المهدي أو تصديق الآخرين له أنه المهدي المبشر به ، وذلك لكون صدق تحقق أنه المهدي قد ثبت يقينا للبراهين السابقة على خروج الدجال والتي على وفقها آمن المؤمنون به ولزمهم بها نصرته والقتال معه لفتح القسطنطينية وروما وسائر البلدان ، وكل ذلك يقينا مما يسبق خروج الدجال .(1/16)
وقبل الختام أحب أن أنبه عبدالكريم الخطيب على خطورة الأمر في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سواءً كانت من أحاديث أشراط الساعة مثل ظهور المهدي ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام وغير ذلك من أشراط الساعة ، أو كانت من غيرها ، فإن الذي يرد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو في الحقيقة يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينسَ الخطيب قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) .
ولعل الخطيب يراجع الحق ، فإن الحق ضالة المؤمن ، والرجوع إلى الحق نبل وفضيلة ، كما أن التمادي في الباطل نقص ورذيلة . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
حرر في 16 /11/1402 هـ
حمود بن عبدالله التويجري(1/17)