|
المؤلف :محمد بن إبراهيم الحمد
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
توحيد الأسماء والصفات
للشيخ
محمد بن إبراهيم الحمد
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً ـ .
أما بعد :
فإن العلم بأسماء الله وصفاته أشرف ما اكتسبته القلوب ، وأزكى ما أدركته العقول ؛ فهو زبدة الرسالة الإلهية ، وهو الطريق إلى معرفة الله وعبادته وحده لا شريك له .
وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن هذا النوع من أنواع التوحيد من خلال الوقفات التالية :
• تعريف توحيد الأسماء والصفات .
• أهميته .
• ثمراته .
• طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته .
• الأدلة على صحة مذهب السلف .
• قواعد في أسماء الله ـ عز وجل ـ .
• قواعد في صفات الله ـ عز وجل ـ .
• ما ضد توحيد الأسماء والصفات ؟
• الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات .
• حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة .
• مسائل أحدثها المتكلمون ـ الكلمات المجملة ـ .
• دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة .
• وقفة حول المجاز .
وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا ، ويعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا ؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم .
تعريف توحيد الأسماء والصفات
1 / هو : الإيمان بما وصف الله به نفسَه في كتابه ، أو وَصَفَه به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأسماء الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت على الوجه اللائق به ـ سبحانه وتعالى ـ .
2 / أو هو : اعتقاد انفراد الله ـ عز وجل ـ بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة ، والجلال ، والجمال .
(1/1)
وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه ، أو أثبته له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأسماء والصفات ، ومعانيها وأحكامها الواردة بالكتاب والسنة .
3 / وعرفه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ بتعريف جامع حيث قال : " توحيد الأسماء والصفات : وهو اعتقاد انفراد الرب ـ جل جلاله ـ بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة ، والجلال ، والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه .
وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه ، أو أثبته له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جميع الأسماء ، والصفات ، ومعانيها ، وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله ، من غير نفي لشيء منها ، ولا تعطيل ، ولا تحريف ، ولا تمثيل .
ونفي ما نفاه عن نفسه ، أو نفاه عنه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النقائص والعيوب ومن كل ما ينافي كماله " .
أهمية توحيد الأسماء والصفات
للعلم بتوحيد الأسماء والصفات والإيمان به أهمية عظيمة ، ومما يدل على أهميته مايلي :
1 / أن الإيمان به داخل في الإيمان بالله ـ عز وجل ـ إذ لا يستقيم الإيمان بالله حتى يؤمن العبد بأسماء الله وصفاته .
2 / أن معرفة توحيد الأسماء والصفات والإيمان به كما آمن السلف الصالح ـ عبادة لله ـ عز وجل ـ فالله أمرنا بذلك ، وطاعته واجبة .
3 / الإيمان به كما آمن السلف الصالح طريق سلامة من الانحراف والزلل الذي وقع فيه أهل التعطيل ، والتمثيل ، وغيرهم ممن انحرف في هذا الباب .
4 / الإيمان به على الوجه الحقيقي سلامة من وعيد الله ، قال ـ تعالى ـ : ( وَذَروا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأعراف : 180] .
5 / أن هذا العلم أشرف العلوم ، وأجلها على الإطلاق ؛ فالاشتغال بفهمه ، والبحث فيه اشتغال بأعلى المطالب ، وأشرف المواهب .
(1/2)
6 / أن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي ، وإنما كانت أعظم آية لاشتمالها على هذا النوع من أنواع التوحيد .
7 / أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ؛ لأنها أخلصت في وصف الله ـ عز وجل ـ .
8 / أن الإيمان به يثمر ثمرات عظيمة ، وعبودياتٍ متنوعةً ، ويتبين لنا شيء من ذلك عند الحديث عن ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات .
ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات
العلم بأسماء الله وصفاته ، وتدبرها ، وفهمها على مراد الله أهم العلوم وأشرفها كما مر ؛ لما يثمره من الثمرات العظيمة النافعة المفيدة .
ولقد اعتنى علماء الإسلام ـ قديماً وحديثاً ـ في بيان أسماء الله وصفاته ، وشرحها ، وإيضاحها ، وبيان ثمرات الإيمان بها ، فمن الثمرات التي تحصل من جراء الإيمان بها ما يلي :
1 / العلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفة الله :
فالله خلق الخلق ليعرفوه ، ويعبدوه ، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم ؛ فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد ، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له ، وقبيح بعبد لم تزل نِعَمُ الله عليه متواترة أن يكون جاهلاً بربه ، معرضاً عن معرفته .
وإذا شاء العباد أن يعرفوا ربهم فليس لهم سبيل إلى ذلك إلا التعرف عليه من خلال النصوص الواصفةِ له ، المصرِّحةِ بأفعاله وأسمائه ، كما في آية الكرسي ، وآخر سورة الحشر ، وسورة الصمد ، وغيرها .
2 / أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له : وهذا هو عين سعادة العبد ، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه بمعانيها ، وأحكامها ، ومقتضياتها .
(1/3)
3 / تزكية النفوس وإقامتها على منهج العبودية للواحد الأحد : وهذه الثمرة من أجل الثمرات التي تحصل بمعرفة أسماء الله وصفاته ، فالشريعة المنزلة من عند الله تهدف إلى إصلاح الإنسان ، وطريقُ الصلاح هو إقامة العباد على منهج العبودية لله وحده لا شريك له ، والعلمُ بأسماء الله وصفاته ، يعصم ـ بإذن الله ـ من الزلل ، ويفتح للعباد أبواب الأمل ، ويثبت الإيمان ، ويعين على الصبر ، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ، واستحضر معانيها ـ أثّر ذلك فيه أيما تأثير ، وامتلأ قلبه بأجل المعارف والألطاف .
فمثلاً أسماء العظمة تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله .
وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة له ، وشوقاً إليه ، ورغبة بما عنده ، وحمداً وشكراً له .
وأسماء العزة ، والحكمة ، والعلم ، والقدرة ـ تملأ القلب خضوعاً وخشوعاً وانكساراً بين يديه ـ عز وجل ـ .
وأسماء العلم ، والخبرة ، والإحاطة ، والمراقبة ، والمشاهدة ـ تملأ القلب مراقبةً لله في الحركات والسكنات في الجلوات والخلوات ، وحراسةً للخواطر عن الأفكار الرديئة ، والإرادات الفاسدة .
وأسماء الغنى ، واللطف ، تملأ القلب افتقاراً ، واضطراراً ، والتفاتاً إليه في كل وقت وحال .
4 / الانزجار عن المعاصي : ذلك أن النفوس قد تهفو إلى مقارفة المعاصي ، فتذكر أن الله يبصرها ، فتستحضر هذا المقام وتذكر وقوفها بين يديه ، فتنزجر وترعوي ، وتجانب المعصية .
5 / أن النفوس طُلعَة ، تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الآخرين ، وربما وقع فيها شيء من الاعتراض أو الحسد ، فعندما تتذكر أن الله من أسمائه " الحكيم " ، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه ـ عندئذٍ تكف عن حسدها ، وتنقدع عن شهواتها ، وتنفطم عن غيّها .
(1/4)
6 / أن العبد يقع في المعصية ، فتضيق عليه الأرض بما رَحُبت ، ويأتيه الشيطان ؛ ليجعله يسيء ظنه بربه ، فيتذكر أن من أسماء الله " الرحيم ، التواب ، الغفور " فلا يتمادى في خطيئته ، بل ينزع عنها ، ويتوب إلى ربه ، ويستغفره فيجده غفوراً تواباً رحيماً .
7 / ومنها أن العبد تتناوشه المصائب ، والمكاره ، فيلجأ إلى الركن الركين ، والحصن الحصين ، فيذهب عنه الجزع والهلع ، وتنفتح له أبواب الأمل .
8 / ويقارع الأشرار ، وأعداء دين الله من الكفار والفجار ، فيجدُّون في عداوته ، وأذيته ، ومنع الرزق عنه ، وقصم عمره ، فيعلم أن الأرزاق والأعمار بيد الله وحده ، وذلك يُثمر له الشجاعة ، وعبودية التوكل على الله ظاهراً وباطناً .
9 / وتصيبه الأمراض ، وربما استعصت وعزَّ علاجها ، وربما استبد به الألم ، ودب اليأس إلى قلبه ، وذهب به كل مذهب ، حينئذٍ يتذكر أن الله هو الشافي ، فيرفع يديه إليه ويسأله الشفاء ، فتنفتح له أبواب الأمل ، وربما شفاه الله من مرضه ، أو صرف عنه ما هو أعظم ، أو عوضه عن ذلك صبراً وثباتاً ويقيناً هو عند العبد أفضل من الشفاء .
10 / أن العلم به ـ تعالى ـ أصل الأشياء كلها : حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله ويشرعه من الأحكام ؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته ؛ فأفعاله دائرة بين العدل ، والفضل ، والرحمة ، والحكمة .
11 / أن من انفتح له هذا الباب ـ باب الأسماء والصفات ـ انفتح له باب التوحيد الخالص ، الذي لا يحصل إلا للكُمّل من الموحدين .
12 / زيادة الإيمان : فالعلم بأسماء الله وصفاته من أعظم أسباب زيادة الإيمان ، وذلك لما يورثه في قلوب العابدين من المحبة ، والإنابة ، والإخبات ، والتقديس ، والتعظيم للباري ـ جل وعلا ـ ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ ) [محمد : 17] .
(1/5)
13 / أن من أحصى تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله دخل الجنة ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة " .
هذا وسيأتي معنى إحصائها عند الحديث عن قواعد في الأسماء .
طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته
أهل السنة والجماعة هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والعمل بها ظاهراً وباطناً في القول والعمل والاعتقاد .
وطريقتهم في أسماء الله وصفاته كما يأتي :
1 / في الإثبات : يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ، ولا تمثيل .
2 / في النفي : ينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده لله ـ تعالى ـ إذ إن كل ما نفاه الله عن نفسه فهو صفات نقص تنافي كماله الواجب ؛ فجميع صفات النقص كالعجز والنوم والموت ممتنعة على الله ـ تعالى ـ لوجوب كماله ، وما نفاه عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية ، وإثبات كمال ضدها ؛ وذلك أن النفي المحض لا يدل على الكمال حتى يكون متضمناً لصفة ثبوتية يُحمد عليها كما في قوله ـ تعالى ـ : ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) [البقرة : 255] ، وقوله : ( وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) [ق : 38] .
فالله ـ سبحانه وتعالى ـ في آية الكرسي نفي عن نفسه ( السنة والنوم ) لكمال حياته وقيوميته ، وفي الآية الثانية نفى نفسه ( اللغوب ) وهو التعب ؛ لكمال قوته وقدرته ، فالنفي هنا متضمن لصفة كمال .
أما النفي المحض فليس بكمال ، وقد يكون سببه العجز أو الضعف كما قول الشاعر النجاشي يهجو بني العجلان :
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فنفى عنهم الظلم لا لمدحهم ، ولكن لذمهم ؛ لأنهم عاجزون عنه أصلاً .
وكذلك قول الآخر :
(1/6)
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فهو لا يمدحهم لقلة شرهم ، ولكنه يذمهم لعجزهم ، ولهذا قال في البيت الذي بعده :
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
وقد يكون سبب النفي عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً ، كما لو قلت : ( الجدار لا يظلم ) .
ومن هنا يتبين لنا أن النفي المحض لا يدل على الكمال إلا إذا تضمن إثبات كمال الضد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً ، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال ؛ لأن النفي المحض عدم محض ، والعدم المحض ليس بشيء ، وما ليس بشيء فهو كما قيل : ليس بشيء ، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً .
ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم ، والممتنع ، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال " .
3 / التوقف : وذلك فيما لم يرد إثباته أو نفيه مما تنازع الناس فيه كالجسم مثلاً ، والحيز ، والجهة ونحو ذلك ، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه فلا يثبتونه ولا ينفونه ، لعدم ورود النص بذلك .
أما معناه فيستفصلون عنه ، فإن أُريد به معنى باطل يُنَزَّهُ الله عنه رَدَّوه ، وإن أُريد به معنىً حقٌّ لا يمتنع على الله قبلوه .
فلفظة " الجسم " مثلاً يتوقفون في اللفظ ، أما المعنى فيستفصلون ، فإن أُريد به الشيء المحدث المركب المفتقر كل جزء منه إلى الآخر ـ فهذا ممتنع على الرب الحي القيوم .
وإن أُريد بالجسم ما يقوم بنفسه ، ويتصف به بما يليق به فهذا غير ممتنع على الله ؛ فإنه ـ سبحانه ـ قائم بنفسه ، متصف بالصفات الكاملة التي تليق به .
(1/7)
وكذلك الحال بالنسبة " للجهة " يتوقفون في اللفظة ، أما المعنى فإن أُريد بها جهة سفل فإن الله منزّه عن ذلك ، وإن أُريد جهة علو تُحيط به فهذا ممتنع أيضاً ، وإن أُريد بها أن الله في جهة أي في جهة علو لا تُحيط به ـ فهذا ثابت لله ، وهكذا شأنهم في الألفاظ المجملة كما سيأتي بيان ذلك عند الحديث عن الألفاظ المجملة .
الأدلة على صحة مذهب السلف
طريقة السلف الصالح ـ أهل السنة والجماعة ـ هي الطريقة الواجبة في أسماء الله وصفاته ، وهي الأسلم والأعلم والأحكم ، وليس هناك طريقة أخرى صحيحة في هذا الباب ـ باب الأسماء والصفات ـ إلا طريقتهم في إثباتها وإمرارها كما جاءت ، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة منها :
1 / أن طريقة السلف دل عليها الكتاب والسنة : فمن أدلة الكتاب قوله ـ تعالى ـ :( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأعراف : 180] ، وقوله :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) [الشورى : 11] ، وقوله : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) [الإسراء : 36] .
فالآية الأولى دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف ، ولا تعطيل ؛ لأنهما من الإلحاد في أسمائه ـ عز وجل ـ .
والآية الثانية دلت على وجوب نفي التمثيل ، والآية الثالثة دلت على وجوب نفي الكيفية ، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه .
أما من السنة فالأدلة كثيرة منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء " .
(1/8)
2 / العقل : فالعقل يدل على صحة مذهب السلف ، ووجه دلالته أن تفصيل القول فيما يجب ، ويجوز ، ويمتنع على الله لا يُدْرَك إلا بالسمع ـ الكتاب والسنة ـ فوجب اتباع السمع في ذلك ، وذلك بإثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه ، والسكوت عما سكت عنه .
3 / الفطرة : أما دلالة الفطرة على صحة مذهب السلف فلأنَّ النفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته ، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال ، منزه عن صفات النقص ؟
4 / مطابقتها للكتاب والسنة : فمن تتبع طريقة السلف بعلم وعدل وجدها مطابقة لما في الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً ؛ ذلك لأن الله أنزل الكتاب ليدّبر الناس آياته ، ويعملوا بها إن كانت أحكاماً ، ويصدقوا بها إن كانت أخباراً .
5 / أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم ورثة الأنبياء والمرسلين : فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية ؛ فالقرآن نزل بلغة الصحابة ، وفي عصرهم ، وهم أقرب الناس إلى معين النبوة الصافي ، وهم أصفاهم قريحةً ، وأقلهم تكلفاً ، كيف وقد زكاهم الله في محكم تنزيله ، وأثنى عليهم ، وعلى التابعين لهم بإحسان كما قال ـ تعالى ـ : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [التوبة : 100] .
وقد تهدد رب العزة الذين يتبعون غير سبيلهم بالعذاب الأليم فقال ـ عز وجل ـ : ( وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) [النساء : 115] .
ولا ريب أن سبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان .
(1/9)
فإذا كان الأمر كذلك فمن المحال أن يكون خير الناس ، وأفضل القرون قد قصروا في هذا الباب بزيادة أو نقصان .
6 / أن صفوة أولياء الله ـ تعالى ـ الذين لهم لسان صدق من سلف الأمة وخلفها ـ هم على مذهب أهل السنة والجماعة ، أهل الإثبات للأسماء والصفات ، وهم أبعد الناس عن مذاهب أهل الإلحاد .
7 / تناقض علماء الكلام وحيرتهم واضطرابهم : فهذا مما يدل على صحة مذهب السلف ؛ فلو كان مذهب الخلف حقّاً لما تناقضوا ، ولما اضطربوا ، ولما تحيروا وحيروا .
8 / رجوع كثير من أئمة الكلام إلى الحق وإلى مذهب السلف : فهناك من أرباب علم الكلام الذين بلغوا الغاية فيه رجعوا إلى مذهب السلف ، وتبرؤا من علم الكلام ، وأعلنوا توبتهم منه ، فهذا الرازي أحد أئمة أكابر علم الكلام ينوح على نفسه ، ويبكي عليها ، ويقول :
نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نَسْتَفِدْ من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالُ
وكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علا شرفاتِها رجالٌ فزالوا والجبال جبالُ
وقال ابن الصلاح : " أخبرني القطب الطوغائي مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول : يا ليتني لم اشتغل بعلم الكلام ، وبكى " .
وقد اعترف أكثر المتكلمين بالوقوع بالحيرة ، والأمور ، المشكلة المتعارضة فقال ابن أبي الحديد وهو من كبراء المعتزلة بعد عظيم توغله في علم الكلام :
فإذا الذي استكثرت منه هو الـ جاني عليَّ عظائم المحن
فظللت في تيه بلا عَلَم وغرقت في بحر بلا سفن
ومن الذين خاضوا في علم الكلام ورجعوا إلى منهج السلف أبو المعالي الجويني ، والخسروشاهي ، وأبو حامد الغزالي .
(1/10)
ومن المتأخرين الذين خاضوا في علم الكلام ولم يرجعوا منه بفائدة ، بل وقعوا في الحيرة ـ الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ فإنه حدَّث عن نفسه فقال : " ها أنا أخبرك عن نفسي ، وأوضح لك ما وقعت فيه أمس ؛ فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سمّوه تارة علم الكلام ، وتارة علم التوحيد ، وتارة علم أصول الدين ، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم ، ورُمْت الرجوع بفائدة ، والعود بعائدة ، فلم أظفر بغير الخيبة والحيرة ، وكان ذلك من الأسباب التي حبّبت إليَّ مذهب السلف على أني كنت قبل ذلك عليه ، ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وبه شغفاً ، وقلت عند ذلك في تلك المذاهب :
وغاية ما حصّلته من مباحثي ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره وما قنعت نفسي بغير التبحر "
وبهذا يتبين لنا صحة مذهب السلف في باب الأسماء والصفات .
قواعد في أسماء الله ـ عز وجل ـ
ـ القاعدة الأولى ـ أسماء الله ـ تعالى ـ كلها حسنى :
أي بالغة في الحسن غايته ، قال الله ـ تعالى ـ : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [الأعراف : 180] .
وذلك لأنها متضمنة لصفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، لا احتمالاً ولا تقديراً ، ذلك لأن الألفاظ إما أن تدل على معنى ناقص نقصاً مطلقاً فهذه ينزه الله عنها ، وإما أن تدل على غاية الكمال فهذه هي الدالة على أسماء الله وصفاته ، وإما أن تدل على كمال لكنه يحتمل النقص فهذا لا يُسمّى الله به لكن يُخبر به عنه ، مثل : المتكلم ، الشائي .
كذلك ما يدل على نقص من وجه وكمال من وجه لا يُسمّى الله به ، لكن يُخبر به عن الله مثل : الماكر .
ومثال الأسماء الحسنى " الحي " وهو اسم من أسماء الله متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم ، ولا يلحقها زوال ، الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها .
(1/11)
ومثال آخر " العليم " من أسماء الله متضمن للعلم الكامل ، الذي لم يُسبق بجهل ، ولا يلحقه نسيان .
قال الله ـ تعالى ـ : ( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) [طه : 52] العلم الواسع بكل شيء جملة وتفصيلاً ، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال العباد .
وقل مثل ذلك في السميع ، والبصير ، والرحمن ، والعزيز ، والحكيم وغيرها من الأسماء الحسنى .
ـ القاعدة الثانية ـ أسماء الله ـ تعالى ـ أعلام وأوصاف :
أعلام باعتبار دلالتها على الذات ، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني .
وهي بالاعتبار الأول مترادفة ؛ لدلالتها على مسمى واحد وهو الله ـ عز وجل ـ .
وبالاعتبار الثاني متباينة ؛ لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص ؛ فمثلاً " الحي ، القدير ، السميع ، البصير ، الرحيم ، العزيز ، الحكيم " كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ لكن معنى " الحي " غير معنى " العليم " ، ومعنى " العليم " غير معنى " القدير " وهكذا . . .
ـ القاعدة الثالثة ـ أسماء الله ـ تعالى ـ إن دلت على وصفٍ متعدٍّ تضمنت ثلاثة أمور :
أحدها : ثبوت ذلك الاسم .
الثاني : ثبوت الصفة التي تضمنها ذلك الاسم لله ـ عز وجل ـ .
الثالث : ثبوت حكمها ومقتضاها ـ أي الأسماء ـ .
مثال ذلك " السميع " فهو يتضمن إثبات " السميع " اسماً لله ـ تعالى ـ وإثبات " السمع " صفة له ، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه ، وهو أنه يسمع السر والنجوى ، كما قال ـ تعالى ـ : ( وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) [المجادلة : 1] .
وقل مثل ذلك في العليم والرحيم ، وغيرها من الأسماء المتعدية .
وإن دلت على وصفٍ غير متعدٍ ـ لا لازم ـ تضمن أمرين :
أحدها : ثبوت ذلك الاسم .
الثاني : ثبوت الصفة التي تضمنها لله ـ عز وجل ـ .
(1/12)
مثل اسم " الحي " فهو يتضمن إثبات اسم " الحي " لله ـ عز وجل ـ وإثبات " الحياة " صفة له ، ومثل ذلك اسم " العظيم والجليل " .
ـ القاعدة الرابعة ـ دلالة أسماء الله ـ تعالى ـ على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة ، وبالتضمن ، وبالالتزام .
فمعنى دلالة المطابقة : تفسير الاسم بجميع مدلوله ، أو دلالته على جميع معناه .
ومعنى دلالة التضمن : تفسير الاسم ببعض مدلوله ، أو بجزء معناه .
ومعنى دلالة الالتزام : الاستدلال بالاسم على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها ، أو على لازم خارج عنها .
مثال ذلك : " الخالق " يدل على ذات الله ، وعلى صفة " الخلق " بالمطابقة ، ويدل على الذات وحدها بالتضمن ، ويدل على صفتي " العلم والقدرة " بالالتزام .
وذلك لأن الخالق لا يمكن أن يخلق إلا وهو قادر ، وكذلك لا يمكن أن يخلق إلا وهو عالم .
ـ القاعدة الخامسة ـ أسماء الله توقيفية لا مجال للعقل فيها :
ومعنى ذلك أن نتوقف على ما جاء في الكتاب والسنّة ، فلا نسمّي الله ـ تعالى ـ إلا بما سمَّى به نفسه ، أو سمّاه به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله ـ تعالى ـ من الأسماء .
وتسميتهُ ـ تعالى ـ بما لم يسمِّ به نفسه ، أو إنكار ما سمَّى به نفسه جناية في حقه ـ تعالى ـ فوجب سلوك الأدب ، والوقوف مع النص .
ـ القاعدة السادسة ـ أسماء الله غير محصورة بعدد معين :
لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المشهور : " أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " .
وما استأثر الله ـ تعالى ـ به في علم الغيب لا يمكن أحداً حَصْرُه ، ولا الإحاطة به .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " استأثرت به " : " أي انفردت بعلمه ، وليس المراد انفراده بالتسمي به ؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه " .
(1/13)
وأما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة " فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد ، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة " إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة " .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيان مراتب إحصاء أسماء الله التي من أحصاها دخل الجنة :
" المرتبة الأولى : إحصاء ألفاظها وعددها .
المرتبة الثانية : فهم معانيها ومدلولها .
المرتبة الثالثة : دعاؤه بها كما قال ـ تعالى ـ : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [الأعراف : 180] .
وهو مرتبتان ، إحداها : دعاء ثناء وعبادة ، والثاني : دعاء طلب ومسألة " .
ـ القاعدة السابعة ـ أن من أسماء الله ـ تعالى ـ ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره ، ومنها ما لا يطلق إلا مقترناً بمُقابله :
فغالب الأسماء يطلق مفرداً ومقترناً بغيره من الأسماء ، كالقدير ، والسميع ، والبصير ، والعزيز ، والحليم .
فهذه الأسماء وما جرى مجراها يسوغ أن يدعى بها مفردة ، ومقترنة بغيرها ، فنقول : يا عزيز ، يا حليم ، يا غفور ، يا رحيم .
أو أن يفرد كل اسم على حِدَةٍ فنقول : يا حليم ، أو يا غفور ، أو يا عزيز وهكذا . . .
ومن الأسماء ما لا يطلق عليه بمفرده ، بل مقروناً بمقابله ، كالمانع ، والضار ، والمنتقم ، والمذل .
فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله ؛ فإنه مقرون بالمعطي ، والنافع والعَفُو والمعز ؛ فهو المعطي المانع ، الضار النافع ، المنتقم العفو ، المعز المذل ؛ لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله ؛ لأنه يراد به أن المنفرد بالربوبية ، وتدبير الخلق ، والتصرف فيهم عطاءً ومنعاً ، ونفعاً وضراً ، وعفواً وانتقاماً ، وعزَّاً وذلاً .
وأما أن يُثنى عليه بمجرد المنع ، والانتقام ، والإضرار ـ فلا يسوغ .
(1/14)
فهذه الأسماء المزدوجة تجرى الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض ؛ فهي ـ وإن تعددت ـ جارية مجرى الاسم الواحد ، ولذلك لم تجىء مفردة ، ولم تُطلق عليه إلا مقترنة ؛ فلو قلت : يا مذل ، يا ضار ، يا مانع وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها .
قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ
القاعدة الأولى : صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجه : كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والرحمة ، والعلو ، والعظمة ، وغير ذلك ، وقد دل على هذا : السمعُ والعقلُ ، والفطرة .
أما السمع فمنه قوله ـ تعالى ـ : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى ) [النحل : 60] .
والمثل الأعلى : الوصف الأعلى الكامل .
وأما العقل فوجهه : أن كل موجود حقيقةً لابد أن تكون له صفة : إما صفة كمال ، وإما صفة نقص ، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة ، فتعين الأول .
ثم إنه قد ثبت بالحسن والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال ، ومُعْطي الكمال أولى به .
وأما الفطرة : فلأن النفوس السليمة مجبولة على محبة الله ، وتعظيمه ، وعبادته .
وهل تحب ، وتعظم ، وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته ؟ .
ثم إن الصفات منها ما هو كمال على الإطلاق كالصفات السابقة ، فهذه ثابتة لله ـ تعالى ـ .
ومنها ما هو نقص على الإطلاق فهذه منفية عن الله ، كالجهل ، والعمى ، والصمم .
ومنها ما هو كمال من وجه ونقص من وجه ، فهذه يوصف الله بها في حال كمالها ، ويمتنع وصفه بها في حال نقصها ، بحيث يوصف الله بها وصفاً مقيداً مثل المكر ، والكيد والمخادعة .
(1/15)
القاعدة الثانية : باب الصفات أوسع من باب الأسماء : وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء ، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله ، وأفعاله ـ عز وجل ـ لا منتهى لها .
قال ـ تعالى ـ : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [لقمان : 27] .
ومن أمثلة ذلك أن من صفات الله المجيءَ والأخذَ ، والإتيان ، والإمساك ، والبطش ، فنصف الله بهذه الصفات على الوجه الوارد ، ولا نسميه بها ، فلا نقول : إن من أسمائه الجائي ، والآتي ، والباطش ، والآخذ ، والممسك ، والنازل ، والمريد ، ونحو ذلك ، وإن كنا نُخبر بذلك عنه ، ونصفه به .
القاعدة الثالثة : صفات الله تنقسم إلى قسمين : ثبوتية وسلبية : فالثبوتية : هي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه ، كالحياة ، والعلم ، والقدرة ، والاستواء ، واليدين ، والوجه ، فيجب إثباتها لله على الوجه اللائق به ، وقد تقدم ذلك في الحديث عن طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته .
وأما السلبية أو المنفية : فهي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل الصمم ، والنوم ، وغير ذلك من صفات النقص ، فيجب نفيها عن الله كما مر .
القاعدة الرابعة : الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال ، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر : ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات السلبية ؛ فالقاعدة في ذلك الإثبات المفصل ، والنفي المجمل ؛ فالإثبات مقصود لذاته ، أما النفي فلم يذكر غالباً إلا على الأحوال التالية :
(1/16)
أ - بيان عموم كماله كما في قوله ـ تعالى ـ : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى : 11] ، وقوله : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) [الإخلاص : 4] .
ب - نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون كما في قوله : ( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ) [مريم : 91 -92] .
ج - دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر كما في قوله : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) [الدخان : 38] ، وقوله : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) [ق : 38] .
ثم إن النفي مع أنه مجمل بالنسبة للإثبات ـ إلا أن فيه تفصيلاً وإجمالاً بالنسبة لنفسه .
فالإجمال في النفي أن ينفى عن الله ـ عز وجل ـ كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص ، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى : 11] .
وقوله : ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) [مريم : 65] .
وقوله : ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون ) [الصافات : 180] .
وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه عن كل واحد من العيوب والنقائض بخصوصه ، فينزه عن الولد ، والصاحبة ، والسِّنة ، والنوم ، وغير ذلك مما ينزه الله عنه .
القاعدة الخامسة : الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين : ذاتية وفعلية :
أ - الذاتية : هي التي لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها ، وهي التي لا تنفك عنه ـ سبحانه وتعالى ـ كالعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والعزة ، والحكمة ، والوجه ، واليدين .
ب - الفعلية : وتسمى الصفات الاختيارية ، وهي التي تتعلق بمشيئة الله ، إن شاء فعلها ، وإن شاء لم يفعلها ، وتتجدد حسب المشيئة كالاستواء على العرش ، والنزول إلى السماء الدنيا .
(1/17)
وقد تكون الصفة ذاتية وفعلية باعتبارين ، كالكلام ؛ فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية ؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً ، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية ؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته ، يتكلم متى شاء بما شاء ، وكل صفة تعلقت بمشيئته ـ تعالى ـ فإنها تابعة لحكمته ، وقد تكون الحكمة معلومة لنا ، وقد نعجز عن إدراكها ، لكننا نعلم علم اليقين أنه ـ سبحانه ـ لا يشاء إلا وهو موافق لحكمته ، كما يشير إليه قوله ـ تعالى ـ : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ) [الإنسان : 30] .
القاعدة السادسة : الصفات الذاتية والفعلية تنقسم إلى قسمين :
عقلية ، وخبرية :
أ - عقلية : وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي ، والدليل العقلي ، والفطرة السليمة .
وهي أغلب صفات الله ـ تعالى ـ مثل صفة السمع ، والبصر ، والقوة ، والقدرة ، وغيرها .
ب- خبرية : وتسمى النقلية ، والسمعية ، وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص ، فطريق معرفتها النص فقط ، مع أن العقل السليم لا ينافيها ، مثل صفة اليدين ، والنزول إلى السماء الدنيا .
القاعدة السابعة : صفات الله توقيفية :
فلا نَصِفُ الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه :
أ - التصريح بالصفة : كالعزة ، والقوة ، والرحمة ، كما في قوله
ـ تعالى ـ : ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) [النساء : 139] ، وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات : 58] ، وقوله : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) [الأنعام : 133] .
(1/18)
ب ـ تضمن الاسم لها : كالعزيز والغفور ، قال ـ تعالى ـ : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) [الملك : 2] ؛ فالعزيز متضمن لصفة العزة ، والغفور متضمن لصفة المغفرة .
ج - التصريح بفعل أو وصف دال عليها ، كالاستواء على العرش ، والمجيء قال ـ تعالى ـ : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) [طه : 5] .
وقال : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ) [الفجر : 22] .
القاعدة الثامنة : المضافات إلى الله إن كانت أعياناً فهي من جملة المخلوقات ، وإن كانت أوصافاً فهي من صفات الله :
وبيان ذلك أن المضافات إلى الله على نوعين :
أ - أعيان قائمة بذاتها مثل : عبدالله ، ناقة الله ، فهذه من جملة المخلوقات ، وإضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه ، وقد تقتضي تشريفاً مثل : بيت الله ، وناقة الله ، وقد لا تقتضي تشريفاً مثل : أرض الله ، سماء الله .
ب - أن يكون المضاف أوصافاً غير قائمة بذاتها مثل : سَمْع الله ، قدرة الله ، بصر الله ، فهذه الإضافة تقتضي أن هذه الصفة قائمة بالله ، وأن الله متصف بها ، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف .
القاعدة التاسعة : القول في بعض الصفات كالقول في بعض :
وهي قاعدة يُردُّ بها على من فرَّق بين الصفات فأثبت بعضها ، ونفى بعضها ، فيقال لمن فعل ذلك : أثبت الجميع ، أو انفِ الجميع .
ومن أثبت بعض الصفات ، ونفى بعضها ، فهو مضطرب متناقض ، وتناقض القول دليل على فساده وبطلانه .
القاعدة العاشرة : القول في الصفات كالقول في الذات :
وذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات ـ فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل الصفات .
القاعدة الحادية عشرة : ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ، ومجهولة لنا باعتبار :
(1/19)
فباعتبار المعنى معلومة ، وباعتبار الكيفية مجهولة ؛ كالاستواء مثلاً ، فمعناه معلوم لنا فهو بمعنى العلو ، والارتفاع ، والصعود ، والاستقرار .
أما كيفيته فمجهولة ؛ لأن الله أخبرنا بأنه استوى ، ولم يخبرنا عن كيفية استوائه ، وهكذا يقال في باقي الصفات .
القاعدة الثانية عشرة : في العلاقة بين الصفات والذات :
وخلاصة القول في هذه المسألة أن العلاقة بين الصفات والذات علاقة تلازم ؛ فالإيمان بالذات يستلزم الإيمان بالصفات ، وكذلك العكس ؛ فلا يتصور وجود ذات مجردة عن الصفات في الخارج ، كما لا يتحقق وجود صفة من الصفات في الخارج إلا وهي قائمة بالذات .
القاعدة الثالثة عشرة : في علاقة الصفات بعضها ببعض من حيث الآثار والمعاني :
أما بالنسبة لبعضها فقد تكون مترادفة من حيث المعنى أو متقاربة .
مثل المحبة ، والرحمة ، والفرح ، والتعجب ، والضحك .
وهناك صفات متقابلة كالرفع والخفض ، والظاهرية والباطنية ، والنفع والضر ، والقبض والبسط .
وهناك صفات متضادة من حيث معانيها ، مثل الغضب والسخط مع الرضا ، ومثل الكراهية مع الحب ، وهكذا . . .
فاتصافه ـ عز وجل ـ بهذه الصفات المزدوجة المأخوذة من أسمائه المتقابلة ، وبالصفات المتضادة في معناها على ما تقدم ، والمترادفة باعتبار الذات ، والمتباينة باعتبار ما بينها في الغالب ـ دليل على الكمال الذي لا يشاركه فيه أحد ؛ لدلالته على شمول القدرة الباهرة ، الحكمة البالغة ، والتفرد بشؤون الكون كله .
ما ضد توحيد الأسماء والصفات
يضاد توحيد الأسماء ، والصفات الإلحادُ فيها ، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ ، والتمثيلُ ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل .
1- الإلحاد : الإلحاد في اللغة هو : الميل ، ومنه اللحد في القبر ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
كم من أخ كان لي ماجدٍ ألحدته في يديَّ الثرى
وقول جرير :
دعوت الملحدين أبا خبيب جماحاً هل شفيت من الجماح
(1/20)
ويُقصد بالملحدين : المائلين عن الحق .
أما في الاصطلاح : فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله .
والإلحاد في أسماء الله هو : العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها .
أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته :
1 / أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة .
2 / أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه ، كفعل أهل التمثيل .
3 / أن يُسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه ؛ لأن أسماء الله توقيفية ، كتسمية النصارى له " أباً " وتسمية الفلاسفة إياه " علة فاعلة " أو تسميته بـ " مهندس الكون " أو " العقل المدبر " أو غير ذلك .
4 / أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام ، كاشتقاق " اللات " من " الإله " والعُزَّى " من " العزيز " .
5 / وصفه ـ تعالى ـ بما لا يليق به ، وبما ينزه عنه ، كقول اليهود : بأن الله تَعِبَ من خلق السماوات والأرض ، واستراح يوم السبت ، أو قولهم : إن الله فقير .
2- التعطيل : التعطيل في اللغة : مأخوذ من العطل ، الذي هو الخلو والفراغ والترك ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) [الحج : 45] ، أي : أهملها أهلها ، وتركوا وردها .
وفي الاصطلاح : هو إنكار ما يجب لله ـ تعالى ـ من الأسماء والصفات ، أو إنكار بعضه ، وهو نوعان :
أ - تعطيل كلي : كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات ، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً .
ب - تعطيل جزئي : كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض ، وأول من عرف ذلك من هذه الأمة الجعد بن درهم .
3- التمثيل : هو : إثبات مثيل للشيء ، وفي الاصطلاح : اعتقاد أن صفات الله مثل صفات المخلوقين ، كأن يقول الشخص : لله يد كيدي .
4- التكييف : حكاية كيفية الصفة كقول القائل : يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا ، أو يده طويلة ، أو غير ذلك ، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف .
5- التفويض : هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة لا يعلمها إلا الله .
(1/21)
أو هو إثبات الصفات وتفويض معناها وكيفيتها إلى الله ـ عز وجل ـ .
والحق أن الصفات معلومة معانيها ، أما كيفيتها فيفوض علمها إلى الله ـ عز وجل ـ .
6- التحريف : التحريف لغة : التغيير ، وفي الاصطلاح : تغيير النص لفظاً أو معنى .
والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى ، وقد لا يتغير ، فهذه ثلاثة أقسام :
أ - تحريف لفظي يتغير معه المعنى ، كتحريف بعضهم قوله ـ تعالى ـ : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) [النساء : 164] إلى نصب لفظ الجلالة ؛ ليكون التكليم من موسى ـ عليه السلام ـ .
ب - تحريف لفظي لا يتغير معه المعنى ، كفتح الدال من قوله ـ تعالى ـ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الفاتحة : 2] ، وذلك بأن يقول : " الحمدَ لله . . . " وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل ؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً .
ج - تحريف معنوي : وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل كتحريف معنى " اليدين " المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك .
7- التأويل : التأويل في اللغة يدور حول عدة معانٍ ، منها الرجوع ، والعاقبة ، والمصير ، والتفسير .
أما في الاصطلاح فيطلق على ثلاثة معانٍ ، اثنان منهما صحيحان مقبولان معلومان عند السلف ، والثالث مبتدع باطل .
وإليك بيان هذه المعاني :
المعنى الأول : التفسير ، وهو إيضاح المعنى ، وبيانه .
وهذا اصطلاح جمهور المفسرين كابن جرير وغيره ، فتراهم يقولون : تأويل هذه الآية كذا وكذا ، أي تفسيرها .
الثاني : الحقيقة التي يؤول إليها الشيء ، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة ، كما قال ـ تعالى ـ : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ) [الأعراف : 53] ، وقوله : ( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [الإسراء : 35] ، وقوله عن يوسف ـ عليه السلام ـ : " هذا تأويل رؤياي من قبل " .
الثالث : صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر .
(1/22)
وهذا ما اصطلح عليه المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم .
كتأويلهم الاستواء بالاستيلاء ، واليد بالنعمة .
وهذا هو الذي ذمه السلف .
الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات
هناك فرق عديدة ضلت في هذا الباب منها :
1 / الجهمية : وهم أتباع الجهم بن صفوان ، وهم ينكرون الأسماء والصفات .
2 / المعتزلة : وهم أتباع واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وهم يثبتون الأسماء ، وينكرون الصفات ، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء .
3 / الأشاعرة : وهم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهم يثبتون الأسماء ، وبعض الصفات ، فقالوا : إن لله سبع صفات عقلية يسمونها " معاني " هي " الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر والكلام " وهي مجموعة في قول القائل :
حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذلك السمع والبصر
وإثباتهم لهذه الصفات مخالف لطريقة السلف .
4 / الماتريدية : وهم أتباع أبي منصور الماتريدي ، وهم يثبتون الأسماء وبعض الصفات ، وإن كان هذا الإثبات مخالفاً لطريقة السلف .
5 / الممثلة : وهم الذين أثبتوا الصفات ، وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين ، وقيل إن أول من قال بذلك هو هشام بن الحكم الرافضي .
حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة
هذا الأمر يحتاج إلى تأنٍّ وتريث ، ثم تفصيل .
فيقال : إن الذي ينفي صفة من الصفات الثابتة بالنصوص القطعية لا يخلو من أحد ثلاثة أحوال .
أحدها : أن يكون النافي عالماً بالنص الذي ثبتت به الصفة المنفية كتاباً كان أو سنة ، ولا توجد لديه شبهات قد تغير مفهومه للنص وإنما نفى لعناده ، وفساد قصده ، ومرض قلبه ، ومشاقته للرسول من بعد ما تبين له الحق .
فهذا كافر ؛ لتكذيبه كلام الله أو كلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(1/23)
الثاني : أن يكون النافي مجتهداً في طلب الحق ، معروفاً بالنصيحة والصدق ولكنه أخطأ وتأول : لجهله بالنص ، أو لعدم علمه بالمفهوم الصحيح . فحكمه أنه معذور ، وخطؤه مغفور ؛ لأن نفيه ناتج عن تأويل ، لا عن عناد وفساد قصد .
الثالث : أن يكون النافي متعباً لهواه ، مقصراً في طلب الحق ، متكلماً بلا علم ، ولكنه لا يقصد مشاقة الرسول ، ولم يتبين له الحق تماماً فحكمه أنه عاصٍ مذنب ، وقد يكون فاسقاً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصد الحق فأخطأ لم يكفر ، بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاقَّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين ـ فهو كافر . ومن اتبع هواه ، وقصَّر في طلب الحق ، وتكلم بلا علم ـ فهو عاصٍ مذنب ، وقد يكون فاسقاً ، وقد تكون حسناته ترجح على سيئاته ؛ فالتكفير يختلف باختلاف حال الشخص ؛ فليس كل مخطىء ، ولا مبتدع ولا جاهل ، ولا ضال يكون كافراً ، بل ولا فاسقاً ، بل ولا عاصياً " .
وقال ـ رحمه الله ـ : " هذا مع أنني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، وتفسيق ومعصية إلا إذا عُلِم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى . وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية ، والمسائل العملية .
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ، ولا بفسق ، ولا بمعصية .
إلى أن قال : " وكنت أبيِّن أن ما نقل عن السلف ، والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول : كذا وكذا ـ فهو أيضاً حق .
لكن يجب التفريق بين الإطلاق ، والتعيين " .
مسائل أحدثها المتكلمون
" الكلمات المُجْمَلة "
(1/24)
يَرِدُ في كتب العقائد مصطلح ( الكلمات المجملة ) .
فما المقصود بها ؟ وما معنى كونها مجملة ؟ وما المراد من إطلاقها ؟ وما الذي دعى إلى إطلاقها ؟ وهل وردت في الكتاب والسنة ؟ وما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الألفاظ ؟
والإجابة عن هذه الأسئلة تكون على النحو التالي :
أ - المقصود بالكلمات المجملة : أنها ألفاظ يطلقها أهل التعطيل .
أو : هي مصطلحات أحدها أهل الكلام .
ب - ومعنى كونها مجملة : لأنها تحتمل حقاً وباطلاً .
أو يقال : لأنها ألفاظ مُشتركة بين معانٍ صحيحة ، ومعانٍ باطلة . أو يقال لخفاء المراد منها ؛ بحيث لا يدرك بنفس اللفظ إلا بعد الاستفصال والاستفسار .
ج - ومراد أهل التعطيل من إطلاقها : التوصل إلى نفي الصفات عن الله ـ تعالى ـ بحجة تنزيهه عن النقائص .
د - والذي دعاهم إلى ذلك : عجزهم عن مقارعة أهل السنة بالحجة ؛ فلجؤوا إلى هذه الطريقة ؛ ليخفوا عوارهم ، وزيفهم .
هـ - وهذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب ، ولا في السنة ؛ بل هي من إطلاقات أهل الكلام .
و - وطريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الكلمات : أنهم يتوقفون في هذه الألفاظ ؛ لأنه لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب والسنة ؛ فلا يثبتونها ، ولا ينفونها .
أما المعنى الذي تحت هذه الألفاظ فإنهم يستفصلون عنه ، فإن كان معنى باطلاً يُنَزَّه الله عنه رَدُّوه ، وإن كان معنى حقاً لا يمتنع على الله قبلوه ، واستعملوا اللفظ الشرعي المناسب للمقام .
وإليك فيما يلي نماذج وأمثلة لبعض الألفاظ المجملة :
1- الجهة .
2- الحدَّ .
3- الأعراض .
4- الأبعاض أو الأعضاء والأركان والجوارح .
5- حلول الحوادث بالله ـ تعالى ـ .
6- حلول الحوادث بالله ـ تعالى ـ .
7- التسلسل .
وإليك فيما يلي تفصيلاً لهذه الألفاظ ، وما يراد بها ، وجواب أهل السنة المفصل على ذلك .
دراسة موجزة لبعض الكلمات المُجْملة
(1/25)
أولاً ـ الجهة : هذه اللفظة من الكلمات المجملة التي يطلقها أهل التعطيل ، فما معناها في اللغة ؟ وما مرادهم من إطلاقها ؟ وما التحقيق في تلك اللفظة ؟ وهي هي ثابتة لله ، أو منفية عنه ؟
أ - معنى الجهة في اللغة : تطلق على الوضع الذي تتوجه إليه ، وتقصده ، وتطلق على الطريق ، وعلى كل شيء استقبلته ، وأخذت فيه .
ب - ومراد أهل التعطيل من إطلاق لفظ الجهة : نفي صفة العلو عن الله ـ عز وجل ـ .
ج - والتحقيق في هذه اللفظة : أن يقال : إن إطلاق لفظ الجهة في حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر مبتدع لم يرد في الكتاب ولا السنة ، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة .
وبناء على هذا لا يصح إطلاق الجهة على الله ـ عز وجل ـ لا نفياً ولا إثباتاً ، بل لابد من التفصيل ؛ لأن هذا المعنى ـ يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً .
فإن أريد بها جهة سفل فإنها منتفية عن الله ، وممتنعة عليه ـ أيضا ؛ فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته ، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض ؟
وإن أريد بالجهة أنه في جميع الجها ، وأنه حالٌّ في خلقه ، وأنه بذاته في كل مكان ـ فإن ذلك بالحل ممتنع على الله ، منتفٍ في حقه .
وإن أريد نفي الجهة عن الله ـ كما يقول أهل التعطيل ـ حيث يقولون : إن الله ليس في جهة ، أي ليس في مكان ، فهو لا داخل العالم ، ولا خارجة ، ولا متصل ، ولا منفصل ، ولا فوق ، ولا تحت ـ فإن ذلك ـ أيضاً ـ ممتنع على الله منتفٍ في حقه ؛ إذ إن ذلك وصف له بالعدم المحض .
وإن أريد بالجهة أنه في جهة علوٍّ تليق بجلاله ، وعظمته من غير إحاطة به ، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه ـ فإن ذلك حق ثابت له ، ومعنى صحيح دلت عليه النصوص ، والعقول ، والفطر السليمة .
ومعنى كونه في السماء ، أي في جهة العلو ، أو أن " في " بمعنى على ، أي على السماء ، كما قال ـ تعالى ـ : ( وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) [طه : 71] أي على جذوع النخل .
(1/26)
وبهذا التفصيل يتبين الحق من الباطل في هذا الإطلاق .
أما بالنسبة للفظ فكما سبق لا يثبت ولا ينفي ، بل يجب أن يستعمل بدلاً عنه اللفظ الشرعي ، وهو العلو ، والفوقية .
ثانياً ـ الحد : وهذا ـ أيضاً ـ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل التعطيل .
فما معنى الحد في اللغة ؟ وماذا يريد أهل التعطيل من إطلاقه ؟ وما شبهتهم في ذلك ؟ وما جواب أهل السنة ؟
أ - معنى الحد في اللغة : يطلق على الفَصْل ، والمنع ، والحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر .
يقال : حددت كذا ، جعلت له حداً يميزه .
وجد الدار ما تتميز به عن غيرها ، وحد الشيء : الوصف المحيط بمعناه ، المميز له عن غيره .
ب - وأهل التعطيل يريدون من إطلاق لفظ ( الحد ) نفي استواء الله على عرشه .
ج - وشبهتهم في ذلك : أنهم يقولون : لو أثبتنا استواء الله على عرشه للزم أن يكون محدوداً ؛ لأن المستوى على الشيء يكون محدوداً ؛ فالإنسان ـ مثلاً ـ إذا استوى على البعير صار محدوداً بمنطقة معينة ، محصوراً بها ، وعلى محدود ـ أيضاً ـ .
وبناء على ذلك فهم ينفون استواء الله على عرشه ويرون أنهم ينزهون الله ـ عز وجل ـ عن الحد ، أو الحدود .
د ـ جواب أهل السنة : أهل السنة يقولون :
إن لفظ ( الحد ) لم يرد في الكتاب ، ولا في السنة ، ولا في كلام سلف الأمة ؛ فهو ـ إذاً ـ لفظ مبتدع حادث .
وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه ، ولا وصفه به رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا نفياً ، ولا إثباتاً ، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون .
هذا بالنسبة للفظ .
أما بالنسبة للمعنى فإننا نستفصل ـ كعادتنا ـ ونقول ماذا تريدون بالحد ؟
إن أردتم بالحد أن الله ـ عز وجل ـ محدود ، أي متميز عن خلقه ، منفصل عنهم ، مباين لهم ـ فهذا حق ليس فيه شيء من النقص ، وهو ثابت لله بهذا المعنى .
(1/27)
وإن أردتم بكونه محدوداً أن العرش محيط به وأنتم تريدون نفي ذلك عنه بنفي استوائه عليه ـ فهذا باطل وليس بلازم صحيح ؛ فإن الله ـ تعالى ـ مستوٍ على عرشه ، وإن كان ـ عز وجل ـ أكبر من العرش ومن غير العرش .
ولا يلزم من كونه مستوياً على العرش أن يكون العرش محيطاً به ؛ لأن الله ـ عز وجل ـ أعظم من كل شيء ، وأكبر من كل شيء ، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، والسموات مطويات بيمينه .
ثالثاً ـ الأعراض : هذا اللفظ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل الكلام ومن أقوالهم في ذلك : " نحن نُنَزِّه الله ـ تعالى ـ من الأعراض والأغراض ، والأبعاض ، والحدود ، والجهات " .
ويقولون : " سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض " .
والحديث في الأسطر التالية سيكون حول لفظ ( الأعراض ) . أما بقية الألفاظ فسيأتي ذكرها فيما بعد .
أ - تعريف الأعراض في اللغة : الأعراض جمع عَرَض ، والعَرض هو ما لا ثبات له .
أو هو : ما ليس بلازم للشيء .
أو هو : ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء .
ومن الأمثلة على ذلك : الفرح بالنسبة للإنسان فهو عَرَض ؛ لأنه لا ثبات بل هو عارض يعرض ويزول .
وكذلك الغضب ، والرضا .
ب - العَرَض في اصطلاح المتكلمين : قال الفيومي : " العَرَض عند المتكلمين ما لا يقوم بنفسه ، ولا يوجد إلا في محل يقوم به " .
وقال الراغب الأصفهاني : " والعرض ما لا يكون له ثبات ، ومنه استعار المتكلمون العَرَض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والمطعم .
ج - ما مراد المتكلمين من قولهم : " إن الله منزه عن الأعراض ؟ " : مرادهم من ذلك نفي الصفات عن الله ـ تعالى ـ لأن الأعراض عندهم هي الصفات .
(1/28)
د - ما شبهتهم ؟ : يقولون : لأن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام ، والأجسام متماثلة ؛ فإثبات الصفات يعني أن الله جسم ، والله منزه عن ذلك وبناء عليه نقول : بنفي الصفات ؛ لأنه يترتب على إثباتها التجسيم ، وهو وصف الله بأنه جسم ، والتجسيم تمثيل ، وهذا كفر وضلال ، هذه هي شبهة المتكلمين .
هـ - الرد على أهل الكلام في هذه المسألة : الرد عليهم من وجوه :
1 / أن لفظة " الأعراض " لم ترد في الكتاب ولا في السنة لا نفياً ولا إثباتاً ، ولم ترد ـ كذلك ـ عن سلف الأمة .
وطريقة أهل السنة المعهودة في مثل هذه الألفاظ التوقف في اللفظ ، فلا نثبت الأعراض ، ولا ننفيها .
أما معناها فيُستَفْصَل عن مرادهم في ذلك ويقال لهم : إن أردتم بالأعراض ما يقتضي نقصاً في حق الله ـ تعالى ـ كالحزن ، والندم ، والمرض ، والخوف ، فإن المعنى صحيح ، والله منزه عن ذلك ؛ لأنه نقص ، لا لأنها أعراض .
وإن أردتم نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصفات كالغضب ، والفرح ، والرضا ، ونحوها بحجة أنها أعراض ـ فإن ذلك باطل مردود ، ولا يلزم من إثباتها أي لازم .
2 / أن الصفات الربانية ليست كلها أعراض ، بل إن بعضها أعراض كالفرح ، والغضب . وبعضها ليست أعراضاً ، كبعض الصفات الذاتية كاليد ، والوجه ، والقدم ، والساق ؛ فهذه ليست أعراضاً ، بل لازمة للذات لا تنفك عنها .
3 / أن قولكم : " إن الأعراض لا تقوم إلا بجسم " قول باطل ؛ فالأعراض قد تقوم بغير الجسم كما يقال : ليل طويل ، فقولنا : طويل ، وصف لـ : ليل ، والليل ليس بجسم ، ومثل ذلك : حر شديد ، ومرض مؤلم ، وبرد قارس .
4 / أن القول بتماثل الأجسام قول باطل ؛ فالأجسام غير متماثلة لا بالذوات ولا بالصفات ، ولا بالحدوث ؛ ففي الحجم تختلف الذرَّة عن الجمل ، وفي الوزن يختلف جسم القيراط عن جسم القنطار ، وفي الملمس يختلف الخشن عن الناعم ، واللين عن القاسي ، وهكذا .
(1/29)
5 / أن لفظ الجسم من إحداث المتكلمين ، وهذا اللفظ كقاعدة الألفاظ المجملة ؛ فإن كان إثبات الصفات بلزم منه أن يكون جسماً في مفهومك فليس ذلك يضيرنا .
لكن إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها .
فإن أردت بالجسم هذا المعنى فيصح .
وإن أردت بالجسم الشيء المكوَّن من أعضاء ، ولحم ودم المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك ـ فباطل غير صحيح ؛ لأنه يلزم أن يكون الله حادثاً أو مُحْدَثاً . وهذا أمر مستحيل ، على أننا لا نوافق على إثبات الجسم ، ولا نفيه ؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً .
رابعاً : الأبعاض : أو الأعضاء ، أو الأركان ، أو الجوارح : وهذه أيضاً من الكلمات المجملة التي تطلق وتحتمل حقاً وباطلاً ؛ فإليك نبذة في معانيها ، ومقصود أهل التعطيل من إطلاقها وجواب أهل السنة على تلك الدعوى .
أ - معاني هذه الكلمات : معاني هذه الكلمات متقاربة من بعض .
• فالأبعاض : جمع لكلمة بعض ، يقال : بعض الشيء أي جزؤه ، وبعّضْتُ كذا أي جعلته أبعاضاً .
• والأركان : جمع ركن ، وركن الشيء قوامه ، وجانبه القوي الذي يتم به ، ويسكن إليه .
• والأجزاء : جمع جزء ، والجزء ما يتركب الشيء عنه وعن غيره ، وجزء الشيء ما يتقوم به جملتُه كأجزاء السفينة ، وأجزاء البيت .
• والجوارح : مفردها الجارحة ، وتسمى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور جارحة ؛ إما لأنها تجرح ، وإما لأنها تكسب .
وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح تشبيهاً بها لأحد هذين .
• ويشبه هذه الألفاظ لفظ : الأعضاء ، والأدوات ، ونحوها .
ب - مقصود أهل التعطيل من إطلاقها : مقصودهم نفي بعض الصفات الذاتية الثابتة بالأدلة القطعية ، كاليد ، والوجه ، والساق ، والقدم والعين .
(1/30)
ج - ما الذي دعاهم إلى نفيها ؟ : الذي دعاهم إلى نفي تلك الصفات هو اعتقادهم أنها بالنسبة للمخلوق أبعاض ، وأعضاء ، وأركان ، وأجزاء ، وجوارح وأدوات ونحو ذلك ، فيرون ـ بزعمهم ـ أن إثبات تلك الصفات لله يقتضي التمثيل ، والتجسيم ؛ فوجب عندهم نفيها قراراً من ذلك . وقد لجؤوا إلى تلك الألفاظ المجملة لأجل أن يروج كلامهم ويلقى القبول .
د - جواب أهل السنة : أهل السنة يقولون : إن هذه الصفات وإن كانت تعد في حق المخلوق أبعاضاً ، أو أعضاءً ، وجوارح ونحو ذلك لكنها تعدُّ في حق الله صفات أثبتها لنفسه ، أو أثبتها له رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا نخوض فيها بآرائنا وأهوائنا ، بل نؤمن بها ونُمرُّها كما جاءت ونفوض كنهها وحقيقتها إلى الله ـ عز وجل ـ لعدم معرفتنا لحقيقة الذات ؛ لأن حقيقة معرفة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى وهذه الصفات ـ أعني اليد ، والساق ونحوها وكثير من صفات الله ـ قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ ، وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف .
وبمجرد إضافتها تختص صفات الخالق ، وصفات المخلوق بالمخلوق ؛ فصفات الخالق تليق بجلاله وعظمته وربوبيته ، وقيومته .
وصفات المخلوق تليق بحدوثه ، وضعفه ، ومخلوقيته .
وبناء على ذلك يقال لمن يطلق تلك الألفاظ المجملة السالفة : إن أردت أن تنفي عن الله ـ عز وجل ـ أن يكون جسماً ، وجثة وأعضاء ، ونحو ذلك ـ فكلامك صحيح ، ونفيك في محله .
وإن أردت بذلك نفي الصفات الثابتة له والتي ظننت أن إثباتها يقتضي التجسيم ، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة ـ فإن قولك باطل ، ونفيك في غير محله .
هذا بالنسبة للمعنى .
أما بالنسبة للفظ فيجب ألا تعْدِل عن الألفاظ الشرعية في النفي أو الإثبات ؛ لسلامتها من الاحتمالات الفاسدة .
(1/31)
يقول شارح الطحاوية ـ رحمه الله ـ : " ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء ، أو جوارح ، أو أدوات ، أو أركان ؛ لأن الركن جزء الماهية ، والله ـ تعالى ـ هو الأحد ، الصمد ، لا يتجزأ ـ سبحانه وتعالى ـ والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية ، تعالى الله عن ذلك ، ومن هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) [الحجر : 91] .
والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع ؛ وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة .
وكل هذه المعاني منتفية عن الله ـ تعالى ـ ؛ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله ـ تعالى ـ فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني ، سالمة من الاحتمالات الفاسدة ، فكذلك يجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنى فاسد ، وأن ينفى معنى صحيح .
وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل " .
خامساً : الأغراض : وهذا ـ أيضاً ـ من إطلاقات المتكلمين ، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ .
أ - الأغراض في اللغة : جمع غرض ، والغرض هو الهدف الذي يرمي فيه ، أو هو الهدف الذي ينصب فيرى فيه .
والغرض يطلق في اللغة ـ أيضاً ـ على الحاجة ، والبغية ، والقصد .
ب - الغرض في اصطلاح علماء الكلام : قيل هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل .
وقال الجلا الدوائي : " الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل ، وهو المحرك الأول ، وبه يصير الفاعل فاعلاً " .
وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض ، وأنه غاية الفاعل من فعله ، وهو الباعث له على فعله .
ج - ماذا يريد أهل الكلام بهذه اللفظة ؟ : يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله ـ عز وجل ـ وشرعه .
(1/32)
د - حجتهم في ذلك : يقول المتكلمون ـ وعلى وجه الخصوص الأشاعرة ـ إننا ننزه الله عن الأغراض فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه ؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك ، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب ؛ فإذا شاء تحريم شيء حرَّمه ، أو شاء إيجابه أوجبه .
وقالوا : لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين :
الأول : أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض ؛ ليعود عليه من ذلك منفعة ، والله منزه عن ذلك .
والثاني : أننا إذا عللنا الأحكام ـ أي أثبتنا الحكمة والعلة ـ لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة ؛ لأن الحكم يدور مع علته ، فنفع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله ؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فعل لها وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض .
هـ - الرد عليهم :
1 / أن هذا اللفظ ـ الأغراض أو الغرض ـ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ، ولا أطلقه أحد من علماء الإسلام ؛ لأن هذه الكلمة قد توهم النقض ، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة ؛ فلابد ـ إذاً ـ من التفصيل والأولى أن يعبر بلفظ : الحكمة ، والرحمة ، والإرادة ، ونحو ذلك مما ورد به النص .
2 / أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر ، أو جلب مصلحة له ، فالله ـ سبحانه ـ لم يخلق ، ولم يشرع لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه ، وإنما ذلك لمصلحة الخلق .
ولا ريب أن ذلك كمال محض ، قال ـ تعالى ـ : ( إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً ) [آل عمران : 176] ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) [الزمر : 7] ، وفي الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني " .
وهذا أمر مستقر في الفطر .
(1/33)
3 / أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة ـ حق صحيح . لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله ـ عز وجل ـ هو الذي أوجب هذا على نفسه ولم يوجبه عليه أحد ، كما قال ـ عز وجل ـ : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) [الأنعام : 54] وكما قال : ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) [الروم : 47] .
وكما في حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لما كان رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار فقال : " أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ؟ " قال معاذ : الله ورسوله أعلم .
قال : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به " الحديث .
فهذا حق أوجبه الله على نفسه ، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء . ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر ، ومقاييسهم بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله ـ تعالى ـ فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق بادئ الرأي في عقولهم القاصرة ؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره لقوله ـ تعالى ـ : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [الروم : 41] .
وكذلك استدراج الكفار بالنعم ، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها .
بل إن خلق إبليس ، وتقدير المعاصي ، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين .
سادساً ـ حلول الحوادث بالله ـ تعالى ـ : هذا اللفظ من إطلاقات أهل الكلام ، وإليك بعض التفصيل في معناه ، ومقصود أهل الكلام منه ، والرد على ذلك .
(1/34)
أ - معنى كلمة ( حلول ) : الحلول هو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر ، كحلول الماء في الكوز .
ب - معنى كلمة ( الحوادث ) : الحوادث جمع حادث ، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم ، ويسمى حدوثاً زمانياً .
وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير ، ويسمى حدوثاً ذاتياً .
والحدوث الذاتي : هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير .
والحدوث الزماني : هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم مسبقاً زمانياً .
ج - معنى ( حلول الحوادث بالله ـ تعالى ـ ) : أي قيامها بالله ، ووجودها فيه ـ تعالى ـ .
د - ما مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق ؟ : مقصودهم نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية ، وهي التي يفعلها متى شاء ، كيف شاء ، مثل الإتيان لفصل القضاء ، والضحك ، والعجب ، والفرح ؛ فينفون جميع الصفات الاختيارية .
هـ - ما حجتهم في ذلك : وحجتهم في ذلك أن قيام تلك الصفات بالله يعني قيام الحوادث ـ أي الأشياء المخلوقة الموجودة ـ بالله .
وإذا قامت به أصبح هو حادثاً بعد أن لم يكن ، كما أن تكون المخلوقات حالَّة فيه ، وهذا ممتنع .
و - جواب أهل السنة : أهل السنة يقولون : إن هذا الإطلاق لم يَردْ في كتاب ولا سنة ، لا نفياً ولا إثباتاً ، كما أنه ليس معروفاً عند سلف الأمة .
أما المعنى فيستفصل عنه ؛ فإن أريد بنفي حلول الحوادث بالله أن لا يَحُلَّ بذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل ـ فهذا النفي صحيح ؛ فالله ـ عز وجل ـ ليس مَحَلاً لمخلوقاته وليست موجودة فيه ، ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل .
وإن أريد بالحوادث : أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء كيف شاء كالنزول ، والاستواء ، والرضا ، والغضب ، والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك ـ فهذا النفي باطل مردود .
بل يقال له : إنه مثبتٌ ما أثبته الله لنفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
(1/35)
سابعاً ـ التسلسل : وهو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون .
ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة ، ومدلولها ، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها إليك هذا العرض الموجز .
أ - تعريف التسلسل : قال الجرجاني : " التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية " .
ب - سبب تسميته بذلك : سمي بذلك أخذاً من السلسلة ؛ فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لا نهاية ؛ فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيهما ؛ ففي السلسلة مبدؤها ومنتهاها ، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل .
ج - مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة : مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام ، وباختلاف المتكلمين ؛ فقد يكون مرادهم نفي قدم اتصاف الله ببعض صفاته ، وقد يكون مرادهم نفي دوام أفعال الله ومفعولاته وقد يكون مرادهم نفي أبدية الجنة والنار ، وقد يكون غير ذلك .
د - هل وردت هذه اللفظة في الكتاب أو السنة ، أو أطلقها أحد من أئمة السلف ؟ الجواب : لا .
هـ - ما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ ؟ : طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة ، حيث إنهم يتوقفون في لفظ " التسلسل " فلا يثبتونه ، ولا ينفونه ، لأنه لفظ مبتدع ، مجمل يحتمل حقاً وباطلاً ، وصواباً وخطأ .
هذا بالنسبة للفظ .
أما بالنسبة للمعنى فإنهم يستفصلون ، فإن أريد به حق قبلوه ، وإن أريد به باطل ردوه .
و - وبناء على ذلك فإنه ينظر في هذا اللفظ ، وتطبق عليه هذه القاعدة : فيقال لمن أطلقوا هذه اللفظ :
1 / إذا أردتم بالتسلسل : دوام أفعال الرب ـ أزلاً وأبداً فذلك معنى صحيح دل عليه العقل والشرع ؛ فإثباته واجب ، ونفيه ممتنع ، قال الله ـ تعالى ـ : ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) [هود : 107] .
والفعال هو من يفعل على الدوام ، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً ، فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً .
ثم إن المتصف بالفعل أكل ممن لا يتصف به ، ولو خلا الرب ـ منه لخلا من كمال يجب له وهذا ممتنع .
(1/36)
ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة ، وكل حي فهو فعال ، والله ـ تعالى ـ حي ، فهو فعال وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً .
ولأن الفرق بين الحي والميت الفعل ، والله حي فلابد أن يكون فاعلاً وخوله من الفعل في أحد الزمانين : الماضي والمستقبل ممتنع ، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً .
فخلاصة هذه المسألة أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب فذلك معنى صحيح واجب في حق الله ، ونفيه ممتنع .
2 / وإذا أريد بالتسلسل : أنه ـ تعالى ـ كان معطلاً عن الفعل ثم فعل ، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها ، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن ـ فذلك معنى باطل لا يجوز .
فالله ـ عز وجل ـ لم يزل متصفاً بصفات الكمال ـ صفات الذات ، وصفات الفعل ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها ؛ لأن صفاته ـ سبحانه ـ صفات كمال ، وفقدها صفة نقص ؛ فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده .
قال الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ : " ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته .
وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً .
مثال ذلك صفة الكلام ؛ فالله ـ عز وجل ـ لم يزل متكلماً إذا شاء .
ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، ولم يكن معطلاً عنها في وقت ، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً .
وكذلك صفة الخلق ، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطلاً عنها " .
3 / وإذا كان المقصود بالتسلسل : التسلسل في مفعولات الله ـ عز وجل ـ وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلْقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية ـ فذلك معنى صحيح ، وتسلسل ممكن ، وهو جائز في الشرع والعقل .
قال الله ـ تعالى ـ : ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [ق : 15] .
(1/37)
ثم إنه ـ عز وجل ـ ما زال يخلق خلقاً ويرتب الثاني على الأول وهكذا ؛ فما زال الإنسان والحيوان منذ خلَقَهُ الله يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه .
4 / وإن أريد بالتسلسل : التسلسل بالمؤثِّرين ، أي بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية ، وأن يكون مؤثرون كلُّ واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية ـ فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً ؛ لاستحاله وقوعه ؛ فالله ـ عز وجل ـ خالق كل شيء ، وإليه المنتهى ؛ فهو الأول فليس قبله شيء ، وهو الآخر فليس بعده شيء ، وهو الظاهر فليس فوقه شيء ، وهو الباطن فليس دونه شيء ، والقول بالتسلسل في المؤثرين يؤدي إلى خلو المُحدَث والمخلوق من مُحْدِث ، وخالق وينتهي بإنكار الخالق ـ جل وعلا ـ .
" خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً " :
* أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية ، وأنه سمي بذلك أخذاً من السلسلة .
* وأن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لابد فيها من الاستفصال ـ كما مر ـ .
* وأنه إن أريد بالتسلسل : دوام أفعال الرب ومفعولاته ، وأنه متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً فذلك حق صحيح ، يدل عليه الشرع والعقل .
* وأنه إن أريد بالتسلسل : أنه ـ عز وجل ـ كان معطلاً عن أفعاله وصفاته ، ثم فعل ، واتصف فحصل له الكمال بعد أن لم يكن متصفاً به ، أو أريد بالتسلسل : " التسلسل في المؤثرين ـ فذلك معنى باطل مردود بالشرع والعقل " .
وقفة حول المجاز
المجاز مصطلح معروف عند أهل اللغة ، والبلاغة ، والتفسير ، والأصول وغيرهم .
كما أنه يَرِدُ كثيراً في كتب العقائد ، خصوصاً في باب الأسماء والصفات ؛ ذلك أن كثيراً من أهل التعطيل اتخذوه مطية لنفي الصفات الإلهية .
ولأجل أن تتضح صورة المجاز إليك هذا العرض المجمل الميسر الذي يبين معالمه ، وحقيقة الخلاف فيه وما جرى مجرى ذلك .
(1/38)
وقبل الدخول في ثنايا الحديث عن المجاز يحسن الوقوف عند مصطلح ( الحقيقة ) ؛ وذلك لأن المجاز ـ عند من يقول به ـ قسيم الحقيقة .
فالكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز ؛ فإلى تفصيل الحديث حتى يتبين الأمر .
أولاً : تعريف الحقيقة : هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع . أو هي : استعمال اللفظ فيما وضع له في الأصل .
مثل كلمة ( أسد ) : تدل على الحيوان المعروف ، وكلمة ( الشمس ) : تدل على الكوكب العظيم المعروف ، وكلمة ( البحر ) : تدل على الماء العظيم الملح . . وهكذا جميع ألفاظ اللغة .
ثانياً : تعريف المجاز : المجاز في اللغة : اسم مكان كالمطاف والمزاز . والألف فيه منقلبة عن واو ، وقيل : هو مصدر ميمي .
وفي الاصطلاح : هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل ؛ لعلاقة بين المعنيين ـ الحقيقي والمجازي ـ مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي .
ثالثاً : شرح مفردات تعريف المجاز : قوله : ( في غير ما وضع له ) : أي المعنى الوضعي للَّفظ ، ويسمى الحقيقي أو الأصلي الذي ذكرته معاجم اللغة ، كوضع كلمة الأسد للحيوان المعروف الكاسر ، وكذلك القمر .
- قوله : ( لِعِلاقة ) : العلاقة هي الشيء الذي يربط بين المعنى الأصلي للفظ ، والمعنى المجازي ، كالشجاعة في قولك : رأيت أسداً يكرُّ بسيفه ! فالأسد هنا لا يقصد به الحيوان ؛ وإنما يقصد به الرجل الشجاع ، إذاً فقد انتقل من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي ، والعلاقة هي الشجاعة .
- قوله : ( القرينة ) ؛ القرينة : هي التي تمنع الذهن من أن ينصرف إلى المعنى الوضعي الأصلي للفظ ، مثل قولك ( يكر بسيفه ) في قولك : ( رأيت أسداً يكر بسيفه ) لأن الأسد لا يكر بالسيف ، فعلم أن المقصود باللفظ مجازه لا حقيقته ؛ لأن الأسد لا يحمل السيف .
وكذلك قولك في الرجل الكريم : جاء البحر ، ونحو ذلك من الأمثلة مما سيأتي ذكره .
(1/39)
رابعاً : " تطبيق " : إليك هذا التطبيق الذي يبين لك ما ذكر بصورة أجلى : قال أهل المدينة في استقبالهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قدم من تبوك هو وأصحابه :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
فالمجازات في هذا البيت واقع في لفظ ( البدر ) حيث يريدون به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا استعمال مجازي ؛ ذلك لأن الاستعمال الحقيقي للبدر إنما هو الكوكب العظيم الذي يكون في السماء ليلاً .
والعلاقة بين المعنيين ـ الحقيقي والمجازي ـ هي الحسن والإشراق ؛ فالبدر حسن مشرق ، وكذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي هي : ( من ثنيات الوداع ) فهي التي أثبتت مجازية البدر ، والسبب أن البدر الحقيقي لا يظهر بين ثنيات الوداع ـ وهي الجبال الصغيرة ـ وإنما يظهر في السماء ـ كما هو معلوم ـ فعلم بذلك أن اللفظ أريد به مجازه لا حقيقته .
خامساً : " أمثلة لألفاظ يتبين فيها الحقيقة من المجاز " :
1 / الشمس لها دلالتان : إحداهما حقيقية وهي دلالة الكوكب العظيم المعروف .
والأخرى مجازية وهي : الوجه المليح .
2 / البحر له دلالتان : إحداهما حقيقته ، وهي دلالته على الماء العظيم الملح .
والأخرى مجازية وهي : دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء أو العالم العزير العلم .
3 / اليد لها دلالتان : إحداهما حقيقته ، وهي الجارحة المعروفة ، كما تقول : كتبت بيدي .
والأخرى مجازية بمعنى النعمة ، كما تقول لفلانٍ عليَّ يدٌ ، أي : نعمة .
سادساً : كيف يُفرَّق بين الحقيقة والمجاز ؟
يفرق بسياق الكلام ، وقرائن الأحوال . ولا يمكن أن يقال : إن كلا الدلالتين ـ الحقيقية والمجازية ـ سواء ؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً ، كأن يقال : إن الشمس حقيقية في دلالتها على الكوكب والوجه المليح ، وأن البحر حقيقة في الماء العظيم الملح والرجل الجواد ؛ بل لابد من قرينة تخصص المعنى المراد .
(1/40)
سابعاً : لم سمي المجاز بهذا الاسم ؟
لأنه مأخوذ من قولهم : جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع ، إذا تخطاه إليه .
فالمجاز ـ إذاً ـ اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمزار ، والمعاج وأشباههما .
وحقيقته : الانتقال من مكان إلى مكان ؛ فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل ، كقولنا : زيد أسد ؛ فإن زيداً إنسان والأسد هو ذاك الحيوان المعروف . وقد جُزْنا الإنسانية ـ أي : تخطيناها وانتقلنا منها وعبرناها إلى الأسدية ؛ لِوُصلة بينهما ـ أي علاقة ، وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة ؛ فهذا هو سبب تسمية المجاز بهذا الاسم .
أما الحقيقة فهي : مأخوذة من كلمة حقَّ وهو الشيء الثابت ، ولعلك تشمُّ رائحة التضاد بين هاتين الكلميتين ؛ فالحقيقة ثبوت الشيء ، والمجاز تَعَدِّية .
ثامناً : هل كل مجاز له حقيقة ، وكل حقيقة لها مجاز ؟
والجواب : أن كل مجاز له حقيقة ؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة .
وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز .
تاسعاً : هل الأصل في الكلام الحقيقة أو المجاز ؟
والجواب : أن الأصل فيه الحقيقة ، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة ، كما مر في الأمثلة الماضية .
عاشراً : اختلاف العلماء في أصل وقوع المجاز :
اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن ، على ثلاثة أقوال :
1 / أن المجاز واقع في اللغة والقرآن : وهذا مذهب جماهير العلماء ، والمفسرين ، والأصوليين ، واللغويين ، والبلاغيين ، وغيرهم ؛ بل حكى الإجماع على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه ( الطراز ) غير أن في تلك الدعوى توسعاً ؛ لوجود المخالف المعتبر .
2 / إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن : وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني ، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
(1/41)
3 / أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن : وقد ذهب إلى ذلك وارد الظاهري ، وابنه محمد ، وابن القاصّ الشافعي وابن خويز منداد المالكي ، ومنذر بن سعيد البلوطي ، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي .
حادي عشر : حجة القائلين بمنعه :
القائلون بمنع المجاز في اللغة والقرآن ، أو في القرآن وحده يحتجون على ذلك بحجج منها :
1 / أن كل مجاز كذب يجوز نفيه : فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه ، قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ : " وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه ، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر ؛ فتقول لمن يقول : رأيت أسداً يرمي : ليس هو بأسد وإنما هو رجل شجاع ؛ فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه ، ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن " .
2 / أن القول بالمجاز ذريعة إلي نفي الصفحات الإلهية وتأويلها ، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ : " وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض الصفات قد شوهدت في الخارج صحته ، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم .
وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك ، فقالوا : لا يد ، ولا استواء ، ولا نزول ، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات لأن هذه الصفات لم تُرَدْ حقائقها ؛ بل هي عندهم مجازات ؛ فاليد سمتعملة عندهم في النعمة ، أو القدرة ، والاستواء في الاستيلاء ، والنزول نزول أمره ونحو ذلك ؛ فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول المجاز .
مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها ـ تعالى ـ لنفسه ، والإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه ، ولا تعطيل ولا تمثيل " .
(1/42)
فهذا السبب ـ أعني نفي الصفات عن طريق القول بالمجاز ـ هو من أعظم الأسباب التي دعت القائلين بإنكار المجاز إلى ذلك .
3 / ادعاء أن الألفاظ كلها حقيقة : والجزم بأن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب : قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن المجاز : " إنه غير معروف عن العرف ، ولم تقل الأمة في أول عصورها : هذا اللفظ حقيقة وذاك مجاز .
وإنما هو اصطلاح طارئ على الأمة بعد انقضاء القرون الثلاثة " .
وقد كرر ـ رحمه الله ـ ذلك في مواضع من كتبه ، خصوصاً في كتابه الإيمان ، وفي الأسماء والصفات من مجموع الفتاوى .
4 / أن إطلاق المجاز في القرآن يفضي ويؤدي إلى وصف الله بالمُتَجَوِّز : وذلك مما لم يرد الإذن به ؛ ذلك أن أسماء الله وصفاته توقيفية كما هو معلوم .
ثاني عشر : مناقشة مثبتي المجاز لمنكريه
1 / أن القول بأن كل مجاز كذب يجوز نفيه ليس صحيحاً : وإنما يكون المجاز كذباً لو أثبت المعنى على التحقيق لا على المجاز ، أي أنه إذا أطلق القمر ـ مثلاً ـ على إنسان بهي الطلعة يكون كذباً لو ادُّعي أنه القمر الذي في السماء حقاً .
ولا ريب أن هذا ليس بمرادٍ في المجاز ، وإنما المراد تشبيهه به في البهاء والحسن ، فأين الكذب ؟ !
وكذلك قولنا للبليد ( حمار ) ليس المقصود بأنه حمار في الشكل والخلقة وإلا لصح أن ينفى ويقال : ليس هو بحمار بل هو إنسان ؛ فالنفي هنا مُنصب على إرادة الحقيقة لا على المعنى المجازي ، وهذا لا يسمى كذباً ؛ لأن المتكلم جاء بقرينة تبين مراده ، وترفع اللبس ، ثم أن البلاغيين حرصوا في مصنفاتهم على أن يبينوا الفرق بين المجاز والكذب ؛ فهم متفقون على أن المجاز ليس كذباً ؛ لأن التجوُّز يضع بين يدي المجاز قرينة تصرف عن إرادة المعنى الأصلي للفظ .
أما الكذب فإن الكاذب يحرص فيه على إخفاء حاله ؛ ترويجاً للكذب الذي يريده .
(1/43)
ولقد عني البلاغيون بالقرائن عناية بالغة ، واستنبطوها من كلام العرب ، وفصلوا فيها القول تفصيلاً ؛ فإذا خلا المجاز من القرائن كان الكلام فاسداً لعدم دلالته .
2 / أن القول : بأن المجاز ذريعة إلى نفي الصفات الإلهية ، وتأويلها ليس مسوغاً لنفي المجاز ؛ ذلك أنه لا حجة لهؤلاء النفاة المعطلة فيما ذهبوا إليه .
وإنما هم أصحاب هوى وضلال ، ومن كانت هذه حاله ركبه كل صعب وذلول في سبيل هواه ، فاستدلالهم بالمجاز على نفي الصفات استدلال فاسد ، فنحن نجعله حجة عليهم لا لهم ؛ فيقال لهؤلاء النفاة المعطلة : إن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته وظاهره المتبادر ما لم تقم قرينة توجب صرفه عن هذه الحقيقة ، وذلك الظاهر لنا .
ثم إن الناس متعبدون باعتقاد الظاهر من أدلة الكتاب والسنة ما لم يمنع مانع .
وبناء على ذلك يقال لهؤلاء النفاة : إن النصوص الصحيحة القطعية أثبتت صفات الكمال لله تعالى كصفة الكلام ، واليد ، والاستواء ، والنزول ، والعلو ، والساق ، والقَدم ، والضحك ، والأصابع .
والنصوص الواردة في ذلك لا تظفر فيها بأي قرينة تنقلها عن معانيها الحقيقية التي دلت عليها ؛ فهي صفات حقيقية ثابتة للرب ـ سبحانه ـ على ما يلين به .
وادعاء هؤلاء المعطلة أن إثبات الصفات يلزم منه التمثيل ، وأن القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هي تنزيه الله سبحانه عن مماثلة المخلوقين ادعاء باطل متهافت ، ظاهر السقوط ؛ إذ لا يلزم من إثبات الصفات لله تمثيله وتشبيهه بخلقه ؛ فللخالق ـ سبحانه ـ صفات تليق به ، وللمخلوق صفات تليق به .
ثم إن مجيء نصوص الصفات متكاثرة يقطع بأن المراد منها معانيها الحقيقية ويدرأ عن تلك النصوص أن تكون مجازية أنها لا تقبل دعوى المجاز من جهة اللغة نفسها ، وتراكيب الكلم فيها ؛ فهي تأبى أن تبارح المعنى الحقيقي .
ونمثل بهذا المثال وهو قوله سبحانه : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) [النساء : 164] .
(1/44)
فلا يجوز أبداً أن يقال : إن الكلام في هذه الآية مجازي ، لأن الفعل ( كلَّم ) أُكِّد بالمصدر ( التكليم ) الدال على النوع .
وقد نقل أبو جعفر النحاس ( ت 338 ) إجماع النحاة على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً ، بل هو حقيقة قطعاً .
وكيف وقد قال ـ تعالى ـ : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) [الأعراف : 143] ؟ !
ومما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) [ص : 75] أنه قال : " لا يجوز أن تفسر بالقدرة ؛ لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يُعَبَّر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز أن يراد به النعمة ؛ لأن نعم الله ـ تعالى ـ لا تحصى .
وإذا أضيف الفعل إلى الفاعل ، وعُدِّي الفعل إلي اليد بحرف الباء كقوله ـ تعالى ـ : ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) [ص : 75] فإنه نصٌّ على أنه فعل الفعل بيديه .
فإذا قال القائل : بنيت الحجرة بيدي فلابد أن يكون باشر البناء بنفسه . إذا قال : هذا البيت بَنَتْه يداي يفهم منه أنه بناه بماله ، وفرق بين التركيبين " ا . هـ .
وبالجملة ، فالأمثلة على هذا النحو كثيرة جداً أو من خلالها يظهر أن نصوص الصفات لا تقبل المجاز من جهة نظمها ، وتركيبها ، وإضافتها إلى الله ـ عز وجل ـ .
كيف وأهل السنة مجمعون على الإقرار بأسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته وحملها على الحقيقة لا المجاز ؟ !
3 / أما القول بأن الألفاظ كلها حقيقة أو أن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب ـ فذلك يحتاج إلي نظر .
فإن أريد بذلك أن العرب لم يضعوا هذا المصطلح فنعم .
وإن أريد نه لا يوجد في كلامهم مجاز فهذا غير صحيح ، بل الشواهد من كلامهم على استعمال المجاز أكثر من أن تحصر ، وذلك مما استفاض به النقل عن علماء اللغة .
(1/45)
ثم إن القول إن هذا الاصطلاح لم يعرف إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة ـ غير مُسَلَّم به ؟ فقد تلكم بالمجاز غير واحد من علماء اللغة في أوقات القرون المفضلة ؟ ومن هؤلاء أبو زيد القرشي المتوفي سنة 170هـ .
ومن أهل اللغة من يعبر عن المجاز بـ : ( التوسع والسعة في الكلام ) .
4 / وأما القول بأن إطلاق المجاز يفضي إلى وصف الله بالمتجوز وذلك لا يصح ـ فيجاب عنه : بأنه لا يلزم ذلك لأن هذا الإطلاق لا يكون إلا بدليل .
ثم إن إطلاق المجاز على اللفظ في بعض استعمالاته اصطلاح ، ولا يلزم إضافة المعاني الاصطلاحية إلى الله ـ تعالى ـ وإلا ففي القرآن سجع ، وأمثال ، فهل يقال في حق الله ـ تعالى ـ : الساجع ، والممثل ؟
هذه بعض حجج القائلين بمنعه ورد القائلين به على سبيل الإيجاز .
ثالث عشر : خاتمة الحديث عن المجاز : وبعد أن وقفت عن شيء من أمر المجاز وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره ـ أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات .
فهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يشدد في النكير على القائلين بالمجاز .
وإلا لو كان الأمر مجرد اصطلاح لغوي لا يترتب عليه خوض في مسائل الشريعة لهان الخطب ، ولا حصل فيه كبير خلاف ولكن لما أدرك بعض العلماء خطورة ذلك وكثرة المبتدعين به سارعوا إلى إنكاره ؛ سداً للذريعة ، وعلى رأس هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مواطن كثيرة من كتبه ، وإن كان قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره .
يقول الشيخ عبدالمحسن العسكر ـ حفظه الله ـ في مقدمة مخطوطة له عن المجاز : " وأحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره ، فقد رأيت في ( محاسن التأويل ) لجمال الدين القاسمي ( ت 1332هـ ) ما هذا نصه :
(1/46)
" قال ابن تيمية في بعض فتاواه : نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله ، وبالتأويل الجاري على نهج السبيه ، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا أنا لا نقول بالمجاز والتأويل ، والله عند لسان كل قائل ، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب ، وما فتح به الباب إلى هدم السنة والكتاب ، واللحاق بمُحرِّفة أهل الكتاب .
والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز ، ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة .
وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم ، كأبي بكر بن أبي داود ، وأبي الحسن الخرزي ، وأبي الفضل التميمي ، وابن حامد وغيرهم إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز .
وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز ، قابلوا الضلال بحسم المواد ، وخيار الأمور التوسط ، والاقتصاد .
وبعد أن نقل الشيخ العسكر هذه الفتوى قال : " ومع أنني لم أهتد إلى هذه الفتوى في حظانها من المطبوع من مؤلفات شيخ الإسلام وفتاواه ـ فإن عدم اهتدائي هذا لا ينفي وجودها في كتابات الشيخ مطلقاً .
بَيْدَ أني مطمئن غير مرتاب في نسبة هذا الكلام إلى شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ وذلك لما يلي :
1 / أن المطبوع من أعمال شيخ الإسلام لا يمثل إلا القليل مما كتب في حياته كلها .
وأنت خبير أنه صاحب قلم سيال ، ومكثر من الكتابة جداً ، حتى قال الذهبي : " جاوزت فتاوى ابن تيمية ثلاثمائة مجلد " .
2 / أن من له أدنى صلة بتراث شيخ الإسلام لا ينازع في أن هذا النَّفَسَ نَفَسُه ، والأسلوب أسلوبه ، وقد وقف على هذه الفتوى بعض العلماء فأجابوا بذلك منهم فضيلة الشيخ محمد العثيمين ـ رحمه الله ـ وشيخنا عبدالرحمن البراك أحسن الله إليه .
(1/47)
3 / أن الذي نقل هذه الفتوى من أعظم الناس اطلاعاً في هذا العصر على كتابات الشيخ وتلميذه ابن القيم ، وكان يعيش في بلاد الشام بلاد الشيخين ، ومؤلفات القاسمي وخاصة تفسيره طافحة بالنقولات الكثيرة عنهما .
ثم إنه أحد القلة في عصره الذين نهضوا بالمنهج السلفي ، ومناصرته ، وأوذي في ذلك أذىً كثيراً .
وما كان الشيخ ليلصق بشيخ الإسلام قولاً يتطرق الشك في نسبته إليه " .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
(1/48)
توحيد الألوهية
للشيخ
محمد بن إبراهيم الحمد
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً ـ .
أما بعد:
فغير خافٍ على من عنده أدنى إلمام بعلم العقيدة ـ ما لتوحيد الألوهية من الأهمية؛ فهو توحيد العبادةِ، والعبادةُ هي الغاية المرضية والمحبوبة لله ـ عز وجل ـ وهي الغاية العظمى والمقصود الأسمى؛ فلأجلها خلقت الجنة والنار، وقام سوق الجهاد بين المؤمنين والكفار، ولأجلها أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل.
ثم إن توحيد الألوهية دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اقتفى أثرهم من العلماء، والدعاة والمصلحين.
وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن توحيد الألوهية، وذلك من خلال المباحث التالية:
- تعريف توحيد الألوهية.
- أسماؤه الأخرى.
- أهمية توحيد الألوهية.
- أدلته.
- أركانه.
- تعريف العبادة لغةً، واصطلاحاً.
- الفرق بين العبادة وتوحيد العبادة.
- متى تقبل العبادة؟.
- أهمية الإخلاص والمتابعة.
- أركان العبادة.
- أيُّهما يغلب، الرجاء أو الخوف؟.
- الخوف الواجب والخوف المستحب.
- أنواع العبادة.
- عبودية الخلق لله ـ عز وجل ـ.
- فضائل توحيد الألوهية.
- أسباب نمو التوحيد في القلب.
- طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم.
- علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية في القرآن الكريم.
- ما ضد توحيد الألوهية؟.
- الفرق التي أشركت في توحيد الألوهية.
هذا ما تيسر جمعه وتقييده في هذا الباب، فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفع بهذه الصفحات، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تعريف توحيد الألوهية
(1/1)
عرف العلماء توحيد الألوهية بتعريفات متقاربة، إلا أن بعضها قد يكون أطول من بعض، فمن تلك التعريفات مايلي:
1- هو إفراد الله بأفعال العباد.
2- هو إفراد الله بالعبادة.
3- هو إفراد الله ـ تعالى ـ بجميع أنواع العبادة؛ الظاهرة، والباطنة، قولاً، وعملاً، ونفي العبادة عن كل من سوى الله ـ تعالى ـ كائناً من كان.
4- وعرفه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ بتعريف جامع ذكر فيه حد هذا التعريف، وتفسيره، وأركانه، فقال: " فأما حدُّه، وتفسيره، وأركانه ـ فهو أن يعلم، ويعترف على وجه العلم، واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة بأحد من المخلوقات، ولا يستحقها إلا الله ـ تعالى ـ.
فإذا عرف ذلك واعترف به حقَّاً أفرده بالعبادة كلها؛ الظاهرة، والباطنة، فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة: كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الله، وحقوق خلقه.
ويقوم بأصول الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره لله.
لا يقصد به غرضاً من الأغراض غير رضا ربِّه، وطلب ثوابه، متابعاً في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فعقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة، وأعماله وأفعاله ما شرعه الله ورسوله، وأخلاقه، وآدابه الاقتداءُ بنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هديه، وسمته، وكل أحواله.
قال الشيخ حافظ الحكمي ـ رحمه الله ـ عن هذا النوع في منظومته سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد:
هذا وثاني نوعي التوحيد إفرادُ ربِّ العرش عن نديد
أن تعبد الله إلهاً واحداً معترفاً بحقه لا جاحدا
أسماؤه الأخرى
توحيد الألوهية يسمى بعدة أسماء منها:
(1/2)
1- توحيد الألوهية ـ كما مر ـ وسمي بذلك، باعتبار إضافته إلى الله، أو باعتبار الموحِّد، ولأنه مبني على إخلاص التأله، وهو أشد المحبة لله وحده، وذلك يستلزم إخلاص العبادة.
2- توحيد العبادة؛ باعتبار إضافته إلى الموحِّد وهو العبد، ولتضمنه إخلاص العبادة لله وحده.
3- توحيد الإرادة؛ لتضمنه الإخلاص، وتوحيد الإرادة والمراد، فهو مبني على إرادة وجه الله بالأعمال.
4- توحيد القصد؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده.
5- التوحيد الطلبي؛ لتضمنه الطلب، والدعاء من العبد لله.
6- التوحيد الفعلي؛ لتضمنه لأفعال القلوب والجوارح.
7- توحيد العمل؛ لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده.
أهميته
توحيد الألوهية أهم أنواع التوحيد، فمن أجل تحقيقه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين.
يقول الشيخ حافظ الحكمي عن أهميته في منظومته.
وهو الذي به الإله أرْسلا رسْلَه يدعون إليه أولا
وأنزل الكتابَ والتبيانا من أجله وفرَّق الفرقانا
وكلف الله الرسولَ المجتبى قتالَ من عنه تولى وأبى
حتى يكونَ الدينُ خالصاً له سراً وجهراً دقَّه وجلَّه
وهكذا أمته قد كلفوا بذا وفي نص الكتاب وصفوا
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية توحيد العبادة: " وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها كما قال الله ـ تعالى ـ : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].
وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [الأعراف: 59].
(1/3)
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: " وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال ـ تعالى ـ : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) [الأنبياء: 19 - 20].
وذم المستكبرين عنها بقوله : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [غافر: 60].
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال ـ تعالى ـ : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) [الإنسان: 6] وقال : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) [الفرقان: 63] ".
وقال رحمه الله في موطن آخر: "واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ـ ليس له نظير فيقاس عليه، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقةَ العبدِ قلبُه وروحُه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا يطمئن بالدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه، ولو حصل للعبد لذاتٌ أو سرورٌ بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ ـ غير منعمٍ ولا ملتذٍ له، بل قد يؤذيه اتصالُه به، ووجوده عنده، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلابد له منه في كل حال، وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ) [الأنعام: 76].
وكان أعظم آية في القرآن الكريم : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) [البقرة: 255] ".
(1/4)
وقال ـ رحمه الله ـ : " فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله ـ سبحانه ـ ومن عبد غير الله ـ وإن أحبه، وحصل به مودة في الحياة الدنيا، ونوع من اللذة ـ فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم ".
وقال ـ رحمه الله ـ: " واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه ".
وقال : " فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد، فإن فقد عُذِّب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثرُ مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار بالاستقراء.
وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثرُ من نفعه؛ فصارت المخلوقات وبالاً عليه، إلا ما كان لله وفي الله؛ فإنه كمال وجمال للعبد.
وهذا معنى ما يروى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ".
وقال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية هذا النوع: " وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها، وأفضلها، وأوجبها، وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجنَّ والإنسَ لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائعَ لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين ".
ومما يدل على أهميته أن قبول الأعمال متوقف عليه، وأنه يتضمن جميع أنواع التوحيد فكلها تدخل فيه؛ فمن اعتقده فهو معتقد لغيره من الربوبية والأسماء والصفات، ومن اكتفى بغيره دونه لم يدخل في دين الإسلام.
أدلة توحيد الألوهية
(1/5)
لقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة، وتنوعت دلالتها في وجوب إفراد الله بالعبادة؛ّ َفتارة تأتي نصوص الكتاب آمرةً بتوحيد الله أمراً مباشراً، وتارة تأتي مبينةً الغاية من خلق الجن والإنس، وتارة تأتي موضحةً الهدف من إسال الرسل وإنزال الكتب، وتارة تأتي محذرةً من مخالفته، وتارة تأتي لبيان ثواب من عمل به في الدنيا والآخرة، وتارة لبيان عقوبة من تركه، وتخلى عنه، أو ناوأه، وحارب أهله.
فمن تلك الأدلة من الكتاب والسنة على وجود إفراد الله بالعبادة قوله ـ تعالى ـ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة: 21]، وقوله : ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) [هود: 123]، وقوله : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) [قريش: 3]، وقوله : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [النساء: 36]، وقوله : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [الأنعام: 151]، وقوله : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) [الإسراء: 23]، وقوله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56]، وقوله : ( وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ) [الإسراء: 39]، وقوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الفاتحة: 5]، وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [الأنبياء: 25] وقوله : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [النحل: 36].
(1/6)
ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار فقال لي: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟.
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً.
قلت: أفلا أبشر الناس؟.
قال: لا تبشرهم فيتكلوا ".
أركان توحيد الألوهية
توحيد الألوهية يقوم على أركان ثلاثة هي:
1- توحيد الإخلاص: ويسمى توحيد المراد، فلا يكون للعبد مرادٌ غير مراد واحد وهو الله - سبحانه وتعالى - فلا يزاحمه مرادٌ آخر.
2- توحيد الصدق: ويسمى توحيد إرادة العبد، وذلك بأن يبذل جهده وطاقته في عبادة ربه.
3- توحيد الطريق: وهو المتابعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ أعني سبيل الحق والإيمان
فقوله: ( فلواحدٍ ): أي لله، وهذا هو توحيد المراد.
وقوله: ( كن واحداً ): في عزمك، وصدقك، وإرادتك، وهذا هو توحيد الإرادة.
وقوله ( في واحد ): هو متابعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي هو طريق الحق والإيمان، فهذا هو توحيد الطريق.
والأدلة على هذه الأركان الثلاثة كثيرة، فمن أدلة الإخلاص قوله ـ تعالى ـ : ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [البينة: 5] ودليل الصدق قوله - تعالى - : ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً
) [محمد: 21]، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) [التوبة: 119]، ودليل المتابعة قوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ ) [آل عمران: 31].
فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح، ولا ينقص كمال العبد إلا بنقص واحد من هذه الأشياء.
(1/7)
تعريف العبادة لغةً، واصطلاحاً
تعريف العبادة لغةً: هي التذلل والخضوع فيقال بعير معبد أي مذلل، وطريق معبد أي مذلل، ذللته الأقدام.
ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته المشهورة يصف ناقته:
تباري عتاقاً ناجيات وأتبعت وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد
فقوله: فوق مور معبد: أي فوق طريق مذلل من كثرة السير عليه، فالمور هو الطريق.
تعريف العبادة في الاصطلاح: عرفت العبادة في الاصطلاح بعدة تعريفات، ومنها ما يلي:
1- عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بأنها: " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ".
2- وعرفها ابن القيم بأنها: " كمال المحبة مع كمال الذل ".
وقال في النونية:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
3- وعرفها الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ بعدة تعريفات منها قوله:
" العبادة روحُها وحقيقتُها تحقيقُ الحبِّ والخضوع لله؛ فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما ـ فليست عبادة؛ فإن حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة التي تتبعها المحاب كلها ".
4- وعرفها بتعريف ثانٍ فقال: " العبادة والعبودية لله اسم جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، فكل ما يقرب إلى الله من الأفعال، والتروك فهو عبادة، ولهذا كان تارك المعصية لله متعبداً متقرباً إلى ربه بذلك ".
ومما ينبغي التنبيه عليه أن العبادة تطلق إطلاقين:
1- الفعل الذي هو التَّعَبُّد.
2- المفعول وهو المُتَعَبَّدُ به أو القربة.
مثال ذلك الصلاة ففعلها عبادة وهو التعبد، وهي نفسها عبادة وهي المتعبد به.
فعلى الإطلاق الثاني تُعَرَّف العبادة بتعريف شيخ الإسلام، وعلى الإطلاق الأول تُعَرَّف بالتعريف الثاني والثالث.
أما التعريف الرابع الذي هو تعريف ابن سعدي فإنه يشمل الإطلاقين الفعل والمفعول.
(1/8)
ومن التعريفات لها أيضاً " الأعمال الصالحة الإرادية التي تُؤَدَّى لله ـ تعالى ـ ويفرد بها ".
وهذا يشمل الإطلاقين أيضاً.
الفرق بين العبادة وتوحيد العبادة
الفرق بينهما ظاهر؛ فالعبادة هي ذات القربة أو فعلها.
أما توحيدها فصرفها لله وحده لا شريك له.
متى تقبل العبادة ؟
لا تقبل العبادة إلا إذا توفر فيها شرطان:
1- الإخلاص لله.
2- المتابعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : " وجماع الدين أصلان: أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال ـ تعالى ـ : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) [الكهف: 110].
وذلك تحقيق الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية : أن محمداً هو رسوله المبلغ عنه؛ فعلينا أن نصدق خبره، ونطيع أمره ".
فمن أراد عبادة الله فلابد له من توفر الشرطين ولسان حاله يقول : ( إياك أريد بما تريد ).
قال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ في قوله ـ تعالى ـ : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) [الملك: 2].
قال: أخلصه وأصوبه.
قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟
قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
فإذا فُقِد الشرطان أو أحدُهما بطلت العبادة.
وتوضيح ذلك بالمثال الآتي: لو أن شخصاً صلى لغير الله وعلى صفة غير الصفة التي علمنا إياها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لردت عبادته، لماذا؟.
لأنه فقد الشرطين معاً.
كذلك لو صلى كما كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي؛ بحيث أتى بصفة الصلاة كاملة، ولكنها صرفها لغير الله لبطلت عبادته، لماذا؟.
(1/9)
لأنه فقد الإخلاص، والله سبحانه يقول : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [النساء: 48] وقال : ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [الأنعام: 88].
كذلك لو صلى لله ولكن على صفة غير الصفة التي علمنا إياها الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ بحيث ابتدع صفة من عنده بطلت عبادته؛ لأنه فقد المتابعة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في الحديث المتفق عليه : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
أي مردود، والجار والمجرور في قوله "عليه" متعلق بمحذوف تقديره (حاكماً أو مهيمناً).
وفي رواية أخرى للحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ".
وهذان الشرطان ـ في الحقيقة ـ متلازمان؛ فإن من الإخلاص لله أن تتبع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتباعُه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مستلزم للإخلاص.
أهمية الإخلاص والمتابعة
مما يدل على أهمية الإخلاص والمتابعة اللذين هما شرطا قبول العبادة مايلي:
1- أن الله أمر بإخلاص العبادة له، قال ـ تعالى ـ : ( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [الأعراف: 29].
2- أن الله ـ تعالى ـ اختص نفسه بالتشريع، فهو حقه وحده، ومن تَعَبَّد الله بغير ما شرع فقد شارك الله ـ عز وجل ـ في تشريعه، قال ـ تعالى ـ : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) [الشورى: 13].
وقال : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) [الأنعام: 153].
3- أن الله أنكر على من يشرع من عند نفسه، قال ـ تعالى ـ : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [الشورى: 21].
(1/10)
4- أن الله أكمل لنا الدين، ورضيه لنا، قال ـ تعالى ـ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ) [المائدة:3].
فالابتداع في الدين إنما هو في الحقيقة استدراك على الله وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتهام للدين بالنقص.
5- أنه لو جاز للناس أن يتعبدوا بما شاءوا، كيفما شاءوا ـ لأصبح لكل إنسان طريقتُه الخاصة بالعبادة، ولأصبحت حياةُ الناس جحيماً لا يطاق؛ إذ يسود التناحر والتنافر؛ لاختلاف الأذواق، مما يؤدي إلى الشقاق والافتراق؛ والاتباعُ وترك الابتداع أعظمُ سببٍ للائتلاف والاجتماع.
6- لو جاز للناس أن يعبدوا الله بما شاءوا كيفما شاءوا ـ لترتَّب على ذلك عدم حاجة الناس إلى الرسل، ولا يقول بهذا عاقل.
أركان العبادة
للعبادة ثلاثة أركان، هي:
1- الحب 2- الخوف 3- الرجاء
وجعلها بعض أهل العلم أربعة: الحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء.
ولا تعارض بين الأمرين؛ فإن الرجاء ينشأ من الحب، فلا يرجو الإنسان إلا من يحب، وكذلك الخوف ينشأ من التعظيم، فلا يخاف الإنسان إلا من عظيم.
وقد أثنى الله على أهل الخوف والرجاء من النبيين والمرسلين فقال : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) [الأنبياء: 90].
ومدح القائمين بذلك من سائر عباده، فقال : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) [الزمر: 9]، وقال : ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ) [الإسراء: 57]، وقال : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) [السجدة: 16].
كما أمر ـ عز وجل ـ باستحضار ذلك وقصْدِه فقال : ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) [الأعراف: 56].
(1/11)
هذه هي عبادة الأنبياء والمرسلين، وعباد الله المؤمنين، فمن ذا الذي هو أحسن منهم؟ وأكمل من هديهم؟ وهل تقبل دعواه؟!!
الجواب: لا، فالخوف والرجاء متلازمان؛ فكلاهما بريد الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فلو سألت من لا يزني من المؤمنين ـ مثلاً ـ مع قدرته على الزنا: لم لا تزني؟ لبادر بقوله: إني أخاف الله، وأرجو ثوابه.
ولو سألت المصلي لِمَ تصلي؟ لقال: خوفاً من الله وطمعاً في ثوابه، وهكذا...
فغير الله قد يُحَبُّ ولكن لا يُخاف منه، وقد يُخاف منه ولكن لا يُحب.
أما الله ـ عز وجل ـ فيجتمع الأمران في حقه؛ فيُخاف ويحب، فلابد للمؤمن ـ إذاً ـ من الجمع بين الحب، والخوف، والرجاء، والتعظيم.
أما العبادة بالحب وحده فلا تكفي، وليست صحيحة؛ لأنها لا تتضمن تعظيماً لله، ولا خشيةً منه؛ إذ إن صاحبها يجعل الله ـ سبحانه ـ بمنزلة الوالد والصديق، فلا يتورع من اقتراف المحرمات، بل يستهين بها بحجة أن الحبيب لا يعذب حبيبه، كما قالت اليهود والنصارى : ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) [المائدة: 18]، وكما يقول غلاة الصوفية: نحن نعبد الله لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، إنما نعبد الله حباً له كما عبر بذلك كثير منهم كرابعة العدوية التي تقول:
أحبك حبين حبَّ الهوى وحبَّاً لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجبَ حتى أراكا
وكما قال ابن عربي:
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
ولا شك أن هذا مسلك باطل، وطريقة فاسدة، لها آثار وخيمة منها الأمن من مكر الله، وغايته الخروج من الملة؛ فالذي يتمادى في التفريط والخطايا ويرجو رحمة ربه بلا عمل يقع في الغرور، والأماني الباطلة، والرجاء الكاذب.
(1/12)
كذلك العبادة بالخوف وحده، دون الحب والرجاء ليست صحيحة، بل هي باطلة فاسدة، وهي طريقة الخوارج الذين لا يجعلون تعبدهم لله مقروناً بالمحبة، فلا يجدون للعبادة لذة، ولا إليها رغبة، فتكون منزلة الخالق عندهم كمنزلة سلطان جائر، أو ملك ظالم، وهذا مما يورث اليأس أو القنوط من رحمة الله، وغايته الكفر بالله، وإساءة الظن به، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني ".
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول قبل وفاته بثلاث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ـ عز وجل ـ ".
وحسن الظن هو الباعث على العمل؛ الذي يلزم منه تحري الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرةِ عند الاستغفار والإثابةِ عند العمل.
أما ظن المغفرة والإجابة والإثابة مع الإصرار على الذنوب والتقصير في العمل ـ فليس من حسن الظن في شيء، بل هو سَفهٌ وجهل وغرور.
فلابد للعابد أن يكون الله أحبَّ إليه من كل شيء، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كل شيء؛ فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله؛ فإنك إذا خفته فررت إليه، فالخائف من الله هارب إليه قال ـ تعالى ـ : ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ) [الذاريات: 50].
وهناك مقولة مشهورة عند السلف، وهي قولهم، من عَبَدَ الله بالحب وحده ـ فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبده بالخوف، والرجاء، والحب، فهو مؤمن موحد.
أيهما يُغلّب، الرجاء أو الخوف ؟
الجواب: أنه اختُلف في ذلك على أقوال منها:
1- قيل: ينبغي أن يغلِّب الإنسان جانب الخوف؛ ليحمله ذلك على فعل الطاعة وترك المعصية.
2- وقيل: يغلِّب جانب الرجاء؛ ليكون متفائلاً والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يعجبه الفأل.
(1/13)
3- وقيل: في فعل الطاعة يغلب الرجاء؛ لينبعث إلى العمل؛ فالذي منَّ عليه بالطاعة سَيَمُنُّ عليه بالقبول، ولهذا قال بعض السلف: إذا وفقك الله للدعاء فانتظر الإجابة؛ لأنه يقول : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر: 60].
وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف؛ لأجل أن يمنعه ذلك من فعل المعصية قال ـ تعالى ـ : ( قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [الأنعام: 15].
وهذا قريب ولكن ليس بالقرب الكامل، إذ قد يُعْتَرض عليه بقوله ـ تعالى ـ : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) [المؤمنون: 60].
4- وقيل: يغلب جانب الخوف في الصحة، وجانب الرجاء في المرض.
5- وقيل: هما كجناحي الطائر، فالمؤمن يسير إلى الله بجناحين هما الرجاء والخوف، فإذا استويا تم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
6- وقيل يختلف من شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، والله أعلم.
" الخوف الواجب والخوف المستحب "
الخوف الواجب هو ما يحمل على فعل الواجبات وترك المحرمات.
والخوف المستحب هو ما يحمل على فعل المستحبات، وترك المكروهات.
أنواع العبادة
العبادة لها أنواع كثيرة، فبعضها قولي؛ كشهادة أن لا إله إلا الله، وبعضها فعلي؛ كالجهاد في سبيل الله، وإماطة الأذى عن الطريق، وبعضها قلبي؛ كالحياء، والمحبة، والخوف، والرجاء، وغيرها، وبعضُها مشترك كالصلاة مثلاً فإنها تجمع ذلك كله.
ومن أنواع العبادة ـ زيادة على ما سبق ـ الزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للمنافقين والكفار، والإحسان إلى الحيوان، والأيتام، والمساكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والدعاء، والذكر، وكذلك الذبح، والنذر، والاستعاذة، والاستغاثة، والاستعانة، والتوكل، والتوبة، والاستغفار.
(1/14)
وهذه العبادات لا يجوز صرفها إلا لله، ومن صرفها لغيره فقد أشرك.
عبودية الخلق لله
تنقسم عبودية الخلق لله إلى ثلاثة أقسام:
1- عبودية عامة: ويشترك فيها كافة الخلق؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
قال ـ تعالى ـ : ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ) [مريم: 93].
فهذه عبودية الربوبية فالخق كلهم عبيد لله مربوبون له.
2- خاصة: وهي عبودية الألوهية، وهي عبودية عباد الله الصالحين وهم كل من تعبد لله بشرعه، وأخلص في عبادته.
قال ـ تعالى ـ : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً ) [الفرقان: 63].
ولهذا أضافهم إلى اسمه إشارة إلى أنهم وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، وهذه إضافة التشريف.
3- خاصة الخاصة: وهي ـ أيضاً ـ عبودية الألوهية، وهي للأنبياء والمرسلين الذين لا يباريهم ولا يدانيهم أحد في عبادتهم لله، قال ـ تعالى ـ : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا ) [ص: 45]، وقال عن نوح : ( إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ) [الإسراء: 3]، وقال عن داود ـ عليه السلام ـ : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) [ص: 17]، وقال عن محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ) [الإسراء: 1]، وقال : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ) [الجن: 19].
فضائل توحيد الألوهية
توحيد الله، وإفراده بالعبادة أجَلُّ النِّعم وأفضلها على الإطلاق، وفضائله وثمراته لا تعد ولا تحد، ففضائل التوحيد، كثيرة تنتظم خيري الدنيا والآخرة، ومن تلك الفضائل مايلي:
(1/15)
1- أنه أعظم نعمة أنعمها الله على عباده، حيث هداهم إليه، كما جاء في سورة النحل التي تسمى سورة النعم، فالله ـ عز وجل ـ قدم نعمة التوحيد على كل نعمة، فقال في أول سورة النحل : ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ ) [النحل: 2].
2- أنه الغاية من خلق الجن والإنس : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].
3- أنه الغاية من إنزال الكتب ومنها القرآن، قال ـ تعالى ـ فيه: ( آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) [هود: 1 - 2].
4- أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة، ودفع عقوبتهما كما في قصة يونس ـ عليه السلام ـ.
5- أنه يمنع من الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل.
6- أنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية كما في حديث عتبان في الصحيحين؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ".
7- حصول الاهتداء الكامل، والأمن التام لأهله في الدنيا والآخرة ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) [الأنعام: 82].
8- أنه السبب الأعظم لنيل رضا الله وثوابه.
9- أن أسعد الناس بشفاعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
10- أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها - على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
(1/16)
11- أنه يسهل على العبد فعل الخيرات، وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات؛ فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده ـ تخف عليه الطاعات؛ لما يرجوه من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي؛ لما يخشى من سخطه وأليم عقابه.
12- أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكره إليه الكفر، والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
13- أنه يخفف على العبد المكاره، ويهون عليه الآلام؛ فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح، ونفس مطمئنة، وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
14- أنه يحرر العبد من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم، وخوفهم، ورجائهم، والعمل لأجلهم.
وهذا هو العز الحقيقي، والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
15- ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء ـ أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب، وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام ـ فإنه يُصَيِّر القليل من العمل كثيراً، وتضاعف أجور صاحبه بغير حصر ولا حساب.
16- أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر، والعز والشرف، وحصول الهداية، والتيسير لليسرى، وإصلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
17- أن الله يدافع عن الموحدين شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة، والطمأنينة إليه وبذكره.
وشواهد ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، فمن حقق التوحيد حصلت له هذه الفضائل كلها وأكثر منها، والعكس بالعكس.
أسباب نمو التوحيد في القلب
التوحيد شجرة تنمو في قلب المؤمن، فيبسقُ فرعها، ويزداد نموها، ويزدان جمالها كلما سقيت بالطاعة المقربة إلى الله ـ عز وجل ـ، فتزداد بذلك محبة العبد لربه، ويزداد خوفه منه، ورجاؤه له، ويقوى توكله عليه، وبهذا يكتمل التوحيد ويتحقق؛ فليس تحقيقه بالتمني، ولا بالدعاوى الخالية من الحقائق.
(1/17)
وإنما يتحقق بما وقر في القلب من عقائد الإيمان، وحقائق الإحسان، وصدّقته الأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة الجليلة.
ومن الأسباب التي تنمي التوحيد في القلب ما يلي:
1- فعل الطاعات؛ رغبة بما عند الله.
2- ترك المعاصي؛ خوفاً من عقاب الله.
3- التفكر في ملكوت السموات والأرض.
4- معرفة أسماء الله وصفاته ومقتضياتها وآثارها، وما تدل عليه من الجلال والكمال.
5- التزود من العلم النافع، والعمل به.
6- قراءة القرآن بالتدبر، والتفهم لمعانيه وما أريد به.
7- التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بالنوافل بعد الفرائض.
8- دوام ذكر الله على كل حال؛ باللسان والقلب.
9- إيثار ما يحبه الله عند تزاحم المحاب.
10- التأمل في نعم الله الظاهرة والباطنة، ومشاهدة بره وإحسانه، وإنعامه على عباده.
11- إنكسار القلب بين يدي الله، وافتقاره إليه.
12- الخلوة بالله وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الآخير، وتلاوة القرآن في هذا الوقت، وخَتْمُ ذلك بالاستغفار، والتوبة.
13- مجالسة أهل الخير والصلاح، والإخلاص، والمحبين لله ـ عز وجل ـ والاستفادة من كلامهم وسمتهم.
14- الابتعاد عن كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشواغل.
15- ترك فضول الكلام، والطعام، والخلطة، والنظر.
16- أن يحب العبد لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، وأن يجاهد نفسه على ذلك.
17- سلامة القلب من الغل للمؤمنين، وسلامته من الحقد، والحسد، والكبر، والغرور، والعجب.
18- الرضا بتدبير الله ـ عز وجل ـ.
19- الشكر عند النعم، والصبر عند النقم.
20- الرجوع إلى الله عند ارتكاب الذنوب.
21- كثرة الأعمال الصالحة من بر، وحسن خلق، وصلة أرحام، إلى غير ذلك.
22- الاقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل صغيرة وكبيرة.
23- الجهاد في سبيل الله.
24- إطابة المطعم.
25- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية في القرآن الكريم
(1/18)
تنوعت طرق الدعوة إلى توحيد الألوهية وأساليبها في القرآن الكريم، فمن ذلك ما يلي:
1- أمره ـ سبحانه ـ بعبادته، قال ـ تعالى ـ : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) [النساء: 36].
2- النهي عن عبادة مَنْ سواه كما في قوله ـ تعالى ـ : ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 22].
3- إخباره ـ سبحانه وتعالى ـ أنه خلق الخلق لعبادته كما في قوله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
4- إخباره أنه أرسل الرسل بالدعوة إلى عبادته، والنهي عن عبادة من سواه كما في قوله : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [النحل: 36].
5- الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية؛ فإذا كان الله ـ تعالى ـ هو الخالق الرازق الذي أنعم عليك بالنعم الظاهرة والباطنة ولم يشاركه في ذلك مشارك ـ فعليك أن لا تتأله لغيره، ولا تتعبد لسواه، ويلزمك أن تخصه بالتوحيد كما قال ـ تعالى ـ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
6- الاستدلال على وجوب عبادته بكونه النافع، الضار، المعطي، المانع؛ فمن اتصف بهذه الصفات فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه.
7- الاستدلال على وجوب عبادته بانفراده بصفات الكمال، وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) [مريم: 65].
وقوله : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [الأعراف: 180].
وقوله عن خليله ـ عليه السلام ـ أنه قال لأبيه : ( إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) [مريم: 42].
(1/19)
8- الاستدلال على وجوب عبادته بدقة صنعه ـ سبحانه وتعالى ـ فكلما تدبر العاقل ذلك، وتغلغل فكره فيه، وازداد تأمله في ذلك ـ علم أنه هو المستحق للعبادة.
9- الاستدلال على وجوب عبادته بتعدد نعمه، فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة فمن الله - وحده - وأن أحداً من المخلوقين لا ينفع أحداً إلا بإذن الله، وأن الله هو النافع الضار ـ علم أن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
10- تعجيزه لآلهة المشركين كقوله ـ تعالى ـ : ( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) [الأعراف: 191 - 192]، وقوله : ( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ) [الإسراء: 56]، وقوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [الحج: 73].
11- تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأنبياء: 66 - 67]، وقوله : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) [البقرة: 130].
(1/20)
12- بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبوداتُ في أحرج المواقف كما قال ـ تعالى ـ : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ ) [البقرة: 165 - 167]، وقوله : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) [فاطر: 14].
13- بيان مصير الموحدين وعاقبتهم في الدنيا والآخرة كما قال عن إمامهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ : ( وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ) [البقرة: 130]، وقوله : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) [الأنعام: 82].
(1/21)
14- رده على المشركين باتخاذ الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له ـ سبحانه ـ لا تطلب من سواه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وبعد رضاه عن المشفوع له، قال ـ سبحانه ـ : ( أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ )[الزمر: 43 - 44] وقال : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) [البقرة: 255].
15- بيان أن هؤلاء المعبودين من دون الله لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه كما قال ـ تعالى ـ : ( قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) [سبأ: 22 - 23].
16- ذكر البراهين والأمثلة الدالة على بطلان الشرك، وسوء عاقبته، مما يجعل النفوس السليمة تنفر منه، قال ـ تعالى ـ : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) [الحج: 31].
علاقة توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية
أنواع التوحيد متلازمة، وبعضها مرتبط ببعض، وفيما يلي يتبين لنا شيء من علاقة توحيد الألوهية؛ بتوحيد الربوبية والعكس:
1- توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية؛ بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الألوهية؛ فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره، وقد دعاه هذا الخالق إلى عبادته ـ وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له؛ فإذا كان هو الخالق الرازق النافع الضار وحده ـ لزم إفراده بالعبادة.
(1/22)
2- توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمناً في توحيد الألوهية، فمن عَبَدَ الله وحده لا شريك له فلابد أن يكون معتقداً أنه ربه وخالقه ورازقه؛ إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر.
3- الربوبية عمل قلبي لا يتعدى القلب، ولذا سمي توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي.
أما الألوهية فهو عمل قلبي وبدني، فلا يكفي فيه عمل القلب، بل يتعداه إلى السلوك والعمل قصداً لله وحده لا شريك له.
4- أن توحيد الربوبية لا يكفي وحده؛ ذلك لأن توحيد الربوبية مركوز في الفطر، فلو كان كافياً لما احتاج الناس إلى بعثة الرسل، وإنزال الكتب، فلا يكفي أن يقر الإنسان بما يستحق الرب ـ تعالى ـ من الصفات، وأنه الرب الخالق وحده.
ولا يكون موحداً إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله هو المألوه المعبود وحده، ويعبده بمقتضى هذه المعرفة.
5- توحيد الألوهية هو الذي جاءت به الرسل، وهو الذي حصل به النزاع بين الرسل ـ عليهم السلام ـ وبين أممهم، كما قال قوم هود لنبيهم هود ـ عليه السلام ـ عندما قال لهم : ( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) [الأعراف: 59] ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [الأعراف: 70].
وكما قال كفار قريش لما أُمِروا بإفراد الله بالعبادة : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) [ص: 5].
أما توحيد الربوبية فإنهم لم ينكروه، بل إن إبليس لم ينكره ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) [الحجر: 39].
6- أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا فترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل لفظ ما يراد به، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ ) [الناس: 1 - 3].
(1/23)
فيكون معنى الرب: هو المالك المتصرف، وهذا توحيد الربوبية، ويكون معنى الإله: المعبود بحق المستحق للعبادة دون سواه وهذا توحيد الألوهية.
وتارة يذكر أحدهما مفرداً عن الآخر فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر: " من ربك؟ ومعناه: من إلهك؟ " وكما في قوله ـ تعالى ـ : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) [الحج: 40]، وقوله : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً ) [الأنعام: 164]، وقوله عن الخليل ـ عليه السلام ـ : ( رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) [البقرة: 258] وكما في قوله ـ تعالى ـ : ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) [النمل: 62].
7- لابد لسلامة التوحيد، والفوز بالدارين من تحقيق هذين الأمرين.
ما ضد توحيد الألوهية ؟
1- الشرك؛ الذي يذهب به بالكلية.
2- البدع؛ التي تذهب بكماله الواجب.
3- المعاصي؛ التي تقدح فيه، وتنقص ثوابه
الفرق التي أشركت في توحيد الألوهية
الفرق التي أشركت في هذا النوع من التوحيد كثيرة منها:
1- اليهود: الذين عبدوا العجل، ولا يزالون يعبدون الدرهم والدينار؛ فالمال هو معبودهم.
2- النصارى: لادعائهم ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ وعبادتهم له.
3- الرافضة: لدعائهم علياً، والعباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما من آل البيت.
4- النصيرية: لعبادتهم عليا ـ رضي الله عنه ـ وزعمهم أنه الإله.
5- الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيدي.
6- غلاة الصوفية، وعباد القبور: لغلوهم في الأولياء، وصرف النذور، والقرابين لأصحاب القبور، وطوافهم حول القبور إلى غير ذلك من القربات التي تصرف لأصحابها.
(1/24)
توحيد الرُّبوبية
للشيخ
محمد بن إبراهيم الحمد
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً ـ .
أما بعد :
فإن توحيد الربوبية مبحث مهم من مباحث العقيدة؛ ذلك أنه متعلق بأصل الأصول، وأوجب الواجبات وهو الإيمان بالله ـ عز وجل ـ فمما يتضمنه الإيمان بالله الإيمان بربوبيته، وتفرده بالخلق، والرزق، والتدبير.
ومما يدل على أهميته ما يثمره من الثمرات العظيمة؛ فالعلم به، والإيمان بمقتضاه يثمر إجلال الرب، وتعظيمه، ورجاءه، ومحبته والخوف منه إلى غير ذلك؛ فلا ينبغي التقليل من شأنه، ولا ترك الحديث عنه، كما لا ينبغي ـ في الوقت نفسه ـ أن يجعل الغاية في التوحيد، كما هو شأن أهل الكلام، بل إن الغاية في التوحيد هو توحيد الألوهية ـ كما سيأتي بيانه ـ.
ولعل فيما يلي من صفحات إيضاحاً لهذا المبحث، وذلك من خلال الوقفات التالية :
- تعريف توحيد الربوبية.
- معنى كلمة الرب.
- أسماء هذا النوع من التوحيد.
- أدلته.
- إنكار الربوبية.
- أنواع ربوبية الله على خلقه.
- توحيد الربوبية ليس هو الغايةَ في التوحيد.
- آثار توحيد الربوبية وفوائده.
- ما ضد توحيد الربوبية؟
- الفِرَق التي أشركت بالربوبية.
وأخيراً أسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ أن ينفعنا بما نقول ونسمع، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأن يغفر لنا زللنا وخطأنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
تعريف توحيد الربوبية
(1/1)
هو الإقرار الجازم بأن الله وحده ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكه، وأنه الخالق للعالم، المحيي المميت، الرزاق ذو القوة المتين، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، لا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له، ولا مماثل، ولا سمي، ولا منازع له في شيء من معاني ربوبيته ومقتضيات أسمائه وصفاته.
وهناك تعريف آخر مختصر وهو: توحيد الله بأفعاله.
أسماء هذا النوع من التوحيد
لهذا النوع من التوحيد أسماء أخرى منها:
1- توحيد الربوبية كما سبق.
2- التوحيد العلمي.
3- التوحيد الخبري.
4- توحيد المعرفة والإثبات.
5- التوحيد الاعتقادي.
معنى كلمة الرب
كلمة الرب في اللغة تطلق على عدة معانٍ.
قال ابن منظور: " الرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد، والمدبِّر، والمربي، والقيِّم، والمنعم " .
وقال: ولا يطلق غير مضاف إلا على الله - عز وجل - وإذا أطلق على غيره أضيف، فقيل: ربُّ كذا.
قال: وقد جاء في الشعر مطلقاً على غير الله - تعالى - وليس بالكثير، ولم يذكر في غير الشعر " .
وقال: " ورب كل شيء: مالكه ومستحقه، وقيل: صاحبه.
ويقال: فلان رب هذا الشيء أي مِلْكُه له.
وكل من ملك شيئاً فهو ربه، يقال: هو ربُّ الدابة، ورب الدار، وفلان رب البيت، وهن ربات الحجال " .
أما الرب من حيث إنه اسم من أسماء الله فمعناه: من له الخلق والأمر والملك، قال - تعالى - :( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) [الأعراف: 54]. وقال : ( ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ) [فاطر: 13].
قال ابن منظور: " الرب: هو الله - عز وجل - هو رب كل شيء، أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك " .
أدلة توحيد الربوبية
أدلة توحيد الربوبية كثيرة متنوعة، تدل على تفرد الله بالربوبية على خلقه أجمعين، فقد جعل الله لخلقه أموراً لو تأملوها حق التأمل وتفكروا بها ـ لَدَلَّتْهُمْ إلى أن هناك خالقاً مدبراً لهذا الكون.
(1/2)
والقرآن مليء بذكر الأدلة على ربوبية الله، فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ : ( الْحَمْدُ للهِ رَبَ الْعَالَمِينَ ) [الفاتحة: 2]، وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات: 58]، وقوله : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [يس: ،82 83]، وقوله: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [البقرة: 164]، وقوله ـ تعالى ـ : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الروم: 40].
ومن الدلالات على ربوبية الله على خلقه مايلي:
1- دلالة الفطرة: ذلك أن الله ـ سبحانه ـ فطر خلقه على الإقرار بربوبيته، وأنه الخالق، الرازق المدبر، المحيي المميت؛ فالإيمان بالربوبية أمر جبلي مركوز في فطرة كل إنسان، ولا يستطيع أحد دفعه ولا رفعه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ولما كان الإقرار بالصانع فطريّاً كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث ـ فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يعرف ويعبد " .
ولهذا فإن المشركين في الجاهلية كانوا مقرين بتوحيد الربوبية مع شركهم بالألوهية.
(1/3)
ومما يدل على ذلك ما هو مبثوث في ثنايا أشعارهم، ومن ذلك قول عنترة :
يا عبل أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها
وقول زهير ابن أبي سلمى :
فلا تكتُمُنَّ الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يُكْتمِ الله يعلمِ
يُؤَخر فَيُوضَعْ في كتاب فَيُدَّخرْ ليوم الحساب أو يُعَجَّلْ فينقمِ
ولقد بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك في القرآن كما في قوله : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ ) [العنكبوت: 61].
2- دلالة الأنفس: فالنفس آيةٌ كبيرةٌ من آيات الله الدالة على ربوبيته، ولو أمعن الإنسان النظر في نفسه وما فيها من العجائب لعلم أن وراء ذلك رباً حكيماً خالقاً قديراً.
قال ـ تعالى ـ : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) [التغابن: 3]، وقال : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) [الشمس: 7].
3- دلالة الآفاق: كما قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [فصلت: 53].
فلو تأمل الإنسان الآفاق وما أودع الله فيها من الغرائب والعجائب ـ لأدرك أن هناك خالقاً لهذه الأكوان، وأنه عليم حكيم.
إنكار الربوبية
لم ينكرْ توحيدَ الربوبية أحدٌ من البشر، إلا طائفة من الشذاذ، المكابرين، المعاندين، المنكرين لما هو متقرر في فطرهم؛ فإنكارهم إنما كان بألسنتهم مع اعترافهم بذلك في قرارة أنفسهم.
ومن أشهر من عرف بذلك فرعون؛ الذي قال لقومه - كما أخبر الله عنه - : ( أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى ) [النازعات: 24]، وقال : ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) [القصص: 38].
وكلامه هذا مجرد دعوى لم يَقُمْ عليها بينةٌ، ولا دليلٌ، بل كان هو نفسُه غير مؤمن بما يقول.
(1/4)
قال ـ سبحانه وتعالى ـ على لسان موسى - عليه السلام - : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) [الإسراء: 102].
وأخبر - عز وجل - وهو العليم بذات الصدور ـ أن كلام فرعون ودعواه لم يكن عن عقيدة ويقين، وإنما هو مكابرة وعناد، قال - تعالى - : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) [النمل: 14].
وممن أنكر ذلك - أيضاً - الشيوعيون، فلقد أنكروا ربوبية الله، بل أنكروا وجوده - سبحانه وتعالى - بناءً على عقيدتهم الخبيثة الفاجرة التي تقوم على الكفر بالغيب، والإيمان بالمادة وحدها.
وهم في الحقيقة لم يزيدوا على أن سموا الله بغير اسمه، بحيث ألَّهوا الطبيعة، ونعتوها بنعوت الكمال التي لا تليق بأحد إلا الله - عز وجل - ، فقالوا: الطبيعة حكيمة، الطبيعة تخلق، إلى غير ذلك.
وكلامهم هذا باطل متهافت، بل إن أصحاب هذا المبدأ انشقوا على أنفسهم، ولعن بعضُهم بعضاً، وكَفَرَ بعضُهم ببعض.
أنواع ربوبية الله على خلقه
ربوبية الله على خلقه على نوعين :
1- الربوبية العامة: وهي لجميع الناس؛ بَرِّهم وفاجرِهم مؤمنِهم وكافرِهم؛ وهي خلقه للمخلوقين، ورزقُهم، وهدايتهم، لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
2- الربوبية الخاصة: وهي تربيته لأوليائه المؤمنين، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب؛ فإن مطالبهم كلَّها داخلةٌ تحت ربوبيته الخاصة.
توحيد الربوبية ليس هو الغاية في التوحيد
(1/5)
توحيد الربوبية حق، وأمره عظيم، ولا يصح إيمان العبد إذا لم يؤمن به، ولكن هذا النوع من أنواع التوحيد ليس هو الغايةَ التي جاءت بها الرسل، وأنزلت من أجلها الكتب، وليس الغايةَ التي من جاء بها فقد جاء بالتوحيد وكماله؛ ذلك أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها، ولم يقتصد على مجرد الإقرار به كما هو غاية الطريقة الكلامية.
أضف إلى ذلك أن المشركين كانوا مقرين به كما مر، ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام؛ لأن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي وحده، بل لا بد من توحيد الألوهية.
ثم إن توحيد الربوبية مركوز في الفطر كلها، فلو كان هو الغاية لما كان هناك حاجة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
آثار توحيد الربوبية وثمراته
للإيمان بالربوبية آثار عظيمة، وثمرات كثيرة، فإذا أيقن المؤمن أن له ربّاً خالقاً هو الله ـ تبار ك وتعالى ـ وأن هذا الرب هو رب كلِّ شيءٍ ومليكُه وهو مصرف الأمور، وأنه هو القاهر فوق عباده، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض ـ أَنِسَت رُوحُه بالله، واطمأنت نفسه بذكره، ولم تزلزله الأعاصير والفتن، وتوجه إلى ربه بالدعاء، والالتجاء، والاستعاذة، وكان دائماً خائفاً من تقصيره، وذنبه؛ لأنه يعلم قدرة ربه عليه، ووقوعه تحت قهره وسلطانه، فتحصل له بذلك التقوى، والتقوى رأس الأمر، بل هي غاية الوجود الإنساني.
ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربَّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً " .
ومن ثمراته أن الإنسان إذا علم أن الله هو الرزاق، وآمن بذلك، وأيقن أن الله بيده خزائن السموات والأرض، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع ـ قطع الطمع من المخلوقين، واستغنى عما بأيديهم، وانبعث إلى إفراد الله بالدعاء والإرادة والقصد.
(1/6)
ثم إذا علم أن الله هو المحيي المميت، النافع الضار، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن أمره كلَّه بيد الله ـ انبعث إلى الإقدام والشجاعة غير هياب، وتحرر من رق المخلوقين، ولم يعد في قلبه خوف من سوى الله ـ عز وجل ـ.
وهكذا نجد أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية.
والكلام في مقتضيات الربوبية وما تثمره من ثمرات يفوق الحصر والعد، وما مضى إنما هو إشارات عابرة يقاس عليها غيرُها.
ما ضد توحيد الربوبية
يضاد توحيد الربوبية الإلحاد، وإنكار وجود الرب ـ عز وجل ـ.
ويضاده ـ أيضاً ـ اعتقاد متصرف مع الله ـ عز وجل ـ في أي شيء؛ من تدبير الكون، من إيجاد، أو إعدام، أو إحياء، أو إماتة، أو جلب خير، أو دفع شر، أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، أو كالعظمة، والكبرياء، ونحو ذلك.
وكما يضاده ـ أيضاً ـ اعتقاد مشرع مع الله ـ عز وجل ـ لأنه هو الرب وحده، وربوبيته شاملة لأمره الكوني والشرعي.
الفرق التي أشركت بالربوبية
هناك أقوامٌ أشركوا بالربوبية، وفِرَقٌ أشركت به، ومن هؤلاء:
1- المجوس: " الأصلية " قالوا بالأصلين: النور والظلمة، وقالوا: إن النور أزليٌّ، والظلمة محدثة.
2- الثنوية: " أصحاب الاثنين الأزلييّن " : يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين قالوا بحدوث الظلام، لكن قالوا باختلافهما في الجوهر، والطبع، والفعل، والخبر، والمكان، والأجناس، والأبدان، والأرواح، ولم يقولوا بتماثلهما في الصفات والأفعال، كما ترى، وإن قالوا بتساويهما في القدم.
3- المانوية: " أصحاب ماني بن فاتك " : قالوا: إن العَالَمَ مصنوع من أصلين قديمين، ولكن قالوا باختلافهما في النفس، والصورة، والفعل، والتدبير.
(1/7)
4- النصارى: " القائلون بالتثليث " : فالنصارى لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضها عن بعض، بل هم متفقون على أنه صانع واحد يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، ويقولون: واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم.
أما الأقانيم فإنهم عجزوا عن تفسيرها.
وقولهم هذا متناقض أيما تناقض وتصوره كافٍ في رده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : " ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورُها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحدَ عشرَ قولاً.
وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولاً، وامرأته قولاً آخر، وابنه قولاً ثالثاً " .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في معرض رده عليهم: " أما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمةً أشدَّ اختلافاً في معبودها منكم؛ فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه، عن دينهم لأجابك كلٌّ منهم بغير جواب الآخر " .
بل قيل فيهم: " لو توجهت إلى أي نصراني على وجه الأرض، وطلبت منه أن يصور لك حقيقة دينه، وما يعتقده في طبيعة المسيح تصويراً دقيقاً ـ لما استطاع ذلك " .
هذا وقد بيَّن الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) ما عندهم من التناقض، وكذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (محاضرات في النصرانية).
5- القدرية: هم في الحقيقة مشركون في الربوبية، وهذا لازم لمذهبهم؛ لأنهم يرون أن الإنسان خالقٌ لفعله، فهم أثبتوا لكل أحد من الناس خَلْقَ فعله.
والخلق إنما هو مما اختص الله به، قال ـ تعالى ـ : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) [الصافات: 96].
وأفعال العباد لا يخرجها شيء من عموم خلقه ـ عز وجل ـ.
(1/8)
6- الفلاسفة الدهرية: في قولهم في حركة الأفلاك بأنها تسعة، وأن التاسع منها وهو الأطلس يحرك الأفلاك كلها، فجعلوه مبدأ الحوادث، وزعموا أن الله يحدث ما يقدره في الأرض.
7- عبدة الأصنام من مشركي العرب وغيرهم: ممن كانوا يعتقدون أن الأصنام تضر وتنفع، فيتقربون إليها، وينذرون لها، ويتبركون بها.
8- غلاة الصوفية: لغلوهم في الأولياء، وزعمِهم أنهم يضرون، وينفعون، ويتصرفون في الأكوان، ويعلمون الغيب، ولقولهم بوحدة الوجود، وربوبيةِ كلِّ شيءٍ .
9- الروافض: لقولهم بأن الدنيا والآخرة للإمام، يتصرف بها كيف يشاء، وأن تراب الحسين شفاءٌ من كل داء، وأمانٌ من كل خوف، ولقولهم: إن أئمتهم يعلمون الغيب، ويعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا بإذنهم.
وهذا باطل، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، بل إن فساده يغني عن إفساده.
10- النصيرية: لقولهم بألوهية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبأنه المتصرف بالكون، لوصفهم إياه بأوصاف لا يجوز أن يوصف بها أحد إلا الله ـ عز وجل ـ مع اختلاف أقوالهم في هذا؛ فبعضهم يقول: إنه يسكن في الشمس ويُسَمَّون بـ: الشمسية.
وبعضهم يقولون: إنه يسكن في القمر، ويُسَمَّون بـ: القمرية.
وبعضهم يقولون: إنه يسكن في السحاب، ولذا إذا رأوا السحاب قالوا: السلام عليك يا أمير النحل.
11- الدروز: لقولهم بألوهية الحاكم بأمر الله العبيد، وغلوهم فيه، ووصفِه بأوصافٍ لا تليق إلا بالله وحده، كقولهم عنه: " إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " .
12- من يعتقدون تأثير النجوم والكواكب والأسماء: وذلك كحال الذين يتتبعون الأبراج ويقولون - رجماً بالغيب - إذا ولد فلان في البرج الفلاني أو الشهر الفلاني أو اليوم الفلاني، أو كان اسمه يبدأ بحرف كذا أو كذا ـ فسيصيبه كذا وكذا، ويضعون عليها دعاياتٍ تقول: مِنْ شهر ميلادك تعرف حظك، أو من اسمك تعرف حظك.
(1/9)
كل ذلك شرك في الربوبية؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيبِ، والغيبُ لا يعلمه إلا الله وحده لا شريك له.
13- القانونيون: الذين يَصدون ويصدفون عن شرع الله، والذين يحكمون الناس بالقوانين الوضعية، التي هي من نحاتة أفكارهم، وزبالة أذهانهم.
فهؤلاء محاربون لله، منازعون له في ربوبيته وحكمه وشرعه.
(1/10)