نواقض الإيمان
القولية والعملية
تأليف
د. عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران، آية 102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء، آية 1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب، آية 71،70]
أما بعد:_
…فتتضمن هذه المقدمة الحديث عن كل من: _
أهمية هذا الموضوع وأسباب اختياره.
خطة البحث، ومنهجي في البحث.
أما عن أهمية موضوع " نواقض الإيمان القولية والعملية " فتظهر من عدة أوجه، منها ما يلي: _
1 - أن نواقض الإيمان أعظم الذنوب على الإطلاق، فمن ارتكب ناقضاً من تلك النواقض فقد خرج من الملة، فلا يبقى إيمان مع وجود أحد هذه النواقض، فهي تحبط جميع الطاعات، إضافة إلى أن الله تعالى لا يغفر لمن مات عليها، بل صاحبها مخلد في نار جهنم، كما جاء ذلك في كتاب الله تعالى: -(1/1)
قال الله تعالى: _ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران، آية 91]
ص (4)
{وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة، آية 5]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر، آية 36]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد، آية 34]
ولما ذكر ابن تيمية رحمه الله مسألة التكفير وما يترتب عليها من نتائج وتبعات، كان مما قاله: -
" اعلم أن " مسائل التكفير والتفسيق " هي من مسائل الأسماء والأحكام " التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا، فإن الله سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين، وحرم الجنة على الكافرين، وهذا من الأحكام الكلية في كل وقت ومكان(1)1) "
2- ونظراً لخطورة هذه النواقض، فإنه يتعين علينا العلم بها، ومعرفة أنواعها، فينبغي استبانة سبل الكافرين مخافة الوقوع فيها.
قال عز وجل: _
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام، آية 55].
يقول ابن القيم _ في هذا المقام: _
"والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبه هؤلاء مفصلة، وعاقبه هؤلاء مفصلة.
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/468 ( الكيلانية )، وانظر جامع العلوم والحكم 1/114(1/2)
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان، كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده، والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك، وعرفوها مفصلة، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من الظلمة الشديدة إلى النور التام،
________________________________________________ ص (5)
ومن الشرك إلى التوحيد ** فعرفوا مقدار ما نالوه، ومقدار ما كانوا فيه، فإن الضد يظهر حسنه الضد،وإنما تتبين الأشياء بأضدادها.
فاللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر رضي الله عنه: " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية " وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه *** فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبين له، أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة في أمور كثيرة "(1) ويقول حذيفة بن اليمان _ رضي الله عنه: _ ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني *** "" (2)
ويبين الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب(3)
__________
(1) الفوائد ص 101، 102 = باختصار، وانظر الفتاوى لابن تيمية 10/301 .
(2) أخرجه البخاري ك الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة (13/35) . ح ( 7084)، ومسلم، ك الإمارة، ح (1847)
(3) من كبار علماء الجزيرة، ولد في الدرعية سنة 1165 ه، وبرز في عدة علوم له رسائل وكتب مفيدة، وعرف بالشجاعة، وأبناؤه علماء توفي في مصر حين نقل إليها سنة 1242 هـ.
انظر: مشاهير علماء نجد ص 48 . وعلماء نجد 1/48(1/3)
رحمهم الله أهمية هذا الموضوع قائلاً: " اعلم أن هذه المسائل من أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء بها، لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، ولتبين له الإسلام والكفر، حتى يتبين له الخطأ من الصواب، ويكون على بصيرة في دين الله،
…ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب وإن كانوا هم الأكثرين عدداً، فهم الأقلون عند الله، وعند رسوله والمؤمنين قدراً(1). "
3 _ ومع ظهور هذه النواقض، ووجوب الحذر منها، إلا أن الناظر إلى واقع بلاد المسلمين عموماً، يرى أن هذه النواقض قد عمت وطمت الكثير من تلك الديار،
____________________________________________________ ص (6)
فيشاهد، ويسمع ويقرأ مظاهر متنوعة، وأنماطاً مختلفة مما يناقض الإيمان، كما صارت هذه النواقض أمراً مألوفاً، بل تجاوز الأمر ذلك *** فسميت تلك النواقض بأسماء محببة للنفوس، ترويجاً لها، وتضليلاً للناس(2) *
4_ ومما يؤكد أهمية دراسة هذا الموضوع، أن موقف الكثير من المسلمين أمام تلك النواقض لا يخلو من غلو، أو جفاء، فهناك من غلا وتشدد أمام تلك النواقض، فأدخل في النواقض ما ليس منها *
وفي المقابل نجد أقواماً قد تساهلوا في أمر هذه النواقض، فجعلوها مجرد محرمات لا تخرج من الملة.
وهدى الله تعالي أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقرروا هذه المسألة بعلم وعدل،و توسطوا بين أهل الغلو والإرجاء.
__________
(1) الدرر السنية في الأ جوبة النجدية 8/118 .
وانظر مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ 40، 5/18، والدرر السنية 2/97 .
(2) ومن ذلك ما يفعله عباد القبور من تسمية شركهم تعظيماً واحتراماً، وإثباتاً لكرامات الأولياء، وتسمية دعاء الأموات توسلاً، وكذا ما يفعله المتصوفة من تسمية سجودهم لمشايخهم وضعاً للرأس بين يدى الشيخ !!
انظر: أعلام الموقعين 3/117، 118، وتطهير الاعتقاد للصنعاني ص19،20(1/4)
لقد كان من عيوب أهل البدع: تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون (1)
ولقد حذر الشارع من تكفير أحد من المسلمين وليس كذلك، فقال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء، آية 94]
وعن أبي ذر رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك "(2)
___________________________________________________ص (7)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما "(3)
يقول ابن دقيق العيد _ في بيان معنى هذا الحديث: _
"وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم " (4)
…ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقوله: _
__________
(1) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5/251
(2) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعان 10/464، ح (6045)، ولمسلم نحوه، ك الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم 1/79، ح (61) .
(3) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال 10/514، ح (6104)، ومسلم، ك الإيمان، باب بيان حال إيمان لأخيه يا كافر 1/79 ح (60) .
(4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 4/76(1/5)
"إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإنى أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية. " (1)
ولما قرر ابن الوزير تواتر الأحاديث في النهي عن تكفير المسلم(2).. قال رحمه الله: _ " وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن، وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات، وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام، وتجنبه للكبائر، وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلط في بدعة، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها، فإن العصمة مرتفعة، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً.(3) "
ويقول أيضاً: -
" وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة، وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى، وتعظيمهم الله تعالى بتكفير عاصية، فلا يأمن المكفر أن يقع في مثل ذنبهم، وهذا خطر في الدين جليل، فينبغي
______________________________________________ ص (8)
شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل.(4) "
ويحذر الإمام الشوكاني من التسرع في التكفير قائلاً: _
__________
(1) الفتاوى 3/229، وانظر الفتاوى 3/282، 283 ( قاعدة في أهل السنة ) 35 /103
(2) انظر إيثار الحق على الخلق ص 420 _ 425
(3) إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص 425، 426، وانظر في هذا الكتاب: ص 434، ص 345، ص 446
(4) المرجع السابق ص 447(1/6)
" اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية عن طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (1). "
وعندما يقرر هؤلاء الأعلام وغيرهم خطورة هذه المسألة، والتحذير من تكفير من ليس بكافر، فلا يعني تهوين هذه المسألة، وإغلاق باب الردة بالحكم بإسلام من ظهر كفره بالدليل والبرهان، فهذا المسلك لا يقل انحرافاً وخطراً عن سابقه، وكلا الطرفين مذموم.
ولقد أخطأ قوم، فأرادوا الرد على أولئك الغلاة، فسلكوا مسلك الإرجاء، فالواجب أن نحذر من أسلوب رد البدعة ببدعة، ولا يقابل الباطل بباطل، كما يتعين بيان هذه المسألة بعلم وعدل، فأهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق.
وقد سئل أبو المعالي الجوينى(2) عن تكفير الخوارج، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين (3).
ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: -
"وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه، واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين.. وقد استنزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت
______________________________________________ ص (9)
__________
(1) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني 4/578
(2) هو عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، النيسابوري، إمام مشهور، وأصولي متكلم، ولد سنة 419 ه له عدة مؤلفات، اشتغل بالكلام ثم تاب عنه، توفي سنة 478 ه انظر: طبقات الشافعية 5/165، سير أعلام النبلاء 18/468 .
(3) انظر الشفا لعياض 2/1058، وفتح الباري 12/300(1/7)
نصوص الكتاب والسنة وإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم.(1) "
5 - وأمر آخر يؤكد أهمية هذا الموضوع، وهو أن أول نزاع حدث في الأمة هو النزاع في التكفير.
…فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب، إضافة إلى أن بدعتهم أظهر البدع ذماً في السنة والآثار(2) ولقد كان باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الإفتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء(3).
…ولأجل ما سبق إيراده فقد رغبت الكتابة في هذا الموضوع، مع علمي ابتداء بضعفي وقصر باعي، والله تعالى حسبنا ونعم الوكيل.
__________________________________________________ص (10)
خطة البحث، ومنهجي في البحث
…تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة وفهارس
المقدمة: - وتتضمن كلاً من:
أهمية هذا الموضوع وأسباب اختياره
خطة البحث ومنهجي في البحث
التمهيد: ويشمل خمسة مباحث:
…المبحث الأول: تعريف الإيمان وما يناقضه
…المبحث الثاني: التكفير المطلق وتكفير المعين
وفيه ثلاثة مطالب: -
……المطلب الأول: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين
……المطلب الثاني: عدم المؤاخذة قبل الإنذار
……المطلب الثالث: العذر بالجهل
…المبحث الثالث: معنى قيام الحجة
…المبحث الرابع: تكفير المتأول
…المبحث الخامس: إعتبار المقاصد في نواقض الإيمان
الباب الأول: - نواقض الإيمان القولية:
وفيه أربعة فصول:
__________
(1) الدرر السنية 8/217، وانظر رسالة " الكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل " لعبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين ص 21 .
(2) انظر الفتاوي لابن تيمية 12/468، 19/71، ومجموعة الرسائل والرسائل لابن تيمية 3/339، وثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس للقاضي أبي الأصبغ عيسى ابن سهل ص 33، والرد الوافر لابن ناصر الدين ص 31 .
(3) انظر شرح العقيدة الطحاوية 2/432، 433 .(1/8)
الفصل الأول: نواقض الإيمان القولية في التوحيد
وفيه ثلاثة مباحث: -
…
المبحث الأول: نواقض الإيمان القولية في توحيد الربوبية
…المبحث الثاني: نواقض الإيمان القولية في توحيد الأسماء والصفات
…المبحث الثالث: نواقض الإيمان القولية في توحيد العبادة
الفصل الثاني: نواقض الإيمان القولية في النبوات
…وفيه ثلاثة مباحث: -
…المبحث الأول: في الأنبياء عليهم السلام.. وفيه مطلبان: _
……المطلب الأول: في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
……المطلب الثاني: سائر الأنبياء عليهم السلام
…المبحث الثاني: ادعاء النبوة
…المبحث الثالث: في الكتب المنزلة
الفصل الثالث: نواقض الإيمان القولية في سائر المغيبات: -
…وفيه مبحثان: -
…المبحث الأول: الملائكة والجن
…المبحث الثاني: اليوم الآخر. وفيه مطلبان: -
……المطلب الأول: إنكار البعث
……المطلب الثاني: إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به
الفصل الرابع: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة.
الباب الثاني: نواقض الإيمان العملية:
…وفيه فصلان:
الفصل الأول: نواقض الإيمان العملية في التوحيد
…وفيه أربعة مباحث: -
…المبحث الأول: الشرك في العبادة
…
المبحث الثاني: الحكم بغير ما أنزل الله
…المبحث الثالث: الإعراض التام عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به
…المبحث الرابع: مظاهرة المشركين على المسلمين.
الفصل الثاني: نواقض الإيمان العملية في النبوات
الباب الثالث: _ نواقض الإيمان المختلف فيها القولية والعملية:
…وفيه فصلان:
الفصل الأول: النواقض القولية
…وفيه مبحثان: -
…المبحث الأول: سب الصحابة رضي الله عنهم
…المبحث الثاني: الاستهزاء بالعلماء والصالحين
الفصل الثاني: النواقض العملية
وفيه مبحثان: -
…المبحث الأول: ترك الصلاة
…المبحث الثاني: السحر وما يلحق به
خاتمة
الفهارس
وأما عن منهجي في كتابة هذا البحث، فكان على النحو التالي: -(1/9)
(1) ذكرت في تمهيد هذا البحث شيئاً من الضوابط المهمة في مسألة التكفير، وعوارض الأهلية.
(2) قبل أن أورد أي ناقض من نواقض الإيمان، أذكر في مطلع كل مبحث ما يقابل هذا الناقض، تذكيراً بالحق وبياناً لأصول الإيمان.
(3) ثم أذكر تعريف كل ناقض وبيان معناه.
(4) ثم أسوق جملة من الأدلة والاعتبارات في وجه كونه ناقضاً من نواقض الإيمان.
(5) وفي نهاية كل ناقض أسرد طرفاً من كلام أهل العلم _ من مختلف المذاهب الفقهية لأهل السنة _ في هذا الناقض مع مراعاة الترتيب المذهبي (الأحناف، المالكية،...الخ) والوفيات.
(6) لما كانت نواقض الإيمان كثيرة جداً... حتى أوصلها بعضهم إلى أكثر من أربعمائة ناقض(1)، لذا اقتصرت في هذا البحث على أشهرها، وما كان من تلك النواقض ظاهراً منتشراً في واقعنا الحاضر فقد عنيت بتفصيله وبيانه، ولقد حرصت حسب وسعي على الالتزام بهذا المنهج مع اعترافي بالتقصير فيما التزمته وقصدته. وفي ختام هذه المقدمة أحمد الله تعالى حمداً كثيراً على نعمه الظاهرة والباطنة، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأسأله عز وجل أن يبارك في هذا الجهد وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ثم أشكر فضيلة المشرف على هذه الرسالة فضيلة الشيخ سالم بن عبد الله الدخيل على حسن توجيهاته، ودقة ملحوظاته، فجزاه الله كل خير، وأشكر لأهل الفضل فضلهم كما أشكر عضوي مناقشة هذه الرسالة: فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، فقد استفدت من ملحوظاتهم القيمة، وتوصياتهم الطيبة، فأحسن الله إليهما، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_____________________________________________________ ص (14)
التمهيد
المبحث الأول: تعريف الإيمان وما يناقضه
__________
(1) انظر كشاف الإقناع عن متن الإقناع للبهوتي 6/136_141 والدرر السنية 8/86(1/10)
من المهم - ابتداء - أن أذكر تعريف الإيمان وما يضاده(1) وأن نشير _ ولو بإيجاز لعض المسائل المهمة في موضوع الإيمان ونقيضه (الكفر) مما هو وثيق الصلة ببحثنا وسيكون حديثنا عن تعريف الإيمان من خلال العناصر التالية: -
1 - تكرر ذكر الإيمان في القرآن والسنة، أكثر من سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالى، ومن يعادى، وكما يقول ابن تيمية(2): _
" لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المراد بلفظ الإيمان وما يضاده بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه شاف كاف، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة
____________________________________________________ ص (15)
__________
(1) يقول الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله _ في بيان أهمية تصور الحقائق ومعرفة حدودها: _ اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين . ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر . وكم هلك بسبب قصور العلم وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة " أه من كتابه منهاج التأسيس ص 12
(2) هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى ودرس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة 728 ه .
انظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/387، الدرر الكامنة 1/154(1/11)
للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما يقوله الخوارج(1) والمرجئة(2) في معنى الإيمان، علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول...(3)"
فالإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم.
…وقد عرف أهل السنة الإيمان بأنه قول وعمل: قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، وقد حكى غير واحد منهم الإجماع على ذلك كابن عبد البر(4) في التمهيد(5)، ولقد تلقى أهل السنة هذا التعريف بالقبول والتسليم، اتباعاً للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح
فمن الأدلة على أن الإيمان تصديق بالقلب:
قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات، آية 14]
وقوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة، آية 22]
__________
(1) الخوارج: أول الفرق خروجاً في هذه الأمة، يكفرون أصحاب الكبائر، ويتبرؤن من بعض الصحابة، ويجوزون الخروج على الإئمة، وهم فرق متعددة، منهم: المحكمة، والأزارقة، والإباضية .
انظر: مقالات الإسلامية 1/167، التنبيه والرد للملطي ص 47، المل والنحل 1/114
(2) المرجئة: فرقة تأخذ بنصوص الوعد والرجاء، وتؤخر العمل عن مسمى الإيمان، وهم أصناف متعددة . انظر: مقالات الإسلاميين 1/213، والتنبيه والرد ص 146، والملل والنحل 1/139.
(3) مجموع الفتاوى 7/287
(4) هو أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي المالكي، حافظ المغرب، ومؤرخ أديب ولد سنة 368 ه بقرطبة رحل كثيراً، وتولى القضاء، له مؤلفات كثيرة، توفي بشاطبة سنة 463 ه
انظر: سير أعلام النبلاء 18/153، والديباج المذهب 2/367
(5) انظر التمهيد 9/248، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية 7/308، 12/472 وانظر تفسير ابن كثير 1/39، وفتح الباري 1/47، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/832، وشرح السنة للبغوي 1/38 .(1/12)
_____________________________________________ ص (16)
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة، آية 41]
ومن الأدلة على أن الإيمان إقرار باللسان:
قوله تعالى {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة، آية 136]
وقوله تعالى {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت، آية 46]
ومن الأدلة على أن الإيمان عمل بالجوارح: قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "(1) وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: - " آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم(2)" إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.
وقد ذكر الحافظ ابن منده(3)
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان، باب أمور الإيمان (1/51 )، ح (9)، ومسلم، ك الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان (1/63 ) ح (35) .
(2) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان (1/129)، ح (53 )، ومسلم، ك الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله (1/46) ح (17 ) .
(3) هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن منده، إمام حافظ محدث، ولد سنة 310 ه ورحل كثيراً في طلب العلم، وله عدة مصنفات، توفي سنة 395 ه .
انظر: طبقات الحنابلة 2/167، وسير أعلام النبلاء 17/28(1/13)
رحمه الله قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1)" وذلك في مقام الإستدلال به على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالأركان، وأنه يزيد وينقص (2).
________________________________________________ص (17)
وأقوال السلف الصالح في هذه المسألة متفقة على أن الإيمان قول وعمل، وسنذكر بعض أقوالهم على النحو التالى: _ يقول الإمام أحمد بن حنبل(3) رحمه الله " الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص(4) "
…وعقد الإمام الآجري(5) رحمه الله باباً في كتابه " الشريعة " قائلاً: _ باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث(6) "
__________
(1) أخرجه مسلم، ك الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (1/69) ح (49 )، وأحمد (3/10 )
(2) انظر كتابه " الإيمان " 2/341، ت: د " على بن محمد الفقيهي .
(3) هو الإمام حقاً، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ولد سنة 164 ه، كان آية في العلم والحفظ والعبادة، نصر السنة ورد على المبتدعة وصبر في المحنة، وله عدة مصنفات، توفي سنة 241 ه، وصلى عليه مئات الألوف .
انظر: طبقات الحنابلة 1/4، وسير أعلام النبلاء 11/177
(4) السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل 1/307، وله عدة روايات في تعريف الإيمان، انظر المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة جمع: عبد الإله الأحمدي 1/63
(5) هو أبو بكر محمد بن الحسين البغدادي، الإمام، المحدث، القدوة، كان صدوقاً عابداً، صاحب سنة، له مؤلفات، توفي بمكة سنة 360 ه .
انظر: تاريخ بغداد 2/243، وسير أعلام النبلاء 16/133 .
(6) الشريعة للإمام الآجرى ص 119(1/14)
…وقال الإمام ابن بطة رحمه الله(1) في تعريف الإيمان: " معناه التصديق بما قاله، وأمر به وافترضه، ونهى عنه من كل ما جاءت به الرسل من عنده، ونزلت فيه الكتب، وبذلك أرسل المرسلين، فقال عز وجل: _ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء، آية 25] والتصديق بذلك قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان.(2) "
________________________________________________ ص (18)
وعرف القاضي أبو يعلى(3) - رحمه الله -. الإيمان فقال: " وأما حد الإيمان في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، والباطنة أعمال القلب، وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات(4) "
وقال قوام السنة إسماعيل الأصبهاني(5)_ رحمه الله _: " الإيمان في الشرع عبارة عن جميع الطاعات الظاهرة والباطنة(6) "
__________
(1) هو عبيد الله بن محمد العكبري، من فقهاء الحنابلة، كان أماراً بالمعروف، صالحاً، مستجاب الدعوة، له مؤلفات، توفي بعكبدا ( بالقرب من بغداد ) سنة 387 ه
انظر: طبقات الحنابلة 2/144، والمنهج الأحمد 2/81
(2) 10) الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة (الإبانة الصغرى ) ص 176
(3) 11) هو محمد بن الحسين بن محمد البغدادي الحنبلي ابن الفراء، أفتى ودرس، وبرع في فنون كثيرة، ولي القضاء، وله عدة مصنفات، توفي سنة 458 ه .
انظر طبقات الحنابلة 2/193، شذرات الذهب 3/306
(4) 12) مسائل الإيمان ص 151
(5) 13) هو أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل، إمام حافظ، حسن الاعتقاد، له عدة مؤلفات، توفي سنة 534 ه .
انظر: سير أعلام النبلاء 20/80، وشذرات الذهب 4/105
(6) الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 1/403(1/15)
وعلى كل فأقوال السلف في مثل هذا المعنى كثيرة جداً، يصعب حصرها في هذا المبحث القصير(1).
2 - تنوعت عبارات السلف الصالح في تعريف الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة
وكل هذا صحيح، فليس بين هذا العبارات اختلاف معنوي، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: _ " إذا قالوا: قول وعمل فإنه يدخل في القول قول
_____________________________________________ ص (19)
__________
(1) انظر ما كتبه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان ص 56 _ 76 وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان ص46، والعدني في كتاب الإيمان ص79، والبخاري في صحيحه ( كتاب الإيمان ) 1/92، ومسلم في صحيحه (كتاب الإيمان ) 2/3 وابن ماجه في سننه ( باب في الإيمان )، وأبو داود في سننه ( عون المعبود ) ( باب في رد الإرجاء ) 12/432، والترمذي في سننه ( باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان ) ( عارضة الأحوذي ) في 10/80، وابن أبي عاصم في السنة ( باب في الإرجاء والمرجئه ) 2/461، والنسائي في سننه ( كتاب الإيمان وشرائعه ) 7/86، والطبري في صريح السنة ص25، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 830، وابن قدامة في لمعة الاعتقاد ص 23 والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 1/367، والبغوي في شرح السنة 1/38، وابن حزم في المحلى 13/9 والدرة فيما يجب اعتقاده ص326 وغيرها كثير .(1/16)
…القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام، ونحو ذلك إذا أطلق فإن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول باللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد " كقوله تعالى {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح، آية 11] وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب، هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر.
…ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على " المرجئة " الذين جعلوه قولاً فقط. فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه " أربعة أقسام " فسروا مرادهم، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: _ قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة(1) "
3_ في هذه المسألة سنورد كلام بعض السلف الصالح في توضيح تعريف الإيمان عندهم، وبيان غلط المخالفين في هذا الباب، وسنسوق هذا التوضيح الموجز على النحو التالي: _
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 7/170، 171 بتصرف يسير، وانظر 7/505، 506(1/17)
(أ) يتضمن تعريف الإيمان: قول القلب وعمله، فأما قول القلب فهو الاعتقاد والتصديق، فلابد من تصديق الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما أخبروا به، " فإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها، وكونها نافعة(1) "
__________________________________________________ ص (20)
كما يتضمن الإيمان: عمل القلب مثل: الإخلاص، والحب، والخوف، والرجاء، والتعظيم، والإنقياد، والتوكل، وغيرها من أعمال القلوب...(2)
" وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب.(3) "
وسأورد بعض النقول المختارة في هذه المسألة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: _ " إن الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب، قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب، فلابد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولابد فيه من عمل القلب مثل حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله، وجعلها من الإيمان.(4) "
__________
(1) كتاب الصلاة لابن القيم ص54، ت: تيسير زعيتر
(2) انظر: الإيمان لابن منده 2/362، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 7/186، 14/119، ومعارج القبول للحكمي 2/18 .
(3) كتاب الصلاة لابن القيم، ص 54
(4) مجموع الفتاوى 7/186(1/18)
ويقول أيضاً: " إن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه، ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه، فنفس العلم والتصديق بالله، وماله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، يوجب محبة القلب له، وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته، والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد، ووجود المقدور عليه منه.(1) "
ويؤكد في موضع ثالث على أهمية أعمال القلوب، ذاكراً أنها " من أصول الإيمان، وقواعد الدين مثل محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له...وهذه
______________________________________________________ص (21)
الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق باتفاق أئمة الدين.(2) "
ويقول أيضاً: " وفي الجملة فلابد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ورسوله، ومعاداة الله ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين.(3) "
ويجلي ابن القيم(4) رحمه الله أهمية أعمال القلوب، فيقول: _ أعمال القلوب هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة، وأن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/525
(2) مجموع الفتاوى 10/5
(3) مجموع الفتاوى 7/537
(4) هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان جرىء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف، ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 751 هـ .
انظر: البداية والنهاية 14/234، الدرر الكامنة 4/21
(5) بدائع الفوائد 3/224(1/19)
…ويقول أيضاً: " ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وإنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح فعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت.(1) "
…ويقرر ابن تيمية أن الإيمان ليس مجرد التصديق فقط، بل لابد من أمر آخر، وهو عمل القلب الذي يتضمن الحب والانقياد والقبول... فيقول رحمه الله:
…" إن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر. فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب، جماعه
_____________________________________________________ ص (22)
الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد.(2) "
…و نختم هذه النقول بنص نفيس لابن القيم _ رحمه الله _ حيث يقول:
__________
(1) المرجع السابق 3/230
(2) الصارم المسلول ص 519(1/20)
…" كل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه، وذلك عمل بل هو أصل العمل، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه، فإن كثيراً من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، غير شاكين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا وإرادته، والموالاة والمعاداة عليه، فلا تهمل هذا الموضوع فإنه مهم جداً، به تعرف حقيقة الإيمان. (1)"
…من خلال ما سبق إيراده من نصوص، ندرك الأمور التالية:
1_ عظم شأن أعمال القلوب، وأنها روح العبودية ولبها، ومن ثم كانت واجبة على جميع المكلفين، وفي كل وقت.
2_ أن الإيمان المتعلق بالقلب قائم على أصلين: التصديق بالحق واعتقاده، ومحبة هذا الحق وإرادته، فالأول أصل القول، والثاني أصل العمل.
3_ أن التصديق _ بحد ذاته _ لا يعد إيماناً شرعياً، بل لابد من الانقياد والخضوع لشريعة الله، وإلا فمن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الكثير من أهل الكتاب والمشركين قديماً وحديثاً يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأنه صادق، ومع ذلك فهم كفار؛ لأنهم لم يعملوا بما يوجبه هذا التصديق من الحب والتعظيم والانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم.
4_ أن مرجئة الكرامية(2) غلطوا عندما ظنوا أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط،
____________________________________________________ ص (23)
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/420، وانظر قريباً من ذلك في زاد المعاد 3/638 .
(2) الكرامية: أتباع محمد بن كرام السجستاني (ت 255 هـ ) وهم طوائف متعدده من أهل الإثبات يغلب عليهم الارجاء في الإيمان، والتشبيه في الصفات، ولديهم انحرافات أخرى .
انظر: مقالات الإسلاميين 1/223، والملل والنحل 1/108(1/21)
فالمنافقون كفار بالإجماع، وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال تعالى: _ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 8].
…فقد وقع من المنافقين القول الظاهر، ولكن انتفى عنهم الإيمان لعدم وجود التصديق ولوازمه في القلب.
5_ أن المرجئة من الجهمية(1) غلطوا عندما ظنوا أن الإيمان يكون تاماً بدون العمل الذي في القلب كما وقع من الجهمية (2)، كما غلط جميع المرجئة عندما ظنوا أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون العمل الظاهر _ كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله
ب _ ويتضمن الإيمان أيضاً قول اللسان(3)
__________
(1) الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان السمرقندي المقتول سنة 128 هـ، معطلة في الصفات، جبرية في القدر، مرجئة محضة في الإيمان وقالوا بفناء الجنة والنار . انظر مقالات الإسلاميين 1/338، والتنبيه والرد ص 96، والملل والنحل 1/86.
(2) لأن غالب فرق الأمة يدخلون أعمال القلوب في الإيمان، حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى 7/550
(3) بعض السلف يجعلون للسان عملاً، كما جاء في معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي (2/20 )، حيث أن عمل اللسان _ كما ذكر _ ما لا يؤدى إلا به، كتلاوة القرآن، والأذكار، وقد ذكر _ من قبل _ ابن منده في كتابه الإيمان (2/362) أن الإيمان يتضمن: أفعال اللسان كالأذكار والدعاء .
وقد عد الشيخ محمد بن إبراهيم _ رحمه الله _ ما جاء في بعض طبعات " العقيدة الواسطية "في تعريف الإيمان، وأنه عمل اللسان، عده الشيخ غلطاً . . . كما جاء في فتاويه (1/245) . وعلى كل فيبدو أن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، فمن جعل للسان قولاً فقط، فقد أدخل في قول اللسان سائر الطاعات القولية، ومن فرق بين قول اللسان وعمله، فإنه جعل قول اللسان هو النطق بالشهادتين، كما جعل عمل اللسان بقية العبادات القولية . مع أن بعض علماء السلف يجعلون قول اللسان فعلاً وعملاً، بل يجعلون الإيمان هو العمل، كما قال أبو عبيد القاسم بن سلام _ رحمه الله _ في كتابه الإيمان: " الإيمان عمل من أعمال تعبد الله به عباده، وفرضه على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهداً عليه، ثم الأعمال مصدقة له، وإنما أعطى الله كل جارحة عملاً ولم يعطه الأخرى، فعمل القلب الاعتقاد، وعمل اللسان القول، وعمل اليد التناول . . . وكلها يجمعها اسم الإيمان، فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبني على العمل 220 أ هـ بتصرف يسير ص 76 وانظر إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 1/9 . " " وقال الشنقيطى: " فعل اللسان هو القول، والدليل على أن القول فعل قوله تعالى " زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه " الأنعام،، آية 112 " أ . هـ من مذكرة أصول الفقه ص 38(1/22)
و عمل الجوارح، فقول اللسان هو النطق
____________________________________________________ ص (24)
بالشهادتين، والإقرار بلوازمهما، وأما عمل الجوارح فما لا يؤدى إلا بها مثل الصلاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
…و أما قول اللسان فأمر لابد منه، فهو الأصل في ثبوت وصف الإيمان _ في الظاهر _ وقد أكد علماء السلف على هذا الأمر، فها هو أبو ثور(1) يقرر أهمية إقرار اللسان قائلاً: " ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به، أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام، قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك، أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار _ إذا لم يكن معه التصديق _ مؤمناً ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً، حتى يكون مصدقاً بقلبه، مقراً بلسانه.(2) "
…وهذا ابن حزم(3) يؤكد على أهمية قول اللسان، فيقول: " من اعتقد الإيمان بقلبه، ولم ينطق به بلسانه دون تقية، فهو كافر عند الله تعالى، وعند المسلمين (4).
…ويقول ابن تيمية: " من لم يصدق بلسانه مع القدرة، لا يسمى في لغة القوم مؤمناً، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. (5) "
__________
(1) هو إبراهيم بن خالد، إمام حافظ فقيه، ولد في حدود سبعين ومائة، له مصنفات، توفي سنة 240 هـ
انظر: طبقات الشافعية 2/74، وسير أعلام النبلاء 12/72
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/849، والشفا 2/542
(3) هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الظاهري الأندلسي، فقيه حافظ، وأديب، وزير صاحب التصانيف، ولد
(4) المحلى 1/50 وانظر كتابه "الدرة" ص 326 .
(5) مجموع الفتاوى 7/337 .(1/23)
…ويقول: " فمن صدق بقلبه، ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء في أحكام الإيمان، لا في الدنيا، ولا في الآخرة (1).
___________________________________________________ ص (25)
وقد أورد ابن تيمية _ رحمه الله _ فرضاً ممتنعاً فقال: " وكذلك لو قيل إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة، ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية.(2) "
…و المراد _ بقول اللسان الذي يكون إيمانا ً في الباطن والحقيقة _ هو الملازم لاعتقاد القلب وتصديقه، وإلا فالقول المجرد عن اعتقاد الإيمان ليس إيماناً باتفاق المسلمين (3).
…والإيمان عمل الجوارح فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، فلا يتحقق الإيمان بالرسول مع ترك الطاعة بالكلية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء، آية 64].
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/140 وانظر المعيار المعرب للونشريسي 2/190 .
(2) مجموع الفتاوى 7/219، وانظر 7/9 .
(3) انظر مجموع الفتاوى 7/550 .(1/24)
…وأعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، ولازمة لها " فالقلب إذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يختلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب (1)" فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: " قول وعمل " قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن، صلح الظاهر، وإذا فسد، فسد(2) "
_________________________________________________ ص (26)
وإضافة إلى ما سبق، فإن عدم الأعمال الظاهرة ينفي الإيمان الباطن، " ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 81] وقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 22] ونحوها، فالظاهر والباطن متلازمان، ولا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن، فلابد أن يستقيم الظاهر(3) " …
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (1/126 ) ح (52 )، ومسلم، ك المساقاة . باب أخذ الحلال ( 3/1219 ) ح (1599 )
(2) مجموع القتاوى 7/187، وأنظر 7/541، 221 .
(3) مجموع الفتاوى 18/272، وانظر الأصفهانية ص142، ابن تيمية، ت: حسنين محمد مخلوف .(1/25)
وتعليل ذلك؛ " لأن القلب إذا تحقق ما فيه _ من الإيمان الباطن _، أثر في الظاهر ضرورة، ولا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتاً، استلزم موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه (1). "
ومن ثم فإنه يمتنع أن يكون الشخص مؤمناً بالله تعالى، مقراً بالفرائض، ومع ذلك فهو تارك لتلك الطاعات، ممتنع عن فعلها، يقول ابن تيمية: _
…" من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة، والصيام، والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة (2). لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [سورة القلم، آية 42 , 43(3)]"
________________________________________________ص (27)
وإذا تقرر أن الإيمان يتضمن قول اللسان، وعمل الجوارح، فيظهر لنا ما يلي:
أ _ عظم قول اللسان، وعمل الجوارح، وأهميتهما ووجود التلازم بينهما وبين قول القلب وعمله.
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/645
(2) الزندقة: لفظ أعجمي معرب، أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الاسلام ويطلق الزنديق على كل من: المجوسي، والدهري، والمنافق، والجهمي
انظر: السبعينية لابن تيمية ص338، وفتح الباري 12/271 وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 31 .
(3) مجموع الفتاوى 7/187، وانظر 7/541، 221(1/26)
ب_ غلط الجهمية الذين زعموا أن الإيمان مجرد معرفة قلبية بالله تعالى وإن لم يكن هناك قول ولا عمل، وقد رد أبو عبيد القاسم بن سلام هذا القول، ووصفه بأنه " منسلخ من قول أهل الملل الحنفية، لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب.. ثم قال _ ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض، إذ كان يرضى منهم بالدعوى في قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة...(1) "
جـ- غلط الماتريدية(2) الذين ادعوا أن قول اللسان ركن زائد، ليس بأصلي، وإنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، حتى قالوا: _ " ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه، فهو كافر عندنا، وعند الله تعالى مؤمن من أهل الجنة (3)"
د - غلط عموم المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، حتى قال قائلهم: " من حصل له حقيقة التصديق، فسواء أتى بالطاعات، أو ارتكب المعاصي، فتصديقه باق على حاله، ولا تغير فيه أصلاً(4) " حيث أن هؤلاء المرجئة لم يفرقوا بين جنس العمل _ والذي يعد شرطاً في صحة الإيمان عند أهل السنة _ وبين آحاد العمل وأفراده والذي يعد تاركه غير مستكمل للإيمان، وسيأتي توضيحه في موضعه إن شاء الله.
___________________________________________________ص (28)
__________
(1) الإيمان ص 79، ص80
(2) الماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي (ت333هـ) أصحاب تعطيل في الصفات، وإرجاء في الإيمان . ونزعة كلامية في التلقي، إضافة إلى تشابه كبير بينهم وبين الأشاعرة . انظر: أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية لعلي المغربي، والماتريدية لأحمد الحربي .
(3) المسامرة شرح المسايرة ص36 لكمال بن أبي شريف، صححه _ احتشام آسيا آبادي .
وانظر شرح العقائد النسفية ص 121 لسعد الدين التفتازاني
(4) شرح العقائد النسفية ص 123 _ لسعد الدين التفتازاني .(1/27)
وقال الفضيل بن عياض _ رحمه الله _: ((ميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليس من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله عز وجل أمره(1))
…وكما يقول القاضي أبو يعلى في الرد على هؤلاء المرجئة.
" لو كان الإيمان هو التصديق باللسان، أو القلب، لوجب فيمن فعل ذلك فقط، وأخل بالواجبات، وارتكب المنهيات أن يمدح بأنه كامل الإيمان، وامتناع ذلك شرعاً _ للنصوص الثابتة في ذلك كحديث " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (2)" ونحوها _ بين أن الإيمان عبارة عن جميع ذلك(3) "
4_ من خلال ما سبق يظهر لنا الإيمان له جانبان، فالأول باطنه وحقيقته، وهو ما يتعلق بالقلب قولاً وعملاً، والجانب الآخر: وهو الظاهر، وهو ما يتعلق بالجوارح، وينبغي مراعاة الفرق بين الحكم على الظاهر والباطن، ومن ثم مراعاة الفرق بين الحكم عند الناس من جانب، والحكم عند الله تعالى من الجانب الآخر، أو الفرق بين الأحكام الدنيوية، والأحكام الأخروية.
…يقول ابن تيمية: _
__________
(1) السنة للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل 2/376
(2) أخرجه البخاري، ك المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه (5/119) ح (2475 )، ومسلم، ك الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان، (1/76)، ح (76 ) .
(3) مسائل الإيمان _ ص229 بتصرف يسير، وانظر اللالكائى 4/850، السنة للخلال 3/566
وانظر رد الامام أحمد على من قال من المرجئة " إذا قال فقد عمل بجارحته " في كتاب السنة للخلال 3/570، 572(1/28)
" إن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن، الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة، فإن المنافقين الذين قالوا: {آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 8]. هم في الظاهر مؤمنون، يصلون مع الناس، ويصومون ويحجون، ويغزون والمسلمون يناكحونهم، ويوارثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار
_____________________________________________________ ص (29)
المظهرين للكفر.(1) "
…ثم قال: _ " فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب(2).
…ويقرر ابن تيمية _ في موضع آخر _ أن الفرق بين الظاهر والباطن في موضوع الإيمان " ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام (3)"
…ولذا فقد كان سلف هذه الأمة مدركين للفرق بين الأمرين فكان سفيان الثوري(4) واين المبارك(5) يقولان: " الناس عندنا مؤمنون في المواريث والأحكام، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل(6) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/210
(2) مجموع الفتاوى 7/215، وانظر مجموع الفتاوى 7/42 .
(3) مجموع الفتاوى 7/472، وانظر مجموع الفتاوى 7/617 .
(4) هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق، إمام الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث، ولد سنة 97 هـ ونشأ في الكوفة، وتوفي بالبصرة سنة 161 هـ .
انظر: حلية الأولياء 6/356، وسير أعلام النبلاء 7/229.
(5) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنظلي، إمام مجاهد، ولد سنة 118هـ صاحب تصانيف ورحلات، مات بهيت (على الفرات) منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ.
انظر: حلية الأولياء 8/162، وسير أعلام النبلاء 8/378
(6) أخرجه الخلال في السنة 3/567، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2/872 .(1/29)
…ويقول الإمام الشافعي(1) رحمه الله: _ " أخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بإيمانهم، وحكم فيهم جل ثناؤه في الدنيا بأن ما أظهروا من _ الإيمان _ وإن كانوا به كاذبين _ لهم جنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان... وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم _ إذ حقن الله تعالى دماء من
____________________________________________________ ص (30)
أظهر الإيمان بعد الكفر _ أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيناً في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر؛ لأن أحداً لا يعلم ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل(2) "
5- وإن من المسائل المهمة التي ينبغي الإشارة إليها في هذا التمهيد، مسألة أصل النزاع في تعريف الإيمان، فالأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، هو دعوى أن الإيمان حقيقة واحدة، لا تتبعض ولا تتجزأ، فمتى ذهب بعضه ذهب كله، فلم يبق منه شيء.
…يقول ابن تيمية: " وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة، والمعتزلة(3)
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس المطلبي . من مشاهير الأئمة الكبار ولد في غزة سنة 150هـ، وبرع في فنون كثيرة، وله عدة مؤلفات، توفي بمصر سنة 204 هـ .
انظر: _ طبقات الشافعية، الجزء الأول، وسير أعلام النبلاء 10/5 .
(2) الأم 6/157، وانظر 6/165، 1/259، 260
(3) المعتزلة: رأس المعتزلة واصل بن عطاء (ت 131 هـ )، وهم فرق متعددة تجمعهم الأصول الخمسة التي تتضمن تعطيلاً للصفات، ونفي القدر، وتخليد عصاة الموحدين في النار، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، وتجويز الخروج على أئمة المسلمين .
انظر: مقالات الإسلاميين 1/235، والتنبيه والرد ص 35، والملل والنحل 1/43(1/30)
، والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه، زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان(1) ".
…ثم قالت الخوارج والمعتزلة: _ " الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان. وقالت المرجئة والجهمية ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً، لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال، صارت جزءاً منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه،
____________________________________________________ص (31)
فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج (2). "
وبناء على هذا الأصل الفاسد الذي أصلوه، قال هؤلاء: _ بأنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر؛ لإن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، فكذا الكفر...
…يقول ابن تيمية في هذه المسألة: " وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة.
والجهمية والمرجئة، كراميهم، وغير كراميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك وقد ذكر أبو الحسن [الأشعري] في بعض كتبه الإجماع(3)
__________
(1) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب زيادة الإيمان (1/103 )، ح (44 )، ومسلم، ك الإيمان، باب أدنى أهل الجنة (1/182 ) ح (325 )
(2) مجموع الفتاوى 7/510، وانظر: 7/223، 18/270، 12/471 والأصفهانية 138، 143، 144، ومنهاج السنة 5/204، 205 .
(3) لأبي الحسن الأشعري قولان في تعريف الإيمان، أحدهما: يوافق قول جمهور السلف، بأن الإيمان قول وعمل كما جاء في كتابه (( مقالات الإسلاميين )) والآخر: على أن الإيمان هو التصديق، وهذا هو القول المشهور عند أئمة الأشاعرة.
انظر: مقالات الإسلاميين /ت: ريتر ص 293، ومجرد مقالات الأشعري / من إملاء ابن فورك ص 150، ومجموع الفتاوى 7/509، 550، وانظر رسالة موقف ابن تيمية من الأشاعرة للشيخ عبد الرحمن المحمود (رسالة دكتوراه ) مطبوعة على الآلة الكتابة 4/1428، 1429 .(1/31)
على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة، وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول.(1) "
…إن أي حقيقة جامعة لأمور _ سواء كانت أعياناً أو أعراضاً _ إذا زال بعض أمورها، فقد يزول سائرها، وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة، زوال سائرها، وإن كان من المعلوم _ بداهة _ أن هذه الحقيقة الجامعة التي زالها بعضها، لم تبق كما كانت(2).
…" إن الإيمان عند جمهور أهل السنة له شعب متعددة، كما أخبر بذلك أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان، وكل شعبة منه تسمي إيماناً، فالصلاة وسائر أعمال الجوارح من الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء
________________________________________________ص (32)
والتوكل والرجاء من الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب.(3) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/353، وانظر مجموع الفتاوى 13/48 .
(2) انظر مجموع الفتاوى 7/514
(3) كتاب الصلاة لابن القيم، ص53 = بتصرف .(1/32)
وإذا كان الإيمان مشتملاً على شعب متعددة، ومتفاوتة، فإنه يتضمن بناء على تفاوت شعبه _ أركاناً، وواجبات، ومستحبات، وكما يقول ابن تيمية: _ "الإيمان: مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان والصفات، فمن أجزائه ما إذا ذهب، نقص عن الأكمل، ومنه ما نقص عن الكمال(1) وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول(2) "
…فالإيمان كالحج _ مثلاً _ في اشتمالهما على أركان، وواجبات، ومستحبات، ففي الحج أركان متى تركت، لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، ومشتمل على واجبات من فعل أو ترك، يأثم بتركها أو فعلها عمداً، ويجب مع تركها الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، ورمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، فلا يأثم بتركها، ولا يجب دم، مثل: رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، ودعائه في الطواف وغيرهما (3)، فكذا الإيمان _ كما سبق ذكره _ ومن ثم فإن الناس متفاوتون في الإيمان، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن ربه، ولقد تواترت النصوص الدالة على أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة.
__________________________________________________ص (33)
__________
(1) أي الكمال الواجب، فالشارع لا ينفي الإيمان عن شيء، إلا لانتفاء ما هو واجب، لا لانتفاء ما هو مستحب . انظر: الأصفهانية ص139، ومجموع الفتاوى 18/268 ومنهاج السنة 5/208.
(2) مجموع الفتاوى 7/637، وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/806 .
(3) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 12/472،473، 7/514، 19/290، 291 .(1/33)
كقوله صلى الله عليه وسلم: _ " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان(1) " خلافاً للمبتدعة القائلين أن الإيمان لا يقبل التبعيض والتجزئة، وأنه شيء واحد.
وإذا تقرر أن الإيمان شعب متعددة، وأنه قابل للتبعيض والتجزئة، فإنه يمكن اجتماع إيمان وكفر غير ناقل عن الملة، في الشخص الواحد؛ لأن الإيمان مراتب، فكذا الكفر الذي يقابله _ كما سيأتي بيانه إن شاء الله _ وقد دلت النصوص الكثيرة على إمكان ذلك، كما في قوله تعالى:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف، آية 106]حيث إن الله أثبت لهم إيمانا مع شرك، فدل ذلك على اجتماعهما في المؤمن.
وقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات، آية 9] فأثبت الله تعالى لهم وصف الإيمان، مع أنهم متقاتلون، وقتال المسلم كفر، كما قال عليه الصلاة والسلام " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر(2) "
…وقوله عليه الصلاة والسلام " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض(3) "، فدلت هذه النصوص بمجموعها على اجتماع الإيمان والكفر _ الأصغر _ في المسلم.
…يقول ابن تيمية: _
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب خوف المؤمن . . . (1/110 ) ح (48)، ومسلم ك الإيمان، باب بيان قول النبي . . . (1/81 ) . ح (116)
(3) أخرجه البخاري، ك الإيمان، باب الإنصات للعلماء (1/317)، ح (121) . ومسلم، ك الإيمان، باب معنى قول النبي: لا ترجعوا (1/81) ح (118) .(1/34)
…" أما أئمة السنة والجماعة، فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم، فيكون مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب إيمان العبد وتقواه، فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى،
_____________________________________________________ ص (34)
فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس، آية 62] (1).
6_ إذا أدركنا حقيقة الإيمان وتعريفه، فيسهل علينا معرفة حقيقة الكفر الذي يضاد الإيمان وينافيه (2).
…إن الكفر حكم شرعي، والكافر من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليس الكفر حقاً لأحد من الناس، بل هو حق الله تعالى.
…يقول أبو حامد الغزالي(3): " الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلاً، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي فيدرك إما بنص وإما بقياس على منصوص.(4) "
__________
(1) الأصفهانية، ص 144، انظر مجموع الفتاوى 18/270، 11/173_ 175
(2) انظر ما نقلناه من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في حاشية رقم (1) ص 14 .
(3) هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي، فيلسوف، متصوف، ولد سنة 450هـ، صاحب تصانيف، وذكاء مفرط، وله رحلات، إشتغل بعلوم مذمومة ثم تاب عنها، وأقبل على الحديث حتى توفي في طابران بخراسان سنة 505 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 6/191، سير أعلام النبلاء 19/322 .
(4) فيصل التفرقة ص 128، وانظر: ص 146، 158 .(1/35)
…ولما أورد القاضي عياض(1) فصلاً عن المكفرات القولية، قال في مطلع هذا الفصل: " اعلم أن تحقيق هذا الفصل، وكشف اللبس فيه، مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه.(2) "
__________________________________________________ ص (35)
ويقول ابن تيمية: _
…" الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل، يكون كفراً في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صواباً في العقل، تجب في الشرع معرفته. (3)"
ويقول أيضاً: _
" فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف بكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، ولا تزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله.(4) "
ويقول ابن الشاط (5): _ كون أمر ما كفراً، أي أمر كان، ليس من الأمور العقلية بل هو من الأمور الوضعية الشرعية فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك، سواء كان ذلك القول إنشاء أم اخباراً (6)"
__________
(1) هو أبو الفضل عياض بن موسي اليحصبي الأندلسي، ولد سنة 476 هـ، له رحلات، وولي القضاء، ومؤلفاته كثيرة توفي بمراكش سنة 544 هـ انظر: سير أعلام النبلاء 20/212 والديباج المذهب 2/46 .
(2) الشفا 2/1065 .
(3) الدرء 1/242 وانظر مختصر الصواعق المرسلة 2/421، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ص78 .
(4) الرد على البكري ص 257، وانظر منهاج السنة 5/244 .
(5) هو قاسم بن عبد الله بن الشاط الإشبيلي المالكي، فقيه، أصولي، فرضي درس بمدينة سبته، له مؤلفات، توفي بسبتة سنة 723 هـ .
انظر: الديباج المذهب 2/152، معجم المؤلفين 8/105 .
(6) 10) تهذيب الفروق 4/158، 159 .(1/36)
…ويقول ابن الوزير(1): " إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه، وأن الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعياً قطعياً، ولا نزاع في ذلك (2). "
___________________________________________________ ص (36)
تعريف الكفر:
…وإذا انتقلنا إلى تعريف الكفر، فنبتدىء بتعريفه لغة، فأصل الكفر تغطية الشيء، وسمى الفلاح كافراً لتغطية الحب، وسمي الليل كافراً لتغطية كل شيء.
…قال تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} [الحديد، آية 20]، وقال لبيد بن ربيعة (3): _ حتى إذا ألقت يداً في كافر(4) يريد الليل؛ لأنه يغطي كل شيء، والكفر جحود النعمة وهو نقيض الشكر، وكفرّه بالتشديد، نسبه إلى الكفر، أو قال له كفرت بالله، وأكفره إكفاراً: حكم بكفره(5).
…يقول ابن الجوزي(6)
__________
(1) 11) هو محمد بن إبراهيم بن علي المرتضي، إمام كبير، من مجتهدي اليمن، له عدة مصنفات توفي بصنعاء سنة 840 هـ .
انظر: البدر الطالع 2/81، والأعلام 5/3000 .
(2) العواصم والقواصم 4/178 , 179 = باختصار .
(3) لبيد بن ربيعة، الشاعر المشهور، أدرك الإسلام، وهو صحابي جليل، كان فارساً شجاعاً سخياً، مات سنة 41 هـ .
…انظر: الإصابة 5/675، والبداية 7/221 .
(4) وعجز هذا البيت: وأجن عورات الثغور ظلامها
…انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 156
(5) انظر: لسان العرب 5/144، 145، والمصباح المنير ص 647، 648، والمفردات للأصفهاني ص 653 ـ 655
(6) هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي البغدادي، حافظ مفسر، وفقيه واعظ ولد سنة 509 هـ، له مصنفات كثيرة وفي علوم مختلفة، توفي سنة 597 هـ،
…انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/399، وسير أعلام النبلاء 21/365 .(1/37)
" ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه: _ أحدها الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [آية 6]، والثانى: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة: _ {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [آية 152]، والثالث: التبرؤ، ومنه قوله تعالى في العنكبوت: _ {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} [آية 25]، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة: _ {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [آية 89]، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد: _{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [آية 20]، يريد الزراع الذين يغطون الحب(1) "
…و أما تعريف الكفر إصطلاحاً، فنسوق بعض كلام أهل العلم في ذلك.
____________________________________________________ ص (37)
يقول ابن تيمية: " الكفر: عدم الإيمان، بإتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم.(2) "
…ويقول: _ ((الكفر عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كبراً، أو اتباعاً لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة.(3))
…ويقول أيضاً في ذكر بعض أقوال الفرق في تعريف الكفر: _
__________
(1) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، ابن الجوزي 2/119 , 120 وانظر: كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر لابن العماد، ص 33، 34 .
(2) مجموع الفتاوى 20/86 .
(3) مجموع الفتاوي 12/335، وانظر: 3/315 .(1/38)
…" والناس لهم فيما يجعلونه كفراً طرق متعددة، فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالاضطرار من دين الرسول، ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك، ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى، ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف، وقد لا يجعلها، وهم مختلفون في الصفات نفياً وإثباتاً، ومنهم من لا يحده بحد، بل كل ما تبين له أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، جعله كفراً، إلى طرق أخرى.
…ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة، فتكذيب الرسول كفر، وبغضه وسبه وعداوته، مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة، والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم، إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري، وغيرهم (1). "
…ويقول رحمه الله:
…" إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم(2) "
…ويقول في كتاب رابع: _
…" الإيمان متضمن للإقرار بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه، ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد
_____________________________________________________ ص (38)
غيره، وإن كان الرسول أخبر بكليهما، ثم مجرد تصديقه في الخبر، والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره لا باطناً ولا ظاهراً، ولا محبة لله ولا تعظيم له، لم يكن ذلك إيماناً.(3) "
__________
(1) منهاج السنة 5/251
(2) الدرء 1/242
(3) مجموع الفتاوى 7/533، 534 .(1/39)
…من خلال ما أوردناه من كلام ابن تيمية، نستخلص أن الكفر _ وهو نقيض الإيمان _ قد يكون تكذيباً في القلب، فهو مناقض لقول القلب _ وهو التصديق _، وقد يكون الكفر عملاً قلبياً كبغض الله تعالى، أو آياته، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يناقض الحب الإيماني، وهو آكد أعمال القلوب وأهمها، كما أن الكفر يكون قولاً ظاهراً يناقض قول اللسان، وتارة يكون عملاً ظاهراً كالإعراض عن دين الله تعالى، والتولي عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو بهذا يناقض عمل الجوارح القائم على الانقياد والخضوع والقبول لدين الله تعالى.
ويعرف ابن حزم الكفر بعبارة جامعة فيقول عن الكفر:
" وهو في الدين: صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان.(1) "
ويقول السبكي(2): _ " التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية، أو الرسالة، أو قول، أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً (3). "
ويقول ابن القيم _ في بيان معنى الكفر _
_____________________________________________________ص (39)
__________
(1) الإحكام 1/45، وانظر: الفصل 3/252، والمحلي 13/437 .
(2) هو عبد الوهاب بن على الشافعي، تاج الدين، ولد بالقاهرة سنة 727 هـ، برز في علوم كثيرة، واشتغل بالفتاوى والتدريس والقضاء، وجرى عليه محن كثيرة، وله مؤلفات متعددة، توفي بدمشق سنة 771 هـ .
…انظر: الدرر الكامنة 3/39، والبدر الطالع 1/410
(3) فتاوى السبكي 2/586 .(1/40)
" الكفر جحد(1) ما علم أن الرسول جاء به، سواء كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية فمن جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معرفته بأنه جاء به، فهو كافر في دق الدين وجله.(2) "
ويعرف الشيخ عبد الرحمن السعدي(3) الكفر قائلاً: _
…" وحد الكفر الجامع لجميع أجناسه، وأنواعه، وأفراده هو جحد ما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، كما أن الإيمان اعتقاده ما جاء به الرسول والتزامه جملة وتفصيلاً، فالإيمان والكفر ضدان متى ثبت أحدهما ثبوتاً كاملاً، انتفى الآخر(4) "
من خلال النصوص السابقة، ندرك معنى الكفر الذي لا يجامع الإيمان، بأنه اعتقادات، وأقوال، وأفعال حكم الشارع بأنها تناقض الإيمان.
7 _ إذا كان الإيمان قولاً وعملاً، فكذا الكفر يكون قولاً وعملاً، فهو _ أي الكفر _ قول القلب (التكذيب)، كما أنه أعمال قلبية _ كالبغض _ تناقض الإيمان، وهو قول باللسان، كما أنه أعمال ظاهرة بالجوارح تنقل عن الملة.
__________
(1) الجحد في اللغة: إنكارك بلسانك ما تستيقنه نفسك، قال تعالى " " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " " الأنعام، آية 33، انظر مفردات الأصفهاني ص122 ولسان العرب 3/106، والجحود _ ها هنا _ يراد به التكذيب المنافي للتصديق، كما يراد به الإمتناع والإباء المنافي للإنقياد، انظر الفتاوى لابن تيمية 20/98، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 44 .
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/421
(3) هو عبد الرحمن بن ناصر السعدي التميمي، من كبار علماء نجد المعاصرين، ولد بعنيزة عام 1307 هـ، له مؤلفات كثيرة، واشتغل بالتدريس، توفي بعنيزة عام 1376 هـ .
انظر: علماء نجد 2/422، والأعلام 3/340 .
(4) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 203، 204 .(1/41)
…و لمزيد من التفصيل لهذا التعريف نقول: إن الكفر قد يكون تكذيباً في القلب، وهذا الكفر قليل في الكفار _ كما يقول ابن القيم(1) _؛ لأن الله تعالى أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة، وأزال به المعذرة
وقد يكون الكفر قولاً باللسان، وإن كان القلب مصدقاً، أو غير معتقد بهذا الكفر القولي، يقول أبو ثور _ وقد سبق إيراد قوله بتمامه: _
______________________________________________________ ص (40)
ولو قال / المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك، وليس بمؤمن(2).
…ويقول ابن حزم: _
" ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام، قول الله _ عز وجل _ {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا {35} وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا {36} قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} إلى قوله {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف الآيات، 35 _ 42]، فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى، إذ شك في البعث.(3) "
…ويقول أيضاً: " لم يختلف أهل العلم بأن في القرآن التسمية بالكفر، والحكم بالكفر قطعاً على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: _ {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة، آية 17]و قوله تعالى {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة آية 74]، فصح أن الكفر يكون كلاماً (4). "
…ويقول ابن تيمية: _
__________
(1) انظر مدارج السالكين 1/337 .
(2) أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/849 .
(3) الفصل /3/235 .
(4) المحلى 13/498 = بتصرف يسير(1/42)
…" إن سب الله، أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء، وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل(1) "
…ومما يدل على أن الكفر قول باللسان، قوله تعالى في شأن المنافقين {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 66].
قال ابن تيمية: _
…" فقد أخبر تعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من
__________________________________________________ ص (41)
غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام.(2) "
…ويقول ابن نجيم (3)" إن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً، أو لاعباً كفر عند الكل، ولا اعتبار باعتقاده (4)"
…وإن الكفر _ أيضاً _ قد يكون عملاً قلبياً، فإن الأعمال القلبية مثل الحب والتوكل والخوف... لابد منها في الإيمان، فلو صدق الله ورسوله، ولم يكن محباً لله أو رسوله _ مثلاً _ لم يكن مؤمناً... بل هو كافر.
…وكذا الكفر، فقد يكون الشخص مصدقاً بالله ورسوله، ولكنه يبغض الله أو رسوله، ومن ثم فهو كافر لبغضه لله أو لرسوله.
…يقول ابن تيمية:
…" فمن صدق الرسول، وأبغضه، وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعاً بالضرورة(5). "
…ويقول أيضاً: _
__________
(1) الصارم المسلول ص 512 ت: _ محي الدين عبد الحميد .
(2) مجموع الفتاوى 7/220 .
(3) هو عمر بن ابراهيم بن محمد المصري، الحنفي، فقيه، مشارك في بعض العلوم، له مصنفات، توفي سنة 1005 هـ .
انظر: الأعلام 5/39، ومعجم المؤلفين 7/271 .
(4) البحر الرايق 5/134
(5) مجموع الفتاوى 7/556 . وانظر: 7/397، 529، 541 .(1/43)
…" والقلب إذا لم يكن فيه بغض ما يكرهه الله من المنكرات، كان عادماً للإيمان، والبغض والحب من أعمال القلوب(1)
…ويقول _ في موضع ثالث _: _
…" إن ما أخبرت به الرسل من الحق ليس إيمان القلب مجرد العلم بذلك، فإنه لو علم بقلبه أن ذلك حق، وكان مبغضاً له وللرسول الذي جاء به، ولمن أرسله، معادياً لذلك، مستكبراً عليهم، ممتنعاً عن الانقياد لذلك الحق، لم يكن هذا.
_________________________________________________ ص (42)
مؤمناً مثاباً في الآخرة باتفاق المسلمين (2). "
…ويذكر ابن تيمية دليلاً على ذلك فيقول: _
…يبين ذلك قوله تعالى: _ {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {107}أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل، الآيات 106 _ 109].
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/557 .
(2) التسعينية فتاوي ابن تيمية (ط الكردي ) 5/165، وانظر الصارم المسلول ص 518، 519 .(1/44)
…فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه، وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}، وبيّن تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل، ليس هو من باب الحب والبغض... واستحباب الدنيا على الآخرة، قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق (1). "
…ويقول أيضاً: " قد يحصل في القلب علم بالحق وتصديق به، ولكن ما في القلب من الحسد والكبر ونحو ذلك مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته.(2) "
…ويقرر ابن حزم عدم انحصار الكفر في التكذيب فحسب، فيقول:
…" قد قال الله تعالى: _ {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ {25} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ {26} فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {27} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، الآيات 25_28]، فجعلهم مرتدين كفاراً بعد علمهم بالحق، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم، ولم يقل تعالى أنهم جحدوا، بل قد صح أن في سرهم التصديق؛
__________________________________________________ ص (43)
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/559،560، وانظر ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية " " ذلك بأنهم استحبوا . . " " في كشف الشبهات / مؤلفات الشيخ 1/181
(2) مجموع الفتاوى 7/535، وانظر الموافقات للشاطبي 1/66 .(1/45)
لأن الهدى قد تبين لهم، ومن تبين له شيء، فلا يمكن ألبتة أن يجحده بقلبه أصلاً.(1) "
ويكون الكفر عملاً ظاهراً _ كالإعراض عن دين الله تعالى مثلاً _ فلقد حكم الله تعالى بكفر الممتنع عن طاعته تعالى، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تكون الطاعة تصديقاً فقط، قال تعالى {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران، آية 32].
يقول ابن كثير (2)_ رحمه الله _ عن هذه الآية: _ دلت الآية على أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله، ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين(3)(4). "
وساق الخلال بسنده إلى الحميدي(5)
__________
(1) الفصل 3/262، وانظر الفصل 3/259 .
(2) هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي محدث، مؤرخ، مفسر، فقيه، ولد سنة 700 هـ، له عدة مؤلفات وتوفي بدمشق سنة 774 هـ .
انظر: _ الدرر الكامنة 1/399، والبدر الطالع 1/153 .
(3) الفصل 3/262، وانظر الفصل 3/259 .
(4) تفسير ابن كثير 1/338 .
(5) هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن حميد، الإمام الحافظ الفقيه، صاحب ((المسند )) توفي بمكة سنة 219 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 10/616، وطبقات الشافعية 2/140(1/46)
حيث قال: " وأخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره، مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن، ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقر الفروض، وإستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين. قال الله عز وجل {حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة، آية 5](1). "
وقال إسحاق بن راهوية (2): _ ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما
__________________________________________________ ص (44)
حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، ومما جاء من عنده، ثم قتل نبياً، أو أعان على قتله، ويقول قتل الأنبياء محرم، فهو كافر(3). "
ويقول ابن تيمية: _
__________
(1) السنة للخلال 3/586، 587 .
(2) هو أبو يعقوب اسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، ولد سنة 161 هـ، كان إماماً كبيراً في الحفظ والفتوى والتفسير، توفي سنة 338 هـ .
انظر: طبقات الحنابلة 1/109، وسير أعلام النبلاء 11/358 .
(3) تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي 2/930 .(1/47)
قال تعالى: _ {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور آية 47]، والتولي هو التولي عن الطاعة، كما قال تعالى: _ {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح، آية 16]، وقال تعالى: _ {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[القيامة، آية 31، 32]. فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي، فلهذا قال: _ {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة آية 31، 32]و قد قال تعالى: _ {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47] فنفي الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول...
ـ إلى أن قال ـ
ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، كما نفي فيها الإيمان عن المنافق.(1) "
ويقول أيضاً: _
" الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم.(2) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/142، وانظر الصارم المسلول ص 33، 520، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1/92، وانظر رسالة " ضوابط التكفير عند أهل السنة " لعبد الله القرني ( ماجستير ) مطبوعة على الآلة الكاتبة ص 168، 200
(2) الدرء 1/242 .(1/48)
________________________________________________________ ص (45)
ولذا يقول ابن الوزير _ في الرد على من اشترط الاعتقاد في قول الكفر: _
".. وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفراً، إلا مع الاعتقاد، حتى قتل الأنبياء، والإعتقاد من السرائر المحجوبة، فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص.(1) "
8 _ من خلال العرض السابق لمعنى الكفر، ندرك أن الكفر ليس حقيقة أو شعبة واحدة، وهي التكذيب الإعتقادي أو القلبي كما هو عند المرجئة، بل هو شعب متعددة، ومراتب متفاوتة، كما أن مقابله _ وهو الإيمان _ شعب متعددة كما سبق ذكره
يقول ابن القيم _ مقرراً لذلك: _
" الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة، والحج، والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.(2) "
…ويقول أيضاً: _
…"وها هنا أصل آخر، وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود: أنه يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل، فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم، والإستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان (3). " وقد
__________________________________________________ ص (46)
__________
(1) إيثار الحق على الخلق ص 419
(2) كتاب الصلاة، ص 53 .
(3) كتاب الصلاة، ص 55، انظر الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص 27، 28 وأعلام السنة المنشورة للحكمي ص 73 ـ 76(1/49)
أورد محمد بن نصر المروزي(1) هذا الأصل، وحكاه عن علماء أهل الحديث قائلاً: " والكفر ضد الإيمان، إلا أن الكفر كفران: _ كفر هو جحد بالله، وبما قال، فذلك ضد الإقرار بالله، والتصديق به، وبما قال، وكفر هو عمل ضد الإيمان الذي هو عمل.
…وإن للكفر فروعاً، دون أصله، لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما أن الإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا تنقل تركه عن ملة الإسلام (2). "
…وقد ورد عن سلف هذه الأمه تقسيم الكفر إلى ما يخرج عن الملة وإلى ما لا يخرج، كابن عباس، وطاووس، وعطاء(3) وغيرهم.
…وإذا ثبت أن الكفر شعب متعددة، وأن له مراتب، فمنه ما يخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة، فإنه يمكن أن يجتمع في الرجل كفر ـ غير ناقل من الملة _ وإيمان. وهذا أصل عظيم عند أهل السنة، وقد خالفهم فيه أهل البدع، مع أن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والإجماع أدلة ظاهرة على هذا الأصل.
…وإذا تقرر ما سبق فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد، أن يصير كافراً الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم به أصل الإيمان (4).
…يقول ابن تيمية: _
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، ولد ببغداد سنة 202 هـ كان من أئمة عصره في الحديث، وهو من أعلم الناس باختلاف العلماء، له مؤلفات، توفي سنة 294 هـ .
…انظر: طبقات الشافعية 2/246، وسير أعلام النبلاء 14/33 .
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/517 ـ 520 = باختصار .
(3) انظر المرجع السابق 2/521، 522، وانظر فتح الباري 1/83 .
(4) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/208، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 60 والرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف آل الشيخ ص 31(1/50)
… "فرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك، إلا ترك الصلاة.(1)" وبين كفر منكر في الإثبات.
__________________________________________________ ص(47)
وفرق أيضاً بين معنى الإسم المطلق، إذا قيل: كافر. أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (2). فقوله " يضرب بعضكم رقاب بعض " تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يسمون كفاراً تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الإسم المطلق إذا قيل: كافر، ومؤمن(3). "
وإذا تقرر معنى الكفر،و أنه اعتقادات، وأقوال، وأعمال تنافي الإيمان، وأنه على شعب، ومراتب متفاوتة، فسندرك ما يلي: _
1_ أن المرجئه قد أخطأوا في قولهم إن الكفر هو التكذيب من وجهين: _
…الأول: قولهم كل من كفره الشارع، فإنما كفره لانتفاء تصديق القلب بالرب تبارك وتعالى، فحصروا الكفر في مجرد التكذيب فقط (4).
…الثاني: قولهم: إن التكذيب يقوم بالباطن، بحيث ينتفي التصديق عن الكافر، مع أن كفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، بل وغالب الأمم الكافرة، لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس مثلاً لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، فكفره الإباء والاستكبار وما يتبع ذلك (5).
…ولذا يقول ابن القيم رحمه الله:
__________
(1) أخرجه مسلم، ك الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على ترك الصلاة 1/88، ح (134 ) والترمذي في الإيمان 5/13، ح (2612 )، وأبو داود في السنة، ح (3678)
(2) سبق تخريجه .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 1/208، 209 .
(4) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/364، وانظر مجموع الفتاوى 7/557،558 .
(5) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/534، ومدارج السالكين 1/337 .(1/51)
…" وهذان القسمان (كفر الجحود والعناد، وكفر الإعراض) أكثر المتكلمين ينكرونهما، ولا يثبتون من الكفر إلا الأول (كفر التكذيب أو الجهل)، ويجعلون الثاني والثالث (كفر الجحود، والإعراض) كفراً لدلالته على الأول لا لأنه في ذاته، فليس عندهم الكفر إلا مجرد الجهل، ومن تأمل القرآن والسنة، وسير الأنبياء في أممهم، ودعوتهم لهم، وما جرى لهم معهم، جزم بخطأ أهل الكلام فيما قالوه، وعلم أن عامة كفر الأمم عن تيقن وعلم، ومعرفة بصدق أنبيائهم (1). "
___________________________________________________ ص (48)
وقد غلط المرجئة عندما ظنوا أن ترك العمل بالكلية، وعدم الإلتزام بالشريعة ليس كفراً،ما لم يكن عن تكذيب، فكما أنه لا يكفي لتحقيق الإيمان مجرد الإلتزام المجمل بالشريعة دون التصديق، فكذلك لا يكفي مجرد التصديق دون تحقيق الإلتزام الإجمالي (2).
2_ خطأ المبتدعة _ عموماً _ في دعواهم أن الكفر خصلة واحدة، بناء على ظنهم أن الإيمان شيء واحد، أو شعبة واحدة، مع أن النصوص الشرعية _ كما سبق ذكره _ تدل على أن الكفر شعب متفاوتة، فهناك كفر أكبر، وهناك كفر دون كفر... وهكذا.
9_ وإذ أنهينا الحديث عن معنى الإيمان والكفر، فإنه يجدر بنا أن نشير إلى معنى كلمة ((ناقض)) حيث إن موضوع هذه الرسالة _ كما هو معلوم _ ((نواقض الإيمان القولية والعملية))
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/94 .
(2) انظر أصول اللالكائي 4/850، ورسالة ضوابط التكفير ص 168، 176، 195 .(1/52)
…و بالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن النقض يطلق على: _ إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء، فهو بمعنى نكث الشيء، وانتثار العقد. والنقض ضد الإبرام ونقيضك الذي يخالفك(1).
…يقول الفيومي(2): _
…" ونقضت الحبل نقضاً حللت برمه، ومنه ما يقال نقضت ما أبرمه إذا أبطلته، وانتقض هو بنفسه، وانتقضت الطهارة بطلت، وانتقض الجرح بعد برئه والأمر بعد التئامه فسد، وتناقض الكلامان تدافعا كأن كل واحد نقض الآخر، وفي كلامه تناقض إذا كان بعضه يقتضي إبطال بعض (3). "
_________________________________________________ ص (49)
وفي التعريفات: " نقيض كل شيء: _ رفع تلك القضية، فإذا قلنا كل إنسان حيوان بالضرورة، فنقيضها أنه ليس كذلك (4)"
__________
(1) انظر: الفاخر للمفضل بن سلمة (ت291 هـ ) ص322، وجمهرة اللغة لابن دريد 3/99، وتهذيب اللغة للأزهري 8/344، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/470، 471، ولسان العرب لابن منظور 7/242، وترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير 4/427، وإكمال الإعلام بتثليث الكلام للجياني 2/721، وتاج العروس للزبيدي 5/93
(2) هو أبو العباس أحمد بن محمد على الفيومي، فقيه، لغوي، له مصنفات توفي سنة 770 هـ .
…انظر: الدرر الكامنة 1/334، معجم المؤلفين 2/132 .
(3) المصباح المنير ص 762 .
(4) التعريفات للجرجاني ص 245 .(1/53)
…وفي التنزيل جاءت مادة ((نقض)) في مواضع. منها: قوله تبارك وتعالى: _ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل، آية 92]، وقوله سبحانه وتعالى: _ {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}[النحل، آية 91]، وقوله سبحانه وتعالى {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد، آية 20]، كما وردت مادة ((نقض)) في الحديث النبوي، كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: " لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة(1). " أي هدمتها.
…وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه(2). " أي أزاله.
…وعن أبي أمامة الباهلي(3)7) رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لتنقض عرا الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة.(4) "
…فمن خلال ما سبق عرضه من النصوص، يمكن القول، بأن معنى النواقض _ إصطلاحاً _ أنها اعتقادات، أو أقوال أو أفعال تزيل الإيمان وتقطعه، وإذا كان الإيمان قائماً على إعتقاد، والاعتقاد _ لغة _ فيه معنى اللزوم والتأكد والاستيثاق (5)، فإن ((النقض)) يقابل ((العقد))، ومن ثم فإن تلك المكفرات تنقض الإيمان، بينما سائر المعاصي تنقص الإيمان.
__________
(1) أخرجه البخاري، ك العلم، باب من ترك بعض الاختيار .. (1/224 )، ح ( 126 ) ومسلم، ك الحج، باب نقض الكعبة (2/971 )، ح (402)
(2) أخرجه البخاري، ك اللباس، باب نقض الصور (10/385 ) ح (5952 )
(3) هو صدي بن عجلان الباهلي، صحابي جليل، سكن الشام مات رضي الله عنه سنة 36 هـ
…انظر: الاصابة 3/420، سير أعلام النبلاء 3/359 .
(4) أخرجه أحمد (4/232 )، والحاكم (4/92 ) وصححه .
(5) انظر لسان العرب 3/297 مادة (( عقد )) .(1/54)
__________________________________________________ ص (50)
ومما يحسن ذكره _ ها هنا _ في خاتمة هذا المبحث أننا إذا رجعنا إلى كتب الفقه، فإننا نجد أن الفقهاء _ رحمهم الله _ يعقدون باباً مستقلاً للمرتد وأحكامه فيوردون معنى الردة، فنذكر أمثلة لتعريفاتهم للردة.
…ففي بدائع الصنائع يقول الكاساني(1): _ " أما ركن الردة فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان.(2) "
…ويقول ((الصاوي))(3) في شرح الصغير: _ الردة كفر مسلم بصريح من القول، أو قول يقتضي الكفر، أو فعل يتضمن الكفر. (4)"
…ويقول الشربيني (5)في ((مغنى المحتاج)): " الردة هي قطع الإسلام بنية، أو قول، أو فعل سواء قاله استهزاءً، أو عناداً، أو اعتقاداً.(6) "
…ويقول البهوتي(7)
__________
(1) 10) هو أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، فقيه، أصولي، توفي بحلب سنة 587 هـ، وله مؤلفات . انظر: معجم المؤلفين 3/75، والأعلام 2/70 .
(2) 7/134 بتصرف يسير / وانظر البحر الرايق لابن نجيم 5/129 .
(3) هو أحمد بن محمد الصاوي، الخلوتي المالكي، ولد بمصر سنة 1175هـ، توفي بالمدينة 1241 هـ، وله مصنفات .
…انظر: معجم المؤلفين 2/111، والأعلام 1/246 .
(4) 6/144، 145، وانظر حاشية الدسوقي 4/301، وبلغة السالك 2/416، وفتح العلي المالك 2/281 .
(5) هو محمد بن أحمد الشربيني الشافعي، فقيه، مفسر، متكلم، نحوي له مصنفات كثيرة، توفي سنة 977 هـ انظر: شذرات الذهب 8/384، ومعجم المؤلفين 8/269
(6) 4/133، وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/413، وروضة الطالبين للنووي 10/64
(7) هو منصور بن يونس بن صلاح البهوتي الحنبلي، شيخ الحنابلة بمصر، له مؤلفات متعددة في الفقه، توفي بمصر سنة 1051 هـ
…انظر: مختصر طبقات الحنابلة للشطي ص 114، ومعجم المؤلفين 13/22 .(1/55)
في ((كشاف القناع)): _ المرتد: لغة هو الراجع. قال تعالى: _ {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة، آية 21].
___________________________________________________ص (51)
وشرعاً الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً، أو اعتقاداً، أو شكاً، أو فعلاً.(1) "
وبهذا يعلم أن الردة عن الإسلام هي الرجوع عن الإسلام إما بإعتقاد أو فعل أو قول.
__________________________________________________ ص (52)
المبحث الثاني: ((التكفير المطلق وتكفير المعين))
المطلب الأول: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين
يفرق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يطلق القول بتكفير صاحبه _ الذي تلبس بالكفر _ فيقال من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله، لا يحكم بكفره إطلاقاً حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
…يقول ابن تيمية:
" وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة (2).
…ثم يقول: " إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعين(3). "
__________
(1) 6/136،وانظر المبدع في شرح المقنع 9/170، والمغني 8/123، وشرح منتهى الإرادات 3/386، غاية المنتهى 3/335 .
(2) مجموع الفتاوى (الكيلانية ) 12/466
(3) مجموع الفتاوى ( الكيلانية ) 12/487، 488(1/56)
…ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين، فيقول: _ " الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبه لمعرفة الحق، وقد تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطاياه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية، أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام.(1) "
…إلى أن قال: " كان الإمام أحمد _ رحمه الله _ يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته؛ لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
_______________________________________________ ص (53)
ظاهرة بينه... لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط... ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية، ويدعون الناس إلى ذلك ويعاقبونهم، ويكفرون من لم يجبهم، ومع هذا فالإمام أحمد ترحم عليهم، واستغفر لهم، لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك..
…وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: - القرآن مخلوق، كفرت بالله العظيم، بيّن له أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد، لسعى في قتله.(2) "
…ولقد طبق ابن تيمية هذا المسلك، فكان يقول: " ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال (3). "
__________
(1) مجموع الفتاوى 23/326
(2) مجموع الفتاوى 23/348، 349 باختصار .
(3) مجموع الفتاوى 23/326(1/57)
…ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1): _ " ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك، لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها (2). "
…وبهذا يتضح لنا التكفير العام المطلق يجب القول بعمومه وإطلاقه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر، فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه، فالكفر من الوعيد الذي نطلق القول به، ولكن لا
__________________________________________________ ص (54)
نحكم للمعين بدخوله في ذلك المطلق حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له(3).
…وإذا ظهر لنا الفرق بين التكفير المطلق، وتكفير المعين، فسندرك خطأ فريقين من الناس، فهناك فريق من الناس قد غلا، فادعى تكفير المعين بإطلاق، دون النظر إلى الشروط والموانع، وفريق آخر امتنع عن تكفير المعين بإطلاق، فأغلق باب الردة (4).
________________________________________________ ص (55)
……
المطلب الثاني: عدم المؤاخذة قبل الإنذار
__________
(1) هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على التميمي، صاحب الحركة الإصلاحية المشهورة، كان عالما كبيراً، رحل إلى عدة بلدان وله مؤلفات كثيرة، توفي بالدرعية سنة 1206 هـ
…انظر: تاريخ ابن غنام، علماء نجد 1/25
(2) الدرر السنية 8/244 .
(3) انظر لمزيد من التفصيل: مجموع الفتاوى 3/354، 12/498، 28/500، 501، 35/165 .
(4) انظر في الرد على الفريق الأخير: رسالة مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ( مجموعة مؤلفات الشيخ 1/279 _ 329 )، وفتاوي محمد بن إبراهيم 1/73 ,74، ورسالة حكم تكفير المعين للشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ .(1/58)
لقد أرسل الله الرسل عليهم السلام مبشرين ومنذرين، وأقام سبحانه للناس أسباب الهداية، ومن تمام حكمته وعدله أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15] وقال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8}قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك، آية 7، 8].
…وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: _ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: _ " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار(1) "
…و توضيحا ً لما سبق ذكره نختار نبذة من مقولات العلماء على النحو الآتي: _
…يقول ابن حزم: " قال الله تعالى {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19]، وقال عز وجل {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15].
…فنص تعالى على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته، لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل، فصح بذلك أنه من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف، والأصم، ومن كان في الفترة، والمجنون، فيقول المجنون " يارب أتاني الإسلام، وأنا لا أعقل، ويقول الخرف والأصم، والذي في الفترة أشياء ذكرها، فيوقد لهم نار، ويقال لهم:
__________
(1) أخرجه مسلم ك الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/134)، ح (240 )(1/59)
__________________________________________________ ص (56)
أدخلوها، فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً(1)، وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين، فإنه معذور لا ملامة عليه.(2) "
…ويقول الشاطبي(3): _ جرت سنته _ سبحانه _ في خلقه، أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكلٍ جزاء مثله.
…كما أنه تعالى أنزل القرآن برهاناً في نفسه على صحة ما فيه، وإقامة للحجة وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه كفاية(4) "
ويقول ابن تيمية: _ وهذا أصل لابد من إثباته، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولاً تقوم به الحجة عليه.(5) "
…ثم ساق النصوص القرآنية الدالة على ذلك... ثم قال: _
__________
(1) أخرجه أحمد ولفظه: " أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئاً وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة، فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار، قال: فو الذي نفس محمد بيده لو دخلوها، لكانت عليهم برداً وسلاماً "
انظر المسند 4/24، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/215 _217 وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/418، 419/ / رقم الحديث (1434 )
(2) الفصل 4/105 .
(3) هو أبو اسحاق إبراهيم بن موسي بن محمد اللخمي الغرناطي، محدث، فقيه أصولي لغوي، مات سنة 790 هـ، وله مؤلفات
…انظر: معجم المؤلفين 1/118، والأعلام 1/75 .
(4) الموافقات 3/377 = بتصرف يسير .
(5) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/309 .(1/60)
…وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: _ {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19]. فمن بلغه بعض القرآن دون
________________________________________________ ص (57)
بعض، قامت الحجة عليه بما بلغه دون ما لم يبلغه.(1) "
…ثم قال: _ " والذي عليه السلف والأئمة أن الله تعالى لا يعذب إلا من بلغته الرسالة، ولا يعذب إلا من خالف الرسل كما دل عليه الكتاب والسنة، ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال، والمجانين وأهل الفترات، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب. (2)" …
…ويؤكد في موضع آخر _ على أنه لا تعذيب إلا بعد البلاغ، فيقول: _
…" إن الكتاب والسنة قد دلت على أن الله لا يعذب أحداً، إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة، لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل، لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية.
…وذلك مثل قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165].
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/310
(2) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/312 باختصار، وانظر مجموع الفتاوى (تفسير سورة الإخلاص ) 17/308 .(1/61)
…وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}[الأنعام، آية 130] _ وذكر آيات كثيرة ثم قال: _ فمن كان قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به،فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب على من يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به، فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها(1). "
ويقرر ابن القيم " أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: _ العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم
___________________________________________________ص (58)
حجة الرسل (2). "
…ومن الفوائد التي أوردها العراقي(3) في شرحه لحديث " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة.. " قوله: " ومفهومه إن لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور على ما تقرر في الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح (4). "
__________
(1) مجموع الفتاوى (الكيلانية ) 12/493، 494 = باختصار .
(2) طريق الهجرتين ص 414، وانظر مدارج السالكين 1/188 .
(3) هو أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي زين الدين، من كبار حفاظ الحديث، له رحلات كثيرة، ومؤلفات متعددة، توفي بالقاهرة سنة 806 هـ .
انظر: شذرات الذهب 7/55، والأعلام 3/344 .
(4) طرح التثريب شرح التقريب 7/160 .(1/62)
…وأورد الشنقيطي(1) مسألة " هل يعذر المشركون بالفترة(2) أم لا؟ " ثم قال: _ " والتحقيق أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.(3) "
ومن خلال ما أوردناه من نصوص ونقول، يتقرر أن العذاب والمؤاخذة لا يقع إلا بعد النذارة وقيام الحجة، وأن أهل الفترة ومن في حكمهم يمتحنون يوم القيامة، كما جاءت بذلك الأحاديث والله تعالى أعلم(4).
__________________________________________________ ص (59)
المطلب الثالث: ((العذر بالجهل))
__________
(1) هو محمد الأمين بن محمد المختار الجكني، ولد عام 1325 هـ بشنقيط، واجتهد في طلب العلم، وكان آية في التفسير والأصول، له مؤلفات كثيرة، كما كان له جهود في الدعوة ونشر العلم، وكان زاهداً ورعاً تقياً، توفي بمكة المكرمة سنة 1393 هـ .
انظر: ترجمة عطية سالم للشنقيطي في آخر الجزء التاسع من أضواء البيان .
(2) الفترة: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسي عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم / انظر تفسير ابن كثير 2/34 .
(3) أضواء البيان 3/481، وانظر التفصيل لهذه المسألة في نفس الكتاب 3/474 _ 484 .
(4) انظر للمزيد من التفصيل في هذا المطلب: تفسير ابن كثير 3/28 _32، وإيثار الحق لابن الوزير ص206، فتح الباري 3/246، تفسير المنار 6/72، 73، أهل الفترة ومن في حكمهم لموفق أحمد شكري .(1/63)
مما قد يعتبر مانعاً من موانع تكفير المعين: العذر بالجهل، وإنما اقتصرت عليه، مع تعدد عوارض الأهلية، لكثرة الكلام فيه، ووقوع اللبس فيه، وهذه مسألة خاض الناس فيها ما بين غال وجاف، فهناك من يجعل الجهل عذراً بإطلاق، وهناك من يمنعه بإطلاق، والحق وسط بينهما _ كما سيأتي بيانه إن شاء الله _ ونوجز ما يهمنا في هذه المسئلة على النحو التالي: _
1_ المقصود بالجهل خلو النفس من العلم، أو عدم العلم عما من شأنه العلم (1).
ونؤكد _ ابتداء _ أن الجهل أمر أصلي ينبغي رفعه _ حسب الاستطاعة _ وأن يسعي إلى تعليم الجاهل.
…ولما ساق ابن عبد البر _ رحمه الله _ حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أهدى رجل لرسول صلى الله عليه وسلم رواية خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها، قال: لا.. الحديث(2) "
…قال بعد ذلك: " وفي هذا الحديث دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم، قال الله عز وجل: _ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15]، ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم والله أعلم (3). "
…ويقول القرافي(4): _ " القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن
__________
(1) انظر مفردات الراغب ص 142، وفتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم 3/102 والتعريفات للجرجاني ص80 .
(2) أخرجه مسلم، ك المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، (3/1206 ) ح ( 1579 )، ومالك، ك الأشربة، باب جامع تحريم الخمر (2/846 )
(3) التمهيد 4/140، وانظر الكبائر للذهبي ص 47 .
(4) أحمد بن أدريس الصنهاجي المالكي، فقيه، أصولي، مفسر، ولد بمصر سنة 626 هـ له مؤلفات كثيرة، توفي بمصر سنة 684 هـ .
…انظر: الديباج المذهب 1/236، معجم المؤلفين 1/158 .(1/64)
__________________________________________________ ص (60)
ترك التعلم والعمل، وبقي جاهلاً، فقد عصى معصيتين لتركه واجبين.(1) "
…ويؤكد ابن تيمية على ذلك قائلاً: إن بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب، فإن العذر الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاءه، بل المطلوب زواله حسب الإمكان، ولولا هذا لما وجب بيان العلم، ولكان ترك الناس على جهلهم خيراً لهم، ولكان ترك دلائل المسائل المشتبهة خيراً من بيانها.(2) "
يقول ابن اللحام (3): _ " جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم، أما اذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً (4). "
ويقول السيوطي(5): _ كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك.(6) "
2_ والأمر الآخر الذي ينبغي مراعاته في هذه المسألة، وهو أن العذر بالجهل له اعتبار في مسألة التكفير بالنسبة لمن يغلب عليه التلبس به، كمن أسلم حديثاً، ومن نشأ في البادية ونحوهما.
__________
(1) الفروق 4/264، وانظر الفروق 2/149 _ 151
(2) مجموع الفتاوى 20/279 وانظر الفتاوى 22/16 .
(3) هو علي بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي، الفقيه الواعظ الأصولي، اشتغل بالتدريس والفتيا والقضاء، له مؤلفات، توفي بمصر سنة 803 هـ
انظر: الجوهر المنضد لابن عبد الهادى ص 81، وشذرات الذهب 7/31 .
(4) القواعد والفوائد الأصولية ص 58 .
(5) هو عبد الرحمن بن محمد المصري الشافعي، جلال الدين، عالم مشارك في أنواع من العلوم، نشأ بالقاهرة، وألف كتباً كثيرة في مختلف الفنون، توفي سنة 911 هـ .
انظر: شذرات الذهب 8/51، والبدر الطالع 1/328 .
(6) الأشباه والنظائر ص 200(1/65)
…سئل الإمام الشافعي عن صفات الله وما يؤمن به، فقال: " لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، ولا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يقدر
_______________________________________________ ص (61)
بالعقل، ولا بالروية والقلب والفكر، ولا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه به.(1) "
ويقول الإمام البخاري: _ " كل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق، فإنه يعلم ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به، كان معانداً، قال الله تعالى: _ {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة، آية 115]، ولقوله: _ {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء، آية 115].(2) "
" ويقول محمد بن جرير(3)
__________
(1) مختصر العلو للذهبي ص 177 .
انظر إثبات صفة العلو لابن قدامة ص 124 ت، بدر البدر
(2) خلق أفعال العباد 61
(3) هو أبوجعفر محمد بن جرير بن كثير الطبري، إمام مجتهد، صاحب التصانيف في علوم مختلفة، توفي ببغداد سنة 310 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 3/120، وتاريخ بغداد 2/162(1/66)
في كتابه التبصير في معالم الدين _ بعد أن ذكر بعض نصوص الصفات _ قال: فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله بها نفسه، ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، ولا يكفر بالجهل أحد إلا بعد انتهائها إليه. (1)"
ويقول ابن حزم: _ " ولا خلاف في أن امرءاً لو أسلم _ ولم يعلم شرائع الإسلام _ فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافراً بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر (2). "
وفي هذا المقام يقول ابن تيمية:
" لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: _
________________________________________________ ص (62)
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]، ولهذا لو أسلم رجل، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية (3)".
… ويقول _ في موضع آخر _: _ " من دعا غير الله، وحج إلى غير الله فهو مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالماً بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيراً من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم وهم يتقربون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضاً، ولا يعلمون أن ذلك محرم فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك...(4) "
__________
(1) إجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 195، وانظر سير أعلام النبلاء 14/280
(2) المحلي 13/151 .
(3) مجموع الفتاوى 11/406 .
(4) الرد على الأخنائي ص 61، 62 = باختصار يسير .(1/67)
…ويقول أيضاً _ في موضع ثالث: _ " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر. (1)"
…ولعل من أظهر الأدلة(2) في اعتبار الجهل عذراً، ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: _ " إن رجلاً لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل،
__________________________________________________ ص (63)
فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يارب وأنت أعلم فغفر الله له (3)"
…ويقول ابن قتيبة(4)
__________
(1) الرد على البكري ص 258، وانظر الفتاوى 12/500، ومجموعة الرسائل لابن تيمية 4/382 .
(2) إن الأدلة ها هنا كثيرة جداً . . وانظر ما كتبه _ مثلاً _ شريف هزاع في كتابه العذر بالجهل ولعل من آكد هذه الأدلة حديث الذي أمر أهله بإحراقه والذي قال عنه ابن تيمية: _ " " وهو حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة، وعقبة بن عمرو، وغيرهم من وجوه متعددة " مجموع الفتاوى 12/491، وانظر مجموع الفتاوى 11/408، 409، ومجمع الزوائد للهيثمي 10/194، 196، وإيثار الحق لابن الوزير ص 438، والعواصم والقواصم لابن الوزير 4/175 .
(3) أخرجه البخاري، ك أحاديث الأنبياء، (6/514 ) ح (3478) ومسلم، ك التوبة، باب في سعة رحمه الله ( 4/2109 ) ح (2756 )
(4) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، علامة كبير، صاحب التصانيف، ونزل بغداد، وتولي القضاء، وتوفي سنة 276 هـ .
انظر: تاريخ بغداد 10/170، والبداية والنهاية 11/48 .(1/68)
:عن هذا الحديث: " وهذا رجل مؤمن بالله، مقر به، خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أحرق وذروي في الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه جهله بهذه الصفة من صفاته. (1)"
…ويقول ابن تيمية: " وكنت دائماً أذكر هذا الحديث.. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك (2)."
…ويفصل ابن تيمية ذلك بقوله: _ " فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم، بعدما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك. وهذان أصلان عظيمان، أحدهما: متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني: متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً _ وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه _ غفر الله بما كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح.(3) "
__________________________________________________ص (64)
__________
(1) تأويل مختلف الحديث ص 136 ت: محمد الأصفر .
(2) مجموع الفتاوى 3/231، وانظر مجموع الفتاوى 28/501، 11/409، 410 وانظر الفصل لابن حزم 3/296 .
(3) مجموع الفتاوى 12/491، وانظر السبعينية ( بغية المرتاد ) ص 342 .(1/69)
ويضيف ابن تيمية في بيان هذا الحديث قائلاً: _ " فإن هذا الرجل جهل قدرة الله على إعادته ورجا أن لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة، ومع هذا لما كان مؤمناً بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، خائفاً من عذابه، وكان جهله بذلك جهلاً لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله، غفر الله له، ومثل هذا كثير في المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأخبار الأولين، ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة.(1) "
…ومما يجدر ذكره هاهنا، أننا في زمان قد تهيأت فيه الأسباب لتبليغ ونشر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في البلدان عن طريق الوسائل المختلفة، التي جعلت سائر أقطار العالم كالبلد الواحد(2) إلا أن العذر بالجهل لا يزال ظاهراً في عصرنا، حيث قل أهل العلم العاملون، وكثر الأدعياء الذين يزينون الباطل والكفر للعامة، ويلبسون عليهم، وقد أشار ابن تيمية إلى أهل زمانه _ وهو بلا شك أقل سوء من زماننا الحاضر _ وما كان عليه الكثير من الوقوع في أنواع من الكفر، ومع ذلك عذرهم بهذا الجهل قائلاً: _
__________
(1) الصفدية 1/233، وانظر: _ مدارج السالكين 1/338، 339، إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص 436 وانظر مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ (11) ( الفتاوى ) ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن عثيمين 3/605 .
(2) انظر المنتخبات من مكتوبات أحمد السر هندي ص 68 .(1/70)
" وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه الصلاة، ولا صياماً، ولا حجاً، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا
__________________________________________________ ص (65)
وهم يقولون لا إله إلا الله، فقيل لحذيفة بن اليمان(1): ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار(2) "(3) "
2_ وعندما نقرر أن للعذر بالجهل اعتباراً في مسألة التكفير، فلا يعني أن الجهل عذر مقبول لكل من ادعاه. ولذا يقول الإمام الشافعي: " إن من العلم ما لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا.(4) "
…" وكما يقول ابن قدامه(5)
__________
(1) حذيفة بن اليمان الأزدي، صحابي جليل، وأمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ممن أشار على عثمان رضي الله عنه بكتابة المصحف وجمعه، توفي بالمدائن سنة 36 هـ
انظر: الإصابة 2/45، سير أعلام النبلاء 2/361 .
(2) انظر: تخريجه ص 474
(3) الفتاوى 35/165 .
(4) الرسالة ص 357
(5) هو عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي، الزاهد الإمام، وأحد أعلام الحنابلة، رحل الى بغداد، وله تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 620 هـ
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 2/133، وسير أعلام النبلاء 22/165 .(1/71)
: _ أثناء كلامه عن تارك الصلاة " فإن كان جاحداً لوجوبها (أي الصلاة) نظر فيه، فإن كان جاهلاً به، وهو ممن يجهل ذلك كالحديث الإسلام، والناشىء ببادية، عرف وجوبها وعلم ذلك، ولم يحكم بكفره لأنه معذور، فإن لم يكن ممن يجهل ذلك كالناشىء من المسلمين في الأمصار والقرى، لم يعذر ولم يقبل منه إدعاء الجهل، وحكم بكفره؛ لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة،و المسلمين يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، ولا يجحدها إلا تكذيباً لله تعالى، ورسوله وإجماع الأمة، وهو يصير مرتداً عن الإسلام، ولا أعلم في هذا خلافاً.(1) "
____________________________________________________ص (66)
ومن المهم أن يعلم أن العذر بالجهل تكتنفه وتتعلق به عدة أمور، منها نوعية المسألة المجهولة(2)، كأن تكون من المسائل الخفية، وكذلك حال الجاهل كحديث عهد بالإسلام، أو الناشىء في البادية، ومن حيث حال البيئة، ففرق بين وجود مظنة العلم أو عدمه.
…يقول ابن تيمية: _ " إن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة، لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة.(3) "
__________
(1) المغني 2/442 .
(2) يقسم بعضهم تلك المسائل _ بهذا الاعتبار _ إلى أربعة أقسام: _
الأول: ما يكفر به مطلقاً ولا يعذر بجهله وهي الأمور الظاهرة والمعلومة من الدين بالضرورة .
الثاني: ما لا يكفر بجهله وهي المسائل الخفية التي اختلف فيها، ولم يجمع عليها .
الثالث: ما لا يكفر به إذا فعله جاهلاً، إلا بعد إعلامه بحكم الله فيه، وهو مما أجمع عليه . . ولكن تعرض فيه شبهه وسوء فهم .
الرابع: المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الرواية والدلالة، فهذه يعذر فيها كل مجتهد باجتهاده .
انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/520، 521 .
(3) السبعينية (بغية المرتاد ) ص 311(1/72)
…ويقول أيضاً: _ " لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك.(1) "
…ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب _ رحمه الله _: _ " إن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف(2) فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي
________________________________________________ ص (67)
أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة.(3) "
ويقول _ في موضع آخر _: " إن الشخص المعين إذا قال ما يوجب الكفر، فإنه لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضح المحجة. (4)"
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/501، وانظر مجموع الفتاوى 11/407 .
(2) الصرف والعطف من السحر، فيزعمون أنه يحبب المرأة لزوجها فلا ينصرف عنها .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/11 ( الفتاوى )، وانظر الفتاوى لابن تيمية 4/54، 12/180، وانظر تعليق الشيخ محمد رشيد رضا في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/517، وانظر مجموع فتاوى ابن باز 4/26، 27 .
(4) الدرر السنية 8/244، وانظر فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/73، 74 .(1/73)
…وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: " يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر، باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحاً وخفاء، وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفا(1)"
كما ورد في نفس الفتوى ما يلي: " ومن عاش في بلاد يسمع فيها بالدعوة إلى الإسلام وغيره، ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله، فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية، وأصر على الكفر(2) "
…" أما من عاش في بلاد غير إسلامية، ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن القرآن الكريم والإسلام، فهذا على تقدير وجوده، حكمه حكم أهل الفترة، يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولاً وفروعاَ، إقامة للحجة، وإعذاراً إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه، أو بلهه، أو صغره، وعدم تكليفه، وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة، أو لتقابل الأدلة وتجاذبها، فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر، ولكن
__________________________________________________ ص(68)
يقال: أصاب وأخطأ(3) "
ومما يحسن التنبيه عليه أن العذر بالجهل فيمن قارفوا الكفر، لا يعني نفي الكفر عنهم وقد أظهروه، كما يقتضيه الحكم الدنيوي عليهم.
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، جمع أحمد الدويش 2/97
(2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، جمع أحمد الدويش 2/97
(3) المرجع السابق 2/99(1/74)
وفي هذا يقول ابن تيمية: " أخبر الله تعالى عن هود أنه قال لقومه: {اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود، آية 50] فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر، فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول... وأما التعذيب فلا(1) "
ولما ذكر ابن القيم طبقات المكلفين، ذكر منهم طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم، فكان مما قاله عن تلك الطبقة: _
" إتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، لا الصحابة ولا التابعين، ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة(2) " وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر، وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين.
والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً.(3) "
___________________________________________________ص (69)
ويقول أيضاً:
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/37، 38 .
(2) أخرجه مسلم، ك الإيمان، باب غلط تحريم القتل . .، (1/106 )، ح (178 ) وأحمد (1/3 )
(3) طريق الهجرتين ص 411 = باختصار(1/75)
" الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.(1) "
…ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين (2): " قد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم.(3) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: _
((كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة، إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي، وصاحب قبر، أو شيخ طريق يعتبر كافراً مرتداً عن الإسلام، مشركاً مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده، لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله، ولكنه قد يعذر لجهله، فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة، ويمهل ثلاثة أيام إعذاراً إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته...فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة، لا ليسمى كافراً بعد البيان، فإنه يسمى كافراً بما حدث منه من سجود لغير الله مثلاً (4). ((
__________
(1) المرجع السابق ص 413، وانظر مدارج السالكين 3/489
(2) أحد علماء نجد، وكان مفتي الديار النجدية، ولد عام 1194 هـ في سدير ودرس ثم جلس للتدريس والفتيا، وتولى القضاء، له عدة مؤلفات وتوفي سنة 1282 هـ
…انظر: علماء نجد 2/567 .
(3) الدرر السنية 8/213
(4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1/220 = باختصار(1/76)
ومن خلال ما سبق ندرك خطأ إطلاق القول بأن الجهل عذر في أصل الدين وفي غيره، كما أن إطلاق القول بأن الجهل ليس عذراً خطأ أيضاً، بل لابد من
__________________________________________________ ص (70)
التفريق بين ما كانت المخالفة فيه بمناقضته أصل الدين ونحوه من الأمور الظاهرة والمعلومة من الدين بالضرورة، وما كانت المخالفة فيه متعلقة بأمور تحتاج إلى بيان وتفصيل، كما أنه لابد من التفريق بين أحكام الدنيا (ظاهراً)، وأحكام الآخرة (باطناً)(1).
_____________________________________________________ص (71)
المبحث الثالث: معنى قيام الحجة
1_ نؤكد _ ابتداء _ ما سبق الإشارة إليه من ضرورة قيام الحجة، وأن من بلغته الدعوة، فقد قامت عليه الحجة، كما قال ابن تيمية: _ " حكم الوعيد على الكفر، لا يثبت في حق الشخص المعين، حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله.(2) "
…ويقول في موضع آخر: " إن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا بعد البلاغ لقوله تعالى: _ {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء، آية 15]، ولقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء، آية 165]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بين الله سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول.(3) "
…وقد يشكل على البعض: كيف تقوم الحجة على من قضى الله تعالى بخذلانه وحرمانه؟ ولكن كما قال ابن القيم _ رحمه الله _: _
__________
(1) انظر رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 298 .
(2) السبعينية ( بغية المرتاد ) ص 311
(3) مجموع الفتاوى 22/41(1/77)
…" فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه، قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية باطناً وظاهراً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه...(1) "
2 _ وأمر آخر وهو أن إقامة الحجة ليس لكل مسألة مطلقاً،... فهناك أمور _ كالمسائل الظاهرة مما هو معلوم من الدين بالضرورة _ لا يتوقف في كفر قائلها، ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة،
__________________________________________________ ص (72)
إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس... وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله (2). "
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (3)
__________
(1) شفاء العليل ص 173
(2) الدرر السنية 8/244، وانظر الدرر السنية 8/90
(3) هو العلامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب مفتى الديار السعودية، اشتغل بالتدريس والفتيا ورئاسة القضاء والإشراف على تعليم البنات، وله رسائل وفتاوى، توفي سنة 1389 هـ
انظر: مقدمة الجزء الأول من فتاويه، وعلماء نجد 1/88(1/78)
: _ " إن الذين توقفوا في تكفير المعين، في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد وأما ما علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالاسلام.(1) "
3_ وإذا أردنا أن نتحدث عن الضابط في قيام الحجة على المعين، فيمكن القول بأن الأصل أنه لا تكفير للمعين إلا إذا كانت الحجة الرسالية قد بلغته، وقد يراد ببلوغ الحجة الرسالية مجرد البلوغ العام الذي تقوم به الحجة بأصل الدين الذي هو عبادة الله والتقرب إليه وحده والإتباع المجمل للشريعة، وقد يراد ببلوغ الحجة ما يتعلق بتفاصيل الحجة الرسالية، والإتباع المفصل للشريعة بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فلابد فيه _ لإقامة الحجة _ من الإبلاغ التفصيلي، فمن لم تبلغه حجة الله بشيء من تلك الأمور، لم يكن مكلفاً، فالحجة الرسالية على التفصيل شرط في التكليف.
وأما الإقرار بأصل الدين _ الشهادتين _ علماً وعملاً فهو كاف في قيام
__________________________________________________ ص (73)
الحجة في إستحقاق الله وحده للعبادة دون غيره، ومجمل الإتباع للشريعة(2).
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1/74، وانظر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء 1/528
(2) انظر للمزيد مكن التفصيل: رسالة ضوابط التكفير لعبد الله القرني ص 298 _ 326(1/79)
…وأما شرط قيام الحجة على الخلق " فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم أو ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً، وهذه أوقات الفترات. (1)"
4_ ومما يجدر ذكره هاهنا أن قيام الحجة يختلف بإختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، كما قال ابن القيم: " إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له.(2) "
5_ كما ينبغي أن يفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: _ " وأصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان، آية 44].
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/59، وانظر مجموع الفتاوى 19/71
(2) طريق الهجرتين ص 414(1/80)
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر، فإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قول صلى الله عليه وسلم في الخوارج: _ " أينما لقيتموهم فاقتلوهم.(1) " مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم
_________________________________________________ ص (74)
يفهموها.(2) "
ويقول أيضاً: " من المعلوم أن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول تعالى: _ {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الإسراء، آية 46]وقوله: _ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال، آية 22](3) "
ومقصود الشيخ الإمام من فهم الحجة _ ها هنا _ أي الفهم الذي يقتضي الإنتفاع والتوفيق والإهتداء، كما مثل له بفهم الصديق رضي الله عنه، وأما قيام الحجة فتقضي الإدراك وفهم الدلالة، والإرشاد، وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع، كما قال الله تعالى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت، آية 17].
__________
(1) أخرجه البخاري، ك استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج . (12/283 ) ح ( 6931 ) ومسلم، ك الزكاة باب ذكر الخوارج، ( 2/741 ) ح ( 64، 1)
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( الفتاوى ) 3/12،13 .
(3) الدرر السنية 8/79، وانظر كلام الشيخ عبد الله أبي بطين في الدرر السنية 8/213، 214، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/515(1/81)
ومما يؤكد ذلك ما سطره تلميذه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر(1) رحمه الله حيث قال: _ " وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليه حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه.(2) "
___________________________________________________ ص (75)
المبحث الرابع: تكفير المتأول
1_ يطلق التأويل على عدة معان: فيراد به الحقيقة والعاقبة، كما يطلق بمعنى التفسير والبيان، وأما معنى التأويل عند المتأخرين فهو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ لدليل يقترن به مع قرينة مانعة من المعنى الحقيقي (3).
…والمقصود بالتأول ها هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد للمخالفة، بل قد يعتقد أنه على حق (4).
…يقول ابن حجر(5) في تعريف للتأويل السائغ: " قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم.(6) "
__________
(1) من كبار علماء نجد، تعلم في الدرعية، بعثه الإمام عبد العزيز الأول سنة 1211هـ إلى مكة ليناظر علماءها، وقد ظهر عليهم وأذعنوا لحجته، تولى القضاء، وله مؤلفات، توفي بمكة سنة 1225 هـ .
انظر: مشاهير علماء نجد ص 2، 2، علماء نجد 1/239 .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/638، وانظر تعليق محمد رشيد رضا في حاشية الصفحة السابقة، وانظر رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 344، 345 .
(3) انظر: رسالة الإكليل في المتشابه والتأويل لابن تيمية / مجموع الفتاوى 13/270_313 .
(4) انظر: رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 328، 346 .
(5) هو أبو الفضل أحمد بن على بن محمد الكناني العسقلاني، عاش بمصر، محدث، مؤرخ، وأديب، شاعر، له التصانيف النافعة توفي سنة 852 هـ
انظر: شذرات الذهب 7/270، والبدر الطالع 1/87
(6) فتح البارى 12/3،4(1/82)
…والتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة التكفير، بل في الوعيد عموماً ولذا يقول ابن تيمية: " إن الأحاديث المتضمنه للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها، باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد له متوقف على شروط، وله موانع.
وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه(1) " وصح عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يداً بيد: " أوه عين الربا.(2) " كما قال: " البر بالبر
__________________________________________________ ص (76)
ربا، إلا هاء وهاء. (3)" الحديث، وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة في الحديث.
ثم إن الذين بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الربا في النسيئة(4) " فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنه، وأصحابه... الذين هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا؛ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة.(5) "
ويقول أيضاً: " وعمل السلف وجمهور الفقهاء بأن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية، ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتلهم محرما ً. (6)"
ويقول ابن تيمية _ في موضع ثالث _:
__________
(1) أخرجه مسلم، ك المساقاة ح (1598) وأحمد 3 / 3،4
(2) أخرجه البخارى، كتاب الوكالة ح (2312 )، ومسلم، كتاب المساقاة ح ( 1594)
(3) أخرجه البخاري، كتاب البيوع ح (2134)، ومسلم، كتاب المساقاة ح ( 1586 )
(4) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة ح (1596)
(5) مجموع الفتاوى 20/263= باختصار يسير، وقد أطنب ابن تيمية في ذكر أمثلة عديدة
انظر مجموع الفتاوى 20/264 _ 268، والاستقامة 2/189
(6) 10) مجموع الفتاوى 20/254(1/83)
" والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً.(1)"
ويقرر ابن حزم العذر بمثل هذا التأويل قائلاً: -
" ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام
__________________________________________________ ص (77)
الحجة.(2) "
كما يقرر ذلك ابن الوزير حيث يقول: _ قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: _ {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل، آية 106]، ويؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً، أو ظناً، أو تجويزاً، أو احتمالاً.(3) "
ويعلق الشوكاني(4)
__________
(1) 11) مجموع الفتاوى 3/231 وانظر 3/283، 12/523 .
(2) الدرة ص 414، وانظر الفصل 3/296، 297
(3) إيثار الحق على الخلق ص 437
(4) هو محمد بن على الشوكاني، الصنعاني، مفسر، محدث، فقيه، أصولي، ولد سنة 1173 هـ، له مصنفات كثيرة، توفي بصنعاء سنة 1250 هـ
انظر: _ نيل الأوطار 2/297، البدر الطالع 2/214(1/84)
على عبارة صاحب كتاب " الأزهار(1): " والمرتد بأي وجه.. كفر " فيقول: _ أراد المصنف إدخال كفار التاويل اصطلاحاً في مسمى الردة، وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم، وعثرة لا تقال، وهفوة لا تغتفر، ولو صح هذا لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين.(2) "
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: _
" إن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً والتزموا ذلك، لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك.(3) "
2_ إذا ظهر أن التأويل عذر في المسألة التكفير، فإن هذا لا يعني أن كل من ادعى التأول فهو معذور بإطلاق، بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته؛ لأن هذا الأصل
___________________________________________________ ص (77)
(الشهادتين) لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية _ مثلاً _ وأنهم لا يعذرون بالتأويل؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، وعدم عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الاسلام(4).
__________
(1) كتاب الأزهار في فقه الزيدية، وعنوانه كاملاً: _ الأزهار في فقه الأئمة الأخيار " ومؤلفه: أحمد بن يحيي المهدي المتوفي سنة 840 هـ، انظر الأعلام 1/269 .
(2) السيل الجرار 4/373، وانظر أيضاً 4/576 .
(3) الإرشاد في معرفة الأحكام ص 207 .
(4) انظر رسالة ضوابط التكفير ص 369، وانظر فتوى شيخ الاسلام ابن تيمية في شأن الباطنية 35/161، 162 .(1/85)
ومن ثم فليس كل التأويل يعتبرا سائغاً أو عذراً مقبولاً، فهناك من التأويل ما يعتبر سائغاً، ومنه ما ليس كذلك، فلابد من مراعاة ذلك، وعدم الخلط بينهما.
يقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني: -
" المتأول إذا أخطأ وكان من أهل عقد الإيمان، نظر في تأويله، فإن كان قد تعلق بأمر يفضي به إلى خلاف بعض كتاب الله أو سنة يقطع بها العذر، أو إجماع فإنه يكفر ولا يعذر؛ لأن الشبهة التي يتعلق بها من هذا ضعيفة لا يقوى قوة يعذر بها؛ لأن ما شهد له أصل من هذه الأصول، فإنه في غاية الوضوح والبيان، فلما كان صاحب هذه المقالة لا يصعب عليه درك الحق، ولا يغمض عنده بعض موضع الحجة لم يعذر في الذهاب عن الحق، بل عمل خلافه في ذلك على أنه عناد وإصرار، ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول، وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد اختيار الكفر، ولا رضي به، وقد بلغ جهده، فلم يقع له غيره ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: _ {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة، آية 115]. فكل من هداه الله عز وجل، ودخل في عقد الإسلام، فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان.(1) "
ويقول ابن حزم: _ " وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي، أو سائر الملل، أو الباطنية القائلين بإلهية إنسان من الناس، أو بنوة أحد من الناس، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعذرون بتأويل أصلاً، بل هم كفار مشركون على كل حال.(2) "
ويذكر أبو حامد الغزالي التأويل الغير سائغ ومثاله فيقول: _
___________________________________________________ص (79)
__________
(1) الحجة في بيان المحجة 2/510، 511
(2) الدرة لابن حزم ص 441 وانظر ص 414(1/86)
" ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، مثاله:ما في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطى العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحداً في نفسه، وموجوداً، وعالماً على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح؛ لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة (1)ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً... فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات.(2) "
كما يورد ابن الوزير أمثلة للتأويل المردود، مما لا يمكن أن يكون عذراً لمن تلبس به فيقول: " لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار.(3) "
__________
(1) لعلها: إعطاء
(2) فيصل التفرقة ص 147
(3) إيثار الحق على الخلق ص 415 وانظر ص 129، والعواصم لابن الوزير 4/177(1/87)
ويقول السعدي موضحاً تباين أهل البدع ممن تلبس بتأويل وشبهة: - " هؤلاء المبتدعة المخالفون لما ثبتت به النصوص الصريحة والصحيحة، أنهم في هذا الباب أنواع، من كان منهم عارفاً بأن بدعته مخالفة للكتاب والسنة فتبعها ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، وشاق الله ورسوله من بعد ما تبين له الحق، فهذا لا شك في تكفيره، ومن كان منهم راضياً ببدعته معرضاً عن طلب الأدلة الشرعية، وطلب ما يجب عليه من العلم الفارق بين الحق والباطل ناصراً لها، راداً ما جاء به الكتاب والسنة مع جهله وضلاله، واعتقاده أنه على الحق، فهذا ظالم فاسق بحسب تركه ما أوجب الله عليه، وتجرئه على ما حرم الله تعالى ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو حريص على اتباع الحق واجتهد في ذلك، ولم يتيسر له من يبين له ذلك فأقام على ما هو عليه، ظاناً أنه صواب من القول، غير متجرىء على أهل الحق بقوله، ولا فعله، فهذا ربما كان مغفوراً له خطؤه والله أعلم.(1) "
__________________________________________________ ص (80)
ثم يكشف السعدي الفرق بين أهل التأويل السائغ وغيرهم فيقول: _
" والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وجد بعض التفاصيل التي كفر أهل العلم فيها من اتصف بها، وثم أخر من جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوغ وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصلوا فيها القول، لكثرة التأويلات الواقعة فيها.(2) "
__________
(1) الإرشاد في معرفة الأحكام ص 209، ولمعرفة أقوال العلماء _ تفصيلاً . في الحكم على المتأولين انظر الشفا لعياض 2/1051 _ 1065 .
(2) المرجع السابق / نفس الصفحة(1/88)
3_ وإذا تقرر ما سبق ذكره، فإن مما يلحق بهذا المبحث مسألة التكفير بما يؤول ويرجع إليه القول (التكفير بالمآل)، والمقصود به أن يقول قولاً يؤديه سياقه إلى كفر، وهو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه، كحال بعض أهل البدع والمتأولين(1).
يقول ابن رشد الحفيد(2): _ " ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم.(3) "
وقد بين أهل العلم هذه المسألة، ومن ذلك ما ذكره القاضي عياض حيث قال عند ذكره للمعطلة: _
" فأما من أثبت الوصف، ونفى الصفة فقال: أقول: عالم ولكن لا علم له، ومتكلم ولكن لا كلام له، وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة، فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله، ويسوقه إليه مذهبه كفره، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم، فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قولهم.
__________________________________________________ ص (81)
ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم، ولا ألزمهم موجب مذهبهم، لم ير إكفارهم، قال: لأنهم إذا وقفوا على هذا، قالوا: لا نقول ليس بعالم، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتموه لنا، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر، بل نقول: إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك.
__________
(1) انظر الشفا 2/1056
(2) أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، الفيلسوف، اهتم بالطب والفقه، له تصانيف كثيرة، تولى القضاء، توفي بمراكش سنة 595هـ
انظر: سير أعلام النبلاء 21/307، والديباج المذهب 2/257
(3) بداية المجتهد 2/492 .(1/89)
و الصواب: ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران، وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم، ووراثاتهم، ومناكحتهم، ودياتهم، والصلاة عليهم، ولكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب، وشديد الزجر والهجر، حتى يرجعوا عن بدعتهم.(1) "
ويبطل ابن حزم الكفر بالمآل فيقول: _
" وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفراً، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر.(2) "
_ إلى أن قال _ " فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط.(3) "
كما ينفي الشاطبي الكفر بالمآل فيقول: _
" والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول " إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال " كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به.(4) "
4_ ومما هو قريب من مسألة التكفير بالمآل ما يسمى بالتكفير بلازم القول(5).
_________________________________________________ ص (82)
ومعنى اللازم: ما يمتنع إنفكاكه عن الشيء، وقد يكون هذا اللازم بيناً، وهو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما. وقد يكون غير بين، وهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسط(6).
إن التكفير بلازم القول مطلقاً قد أورث في الأمة تفرقاً واختلافاً... وكما قال الإمام الذهبي (7)
__________
(1) الشفا 2/1084 _ 1086
(2) الفصل 3/294 .
(3) الفصل 3/294
(4) الاعتصام 2/197
(5) أطلق ابن الوزير على مسألة التكفير بالمآل: التكفير بالإلزام، انظر العواصم والقواصم 4/367 .
(6) انظر التعريفات للجرجاني ص 190
(7) هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الامام، الحافظ، المؤرخ ولد سنة 673 هـ بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، وتوفي بدمشق سنة 748 هـ .
انظر: _ طبقات الشافعية 9/100، والبدر الطالع 2/110(1/90)
_ رحمه الله _: _
" لا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي، والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة، أو نعت الباري بنعوت المعدوم.
كما أن جماعة من علماء الأثر، بالغوا في الإثبات(1)، وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والإتباع. فحصل الشغب ووقعت البغضاء، وبدع هذا هذا، وكفر هذا هذا ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلماً موحداً بلازم قوله، وهو يفر من ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب.(2) "
وقد بين العلماء هذه المسألة وأحوالها، وسنورد جملة من كلامهم في ذلك على النحو التالي: _ سئل ابن تيمية: هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فكان من جوابه ما يلي:
" الصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه، كانت إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال. ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء وغيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه وصفاته حقيقة.(3) "
__________________________________________________ ص (83)
ويقول في موضع آخر: _ " لازم قول الإنسان نوعان: _
أحدهما: _ " لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
__________
(1) عفا الله عن الإمام الذهبي، فلو سلمنا بأن بعض علماء الأثر بالغوا في الإثبات، فلا يسوى هؤلاء العلماء بأولئك المتكلمين كما يفهم من عبارة الذهبي .
(2) الرد الوافر لابن ناصر الدين ص 48 .
(3) مجموع الفتاوى 20/217 .(1/91)
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول، لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه.
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب: هل هو مذهب أو ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله.(1) "
وقال الشاطبي: _ ((ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضاً أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار.(2))
وأورد السخاوي(3) مقالة شيخه ابن حجر حيث قال: " والذي يظهر أن الذي يحكم عليه بالكفر من كان الكفر صريح قوله، وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه.. أما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً ولو كان اللازم كفراً. (4)"
____________________________________________________ ص (84)
__________
(1) القواعد النورانية ص 129،128، وانظر مجموع الفتاوى 5/306، 477، وشرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/394، 395 .
(2) الاعتصام 2/549
(3) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن السخاوي، الشافعي، فقيه، مقرىء، محدث، مؤرخ ولد بالقاهرة سنة 831 هـ، وله مؤلفات كثيرة، توفي بالمدينة سنة 907 هـ
انظر: شذرات الذهب 8/15، والبدر الطالع 2/184
(4) فتح المغيث 1/334، وانظر العلم الشامخ للمقبلي ص 412(1/92)
وذكر الشيخ السعدي تحقيقه في هذه المسأله قائلاً: _ " والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهباً؛ لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه. ونقوله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه، فيستدل بفساد اللازم _ خصوصاً اللازم الذي يعترف القائل بفساده _ على فساد الملزوم.(1) "
وخلاصة ما سبق أن يقال: أن لازم أقوال المذاهب والعلماء له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يذكر اللازم للقائل، ويلتزم به فهو يعد قولاً له.
الحالة الثانية: أن يذكر له اللازم، ويمنع التلازم بينه وبين قوله، فهذا ليس قولاً له، بل إن إضافته إليه كذب عليه.
الحالة الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه؛ فلا يذكر بالتزام، ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله(2).
__________
(1) توضيح الكافية الشافية ص 113
(2) انظر القواعد المثلى في صفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه الحسنى لمحمد بن عثيمين ص 15 .(1/93)
وبهذا يعلم أنه لا يصح التكفير بلازم المذهب بإطلاق، خاصة إذا كان من تلبس به ينفي ذلك اللازم وينكره، أو كان يجهله، أو يغفل عنه، والله أعلم (1).
____________________________________________________ص (85)
المبحث الخامس
اعتبار المقاصد في نواقض الإيمان
1_ إن مما ينبغي مراعاته في موضوع نواقض الإيمان: _ مسألة اعتبار المقاصد، فينظر إلى قصد ومراد من قد يكون متلبساً بكفر، مع النظر _ في نفس الوقت _ إلى ما ظهر منه من قول أو فعل، فهناك ارتباط وتلازم بين الباطن (القصد) والظاهر _ كما سبق في المبحث الأول _
و مما أورده ابن تيمية في اعتبار المقاصد قوله: _
__________
(1) ذكر المقبلي حكايات لبعضهم، تضمنت التكفير بإلزامات متكلفة، فذكر أن بعض الناس منع أحد هؤلاء المتفقهة نعله، فقل ذاك الفقيه: _ كفرت ؛ لأنك هونت العلماء، وهو تهوين للشريعة، ثم للرسول، ثم المرسل . وفعل بعضهم شيئاً من منكرات الدولة، فقال المظلوم: _ هذا ظلم وحاشا السلطان من الأمر والرضى به، فقال: _ أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان، فقد نسبت الظلم إلى السلطان، فهونت ما عظمت الشريعة من أمر السلطان فكفرت، فأخذوه وجاؤا به إلى القاضي، وحكم عليه بالردة، ثم جدد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلك !!
انظر: العلم الشامخ ص 413(1/94)
…" ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي(1) " قال له سعد بن معاذ " أنا أعذرك، إن كان من الأوس ضربت عنقه.. " والقصة مشهورة فلما لم ينكر ذلك عليه، دل على أن من آذي النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه يجوز ضرب عنقه، والفرق بين ابن أبيّ وغيره ممن تكلم في شأن عائشة، أنه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن عليه، وإلحاق العار به، ويتكلم بكلام ينتقصه به، فلذلك قالوا: _ نقتله، بخلاف حسان ومسطح وحمنة، فإنهم لم يقصدوا ذلك، ولم يتكلموا بما يدل على ذلك، ولهذا إنما استعذر النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبيّ دون غيره...(2) "
ويقول أيضاً: _
" فإن سب موصوفاً بوصف أو مسمى باسم، وذلك يقع على الله سبحانه، أو بعض رسله خصوصاً أو عموماً، ولكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك، إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه، أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه، لكن ظهر أنه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره، فهذا القول وشبهه حرام في الجملة، يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام، ويعزر مع العلم تعزيزاً بليغاً لكن لا يكفر بذلك ولا يقتل، وإن كان يخاف عليه الكفر.(3) "
__________________________________________________ ص (86)
__________
(1) أخرجه البخاري، ك التفسير، باب " لولا إذ سمعتموه ( 8/453 ) ح ( 4750 ) ومسلم، ك التوبة، باب في حديث الإفك (4/2129) ح (2770 )
(2) الصارم المسلول ص 179، 180، وانظر ص 58، 59
(3) المرجع السابق ص 562 وانظر ص 495 .(1/95)
ويقول في موضع ثالث: _ " إن المسلم إذا عنى معنى صحيحاً في حق الله تعالى، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ، فأطلق لفظاً يظنه دالاً على ذلك المعنى، وكان دالاً عل غيره أنه لا يكفر... وقد قال تعالى: _ {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} [البقرة، آية 104] وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله تعالى عنها، ولم يكفرهم بها.(1) "
…ولما تحدث السبكي عن مسألة إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو نحوه، قال: _ " لكن الأذى على قسمين أحدهما: _ يكون فاعله قاصداً لأذى النبي صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن هذا يقتضي القتل، وهذا كأذى عبد الله بن أبي في قصة الأفك، والآخر أن لا يكون فاعله قاصداً لأذى النبي صلى الله عليه وسلم مثل كلام مسطح وحمنة في الإفك، فهذا لا يقتضي قتلاً.
ومن الدليل على أن الأذي لابد أن يكون مقصوداً قول الله تعالى: _ {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب، آية 53]. فهذه الآية في ناس صالحين من الصحابة، لم يقتض ذلك الأذى كفراً، وكل معصية ففعلها مؤذي، ومع ذلك فليس بكفر، فالتفصيل في الأذى الذي ذكرناه يتعين.(2) "
2 _ وإذا أشرنا إلى مسألة اعتبار المقاصد في موضوع نواقض الإيمان، فإن هذه المسألة لا تنفك عن مسألة الإرتباط والتلازم بين الظاهر والباطن.
__________
(1) الرد على البكري ص 341، 342، وانظر أعلام الموقعين لابن القيم 3/110
(2) فتاوى السبكي 2/591، 592، وانظر الفروق للقرافي 4/118، 119(1/96)
يقول ابن تيمية موضحاً هذا التلازم: _ " إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة، كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما لزم من نقص هذا، نقص هذا، إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع. (1)"
________________________________________________ ص (87)
ويقول أيضاً: _ ‘ن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وإن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءً من الإيمان.(2) "
كما يقرر أن الإيمان القلبي {لما كان له موجبات في الظاهر، فإن الظاهر دليل على إيمان القلب ثبوتاً وانتفاء، كقوله تعالى: _ {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 22]، وقوله عز وجل {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} [المائدة، آية 81.](3) "
ويقول الشاطبي من هذه المسألة: _ " الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرما ً، حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه، وسائر الأحكام العاديات، والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/582 .
(2) مجموع الفتاوى 7/616، وانظر: _ 7/621
(3) شرح الأصفهانية ص 142 .
(4) الموافقات 1/233(1/97)
وهذا التلازم بين الظاهر والباطن، ليس تلازماً بإطلاق، فقد لا يكون العمل الظاهر مستلزماً لإيمان القلب (الباطن) حقيقة، كما هو الشأن في حال المنافقين، ومن ثم فيتعين عدم الخلط بين أحكام الدنيا، وأحكام الآخرة... فالمنافق _ مثلاً _ في أحكام الدين تجري عليه أحكام أهل الإسلام الظاهرة، وإن كان في الحقيقة _ وفي الحكم الأخروي _من الكافرين، وفي الدرك الأسفل من النار، وإليك أقوال أهل العلم في هذه المسألة على النحو التالي: _
يقول الإمام الشافعي: _ وإنما كلف العباد الحكم على الظاهر من القول والفعل، وتولى الله الثواب على السرائر دون خلقه، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: _ {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ {1}اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون، آية 1، 2](1) "
__________________________________________________ ص (88)
ثم قال: _ " وأحكام الله ورسوله تدل على أنه ليس لأحد أن يحكم على أحد إلا بظاهر، والظاهر ما أقر به، أو قامت به بينة تثبت عليه.(2) "
__________
(1) الأم 1/259
(2) الأم 1/ 260(1/98)
ويقول أيضاً: _ أخبر عز وجل عن المنافقين بالكفر، وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره بأنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم كاذبون بأيمانهم، وحكم فيهم جلّ ثناءه في الدنيا بأن ما أظهروا من الإيمان، وإن كانوا به كاذبين لهم جنة من القتل، وهم المسرون الكفر المظهرون الإيمان وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذ حقن الله تعالى دماء من أظهر الإيمان بعد الكفر – أن لهم حكم المسلمين من الموارثة والمناكحة وغير ذلك من أحكام المسلمين، فكان بيّنا في حكم الله عز وجل في المنافقين، ثم حكم رسول الله صلى الله عيه وسلم أن ليس لأحد أن يحكم على أحد بخلاف ما أظهر من نفسه، وأن الله عز وجل إنما جعل للعباد الحكم على ما أظهر، لأن أحداً لا يعرف ما غاب إلا ما علمه الله عز وجل.(1) "
ويقول ابن تيميه:- " إن كثيراً من الفقهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجرى عليه أحكام المرتد ردةً ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح... وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا " ثلاث أصناف " مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكون في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان نفاقه – كابن أبيّ وأمثاله – ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات له ميت، آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماءهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته. (2)
ويقول أيضاً:- " وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان:-
كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم " الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري علي المنافق أحكام المسلمين.(3) "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 89
__________
(1) الأم 6 /157، وانظر 6/ 165، وانظر الشفا لعياض 2/ 540، 961
(2) مجموع الفتاوى 7/617
(3) مجموع الفتاوى 7 / 620، 621(1/99)
ولما عرض ابن تيمية مسألة الحكم على أولاد الكفار أقوال العلماء فيها قال بعد ذلك: _
" ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة: _اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم، واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين.و غير ذلك، صار من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.
وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله، إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه، ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا.(1) "
ويقول الشاطبي _ رحمه الله: _ " إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً أيضاً، فإن سيد البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامه بالوحي، يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.(2) "
ويقول الحافظ ابن حجر: _
" وقوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) (3)وهو عام يخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 8/432، 433 .
(2) الموافقات 2/271، وانظر الاعتصام 2/196، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/128
(3) أخرجه البخاري، ك استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة، ( 12/267 ) ح (6922) وأحمد 1/282(1/100)
_ ثم قال: _ وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن
__________________________________________________ ص (90)
أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة:- " هل شققت عن قلبه.(1) " وقال للذي ساره في قتل رجل: " أليس يصلي؟: قال:- نعم، قال " أولئك الذين نهيت عن قتلهم ".(2) "
3- وإذا تقرر ما سبق، فإن القصد (الباطن) مع الظاهر في مسألة التكفير، له أحوال متنوعة، فقد يكون القصد مكفراً دون أن يدل عليه العمل الظاهر، ومرة يكون العمل الظاهر قاطعاًً في كفر الباطن، ومرة ثالثة يتلبس المعين بما هو كفر قطعاً لكن يمنع من تكفيره الإحتمال في قصده(3)، وحالة رابعة حيث يأتي المعين بقول مجمل، أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، مما يوقع تردداً وتوقفاً وإختلافاً بين العلماء في تكفيره (4).
فمثال الحاله الأولى التى يكون فيها القصد مكفراً، لكن لايدل عليه العمل الظاهر، فمثل أعمال المنافقين التي هى في الظاهر طاعات، مع أنهم كفار حقيقة، لعدم إخلاصهم لله تعالى، قال تعالى:- {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 8]، وإن كانوا في الظاهر تجري عليهم أحكام الإسلام – كما سبق -، ومثال الحاله الثانية التي يكون فيها العمل الظاهر قاطعاً في كفر الباطن فمثل سب الله تعالى، وسب رسوله صلى الله عليه وسلم ونحوها؛ لأن هذا السب لنفس الأمر كفر بذاته؛ ولا يقع من مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا يقول ابن تيمية: _
__________
(1) أخرجه مسلم، ك الإيمان، (1/97 )، ح(158)
(2) فتح الباري 12/272، 273
(3) انظر هذه الحالات الثلاث تفصيلاً في رسالة ضوابط التكفير ص 274 _ 297
(4) انظر هذه الحالة تفصيلاً في الشفا 2/978 _ 985(1/101)
" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل(1) "
ويقول أيضاً: _ " لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء، ويقول أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك
__________________________________________________ ص (91)
من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول.(2) "
ومثال الحالة الثالثة والتي يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً، لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده، ما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: _ " كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: _ إذ أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات، فعل به ذلك، فأمر الله والأرض فقال: _ اجمعني ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: _ ما حملك على ما صنعت؟ قال: _ يارب خشيتك، فغفر له.(3) "
ففي هذا الحديث _ وقد سبق ذكره _ نجد أن هذا الرجل قد شك في قدرة الله تعالى، وبعث الأجساد وهذا كفر بالاتفاق، لكن الله تعالى قد غفر له حيث كان مؤمناً واليوم الآخر _ على سبيل الإجمال _ والذي حمله على فعله هو جهله، وخشيته من الله عز وجل.
__________
(1) الصارم المسلول ص 512
(2) مجموع الفتاوى 7/616، وانظر شرح الأصفهانية ص 142، وأعلام الموقعين لابن القيم 3/107
(3) سبق تخريجه ص 63 .(1/102)
ومثال الحالة الرابعة حيث يتلبس المعين بقبول مجمل أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، ما أورده القاضي عياض حيث قال: _ " وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه، فقال له: _ صل على النبي محمد، فقال له الطالب: _ لا صلى الله على من صلى عليه، فقيل لسحنون: _ هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه، قال: _ لا، إذا كان على ما وصفت من الغضب؛ لأنه لم يكن مضمراً الشتم.
وقال أبو إسحاق البرقي، وأصبغ بن الفرج: _ لا يقتل، لأنه إنما شتم الناس، وهذا نحو قول سحنون؛ لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما احتمل الكلام عنده، ولم تكن معه قرينة على شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم، ولا مقدمة يحمل عليها
__________________________________________________ ص (92)
كلامه، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء، لأجل قول الآخر له: _
صل على النبي، فحمل قوله وسبه لمن يصلي عليه الآن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه.
وذهب الحارث بن مسكين القاضي وغيره في مثل هذا إلى القتل. (1)"
__________________________________________________ ص (93)
الباب الأول
نواقض الإيمان القولية
____________________________________ ص (94)
نواقض الإيمان القولية
قد تقرر أن الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً ظاهراً باللسان، ولم يختلف أهل العلم بأن في القرآن التسمية بالكفر، والحكم بالكفر على من نطق بأقوال معلومة.(2)
فمن ذلك ما جاء في قوله تعالى: _ {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة، آية 73]وقد غلا قوم إزاء تلك النواقض القولية، فلم يعتدوا بعوارض الأهلية التي اعتبرها الشارع كالخطأ والجهل ونحوهما.
__________
(1) الشفا 2/979، 980، وانظر إعلام الموقعين لابن القيم 3/108
(2) انظر المحلى لابن حزم 13/498(1/103)
و منهم من كفر بلوازم الأقوال وما تؤول إليه، وإن كان المخالف ينكر ذلك اللازم، وفي هذا يقول ابن الوزير: _
" ومن أقبح التكفير ما كان منه مستنداً إلى وجه ينكره المخالف من أهل المذهب مثل تكفير الأشعرية(1) بالجبر الخالص الذي هو قول الجهمية الجبرية وهو ينكرونه والله تعالى يقول: _ {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء، آية 94].(2) " وفي المقابل نجد آخرين قد تساهلوا وفرطوا، فعلقوا تلك النواقض بالاستحلال القلبي الذي لا يمكن الإطلاع عليه، وجعلوا تلك النواقض مجرد علامات على الكفر.
فسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ليس كفراً إلا إذا استحل ذلك! وتمادى بعضهم فزعم أن من نطق بصريح الكفر عالماً بذلك فإنه لا يكفر حتى يعتقد الكفر، فلم يكفروا النصارى القائلين إن الله ثالث ثلاثة _ ومع نص القرآن على كفرهم _ إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول.(3)
________________________________________________________ص (95)
وسأورد في هذا الباب جملة من النواقض القولية راجياً من الله تعالى وحده التسديد والتوفيق، دون إفراط أو تفريط.
__________
(1) الأشاعرة: _ فرقة كبيرة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري ( ت 324 هـ )، وهم من أهل الإثبات مع تعطيل في الصفات، وإرجاء في الإيمان، واضطراب في باب القدر والنبوات . . . إلخ .
انظر: _ الملل والنحل 1/94، وأصول الدين لعبد القاهر البغدادي .
(2) إيثار الحق على الخلق ص 418 .
(3) انظر تفصيلاً لذلك في المرجع السابق ص 418، 419، 437، 438(1/104)
وابتداء نذكر بضرورة مراعاة ما سبق ذكره من ضوابط للتكفير، وننبه إلى أن القول المطلق يشمل قول اللسان، وقول القلب(1)، فالأقوال التي توجب الكفر أن تظهر مطابقة القصد للفظ(2)، فتكون عن اعتقاد، أو تعمد،أو استهزاء أو عناد(3).
وعند ظهور لفظ الكفر فلا يحتاج فيه إلى نية، ولا نظر لاعتقاد(4)، كما قال تعالى: _ {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 66/67].
فأخبر سبحانه وتعالى أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا من غير اعتقاد بل كنا نخوض ونلعب(5). ولذا يقول ابن نجيم: _ " إن من تكلم بكلمة الكفر هازلاً، أو لاعباً كفر عند الكل ولا اعتبار باعتقاده.(6) "
_________________________________________________ ص (96)
الفصل الأول: نواقض الإيمان القولية في التوحيد
المبحث الأول: نواقض الإيمان القولية
في توحيد الربوبية
1_ في مطلع هذا المبحث، نذكر بمفهوم توحيد الربوبية ومعناه: _ وهو الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير،و أنه المحيي المميت النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الضراء، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبية خلقه إيجاداً وإمداداً، وخلقاً، وتدبيراً.
وكما يقول ابن القيم في بيان معنى هذا التوحيد: _
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/505 .
(2) انظر إعلام الموقعين 3/107 .
(3) انظر روضة الطالبين 10/64
(4) انظر الاعلام للهيتمي ص 370، 382
(5) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/220، وإعلام الموقعين 3/63 .
(6) البحر الرايق 5/134، وانظر الشفا لعياض 2/48/1 .(1/105)
" أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه، يدبر أمر عباده وحده، فلا خالق ولا رازق، ولا معطي ولا مانع، ولا مميت ولا محيي، ولا مدبر لأمر المملكة _ ظاهراً وباطناً _ غيره، فما شاء كان، ما لم يشأ لم يكن، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه، وأحاطت بها قدرته، ونفذت بها مشيئته، واقتضتها حكمته.(1) "
وهذا التوحيد يخالفه وينافيه نواقض قولية كثيرة، من أهمها: _ الشرك في هذا التوحيد، ولا ريب أن الشرك أصل كل شر وجماعه، وهو أعظم الذنوب على الإطلاق، حيث إنه الذنب الوحيد الذي نفى الله مغفرته، كما أنه يحبط العمال الصالحة جميعاً، ويوجب لصاحبه الخلود في النار.
قال الله تعالى: _ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء، آية 48].
وعن جابر بن عبد الله(2) رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: _ " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل
__________________________________________________ ص (97)
النار(3) "
يقول ابن القيم _ في بيان شناعة الشرك وقبحه: _
__________
(1) مدارج السالكين 3/510
(2) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، صحابي جليل، أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، شهد العقبة والكثير من الغزوات، توفي بالمدينة سنة 78 هـ .
انظر: _ الإصابة 1/434، وسير أعلام النبلاء 3/189 .
(3) أخرجه البخاري، ك العلم، (1/227) ح ( 129) .
وأخرجه مسلم، ك الإيمان، ( 1/94 ) ح (152) .(1/106)
" أخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقوامه، وإن الشرك ظلم كما قال تعالى: _ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان، آية 13. فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل. فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات، فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر بتفاصيله، تعرف به أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي.
فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد، وأن يتخذوهم عبيداً لهم، لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه وتعالى أن يقبل من مشرك عملاً أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل له فيها رجاء، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به...(1) "
و الشرك في الربوبية هو: _ " أن يجعل لغير الله تعالى معه تدبيراً ما.(2) " وله ضروب متعددة: _ فمنه شرك التعطيل كشرك فرعون، ومن شرك التعطيل: _ إنكار ربوبية الله تعالى كما وقع فيه شرذمة من الملاحدة قديما ً وحديثاً، ومن الشرك في الربوبية: _ القول بوحدة الوجود، وهم الذين يزعمون أن الله تعالى هو عين الخلق، تعالى عما يقولون علوا كبيراً.
ومن هذا الشرك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي
__________________________________________________ ص (98)
__________
(1) الجواب الكافي ص 172، 173
(2) اقتضاء الصراط المستقيم 2/703، وانظر الإرشاد للسعدي ص 205 .(1/107)
يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته، ومنه شرك من ادعى أن الكواكب العلوية تدبر أمر العالم السفلي كما هو مذهب مشركي الصابئة(1)، إلى آخر ضروب وأنواع هذا الشرك.
وسنقتصر على إيراد مثال واحد وتفصيله، وهو القول بقدم العالم.
2_ حقيقة القول بقدم العالم ومعناه: _ " أن العالم لم يزل موجوداً مع الله تعالى، ومعلولاً له، ومساوقاً له، غير متأخر عنه بالزمان، مساوقة المعلوم للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة، لا بالزمان.(2) "
كما تضمن هذا القول: _ أن الله تعالى علة تامة مستلزمة للعالم،و العالم متولد عنه تولداً لازماً بحيث لا يمكن أن ينفك عنه، لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها (3).
يقول ابن تيمية عن هذا المقالة: _
" القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: _ مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء.(4) "
ويقول أيضاً _ عن أهل هذه المقالة: _
" وهؤلاء عندهم أن هذه السموات ما زالت هكذا، ولا تزال هكذا، متحركة على هذا الوجه الأزلي إلى الأبد، ولا يزال العقل الأول أو الفعال مقارناً لها ويستحيل عندهم أن تكون السموات مسبوقة سبقاً زمانياً بشيء من الأشياء،
__________
(1) الصابئة: _ الصابىء _ لغة _ الذي يترك دينه إلى دين آخر ويطلق على عباد الكواكب والهياكل .
انظر: الملل والنحل 2/5 _ 57، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص 90
(2) تهافت الفلاسفة للغزالي ص 74، وانظر الفتاوي لابن تيمية 8/84 .
(3) انظر الصفدية لابن تيمية 1/8 .
(4) مجموع الفتاوى 5/565، وانظر الصفدية 1/130 .(1/108)
__________________________________________________ ص (99)
لا بربها، ولا بعرشه، ولا بغير ذلك، فضلاً عن أن تكون مسبوقة بتقدير مقاديرها بخمسين ألف سنة، فهل يمكن أن يكون ما أخبر به الأنبياء مطابقاً لقولهم؟ وأن يكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أراد بما أخبر به ما يريده هؤلاء بما يذكرونه من فلسفتهم، وهذا مما يعلم كل من فهم الكلامين أنه باطل بالاضطرار، وأن الكلامين متنافيان قطعاً... بل نحن نعلم بالاضطرار أن اليهود والنصارى كفار في دين الإسلام، ونعلم بالاضطرار أنهم أكثر موافقة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أمر به من هؤلاء، فكيف يمكن دعوى موافقة هؤلاء له؟ بل هذا من أعظم الجهل والنفاق.(1) "
3_ ولاشك أن القول بقدم العالم من نواقض الإيمان، ووجه كونه ناقضاً عدة اعتبارات نذكر منها ما يلي: _
(أ). تضمن القول بقدم العالم تعطيلاً للرب سبحانه وتعالى، وإنكاراً للخالق عز وجل.
يقول ابن تيمية: _ " وأصل قول هؤلاء (الفلاسفة) أن الأفلاك قديمة أزلية وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء.(2) "
ويقول أيضاً: _ " بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.(3) "
ويقول في موضع ثالث: _ _ " وأما جعل المفعول المعين مقارناً للخالق أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول.(4) "
__________
(1) السبعينية ( بغية المرتاد ) ص 307، 308 .
(2) مجموع الفتاوى 12/42، وانظر مجموع الفتاوى 17/294، 295،.
(3) مجموع الفتاوى 12/43 .
(4) مجموع الفتاوى 18/228 .(1/109)
ويقول: _ " وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق، فإن ما يثبتونه من الخلق إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له، فإن الفاعل لابد أن
___________________________________________________ص (100)
يتقدم على فعله.(1) "
و يذكر ابن تيمية أن القائلين بقدم العالم منكرون للخالق تعالى، فيقول: _ " والمشهور عن القائلين بقدم العالم أنه لا صانع له، فينكرون الصانع جل جلاله، وقد ذكر أهل المقالات أن أول من قال من الفلاسفة بقدم العالم أرسطو...
_ ثم قال _ فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم إلا عمن ينكر الصانع، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولاً آخر للقائلين بقدم العالم، أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا يطلقون ألفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي، لا يريدون بذلك أن الله أحدث شيئاً بعد أن لم يكن، وإذا قالوا إن الله خالق كل شيء فهذا معناه عندهم.(2) "
ولما أورد أحمد الدردير المالكي(3) موجبات الردة، ذكر منها: _ القول بقدم العالم، فقال: _ " والقول بقدم العالم؛ لأنه يؤدي إلى أنه ليس له صانع، أو أن واجب الوجود تعالى علة فيه، وهو يستلزم نفي القدرة والإرادة، وهو ظاهر في تكذيب القرآن وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 18/229 .
(2) مجموع الفتاوى 5/539، 540 باختصار، وانظر الصفدية 2/230 .
(3) هو أحمد بن محمد العدوي المالكي الخلوتي، فقيه صوفي، ولد بصعيد مصر سنة 1127 هـ، وله مؤلفات، وتوفي سنة 1201 هـ .
انظر: _ الأعلام 1/244، ومعجم المؤلفين 2/67 .
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد الدردير 4/268 .(1/110)
(ب) أن القول بقدم العالم، وصدور هذا العالم عن الخالق تعالى صدور المعلول عن العلة لهو من أشنع التنقص والشتم لله سبحانه وتعالى، حيث ادعى أصحاب تلك المقالة تولد هذا العالم عن الرب عز وجل، فخرقوا له بنين وبنات بغير علم.
قال تعالى {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام، آية 100، 101].
__________________________________________________ص (101)
ولذا يقول ابن تيمية: _ وقولهم إن النفوس والعقول معلولة له، ومتولدة عنه أعظم كفراً من قول من قال من مشركي العرب: _ إن الملائكة بنات الله.(1) "
ويذكر ابن تيمية أن زعم الفلاسفة صدور المحدثات عن المحدث كصدور المعلول عن علة إنما " هو قول بتولدها عن الله، وهو مما رده الله ونزه نفسه عنه، وكذب قائله، وبين كذبه بقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص، آية 4،3]. وقال تعالى: {أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ {151} وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {152} أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ {153} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {154} أَفَلا تَذَكَّرُونَ {155} أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ {156} فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات، الآيات 151 _ 157](2) "
__________
(1) الصفدية 1/8 .
(2) مجموع الفتاوى 4/127 .(1/111)
ويقول عن مقالتهم: _ " إن قول هؤلاء من أعظم الأقوال منافاة لأقوال الرسل، وأن ذلك من أعظم الكفر في دين الرسل، وأن حقيقته قول من يقول: _ {وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {152}} [الصافات، آية 152]. ومن خرق له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون، وحقيقة قوله الذي أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: _ " يقول الله تعالى يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، ويكذبني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: _ إني اتخذت ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: _ لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته.(1) "
وهذا الحديث منطبق على هؤلاء المتفلسفة، فإن قولهم في المبدأ بالتوليد عنه وفي المعاد بعود النفوس إلى عالمها من دون إعادة الخلق، يتضمن من شتم الله وتكذيبه ما أخبر به رسوله، وهذا باب واسع.(2) "
ومما قاله الحافظ ابن حجر في شرح حديث " يشتمني ابن آدم.. ": _
__________________________________________________ ص (102)
" الشتم هو الوصف بما يقتضي النقص، ولا شك أن دعوى الولد لله يستلزم الإمكان المستدعي للحدوث، وذلك غاية النقص في حق الباري سبحانه وتعالى.(3) "
ويقول في موضع آخر: _
" إنما سماه شتماً، لما فيه التنقيص؛ لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك.(4) "
__________
(1) أخرجه البخاري ك بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى " " وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده " " (6/287 ) ح (3193 )، وأحمد 2/317 .
(2) السبعينية ص 357، 358، وانظر ص 238، وانظر مجموع الفتاوى 17/294 .
(3) فتح الباري 6/291 .
(4) فتح الباري 8/168 وانظر فتح الباري 8/740 .(1/112)
(جـ) إن القول بقدم العالم تكذيب لما اتفقت عليه الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب، كما تضمن مخالفة ومصادمة للفطر السليمة والعقول الصريحة.
يقول ابن تيمية: _ " وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضى أنه كان بعد أن لم يكن، ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أن خلق السموات والأرض، مما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم تكونا وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له، فهذا تنكره الفطر ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية (1) كابن سينا وأمثاله(2) "
ويقول ابن القيم: _؛ قوله تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة، آية 4]. يتضمن إبطال قول الملاحدة القائلين بقدم العالم وأنه لم يزل، وأن الله سبحانه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب جعله لازما ً لذاته أزلاً وأبداً غير مخلوق، كما هو قول ابن سينا والنصير الطوسي وأتباعهما من الملاحدة الجاحدين لما اتفقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام والكتب، وشهدت به العقول والفطر.(3) "
وقد تضمنت تلك المقالة مناقضة صريحة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: _ كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء.. "
________________________________________________ ص (103)
الحديث(4).
يقول الحافظ ابن حجر: _ " وفيه أن جنس الزمان ونوعه حادث، وأن الله أوجد هذه المخلوقات بعد أن لم تكن، لا عن عجزه عن ذلك بل مع القدرة (5)"
__________
(1) الدهرية: _ القائلون بقدم الدهر، وإنكار الخالق والبعث وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني
انظر: _ الملل والنحل 2/235
(2) الفتاوى 28/226 .
(3) إجتماع الجيوش الإسلامية ص 95 .
(4) أخرجه البخاري ك بدء الخلق . ( 6/286 )، ح (3191)، وأحمد 2/501 .
(5) فتح الباري 6/290.(1/113)
فكل ما سوى الله تعالى فهو كائن بعد أن لم يكن؛ لأن الله عز وجل هو الأول فليس قبله شيء.
والقول بقدم العالم ترده العقول _ بداهة _ كما يقول ابن تيمية ": _ " إن هؤلاء يقولون بقدم الأفلاك، وأن ذلك لم يزل قديماً أزلياً، وما كان قديماً أزلياً امتنع أن يكون مفعولاً بوجه من الوجوه، ولا يكون مفعولاً إلا ما كان حادثاً، وهذه قضية بدهية عند جماهير العقلاء، وعليها الأولون والآخرون من الفلاسفة، وسائر الأمم، ولهذا كان جماهير الأمم يقولون كل ممكن أن يوجد، وأن لا يوجد، فلا يكون إلا حادثاً(1) "
ويقول أيضاً في بيان فساد مقالتهم: _ " أن يقال قولهم بصدور الأشياء مع ما فيها من الكثرة والحدوث عن واحد بسيط في غاية الفساد.
وإذا كانوا يقولون: _ صدر عنه واحد، وعن ذلك الواحد عقل ونفس وفلك، فيقال إن كان الصادر عنه واحداً من كل وجه، فلا يصدر عن هذا الواحد، إلا واحد أيضاً، فيلزم أن يكون كل ما في العالم إنما هو واحد عن واحد، وهو مكابرة، وإن كان الصادر الأول كثرة ما بوجه من الوجوه، فقد صدر عن الأول ما فيه كثرة ليس واحداً من كل وجه، فقد صدر عن الواحد ما ليس بواحد. (2)"
(د) إن حدوث العالم مما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشرع ومن ثم يكفر المخالف لذلك.(3).
وإليك بعضاً من كلام أهل العلم في هذه المسألة: _
يقول القاضي عياض: _ " كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية،
_________________________________________________ ص (104)
أو عبادة أحد غير الله، أو مع الله فهو كفر... _ إلى أن قال _ أو ادعى له ولداً، أو صاحبة، أو والدة، أو أنه متولد عن شيء، أو كائن منه، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه... أو مدبراً غيره... فذلك كله كفر بإجماع المسلمين.
__________
(1) مجموع الفتاوى 17/286 .
(2) مجموع الفتاوى 17/288 = بتصرف يسير .
(3) انظر المسامرة شرح المسايرة لابن أبي الشريف ص 333 .(1/114)
حتى قال: _ وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم، أو بقائه، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية(1). "
وقال النووى(2) " قال المتولي: _ من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع.. كان كافراً.(3) "
ويقول ابن حجر الهيتمي(4): _ ومنها القول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد، أو عناد، أو استهزاء، فمن ذلك اعتقاد قدم العالم، أو حدوث الصانع. (5)"
ويقول ملا على قارى(6): _ فمن واظب طول عمره على الطاعات
__________________________________________________ ص (105)
والعبادات مع اعتقاد قدم العالم لا يكون من أهل القبلة.(7) "
__________
(1) الشفا 2/604_ 606 وانظر الشرح الصغير للدردير 6/147 وحاشية الدسوقي 4/268، وبلغة السالك لأحمد الصاوي 3/447، وشرح منح الجليل على مختصر خليل لعليش 4/463 .
(2) هو أبو زكريا يحيي بن شرف بن مري النووي الدمشقي الشافعي، الفقيه، والمحدث، الحافظ، اللغوى، ولد بنوى في الشام سنة 631 هـ، ودرس العلوم، واشتغل بالتدريس، وله مؤلفات كثرة، توفي بنوى سنة 677 هـ .
انظر: _ البداية والنهاية 13/278، وطبقات الشافعية 8/395 .
(3) روضة الطالبين 10/64، وانظر مغنى المحتاج للشربيني 4/134
(4) أبو العباس أحمد بن محمد بن على بن حجر الهيتمي الشافعي، فقيه، ولد عناية بالحديث ولد بمصر سنة 909 هـ، ودرس في الأزهر، له تصانيف كثيرة، تضمن بعضها بدعاً وشططاً وتوفي سنة 974 هـ .
انظر: _ البدر الطالع 1/109، والأعلام 1/234 .
(5) الإعلام بقواطع الإسلام ص 350، وأنظر ص 351 .
(6) هو على بن سلطان الهروي القارى الحنفي، عالم مشارك في أنواع من العلوم وله مؤلفات كثيرة، ولد بالعراق، ورحل إلى مكة واستقر بها حتى توفي سنة 1014 هـ.
انظر: _ البدر الطالع 1/445، ومعجم المؤلفين 7/100 .
(7) شرح الفقه الأكبر ص 230= باختصار .(1/115)
ويقول منصور النهوتي: _ أو اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع جل وعلا فهو كافر، لتكذيبه للكتاب والسنة والإجماع. (1)"
_________________________________________________ ص (106)
سب الله عز وجل والاستهزاء به
1_ إن الإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال للرب عز وجل، ولا شك أن سب الله تعالى والاستهزاء به يناقض هذا التعظيم ولا يجامعه.
قال الضحاك(2) عند قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم، آية 90]" يتشققن من عظمة الله عز وجل(3) "
ومما قاله ابن القيم عن منزلة التعظيم: _
" هذا المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به: _ أشدهم له تعظيماً وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته، قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح، 13]"
قال ابن عباس ومجاهد: _ لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: _ مالكم لا تعظمون الله حق عظمته "
وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم، فذلك حقيقة الحمد، والله أعلم "(4) "
ويقول ابن تيمية مبيناً أن سب الله تعالى والإستهزاء به يناقض التوحيد: _
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع 6/171، وانظر مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى 6/281 .
(2) أبو محمد الضحاك بن مزاحم الهلالي، صاحب التفسير، ومن أوعية العلم، وثقه أحمد ويحيي بن معين، توفي سنة 102 هـ .
انظر: البداية والنهاية 9/223، وسير أعلام النبلاء 4/598 .
(3) العظمة لأبي الشيخ 1/341
(4) مدرج السالكين 2/495 .(1/116)
" فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى، والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول، أو الفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح، إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ
_________________________________________________ ص (107)
في القلب، ولم تصر صفة ونعتاً للنفس ولا صلاحاً. (1)"
وقد كان أهل العلم يعظمون ربهم، ويسعون إلى تقديره حق قدره، حتى قال عون بن عبد الله (2): _ " ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء، حتى يقول: _ أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا.(3) "
ويقول الخطابي(4): _ " وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعة. (5)"
" وكان أبو بكر الشاشي يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله تعالى، وذكر صفاته، إجلالاً لاسمه تعالى، ويقول هؤلاء يتمندلون(6) بالله عز وجل.(7) "
2_ إذا انتقلنا إلى بيان معنى السب ومفهومه، فكما قال الراغب الأصفهاني: _
__________
(1) الصارم المسلول ص 324 .
(2) هو عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، إمام عابد زاهد، وثقه أحمد وغيره، توفي سنة بضع عشرة ومائة .
انظر: حلية الأولياء 4/240، وسير أعلام النبلاء 5/103 .
(3) شأن الدعاء للخطابي ص 18 .
(4) أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم البستي، حافظ لغوي، فقيه وصاحب تصانيف، توفي سنة 388 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 3/282، وسير أعلام النبلاء 17/23 .
(5) شأن الدعاء للخطابي ص 18، 19 .
(6) من المنديل، ويريد الإبتذال والإمتهان .
(7) الشفا 2/1096 .(1/117)
" السب: _ الشتم الوجيع، قال تعالى: _ {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام، آية 108]، وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحاً، ولكنهم يخوضون في ذكره، فيذكرونه بما لا يليق، ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه (1). "
ويقول ابن تيمية: _ _ " السب هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم
__________________________________________________ ص (108)
كاللعن والتقبيح ونحوه، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: _ {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام، آية 108.](2) "
و يذكر ابن تيمية أن حد السب وضابطه هو العرف، فيقول: _ فما عده أهل العرف سباً وانتقاصاً، أو عيباً، أو طعناً ونحو ذلك فهو من السب.(3) "
ويقول الحافظ ابن حجر: _ " الشتم: _ هو الوصف بما يقتضي النقص(4). فالسب هو الشتم وكل كلام قبيح يوجب الإهانة والنقص.
3_ ولا ريب أن سب الله عز وجل يعد أقبح وأشنع أنواع المكفرات القولية التي تناقض الإيمان، وذلك من عدة أوجه واعتبارات، منها ما يلي: _
__________
(1) المفردات ص 220 .
(2) الصارم المسلول ص 561
(3) المرجع السابق ص 531، وانظر ص 540 .
(4) فتح الباري 6/291 .(1/118)
(أ) أن سب الله عز وجل يناقض الإيمان، فالسب أذى قولي يناقض قول القلب (التصديق)، وعمله من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، كما أنه يناقض الإيمان الظاهر باللسان؛ لأن الإيمان يتضمن تصديقاً لله عز وجل، وانقياداً وخضوعاً له تعالى، وأما السب فكما يقول ابن تيمية: _ " فهو إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع، واستسلم، أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا بعينه كفر إبليس، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً، ولكن لم ينقد للأمر.(1) "
ويقول ابن تيمية: _ إن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم، واقتضاؤه وجود هذا، وعدم هذا، أمر جرت به سنن الله في مخلوقاته، كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم، فإذا عدم المعلول كان مستلزماً لعدم العلة، وإذا وجد الضد، كان مستلزماً لعدم الضد الآخر، فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع، ولعدم الانقياد والاستسلام، فلذلك
___________________________________________________ ص (109)
كان كفراً (2) "
(ب) أن الله تعالى قال: _ {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64}وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}[التوبة، الآيات 64 _ 66].
__________
(1) الصارم المسلول ص 519 .
(2) الصارم المسلول ص 524 .(1/119)
يقول ابن تيمية: _ " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى.(1) "
ويقول أيضاً: _ " فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب... فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر(2) ""
فإن الله تعالى لم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض. (3)"
وإذا كان الاستهزاء بالله كفراً، سواء استحله أو لم يستحله، فإن السب كفر من باب أولى _ كما ذكر ابن تيمية _ فإن نفس سب الله تعالى كفر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً (4)_ ومن ثم فإن سب الله تعالى كفر ظاهر وباطن عند جمهور أهل السنة.
يقول ابن تيمية: _ _ " إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال ابن راهوية: _ قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام.. أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بما أنزل الله.
__________________________________________________ ص (110)
وقال القاضي أبو يعلي في " المعتمد ": _ من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر، سواء استحل سبه أو لم يستحله. (5)"
__________
(1) الصارم المسلول ص 31 .
(2) مجموع الفتاوى 7/220، 273 = بتصرف .
(3) انظر الصارم المسلول ص 517، 524 .
(4) انظر الصارم المسلول ص 517
(5) 1لصارم المسلول ص 512، 513 = باختصار .(1/120)
ويقول أيضاً: _ " من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره... فهو كافر ظاهراً وباطناً، وإن من قال إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله، وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين. (1)"
(جـ) إن في السب تنقصاً لله تعالى، وإنتهاكاً لحرمته، بل إن السب أعظم وأشنع من مجرد الكفر(2) " إذ السب إفراط في العداوة، وإبلاغ في المحادة، مصدره شدة سفه الكافر، وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله.(3) "
يقول ابن تيمية: _ " إن الساب مظهر للتنقص والاستخفاف والاستهانه بالله، منتهك لحرمته انتهاكاً يعلم هو من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزيء، ويعلم من نفسه أنه قال عظيماً، وأن السموات والأرض تكاد تنفطر من مقالته، وتخر الجبال، وأن ذلك أعظم من كل كفر، وهو يعلم أنه ذلك كذلك.. إن هذا السب مجرد سخرية واستهزاء وإستهانة وتمرد على رب العالمين، تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب، أو من سفيه لا وقار لله عنده.
ومما يبين أن السب قدر زائد على الكفر، قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام، آية 108]ومن المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله، ثم نهي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم الله، فعلم أن سب الله أعظم عنده من أن يشرك به ويكذب رسوله ويعادى (4).
ويقول ابن تيمية _ أيضاً _: _ " ألا ترى أن قريشاً كانت تقاره عليه الصلاة والسلام على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده، ولا يقارونه على عيب
________________________________________________ ص (111)
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/557، 558 = باختصار، وانظر الصارم المسلول ص 524، وانظر المحلى لابن حزم 13/498 .
(2) انظر الصارم المسلول ص 564
(3) الصارم المسلول ص 369 .
(4) الصارم المسلول ص 551 = باختصار .(1/121)
آلهتهم، والطعن في دينهم، وذم آبائهم، وقد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان، لئلا يسب المشركون الله، مع كونهم لم يزالوا على الشرك، فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به.(1).
(د) أن الله تعالى قال: _ {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب آية 57، 58].
ففي هاتين الآيتين دليل على كفر من سب الله عز وجل من عدة أوجه منها ما يأتي: _
1_ " أنه فرق بين أذي الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة، وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل. (2)"
2_ " أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً، فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات؛ ولا يكون مباح الدم؛ لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا يثبت في حقه. (3)"
3_ أن الله تعالى قال: _ {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله تعالى: _ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]، وقوله: _ {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} المجادلة، آية 5، وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيداً للمؤمنين..}
__________
(1) الصارم المسلول ص 557 .
(2) الصارم المسلول ص 41
(3) الصارم المسلول ص 41 .(1/122)
كما أن هذا العذاب قد أعد لهم _ ممن آذى الله أو رسوله..._ والعذاب إنما أعد للكافرين، فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها
__________________________________________________ ص (112)
بمخرجين (1)
(هـ) قد أجمع العلماء على كفر من سب الله تعالى، وإليك أقوالهم في هذه المسألة: _
_ قال إسحاق ابن راهوية: _ " قد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(2) "
_ وقال القاضي عياض: _ " لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم.(3) "
_ وقال ابن تيمية: _ " فصل فيمن سب الله تعالى، فإن كان مسلماً وجب قتله بالإجماع؛ لأنه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له.(4) "
_ وقال ابن حزم: _ " وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد... وهو محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.(5) "
و يقول في الرد على المخالفين: _ " وأما قولهم: _ إن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دعوى؛ لأن الله تعالى قال: _ {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} [التوبة، آية 74.](6) "
__________
(1) انظر الصارم المسلول ص 52، 53 .
(2) التمهيد لابن عبد البر 4/226 .
(3) الشفا 2/582 .
(4) الصارم المسلول ص 546 .
(5) المحلى 13/498، وانظر 13/501، 502 .
(6) الفصل 3/244 .(1/123)
" وقال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا وكذا _ أعني أنت ومن خلقك _: هذا مرتد عن الإسلام تضرب عنقه.(1) "
__________________________________________________ ص (113)
وفي رواية أخرى قال الإمام أحمد: _ " كل من ذكر شيئاً يعرض به بذكر الرب تبارك وتعالى، فعليه القتل مسلماً كان أو كافراً، وهذا مذهب أهل المدينة.(2) " وسئل أبو محمد بن أبي زيد(3) عن رجل لعن رجلاً ولعن الله، فقال: _ إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني.
فأجاب: _ يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأما فيما بينه وبين الله فمعذور(4).
وقال ابن قدامة: _ " من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحاً أو جاداً.(5) "
وقال المرداوي(6) في الإنصاف: _ من سب الله.. كفر بلا نزاع في الجملة.(7) "
وقال البهوتي: _ " من سب الله.. كفر، لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد(8) "
__________
(1) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 2/93، وانظر الصارم المسلول ص 513 .
(2) المرجع السابق 2/93، وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/797، وانظر الصارم المسلول ص 513 .
(3) عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، إمام قدوة حافظ واشتغل بالتأليف، وكان على طريقة السلف، توفي سنة 386 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 17/10، والديباج المذهب 1/427 .
(4) المعيار المعرب للونشريسي 2/345، وانظر الشفا 2/1092 .
(5) المغنى 10/113 .
(6) هو علي بن سليمان المرداوي الصالحي الحنبلي، ولد بمردا بفلسطين سنة 817 هـ، كان فقيهاً أصوليا ً، انتهت إليه رياسة المذهب الحنبلي له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 885 هـ .
انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 76، والبدر الطالع 1/446 .
(7) 10) 10/326 = بتصرف يسير .
(8) 11) كشاف القناع 6/168، وانظر المبدع شرح المقنع 9/171، ومطالب أولي النهي 6/276 .(1/124)
وقال ملا على قاري: _ " من وصف الله بما لا يليق به كفر.(1) "
4_ وأما حكم الاستهزاء بالله تعالى، فهو نفس الحكم فيمن سب الله تعالى، ولكن يمكن أن نضيف إلى ما سبق ما يلي: _
__________________________________________________ ص (114)
(أ) معنى الاستهزاء لغة السخرية (2)، ويقول الراغب الأصفهاني (3): _
" الهزء مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح.. والاستهزاء ارتياد الهزوء، وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزوء (4). "
وقال البيضاوي (5): " الاستهزاء السخرية والاستخفاف، يقال هزئت واستهزأت بمعنى، كأجبت واستجبت، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع(6).
(ب) ووجه كون الاستهزاء بالله تعالى ناقضاً من نواقض الإيمان، ما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: _
__________
(1) 12) شرح الفقه الأكبر ص 227، وانظر الفتاوى البزازية 3/323، والبحر الرايق لابن نجيم 5/129 .
(2) 13) انظر لسان العرب 1/183، والمصباح المنير ص 787
(3) 14) أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، أديب، لغوي، مفسر، له مؤلفات، توفي سنة 502 هـ .
انظر تاريخ حكماء الإسلام ص 112، ومعجم المؤلفين 4/59 .
(4) المفردات ص 790 .
(5) أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي الشافعي، ناصر الدين، عالم بالفقه والتفسير والعربية، له مصنفات، توفي بشيراز سنة 685 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 8/157، شذرات الذهب 5/392 .
(6) تفسير البيضاوي 1/26، وانظر تفسير المنار 1/163، 164 .(1/125)
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64}وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة، الآيات 64_66].
يقول ابن تيمية: _ " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر(1).
ويقول الفخر الرازي(2) في تفسيره: _ " إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان
__________________________________________________ ص (115)
تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال(3) "
ومما قاله ابن العربي(4) عند تلك الآيات: - " لا يخلو أن يكون ما قالوه _ أي المنافقون _ من ذلك جداً أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الجهل والباطل.(5) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 31، انظر مجموع الفتاوى 15/48 .
(2) هو محمد بن عمر بن الحسين، ابن خطيب الري، من أئمة المتكلمين، برع في علوم كثيرة، واشتغل بعلم الكلام ثم تاب عنه، له مؤلفات كثيرة في سائر الفنون، توفي بهراة سنة 606 هـ .
انظر: البداية والنهاية 13/55، وطبقات الشافعية 8/81 .
(3) التفسير الكبير 16/124 .
(4) أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسي المالكي، اشتغل في علوم كثيرة، وولي القضاء، ودخل بغداد، توفي بفاس سنة 543 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 20/197، والديباج المذهب 2/252 .
(5) أحكام القرآن 2/964، انظر القرطبي 8/197(1/126)
ويقول ابن الجوزي: - " وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.(1) "
وأضاف الآلوسي(2) على كلام ابن الجوزي: _ " ولا خلاف بين الأئمة في ذلك(3) "
ويقول السعدي: - " إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.(4) "
إضافة إلى ذلك فإن الاستهزاء يناقض الإيمان؛ لأن الإيمان تصديق بالله عز وجل وانقياد له وخضوع ومن استهزأ بالله، امتنع أن يكون منقاداً لأمره " فإن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر، فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان
__________________________________________________ ص (116)
منافاة الضد للضد.(5) "
(جـ) وإليك أقوال بعض أهل العلم في هذه المسألة: _
ويقول ابن حزم: " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر.(6) "
__________
(1) زاد المسير 3/465 .
(2) 10) أبو الثناء محمود بن عبد الله الحسيني، مفسر، محدث، فقيه، أديب تولى الفتيا ببغداد، وله رحلات، وألف في علوم متنوعة، توفي ببغداد سنة 1270 هـ .
انظر: المسك الإذفر ص 64، معجم المؤلفين 12/175 .
(3) 11) روح المعاني 10/131 .
(4) 12) تفسير السعدي 3/259 .
(5) الصارم المسلول لابن تيمية ص 521 .
(6) الفصل 3/299 .(1/127)
ويقول القاضي عياض: _ " وأما من تكلم من سقط القول، وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه، وعرف به، دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه.(1) "
وجاء في كتاب روضة الطالبين للنووي: " ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنى باسم الله تعالى، استخفافاً باسم الله تعالى كفر.(2) "
وقال ابن قدامة: _ " ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحاً أو جاداً، وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو يآياته، أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: _ {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة، الآيات 65،66]، وينبغي أن لا يكتفى من الهازي بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك.(3) "
وقال ابن نجيم: _ " فيكفر إذا وصف الله بما لا يليق به، أو سخر باسم من أسمائه (4). "
__________________________________________________ ص (117)
المبحث الثاني
نواقض الإيمان القولية في توحيد الأسماء والصفات
__________
(1) الشفا 2/1092 .
(2) 10/67، وانظر مغنى المحتاج للشربيني 4/135 .
(3) المغنى 10/113 وانظر كشاف القناع 6/168، والانصاف 10/326 .
(4) البحر الرايق 5/129، وانظر شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 227 .(1/128)
في بداية هذا المبحث نذكّر بأن معتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولاتمثيل.
فأهل السنة وسط في هذا الباب بين المعطلة والممثلة، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيعطلون أسماءه وصفاته.
يقول الإمام أحمد:- " فعليه الإيمان بها والتسليم مثل:- أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع، وإنما عليه الإيمان بها، وأن لا يردّ منها حرفاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات (1) "
كما يقول ابن القيمّ:- " لا يستقر للعبد قدم في المعرفة – بل ولا في الإيمان – حتى يؤمن بصفات الرب جل ّ جلاله، ويعرفها معرفة تخرج عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان، وثمرة شجرة الإحسان (2) "
ويقول أيضا:- " والرسل من أولهم الى خاتمهم – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – أرسلوا بالدعوة إلى الله 000 فعّّّّرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاّ مفصّلاً، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه، يكلم ملائكته، ويدّبر أمر مملكته، ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم 000 ويرضى ويغضب، ويحبّ ويسخط، ويميت ويحيي، ويمنع ويعطى، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً 000 وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة. (3) "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص118
__________
(1) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة / جمع الأحمدي 1/277
(2) مدارج السالكين 3 / 347 0
(3) المرجع السابق 3 / 348، 349 = باختصار(1/129)
2_ توحيد الأسماء والصفات يناقضه ويخالفه الشرك والإلحاد في أسمائه وصفاته، فالشرك في الصفات يكون باتخاذ شريك أو ند مع الله تعالى في ذلك، وأما الإلحاد في أسمائه، فكما يقول ابن القيم: _ " الإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل، كما يدل عليه مادته ل ح د.
والإلحاد في أسمائه تعالى أنواع: _
أحدها: _ أن يسمي الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهاً، وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا عن أسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
الثاني: _ تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته، أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك الثالث: _ وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود إنه فقير، وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه.
الرابع: _ تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني...
خامسها: _ تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيراً.(1) "
3_ سنأخذ مثالاً واحداً على تلك النواقض القولية، وهو إنكار اسم أو صفة لله تعالى، والإنكار بمعنى الجحود وعدم الاعتراف كما أن الجهل ضد العرفان، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره (2).
و أما معنى الكفر في صفات الله تعالى: _ " فهو إنكار ما علم ثبوته منها بعد
__________________________________________________ ص (119)
البلاغ، أو الإلحاد فيه بتحريفه عن المقصود بدون شبهة يعذر بمثلها.(3)
__________
(1) بدائع الفوائد 1/190_192 = باختصار .
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/476، ومفردات الأصفهاني ص 770، واللسان 5/732، والمصباح المنير ص 766 ومختار الصحاح ص 679 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة 3/128، ويقول الشيخ محمد بن عثيمين: " إنكار شيء من أسماء الله أو صفاته نوعان: _
الأول: _ إنكار تكذيب، وهذا كفر بلاشك فلو أن أحداً أنكر أسماً من أسماء الله، أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة مثل: _ أن يقول ليس لله يد، فهو كافر بإجماع المسلمين ؛ لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة .
الثاني: _ إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا نوعان: _
1_ أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية فهذا لا يوجب الكفر .
2_ أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر، لأنه نفاها نفياً مطلقاً فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى: _ " بل يداه مبسوطتان " المائدة، آية 64، المراد بيديه السماوت والأرض فهو كافر، لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية فهو منكر مكذب، لكن إن قال المراد باليد النعمة أو القوة، فلا يكفر ؛ لأن اليد في اللغة تطلق على النعمة . " المجموع الثمين 2/62، 63 .(1/130)
"
وهذا يؤكد أهمية مراعاة ضوابط التكفير _ التي سبق ذكرها في التمهيد_ ولذا نجد أهل العلم يشيرون إلى مثل تلك الضوابط، فها هو القاضي عياض يقول في موضع: _ " وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به، ليس على طريق السب والردة، وقصد الكفر، ولكن على طريق التأويل والاجتهاد والخطأ المفضي إلى الهوى والبدعة من تشبيه، أو نعت بجارحة(1)، أو نفي صفة كمال، فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله ومعتقده (2). "
جاء في موضع آخر من كتابه ما يلي: _ " فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية، أو جحدها مستبصراً في ذلك كقوله: _ ليس بعالم، ولا قادر، ولا مريد، ولا متكلم، وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها، وأعراه عنها(3) "
_________________________________________________ ص (120)
4- يعتبر إنكار اسم أو صفة لله تعالى كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان لوجوه منها: _
(أ) أن هذا الإنكار لمن بلغته تلك النصوص _ يعد تكذيباً لنصوص الوحيين، ورداً للأخبار الصحيحة في إثبات تلك الأسماء أو الصفات لله تعالى، وقد تضافرت أقوال أهل العلم في تقرير ذلك.
_ " فقد سئل أبو حنيفة(4)
__________
(1) لفظ (( الجارحة )) من الألفاظ المجملة، التي لابد من بيان وتفصيل معانيها .
(2) الشفا 2/1051 .
(3) الشفا 2/1080 .
(4) هو النعمان بن ثابت الكوفي، التيمي بالولاء، إمام المذهب الحنفي، الفقيه، المجتهد، نشأ بالكوفة، ورفض القضاء، له مؤلفات، توفي سنة 150 هـ ببغداد .
انظر: تاريخ بغداد 13/323، وسير أعلام النبلاء 6/390 .(1/131)
_ رحمه الله _ عمن يقول " لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، فقال: _ قد كفر؛ لأن الله تعالى يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه، آية 5]، وعرشه فوق سماواته، فقيل لأبي حنيفة: _ إنه يقول: _ أقول على العرش استوى، ولكن قال: _ لا يدري العرش في السماء أو في الأرض، قال: _ إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.(1) "
" وقال الإمام الشافعي وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به، فقال الله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل، ولا بالروية، والقلب، ولا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}،[الشورى، آية 11(2)]"
ويقول الإمام أحمد: _
" وصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: _ " وكلتا يديه يمين " (3)، فمن لم يؤمن بذلك ويعلم أن ذلك حق، كما قال رسول الله صلى الله
__________________________________________________ ص (121)
عليه وسلم، فهو مكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم (4)"
__________
(1) مختصر العلو: للذهبي / الألباني ص 136، وانظر الأربعين في صفات رب العالمين للذهبي ص 93
(2) كتاب إثبات صفة العلو لابن قدامة ص 124، وانظر مختصر العلو ص 177
(3) أخرجه مسلم، ك الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (3/1458)، ح (1827 ) . وأحمد 2، 160 .
(4) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 1/307 .(1/132)
" وقال محمد بن جرير الطبري في كتاب التبصير في معالم الدين له... بعد أن ذكر بعض نصوص الصفات، قال: _ " فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله بها نفسه ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهائها إليه (1). "
_ وقال عثمان بن سعيد الدرامي (2)_ رحمه الله _: _ " نكفر الجهمية بكفر مشهور، وهو تكذيبهم بنص الكتاب، أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليماً، وقال هؤلاء لم يكلمه الله بنفسه، وقال الله تبارك وتعالى: _ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة، آية 64]، وقال هؤلاء الجهمية: _ ليس لله يد، وما خلق آدم بيده، وإنما يداه نعمتاه ورزقاه،فادعوا بين يدي الله أوحش مما ادعته اليهود؛ قالت اليهود يد الله مغلولة، وقالت الجهمية يد الله مخلوقة؛ لأن النعم والأرزاق مخلوقة لاشك فيها، وذاك محال في كلام العرب، فضلاً أن يكون كفراً.(3) "
_ قال أبو العباس السراج (4): _ " من لم يقر ويؤمن بأن الله تعالى يعجب، ويضحك، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه، فهو زنديق كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
__________
(1) إجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص 195 .
(2) هو عثمان بن سعيد التميمي الدرامي، إمام حافظ ناقد، نصر مذهب أهل السنة، ورد على المبتدعة، له مؤلفات، توفي سنة 280هـ
انظر: طبقات الحنابلة 1/221، سير أعلام النبلاء 13/319 .
(3) الرد على الجهمية ص 173، 174 = باختصار .
(4) هو محمد بن إسحاق الثقفي مولاهم، النيسابوري، إمام حافظ محدث، كان مجاب الدعوة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، دخل بغداد، توفي بنيسابور سنة 313هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 14/388، وطبقات الشافعية 3/108 .(1/133)
_______________________________________________ ص (122)
قال الذهبي _ معلقاً _: _ إنما يكفر بعد علمه بأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال ذلك، ثم إنه جحد ذلك ولم يؤمن به.(1) "
_ وقال الآجري: _ وكان مما بينه صلى الله عليه وسلم لأمته أنه أعلمهم في غير حديث " إنكم ترون ربكم عز وجل(2) " ورواه جماعة من صحابته رضي الله عنهم، وقبلها العلماء عنهم أحسن القبول، كما قبلوا عنهم علم الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وعلم الحلال والحرام، كذا قبلوا منهم الأخبار أن المؤمنين يرون الله عز وجل ولا يشكون في ذلك، ثم قالوا: _ من رد هذه الأخبار فقد كفر.(3) "
_ ويقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله: _ " جحود الاستواء كفر؛ لأنه رد لخبر الله، وكفر بكلام الله، ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر، فكيف بمن كفر بسبع آيات، ورد خبر الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه (4)"
ويقول ابن تيمية: _ " الصواب أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافراً، إذا كان مقراً بما جاء الرسول صلي الله عليه وسلم، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته.(5) "
__________
(1) مختصر العلو ص 232، وانظر سير أعلام النبلاء 14/396 0
(2) أخرجه البخارى، ك التوحيد، (13/419)، ح (7434)، ومسلم، ك الإيمان ( 1/163) ح ( 299 )
(3) الشريعه ص 253 .
(4) ذم التأويل ص 26، ت:- بدر البدر 0
(5) 10) مجموع الفتاوى 7/538 .(1/134)
ويقول أيضاً: _ " من قال إن الله لم يكلم موسي تكليماً، فهذا إن كان لم يسمع القرآن، فإن يعرف أن هذا نص القرآن، فإن أنكره بعد ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يقبل منه إن كان كلامه بعد أن يجحد نص القرآن، بل لو قال إن معنى كلامى إنه خلق صوتا في الهواء فأسمعه موسى كان كلامه – أيضا – كفراً، وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف، وقالوا يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، ولكن من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً، ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب فإنه لا
___________________________________________________ ص (123)
يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطىء فيما يتأوله من القرآن، ويجهل مما يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان.(1) "
ومن خلال تلك النقول يظهر وجه كون إنكار اسم أو صفة لله تعالى كفراً وناقضاً للإيمان، لما فيه من التكذيب للنصوص الشرعية.
(ب) إن في هذا النفي إلحاداً في أسماء الله تعالى، وتعطيلاً لما يجب لله عز وجل من الإثبات المفصل كما يليق بجلاله وعظمته.
__________
(1) مجموع الفتاوى ص 12/523، 524 .(1/135)
فمن أنواع الإلحاد في أسمائه تعالى: _ التعطيل، كما ذكر ذلك ابن القيم عندما قال: _ " تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: _ لا حياة له، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب، وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر(1) "
ويقول ابن القيم أيضاً: _ " كلما كان الرجل أعظم تعطيلاً، كان أعظم شركاً، وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه، فإن مضمونه إنكار حياة الرب، وعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، وإنكار وجهه الأعلى ويديه، ومجيئه، وإتيانه ومحبته، ورضاه، وغضبه، وضحكه، وسائر ما أخبر به الرسول عنه، ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله. (2)"
__________________________________________________ ص (124)
ويؤكد ابن القيم في نونيته على أن التعطيل هو أصل الزندقة وأساسها فيقول: _
" والله ما قام البناء لدين …………رسل الله بالتعطيل للديان
ما قام إلا بالصفات مفصلاً …………إثباتها تفصيل ذي عرفان
فهي الأساس لديننا ولكل …………دين قبله من سائر الأديان
وكذاك زندقة العباد أساسها …………التعطيل يشهد ذا أولو العرفان
__________
(1) بدائع الفوائد 1/191، 192، وانظر مختصر الصواعق المرسلة 2/110، 111 .
(2) مختصر الصواعق المرسلة 1/243، 244، وانظر الصواعق المرسلة 2/403، ومدارج السالكين 3/347 .(1/136)
والله ما في الأرض زندقة بدت …………إلا من التعطيل والنكران
والله ما في الأرض زندقة بدت …………من جانب الإثبات والقرآن(1) "
كما يقرر ابن القيم في نفس النونية تلازم التعطيل والشرك فيقول: _
" واعلم بأن الشرك والتعطيل …………مذكانا هما لاشك مصطحبان
أبداً فكل معطل هو مشرك …………حتماً وهذا واضح التبيان
فالعبد مضطر إلى من يكشف …………البلوى ويغني فاقة الإنسان
وإليه يصمد في الحوائج كلها …………وإليه يفزع طالب لأمان
فإذا انتفت أو صافه وفعاله …………وعلوه من فوق كل مكان
فزع العباد إلى سواه وكان ذا …………من جانب التعطيل والنكران
فمعطل الأوصاف ذاك معطل …………التوحيد حقاً ذان تعطيلان))(2)
كما أن التعطيل سوء ظن بالله تعالى، يقول ابن القيم: _
" ولم يجئ في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء، قال تعالى: _ {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح، آية 6].
وقال تعالى: _ {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت، آية 22، 23].
______________________________________________ ص (125)
فهؤلاء ظنوا أنه لا يعلم بعض الجزئيات، فكيف بمن ظن أنه لا علم له، ولا سمع، ولا بصر ولا تكلم ولا يتكلم، ولا استوى على عرشه... (3)"
__________
(1) شرح النونية لابن عيسي 2/343 .
(2) شرح النونية 2/448 .
(3) الصواعق المرسلة 4/1356، 1357، وانظر مدارج السالكين 3/347 .(1/137)
وإضافة إلى ما سبق، فإن التعطيل تنقص للرب عز وجل، فالنفاة أنكروا الصفات حتى أوقعهم هذا التعطيل في التمثيل والتشبيه بالجمادات.. بل والمعدومات.
" قال بعض أهل العلم: _ إن الجهمية هم المشبهة، لأنهم شبهوا ربهم بالصنم، والأصم، والأبكم الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يخلق. (1)"
ويقول ابن تيمية: _ " إن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.(2) "
ويقول عن المعطلة _ في موضع آخر _: _ " وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، وينفون مضمون ذلك، ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء الله وآياته وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح، ولا منقول صحيح،ثم لابد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات، فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض، قيل لهم: _ ما الفرق بين ما أثبتموه ونفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة، ولم يكن وهذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلاً، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعاً وقدراً.
وقد تدبرت كلام عامة من ينفي شيئاً مما أثبته الرسل من الأسماء والصفات فوجدتهم كلهم متناقضين... (3) "
__________________________________________________ ص (126)
__________
(1) خلق أفعال العباد للبخاري ص 28 .
(2) مجموع الفتاوى 5/27، وانظر مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/111
(3) مجموع الفتاوى 5/209 .(1/138)
ويقول أيضاً: _ " إن هذا الذي فر من أن يجعل القديم الواجب موجوداً، موصوفاً بصفات الكمال، لئلاً يلزم ما ذكره من التشبيه والتجسيم، وجعل نفي هذا اللازم دليلاً على نفي ما جعله ملزوما ً له، لزمه في آخر الأمر ما فر منه من جعله الموجود الواجب جسماً يشبه غيره، مع أنه وصفه بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها، ومع أنه جحد الخالق جل جلاله، فلزمه مع الكفر الذي هو أعظم من كفر عامة المشركين، فإنهم كانوا يقرون بالصانع مع عبادتهم لما سواه، ولزمه مع هذا أنه من أجهل بنى آدم وأفسدهم عقلاً ونظراً وأشدهم تناقضاً.
وهكذا يفعل الله بالذين يلحدون في أسمائه وآياته.(1) "
(جـ) يستلزم نفي الأسماء أو الصفات لوازم شنيعة جداً(2)، وقد ذكر ابن القيم عشرة لوازم منها ما يلي: _
أحدها : _ جحد الصانع ونفيه.
الثاني : _ سلب كماله عنه (3) .
الثالث : - وصفه بالنقائص والعيوب.
الرابع : _ تشبيهه بالجمادات الناقصة.
الخامس: _ تشبيهه بالمعدومات، بل بالممتنعات.
السادس: _ الطعن فيما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله.
السابع : _ القدح في علم الرسول أو بيانه أو نصحه.
الثامن : _ إفساد الفطر والعقول وتغييرها عما فطرت عليه، كإفساد الشياطين لها بالشرك واتباع الغي.(4) "
____________________________________________________________ ص (127)
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/362، وانظر رسالة منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي ص 35 .
(2) عندما نورد هذه اللوازم، فلا يعني بالضرورة أن تكون مذهباً لأولئك النفاة، وإنما هو من باب الاستدلال بفساد تلك اللوازم على فساد الملزوم الذي هو التعطيل، لأن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها أو فسادها / انظر توضيح الكافية الشافية للسعدي ص 113 .
(3) نفي الأسماء والصفات هو في الحقيقة نفي للكمال عن الله تعالى .
(4) الصواعق المرسلة 4/1235، وانظر 4/1427، 1429، 3/1144، 1150 .(1/139)
ونورد مثالاً لبعض اللوازم التي تلزم من قال بخلق القرآن، وأنكر كلام الله تعالى.
يقول الدارمي: _ " أخبر الله تبارك وتعالى أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تعالى أنه كلّم موسى تكليماً، وقال هؤلاء: لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاماً خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم دعا مخلوق موسي إلى ربوبيته، فقال: _ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه، آية 12]، فقال له موسي في دعواهم: _ صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه أن يجيب إلى ربوبية مخلوق كما أجاب موسي في دعواهم، فما فرق بين موسي وفرعون في مذهبهم في الكفر، إذا فأي كفر أوضح من هذا؟.(1) "
ويقول ابن تيمية: -
" اشتهر عند خواص الأمة وعوامها أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإطلاق القول أن من قال إنه مخلوق فقد كفر.
_ ثم أورد ابن تيمية بعض أقوال السلف في ذلك كقول عبد الله بن المبارك: _ من قال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه، آية 14]مخلوق فهو كافر، ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك.(2) "
ثم قال: _ " ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم أن من قال إن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كان حقيقة قوله إن الشجرة التي قالت لموسى " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " ومن قال: _ هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات، آية 24].
__________
(1) الرد على الجهمية ص 174، وانظر الرد على بشر المريسي ( عقائد السلف ) ص 363 _ 365 .
(2) انظرخلق أفعال العباد للبخاري ص 10 .(1/140)
كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفراً، فقول هؤلاء أيضاً كفر، ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون، وإن كانوا لا يفهمون ذلك، فإن فرعون كذب موسي فيما أخبر به أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى: _ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر، آية 36، 37]، وهو قد كذب موسي في أن الله كلمه.(1) "
__________________________________________________ ص (128)
5_ في نهاية هذا المبحث نسوق جملة من أقوال أهل العلم في تكفير من أنكر اسماً أو صفة ثابتة لله عز وجل.
" يقول الإمام أحمد: _
_ إذا قال الرجل: _ العلم مخلوق فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه، وقال أيضاً: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل: _ {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران، آية 61].(2) "
ويقول رحمه الله: _
من قال إن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فهو كافر(3) "
" وقال هارون بن معروف(4): _
من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم فهو يعبد الأصنام. (5)"
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/509، 510 .
(2) السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد 1/102، 103، وانظر 2/385، وانظر أصول اللالكائي 3/405، 406، والشريعة للآجري ص 80 .
(3) مسائل الإمام أحمد لأبي داوود ( عقائد السلف ) ص 105، وانظر الشريعة للآجري ص 255
(4) أبو علي هارون بن معروف المروزي البغدادي، وثقة أبو حاتم وغيره مات سنة 231 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 11/129، وشذرات الذهب 2/71 .
(5) هو أبو جعفر، محمد بن مصعب، أحد العباد المشهورين، والقراء المعروفين، أثنى عليه أحمد ابن حنبل ووصفه بالسنة، مات ببغداد سنة 228 هـ .
انظر تاريخ بغداد 3/279 .(1/141)
" وقال محمد بن مصعب العابد(1): _
من زعم أنك لا تتكلم ولا تُرى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك، أشهد أنك فوق العرش، فوق سبع سماوات، وليس كما يقول أعداء الله الزنادقة(2) "
وقال نعيم بن حماد (3): _
_________________________________________________ ص (129)
من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ورسوله تشبيه(4) "
وقال ابن خزيمة (5): _
" من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة لئلا يتأذى يريحه أهل القبلة وأهل الذمة. (6)"
وقال الآجري: _
" باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن كلامه جل وعلا ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر. "
__________
(1) هو أبو جعفر، محمد بن صعب، أحد العبّاد المشهورين، والقراء المعروفين، أثنى عليه أحمد ابن حنبل ووصفه بالسنة، مات ببغداد سنة 228هـ .
انظر: تاريخ بغداد 3/279.
(2) المرجع السابق 1/173، وقال المحقق: إسناد صحيح، وانظر مختصر العلو للذهبي ص 183
(3) هو نعيم بن حماد الخزاعي الفرضي المروزي، الحافظ، أحد علماء الحديث، له تصانيف، نصر السنة، ومات في محنة القول بخلق القرآن سنة 229 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 10/595، وشذرات الذهب 2/67 .
(4) أصول اللالكائي 3/406، وانظر مختصر العلو للذهبي ص 184 .
(5) محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الشافعي، إمام الأئمة، صاحب التصانيف، حافظ فقيه، نصر السنة ورد على المبتدعة، توفي سنة 321 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 3/109، وسير أعلام النبلاء 14/365 .
(6) مختصر العلو للذهبي ص 225، وانظر سير أعلام النبلاء 14/373 .(1/142)
_ ثم قال _: _ اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً؛ أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله تعالى، وعلم الله لا يكون مخلوقاً تعالى الله عز وجل عن ذلك، دل على ذلك القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم، لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمية عند العلماء كفار. (1) "
" وقال هارون الفروي (2): _
" لم أسمع أحداً من أهل العلم بالمدينة وأهل السنن إلا وهم ينكرون على من قال القرآن مخلوق ويكفرونه. (3) "
_________________________________________________ ص (130)
وقال النووي: _
" قال المتولي: _ لو نفى ما هو ثابت للقديم(4) بالإجماع، ككونه عالماً قادراً... كان كافراً. (5) "
ويقول ابن تيمية: _
" والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك، عرف ذلك، كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر. (6) "
ويقول أيضاً: _
" القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين. (7)"
وجاء في الفتاوى البزازية: _
__________
(1) الشريعة ص 75 .
(2) هارون بن موسي الفروي المدني، روى عنه الترمذي والنسائي وغيرهما، مات سنة 253 هـ . انظر: تهذيب التهذيب 11/13 .
(3) المرجع السابق ص 78 .
(4) لفظ " القديم " من الألفاظ المجملة، والمتعين أن يوصف ربه سبحانه بالألفاظ الشرعية .
(5) روضة الطالبين 10/64 .
(6) مجموع الفتاوى 6/486 .
(7) درء تعارض العقل والنقل 7/26، 27 = باختصار، وانظر 9/396، 370 .(1/143)
" يجب إكفار القدرية في نفيهم كون الشر من خلق الله تعالى، وفي دعواهم أن كل فاعل خالق فعل نفسه. (1) "
و قال المرداوي: _
" من أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته كفر بلا نزاع في الجملة. (2)"
__________________________________________________ص (131)
المبحث الثالث
نواقض الإيمان القولية في توحيد العبادة
1_ في مطلع هذا المبحث نشير إلى معنى توحيد العبادة، وبيان أهميته، فتوحيد العبادة هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، وذلك بأن تصرف جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا التوحيد هو أصل الدين، ومن أجله أرسلت الرسل عليهم السلام وأنزلت الكتب.
وسنورد جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك.
يقول ابن تيمية: _ " إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو، ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، لا لأحد من الخلق، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم!(3) "
ويقول أيضاً: " أما التوحيد الذي ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الأئمة شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة، آية 163] فأخبر أن الإله إله واحد، ولا يجوز أن يتخذ إله غيره، فلا يعبد إلا إياه.(4) "
__________
(1) الفتاوى البزازية 6/318، 319 .
(2) الإنصاف 10/326، وانظر المبدع شرح المقنع 9/171، والفروع 6/164، وكشاف القناع 6/168، وشرح منتهى الإرادات 3/386 .
(3) منهاج السنة 3/490
(4) التسعينية ( ضمن فتاوى ابن تيمية، ط الكردي ) ص 208 .(1/144)
إلى أن قال: _ " وقال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل، آية 36] فبين سبحانه أنه بهذا التوحيد بعث جميع الرسل، وأنه بعث إلى كل أمة رسولاً به، وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله لا من الأولين، ولا من الآخرين ديناً غيره، قال تعالى: _ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران، آية 83].
فدين الله أن يدينه العباد، ويدينون له، فيعبدونه وحده، ويطيعونه، وذلك هو الإسلام له، فمن ابتغى غير هذا ديناً، فلن يقبل منه، وكذلك قال في
__________________________________________________ ص (131)(1/145)
الآية الأخرى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران، آية 18، 19]فذكر أن الدين عند الله الإسلام، بعد إخباره بشهادته، وشهادة الملائكة وأولي العلم أن لا إله إلا هو، والإله هو المستحق للعبادة، فأما من اعتقد في الله أنه رب كل شيء وخالقه، وهو مع هذا يعبد غيره، فإنه مشرك بربه، متخذ من دونه إلهاً آخر، فليست الإلهية هي الخلق، أو القدرة على الخلق، أو القدم، كما يفسرها هؤلاء المبتدعون في التوحيد من أهل الكلام، إذ المشركون الذين شهد الله ورسوله بأنهم مشركون من العرب وغيرهم لم يكونوا يشكون في أن الله خالق كل شيء وربه، فلو كان هذا هو الإلهية لكانوا قائلين إنه لا إله إلا هو، فهذا موضع عظيم جداً، ينبغي معرفته لما قد لبس على طوائف من الناس أصل الإسلام، حتى صاروا يدخلون في أمور عظيمة هي شرك ينافي الإسلام لا يحسبونها شركاً.(1) "
ويؤكد ابن القيم على وجوب صرف جميع أنواع العبادة لله وحده فيقول: _ " فالسجود، والعبادة، والتوكل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والتحسب، والتوبة، والنذر والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً، والطواف بالبيت، والدعاء، كل ذلك محض حق الله لا يصلح، ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب، ولا نبي مرسل.(2) "
ويبين ابن القيم أهمية هذا التوحيد وعظم الحاجة إليه، فيقول: _
__________
(1) المرجع السابق ص 209 .
(2) الجواب الكافي ص 180، 181 .(1/146)
" اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود، والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه
_________________________________________________ ص (133)
وإكرامه لها.(1) "
ويطنب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بيان معنى توحيد العبادة وتحقيقه، وعظم أمره، وقد أطال في هذا، وأجاد وأفاد، حيث قرر هذا التوحيد، ورد على المخالفين في أكثر كتبه ورسائله.
يقول رحمه الله: _
" إن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته هو إخلاص الدين لله بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك، وهو أن لا يدعى أحد من دونه من الملائكة والنبيين فضلاً عن غيرهم... وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له، وهذا معنى قول لا إله إلا الله، فإن المألوه هو المقصود المعتمد عليه، وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من يعرفه.(2) "
ويقول أيضاً: _
" توحيد الألوهية هو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر، والذبح، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم.(3) "
__________
(1) طريق الهجرتين 57،58 .
(2) الدرر السنية 2/21 باختصار .
(3) الدرر السنية 2/35، وانظر 2/37، 2/152، 153 .(1/147)
ونلمس الحرص الشديد من الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عندما نجده يؤكد على هذا التوحيد قائلاً: _
" فالله الله يا إخواني، تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره وأسه، ورأسه شهادة أن لا إله الله، واعرفوا معناها، وأحبوها، وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال ما علي منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله تعالى بهم وافترض عليه الكفر
________________________________________________ ص (134)
بهم، والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم، فالله الله تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.(1) "
ومما سطره الشيخ عبد الرحمن السعدي في بيان أهمية توحيد العبادة ومعناه، ما يلي: _
__________
(1) تفسير كلمة التوحيد ( ضمن مجموعة التوحيد ) ص 252 .(1/148)
" أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح، وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر به، أو بحق من حقوقه، أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين، ويقال له: _ توحيد الإلهية، فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه، الدال عليها الاسم العظيم وهو الله، وهو مستلزم جميع صفات الكمال، ويقال له توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه، مخلصاً له جميع عبادته، محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره.(1) "
ويقول في موضع آخر عن هذا التوحيد: _
" وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنيوي والأخروي لمن قام به وحققه، والعقاب لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به، وأهل الشقاوة التاركين له، فعلى العبد أن يبذل جهده في معرفته، وتحقيقه، والتحقق به، ويعرف حده وتفسيره، ويعرف حكمه ومرتبته، ويعرف آثاره ومقتضياته، وشواهده وأدلته، وما يقويه وينميه، وما ينقضه أو ينقصه؛ لأنه الأصل الأصيل لا تصلح الأصول إلا به، فكيف بالفروع!
فأما حده وتفسيره وأركانه فهو أن يعلم العبد ويعترف على وجه العلم واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الإلهية ومعانيها ليست
_________________________________________________ ص (135)
__________
(1) القواعد الحسان ص 192 .(1/149)
موجودة بأحد من المخلوقات، ولا يستحقها إلا الله تعالى.(1) "
2_ وإذا تقرر معنى توحيد العبادة وأهميته، فإننا نشير إلى ما يضاده ويناقضه وهو الشرك، فنوجز الحديث عن تعريفه وخطره على ما يلي: _
يقول ابن تيمية: _ " وأصل الشرك أن تعدل بالله تعالى مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده، فإنه لم يعدل أحد بالله شيئاً من المخلوقات في جميع الأمور، فمن عبد غيره أو توكل عليه فهو مشرك به..(2) "
يقول ابن القيم في نونيته: _
" والشرك فاحذره فشرك ظاهر ………ذا القسم ليس يقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ………ويحبه كمحبة الرحمن(3) "
ويقول أيضاً: _ " والشرك الأكبر: - لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: _ {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97،98]. مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم.(4) "
ويقول إسماعيل الدهلوي(5): _ " إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية، وجعلها شعاراً للعبودية، لأحد من الناس
________________________________________________ ص (136)
__________
(1) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين ص 57 .
(2) الاستقامة 1/344 .
(3) شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/263
(4) مدارج السالكين 1/339
(5) هو إسماعيل بن عبد الغنى بن عبد الرحيم الدهلوي، كان عالماً مجاهداً، نشأ في الهند، وسافر الى الحرمين، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 1246 هـ .
انظر ترجمته في مقدمة كتابه " رسالة التوحيد "(1/150)
كالسجود لأحد،و الذبح باسمه، والنذر له والاستغاثة به في الشدة... كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركاً، وإن كان يعتقد أن هذا الإنسان، أو الملك، أو الجن الذي يسجد له، أو ينذر له، أو يذبح له، أو يستغيث به دون الله شأناً، وأن الله هو الخالق.(1) "
ويقول الشيخ عد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (2): _
" الشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: _ أن تجعل لله نداً وهو خلقك.(3) " والند المثل والشبيه، فمن صرف شيئاً من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركاً يبطل التوحيد وينافيه.(4) "
ومما كتبه محمد رشيد رضا(5) في بيان هذا الشرك قوله: _
" أن يعتقد المرء أن في الخلق من يشاركه تعالى، أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض بشفاعته عنده، لأجل قربه منه.(6) "
__________
(1) رسالة التوحيد ص 32، 33 = باختصار .
(2) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1225 هـ، ودرس في الأزهر مختلف العلوم، وكان عالماً محققاً، له رسائل ومؤلفات وشعر، توفي بالرياض سنة 1293 هـ .
انظر: علماء نجد 1/63، ومشاهير علماء نجد ص 93 .
(3) أخرجه البخاري ك التفسير ( 8/163 ) ح ( 4477 ) وأخرجه مسلم، ك الإيمان ( 1/90 ) ح (141 ) .
(4) الدرر السنية 2/153 .
(5) هو محمد رشيد بن علي رضا القلموني الحسيني، من رجال الاصلاح في هذا العصر، نشأ في طرابلس الشام، ثم رحل إلى مصر، له مؤلفات وفتاوى توفي بالقاهرة سنة 1354 هـ .
انظر: الأعلام 6/126، معجم المؤلفين 9/310 .
(6) تفسير المنار 2/55 .(1/151)
وعرف الشيخ عبد الرحمن السعدي هذا الشرك بتعريف جامع مانع فقال: _ " إن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله، فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به
_______________________________________________ ص (137)
من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر فعليك بهذا الضابط للشرك الكبر الذي لا يشذ عنه شيء(1).
وأما خطر هذا الشرك وشناعته، فأمر لا يخفى على الموحد، فالشرك أعظم الذنوب عند الله وأشنعها على الإطلاق كما مر في حديث ابن مسعود، والشرك هو الذنب الوحيد الذي يمتنع الله عن مغفرته، وهو الموجب للخلود في النار، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذنب بقوله: _ لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت. (2)"
يقول السعدي في بيان ذلك: _
" الشرك لا يغفره الله تعالى، لتضمنه القدح في رب العالمين، ووحدانيته وتسوية المخلوق، الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بمن هو مالك النفع والضر الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات، فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال، عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق، الذي ليس له من صفات الكمال شيء.(3) "
ويقول السعدي عند قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان، آية 13]
" ووجه كونه ظلماً عظيماً، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق من تراب، بمالك الرقاب، وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئاً، بمالك الأمر كله.
__________
(1) القول السديد ص 43، وانظر الحق الواضح المبين ص 59 .
(2) سيأتي تخريجه ص 465
(3) تفسير السعدي 2/165(1/152)
وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم، بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم، ودنياهم، وأخراهم، وقلوبهم، وأبدانهم، إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو.
فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟!
__________________________________________________ ص (138)
وهل أعظم ظلماً، ممن خلق الله تعالى لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة، فجعلها في أخس المراتب؟.(1) "
3_ والآن ننتقل للحديث عن معنى الدعاء والاستغاثة وما في معناهما، ثم نشير إلى أهمية الدعاء، وعظم شأنه، ووجوب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فمعنى الدعاء: السؤال والطلب.
يقول الفيومي: _
" دعوت الله أدعوه ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير. (2)" وأما الاستغاثة فهي طلب الغوث، ويقال في النصرة، وأغاثه إذا نصره (3). والاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام والتحرز، جاء في اللسان: _ " عاذ به: _ لاذ به ولجأ إليه واعتصم.(4) "
وأما معنى الاستعانة فهي طلب المعونة، والعون: _ الظهير على الأمر (5).
يقول الخطابي: _
" ومعنى الدعاء استدعاء العبد ربه _ عز وجل _ العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته: _ إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود، والكرم إليه.(6) "
__________
(1) تفسير السعدي 6/155، 156 .
(2) المصباح المنير ص 231، وانظر لسان العرب 14/257، ومفردات الراغب ص 244، 245، وفتح الباري 11/94 .
(3) انظر المصباح المنير ص 546، ومفردات الراغب ص 550 .
(4) 3/498 وانظر المصباح المنير ص 528، 529، ومفردات الراغب ص 526 .
(5) انظر: المصباح المنير ص 524، ومفردات الراغب ص 528، 529، واللسان 13/298 .
(6) شأن الدعاء ص 4، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 2/678 .(1/153)
ومما ينبغي الإشارة إليه أن الدعاء يطلق على عدة معان منها: _ العبادة، والتوحيد، والنداء، والاستغاثة، والسؤال، والاستعانة وغيرها(1).
________________________________________________ ص (139)
وأما الحديث عن أهمية الدعاء وعظم شأنه، فحديث طويل(2)، ولكن حسبنا في هذا المبحث أن نقتصر على ما يلي: _
إن الدعاء من أجل العبادات وأعظمها، ولذا فقد ذكر في القرآن الكريم في نحو ثلاثمائة موضع (3)، وقد سماه الله تعالى عبادة، وتوعد من ترك الدعاء _ استكباراً _ بدخوله جهنم ذليلاً حقيراً.
فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر آية 60].
وسمى الله تعالى الدعاء ديناً كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت، آية 65].
وقد نهى الله تعالى عن دعاء غيره فقال: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس، آية 106]{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية 18].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه(4)
__________
(1) انظر: الدعاء المأثور وآدابه للطرطوشي ص 31 _ 33، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي 1/182، 183، وكتاب الأزهية في أحكام الأدعية للزركشي ص 26، ورسالة الشرك ومظاهره للميلي ص 185 .
(2) انظر رسالة : الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية > ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة للباحث جيلاني العروسي، وقد استفدت منها .
(3) انظر الدرر السنية 9/418 .
(4) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأول مولود في الإسلام من الأنصار بعد الهجرة، صار قاضياً بدمشق، وأميراً على الكوفة، توفي سنة 65 هـ.
انظر: الإصابة 6/440، وسير أعلام النبلاء 3/411 .(1/154)
قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: _ " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60](1) "
يقول الشوكاني: _
" قوله " الدعاء هو العبادة " هذه الصفة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه، ومن جهة تعريف المسند، ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء
________________________________________________ ص (140)
هو أعلى أنواع العبادة وأرفعها وأشرفها... والآية الكريمة قد دلت على أن الدعاء من العبادة، فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده أن يدعوه، ثم قال " إن الذين يستكبرون عن عبادتي " فأفاد ذلك أن الدعاء عبادة، وأن ترك دعاء الرب سبحانه وتعالى استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه وموجده من العدم، وخالق العدم(2) كله، ورازقه، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه، فلاشك أن الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم (3). "
يقول حسين بن مهدي النعمي(4): _ " ومن أمعن النظر في آيات الكتاب، وما قص من محاورات الرسل مع أممهم، وجد أن أس الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً وكثرة، وانتشاراً وشهرة، هو دعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له.(5) "
__________
(1) أخرجه أحمد 4/267، وأبو داود ح ( 1479 )، والترمذي ح ( 3372 )، وصححه النووي في الأذكار ص 333، وقال ابن حجر في الفتح ( 1/49 ): _ " إسناد جيد .
(2) لعلها: وخالق العالم .
(3) تحفة الذاكرين ص 25
(4) حسين بن مهدي النعمي التهامي، من أهل صبيا في جنوب غرب الجزيرة العربية، عالم فاضل، له مؤلفات، توفي بصنعاء سنة 1187 هـ .
انظر الأعلام 2/260 .
(5) معارج الألباب ص 214 .(1/155)
ويقول في _ موضع آخر _: _ " ولما كان الدعاء بكيفية الاضطرار والافتقار إلى القوي القهار، العزيز الغفار، وضعاً وضبطاً وصنعاً، وإبداء الفاقة والاحتياج إليه، وعدم الاستغناء عنه، مترجماً عن معنى عبد مملوك مربوب، والمدعو مالكه وربه كان حينئذ قاعدة أفق العبادة، ومنتثل (1)كنانتها، وهذا سر اختصاص الله به، وعدم استحقاق سواه، لتقاضي كيفيته التي وضع بها وبرز فيها: _ أن لا يكون إلا لله تعالى الذي هو أهل لما يستوجبه الدعاء ويلزمه من كون المدعو بالنعت الأكمل، والوصف الأجمل، ولله الأسماء الحسنى، والداعي ذليل له مفتقر إليه، معلق آماله به وعليه، راجياً للنفع منه... فالدعاء بوضعه وطبعه وحاصله: _ كأن يقيم
_______________________________________________ ص (141)
صلاة بتكبير وقراءة وركوع وسجود... (2)"
ومما أورده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في بيان أهمية عبادة الدعاء... ما قاله: " وأنت ترى كل العبادات الظاهرة والباطنة دالة على الطلب والمسألة على اختلاف المطلوب والمسؤول.
وكان هذا الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة، في أكبر موارد القرآن والسنة، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم " أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير "(3) (4) "
__________
(1) نثل الكنانة: _ استخرج نبلها فنثرها .
انظر: ترتيب القاموس المحيط 4/323، والمصباح المنير ص 724
(2) المرجع السابق ص 224، 225 .
(3) أخرجه مالك، ك القرآن ( 1/215 ) ح ( 34 )، والترمذي ح (3585 )، وحسنه الألباني في " الصحيحة " ( 1503 ) .
(4) تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس ص 97، 98، وانظر خلاصة تفسير السعدي ص 57، والدرر السنية 9/420 .(1/156)
ويبين الشيخ أحمد بن عيسى(1) ما يتضمنه الدعاء من أنواع العبادة فيقول: " قد تقرر أن الدعاء يجمع من أنواع العبادة كثيرا كإسلام الوجه لمن يدعوه، والرغبة إليه، والاعتماد عليه، والخضوع له، والإطراح والتذلل، فمن أسلم وجهه لغير الله فهو مشرك شاء أم أبى.(2) "
ويقول الشيخ السعدي في بيان عظم الدعاء: _
" قال تعالى {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر، آية 14] فوضع كلمة " الدين " موضع كلمة " الدعاء " وهو في القرآن كثير جداً، يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة، ومعنى الآية هنا: _ أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.(3)"
____________________________________________ ص (142)
4_ وإذا تقرر أن الدعاء عبادة من أعظم العبادات، وأجل الطاعات، وأنه يجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فإن من دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ(4) بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فقد كفر وخرج من الملة، سواء كان هذا الغير نبياً، أو ولياً، أو ملكاً، أو جنياً، أو غير ذلك من المخلوقات.
__________
(1) أحمد بن إبراهيم بن عيسى، ولد بشقراء سنة 1253 هـ، وطلب العلم في الرياض ومارس التجارة، وتولى القضاء، له مؤلفات، توفي سنة 1329 هـ .
انظر: مشاهير علماء نجد ص 125، وعلماء نجد /1/155 .
(2) 10) الرد على شبهات المستعينين بغير الله ص 47 .
(3) 11) القواعد الحسان ص 155 .
(4) يقول ابن تيمية: (( الاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة ))
انظر مجموع الفتاوي 15 / 227(1/157)
كما قال الله تعالى: _ {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ {106} وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس، آية 106، 107].
وقوله تعالى: _ {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت، آية 17].
وقال تعالى: _ {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء، آية 213]، وقال عز وجل: _ {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص، آية 88].
وقال سبحانه: _ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف، آية 5،6].
وقال سبحانه وتعالى: _ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية 18].
وقال صلى الله عليه وسلم: _ " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار.(1) " ولذا يقول ابن تيمية: _ " " ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان، أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف، آية 110].(2) "
__________________________________________________ ص (143)
__________
(1) أخرجه البخاري، ك التفسير ( 8/176 ) ح ( 4497 )، وأحمد 1/374 .
(2) الرد على البكري ص 95 .(1/158)
ويبين ابن القيم شناعة هذا الشرك فيقول: _
" ومن أنواعه (الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده.(1) "
ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر، وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً، أو تأثيراً، أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم أنها تخلق، وترزق، وتدبر أمر من قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه بل كانوا يدعونها، ويستغيثون بها مع إقرارهم بأن الله هو المدبر الخالق الرزاق...(2)
ولذا يقول ابن تيمية: _ " كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر، والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى يصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً.
ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك. (3)"
__________
(1) مدارج السالكين 1/346 .
(2) انظر في مناقشة من زعم جواز دعاء الأموات ما دام الداعي يعترف بأن الله هو الخالق: _ تفسير المنار 2/65، والدر النضيد للشوكاني ص 16_ 19، وضوابط التكفير للقرني ص 139 _ 148 .
(3) درء التعارض 1/227، 228 .(1/159)
وقد تمادى دعاة الوثنية في تجويز الاستغاثه بغير الله تعالى بحجة أن هؤلاء المستغيثين لا يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، حتى نفوا التأثير وأسقطوا الأسباب، فليس دعاء الأموات سبباً في حصول المطلوب، ولكنه مقترن " فقط " بحصول المطلوب!! (1)
________________________________________________ ص (144)
ويقول حسين بن مهدي النعمي: - " لا يشترط في التنديد: _ أن ينتحل للسوى من الصفات والأسماء والفعال ما يختص به الحميد المجيد، بل هو أن تتكيف لذلك السوى بكيفية العابدية، وتتحقق أنت له بصفة المربوبية، وتقضي له بحالتك التي صنعتها، وصورة نعتك في عبادتك إياه فقط بأنه يربك ويربيك.(2) "
ولذا فقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن الشرك في الدعاء لا يكون شركاً إلا مع اعتقاد شريك مع الله سواء في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله(3).
5_ وأما وجه كون دعاء غير الله من نواقض الإيمان، وكذا الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة بغيره تعالى من نواقض الإيمان، فمن وجوه عديدة، منها ما يلي: _
(أ) من المعلوم أن الله تعالى هو الإله الحق، وأن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تعالى وحده، فهو سبحانه وحده المستحق لجميع أنواع العبادة، والدعاء من أجل العبادات وأعظمها شأناً، وقد سماه الله تعالى عبادة، كما قال تعالى: _ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60].
__________
(1) انظر لمعرفة أقوالهم والرد عليهم في كتاب دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لعبد العزيز العبد اللطيف ص 247 _ 250، ص 270 _ 275 .
(2) معارج الألباب ص 243، وانظر ص 214 .
(3) انظر لمزيد من التفصيل رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 173 .(1/160)
وقال سبحانه وتعالى في شأن إبراهيم عليه السلام {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا {48}فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}[مريم، آية 48، 49].
وقال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة. وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف، آية 5، 6].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: _
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: _ إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60](1)"
__________________________________________________ ص (145)
فدعاء الله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره كفر وتنديد، فمن استغاث بغير الله تعالى فقد اتخذ مع الله نداً، وقد قال تعالى في حال من أشرك {وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} [الزمر، آية 8]فكفره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة(2).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: _ " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار.(3) "
وإذا كان الدعاء عبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر(4)، وقد تقدم أن حد الشرك الأكبر هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: _
__________
(1) تقدم تخريجه ص 139 .
(2) انظر الدرر السنية 2/95، 96 .
(3) تقدم تخريجه
(4) انظر الرد على البكري لابن تيمية ص 214 .(1/161)
" ومن أنواع العبادة الدعاء، كما كان المؤمنون يدعون الله وحده ليلاً ونهاراً في الشدة والرخاء، ولا يشك أحد أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر رحمك الله فيما حدث في الناس اليوم من دعاء غير الله. في الشدة والرخاء، فهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر، فيستغيث بعبد القادر أو شمسان أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء أن ينجيه من هذه الشدة، فيقال لهذا الجاهل: _ إن كنت تعرف أن الإله هو المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقاً ميتاً، وتترك الحي القيوم الحاضر الرؤوف الرحيم القدير؟(1) "
وجاء في كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق: _
" والداعي غير الله فيما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى جاعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه تعالى من الألوهية المقتضية للرهبة والرغبة، والاستعاذة، وذلك كفر بإجماع الأمة، لأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته، فإنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب بالرغبة لديه، والفزع عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر
_________________________________________________ص (146)
بالعبودية مقهور بها، فكيف يصلح أن يكون إلهاً مرغوباً مرهوباً مدعواً؟.(2) "
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن(3)
__________
(1) الدرر السنية 2/54 .
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وآخرين، ص 129 .
(3) هو عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1193هـ، وتولى القضاء، وبعد سقوط الدرعية انتقل إلى مصر، ودرس على علمائها، ثم عاد إلى نجد، له مؤلفات، توفي بالرياض سنة 1282 هـ .
انظر: مشاهير علماء نجد ص 78، وعلماء نجد 1/56 .(1/162)
موضحاً أن الطلب من الأموات شرك... " إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب.
كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً، فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد آلهه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى، صار مألوها له.(1) "
ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في هذا الشأن: _
" فمن صرف لغير الله شيئاً من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهاً، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألهاً وعبادة وشركاً، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسماءها...
فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمناً مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلاً، وتشفعاً، وتعظيماً للصالحين، وتوقيراً لهم ونحو ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى...(2) "
(ب) قد سمى الله تعالى دعاء غيره شركاً وكفراً، وقد جاء هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: _ {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين. بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما
__________________________________________________ ص (147)
تشركون} [الأنعام، آية 40، 41]
__________
(1) الدرر السنية 9/152 = بتصرف يسير .
(2) الدرر السنية 2/143، 144 = بتصرف يسير .(1/163)
وقوله سبحانه وتعالى: _ {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين " قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون} [الأنعام، آية 63، 64].
وقوله عز وجل: _ {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأعراف، آية 37].
وقوله تبارك وتعالى: _ {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} [النمل، آية 53، 54].
وقوله تعالى: _ {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم..} [العنكبوت، آية 65، 66].
وقوله سبحانه: _ {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون} [الروم، آية 35].
وقوله عز وجل: _ {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر، آية 13، 14].
وقوله تعالى: _ {وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} [الزمر، آية 8].
(جـ) إن دعاء المخلوق وقصده هو تشبيه للمخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر، إذ الدعاء حق خالص لله وحده لا شريك له، فمن دعا غير الله فقد تنقص الرب جل وعلا، ووقع في أعظم الظلم وأشنعه كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان، آية 13].
وأيضاً فمن سأل مخلوقاً ما لا يقدر عليه إلا الله فهو من جنس مشركي العرب الذين يدعون الملائكة والأنبياء والتماثيل، ومن جنس سؤال النصارى للمسيح وأمه.(1/164)
وقد وضح ابن القيم حقيقة هذا التشبيه فقال: _
________________________________________________ ص (148)
" حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعكس من نكس الله قلبه، وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق.(1) "
_ إلى أن قال _: " ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والتوكل والاستعانة... كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.(2) "
ويذكر ابن القيم المشبهة بقوله: _ " المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم والخضوع، والسجود له، والاستغاثة به...فهؤلاء هم المشبهة حقاً.(3) "
__________
(1) الجواب الكافي ص 182 .
(2) المرجع السابق ص 182، 183 .
(3) إغاثة اللهفان 2/340، 341 باختصار .(1/165)
ويقول ابن القيم أيضاً: _ " فأما القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن سوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في الفطر السليمة فوق كل قبيح، يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده، متأله خاضع، ذليل له والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والخضوع، وهذا خالص
_________________________________________________ ص (149)
حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه.(1) "
وعندما تحدث ابن تيمية عن معنى الواسطة بين الله تعالى وخلقه... كان مما قاله: _
" وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك الحوائج للناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً...(2) "
ويقول _ في موضع آخر _:
" من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية، فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: _ إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى.(3) "
ويقول أيضاً: _
__________
(1) الجواب الكافي ص 186 .
(2) مجموع الفتاوى 1/126 .
(3) المرجع السابق 1/134، 135 .(1/166)
" والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، فيقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ، وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه.(1) "
________________________________________________ ص (150)
ويذكر ابن تيمية أن دعاء غير الله هو من جنس أفعال الكفار فيقول: _
" وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور، لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، آية 3](2) "
(د) أجمع أهل العلم على أن من دعا غير الله أو استغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهو كافر خارج من الملة الإسلامية.
يقول ابن تيمية: _
__________
(1) المرجع السابق 18/322 .
(2) المرجع السابق 27/72 بتصرف يسير، وأنظر 27/67، 81_90، 3/275 . وقاعدة جليلة في التوسل ص 49، والرد على البكري ص 55 .(1/167)
" فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب(2) معلقاً على هذا الإجماع: _ " وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو
_________________________________________________ص (151)
كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة.(3) "
ويقول ابن تيمية أيضاً: _
" سؤال الميت والغائب نبياً كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحداً منهم كان يقول إذا نزلت به ترة (تبعة)، أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/124 وانظر الإنصاف للمرداوي 10/327، وكشاف القناع للبهوتي 6/168، وغاية المنتهى 3/337، والفروع 3/553 .
(2) ولد في الدرعية عام 1200هـ اشتغل بالعلم والتدريس، وله عناية فائقة بالحديث، وتولى القضاء، وله مؤلفات، توفي مقتولاً سنة 1233 هـ
انظر: علماء نجد 1/293، والأعلام 3/129 .
(3) تيسير العزيز الحميد ص 229 .
(4) الرد على البكري ص 231 .(1/168)
ويقول في موضع ثالث: _ " وأما دعاء صفات الله وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول مسلم يا كلام الله اغفر لي وارحمني، وأغثني، أو أعني، أو يا علم الله، أو يا قدرة الله، أو يا عزة الله، أو يا عظمة الله ونحو ذلك.(1) "
ويقول رحمه الله: _
" إن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين _ لا الأنبياء ولا غيرهم _ عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين.(2) "
ويقول ابن عبد الهادي(3): " ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين.(4) "
__________________________________________________ ص (152)
6_ والآن نسوق جملة من كلام أهل العلم في هذا المبحث على النحو التالي: _
" قال ابن عقيل(5): لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: _ وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: _ يا مولاي إفعل بي كذا وكذا،و أخذ التراب تبركاً.(6) "
ويقول ابن تيمية: _
__________
(1) المرجع السابق ص 79 .
(2) قاعدة جليلة ص 285، وانظر الرد على البكري ص 312 .
(3) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، مقرىء، فقيه، أصولي محدث، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 744 هـ .
انظر: الدرر الكامنة 3/421، والبدر الطالع 2/108 .
(4) الصارم المنكي ص 436 .
(5) هو أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي، فقيه، أصولي، مقرىء، واعظ، ولد ببغداد سنة 431 هـ، له الفنون في مجلدات كثيرة، توفي سنة 513 هـ .
انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/142، سير أعلام النبلاء 19/443 .
(6) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 455 .(1/169)
" فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح... وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان اغفري لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وانزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر.(1) "
ويقول أيضاً: _
" فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الإستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الإستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من
_________________________________________________ص (153)
الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، ولم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال: _ هذا أصل دين الإسلام(2) "
ويقول الأمير الصنعاني(3): _
__________
(1) مجموع الفتاوى 3/359 باختصار، وانظر قاعدة جليلة ص 243، 300، والرد على الأخنائي ص 61، واقتضاء الصراط المستقيم 2/703، ومختصر الفتاوى المصرية ص 191، 193، 195 .
(2) الرد على البكري ص 376، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/29 .
(3) هو محمد بن إسماعيل الصنعاني، محدث فقيه أصولي، من أئمة اليمن، رحل إلى الحرمين له مؤلفات، توفي بصنعاء سنة 1182 هـ .
انظر: البدر الطالع 2/133، ومعجم المؤلفين 9/56 .(1/170)
" من نادى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً خوفاً وطمعاً، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر، آية 60]، بعد قوله " ادعوني أستجب لكم. (1)"
ويقول حسين بن مهدي النعمي: _
" هذه العبادة بكيفيتها موضوعة للرب الأحد الصمد، السميع القريب المجيب، مالك الملك، والدعاء هذا مجراه، وهذه منزلته، فدعاء غير الله تعالى إخراج للدعاء عن محله وموضوعه، كقيامه بتلك الصلاة على تلك الكيفية للمقبور والحجر، سواء بسواء، والفصل بين الصلاة والدعاء فصل بين متآخيين، وإلا فليجعلوا للمقبور صلاة وصياماً ونحوهما، يفارق الذم والتشريك، ويكون صالحاً خالياً عن الفساد والمنكر، سبحانك ربنا، هذا بهتان عظيم.
فما بال الدعاء الذي هو العلم المشهور في العبادة، وآيات التنزيل، بل هو في الحقيقة بداية الأمر ومشرعه، وقطب رحاه، سل من مركزه، واستنزل من شوامخ صياصيه، وهو أظهر وأشهر معنى من العبادة، وأكثر تنصيصاً وتعييناً!(2) "
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: _
" فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب نفع، أو دفع
___________________________________________________ ص (154)
ضر فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: _ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف، آية 6،7].
__________
(1) تطهير الاعتقاد ص 24، وانظر ص 19 .
(2) معارج الألباب ص 225 .(1/171)
وقال تعالى: _ {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ {13} إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر، آية 14، 15]. فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله، أو يا عبد الله بن عباس، أو يا عبد القادر، أو يا محجوب زاعماً أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده أو وسيلته إليه فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال إلا أن يتوب من ذلك.(1) "
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: _
" لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة، ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه.(2) "
وقال الشوكاني: _
" وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا من غيره {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن، آية 18]، {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} [الرعد، آية 14](3).
__________
(1) الدرر السنية 2/19 .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/602 .
(3) الدر النضيد ( ضمن الرسائل السلفية ) ص 17 .(1/172)
ويقول أيضاً: _ " فإن الشرك هو دعاء غير الله الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكاً بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه، سواء أطلق
___________________________________________________ ص (155)
على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية، أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط.(1) "
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في هذا المقام: _
" من المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى، والغائبين والاستغاثة بهم في المهمات والملمات.(2) "
ويقول أيضاً: _
" الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى والتوجه إليهم شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق، وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره.(3)"
ويقول محمد رشيد رضا: _
__________
(1) المرجع السابق ص 18 .
(2) دلائل الرسوخ ص 79
(3) مصباح الظلام ص 252 .(1/173)
" فمن دعا إلى عبادة نفسه، فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله، وإن لم ينههم عن عبادة الله... ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله؛ لأن هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده، ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال تعالى: _ {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ {2} أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر، آية 2، 3] فلم يمنع توسطهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه.(1) "
ويقول أيضاًَ: _
" ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلاً وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء وإنما
____________________________________________________ ص (156)
الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء.
_ إلى أن قال _ ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جداً، يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولاسيما عند الشدة.(2) "
_________________________________________________ص (157)
الفصل الثاني
المبحث الأول: في الأنبياء عليهم السلام
المطلب الأول: في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير المنار 3/347 .
(2) المرجع السابق 5/421، 422 = باختصار، وانظر 2/353 .(1/174)
1_ نشير في مقدمة هذا المبحث إلى واجبنا نحو نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، لقد خص الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة فهو سيد ولد آدم، وخاتم النبيين، فقد أرسل للناس كافة، كما قال تعالى: _ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف، آية 158]كما أنه أول من يعبر على الصراط يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها، وله المقام المحمود، ولواء الحمد، وهو أول شافع مشفع.
ولاشك أن علينا تجاه هذا النبي الكريم حقوقاً كثيرة يجب القيام بها وتحقيقها، فلابد من تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وإن من أهم ما يجب علينا تجاه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
قال تعالى: _ {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة، آية 24].
يقول القاضي عياض عن هذه الآية:
" فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرع سبحانه من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.(1) "
__________________________________________________ ص (158)
__________
(1) الشفا 2/563 .(1/175)
وعن أنس بن مالك(1) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (2)"
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان _ وذكر منها _ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(3) "
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في صدق وتمام المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للعباس: أن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب؛ لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا. ومن الماء البارد على الظمأ(4).
وكان عمرو بن العاص(5) رضي الله عنه يقول:
" ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه (6)"
يقول ابن تيمية:
_______________________________________________ ص (159)
__________
(1) أنس بن مالك من بني عبد الأشهل، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، روى عن رسول الله أحاديث جمة، توفي سنة 93 هـ .
انظر البداية 9/88 وسير أعلام النبلاء 3/395 .
(2) أخرجه البخاري، ك الإيمان ( 1/58 ) ح ( 15 )، ومسلم ك الإيمان ( 1/67 ) ح ( 69 )
(3) أخرجه البخاري، ك الإيمان ( 1/60 ) ح ( 16 )، ومسلم ك الإيمان ( 1/66) ح (67 )
(4) انظر الشفا للقاضي عياض 2/567_570 .
(5) هو عمرو بن العاص بن وائل القرشي، صحابي جليل، أسلم قبل الفتح، وكان من أمراء الأجناد في الفتوحات، عرف بالدهاء، وحسن التدبير، توفي سنة 43 هـ .
انظر الإصابة 4/653، وسير أعلام النبلاء 3/54 .
(6) أخرجه مسلم، ك الإيمان ( 1/114 )، ح ( 192 )(1/176)
ومن حقه أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أن يحب أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطعام، وأنه يحب أن يوقى بالأنفس والأموال، كما قال سبحانه وتعالى: _ {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}[التوبة، آية، 120].
فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام.
وقال تعالى مخاطباً للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر والجهاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب، آية 21] (1) "
وإذا كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أعمال القلوب، وأفضل شعب الإيمان، فإن بغضه من أشنع الذنوب وأخطرها، لقد قال الله تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر، آية 3] فأخبر سبحانه أنه شانئه (أي مبغضه) هو الأبتر، والبتر: القطع، فبين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد، ومما قاله ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة الجامعة: " إن الله سبحانه بتر شانىء رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً، ولا عوناً ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعماً، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها.
__________
(1) الصارم المسلول ص 421 .(1/177)
ولذا قال أبو بكر بن عياش: أهل السنة يموتون، ويحي ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم، لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح، آية 4]، وأهل البدعة شنأوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من
_________________________________________________ ص (160)
قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}(1)
كما يتعين علينا نصحه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة، آية 91].
وعن تميم الداري(2) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الدين النصيحة ثلاثاً قلنا لمن يا رسول الله؟ قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3)"
يقول ابن رجب(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/526، 528 باختصار، وانظر بعض العقوبات والمثلات التي وقعت في حق من أبغض الرسول أو تنقصه: الصارم المسلول ص 117، وبستان العارفين للنووي ص 51، وكلمة الحق لأحمد شاكر ص 176، 177 .
(2) هو أبو رقية تميم بن أوس اللخمي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عابداً واعظاً، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 40 هـ .
انظر: طبقات ابن سعد 7/408، وسير أعلام النبلاء 2/442 .
(3) أخرجه مسلم، ك الإيمان ( 1/74 ) ح (95 )
(4) هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الدمشقي الحنبلي، الحافظ الفقيه الواعظ، ولد ببغداد سنة 736 هـ، وقدم دمشق، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 795 هـ .
انظر: الدرر الكامنة 2/429، والجوهر المنضد لابن عبد الهادي ص 46 .(1/178)
: " وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته، وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه وتعظيم أمره ولزوم القيام به، وشدة الغضب، والإعراض عمن تدين بخلاف سنته والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا، إن كان متديناً بها، وحب من كان منه بسبيل من قرابة، أو صهر، أو هجرة، أو نصرة، أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام .(1) "
و من حقه صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________________________________________________ ص (161)
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات، آيه 1] (2)
يقول ابن القيم في هذا الصدد:-
"فرأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة بخيال باطل، يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل، والإنابة والتوكل (3) "
ويقول أيضاً: - " ومن الأدب معه: أن لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يوقف قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على موافقة أحد. (4) "
ومن حقه صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى أمر بتعزيره وتوقيره، كما قال تعالى ": - {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح، آية 9].
يقول ابن تيمية: -
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/221، 222 .
(2) انظر الصارم المسلول ص 422، ومدارج السالكين 2/389
(3) مدارج السالكين 2/387
(4) المرجع السابق 2/390(1/179)
"التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. (1) "
يقول القاضي عياض:
" اعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم، كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته "
وقال أبو إبراهيم التجيبي:-
" واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده، أن يخضع ويخشع، ويتوقر، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما
صـ162
أدبنا الله به ".
قال القاضي عياض:-
" وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم.(2)"
وإذا تقرر وجوب القيام بحقه صلى الله عليه وسلم، وطاعته ومحبته، والنصح له، والتسليم والإنقياد له، كما ظهر وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه.
… فإنه يتعين في نفس الوقت عدم الغلو فيه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، فلا يشرك مع الله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة … ولا يستغاث به، ولا يجعل قبره وثناً يعبد من دون الله … فهو صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، والحق وسط بين الغالي والجافي.
يقول ابن عبد الهادي:-
" فالتعظيم نوعان: أحدهما: بما يحبه المعظم ويرضاه ويأمره ويثني على فاعله فهذا هو التعظيم في الحقيقة، والثاني بما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله فهذا ليس بتعظيم بل هو غلو مناف للتعظيم، ولهذا لم يكن الرافضة(3)
__________
(1) الصارم المسلول ص 422
(2) الشفا 2/595 .
(3) الرافضة: من أكبر فرق الشيعة، وتقول الرافضة بإمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بالنص الظاهر، وجعلوا الإمامة أهم المطالب وأشرف منازل الدين .
انظر: مقالات الإسلاميين 1/88، الملل والنحل 1/162 .(1/180)
معظمين لعلي بدعواهم فيه الإلهية، أو النبوة، أو العصمة ونحو ذلك، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه، فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم، وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل. (1) "
وقال صلى الله عليه وسلم:
صـ163
" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله(2) "(3)"
ولقد حرص صلى الله عليه وسلم على القيام بتجريد التوحيد وتحقيقه، والنهي عن الشرك والتحذير منه، كما تنوع تحذير الرسول لأمته من الشرك، وسده صلى الله عليه وسلم كل طريق يفضي إلى الشرك، فنهى عن اتخاذ القبور مساجد، وحذر من الغلو فيه، ونهى عن الغلو في قبور الصالحين، وحذر من ألفاظ وأفعال تؤول إلى الشرك.
2- إذا تقرر الواجب نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إفراط ولا تفريط، فإننا ننتقل إلى الحديث عن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فنبدأ أولاً ببيان معنى السب وضابطه، وقد مضى في مبحث سابق(4) أن السب هو الشتم وكل كلام قبيح يوجب الإهانة والنقص والاستخفاف وأما حدة وضابطه فهو العرف، كما قرر ذلك ابن تيمية عندما قال:-
__________
(1) أخرجه أحمد 3/153، وأبو نعيم في الحلية 6/252 .
(2) أخرجه البخاري، ك أحاديث الأنبياء (6/478) ح (3445) .
(3) الصارم المنكي ص 385 .
(4) انظر الفصل السابق، المبحث الأول .(1/181)
" وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة، ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس، فما كان في العرف سباً فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء، وما لا فلا.(1) "
ويقول أيضاً:
" والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر، ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر، فإنه يرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها، فيجب أن يرجع في الأذى والسب والشتم إلى العرف، فما عده أهل العرف سباً، وانتقاصاً، أو عيباً، أو طعناً، ونحو ذلك فهو من السب "(2) "
وساق ابن تيمية أنواع السب وصوره فقال:-
صـ164
"التكلم في تمثيل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته، وذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين، لكن للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك، نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقاً من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك، فنقول السب نوعان:- دعاء وخبر، أما الدعاء، فمثل أن يقول القائل لغيره: لعنة الله، أو قبحه الله، أو أخزاه الله، أو لا رحمه الله، أو لا رضي الله عنه، أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم …
النوع الثاني: الخبر، فكل ما عده الناس شتماً أو سباً أو تنقصاً فإنه يجب به القتل، كالتسمية باسم الحمار أو الكلب، أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة، أو الإخبار بأنه في العذاب، وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك، وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتال، وأنه يضر من اتبعه، وأن ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك.(3) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 477 .
(2) الصارم المسلول ص 468، 469 .
(3) الصارم المسلول ص 475 – 477 = باختصار .(1/182)
إلى أن قال: - " والكلام على أعيان الكلمات لا ينحصر، وإن جماع ذلك أن ما يعرف الناس أنه سب فهو سب، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات، وكيفية الكلام ونحو ذلك، وما اشتبه فيه الأمر ألحق بنظيره وشبه، والله سبحانه أعلم.(1) "
3- أما حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم (2) فإنه من نواقض الإيمان، التي توجب الكفر ظاهراً وباطناً، سواء استحل ذلك أو لم يستحله.(3)
صـ165
يقول القاضي عياض: " دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإكرامه، ومن ثم حرم الله تعالى أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} الأحزاب، آية 57. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب، آية 53] (4)
ويقول ابن تيمية:
__________
(1) الصارم المسلول ص 479
(2) ألفت كتاب مفردة في مسألة سب الرسول منها:- الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية، وتنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام لابن عابدين (مطبوع ضمن رسائله الجزء الأول) والسيف المسلول على من سب الرسول للسبكي (مخطوط في مكتبة عارف حكمت)، والسيف المسلول على الزنديق وشاتم الرسول . لمحي الدين محمد بن قاسم المعروف بالأخوين (ت904هـ)، (مخطوط) .
انظر معجم ما ألف عن الرسول للمنجد ص 359.
(3) انظر في الرد على من علق كفر الساب بالاستحلال: الصارم المسلول ص 452 – 454.
(4) الشفا 2/926، 927 = باختصار .(1/183)
" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً أو باطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.(1) "
ويقول أيضاً: -
: السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهراً وباطناً، هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة، خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلوب، من أنه ينافيه في الظاهر، وقد يجامعه في الباطن.(2) "
4- إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يعد كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان لعدة اعتبارات منها:-
جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على كفر شاتم النبي صلى الله عليه وسلم منها:-
1-قوله تعالى:- {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {61} يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ {62} أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
صـ166
خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة، آية 61 – 63].
__________
(1) الصارم المسلول ص 451 .
(2) المرجع السابق ص 324 .(1/184)
يقول ابن تيمية:- " فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ورسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: أنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل: هي جزاؤه. وبين الكلامين فرق، بل المحادة هي المعاداة والمشاقة وذلك كفر ومحاربة فهو أغلط من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً عدواً لله ورسوله، محارباً لله ورسوله؛ لأن المحادة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كل منهما في حد.
وقد قال تعالى:- {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة، آية 20]. ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذل، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والمؤمن لا يكبت(1) كما كبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 5] فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن، فكيف بالمحاد نفسه؟ (2) "
2- قوله تعالى:- {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64}وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة، آيات 64 – 66].
يقول ابن تيمية:-
__________
(1) الكبت: الإذلال والخزي .
(2) الصارم المسلول ص 24، 25 = باختصار .(1/185)
" وهذا نص في أن الاستهزاء بالله، وبآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر.(1) "
صـ167
3- وقوله عز وجل:- {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57}وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب، آية 57 ,58].
يقول ابن تيمية:- " ودلالة هذه الآيات من وجوه:-
أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه، كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله، وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً، وقال تعالى:- {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران، آية 132]. في مواضع متعددة، قال تعالى:- {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة، آية 62. فوحد الضمير، وقال أيضاً:- {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح، آية 10، وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله، ومعصية الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال، آية 13 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 20. وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة، آية 63 وقال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء، آية 14.
__________
(1) الصارم المسلول ص 28 وانظر الفتاوى 15/48 .(1/186)
وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه.
وثانيها: - أنه فرّق بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين.
وثالثها: - أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً.
وأيضاً فقد قال تعالى:-
{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} ولم يجىء إعداد العذاب المهين في القرآن الكريم إلا في حق الكفار، كقوله تعالى: {فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
صـ168
مُّهِينٌ} [البقرة، آية 90 وقوله {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء، آية 37](1)"
4- قوله سبحانه وتعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات، آية 2 أي حذر أن تحبط أعمالكم.
يقول ابن تيمية:-
" ولا يحبط الأعمال غير الكفر (2)
__________
(1) المرجع السابق ص 35 – 46 = باختصار .
(2) الحبوط نوعان: عام وخاص، فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة، والسيئات كلها بالتوبة، والخاص: حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض .
…انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 66 .(1/187)
- كما دلت على ذلك النصوص – فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي، والجهر له بالقول يخاف من أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك، وأن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له، واستخفاف به، وإن لم يقصد الرافع، فإن الأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى.(1) "
وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على كفر الساب له صلى الله عليه وسلم منها:-
1- عن ابن عباس(2) رضي الله عنهما: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: - فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول (3).
صـ169
__________
(1) الصارم المسلول ص 46 – 48 = باختصار، وانظر الشفا للقاضي عياض 2/946، والمحلى لابن حزم 13/500 .
(2) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، حبر هذه الأمة ، وترجمان القرآن، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، كان من علماء الصحابة رضي الله عنهم، واشتهر بالتفسير، وتوفي سنة 68 هـ .
انظر: البداية والنهاية: 8/295، وأسير أعلام النبلاء 3/331 .
(3) المغول: سيف قصير دقيق، انظر معالم السنن للخطابي 4/528، والصارم المسلول ص 68 .(1/188)
فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح، ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: - أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا اشهدوا أن دمها هدر"(1)
يقول الخطابي:-
" فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم مهدر الدم، وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم إرتداد عن الدين، ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله.(2) "
2- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر (3) فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه(4).
يقول ابن تيمية:-
وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم، واتفقوا عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره، وأنه قتل.(5) "
صـ170
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود ، باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم (4361) والنسائي في كتاب تحريم الدم باب الحكم في من سب النبي صلى الله عليه وسلم 7/99 .
(2) معالم السنن 4/528 .
(3) المغفر: ما يلبس على الرأس من درع الحديد (عن تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح (8/15) ح (4286)، ومسلم، ك الحج ، باب جواز دخول مكة بغير إحرام (2/989)، ح (1357)
(5) الصارم المسلول ص 135 .(1/189)
ويقول أيضاً: - " وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين يقتل وإن أسلم حداً.
واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربياً فقتل لذلك، وصوابه أنه كان مرتداً بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلماً منقاداً قد ألقى السلم كالأسير، فعلم أن من ارتد وسب يقتل بلا استتابة، بخلاف من ارتد فقط.(1) "
3- وعن أبي سعيد الخدري (2) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها علي رضي الله عنه من اليمن وقال:- " يا رسول الله اتق الله " أنه قال: " إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد(3) "
يقول ابن تيمية:-
"فثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله، كما أمر به صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد موته، وأنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته، كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة، وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة، بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد.(4) "
4- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي " أذهب اضرب
صـ171
__________
(1) المرجع السابق ص 136 .
(2) هو سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، من فقهاء الصحابة، شهد الخندق وما بعدها، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توفي سنة 74 هـ .
…انظر: البداية 9/3، سير أعلام النبلاء 3/168.
(3) سبق تخريجه ص 73 .
(4) الصارم المسلول ص 187، 188 .(1/190)
عنقه " فأتاه علي فإذا هو في ركي(1) يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوب، ما له ذكر(2) "
قال ابن حزم:-
" هذا خبر صحيح، وفيه من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله، وإن كان لو فعل ذلك برجل من المسلمين لم يجب بذلك قتله (3) "
إلى أن قال:- " فصح بهذا أن كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فهو كافر مرتد يقتل، ولابد، وبالله تعالى التوفيق.(4) "
والأحاديث في هذه المسألة كثيرة ومعلومة في مظانها(5)
(ج) أجمع العلماء على كفر شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حكى الإجماع جمع كثير من أهل العلم، نذكرهم على النحو التالي:-
1- فهذا ابن تيمية يورد إجماع الصحابة بقوله:- " وأما إجماع الصحابة فلأن ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعاً …
فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي (6) في كتاب " الردة والفتوح " لما رفع إلى الماجر بن أبي أمية – وكان أميراً على اليمامة ونواحيها – أن امرأة مغنية تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع يدها ونزع ثنيتها، فكتب إليه الصديق
صـ172
__________
(1) الركي: البئر (عن تعليق عبد الباقي على صحيح مسلم 4/2139) .
(2) أخرجه مسلم، ك التوبة، باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة (4/2139) ح (2771)، وأحمد 3/281 .
(3) المحلى 13/502 .
(4) المحلى 13/504، وانظر الصارم المسلول ص 59، 60 .
(5) انظر الصارم المسلول حيث أورد ابن تيمية خمسة عشر حديثاً ص 61 – 200، وكذا ابن حزم أورد جملة من الأحاديث، انظر المحلى: 13/501 – 504 .
(6) سيف بن عمر التميمي، كوفي الأصل، مؤرخ، جرحه جمهور المحدثين، له مؤلفات، توفي سنة 200 هـ .
انظر: تهذيب التهذيب 4/295 .(1/191)
رضي الله عنه: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمزمت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا ما قد سبقني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر. وقد ذكر هذه القصة غير سيف.(1) "
2- وقال إسحاق بن راهويه: - " قد أجمع العلماء أم من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(2) "
وبهذا نعلم خطأ المرجئة ومخالفتهم للإجماع، عندما زعموا أن كفر ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالاستحلال.
3-" وقال محمد بن سحنون(3): - أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.(4) "
4-" ونقل أبو بكر الفارسي (5) أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق المسلمين فلو تاب لم يسقط عنه القتل؛ لأن حد قذفه القتل، وحد القذف لا يسقط بالتوبة(6) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 173 = باختصار
(2) التمهيد لابن عبد البر 4/226، وانظر الصارم المسلول ص5، 451 .
(3) محمد بن سحنون، من فقهاء المالكية، كان عالماً بالآثار والفقه، له مؤلفات كثيرة، وردود على المبتدعة، توفي عند القيروان سنة 256 هـ .
انظر: الديباج المذهب 2/169، سير أعلام النبلاء 13/60 .
(4) الشفا للقاضي عياض 2/933 .
(5) أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي، من فقهاء الشافعية، له مصنفات توفي في حدود سنة 350 هـ انظر: طبقات الشافعية 2/184، ومعجم المؤلفين 1/192 .
(6) فتح الباري 12/281، وانظر نيل الأوطار للشوكاني 9/71 .(1/192)
5- ويقول القاضي عياض:- "اعلم – وفقنا الله وإياك – أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو خصلة من خصالة، أو عرض به، أو شبهه بشئ على طريق السب له،
صـ173
أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر، ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من الصحابة وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا.(1) "
إلى أن قال:-
" ولا نعلم خلافاً في استباحة دمه – يعني ساب الرسول صلى الله عليه وسلم - بين علماء الأمصار وسلف الأمة، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.(2) "
6- وقال ابن حزم: " ومن أوجب شيئاً من النكال على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو وصفه، وقطع عليه بالفسق، أو بجرحه في شهادته فهو كافر مشرك مرتد كاليهود والنصارى حلال الدم والمال، بلا خلاف من أحد من المسلمين.(3) "
7- ويقول ابن تيمية:- " قد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم … ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شئ آخر حصل السب تبعاً له، أو لا يقصد شيئاً من ذلك، بل يهزل ويمزج، أو يفعل غير ذلك (4) "
8- ويقول السبكي:- " أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع منعقد على أنه كفر، والاستهزاء به كفر(5) "
صـ174
__________
(1) الشفا 2/932 .
(2) المرجع السابق 2/933 وانظر 2/1069 .
(3) المحلى 2/330 .
(4) الصارم المسلول ص 465 = باختصار، انظر ص 195 .
(5) فتاوى السبكي 2/573 .(1/193)
9- ويقول ابن عابدين(1) - بعد أن ذكر أقوال بعض العلماء في تكفير ساب الرسول صلى الله عليه وسلم -: " وهذه نقول معتضدة بدليلها وهو الإجماع، ولا عبرة بما أشار إليه ابن حزم الظاهري من الخلاف في تكفير المستخف به(2)، فإنه شيء لا يعرف لأحد من العلماء، ومن استقرأ سير الصحابة تحقق إجماعهم على ذلك، فإنه نقل عنهم في قضايا مختلفة منتشرة يستفيض نقلها ولم ينكره أحد، وما حكي عن بعض الفقهاء من أنه إذا لم يستحل لا يكفر زلة عظيمة، وخطأ عظيم لا يثبت عن أحد من العلماء المعتبرين، ولا يقوم عليه دليل صحيح، فأما الدليل على كفره فالكتاب والسنة والإجماع والقياس.(3) "
(د) إن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقض الإيمان وينافيه؛ لأن مما يتضمنه الإيمان: الإجلال والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن السب لا يجتمع مع هذا الإجلال والتعظيم لهذا النبي الكريم، ولو اعتقد هذا الساب أن محمداً رسول الله، أو لم يستحل هذا السب.
كما يتضمن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الانقياد والاستسلام له صلى الله عليه وسلم، وهذا يوجب الإكرام والإعزاز، وأما السب فهو استهانة واستخفاف، فلا يجتمع إيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم مع سبه وشتمه.
__________
(1) محمد أمين بن عمر الدمشقي الحنفي، ققيه أصولي، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 1242 هـ .
انظر: أعيان القرن الثالث عشر ص36، ومعجم المؤلفين 9/77 .
(2) انظر المحلى: 13/499، 500 .
(3) مجموعة رسائل ابن عابدين "تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام" 1/316 .(1/194)
يقول ابن تيمية في هذا الشأن: - إن الإيمان قول وعمل، فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح، بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو الفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد، ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح، إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها، فمتى
صـ175
لم توجب زكاء النفس، ولا صلاحها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب.(1) "
ويقول أيضاً:-
" إن اشتقاق الإيمان من الأمن الذي هو الإقرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد، وإذا كان كذلك فالسب إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع، واستسلم، أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام، فلا يكون فيه إيمان.(2) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 369، 370 .
(2) المرجع السابق ص 519 وانظر ص 343، ص 211 .(1/195)
(هـ) ومما يؤكد أن سب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم نواقض الإيمان، ما ذكره ابن تيمية عندما قال:- " إن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق: حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله، وعادى أفضل أوليائه، وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتها موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته، وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به، خصوصاً أمته، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، وسب جميعهم كما أنه أحب إليهم من أنفسهم، وأولادهم، وآبائهم والناس أجمعين، وتعلق به حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه، فإن الانسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، أو أكثر ما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه … فالوقيعة في عرضه قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفرة عنه، وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم، ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة.(1) "
5- وإذ ظهر لنا وجه كون سب النبي صلى الله عليه وسلم ناقضاً من نواقض الإيمان، فإننا نورد أقوالاً معدودة لبعض أهل العلم، فإن كلام العلماء – في مثل
صـ176
هذه المسألة بالذات – يصعب حصره، ولكن حسبنا أن نذكر أمثلة لتلك الأقوال:-
قال الإمام أحمد:-
" من شتم النبي صلى الله عليه وسلم، أو تنقصه مسلماً كان أو كافراً فعليه القتل (2) "
__________
(1) المرجع السابق ص 293، 294 .
(2) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة / جمع عبد الاله الأحمدي 2/95 .(1/196)
قال أبو يوسف (1):- " وأيما مسلم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كذبه، أو عابه، أو تنقصه فقد كفر بالله، وبانت منه امرأته. (2) "
وقد نقل القاضي عياض بعض أقوال المالكية فكان مما نقله:-
" قال ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن سحنون، والمبسوط، والعتبية وحكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب: من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل ولم يستتب.
وقال عبد الله بن الحكم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب.
وقال ابن عتاب:- الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى أو نقص، معرضاً أو مصرحاً، وإن قل، فقتله واجب.(3) "
وقال النووي:-
" من قال لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم إنسياً أو جنياً، أو قال إنه جن، أو صغر عضواً من أعضائه على الطريق الإهانة كفر (4) "
وقال القاضي أبو يعلى في المعتمد:-
" من سب الله أو رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه، أو لم يستحله.(5) "
صـ177
وقال المرداوي: - " من سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع. (6)"
ثم قال: - " حكم من تنقص النبي صلى الله عليه وسلم حكم من سبه صلوات الله وسلامه عليه، على الصحيح من المذهب.(7) "
ويقول الشنقيطي: - اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه، أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم، والاستخفاف به، أو الاستهزاء رده عن الإسلام، وكفر بالله. (8) "
صـ178
__________
(1) هو أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم الأنصاري الكوفي، صاحب أبي حنيفة، كان إماماً مجتهداً، صاحب حديث، وعبادة، له مؤلفات، توفي سنة 182 هـ .
انظر: تاريخ بغداد 14/242، سير أعلام النبلاء 8/535.
(2) الخراج لأبي يوسف ص 293، 294 .
(3) الشفا 2/935 – 942 باختصار .
(4) روضة الطالبين 10/67 .
(5) الصارم المسلول ص 452 .
(6) الإنصاف 10/326 = بتصرف يسير .
(7) المرجع السابق 10/333 .
(8) أضواء البيان 7/617 .(1/197)
المطلب الثاني: سائر الأنبياء عليهم السلام
1- نذكر – ابتداء – بأهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام، حيث تظهر أهمية الإيمان بالأنبياء بأنه الطريق إلى الإيمان بالله تعالى، فلا يتحقق الإيمان بالله عز وجل بدون الإيمان بالأنبياء عليهم السلام.
وما أروع كلام ابن تيمية عندما يتحدث عن أهمية الإيمان بالأنبياء فيقول:- " الرسالة ضرورية للعباد، لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم، ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى:- {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام، آية 122] فهذا وصف المؤمن كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات(1) "
ويقول رحمه الله:-
" وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له، ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولا كانت له شريعة في الأرض.(2) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 19/93 ,94 وانظر 19/96 , 97، 99 00
(2) الصارم المسلول ص 249 .(1/198)
ويؤكد ابن القيم على ضرورة وأهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام فيقول:- " لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى المعرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضي الله ألبته إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق،
صـ179
ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي " وما لجرح بميت إيلام ".(1) "
إن الإيمان بالرسل عليهم السلام يتضمن تصديقهم، وإجلالهم، وتعظيمهم كما شرع الله تعالى وأنهم أفضل الخلق عند الله تعالى، قد اختصهم الله تعالى بوحيه، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغ دينه، وهم أكمل الخلق علماً وعملاً.
2- وأما الأقوال التي تناقض الإيمان بالأنبياء عليهم السلام، فلها صور متعددة، وأمثلة كثيرة، منها سبهم والطعن فيهم، والاستهزاء بهم وتنقصهم، أو إنكار نبوة واحد منهم، أو القول بتفضيل الأئمة عليهم، أو إنكار معجزاتهم وآياتهم.
وإذا أخذنا سبهم – كمثال لتلك النواقض القولية – فإن حكم سب سائر الأنبياء عليهم السلام كالحكم في سب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قد بين ذلك جمع من أهل العلم، ومن ثم فلن نطيل الحديث عن هذه المسألة، حيث تقدم الحديث مفصلاً عن حكم سب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول القاضي عياض:-
__________
(1) زاد المعاد 1/69، وانظر مفتاح دار السعادة 2/2 .(1/199)
" من استخف بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بأحد من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم … فهو كافر بالإجماع.(1) "
ويقول أيضاً:- " وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى … واستخف بهم أو كذبهم فيما آتوا به، وأنكرهم وجحدهم حكم نبينا صلى الله عليه وسلم..
قال تعالى:- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ
صـ180
وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء، آية 150، 151 وقال تعالى:- {كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة، آية 285 (2) "
ولقد بين ابن تيمية حكم هذه المسألة بياناً شافياً حيث قال:-
" " والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا، فمن سب نبياً مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين المذكورين في القرآن أو موصوفاً بالنبوة – مثل أن يذكر في حديث أن نبياً فعل كذا وقال كذا، فيسب ذلك القائل أو الفاعل، مع العلم بأنه نبي، وإن لم يعلم من هو، أو يسب نوع الأنبياء على الإطلاق – فالحكم في هذا كما تقدم(3)؛ لأن الإيمان بهم واجب عموماً، وواجب الإيمان خصوصاً بمن قصه الله علينا في كتابه، وسبهم كفر وردة إن كان من مسلم، ومحاربة إن كان من ذمي.
__________
(1) الشفا 2/1069
(2) المرجع السابق 2/1097 = بتصرف
(3) ، (2) انظر تفصيل ذلك في حكم سب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(1/200)
وقد تقدم في الأدلة الماضية(1)(2) ما يدل على ذلك بعمومه لفظاً أو معنى، وما أعلم أحداً فرق بينهما، وما كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبينا، فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه، وأنه وجب التصديق له، والطاعة له جملة وتفصيلاً، ولا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره، كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره، وإن شاركه سائر إخوانه من النبيين والمرسلين في أن سابهم كافر حلال الدم.
فأما إن سب نبياً غير معتقد لنبوته فإنه يستتاب من ذلك، إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة؛ لأن هذا جحد لنبوته، إن كان ممن يجهل أنه نبي، فإنه سب محض، فلا يقبل قوله: إني لم أعلم أنه نبي.(3) "
ويحكي ابن تيمية الإجماع على كفر ساب نبي من الأنبياء فيقول:-
" من خصائص الأنبياء أن من سب نبياً من الأنبياء قتل باتفاق الأئمة، وكان مرتداً، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتداً، فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.(4) "
صـ181
ويقول أيضاً:- " والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم، فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، ومن سب نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء.(5) "
ويذكر ابن تيمية ما يوجبه الطعن في الأنبياء عليهم السلام من الطعن في توحيد الله تعالى وشرعه، وأن سب الأنبياء هو أصل جميع أنواع الكفر، فيقول:-
__________
(1) الصارم المسلول ص 565 .
(3) الصارم المسلول ص 565 .
(4) الصفدية 1/261 .
(5) الصفدية 2/311 .(1/201)
" الطعن في الأنبياء طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه عامة الأسباب التي بينه وبين خلقه، بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا بنبوة أو أثر نبوة، وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل، قال سبحانه وتعالى:- {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى آية، 13 فأخبر أن دينه الذي يدعو إليه المرسلون كبر على المشركين، فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك، وهذا حق لا ريب فيه. فعلم أن سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع جميع الضلالات، وكل كفر ففرع منه، كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان، وجميع مجموع أسباب الهدى.(1)"
وقد أورد ابن حزم أدلة القائلين بتكفير ساب نبي من الأنبياء عليهم السلام ثم رجح هذا القول.. فكان مما قاله في هذه المسألة:-
" فقوله تعالى في المستهزئين بالله وآياته، ورسوله، أنهم كفروا بذلك بعد إيمانهم (2)، فارتفع الإشكال، وصح يقيناً أن كل من استهزأ بشيء من آيات الله وبرسول من رسله فإنه كافر بذلك مرتد.
وقد علمنا بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزيء به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد. ووجدنا الله تعالى قد جعل
صـ182
__________
(1) الصارم المسلول ص 250، 251 = باختصار .
(2) يعني قوله تعالى " " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " " التوبة، آية 65 .(1/202)
إبليس باستخفافه بآدم عليه السلام كافراً، لأنه إذ قال:- {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} [ص، آية 76]، فحينئذ أمره تعالى بالخروج من الجنة ودحره، وسماه كافراً بقوله:- {وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص، آية 74].(1) "
إلى أن قال:- " فصح بما ذكرنا أن كل من سب نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به … فهو بذلك كافر مرتد، له حكم مرتد، وبهذا نقول.(2) "
3- وإذا تقرر ما سبق إيراده، فإننا نذكر جملة من كلام أهل العلم في ختام هذه المسألة:-
يقول القاضي عياض:-
" قال مالك في كتاب ابن حبيب ومحمد، وقال ابن القاسم، وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وسحنون فيمن شتم الأنبياء، أو أحداً منهم، أو تنقصه قتل ولم يستتب، ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم. وروى سحنون عن ابن القاسم: من سب الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفر، ضرب عنقه، إلا أن يسلم.(3) "
وقال ابن نجيم الحنفي:- " ويكفر بعيبه نبياً بشيء …(4) "
ويقول الدردير المالكي:-
" من سب نبياً مجمعاً على نبوته، أو عرض بسب نبي، بأن قال عند ذكره، أما أنا فلست بزان أو سارق فقد كفر.
وكذا إن الحق بنبي نقصاً، وإن ببدنه كعرج، وشلل، أو وفور علمه، إذ كل نبي أعلم أهل زمانه وسيدهم صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق.(5) "
صـ183
ويقول الشربيني الشافعي:-
__________
(1) المحلى 13/500، 501 = باختصار .
(2) المرجع السابق 13/501، 502 . انظر الفصل 3/299 .
(3) الشفا 2/1098 .
(4) البحر الرايق لابن نجيم 5/130 = بتصرف يسير .
(5) الشرح الصغير على أقرب المسالك 6/149 ,150 = بتصرف، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/274، وبلغة السالك للصاوي 3/448، ومنح الجليل لعليش 2/276، والفواكه الدواني 2/276 .(1/203)
" من كذب رسولاً أو نبياً، أو سبه أو استخف به أو باسمه.. فقد كفر (1) " ويقول مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي(2):- " من سب رسولاً … كفر. (3) "
صـ184
المبحث الثاني
إدعاء النبوة
1-النبوة منة من الله تعالى، وفضل منه عز وجل، وهي اصطفاء واختيار الله تعالى عبداً من عباده بتبليغ الوحي إليه، قال تعالى لموسى عليه السلام: - {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف، آية 44].
وقال سبحانه وتعالى:-
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج آية 75].
وقال تعالى حاكياً قول يعقوب لابنه يوسف عليه السلام:-
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [الحج، آية 65]
وقال عز وجل:-
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم، آية 58].
ولربنا سبحانه وتعالى أن يخلق ما يشاء ويختار، فهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، كما أنه تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وإذا كانت النبوة تعد اصطفاء واختيار من عند الله تعالى، فهي لا تنال باكتساب أو مجاهدة.
قال السفاريني (4)
__________
(1) مغنى المحتاج 4/134، انظر نهاية المحتاج للرملي 7/395، وقليوبي وعميرة 4/175 .
(2) أحد فقهاء الحنابلة، . وكان محدثاً مؤرخاً أديباً، انتقل إلى القاهرة فكان من أكابر علمائها، وله مصنفات كثيرة، توفي بالقاهرة سنة 1033 هـ .
…انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 108، ومعجم المؤلفين 12/218.
(3) غاية المنتهى 3/335 باختصار، انظر شرح منتهى الارادات للبهوتي 3/386 والمبدع شرح المقنع 9/171، وكشاف القناع للبهوتي 6/168 .
(4) محمد بن أحمد بن سالم السفاريني النابلسي الحنبلي، محدث وفقيه، رحل إلى دمشق، له تصانيف كثيرة، توفي بنابلس سنة 1188 هـ .
انظر: مختصر طبقات الحنابلة ص 140، ومعجم المؤلفين 8/262 .(1/204)
:-
بالكسب والتهذيب والفتوة
ولا تنال رتبة النبوة
لما يشاء من خلقه إلى الأجل(1)
……
لكنها فضل من المولى الأجل
…
2- وإذا كان الأمر كذلك، فإن ادعاء النبوة – كذباً وزوراً – من أشنع الكذب
صـ185
وأقبحه، كما يقول ابن أبي العز الحنفي(2) رحمه الله:-
" إن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما، وتعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ (3) "
ويتحدث ابن تيمية عن هذه المسألة قائلاً:-
" معلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: "والله لا أقول لك كلمة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أرد عليك " فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم، وما أحسن قول حسان (4):-
لو لم تكن فيه آيات مبينة ……كانت بديهته تأتيك بالخبر
__________
(1) لوامع الأنوار البهية 2/267 .
(2) هو علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي، من فقهاء الأحناف تولى القضاء، ونصر السنة، وأصابته محنة، له مؤلفات، توفي سنة 792 هـ .
…انظر: شذرات الذهب 6/326، ومعجم المؤلفين 7/156.
(3) شرح العقيدة الطحاوية 1/140 .
(4) ونسبه ابن تيمية في " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " لعبد الله بن رواحة 4/316، انظر تعليق محقق الطحاوية 1/141 .(1/205)
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور، واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز.(1) "
صـ186
ويقول أيضاً:-
" والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق، وكذب الكاذب، من وجوه كثيرة، لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه، ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض، ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل، ويفرقون بين الرسل وغير الرسل. (2) "
ويذكر ابن كثير الفرق الشاسع بين النبي الصادق والمتنبيء الكذاب، عند تفسيره لقوله تعالى{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس، آية 17].
فيقول:-
" يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى، ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً، ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً، أو كاذباً فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم، وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندس الظلام.(3) "
__________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية ص 89، وانظر الجواب الصحيح 1/29، 30 .
(2) المرجع السابق ص 91 .
(3) تفسير ابن كثير 2/392، وانظر 3/475 .(1/206)
3- وإدعاء النبوة قد يكون بأن يدعي شخص النبوة لنفسه كذباً وافتراء، إما استقلالاً، أو شركة مع نبي آخر، وقد يكون بتصديق من ادعاها، أو القول بتجويزها بعد ختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو زعم أنه يمكن اكتسابها، أو ادعى أنه يوحى إليه، أو ينكر ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. فكل هذه الصور – وما يلحق بها من أمثالها – من نواقض الإيمان القولية في النبوات، وذلك لعدة اعتبارات منها ما يلي:-
صـ187
(أ) أن ادعاء النبوة من أظلم الظلم، وأعظم الافتراء والكذب على الله تعالى، فلا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله كذباً، فزعم أن الله أرسله، وهو ليس كذلك، ولقد قرر القرآن أن هذا الافتراء من صفات الكافرين المكذبين، الذين لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثم فلا أحد أشد عقوبة منهم، فقد توعد الله تعالى من ادعى النبوة بالعذاب المهين. وكما قال ابن تيمية:- " ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار …(1) " وأيضاً قد نفى الفلاح عن هذا الصنف، وقد قال الشنقيطي: - " الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر.(2) "
وقد دل على ما سبق استقراء آيات القرآن الكريم، فنسوق بعضها مع كلام المفسرين في بيانها على النحو التالي:-
1- يقول الله تعالى:- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام، آية 21.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:-
" أي لا أظلم ممن تقول على الله، فادعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [أي لا يفلح هذا ولا هذا، ولا المفتري، ولا المكذب] (3) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 52 .
(2) أضواء البيان 4/442 .
(3) تفسير ابن كثير 2/120 وانظر تفسير المنار 7/343 , 344، وتفسير السعدي 2/385 .(1/207)
2- ويقول تبارك وتعالى:-
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام، آية 93].
يقول ابن عطية (1):-
صـ188
" هذه ألفاظ عامة، فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله بقوله: - {وَمَنْ أَظْلَمُ} [أي لا أحد أظلم … - إلى أن قال:- وقد خصص المتأولون في هذا الآية ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها، ثم هي إلى يوم القيامة، تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وسواهما (2) "
ويقول السعدي:-
" لا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً، ممن كذب على الله، فإنه نسب إلى الله قولاً أو حكماً، وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله وهو من أكبر المفاسد، ويدخل في ذلك إدعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه، يوجب على الخلق أن يتبعوه. ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
__________
(1) هو عبد الحق بن غالب المحاربي الغرناطي المالكي، كان فقهياً عالماً بالتفسير والحديث والنحو، تولى القضاء، ورحل إلى المشرق، توفي سنة 541 هـ .
…انظر: الديباج المذهب 2/57، وسير أعلام النبلاء 19/587.
(2) تفسير ابن عطية 6/108 , 109 = بتصرف يسير، وانظر تفسير ابن كثر 2/149، وتفسير البيضاوي 1/321، وانظر الفتاوى لابن تيمية 4/86 .(1/208)
ويدخل في هذه الآية كل من ادعى النبوة كمسليمة الكذاب، والأسود العنسي والمختار وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف. (1) "
3- وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام، آية 124.
يقول ابن كثير:- " هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله، والانقياد له فيما جاءوا به فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة.(2)
4- ويقول الحق تبارك وتعالى:-
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس، آية 17].
يقول ابن كثير:-
صـ189
" يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً، وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر إجراماً ولا أعظم ظلماً من هذا.(3) "
ومن الآيات القرآنية في هذا الشأن قوله تعالى:- {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل، آية 105].
وقوله سبحانه: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت، آية 68].
وقوله تعالى: - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [الزمر، آية 32].
__________
(1) تفسير السعدي 2/434 .
(2) تفسير ابن كثير 2/165 .
(3) المرجع السابق 2/392 .(1/209)
ولذا يقول ابن تيمية: " ومن ادعى النبوة وهو كاذب، فهو من أكفر الكفار، وأظلم الظالمين، وشر خلق الله تعالى، قال تعالى:- {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأنعام، آية 144.
وقال تعالى:-
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر، آية 60](1) "
(ب) أن ادعاء النبوة تكذيب لصريح القرآن الكريم، حيث نص القرآن نصاً قطعياً ظاهراً على أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده.
يقول تعالى:-
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب، آية 40].
يقول ابن كثير:- " هذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس.(2)
صـ190
وقال القرطبي (3):-
" قال ابن عطية: - هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام مقتضية نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.(4) "
وقال الشربيني:-
__________
(1) الجواب الصحيح 1/30، 4/272 = بتصرف .
(2) تفسير ابن كثير 3/474 .
(3) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر الخزرجي الأندلسي المالكي، المفسر، كان من عباد الله الصالحين، له مؤلفات كثيرة، توفي بمصر سنة 671 هـ .
……انظر: الديباج المذهب 2/308، وشذرات الذهب 5/335 .
(4) تفسير القرطبي 14/196 .(1/210)
" أي آخرهم الذي ختم؛ لأن رسالته عامة، ومعها إعجاز القرآن، فلا حاجة إلى استنباء ولا إرسال، فلا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد، ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده.(1) "
ويقول الآلوسي:-
" والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة.(2) "
(ج) أن ادعاء النبوة تكذيب وإنكار لما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبوة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنكر هذا المتواتر كافر، فختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم أمر معلوم من الدين بالضرورة (3).
وإذا كان إسحاق بن راهوية يقول:-
" من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقيه فهو كافر. (4) "، كما أن ابن الوزير يقول:- " إن التكذيب لحديث رسول
صـ191
الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديث كفر صحيح.(5) "، فما بالك بمن أنكر أحاديث متواترة وصحيحة تقطع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده؟ عدا أن عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية من الأمور الواجبة المعلومة من الدين بالضرورة عند المسلمين.
يقول عبد القاهر البغدادي (6):-
__________
(1) تفسير الشربيني 3/237 , 238 .
(2) روح المعاني 22/34 .
(3) سيأتي إن شاء الله في الفصل الرابع من هذا الباب: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة .
(4) الإحكام لابن حزم 1/89 .
(5) العواصم والقواصم 2/374 .
(6) هو عبد القاهر بن طاهر البغدادي، أحد أعلام الشافعية، أتقن علوماً متعددة، له مؤلفات كثيرة مات بإسفرايين سنة 429 هـ.
…انظر: طبقات الشافعية 5/136، وسير أعلام النبلاء 17/572.(1/211)
" كل من أقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقر بأنه خاتم الأنبياء والرسل، وأقر بتأييد شريعته، ومنع من نسخها.
وقد تواترت الأخبار عنه بقوله: - " لا نبي بعدي" ومن رد حجة القرآن والسنة فهو الكافر.(1) "
ويقول ابن حزم:-
" قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابة أنه أخبر أنه لا نبي بعده … فوجب الإقرار بهذه الجملة، وصح أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون ألبته.(2) "
ويقول ابن كثير:-
" قد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل.(3) "
صـ192
ونسوق طرفاً من هذه الأحاديث، فعن ثوبان (4) رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم:- "وإنه سيكون في أمتي كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي.(5) "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:-
" كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال: - " أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. (6) "
__________
(1) أصول الدين ص 162، 163 = بتصرف يسير .
(2) الفصل 1/146 .
(3) تفسير ابن كثير 3/475 .
(4) ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي جليل، لزم النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ عنه كثيراً من العلم، وطال عمره، واشتهر ذكره، مات بحمص سنة 54 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 3/15، والإصابة 1/413 .
(5) أخرجه أبو داود ح (4252)، والترمذي ح (2219) وأحمد 5/278 .
(6) أخرجه البخاري . ك التعبير (12/375) ح (6990) ومسلم، ك الصلاة (1/348) ح (479) .(1/212)
وعن أبي هريرة (1)رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:-
" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي (2) " "
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون، ويقولون لولا موضع اللبنة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء.(3) "
صـ193
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.(4)
(ب) أن ادعاء النبوة يتضمن أنواعاً كثيرة من المخالفات المناقضة لدين الله تعالى وآياته ورسوله.
فادعاء النبوة يناقض حقيقة كمال الدين وتمامه، وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة، آية 3]
__________
(1) عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد الحفاظ الأثبات، وأكثر الصحابة حديثاً، قدم يوم خيبر، ولازم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب صلاة وصيام، واستعمله عمر على البحرين، توفي سنة 57 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 2/578، والإصابة 7/425.
(2) أخرجه البخاري، ك أحاديث الأنبياء (6/495)، ح (3455) ومسلم، ك الإمارة (3/1471)، ح (1842) .
(3) أخرجه البخاري، ك المناقب (6/558) . ح (3534)، ومسلم، ك الفضائل (4/1791)، ح (2287) .
(4) انظر مثلاً كتاب عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية لأحمد سعد الغامدي ص 30-55، حيث ساق في هذا الموضوع أكثر من ستين حديثاً رواها سبعة وثلاثون صحابياً .(1/213)
يقول ابن كثير: - " هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه.(1) "
يقول ابن حزم:-
" اتفقوا أن دين الإسلام هو الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبداً، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبداً. (2) "
وادعاء النبوة يناقض كون القرآن حجة على كل من بلغه، حيث قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ} [الأنعام، آية 19.
فالقرآن نذير لكل من بلغه من العالمين، فمن ادعى النبوة فقد طعن في كون القرآن نذيراً لكل من بلغه من الثقلين، كما أن ادعاء النبوة طعن في حفظ القرآن الكريم عن الزيادة والنقصان، يقول تعالى:- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
إضافة إلى ذلك، فإن ادعاء النبوة طعن في عموم الرسالة المحمدية، وقد قال تعالى:- {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف، آية 158]
صـ194
فهو صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، كما جاءت بذلك الكثير من النصوص والأحاديث الصحيحة، وهو أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فالثقلان مطالبون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، فما بالك بمن افترى على الله كذباً، فزعم أنه نبي يوحي إليه؟
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/13 .
(2) مراتب الإجماع 167، 173 .(1/214)
هـ – أن ادعاء النبوة تكذيب للإجماع، فقد أجمع العلماء على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده، كما أجمعوا على تكفير من ادعى النبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونورد جملة من أقوال أهل العلم ممن حكى هذا الإجماع على النحو التالي:-
يقول عبد القاهر البغدادي:-
" أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن أول من أرسل من الناس آدم عليه السلام، وآخرهم عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم.(1) "
ويقول ابن حزم:-
" واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً.(2) "
ويقول في موضع آخر:-
" وأما من قال أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى ابن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد.(3) "
ويقول في موضع ثالث:-
" من ادعى نبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - حاشا عيسى ابن مريم – فهو كافر، ولا خلاف في ذلك من أحد من أهل الإسلام، وذلك لخلافه القرآن، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4) "
ويقول القاضي أبو يعلى:-
" ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ولا يبعث الله نبياً بعد نبينا،
صـ195
خلافاً لأهل التناسخ، والخرمية (5) في قولهم:
يجوز أن يبعث الله نبياً بعد نبينا، وإن الأنبياء لا ينقطعون عن الخلق أبداً، والدلالة عليه إجماع الأمة أن نبينا خاتم النبيين، وقد قال الله تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب، آية 40].
__________
(1) أصول الدين ص 159 .
(2) مراتب الاجماع ص 173 .
(3) الفصل 3/293 = بتصرف يسير .
(4) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 206، وانظر ص 414، 415 .
(5) الخرمية: أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بناحية أذربيجان، وكان يستحل المحرمات، ويظهر الإلحاد، وهم فرقة خارجة عن الاسلام كبقية فرق الباطنية .
انظر: التبصير في الدين ص 135، واعتقادات فرق المسلمين ص 79 .(1/215)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-
" مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية، فقال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين " (1) "
ويقول القاضي عياض:-
" وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بعده كالعيسوية من اليهود، القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم وبعده، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والرسالة … أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها.
وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه، وإن لم يدع النبوة.. فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة للناس.
وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً وسمعاً.(2) "
ويقول ابن نجيم:-
صـ196
" إذا لم يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فليس بمسلم؛ لأنه من الضروريات. (3) "
ويقول ملا علي قاري:- " ودعوى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع.(4) "
ويقول الألوسي:-
" وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه، ويقتل إن أصر (5) ".
__________
(1) المعتمد في أصول الدين ص 167 .
(2) الشفا 2/1070، 1071 .
(3) الأشباه والنظائر ص 192 .
(4) شرح الفقه الأكبر ص 244 .
(5) روح المعاني 22/41 .(1/216)
4- إذا تقرر وجه كون ادعاء النبوة ناقضاً من نواقض الإيمان القولية في موضوع النبوات، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في تقرير هذا الأمر " يقول أحمد الدردير المالكي:- " ويكفر إذا جوز اكتساب النبوة، أي تحصيلها بسبب رياضة؛ لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي. (1) "
ويقول محمد عليش المالكي(2):- " ويكفر بأن ادعى شركاً أي شخصاً مشاركاً مع نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمخالفته قوله تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب، آية 40] ويكفر إن جوز اكتساب النبوة بتصفية القلب، وتهذيب النفس، والجد في العبادة، لاستلزامه جوازها بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوهين ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. (3) "
وقال النووي: - إذا ادعى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو صدق مدعياً لها … فكل هذا كفر.(4) "
صـ197
وقال الشربيني:-
" من نفى الرسل، بأن قال لهم لم يرسلهم الله، أو نفى نبوة نبي، أو ادعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدق مدعيها، أو قال النبوة مكتسبة، أو تنال رتبتها بصفاء القلوب، أو أوحي إليه ولم يدع النبوة …فقد كفر.(5) "
ويقول ابن قدامة:-
__________
(1) الشرح الصغير 6/149 = بتصرف يسير .
(2) هو محمد بن أحمد بن عليش المالكي الأشعري الشاذلي، فقيه، متكلم، نحوي، فرضي، ولد بالقاهرة، وتعلم في الأزهر، وصار شيخ المالكية فيه، له مؤلفات، توفي بالقاهرة سنة 1299 هـ
انظر: معجم المؤلفين 9/12، والأعلام 6/19 .
(3) شرح منح الجليل 4/464 = بتصرف، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/269 .
(4) روضة الطالبين 10/64، 65 .
(5) مغني المحتاج 4/135 = بتصرف وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/395، وقليوبي وعميرة 4/175 .(1/217)
" من ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها فقد ارتد؛ لأن مسيلمة لما ادعى النبوة، فصدقه قومه، صاروا بذلك مرتدين، وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:- " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله "(1) "
ويقول ابن تيمية: - " ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه، أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين، فإنه كافر حلال الدم. (2) "
ويقول أيضاً:- " أما من اقترن بسبه – أي للصحابة – دعوى أن علياً إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرئيل عليه السلام في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.(3) "
ويقول منصور البهوتي: - " من ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها كفر؛ لأنه مكذب لله تعالى في قوله:- {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب، آية 40] ولحديث:" لا نبي بعدي "، وفي الخبر: - " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله.(4) "
صـ198
المبحث الثالث:
في الكتب المنزلة
__________
(1) المغنى 8/150 .
(2) الصارم المسلول ص 148 .
(3) المرجع السابق ص 518، وأشار ابن تيمية – في عدة مواضع من كتبه – إلى ادعاء ملاحدة الفلاسفة والصوفية إكتساب النبوة ..انظر مثلاً: الصفدية 1/229، 284، ودرء التعارض 1/318،5/22، والرد على المنطقيين ص 487، والأصفهانية ص 106.
(4) شرح منتهى الإرادات 3/386، وانظر المبدع شرح المقنع 9/171، والإقناع للحجاوي 4/297، وغاية المنتهى 3/335 .(1/218)
1- من المعلوم أن الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله على رسله عليهم السلام هو أحد أركان الإيمان قال الله تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة، آية 136].
وقال سبحانه: {قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [الآية، آل عمران، آية 84].
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء، آية 136].
وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} [الشورى،آية 15].
ووجوب الإيمان بهذه الكتب، يعتبر أمراً بدهياً بالنسبة للمؤمن، فما دام يؤمن بالله تعالى، وقد صدق بما نزل من عنده من الوحي، وما دام أن الله تعالى يخبره في كتابه الكريم أنه قد أنزل كتباً سابقة على الأنبياء والرسل، فالواجب أن يؤمن بهذه الكتب المنزلة، ويعتقد يقيناً أنها منزلة من عند الله تعالى.(1/219)
ومعنى الإيمان بالكتب التصديق بأن جميع هذه الكتب منزلة من عند الله تعالى على رسله عليهم السلام إلى عباده، وأنها كلام الله عز وجل، وأن الإيمان بكل ما فيها من الأحكام كان واجباً على الأمم التي نزلت إليهم تلك الكتب، وكذا الانقياد لها والحكم بما فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44].
والإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالاً فيما أجمل، وتفصيلاً فيما فصل ومما يجب الإيمان به مفصلاً: الإيمان بالقرآن الكريم بتصديقه واتباعه، وتحقيق النصيحة لهذا القرآن العظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة قلنا
صـ199
لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم (1)"
يقول النووي – في بيان معنى النصيحة لكتابه -: -
" وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى، فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، ولا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه والدعاء إليه، وإلى ما ذكرنا من نصيحته.(2) "
__________
(1) تقدم تخريجه ص 160 .
(2) صحيح مسلم (بالنووي) 2/38، وانظر: التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 97 , 98 .(1/220)
ويقول ابن رجب – في شرح معنى النصيحة لكتابه -: " وأما النصيحة لكتابه: فشدة حبه وتعظيم قدره، إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعد ما يفهمه وكذلك الناصح من العباد يفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عني بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب ربه يعنى بفهمه، ليقوم لله بما أمره به، كما يحب ربنا ويرضي،ثم ينشر ما فهم في العباد ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه.(1) "
2- إن الأقوال التي تناقض الإيمان بالكتب المنزلة لها صور متعددة، وأمثلة كثيرة يصعب حصرها، منها: - التكذيب والإنكار لهذه الكتب أو بغضها، أو سبها والطعن فيها، أو الاستهزاء بها وانتقاصها والاستخفاف بها، أو الادعاء باختلاقها وافترائها …
وسيكون حديثنا في هذا المبحث قاصراً على مثال من تلك النواقض، وهو الإنكار والاستهزاء بالكتب المنزلة، فأما معنى الإنكار فهو الجحود وعدم الاعتراف، وأما الاستهزاء فهو السخرية والاستخفاف – كما مر ذكره –
صـ200
ووجه كون إنكار الكتب المنزلة أو الاستهزاء بها كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان عدة أمور منها:-
(أ) إن هذا الإنكار أو الاستهزاء تكذيب للقرآن، حيث أمر الله تعالى بالاقرار بآياته وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين (2)وأخبر تعالى أنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة …
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص 78 .
(2) وكما قال ابن تيمية:- " ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر " الصارم المسلول ص 52 .(1/221)
قال تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء، آية 56].
وقال سبحانه:- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام، آية 157].
وقال تبارك وتعالى: - {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف، آية 36].
وقال سبحانه: - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40].
وقال تعالى:- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج، آية 57].
وقال تعالى: - {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت، آية 47].
وقال عز وجل: - {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {27} ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت، آية 27 , 28].
ومن الآيات التي جاءت في شأن المستهزئين، قوله تعالى:- {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9].
صـ201(1/222)
وقوله تبارك وتعالى:- {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ {34} ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية، آية 34، 35].
وقوله تعالى:- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} [الأحقاف، آية 26].
وقال تعالى:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
يقول ابن تيمية:- " نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، أنه قال كافر، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1) "
ويقول ابن تيمية عن قوله تعالى:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر …(2) "
(ب) إن الإيمان بالكتب المنزلة يتضمن الإقرار بها وتصديقها، ولا شك أن إنكارها يناقض هذا الإقرار والتصديق، فإنكار الكتب المنزلة يناقض قول القلب وهو التصديق، كما يناقض قول اللسان وهو الإقرار.
__________
(1) الصارم المسلول ص 513 .
(2) المرجع السابق ص 31، انظر المحلى لابن حزم 13/500 .(1/223)
والإيمان بالكتب المنزلة يتضمن أيضاً وجوب تعظيمها وإجلالها وإكرامها، وإن الاستهزاء بها لا يجتمع مع هذا التعظيم والإجلال، فهو مناقض لعمل القلب، كما أنه يناقض الإيمان الظاهر باللسان.
(ج) إن إنكار الكتب السماوية يتضمن إنكاراً لصفة الكلام الإلهي، ونفي هذه الصفة من الإلحاد في أسماء الله تعالى، وسوء الظن بالله تعالى، وعدم قدر الله تعالى حق قدره.(1)
صـ202
كما أن هذا الإنكار طعن في الرسل عليهم السلام وتنقص لهم، قد سبق بيان أن الطعن في الرسل عليهم السلام وسبهم من نواقض الإيمان.(2)
كما أن هذا الإنكار والاستهزاء هو إنكار واستهزاء بشرائع الدين وأحكامه الإلهية المتلقاة من هذا الوحي، والاستهزاء بالدين كفر (3)؛ لأن أصل الدين قائم على التعظيم (4).
(د) روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المراء في القرآن كفر (5) " ومما قاله الخطابي في بيان هذا الحديث:- " اختلف الناس في تأويله. فقال بعضهم: معنى المراء هنا: الشك فيه، كقوله تعالى {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [هود، آية 17] أي في شك، ويقال: بل المراء هو الجدال المشكك فيه.
__________
(1) انظر المبحث الثاني من الفصل الأول من هذا الباب .
(2) انظر المبحث الأول من هذا الفصل .
(3) انظر تفسير الرازي 16/124 .
(4) انظر تفسير السعدي 3/259 .
(5) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب النهي عن الجدال 5/8، والحاكم 2/223، وحسنه ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 7/6،وانظر صحيح الجامع الصغير 6/13، وصحيح الترغيب 1/61 .(1/224)
وتأوله بعضهم على المراء في قراءاته دون تأويله ومعانيه، مثل أن يقول قائل: هذا قرآن قد أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول الآخر: لم ينزله الله هكذا، فيكفر به من أنكره، وقد أنزل سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شاف كاف، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها، وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به.(1) "
فإذا كان الشك في القرآن يعد كفراً، فإن إنكاره أشد كفراً.(2)
صـ203
(هـ) حكى أهل العلم الإجماع على كفر من أنكر الكتب المنزلة أو بعضها – ولو كانت آية واحدة – وكذا أجمعوا على كفر المستهزئ بهذه الكتب المنزلة. فهذا ابن عبد البر يحكي الإجماع قائلاً:- " وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا، هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه …
-إلى أن قال – وإنما حل مصحف عثمان رضي الله عنه هذا المحل، لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه، ولم يجمعوا على ما سواه … ويبين لك أن من دفع شيئاً مما في مصحف عثمان كفر. (3) "
وينقل ابن عبد البر الإجماع الذي حكاه إسحاق بن راهوية، حيث قال إسحاق:- " قد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ".
__________
(1) معالم السنن (مع سنن أبي داود ) 5/9، وانظر جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/91 ومجموع الفتاوى لابن تيمية 14/302 .
(2) ورد عند ابن ماجه من حديث ابن عباس مرفوعاً: " من جحد آية من القرآن فقد حل ضرب عنقه .. " ولكنه حديث ضعيف الإسناد .
انظر: سنن ابن ماجه (ت الأعظمي) 2/83 رقم الحديث (2567) وسلسلة الأحاديث رقم (1416)، وضعيف الجامع الصغير رقم (1552) .
(3) التمهيد 4/278، 279 .(1/225)
فإذا كان دفع شيء أنزله الله كفراً بالإجماع ولو كان مقراً به، فما بالك بمن أنكر هذا الوحي؟.
ويقول القاضي عياض:- " اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفاً منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى:- {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت 42].
وكذلك إن جحد التوارة والإنجيل وكتب الله المنزلة، أو كفر بها، أو لعنها، أو سبها، أو استخف بها فهو كافر.
وقال أبو عثمان الحداد (1):-
صـ204
" جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر.(2) "
ويقول ابن حزم:-
" من قال إن القرآن نقص من بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حرف أو زيد فيه حرف، أو بدل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزل ليس هو القرآن، وإنما هو حكاية القرآن، وغير القرآن، أو قال إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله – تعالى – فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل الإسلام.(3) "
__________
(1) سعيد بن محمد بن صبيح الحداد المغربي، من فقهاء المالكية، وكان عالماً بالسنن ولغة العرب، له ردود على المبتدعة، وكان عابداً صالحاً، توفي سنة 302 ه .
انظر: - سير أعلام النبلاء 14/205، وشذرات الذهب 2/238 .
(2) الشفا 2/1101 – 1105 = باختصار .
(3) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 220 , 221، وانظر قريباً من هذا الكلام في المحلى 1/15 , 16 , 39 والفصل 5/40 .(1/226)
ويقول ابن قدامة: - " ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن من جحد آية، أو كلمة متفقاً عليها أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر.(1) "
3- وإذا تقرر أوجه كون الإنكار أو الاستهزاء بالوحي من نواقض الإيمان، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في هذه المسألة كما يلي:-
" قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:- من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله. (2)
" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:-
" من كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع.(3) "
" وقال عبد الله بن المبارك:-
" من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر.(4) "
ويقول ابن بطة:-
صـ205
" وكذلك وجوب الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل من عند الله، وبجميع ما قاله الله عز وجل فهو حق لازم، فلو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً، كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء.(5) "
ويقول أيضاً:-
" من كذب بآية أو بحرف من القرآن، أو رد شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر.(6)"
وقال القاضي عياض:- " وكذلك من أنكر القرآن، أو حرفاً منه، أو غير شيئاً منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو ليس فيه حجة ولا معجزة، كقول هشام الغوطي، ومعمر الضمري، أنه لا يدل على الله، ولا حجة فيه لرسوله … ولا محالة في كفرهما بذلك القول.
وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن – بعد علمه – أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلاً، ولا قريب عهد بالإسلام …(7) "
وقال ابن نجيم:-
__________
(1) حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة ص 33 .
(2) المرجع السابق ص 33 .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 2/232 .
(4) فتاوى ابن تيمية 4/182 .
(5) الإبانة الصغرى ص 211 .
(6) المرجع السابق ص 201 .
(7) الشفا 2 / 1076، 1077 = باختصار .(1/227)
" ويكفر إذا أنكر آية من القرآن، أو سخر بآية منه إلا المعوذتين، ففي إنكارهما اختلاف، والصحيح كفره …(1) "
وجاء في الفتاوى البزازية:-
" إدخال القرآن في المزاح، والدعابة كفر؛ لأنه استخفاف به.(2) "
وجمع محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي (3) أقوال الأحناف في هذه المسألة،
صـ206
فكان مما أورده:- " وفي الخلاصة: من قرأ القرآن على ضرب الدف والقضيب يكفر، وكذا من لم يؤمن بكتاب من كتب الله تعالى. أو جحد وعداً أو وعيداً مما ذكره الله تعالى في القرآن، أو كذب شيئاً منه.
وفي يتيمة الفتاوى:- من استخف بالقرآن، أو بالمسجد، أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر.
وفي جواهر الفقه:- من قيل له: ألا تقرأ القرآن، أو ألا تكثر قراءته؟ فقال: شبعت أو كرهت، أو أنكر آيه من كتاب الله، أو عاب شيئاً من القرآن، أو أنكر المعوذتين من القرآن غير مؤول كفر.
وفي الفتاوى الظهيرية:- من قرأ آية من القرآن على وجه الهزل يكفر.(4) "
وذكر النووي أن من جحد آية من القرآن على وجه الهزل يكفر. (5) "
وسئل ابن تيمية عن رجل لعن اليهود، ولعن دينه وسب التوراة فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم أم لا؟
__________
(1) البحر الرايق 5/131 .
(2) الفتاوى البزازية 3/338 .
(3) هو محمد بن إسماعيل بن محمود، بدر الرشيد، من فقهاء الأحناف، توفي سنة 768 هـ انظر: معجم المؤلفين 9/62 .
(4) تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات ص 22، 23 باختصار، انظر شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 250 – 254
(5) انظر: روضة الطالبين 10/64، وانظر أيضاً مغنى المحتاج للشربيني 4/135، ونهاية المحتاج للرملي 7/395 .(1/228)
فأجاب:- " الحمد لله، ليس لأحد أن يلعن التوراة، بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء. وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس في ذلك، فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله والله أعلم.(1) "
ويقول – في موضع آخر -: " من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت
صـ207
.. فلا خلاف في كفره.(2) "
كما أن ابن قدامة حكم بالكفر على من استهزأ بآيات الله (3)، كما قال تعالى:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65 , 66]
ويقول البهوتي:-
" من جحد كتاباً من كتب الله أو شيئاً منه، أو استهزأ بالله تعالى، أو بكتبه أو رسله فهو كافر، لقوله تعالى {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65 , 66]،
وكذا إن وجد منه امتهان للقرآن أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف أو مقدور على مثله أو إسقاط لحرمته، لقوله تعالى:- {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر، آية 21.
وقوله: - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء، آية 82]،
__________
(1) مجموع الفتاوى 35/200 .
(2) الصارم المسلول ص 586 = باختصار .
(3) انظر المغنى 10/113 .(1/229)
وقوله:- {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء، آية 88](1) "
صـ208
الفصل الثالث
نواقض الإيمان القولية في سائر المغيبات
المبحث الأول: الملائكة والجن
1- إن الإيمان بالغيب من أهم صفات عباد الله المؤمنين، حيث أثنى الله تعالى عليهم بقوله {الم {1}ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة، آية 1-5].
يقول الراغب الأصفهاني:-
" والغيب في قوله تعالى {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدائه العقول، وإنما يعرف بخبر الأنبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد.(2) "
ويقول ابن تيمية:-
" وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى {الم {1}ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة، آية 1- 3].
والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به لرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته، والجنة والنار، فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب …(3) "
__________
(1) كشاف القناع 6/168، 169 بتصرف، وانظر غاية المنتهى 3/339، والمبدع 9/171 .
(2) المفردات، ص 552 .
(3) مجموع الفتاوى (رسالة في عالم الظاهر والباطن) 13/233 .(1/230)
ويقول السعدي عند تفسيره لقوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}:- " حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن لخبر الله وخبر رسوله.
صـ209
فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده،أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المقصرة لهم تهتد إليها، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم، ومرجت أحلاهم (1) "
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة عليهم السلام، والإيمان بالجن، فأما الإيمان بالملائكة فهو الإقرار الجازم بوجودهم، وأنهم من خلق الله تعالى، وهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ {26} لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء، آية 26, 27]، وأنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم، آية 6].
والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، فلا يتحقق إيمان عبد حتى يؤمن بوجودهم …وعليه أن يؤمن بمن ورد ذكرهم في القرآن والسنة على وجه التفصيل، كما يجب الإيمان بصفاتهم الخلقية والخلقية، والأعمال التي يقومون بها. يقول محمد رشيد رضا في ثنايا حديثه عن أهمية الإيمان بالملائكة:-
__________
(1) تفسير السعدي 1/41 .(1/231)
" إن الإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، قال تعالى: - {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة، آية 177]، فالملائكة هم الذين يؤتون النبيين الكتاب، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر، آية 4]، وقال سبحانه:-{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء، آية 193] – 195، فليلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر.(1) "
ويقول السعدي – في نفس المسألة السابقة -:-
" الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان، ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة.(2) "
صـ210
كما يجب الإيمان بوجود الجن في العالم، وأنهم خلق من خلق الله تعالى وأنهم أحياء عقلاء، ومأمورون ومنهيون، وأن ذلك أمراً متواتر معلوم بالاضطرار.(3)
2- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالملائكة عليهم السلام والجن، فإن لهذا الإيمان ما يناقضه من الأقوال كإنكار وجود الملائكة، أو الجن، أو سب الملائكة والاستهزاء بهم، ووجه كون تلك الأقوال مناقضة لهذا الإيمان ما يلي:-
__________
(1) تفسير المنار 2/113 .
(2) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن ص 29 .
(3) أفاض القرآن الكريم، والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم في مواضع كثيرة، فقد ورد ذكرهم في القرآن في مواضع متعددة تقرب من أربعين موضعاً، عدا الآي التي تحدثت عن الشيطان، وهي كثيرة .
انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ص 179، وعالم الجن للأشقر ص 10، وعالم الجن للعبيدات ص 79 .(1/232)
(أ) أن إنكار وجود الملائكة أو الجن (1) هو تكذيب وجحود للأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة، فقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الملائكة والجن، ومن ثم فإن وجود الملائكة والجن أمر متواتر ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
فمثلاً في شأن الملائكة عليهم السلام يقول الله تعالى: - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة، آية 286.
ويقول سبحانه:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
صـ211
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء. آية 136].
يقول الألوسي في تفسيره لقول تعالى:
__________
(1) ومن أمثلة هذه الإنكار ما يظنه ملاحدة الفلاسفة أنها قوى النفس الصالحة ، والشياطين قوى النفس الخبيثة .
انظر فتاوى ابن تيمية 4/120، 121، 346، 240،280 . والسبعينية ص 220 وأصول اللالكائي 7/1217، والحجة للأصفهاني 2/390، وفتح الباري 6/343، والفصل لابن حزم 1/90، والفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي ص 279.
وانظر أمثلة لهذا الإنكار عند بعض العقلانيين المعاصرين في كتاب عالم الجن لعبد الكريم عبيدات ص 118-169 .(1/233)
{وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ..} الآية:- " أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وههنا قد دلت القرينة على الأول؛ لأن الإيمان بالكل واجب، والكل ينتفي بانتفاء البعض …(1) "
وأما الجن فقد أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم، وانفردت سورة كاملة في الحديث عن نفر من الجن استمعوا للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء هذا مفصلاً في سورة " الجن "، قال تعالى: - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن، آية 1].
يقول ابن بطة:-
" فمن أنكر الجن فهو كافر بالله، جاحد بآياته، مكذب بكتابه.(2) "
ويقول ابن حزم:-
" لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم، مما أبدى على أيديهم من المعجزات … بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم، وقد جاء النص بذلك، وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة يموتون … فمن أنكر الجن، أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال.(3) "
ويقول القرطبي – في هذا الشأن -:-
" وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم.(4) "
صـ212
ويقول ابن تيمية:- " وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة.(5) "
ويقول في موضع آخر:-
__________
(1) روح المعاني للآلوسي 5/170 .
(2) الإبانة الصغرى ص 213 = باختصار
(3) الفصل 5/112 .
(4) تفسير القرطبي 19/6 .
(5) مجموع الفتاوى 24/276، وانظر 24/277، 280، 282 .(1/234)
" إن وجود الجن قد تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء، فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات، وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة. فلما كان أمر الجن متواتراً عن الأنبياء تواتراً ظاهراً تعرفه العامة والخاصة لم يكن لطائفة كبيرة من طوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم.(1) "
ويقول الآلوسي:-
"ونفي الجن كفر صريح كما لا يخفى.(2) "
كما أن إنكار الملائكة والجن مناقض للإيمان بالكتب المنزلة، فالإيمان بالكتب يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإنكار الملائكة والجن هو تكذيب وجحود لآيات الله تعالى، فهو يناقض هذا الإقرار والتصديق، ومن ثم فقد توعد الله تعالى أولئك المنكرين لآياته، المكذبين بها بالعذاب المهين والخلود في نار جهنم.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ {40}} [الأعراف، آية 40].
وقال تعالى:- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}} [الحج، آية 57].
بل إن صفة الجحود لتلك الآيات لا تقوم إلا في الكفار، كما قال تبارك وتعالى:- {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت، آية 47]
صـ213
(ب) أجمع العلماء على كفر من أنكر الملائكة أو الجن، أو استهزأ واستخف بالملائكة، أو سبهم، فيقول القاضي عياض
__________
(1) مجموع الفتاوى (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة) 19/10، انظر الرد على المنطقيين ص 489، 490 .
(2) روح المعاني 29/82 .(1/235)
" وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى، وملائكته، واستخف بهم، أو كذبهم فيما أتوا به، أو أنكرهم وجحدهم، حكم نبينا صلى الله عليه وسلم …(1)
قال الله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء، 150، 151]. (2) "
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على كفر من أنكر آية من كتاب الله تعالى (3)، فما بالك بمن أنكر آيات كثيرة جداً تثبت وجود الملائكة والجن!
فوجود الملائكة عليهم السلام كما هو ثابت بالكتاب والسنة، فهو ثابت بالإجماع، وكذلك الجن.
يقول ابن حزم: - " واتفقوا أن الملائكة حق، وأن جبريل وميكائيل ملكان رسولان لله عز وجل مقربان عظيمان عند الله تعالى، وأن الملائكة كلهم مؤمنون فضلاً، وأن الجن حق.(4) "
ويذكر ابن حزم أن المسلمين والنصارى والمجوس والصابئين وأكثر اليهود كلهم مجمعون على وجود الجن (5) "
ويقول ابن تيمية:-
" والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم، ولهذا قالت الأمة المكذبة:- {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون، آية 24]
صـ214
__________
(1) ومن المعلوم أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء به أو إنكاره من نواقض الإيمان بالإجماع .
انظر المبحث الأول من الفصل الثاني في هذا الباب .
(2) الشفا 2/1097 .
(3) انظر الشفا 2/1101، والتمهيد 4/226، وحكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة لابن قدامة ص 33، والإبانة الصغرى ص 211 .
(4) مراتب الإجماع ص 174 .
(5) انظر الفصل 5/112 .(1/236)
حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، قال قوم نوح:- {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون، آية 24 وقال {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ {13} إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت، آية 13]، 14، وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكاراً عاماً، وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم، مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم.(1) "
ويقول – في موضع آخر -:-
" من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها، ليست أعراضاً قائمة بغيرها.(2) "
إلى أن قال:- " فمن أنكر وجود الجن والشياطين وتأثيرهم … كان مبطلاً باتفاق أهل الملل، واتفاق جمهور الفلاسفة، وكان كذبه معلوماً بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة، أو الأخبار الصادقة.(3)
__________
(1) النبوات ص 21، 22 = باختصار
(2) الصفدية 1/192، 193 – بتصرف يسير، وانظر الصفدية 1/168، وانظر المعتمد في أصول الدين لأبي يعلي ص 171، 172، وآكام المرجان في أحكام الجان للشبلي ص 3 .
(3) الصفدية 1/192، 193 – بتصرف يسير، وانظر الصفدية 1/168، وانظر المعتمد في أصول الدين لأبي يعلي ص 171، 172، وآكام المرجان في أحكام الجان للشبلي ص 3 .(1/237)
(ج) إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يوجب إجلالهم وإكرامهم، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولذا فإن سبهم والاستهزاء بهم لا يجتمع مع إجلالهم وإكرامهم، وإن كان مقراً بوجودهم، لما في هذا من عدم تقدير الله تعالى حق قدره، والاستهزاء بآيات الله تعالى، ويقول سبحانه: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65 , 66].
يقول ابن حزم:- " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من
صـ215
فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر. (1) "
ويقول أيضاً: - قد علمنا أن الملائكة كلهم رسل الله تعالى، قال تعالى: - {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فاطر، آية 1]، وكذلك بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد … فصح بما ذكرنا أن كل من سب الله تعالى، أو استهزأ به، أو سب ملكاً من الملائكة، أو استهزأ به، أو سب نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به، أو سب آية من آيات الله تعالى، أو استهزأ بها، والشرائع كلها، والقرآن من آيات الله تعالى فهو بذلك كافر مرتد، له حكم المرتد، وبهذا نقول، وبالله تعالى التوفيق.(2) "
(د) إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يقتضي محبتهم ومودتهم، وأما سبهم وشتمهم فهو بسبب بغضهم وعداوتهم، وهو ما يناقض الإيمان بهم، كما قال تعالى: - {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة، آية 98].
__________
(1) الفصل 3/299 .
(2) المحلى 13/500 – 502 = باختصار .(1/238)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:- يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة، كما يقول تعالى: - {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج، آية 75].
وقوله تعالى: - {فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل فإنه عدو، بل قال: فإن الله عدو للكافرين … وإنما أظهر الله هذا الاسم لتقرير هذا المعنى، وإظهاره وإعلامهم أن من عادى ولياً لله، فقد عادى الله، ومن عادى الله، فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة …(1) "
ومما قاله البيضاوي في تفسيره لهذه الآية:-
" وأفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، والتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وأن
صـ216
من عادى أحدهم، فكأنه عادى الجميع، إذ الموجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر.(2) "
ومما كتبه النسفي (3) في تفسيره لهذه الآية قوله:-
" قوله تعالى {فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} أي لهم جواب الشرط، والمعنى من عاداهم عاداه الله، وعاقبه أشد العقاب، وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات، ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر، وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار به، وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور.(4) "
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/126، 27 = باختصار .
(2) تفسير البيضاوي 1/72 .
(3) أبو البركات عبد الله بن أحمد النسفي الحنفي، فقيه أصولي، مفسر، متكلم، له عدة مصنفات، توفي سنة 710 هـ .
انظر: الدرر الكامنة 2/352، ومعجم المؤلفين 6/32 .
(4) تفسير النسفي 1/221، وانظر تفسير القاسمي 1/204 .(1/239)
3- وإذا تقرر أن إنكار وجود الملائكة عليهم السلام أو الجن أو سب الملائكة والاستهزاء بهم من نواقض الإيمان فإننا نسوق أقوالاً مختارة لأهل العلم في هذا الشأن.
يقول ابن نجيم:-
"ويكفر بقوله لغيره رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت عند البعض خلافاً للأكثر، وقيل به إن قاله لعداوته لا لكراهة الموت، وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، وبعيبه ملكاً من الملائكة أو الاستخفاف به.(1) "
يقول القاضي عياض:- وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته: من سب الله وملائكته قتل.
وقال سحنون:- من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل.
صـ217
وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر:- كأنه وجه مالك الغضبان، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل "
ثم قال القاضي عياض:-
" وهذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين، ممن نص الله عليه في كتابه، أو حققنا علمه بالخبر المتواتر، والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع كجبريل وميكائيل، ومالك، وخزنة جهنم والزبانية، وحملة العرش المذكورين في القرآن من الملائكة، ومن سمي فيه من الأنبياء، وكإسرافيل، والحفظة … فأما من لم تثبت الأخبار بتعيينه، ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة كهاروت وماروت.. فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيما قدمناه [ممن اتفق على أنه ملك] …(2) "
وقال الدردير المالكي:- " ويكفر إن سب نبياً مجمعاً على نبوته، أو ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو ألحق به نقصاً وإن ببدنه كعرج، وشلل …(3) "
ويقول ابن غنيم المالكي (4)
__________
(1) البحر الرايق 5/131 .
(2) الشفا 2/1097 – 1100 = بتصرف
(3) الشرح الصغير 6/149 ,150 = بتصرف يسير، وانظر بلغة السالك للصاوي 3/448 .
(4) هو أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي المالكي، فقيه، مشارك في بعض العلوم، وله مؤلفات، توفي سنة 1125 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 2/40 .(1/240)
:- " ومن سب ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو لعنه، أو عابه، أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غير صفته، أو ألحق به نقصاً في دينه، أو بدنه، أو خصلته، أو غض من مرتبته، أو وفور علمه، أو زهده، أو أضاف له مالا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق به على طريق الذم …قتل (1) حداً ويستعجل بقتله.(2) "
ويقول النووي:-
صـ218
"ولو قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم كفر "(3).
ويقول ابن حجر الهيتمي معلقاً على هذه العبارة:-
" وهل لو قال الملائكة فقط أو الأنبياء فقط يكفر أيضاً؟ الذي يظهر نعم؛ لأن ملحظ الكفر كما لا يخفى نسبة الأنبياء أو الملائكة إلى الكذب، فإن قلت: جرى خلاف في العصمة؟ قلت: أجمعوا على العصمة عن الكذب ونحوه.(4) "
ويقول ابن قدامة:-
" وإن ارتد بجحود فرض، لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إن جحد ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله، أو استباح محرماً فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده.(5) "
ويقول مرعي بن يوسف الكرمي:-
" من أشرك بالله تعالى، أو سبه، أو رسوله، أو ملكاً له … كفر (6)"
ويذكر البهوتي أن من " جحد الملائكة، أو أحداً ممن ثبت أنه ملك، كفر لتكذيبه القرآن.(7)"
هذا طرف من أقول العلماء فيما يتعلق بالملائكة عليهم السلام، وأما الجن فإن وجودهم ثابت بالإجماع والتواتر، فهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم فإن إنكارهم هو إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في الفصل القادم.
صـ219
المبحث الثاني:- اليوم الآخر
المطلب الأول:- إنكار البعث
__________
(1) قتل: هو جواب من الشرطية في أول النص .
(2) الفواكه الدواني 2/227 = بتصرف يسير .
(3) روضة الطالبين 10/66، وانظر قليوبي وعميرة 4/175 .
(4) الإعلام ص 358 .
(5) المغني 10/100، 101 = باختصار .
(6) غاية المنتهى 3/335 .
(7) كشاف القناع 6/8 .(1/241)
1- الإيمان باليوم الآخر – كما هو معلوم – أحد أركان الإيمان الستة، وقد حفل القرآن الكريم بذكر هذا اليوم العظيم، واهتم بتقريره في مواضع عديدة، وأكد وقوعه بأساليب كثيرة، وربط الإيمان به بالإيمان بالله عز وجل، كما جاء في قوله تعالى:- {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة، آية 232]، وأكثر القرآن من ذكر اليوم الآخر، وسماه بأسماء متعددة تدل على تحقق وقوع هذا اليوم كالحاقة، والواقعة، والقيامة …
ومعنى الإيمان باليوم الآخر هو التصديق الجازم بإتيانه والعمل بموجب ذلك، ويدخل في ذلك الإيمان بأشراط الساعة وأماراتها، وبالموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وبالنفخ في الصور، وخروج الخلائق من القبور، وتفاصيل المحشر، ونشر الصحف، ونصب الموازين، وبالصراط، والحوض، والشفاعة، والجنة والنار.
يقول الإمام الطحاوي(1) في عقيدته المشهورة:- " ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، ونؤمن بعذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وبسؤال منكر ونكير للميت في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، والصراط والميزان، والجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان أبداً ولا يبيدان.(2) "
وقد ذكر السعدي جملة من ثمرات الإيمان باليوم الآخر. فكان مما قاله:-
صـ220
__________
(1) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي، المحدث الفقيه، رحل إلى الشام، وتولى القضاء، له مصنفات، توفي بمصر سنة 321 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 15/27، وشذرات الذهب 2/288 .
(2) عقيدة الطحاوي (ضمن رسائل المجموعة العملية من درر علماء السلف )، ص 25، 26 وانظر العقيدة الواسطية (بشرح محمد خليل هراس) ص 132 – 143 .(1/242)
" إن معرفة ذلك (اليوم) حقيقة المعرفة، يفتح للإنسان باب الخوف والرجاء، اللذين إن خلا القلب منهما، خرب كل الخراب، وإن عمر بهما، أوجب له الخوف والانكفاف عن المعاصي، والرجاء تيسير الطاعة وتسهيلها، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة تفاصيل الأمور التي يخاف منها وتحذر، كأحوال القبر وشدته، وأحوال المواقف الهائلة، وصفات النار المفظعة، وبمعرفة تفاصيل الجنة وما فيها من النعيم المقيم، والحبرة والسرور، ونعيم القلب والروح والبدن، فيحدث بسبب ذلك الاشتياق الداعي للاجتهاد في السعي للمحبوب المطلوب، بكل ما يقدر عليه.
ومنها: أن يعرف بذلك، فضل الله وعدله في المجازاة على الأعمال الصالحة والسيئة، والموجب لكمال حمده، والثناء عليه بما هو أهله.
وعلى قدر علم العبد بتفاصيل الثواب والعقاب، يعرف بذلك فضل الله وعدله وحكمته.(1)"
ويقول أيضاً:- إن الإيمان بالبعث والجزاء أصل صلاح القلب، وأصل الرغبة في الخير، والرهبة من الشر اللذين هما أساس الخيرات.(2) "
ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالبعث والنشور، وهو إحياء الله تعالى الخلق بعد موتهم، وقد دل على البعث الكتاب والسنة، والعقل والفطرة، فنؤمن يقيناً بأن الله تعالى يبعث من في القبور، وتعاد الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين. قال تعالى:- {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ {15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون، آية 15، 16].
وقد أجمع المسلمون على ثبوته، وهو مقتضى الحكمة حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معاداً يجزيهم فيه على ما كلفهم به على ألسنة رسله.
قال عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون آية 115].
__________
(1) تفسير السعدي 1/29 .
(2) المرجع السابق 1/360 .(1/243)
ويقول تبارك وتعالى:- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
صـ221
لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج، آية 5].
يقول ابن القيم عن هذه الآية:- " يقول سبحانه:- إن كنتم في ريب من البعث، فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع، فإعادتكم بعد الموت خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟
وقد أعاد سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات، وأدلها، وأفصحها، وأقطعها للعذر، وألزمها للحجة، كقوله تعالى:- {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ {58}أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59}نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ {61}وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة، آية 58-62]، فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية، وأنهم لو تذكروا لعلموا أن لا فرق بينهما في تعلق القدرة بكل واحد منها.(1)"
__________
(1) أعلام الموقعين 1/140، 141 .(1/244)
ويقول السفاريني:- " أعلم أن المعاد الجسماني حق واقع وصدق صادق، دل عليه النقل الصحيح فوجب الإيمان به والتصديق بموجبه؛ لأنه جاء في السماع الصحيح المنقول ودل عليه عند الجمهور صريح المعقول، وهو أن يبعث الله تعالى الموتى من القبور… قال تعالى:- {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس، آية 79]، إلى غير ذلك من النصوص القرآنية القطعية، والأحاديث الساطعة النبوية، وقد أنكره الطبائعيون والدهرية والملحدة، وفيه تكذيب للنقل الصريح والعقل الصحيح على ما قرره المحققون من أهل الملة، وأنكرت الفلاسفة المعاد الجسماني بناء على امتناع إعادة المعدوم بعينه – إلى أن قال –فالمراد بالبعث المعاد الجسماني، فإنه المتبادر عند الإطلاق إذا هو الذي يجب اعتقاده، ويكفر منكره …(1)
صـ222
2-ولا شك أن إنكار البعث مناقض للإيمان، مهما تنوعت صوره وأمثلته، فقد يكون إنكار لبعث الأرواح والأجساد، وقد يكون إنكار لمعاد الأجساد مع الاعتراف بمعاد الأرواح، وتارة يكون إنكار البعث بالقول بتناسخ الأرواح، ونقلها إلى أجسام أخرى، وتارة أخرى يكون هذا الإنكار بإنكار معاد النفوس الجاهلة دون العالمة. ومن صور هذا الإنكار ما زعمه بعضهم أن البعث عبارة عن خلق أبدان جديدة مغايرة تماماً للأبدان الفانية (2).
وسنورد الآن بعضاً من أوجه كون إنكار البعث ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي: -
__________
(1) لوامع الأنوار 2/157 = باختصار، وانظر الفتاوى السعدية ص 39، 40 .
(2) انظر توضيحاً لهذه الأمثلة:- الشفا للقاضي عياض 2/1067، الدرة لابن حزم ص 206 الرد على المنطقيين لابن تيمية ص 458، والفتاوى لابن تيمية 9/35،36، 4/283 , 314 الفوائد لابن القيم ص 5، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/35 .(1/245)
(أ) أخبر الله عز وجل أن إنكار البعث كفر برب العالمين، فقال تعالى:- {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد، آية 2-5].
وقال المؤمن للكافر الذي قال: - {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف، آية 36]. فقال له: - {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف، آية 37](1)
وقال تعالى:- {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا {97} ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء، آية 97 , 98].
وقال سبحانه:- {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة، آية 10].
وقال تعالى:- {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {38} لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ
صـ223
الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ {39}إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل، آية 38-40].
فإنكار البعث يناقض الإيمان، وينافي تصديق القلب وإقرار اللسان.
__________
(1) انظر إعلام الموقعين لابن القيم 1/147.(1/246)
(ب) تضمن إنكار البعث تعطيلاً لأسماء الله وصفاته ومقتضاها، وإنكاراً لعلم الله تعالى وقدرته وحكمته.
قال الله تعالى:- {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون، آية 115، 116].
يقول ابن القيم عن هذه الآيات:- " " فجعل كمال ملكه، وكونه سبحانه الحق، وكونه لا إله إلا هو، وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل ما دونه، مبطلاً لذلك الظن الباطل، والحكم الكاذب.
- إلى أن قال – فإن ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وكذلك يستلزم إرسال رسله، وإنزال كتبه، وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه، ولم يثبت له الملك الحق، ولذلك كان منكراً لذلك كافراً بربه، وإن زعم أنه يقر بصانع العالم، فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال، والمستحق لنعوت الكمال.(1)
ويقول في موضع آخر:- " وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه، وكمال قدرته، وكمال حكمته، فإن شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع:-
أحدهما:- إختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص.
الثاني:- أن القدرة لا تتعلق بذلك.
الثالث:- أن ذلك أمر لا فائدة فيه، أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئاً بعد شيء، هكذا أبداً كلما مات جيل، خلفه جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله، ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك، فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول:-
أحدهما:- تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال:- {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
صـ224
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 101 .(1/247)
عَلِيمٌ} [يس، آية 78, 79]، وقال:- {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق، آية4].
الثاني:- تقرير كمال قدرته، لقوله:- {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس، آية وقوله: - {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة، آية4]، وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج، آية 6]
الثالث:- كمال حكمته، كقوله:- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان، آية 38]، وقوله: - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص، آية 27] وقوله:- {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون، آية 115].
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزه عما يقوله منكروه، كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنقائص.(1) "
إضافة إلى ذلك فإنكار البعث سوء ظن بالله عز وجل، كما قال ابن القيم:-
" ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء.(2)
وسوء الظن بالله تعالى ذنب عظيم، وعقابه شديد، حتى قال ابن القيم أيضاً:- " ولم يجيء في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء.
__________
(1) الفوائد ص 6، 7 .
(2) زاد المعاد 3/230 .(1/248)
قال تعالى:- {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح، آية 6.. الخ (1) "
صـ225
(ج) أن إنكار البعث تكذيب ظاهر لآيات القرآن الصريحة في إثبات البعث، كما أن هذا الإنكار رد للأخبار الصحيحة في وقوع البعث، وتكذيب لما اتفقت عليه دعوة الرسل عليهم السلام. ونزلت به الكتب السماوية، وقد قال تعالى:-
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء، آية 56].
وقال عز وجل: - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40.
وقال سبحانه: - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج، آية 57]
يقول ابن أبي العز الحنفي:- " الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن.(2) "
وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً أن الله تعالى يقول: - " يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله لن يعيدني كما بدأني.(3) "
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1356 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية 2/589 .
(3) تقدم تخريجه ص 101 .(1/249)
وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده في ثلاثة مواضع:-
الأول: في سورة يونس في قوله تعالى:- {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [آية 53].
الثاني: في سورة سبأ في قوله تعالى:- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [آية 3]
الثالث: في سورة التغابن في قوله تعالى:- {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [آية 7].(1).
صـ226
وقد أقسم الله تعالى في مواضع كثيرة على وقوع البعث، كقوله تعالى: - {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [النساء، آية 86].
وذم سبحانه المكذبين بالمعاد، فقال سبحانه:- {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [يونس، آية 45].
وتوعدهم بالعذاب والضلال البعيد، فقال تبارك وتعالى:- {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ، آية 8].
وقد تنوعت الأدلة، وتعددت البراهين في إثبات المعاد، وصحة وقوعه كما جاء مفصلاً في موضعه.(2)
(د) انعقد الإجماع على إثبات البعث، كما أجمع علماء هذه الأمة على تكفير منكري البعث، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم نذكرهم فيما يلي:-
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/375 , 3/504
(2) انظر مثلاً شرح العقيدة الطحاوية 2/589 – 600، والقواعد الحسان للسعدي ص 24، 25، والقيامة الكبرى للأشقر ص 73 – 91، ومنهج القرآن في الدعوى للإيمان لعلي فقيهي ص 285 – 340 .(1/250)
يقول ابن حزم:- " وأما من زعم أن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر فهو قول أصحاب التناسخ، وهو كفر عند جميع أهل الإسلام.(1) "
ويقول أيضاً:- " واتفقوا أن البعث حق، وأن الناس كلهم يبعثون في وقت تنقطع فيه سكناهم في الدنيا …(2)
ويقول في كتاب ثالث:- " وأن البعث حق والحساب حق … يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام.(3)
ثم يقول أيضاً: - " فمن قال إن الأرواح أعراض فانية، أو قال إنها تنتقل إلى أجسام أخر، فهو منسلخ من إجماع أهل الإسلام، لخلافة القرآن، والسنن الثابتة
صـ227
عن النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع، وهو قول أهل التناسخ، وهو كفر بلا خلاف، وكذلك من أنكر إحياء العظام والأجساد يوم القيامة، وأنكر البعث فخارج عن دين الإسلام بلا خلاف من أحد من الأئمة.(4) "
ويقول في " الفصل ": - " اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة، وعلى تكفير من أنكر ذلك.(5) "
ويقول ابن عبد البر:- " وقد أجمع المسلمون على أن من أنكر البعث، فلا إيمان له ولا شهادة، وفي ذلك ما ينبغي ويكفي، مع ما في القرآن من تأكيد الإقرار بالبعث بعد الموت، فلا وجه للإنكار في ذلك.(6) "
ويقول القاضي عياض:- " وكذلك نقطع على كفر من قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص، وتعذيبها أو تنعيمها فيها، بحسب ذكائها وخبثها. وكذلك من أنكر البعث أو الحساب … فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً.(7) "
__________
(1) المحلى 1/31 .
(2) مراتب الإجماع ص 175 .
(3) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 206 .
(4) المرجع السابق ص 211 – 215 = باختصار يسير .
(5) 4/137 .
(6) التمهيد 9/116 .
(7) الشفا 2/1067، 1077 = باختصار .(1/251)
ويقول ابن تيمية:- " وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد تبين الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك بياناً في غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة، فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفعهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة … وهؤلاء كفار يجب قتلهم بإتفاق أهل الإيمان فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بياناً شافياً قاطعاً للعذر …(1) "
صـ228
ويقول يحيى بن حمزة العلوي (2):- اعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة وغيرهم – إلا شيئاً يحكى عن بعض الفلاسفة … - في صحة المعاد.(3) "
ويقول الإيجي(4):- " أجمع أهل الملل عن آخرهم على جواز حشر الأجساد ووقوعه، وأنكرهما الفلاسفة.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 4/313 = باختصار، وانظر 4/282، 283 .
(2) يحي بن حمزة العلوي، من أئمة الزيدية، عاش في صنعاء، اتقن علوماً كثيرة، له جهود في الرد على المخالفين، وألف كتباً كثيرة، توفي بذمار سنة 745 هـ
انظر: البدر الطالع 2/331، ومعجم المؤلفين 13/195 .
(3) الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص 123 .
(4) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجي الشافعي، عضد الدين، عالم مشارك في علوم كثيرة، له مؤلفات في علم الكلام والأصول، نشأ في شيراز، توفي مسجوناً سنة 756 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 10/46، البدر الطالع 1/326 .
(5) المواقف في علم الكلام ص 372 .(1/252)
ويقول الشوكاني:- " الحاصل أن هذا [أي المعاد] أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله عز وجل سابقها ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم أنه، أنكر ذلك قط، ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي، فوقع منه كلام في إنكار المعاد، واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقى عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا فقلده، ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة الإسلامية إثبات المعاد، وتقليداً لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة ولعنوه وسموه كافراً …(1)
3- وإذا تقرر ما سبق ذكره فإننا نشير لطرف من أقوال العلماء في حكم منكر
صـ229
البعث، فهذا ابن نجيم يقرر كفر من أنكر البعث (2)، وكذلك البدر الرشيد (3)
وقال الدردير المالكي:- " ويكفر إذا قال بتناسخ الأرواح، أي إن من قال بأن من يموت تنتقل روحه إلى مثله، أو لأعلى منه إن كانت في مطيع، أو لأدنى منه، أو مثله إن كانت في عاصي فهو كافر؛ لأن فيه إنكار البعث.(4) "
وأورد الدسوقي (5)
__________
(1) إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات ص 32 .
(2) انظر البحر الرايق 5/132 .
(3) انظر رسالته في ألفاظ الكفر ص 53 .
(4) الشرح الصغير 6/147، 148 = بتصرف يسير .
(5) هو محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، عالم مشارك في الفقه والكلام والنحو، عاش في مصر، ودرس بالأزهر، له مؤلفات، توفي سنة 1230 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 8/292 .(1/253)
نفس هذا الكلام في حاشيته (1)، وكذا عليش في شرحه (2).
ويقول الغزالي:- " فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد، وينكر العقوبات الحسية في الآخرة بظنون وأوهام، واستبعادات من غير برهان قاطع، فيجب تكفيره قطعياً، إذ لا برهان على استحالة رد الأرواح إلى الأجساد، وذكر ذلك عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل من تعلق به …(3) "
ويذكر الشربيني إنكار البعث ضمن أنواع الردة (4)، وكذا ذكر ذلك قليوبي (5)، وابن حجر الهيتمي(6) "
ويقول البهوتي:- " وإذا جحد البعث كفر، لتكذيبه للكتاب والسنة وإجماع الأمة.(7) "
صـ230
المطلب الثاني
إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به
الوعد في أصل لغة العرب يستعمل في الخير والشر، ويعدى بنفسه وبالباء، يقال وعدته خيراً. ووعدته شراً، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير الوعد والعدة، وفي الشر الإيعاد والوعيد، مع العلم أن الوعيد لا يكون إلا بالشر (8).
وقد حوى القرآن الكريم على وعد ووعيد، فالوعد يكون بالمغفرة والرضوان، والتكريم ودخول الجنان ونحو ذلك من أنواع الثواب، والوعيد يكون إما بلعنة أو غضب أو دخول نار … وغير ذلك من أنواع العقاب.
قال الله تعالى:- {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة، آية 68].
وقال سبحانه: - {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة، آية 72].
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/269 .
(2) انظر: شرح منح الجليل 4/464 .
(3) فيصل التفرقة ص 142 .
(4) انظر مغنى المحتاج 4/135 .
(5) 10) انظر قليوبي وعميرة 4/175 .
(6) 11) انظر الإعلام ص 374 .
(7) 12) كشاف القناع 6/136 .
(8) انظر المفردات للأصفهاني ص 826، ولسان العرب 30/463، ومعجم مقاييس اللغة 6/125، والمصباح المنير ص 830، 831، ومختار الصحاح ص 728 .(1/254)
وقال تبارك وتعالى:- {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة، آية 111].
وقال سبحانه: - {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق، آية 45].
ومما أنعم الله تعالى به على عباده، أنه سبحانه قد أخبر أن من وعده على عمل صالح فهو منجز له، فلا يخلف الله وعده تكرماً وتفضلاً، قال الله تعالى:- {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم، آية 6].
وقال سبحانه وتعالى:- {وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف، آية 16].
وأما الوعيد في حق عصاة المؤمنين فهو تحت مشيئة الله تعالى، فقد يقع هذا الوعيد جزاء وعدلاً، وقد يختلف هذا الوعيد في حق بعض العصاة لانتفاء شرط أو وجود مانع …
صـ231
كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:- " " من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار.(1) "
وقد جاء عمرو بن عبيد المعتزلي(2) إلى أبي عمرو بن العلاء(3)
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/838)، وابن أبي عاصم في السنة (960)، وقوام السنة الأصفهاني في الحجة (2/71) وحسنه الألباني في " الصحيحة " (2463) .
(2) أبو عثمان عمرو بن عبيد البصري، أحد رؤوس المعتزلة، دعا إلى نفي القدر ، وكان زاهداً عابداً، له مؤلفات، مات سنة 144هـ .
انظر: تاريخ بغداد 12/162، سير أعلام النبلاء 6/104 .
(3) أبو عمر بن العلاء التميمي البصري، المقرئ المشهور، أتقن النحو، وتصدر للتدريس، ونصر السنة، توفي سنة 154 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 6/407، وتهذيب التهذيب 12/178 .(1/255)
فقال: يا أبا عمرو. ويخلف الله ما وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً، ثم لا تفعله، ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول(1):
وإني وإن أوعدته أو وعدته ………لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(2)
وقال يحي بن معاذ:-
" الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم إنه غفور رحيم.(3)"
صـ232
وعندما نتحدث عن الواجب تجاه نصوص الوعد والوعيد، فهو الإيمان بجميع تلك النصوص، والتسليم لها، وإجلالها وتعظيمها، فنؤمن بالله تعالى، وما جاء عن الله، على مراد الله تعالى، ونؤمن برسول الله، وما جاء عن الرسول، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن تيمية:-
" لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء آية، 10].
__________
(1) البيت لعامر بن الطفيل .
انظر: لسان العرب 3/364 .
(2) انظر الحجة في بيان المحجة لإسماعيل الأصفهاني 2/73، 74 .
(3) المرجع السابق 2/74 .(1/256)
وقال تعالى:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {29}وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء، آية 29، 30] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وهذا …(1) "
ويقول أيضاً:- ينبغي للمسلم أن يقدر كلام الله ورسوله، فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه.(2) "
وقد التزم سلف الأمة بهذا التسليم والتعظيم لنصوص الوعد والوعيد، " فهذا رجل يقول للزهري (3): يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من لطم الخدود، وليس منا من لم يوقر كبيرنا " (4) وما أشبه هذا الحديث؟
صـ233
فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 8/270 .
(2) الإيمان ص 33، 34 = باختصار .
(3) هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله القرشي الزهري المدني، الإمام الحافظ ، نزل الشام ودرس العلم، وألف في المغازي، توفي سنة 124 هـ .
انظر: البداية والنهاية 9/340، وسير أعلام النبلاء 5/326 .
(4) سيأتي تخريج هذين الحديثين ص 493 .
(5) السنة للخلال 3/579 .(1/257)
ولما ذكر عبد الله بن المبارك حديث:- " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن(1) فقال فيه قائل ما هذا؟ على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: - يمنعنا هؤلاء الأنان – أي كثيروا التشكي والكلام – أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا ونلزم الجهل أنفسنا.(2) "
يقول إسماعيل الأصبهاني:- أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد …(3)"
2- ومما يتضمنه الإيمان بالوعد والوعيد: الإيمان بالجنة والنار، وهو التصديق بوجودهما، وأنهما مخلوقتان موجودتان، لا تفنيان ولا تبيدان، وقد تواترت الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة في ذكرهما، وأوصافهما، وأحوالهما … كما أجمع علماء الإسلام على ذلك وحكى الإجماع عدد كبير منهم، فنذكر طرفاً من أقوالهم فيما يلي:-
يقول أبو حنيفة النعمان:- " والجنة والنار مخلوقتان اليوم، لا تفنيان أبداً، ولا تموت الحور العين أبداً، ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمداً.(4) "
ويقول أبو الحسن الأشعري (5):- " والجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا
صـ234
ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.(6) "
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث .
(2) تعظيم قدر الصلاة للمروزي 1/504 , 505 .
(3) الحجة في بيان المحجة 2/217 .
(4) الفقه الأكبر ص 6 .
(5) أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري البصري، إمام متكلم، كان آية في الذكاء، كان معتزلياً ثم تاب، له عدة مؤلفات، توفي سنة 330 هـ .
انظر: سير أعلام النبلاء 15/85، وشذرات الذهب 2/303 .
(6) الإبانة ص 21 .(1/258)
ويقول ابن أبي حاتم الرازي (1):- " والجنة حق، والنار حق، وهما مخلوقتان لا يفنيان أبداً، فالجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم "(2) "
يقول ابن أبي زيد القيرواني:- " وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم..وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به، وألحد في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته.(3) "
ويقول ابن بطة:- " ثم الإيمان بأن الله عز وجل خلق الجنة والنار قبل خلق الخلق، ونعيم الجنة لا يزول، دائم أبداً في النضرة والنعيم، والأزواج من الحور العين، ولا يمتن ولا ينقصن ولا يهرمن، ولا ينقطع ثمارها ونعيمها، كما قال عز وجل:- {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد، آية 35]، وأما عذاب النار فدائم أبداً، وأهلها فيها مخلدون خالدون من خرج من الدنيا غير معتقد للتوحيد ولا متمسك بالسنة.(4) "
ويقول ابن حزم:- " وأن كل ما في القرآن من خبر عن نبي، أو عن المعاد، أو عن أمة من الأمم، أو عن المسخ فعلى ظاهره، لا رمز في شيء من ذلك، ولا باطن ولا سر، وكذلك كل ما فيه من أمور الجنة من أكل وشرب، وجماع، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباس، وعذاب في النار بالزقوم، والحميم، والأغلال. وغير ذلك، فكله حق. (5)
صـ235
__________
(1) هو عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، علامة، حافظ، فقيه، له ردود على المبتدعة، ومؤلفات جمة، وكان صاحب عبادة، وتوفي سنة 327 هـ .
انظر:- طبقات الحنابلة 2/55، وسير أعلام النبلاء 13/263 .
(2) أصل السنة واعتقاد الدين (ضمن روائع التراث) ص 21 .
(3) مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص 7 .
(4) الإبانة الصغرى ص 206 – 209 .
(5) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 221 .(1/259)
ويقول ابن تيمية:- " الأكل والشراب في الجنة ثابت بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين: إما كافر، وإما منافق.(1) "
ويقول ابن القيم – في تقرير وجود الجنة الآن -: " لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها.(2) "
3- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالوعد والوعيد، ومنه الإيمان بالجنة والنار … فإن ما يناقض هذا الإيمان له عدة صور وأمثلة، فمنها:- إنكار الوعد والوعيد – ومنه إنكار الجنة والنار -، والقول بأن الوعد والوعيد تخييل للحقائق لكي ينتفع به الجمهور … كما يقول به ملاحدة الفلاسفة. ومن صور هذا الإنكار والاستهزاء، ما يدعيه ملاحدة المتصوفة أن الجنة أو النار معان باطنة يقصد بها نعيم الأرواح أو تألمها فقط … أو ما يزعمه بعضهم أن أهل النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة …، ومن صور هذا الكفر: السخرية بالوعد والوعيد والاستهزاء بهما … إلى غير ذلك من الأمثلة.(3) "
فمن أمثلة هذه النواقض: إنكار الوعد والوعيد والاستهزاء بهما، ووجه كونه ناقضاً عدة أمور منها ما يلي:-
__________
(1) مجموع الفتاوى 4/313 .
(2) حادي الأرواح ص 17 .
(3) انظر لتفصيل ذلك:- الشفا لعياض 2/1068، فتاوى ابن تيمية 4/314، 13/279، 14/161، 16/242 ، والدرء 1/8, 9،104، 5/4، 241،10/270، الصفدية 1/245 .(1/260)
(أ) أن الإيمان بنصوص الوعد والوعيد يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإجلالها وإكرامها، وهذا الإنكار يناقض هذا الإيمان، فإنكار الجنة والنار – مثلاً –
صـ236
يناقض تصديق القلب، كما يناقض قول اللسان، والاستهزاء بنصوص الوعد الوعيد – ومنها نصوص الجنة والنار – يناقض هذا الإجلال والتعظيم؛ لأنه يناقض عمل القلب الذي يوجب توقير وتعظيم نصوص الوعد والوعيد.
(ب) إن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد تكذيب للقرآن الكريم، حيث فرض الله تعالى الإقرار بآياته، وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة …
قال تعالى:- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام، آية 157].
وقال سبحانه:- {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40].
وقال تعالى:- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}[الحج، آية 57].
وقال عز وجل:- {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]
وقد سمى الله تعالى الاستهزاء بآياته كفراً فقال:- {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة 65 , 66].(1/261)
(ج) أن إنكار نصوص الوعد والوعيد وصرفها عن ظاهرها، أو الاستهزاء بها يتضمن طعناً في الأنبياء عليهم السلام، وتنقصاً لهم، وأنهم ربما كذبوا لمصلحة الجمهور كما يزعم ملاحدة الفلاسفة، مع أن الأنبياء عليهم السلام صادقون مصدقون، قد بلغوا البلاغ المبين، وأقاموا الحجة على الناس، فهم أفضل الخلق عند الله تعالى، وأكمل الخلق علماً وعملاً، حيث اختصهم الله تعالى بوحيه واصطفاهم من بين سائر الناس.
وإن الطعن في الأنبياء كفر ورده عن الإسلام – كما سبق بيانه (1) - بل إن الطعن
صـ237
فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع الضلالات – كما قرره ابن تيمية (2)-.
يقول ابن تيمية عن هؤلاء الفلاسفة – في هذا الشأن -:-
" فأهل التخييل هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه، فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع بها الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
ثم هم على قسمين، منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون إن من الفلاسفة من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم الأولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية، ومنهم من يقول بل الرسول علمها، لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق.
__________
(1) انظر في هذا الباب:- المطلب الثاني من المبحث الأول في الفصل الثاني .
(2) انظر في هذا الباب:- المطلب الثاني من المبحث الأول في الفصل الثاني .(1/262)
ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يخبر بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد …(1) "
كما يذكر ابن تيمية أن في هذا الإنكار " نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول …(2) "
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد، هو تعطيل للشرائع وإبطال للأوامر والنواهي، وتلاعب بالنصوص الشرعية، وتشكيك فيها.
صـ238
(د) أن هذا الإنكار أو الاستهزاء مخالف للإجماع، وتكذيب له، فقد أجمعوا على إثبات الوعد والوعيد والتصديق به – كما سبق ذكره (3) -، وأجمعوا أيضاً على تكفير منكره أو المستهزئ به، كما سنذكره الآن.
يقول ابن عبد البر:- " وأما الإقرار بالجنة والنار فواجب مجتمع عليه، ألا ترى أن ذلك مما يكتب في صدور الوصايا مع الشهادة بالتوحيد، وبالنبي صلى الله عليه وسلم.(4)
ويقول القاضي عياض – " وكذلك من دان بالوحدانية وصحة النبوة، ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به، ادعى في ذلك مصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع، كالمتفلسفين وبعض الباطنية، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع وأكثر ما جاءت به الرسل من الإخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة، والجنة والنار، وليس منها شيء على مقتضى التصريح لقصور أفهامهم، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/31 , 32 = باختصار، انظر مجموع الفتاوى 12/337، 352، 17/356، 19/158 والصفدية 1/237 .
(2) مجموع الفتاوى 5/241 .
(3) انظر مقدمة هذا المبحث .
(4) التمهيد 12/190 , 191 .
(5) الشفا 2/1068 .(1/263)
ويقول أيضاً:- وكذلك من أنكر الجنة، أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة، والنار، والحشر، والنشر، والثواب، والعقاب معنى غير ظاهره وإنها لذات روحيه، ومعان باطنه.(1)
ويقول ابن حزم:- " وأن البعث حق، والحساب حق، والجنة حق، والنار حق، داران مخلوقتان مخلدتان، هما ومن فيهما بلا نهاية، يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام.(2)
صـ239
ويقول أيضاً:- " وأن كل ما في القرآن من أمور الجنة من أكل وشرب وجماع، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباس وعذاب في النار بالزقوم والحميم، والأغلال وغير ذلك فكله حق … فمن خالف شيئاً من هذا فقد خرج عن الإسلام، لخلافه القرآن والسنن والإجماع (3) "
ويحكي ابن حزم الإجماع قائلاً:- " وأن الجنة حق، وأنها دار نعيم أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية، وأنها أعدت للمسلمين والنبيين المتقدمين، وأتباعهم على حقيقة، كما أتوا به قبل أن ينسخ الله أديانهم بدين الإسلام.
وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام …(4) "
ويقول البقاعي (5)
__________
(1) المرجع السابق 2/1077 .
(2) الدرة ص 207 .
(3) المرجع السابق ص 221 = بتصرف يسير .
(4) مراتب الإجماع ص 173،وانظر ص 176 .
(5) هو إبراهيم بن عمرو بن حسن البقاعي الشافعي، نزيل القاهرة، ثم دمشق، عالم،أديب، مفسر، مؤرخ، له مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة 885 هـ .
انظر:- شذرات الذهب 7/339، ومعجم المؤلفين 1/71 .(1/264)
:- " اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية وإجماع المسلمين أن قول الله حق، وخبره صدق، ذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى، ومن أنكر أن خبر الله حق، أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ومما قاله الشوكاني في هذه المسألة:- " علماء الملة الإسلامية مجمعون على ذلك [يعني على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية في الجنة …]، لا يخالف منهم فيه مخالف، ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحاً يفهمه كل
صـ240
عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفاً بسيطاً.(2) "
4- والآن نسوق جملة من أقوال أهل العلم في تكفير منكر الوعد أو الوعيد، أو المستهزئ بهما … فذكر ابن نجيم كفر من أنكر الجنة أو النار أو الحساب، كما يكفر من أنكر الوعد والوعيد. (3)
وجاء في الفتاوى البزازية:- " أو أنكر وعداً أو وعيداً يكفر، إذا كان الجزاء ثابتاً بالقطع. (4)
ويقول محمد بن إسماعيل الرشيد:- " وأعلم أن من أنكر القيامة، أو الجنة، أو النار، أو الصراط، أو الحساب، أو الصحائف المكتوبة فيها أعمال العباد كفر …(5) "
__________
(1) تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ص 159 .
(2) إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع ص 19، مع العلم أن للشوكاني كتاباً مستقلاً بعنوان " المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة " وهو غير مطبوع. انظر الشوكاني مفسراً لمحمد الغماري ص 95 .
(3) انظر البحر الرايق 5/129، 132 .
(4) 3/323 .
(5) تهذيب ألفاظ الكفر ص 53، وانظر شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 297 .(1/265)
وكفّر أبو حامد الغزالي من زعم أن الجنة لذة روحية، وأن النار شقاء نفسي …ثم قال: " والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئاً من ذلك؛ لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع، والجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها، فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوز، بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يستراب. (1) "
وقال الشربيني:- " ويكفر إن أنكر الجنة، أو النار، أو الحساب، أو الثواب، أو العقاب، أو أقر بها، لكن قال المراد بها غير معانيها.(2) "
ويقول ابن تيمية:- " وقد يقول حذاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة،
صـ241
وقوم يتصوفون، أو يتكلمون وهم غالية المرجئة: إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة … وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره، ونهيه، ووعده ووعيده.(3) "
وذكر البهوتي أن ما مما يوجب الردة: السخرية بالوعد، أو الوعيد.(4)
صـ242
الفصل الرابع
إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة
1- ابتداءً نعرف بعنوان الفصل: - " إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة " فالإنكار بمعنى الجحود، وعدم الاعتراف وانتفاء الإقرار، والمقصود بحكم معلوم من الدين بالضرورة (5)
__________
(1) فضائح الباطنية ص 153 .
(2) مغنى المحتاج 4/136 وانظر قليوبي وعميرة 4/175، والإعلام لابن حجر الهيتمي ص 357 , 374 .
(3) مجموع الفتاوى 19/150 .
(4) انظر كشاف القناع 6/170 .
(5) المراد بالضرورة هنا ما لا يقع فيه شك أو شبه، مما هو معلوم ظاهر عند الجميع .
انظر: الإنصاف للباقلاني ص 14، جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/37، أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 8، الحدود في الأصول للباجي ص 25، التعريفات للجرجاني ص 138، إكفار الملحدين لمحمد الكشميري ص 2، 3 .(1/266)
:- ما كان ظاهراً متواتراً من أحكام الدين معلوماً عند الخاص والعام، مما أجمع عليه العلماء إجماعاً قطعياً مثل وجوب أحد مباني الإسلام كالصلاة والزكاة ونحوهما، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة مثل الربا والخمر وغيرهما (1)
ومن المعلوم أن الإيمان قائم على تصديق حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم هذه الأحكام وآكدها:- الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة … ولذا يقول ابن تيمية:- " إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق.(2) "
ويقول – في موضع آخر -: " الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء
صـ243
مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره. (3) "
وهكذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة، والذي يعتبر منكره كافراً، له قيود يمكن معرفتها وتحديدها من خلال ما سنورده من كلام أهل العلم فيما يلي:-
__________
(1) ما يجدر التنبيه عليه أن إنكار حكم معلوم من الدين له أمثلة كثيرة – منها ما قد سبق إيراده في الفصول الماضية – سواء كانت أمثلة علمية أو عملية … منها توحيد الله تعالى وتنزيهه عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة، وإثبات البعث، وختم النبوة بحمد صلى الله عليه وسلم …ونحو ذلك .
انظر: فتاوى محمد رشيد رضا 6/2539، وتعليقه على مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/517، وإكفار الملحدين لمحمد الكشميري ص 2، 3.
(2) مجموع الفتاوى 12/497، وانظر: الاستقامة 2/186، 194 .
(3) مجموع الفتاوى 35/372 .(1/267)
فهذا الشافعي يبين أن من الأحكام ما هو معلوم عند العامة فضلاً عن الخاصة فلا يسعهم جهله فيقول: - " العلم:- علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عما حرم عليهم منه.
وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، وموجوداً(1) عاماً عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، لا يجوز فيه التنازع.(2)"
ويقول – في موضع آخر -: " أما ما كان نص كتاب بيّن، أو سنة مجتمع عليها فالعذر مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب.(3) "
ويقرر النووي أن هذه الأحكام ثابتة بالإجماع المعلوم عند العامة فيقول:-
" فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد
صـ244
بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم …
__________
(1) موجوداً: جاءت منصوبة على أنها مفعول لفعل محذوف، تقديره: تجده، أو تراه .
انظر: تعليق أحمد شاكر في الرسالة ص 358 .
(2) الرسالة ص 357 – 359 = بتصرف يسير .
(3) المرجع السابق ص 460 وانظر ص 478 .(1/268)
فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً عن طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة.(1) "
ويقول – في كتاب آخر -: " أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا ونحو ذلك فهو كافر، ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة فليس بكافر …(2) "
ويؤكد ابن دقيق العيد (3) على ما قرره النووي، وأن الإجماع الذي يكفر منكره، إنما يكفر لتعلقه بمخالفة النص الظاهر المتواتر، فيقول:-
" فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلاً، وتارة لا يصحبها التواتر، فالقسم الأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر، لا لمخالفته الإجماع، والقسم الثاني لا يكفر به.(4) "
كما أننا نجد القرافي قد جعل منكر الإجماع كافراً، لكن بشرط أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين فقال:- " ولا يعتقد أن جاحداً ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً،
صـ245
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1/205 .
(2) روضة الطالبين 2/146، وانظر 10/65، وانظر المجموع 3/16 .
(3) هو محمد بن علي بن وهب الشافعي المالكي، أبو الفتح، تقي الدين، محدث، فقيه، أصولي، ولد سنة 625 هـ، وله عدة مؤلفات، توفي بالقاهرة سنة 702 هـ .
انظر: طبقات الشافعية 9/207، والدرر الكامنة 4/210 .
(4) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 4/84 .(1/269)
فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه إلا خواص الفقهاء، فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً …(1) "
ولابن تيمية كلام قريب مما سبق إيراده عندما قال:- " وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع: هل يكفر؟ على قولين. والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره.(2) "
وهكذا نلحظ في عبارة ابن تيمية أنه ينفي ثبوت إجماع معلوم في مسألة لا نص فيها … ولذا يقول في موضع آخر:- " فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها،إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به.(3) "
ويقيد العراقي – موافقة لمن مضى ذكرهم – كفر منكر الإجماع بقوله:- " والصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما علم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر.(4) "
ويوضح ابن الوزير المقصود بالإجماع الذي يعتبر مخالفه كافراً فيقول:- اعلم أن الإجماعات نوعان: أحدهما صحته بالضرورة من الدين بحيث يكفر مخالفة، فهذا إجماع صحيح ولكنه مستغنى عنه بالعلم الضروري من الدين، وثانيها ما نزل عن هذه المرتبة، ولا يكون إلا ظناً، لأنه ليس بعد التواتر إلا الظن، وليس بينهما في النقل مرتبة قطعية بالإجماع(5) "
__________
(1) الفروق 4/117، وانظر الاعتصام للشاطبي 2/797 .
(2) مجموع الفتاوى 19/269، 270، وانظر مجموع الفتاوى 7/38، 39، وانظر إيثار الحق لابن الوزير ص 427 .
(3) المرجع السابق 19/195 وانظر 19/200 – 202، وللشافعي في الرسالة كلام بهذا المعنى ص 471 .
(4) فتح الباري 12/202 .
(5) إيثار الحق على الخلق ص 168، وانظر العواصم والقواصم لابن الوزير 4/171، 174، 178 .(1/270)
2- وإذا اتضح مفهوم إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، فإننا نشير إلى أن هذا الإنكار له عدة صور وأمثلة، فربما كان إنكاراً صريحاً ظاهراً كأن يقول – مثلاً – بإنكار وجوب الصلاة أو الزكاة … أو يقول بحل الربا، أو الخمر … أو يقول بتحريم ما كان حلالاً بالإجماع كالخبز والماء ونحوهما …، وقد يكون الإنكار عن طريق تأويل فاسد غير سائغ تأباه اللغة العربية، كتأويل الباطنية القائلين أن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم والمحرمات أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم، فقد أجمع العلماء على كفر أصحاب تلك المقالة (1) وكذلك ما يزعمه ملاحدة الصوفية أن من وصل إلى درجة اليقين فقد سقطت عنه التكاليف.(2)
ومما يلحق بهذا الإنكار – في الحكم بالكفر – أن يعترف شخص ما بهذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة … لكنه يعلن عدم قبوله لهذا الحكم، ويأبى أن يذعن لله تعالى، ويرفض الانقياد لهذا الحكم عناداً واستكباراً، وقد فصل ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً شافياً فقال:-
__________
(1) انظر الشفا لعياض 2/73 .
(2) انظر المرجع السابق، وممجوع فتاوي ابن تيمية 5/82، 10/434، 435 , 149 – 237 والعبودية لابن تيمية ص 65، وأضواء البيان للشنقيطي 3/207 .(1/271)
" إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهو يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن
صـ247
من يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك، ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع …(1)
__________
(1) الصارم المسلول ص 521، 522، وانظر مجموع الفتاوى 20/96 .(1/272)
وبهذا يعلم أن مما يعد كفراً ويلحق بإنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، أن لا يقبل حكم الله تعالى، مع علمه بأنه حكم الله تعالى واعترافه به، فهو يأبى ويمتنع من قبول هذا الحكم، ولذا قال إسحاق بن راهويه:- " وقد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً أنزله الله … وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(1) " فمناط الكفر – هاهنا – هو الترك والرد والإباء، لا عدم التصديق، ولهذا قرن الله تعالى في كتابه كفر التولي بكفر التكذيب؛ لأنه غيره كما قال سبحانه:- {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة، آية 31 , 32]. وقال تعالى:- {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية 15 , 16].(2)
3-والآن نورد بعض الاعتبارات التي جعلت إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان:-
(أ) إن هذا الإنكار افتراء على الله سبحانه، ولا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن أفترى على الله تعالى كذباً،كما قال سبحانه:- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام،آية 21]
ويقول عز وجل:- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس، آية 17].
صـ248
__________
(1) التمهيد 4/226 = بتصرف يسير، وانظر فتاوى محمد رشيد رضا 5/1752 .
(2) سيأتي الحديث مفصلاً إن شاء الله عن كفر الإعراض في الباب الثاني .(1/273)
وقال عز وجل: - {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ {59} وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} [يونس، آية 59، 60].
ويقول سبحانه:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ {116} مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل، آية 115 – 117]
يقول ابن كثير في تفسير تلك الآيات الأخيرة:- " ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم، فقال:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه … ثم توعد على ذلك فقال:- {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} أي في الدنيا ولا في الآخرة(1)، وأما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم …(2) "
__________
(1) وكما قال الشنقيطي:- " الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر " أضواء البيان 4/242 .
(2) تفسير ابن كثير 2/570 .(1/274)
كما أن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة اعتراض على شرع الله تعالى، ومشابهة للمشركين القائلين إنما البيع مثل الربا، ولذا يقول ابن تيمية:- " معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بـ (الملل والنحل) ما معناه:- أصل كل شر هو من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع (1)، وهو كما قال …(2) "
صـ249
إضافة إلى ذلك فهذا الإنكار طعن في ربوبية الله تعالى وأسمائه وصفاته، فتصديق أحكام الله تعالى والإقرار بها من مقتضيات إثبات الربوبية لله تعالى وحده، فحقيقة الرضا بالله تعالى رباً يتضمن الإقرار بأمره تعالى الشرعي والكوني، كما قال سبحانه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54].
وهذا الإنكار مناقض لأصل الرضا بربوبية الله عز وجل.
كما أنه طعن في أسماء الله تعالى وصفاته، فهذا الإنكار يناقض إثبات كمال العلم لله تعالى، وينافي كما حكمته عز وجل، ولذا قال ابن تيمية – كما سبق إيراده – " وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن لم يلتزم التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمه الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته …(3)"
__________
(1) انظر الملل والنحل 1/16 .
(2) درء تعارض العقل والنقل 5/204 .
(3) الصارم المسلول ص 522(1/275)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى:- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة، آية 275]: - " وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا، ويحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل.(1) "
(ب) أن الإيمان يتضمن الإقرار والتصديق، وهذا الإنكار تكذيب وجحود، فهو يناقض الإيمان ولا يجامعه، فإن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة تكذيب لآيات كتاب الله عز وجل، وقد أمر الله تعالى بتصديق آياته، والإقرار بها، كما حكم الله تعالى بالكفر على من جحد آياته وأنكرها، وتوعدهم بالعذاب المهين (2)، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة.
صـ250
فقال تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف، آية 40].
وقال سبحانه: - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج،آية 57].
وقال تعالى:- {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت،آية 47].
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/309 .
(2) قال ابن تيمية:- " ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر " الصارم المسلول ص 52، وانظر العواصم لابن الوزير 9/299، 304 .(1/276)
وقال تبارك وتعالى:- {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {27} ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت، آية 27 , 28]
(ج) إن هذا الإنكار تكذيب ظاهر للأحاديث الصريحة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو طعن في مقام الرسالة، وكما قال ابن تيمية:- والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، تارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة …(1) "
وقد قرر العلماء أن من رد حديثاً صحيحاً، أو كذبه فهو كافر.
حتى قال إسحاق بن راهويه " من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر.(2) "
ويقول ابن بطة:- " لو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء.(3) "
وقال ابن الوزير:- " إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح.(4) "
فإذا كان هؤلاء العلماء الأجلاء قد كفروا من كذب بحديث واحد، فكيف بحال منكر الأحاديث المتواترة؟
صـ251
ويدل على ما سبق حديث البراء بن عازب (5) رضي الله عنه حيث قال:- مر بي عمي الحارث بن عمرو(6)
__________
(1) الصارم المسلول 521 .
(2) الإحكام لابن حزم 1/89 .
(3) الإبانة ص 211 .
(4) العواصم والقواصم 2/374 .
(5) البراء بن عازب الأوسي الأنصاري،صحابي جليل، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، مات بالكوفة سنة 72 هـ
انظر: البداية والنهاية 8/328، والإصابة 1/278 .
(6) هو الحارث بن عمرو الأنصاري، عم البراء بن عازب، ويقال خاله .
انظر: الإصابة: 1/588، تهذيب التهذيب 1/151 .(1/277)
ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فسألته، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب عنق رجل تزوج امرأة أبيه.(1)
فمن المعلوم قطعاً تحريم نكاح زوجات الآباء إجماعاً، ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل من تزوج امرأة أبيه؛ لأنه مرتد عن الإسلام، قال تعالى:- {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} [النساء، آية 22].
يقول ابن كثير – عن هذا النكاح -: - " فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال.(2)
ويقول ابن جرير في شرح حديث البراء:- " وكان الذي عرس بزوجة أبيه متخطياً بفعله حرمتين، وجامعاً بين كبيرتين من معاصي الله، إحداهما: عقد نكاح على من حرم الله عقد النكاح عليه بنص تنزيله بقوله:- {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء، آية 22]. والثانية:- إتيانه فرجاً محرماً عليه إتيانه، وأعظم من ذلك تقدمه على ذلك بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلانه عقد النكاح على من حرم الله عليه عقده عليه بنص كتابه الذي لا شبهة في تحريمها عليه وهو حاضره، فكان فعله ذلك من أدل الدليل على تكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما آتاه به عن الله تعالى ذكره، وجحوده آية محكمة في
صـ252
__________
(1) أخرجه أحمد 4/292، وأبو داود ح (4456)، والنسائي (6/90)، وابن ماجه 2/869، وحسنه ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 6/226، وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/18،
وانظر: مجمع الزوائد 6/269 .
(2) تفسير ابن كثير 1/444، وانظر فتاوى ابن تيمية 20/91، 92 .(1/278)
تنزيله … فكان بذلك من فعله حكم القتل وضرب العنق، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وضرب عنقه؛ لأن ذلك كان سنته في المرتد عن الإسلام (1) "
وقال الشوكاني: - " والحديث فيه دليل على أنه يجوز للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعياً من قطعيات الشريعة كهذه المسألة، فإن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء، آية 22]، ولكنه لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلاً، وذلك من موجبات الكفر.(2) "
4- أجمع العلماء على تكفير من أنكر حكماً معلوماً من الدين بالضرورة، وقد حكى هذا الإجماع عدد كثير من أهل العلم، نذكر منهم ما يلي:-
يقول ابن عبد البر:- " وقد أجمعوا على أن مستحل خمر العنب المسكر كافر رادٌ على الله عز وجل خبره في كتابه، مرتد يستتاب فإن تاب، ورجع عن قوله، وإلا استبيح دمه كسائر الكفار. (3) "
ويقول أيضاً: - " قال إسحاق بن راهوية: - قد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله.(4)
صـ253
__________
(1) تهذيب الآثار 2/148، وانظر تحفة الأحوذي للمباركفوري 4/598 .
(2) نيل الأوطار 8/322 / وقد وردت أحاديث أخرى لا تخلو من مقال منها حديث صهيب مرفوعاً: " ما آمن بالقرآن من استحل محارمه " أخرجه الترمذي وقال هذا حديث ليس إسناده قوي ح (2918) / وانظر ضعيف الجامع الصغير رقم (4977) وحديث عائشة مرفوعاً:- " ستة لعنتهم، وكل نبي مجاب – وذكر منهم – المستحل محارم الله " أخرجه الترمذي، ح (2154) م والحاكم 1/36 وانظر السنة لابن أبي عاصم (تخريج الألباني) 1/24 رقم (44)، ومجمع الزوائد 1/176 وضعيف الجامع الصغير رقم (3248).
(3) التمهيد 1/142، 143 .
(4) المرجع السابق 4 / 226 .(1/279)
ويقول القاضي عياض: - " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا مما حرم الله – بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة الصوفية.
وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول، ووقع الإجماع المتصل عليه، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات … وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج إن الصلاة طرفي النهار.(1) "
ويقول ابن حزم:- " واتفقوا أن من آمن بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما آتى به عليه السلام، مما نقل عنه نقل الكافة، وشك في التوحيد، أو في النبوة، أو في محمد صلى الله عليه وسلم، أو في حرف مما أتى به عليه السلام، أو في الشريعة أتى بها عليه السلام، مما نقل عنه نقل كافة، فإن من جحد شيئاً مما ذكرناه، أو شك في شيء منه، ومات على ذلك، فإنه كافر مشرك مخلد في النار أبداً.(2) "
ويقول أيضاً:- " ولا خلاف بين اثنين من الأمة كلها أن من كفر بالصلاة، أو بالزكاة، أو بالحج، أو بالعمرة، أو بشيء مما أجمع المسلمون عليه على أن الله تعالى بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونص عليه من أعمال الشريعة فإنه كافر، حابط العمل.(3) "
ويورد أبو يعلى هذا الإجماع بقوله:- " ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح من الله، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر، ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله، أو المسلمون مع العلم بذلك فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى، ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين
صـ254
__________
(1) الشفا 2/1073 .
(2) مراتب الإجماع ص 177 .
(3) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 337 .(1/280)
في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ويحكي ابن قدامة الإجماع في هذه المسألة فيقول:- " ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة كلحم الخنزير، والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر … وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك.(2) "
ويورد ابن تيمية إجماع الصحابة والأئمة من بعدهم على هذه المسألة فيقول:-
" اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه … وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، وهو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش، والظلم، والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.(3)"
ويقول أيضاً: - " والإنسان متى حلل الحرام – المجمع عليه – أو حرم الحلال – المجمع عليه – أو بدل الشرع – المجمع عليه – كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء.(4) "
وذكر ابن الوزير:- " إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته.(5) "
__________
(1) المعتمد في أصول الدين ص 271، 272 .
(2) المغني 8/131 .
(3) مجموع الفتاوى 11/404، 405 = باختصار .
(4) المرجع السابق 3/267، 268 .
(5) إيثار الحق على الخلق ص 116، وانظر نفس الكتاب ص 121، 138 .(1/281)
ويقول:- واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله عليهم السلام، أو لشيء مما جاؤا به، إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوماً بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفاً مختاراً غير مختل العقل، ولا مكره، وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم
صـ255
التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد …(1) "
ويقول ملا علي قاري:- " لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، فإنه يستتاب فإن تاب منها، وإلا قتل كافراً مرتداً.(2)
4- ونختم هذا المبحث بإيراد طرف من أقوال العلماء في هذه المسألة:
يقول الإمام أحمد:- " ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو برد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها.(3) "
ويقول البربهاري (4):- " ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم.. فإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام.(5) "
ويقول أبو حامد الغزالى: -واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلاً، إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر.(6) "
__________
(1) المرجع السابق ص 415 .
(2) شرح الفقه الأكبر ص 242 .
(3) طبقات الحنابلة 1/344 .
(4) أبو محمد الحسن بن علي البربهاري، من أئمة الحنابلة، كان قوالاً بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم، له مصنفات، توفي سنة 329 هـ .
انظر: طبقات الحنابلة 2/18، وسير أعلام النبلاء 15/90 .
(5) شرح السنة للبربهاري ص 31 .
(6) فيصل التفرقة ص 144 .(1/282)
ويقول ابن حزم:- " فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه، وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله.(1)
صـ256
ويقول ابن نجيم الحنفي:- " والأصل أن من اعتقد الحرام حلالاً، فإن كان حراماً لغيره كمال الغير لا يكفر، وإن كان لعينه فإن كان دليله قطعياً كفر، وإلا فلا، وقيل التفصيل في العالم، أما الجاهل فلا يفرق بين الحلال والحرام لعينه ولغيره، وإنما الفرق في حقه إنما كان قطعياً كفر به، وإلا فلا، فيكفر إذا قال الخمر ليس بحرام، وقيده بعضهم بما إذا كان يعلم حرمتها، لا بقوله الخمر حرام، ولكن ليست هذه التي تزعمون أنها حرام، ويكفر من قال إن حرمة الخمر لم تثبت بالقرآن، ومن زعم أن الصغائر والكبائر حلال، وباستحلاله الجماع للحائض.(2) "
وجاء في الفتاوى البزازية:- " من اعتقد الحلال حراماً، أو على العكس يكفر.(3) "
وقد ساق محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي ألفاظاً كثيرة من كتب الأحناف تتضمن هذه الإنكار، فمن ذلك قوله:- " وفي الظهيرية:- ومن قيل له: كل من الحلال، فقال: الحرام أحب إلي كفر، أو قال يجوز لي الحرام كفر.
وفي الجواهر:- من قال ليت الخمر أو الزنا، أو الظلم، أو قتل الناس كان حلالاً كفر، ومن أنكر حرمة الحرام المجمع على حرمته، أو شك فيهما كالخمر والزنا واللواطة والربا، أو زعم أن الصغائر والكبائر حلال كفر.
وفي اليتيمية:- من قال بعد استيقانه بحرمة شيء أو بحرمة أمر، هذا حلال كفر، ومن أجاز بيع الخمر كفر.(4) "
__________
(1) الفصل 3/245 .
(2) البحر الرايق 5/132، وانظر: - شرح الفقه الأكبر ص 226، والمسامرة شرح المسايرة ص 307 .
(3) 3/321 .
(4) تهذيب رسالة البدر الرشيد ص 45، 46 = باختصار .(1/283)
وذكر الدردير أنه يكفر إذا " أنكر مجمعاً عليه كوجوب الصلاة أو تحريم الزنا، أو حل مجمع على عدم إباحته، مما علم من الدين ضرورة بكتاب الله تعالى، أو سنة متواترة، فلا يكفر بإنكار إعطاء السدس لبنت الابن مع البنت وإن كان مجمعاً عليه لعدم علمه بالضرورة، ولا بإنكار خلافة علي رضي الله عنه ونحوه، أو وجود بغداد؛ لأنه ليس من الدين، ولا يتضمن تكذيب قرآن.(1) " وقيد النووي
صـ257
الكلام السابق – كما مضى ذكره مفصلاً(2) - فذكر أن من جحد مجمعاً عليه معلوم من دين الإسلام ضرورة فهو يكفر إن كان فيه نص (3).
وذكر الشربيني أن من حلل محرماً بالإجماع كفر، كمن استحل الزنا واللواط والظلم وشرب الخمر، ومن هذا لو اعتقد حقية المكس، مع حرمة تسميته حقاً. ويكفر – كما قرر الشربيني – فيما لو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح، أو نفى وجوب مجمع عليه كوجوب ركعة من الصلوات الخمس، كما يكفر إذا اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كزيادة ركعة من الصلاة المفروضة، أو وجوب صوم يوم من شوال (4).
ثم قال الشربيني: - " لو قال أو نفى مشروعية مجمع عليه، لشمل إنكار المجمع على ندبه، فقد صرح البغوي في تعليقه بتكفير من أنكر مجمعاً على مشروعيته من السنن كالرواتب وصلاة العيدين، وهو لأجل تكذيب التواتر …(5) "
وقال عميرة (6)
__________
(1) الشرح الصغير 6/148، 149، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/303، وبلغة السالك للصاوي 2/418، والخرسي على مختصر خليل 7/65 .
(2) روضة الطالبين 10/64 = بتصرف يسير .
(3) انظر: مطلع هذا الفصل .
(4) انظر: روضة الطالبين 10/65 .
(5) مغني المحتاج 4/136، وانظر نهاية المحتاج للرملي 7/415،416 .
(6) شهاب الدين أحمد البرلسي المصري الشافعي، فقيه، أصولي، اشتغل بالتدريس، والفتيا توفي عام 957 هـ .
…انظر: شذرات الذهب 8/316، ومعجم المؤلفين 8/13.(1/284)
: - " ويكفر إذا حلل محرماً بالإجماع لحديث معاوية بن قرة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم بعث أباه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه، واصطفى ماله (1)، وحمل هذا على أنه استحل ذلك، ويكفر إذا نفى وجوب مجمع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: - " والتارك لدينه المفارق للجماعة "(2)، (3) "
صـ258
وقال قليوبي (4): - " ويكفر إذا حلل محرماً بإجماع الأئمة الأربعة – وكذا العكس -، ولابد من كونه معلوماً بالضرورة فخرج إنكار أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا يكفر به ولو من عالم به خلافاً لبعضهم..(5) "
ويقول ابن رجب: - " قد يترك الرجل دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقر بالشهادتين، ويدعي الإسلام، كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام … (6) "
وقرر مرعي بن يوسف الكرمي كفر من "جحد وجوب عبادة من الخمس، ومنها الطهارة، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، بلا تأويل كتحريم زنى أو لحم – لا شحم – خنزير أو حشيشة أو حل خبز ونحوه، أو شك فيه، ومثله لا يجهله، أو يجهله، وعرف وأصر.(7) "
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/870) ح (2608)، وقال البوصيري في الزوائد:- (إسناده صحيح)، وأخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (2/145، 146)، انظر: إرواء الغليل 8/21 .
(2) سيأتي تخريجه ص 468 .
(3) قليوبي وعميرة 4/175 = بتصرف
(4) أحمد نن أحمد بن سلامة القليوبي الشافعي، عالم مشارك في كثير من العلوم، له مؤلفات، توفي سنة 1069 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 1/148، الأعلام 1/92 .
(5) 10) قليوبي وعميرة 4/175 = بتصرف يسير .
(6) 11) جامع العلوم والحكم 1/318 .
(7) غاية الممنتهى 3/335 .(1/285)
وقال البهوتي: - " من استحل الحشيشة المسكرة كفر بلا نزاع، وإن جحد وجوب العبادات الخمس المذكورة في حديث " بني الإسلام على خمس " (1) أو جحد شيئاً منها، ومنها الطهارة من الحدثين كفر، أو جحد حل الخبز واللحم والماء، أو أحل الزنا ونحوه كشهادة الزور واللواط، أو أحل ترك الصلاة، أو جحد شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر وأشباه ذلك، أو شك فيه ومثله لا يجهله كفر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله وسائر الأمة. (2) "
ويعلل البهوتي – في كتاب آخر – السبب في كفر منكر حكم معلوم من الدين بالضرورة، فيقول:- " لمعاندته للإسلام، وامتناعه من قبول الأحكام، غير قابل لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة.(3) "
صـ259
وقال إبراهيم اللقاني (4) " في جوهرة التوحيد
" ومن لمعلوم ضرورة جحد ……من ديننا يقتل كفراً ليس حد
ومثل هذا من نفى لمجمع………أو استباح كالزنا فلتسمع(5)
وقال البيجوري (6) شارحاً لهذين البيتين:-
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان (1/49)، ح (8)، ومسلم، ك الإيمان (1/45)، ح (19) .
(2) كشاف القناع 6/139، 140، - باختصار وانظر المقنع لابن قدامة 3/516 .
(3) شرح منتهى الإرادات 3/386، 387 .
(4) إبراهيم بن إبراهيم اللقاني المالكي المصري، من علماء الكلام والفقه، له مؤلفات، توفي سنة 1041 هـ .
انظر: معجم المؤلفين 1-2، الأعلام 1/28 .
(5) شرح جوهرة التوحيد ص 199 .
(6) إبراهيم بن محمد البيجوري الشافعي، أحد شيوخ الأزهر، له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 1277 هـ .
…انظر: أعيان القرن الثالث عشر لخليل مردم ص 160، ومعجم المؤلفين 1/84.(1/286)
"من جحد أمراً معلوماً من أدلة ديننا يشبه الضرورة، بحيث يعرفه خواص المسلمين وعوامهم، كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر ونحوها، يقتل لأجل كفره؛ لأن جحده لذلك مستلزم لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، من نفى حكماً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، وهو ما اتفق المعتبرون على كونه إجماعاً، بخلاف الإجماع السكوتي، فإنه ظني لا قطعي، وظاهر كلام الناظم أن من نفى مجمعاً عليه يكفر، وإن لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وهو ضعيف وإن جزم به الناظم، والراجح أنه لا يكفر من نفى المجمع عليه إلا إذا كان معلوماً من الدين بالضرورة.(1) "
وقال الشوكاني: - " قد تقرر في القواعد الإسلامية أن منكر القطعي وجاحده، والعامل على خلافه تمرداً، أو عناداً، أو استحلالاً، أو استخفافاً كافر بالله، وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله لعباده. (2)
صـ260
وقال السعدي: - " ومن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة أو الصيام أو الحج فهو مكذب لله ورسوله، ولكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وهو خارج من الدين بإجماع المسلمين، ومن أنكر حكماً من أحكام الكتاب والسنة ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً كمن ينكر حل الخبز والإبل والبقر والغنم ونحوها مما هو ظاهر، أو ينكر تحريم الزنا أو القذف أو شرب الخمر، فضلاً عن الأمور الكفرية والخصال الشركية، فهو كافر مكذب لكتاب الله وسنة نبيه متبع غير سبيل المؤمنين. (3) "
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد ص 199 .
(2) الدواء العاجل في دفع العدو الصائل – ضمن الرسائل السلفية – ص 34 .
(3) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 206، 207 .(1/287)
ويقول محمد بن إبراهيم آل الشيخ:- إن من الأصول المتقررة المتفق عليها بين أهل العلم أن من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.(1) "
ويقول محمد سلطان المعصومي (2): - " إن تحريم الحلال وتحليل الحرام القطعي كفر، وكذا الحكم في الحل والحرمة والمنع والجواز جزافاً بلا دليل، فمن حرم ما حلله الشرع أو عكسه فقد كفر، لقول الله تعالى في سورة النحل:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل، آية 116] وأخرج الطبراني في الكبير والسيوطي في الصغير عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أطيعوني ما كنتم بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله، وحرموا حرامه.(3) (4) "
__________
(1) تحكيم القوانين ص14، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة 1/50، 2/17 .
(2) محمد سلطان المعصومي الخجندي، من بلاد ما وراء النهر، ورحل إلى الحجاز طالباً للعلم، ثم سافر إلى الشام، واشتغل بالفتيا في بلاده، له مؤلفات كثيرة توفي سنة 1379 هـ .
انظر ترجمته الذاتية في مقدمة كتابه حبل الشرع المتين ص 19 .
(3) أخرجه أحمد (2/172) وغيره وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/170): " رجاله موثقون "، وصححه الألباني في الصحيحة (1472)، وانظر صحيح الجامع الصغير (1045) .
(4) حبل الشرع المتين ص 108 = باختصار .(1/288)