إتحاف أهل الفضل والإنصاف
بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف
تأليف
سليمان بن ناصر عبد الله العلوان
قام بصفه ونشره
[أبو عمر الدوسري]
www.frqan.com
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد سبق أن كتبت رسالة في الرد على حسن السقاف في تعليقاته على كتاب ابن الجوزي ((دفع شبه التشبيه...))، وبينت مجانبة السقاف للصواب في تعليقاته، وشدة تحامله على علماء السلف وخيار الأمة، وكنت أختصر الجواب اختصارا يفي بالمعنى ولا يخل بالمقصود، ووعدت أن أكتب ردا مفصلا عليه وعلى كتاب ابن الجوزي؛ نصرا للحق، ودحضا للباطل، خصوصا أن السقاف وابن الجوزي كثيرا ما يذكران التأويل الباطل ويعزوانه لأئمة السلف، موهمين الخلق أن هذا مذهبهم وهذا اعتقادهم؛ تشبثا بما نقل عن بعض أئمة السلف من التأويل، وهو إما نقل غير صحيح، وإما نقل محرف؛ كما سأبينه فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
مع أن السقاف وأمثاله لا يعبؤون بأئمة السلف، ولا يأخذون بآرائهم وأقوالهم، بل ينبذونها ويطرحونها مع التهجم العنيف عليهم، وتارة يشككون في كتبهم وفي صحة نسبتها إليهم، وإذا عثروا على نقل مجرد أو محرف يوافق أهواءهم ومشاربهم، احتجوا به، وجالدوا عليه بالسيوف، ونسبوا القول وقائله إلى مذهبهم، وهذا من اتباع الهوى، وقد قال تعالى: { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص: 26].(1/1)
والواجب على جميع العباد عدم تتبع زلات العلماء وأخطائهم؛ لأنهم ليسوا بمعصومين؛ فالخطأ أمر لا بد أن يقع من البشر، سوى من عصمه الله، ولا عصمة إلا للأنبياء والرسل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)). رواه: الترمذي (4/ 568)، وابن ماجه (4251)، وغيرهما، عن أنس. وسنده حسن.
وقد أمرنا الله تعالى عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والرد إليهما، وتحكيمهما، فقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59].
والرد إلى الله: الرد إلى كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته الواضحة التي تركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك.
قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا } [الأحزاب: 36].
فكل من عصى الله والرسول بفعل النواهي وترك الأوامر؛ فله حظ وافر من الضلال المبين.
ومن نبذ أقوال الرسول، أو وجد في نفسه حرجا منها، أولم يسلم لأقواله؛ فليس له حظ من الإيمان؛ كما أقسم الله تعالى بنفسه على ذلك، فقال: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [النساء: 65].
فصل(1/2)
لا يخفى أن هناك فرقا بين إنسان جعل التأويل الباطل منهجا وطريقة يناضل ويجادل عليه، وبين عالم أخطا خطأ وزل زلة؛ فالأول جعل التأويل الفاسد عقيدة يسير عليها، ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، ولم يرجع إلى فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين كي يعينو على فهم النصوص، ولم يتحر الصواب في الوصول إلى الحق، إنما لجأ في تحرير المسائل إلى فهوم علماء الكلام والضلال؛ كالجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، والمريسي، والرازي، وجهمي العصر الكوثري؛ فمثل هذا يلحق بأحد الطوائف المبتدعة أو المارقة، والثاني لا يرى التأويل الباطل ولا التحريف مطلقا، ويتوخى الحق، ويستعين على فهم الكتاب والسنة بعلوم السلف وفهومهم، ولكنه زل زلة، فأول آية أو حديثا؛ لشبهة قامت عنده: إما لضعف الحديث عنده، وإما لعدم فهمه للمسألة على وجهها، وإما لغير ذلك؛ ففي هذه الحالة خطؤه مغفور له، ولكن يجتنب خطؤه ويبين، ولا يتابع عليه؛ لأنه ليس كل من أخطأ يكون كافرا أو مبتدعا؛ فقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.
قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) في ترجمة ابن خزيمة (14/ 376): ((ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لإتباع الحق أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا)).
وهذا ظاهر، وكلام علماء السلف يدل على ذلك.
فمن سوّى بين الأول والثاني؛ فقد جار في حكمه، ولم يعدل في قوله؛ فكيف يسوى بين رجلين: أحدهما: تحرى الحق والصواب، واجتهد في ذلك، مع حسن قصده، ولم يصبه؛ لشبهة قامت عنده. والآخر: نظر في كلام المتكلمين واتبعه، وأخذ يجادل عن الباطل، ونبذ نصوص الكتاب والسنة وراء ظهره؛ فالمعروف عنده الرد على علماء السلف وتسفيههم والطعن فيهم، وبيّن له الحق والصواب ولم يرجع، وأنكر أمورا معلومة من الدين بالضرورة، وكثر عثاره، وطال شقاقه وعناده، وكثر تحريفه للنصوص وجداله، ويسب علماء السلف وخيار هذه الأمة، ويسمي التوحيد شركا والشرك توحيدا؟!(1/3)
فمن سوى بين من كانت هذه حاله وبين الأول؛ فقد أبعد النجعة، وقفا ما لا علم له به، وخالف الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها.
فصل
الأصل في الرد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم؛ لأن الظلم مما يبغضه الله، وهو من صفات أهل الأهواء، الذين يلجؤون في كتبهم إلى الكذب والظلم لترويج باطلهم.
وكثيرا ما ينهج السقاف في تعليقاته على ((دفع شبه التشبيه))، وفي كثير من كتبه، منهجا وبيا من الكذب على علماء السلف وتقويلهم ما لم يقولوا، وحمل كلامهم على خلاف الحق؛ كي يلج لجة التبديع والتكفير؛ كما ستقف عليه إن شاء الله في هذا الكتاب، وهذه سجية جهمي العصر الكوثري في كثير من كتبه؛ فإنه لا يتحرى الصدق في النقل، وكثيرا ما يلجأ إلى السب والشتم والوقوع في أعراض علماء الأمة، وهذه الصفة ليست خاصة في الكوثري وتلاميذه، بل هي عامة في كثير من أهل الأهواء، الذي ينتصرون لبدعهم وضلالهم، ولا يعدلون في قولهم وفعلهم.
والعدل في القول والفعل من صفات المؤمنين، وهو مما يحبه الله ويأمر به: قال تعالى:
{ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } [الأنعام: 152] وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [الآية أ النحل: 90]؛ فالمؤمن لا يكذب ولا يظلم، وإن كذب عليه؛ لأن الكذب والبهت من صفات المنافقين.
وما يلاقيه أهل السنة من كثير من أهل البدع من الظلم والكذب أمر مشهور، قد دونه أهل العلم في كتبهم؛ فإن كثيرا من أهل البدع أهل ظلم وبغي وجور، لا ينفقون ضلالهم إلا بالكذب، وليس عندهم من الحجة والبرهان سوى السب والشتم، أما أهل السنة؛ فلا يكذبون على أهل البدع، وإن كذبوا عليهم؛ لعلمهم أن الكذب مذموم عند الله وعند رسوله؛ فهم يحبون العدل، ويأمرون به، ويبغضون الظلم، وينهون عنه.(1/4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((المنهاج)) (5/ 127): ((والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم)).
وقال: ((العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو حبوب في النفوس، مركوز حبه في القلوب، تحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه، والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد: 25])).
وقال رحمه الله (ص 157): ((وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا؛ فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض، والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يكفر؛ فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق؛ كما وصف الله به المسلمين بقوله: { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس...)).
فصل(1/5)
بعض من ينتسب إلى السلف يخطئ عليهم ويهم في قوله وفعله، ومن ثم يكون مدخلا لأهل البدع في الطعن في منهج السلف وعقيدتهم يهم بالتشبيه أو التجسيم أو التأويل أو غير ذلك:
فبعض المنتسبين إلى السلف يفوض بعض الصفات وينسب ذلك إلى السلف...
وبعضهم يحرف بعض الصفات ويعزو ذلك إلى بعض أئمة السلف...
وبعضهم يوافق الجهمية والأشاعرة في بعض أصولهم لظنه صحة هذه الأصول(1)...
وبعضهم يغلو في الإثبات ظنا منه أن هذا هو الطريق المستقيم...
وبعضهم يصف الله تعالى معتمدا على حديث ضعيف أو موضوع؛
لعدم علمه بالحديث، فيقع في ورطات ومشكلات.
وأقوال هؤلاء القوم محسوبة- عند من لا يعرف مذهب السلف- من أقوال أهل السنة؛ لا نتساب أصحابها إلى الحديث وأهله، ولكن لما لم يكن لهم من العلم والمعرفة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة؛ أساؤوا إلى السلف؟ لعزوهم ما يأتون به من الباطل إلى السلف، مع حسن قصد الكثير منهم.
وبعضهم يزعم أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وقوله، وهذا خطأ على أحمد وعلي غيره من علماء السلف.
وبسبب هذه الأخطاء التي تنسب إلى السنة وإلى علمائها- مع براءة السنة وأهلها منها- طعن بعض أهل الباطل في مذهب السلف، وسماه مذهب التجسيم أو التشبيه!!
وهذا من الجور والظلم؛ فخطأ من أخطا ممن ينتسب إلى السنة لا ينسب إلى جميع علماء السلف، ولا تنسب الأقوال الباطلة إلى مذهبهم؛ كما أن المسلم إذا فعل منكرا؛ لا يقدح ذلك في دين المسلمين، ولا ينسب المنكر إلى دينهم(2).
ولذلك كله؛ الواجب أن لا يتكلم المرء إلا بعلم؛ لئلا يكون عارا على مذهبه، ويتخذ مذهبه بسبط غرضا لأهل الأهواء.
__________
(1) أنظر: ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2/ 584).
(2) أنظر: ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام (2/ 630- 631).(1/6)
وابن الجوزي- عفا الله عنه- في كتابه ((دفع شبه التشبيه)) رد على أبي عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبي يعلي وابن الزاغوني، وقال (ص 99): ((صنفوا كتبا شانوا بها المذهب...))، وطعن عليهم ابن الجوزي في أشياء كثيرة؛ بحق وبغير حق، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها وبيانها، وتعلق ببعض الأخطاء التي وقعت من القاضي وغيره ممن ينتسب إلى مذهب السلف ويعظم علماء السلف، حتى قال ابن الجوزي (ص 101) ((وكلامهم صريح في التشبيه)).
والقاضي أبو يعلي وغيره ممن !د تعظيم السلف عندهم بعض الأخطاء؟ كالتفويض، والغلو في الإثبات، ونحو ذلك(1)، ومم مع ذلك أحسن حالا من ابن الجوزي، ولكن عندهم بعض الأخطاء التي يزعمون أنها أقوال أحمد وغيره من علماء السلف، وقد تعلق بها بعض أهل الباطل؛ للطعن في مذهب السلف الصالح، ورمي أهله بالتجسيم!!
ووقوع القاضي أو غيره ممن يعظم مذهب السلف في التفويض أو الغلو في الإثبات لا يسوغ لأي إنسان أن يطعن في مذهب السلف، أو ينسب أخطاءهم إلى السلف، بل عليه أن يبين خطأهم بعلم وعدل؛ دون ظلم وجهل.
__________
(1) قال شيخ الإسلام رحمه الله في ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 34) بعد كلام سبق: ((ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم خبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث؛ لا من جهة المعرفة والتميز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة التفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقيلة للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذا حل أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وأمثالهم، ولذلك كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل؛ كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار، وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجرى على ظواهرها؛ كما فعله القاضي أبو يعلي وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم؛ فيرجحون هذا تارة وهذا(1/7)
ولما لم يكن لابن الجوزي- عفا الله عنه- معرفة بحقيقة مذهب السلف عموما، وما عليه الإمام أحمد رحمه الله خصوصا؛ ظن أن كل ما قاله أبو يعلى وابن الزاغوني تشبيه، فنفى- عفا الله عنه- كثيرا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين؛ لأن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في تشبيه عند ابن الجوزي؛ فنفي الصفات من قبل ابن الجوزي وغلوه في نفي التشبيه أوقعه في مذهب النفاة، من الجهمية وغيرهم، وقد تكلف الصعاب لصرف الآيات والأحاديث عن ظواهرها، وأتى بتأويلات مستكرهة، ووقع في أمور عظام؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (1).
والحاصل أنه يجب على المرء أن لا ينسب إلى السلف إلا ما تيقن صحته وعلم مخرجه؛ لئلا يقولهم ما لم يقولوا، فيسيء إليهم بخطئه.
__________
(1) وسيأتي إن شاء الله تعالى- كما في (ص 128)- بيان اضطراب ابن الجوزي في العقيدة، وأنه جاء عنه تفويض الصفات، وجاء عنه إثبات بعض الصفات؛ كما في كتابه ((مجالس ابن الجورزي)).(1/8)
وبعض الناس عنده تعظيم للحديث وأهله، ويظهر الانتساب إلى مذهب السلف، وله قصد حسن، ولكنه يوافق أهل البدع في بعض أصولهم، ويشاركهم في بعض آرائهم الباطلة؛ لجهله بمذهبهم؛ فيتعلق أهل الباطل بأخطائه، ويجعلون من الصغير الكبير، ومن القليل الكثير، وهذا من اتباع الهوى والجور في الحكم؛ فلا ينسب خطؤه إلى السلف، ولا يقدح خطؤه في مذهب أهل السنة؛ فإن الحق عليه نور كنور الشمس، والباطل عليه ظلمة كظلمة الليل، والواجب على المسلم أن يجعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حكما على قول كل إنسان؛ فيزن أقوال الناس بالكتاب والسنة؛ فما وافقهما؛ قبله، وإلا؛ ردة، ولا يتعلق بهفواتهم وزلاتهم، ولا يحمله خطأ من غلا في الإثبات على التعطيل؛ فإن ذلك من وحي الشياطين، بل يرد غلو من غلا في الإثبات، ويثبت الحق؛ فلا ينفي عن الله ما وصف به نفسه، ولا يشبه أو يمثل؛ لأن الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].
فصل
وأشرع الآن مستعينا بالله تعالى بما وعدت به من بيان أخطاء ابن الجوزي في كتابه ((دفع شبه التشبيه))، وبيان ضلال المعلق عليه حسن السقاف.
وقد قدم السقاف للكتاب ب (84) وجها:
ذكر في هذه المقدمة أولا: ترجمة لابن الجوزي.
وذكر في الباب الثاني: إثبات التأويل عن السلف.
وذكر في الباب الثالث: أن خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم.
وذكر في الباب الرابع: الحديث الصحيح وما يتعلق به.
وذكر في الباب الخامس: إبطال استدلالات المشبهة على العلو الحسي (ويعني السقاف بالمشبهة: السلف).
وهذا جميع ما ذكره السقاف في مقدمته للكتاب في الجملة، وأعاد كثيرا مما ذكره في المقدمة في أثناء التعليقات على الكتاب، وسوف أتعرض إن شاء الله لما ذكره في المقدمة أثناء ردي عليه في تعليقاته على الكتاب، وقد أذكر كلامه مع كلام ابن الجوزي، ويكون الرد عليهما جميعا.
والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل.(1/9)
*قال ابن الجوزي (ص 100):
(وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث...)).
* أقول: الكلام معه من وجوه:
الوجه الأول: قوله: أوقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات)):
أقول: إن كان يعني ب (الظاهر): ما تدل عليه الأسماء والصفات من المعاني؛ فنعم؛ الأخذ بالظاهر أمر متعين واجب؛ فاسم الله السميع يدل على إثبات السمع لله تعالى، والعليم يدل على إثبات العلم لله تعالى، والرحيم يدل على إثبات الرحمة لله تعالى؛ إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل؛ لأن الله جل ذكره { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ لا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11].
وإن كان يقصد أنهم أخذوا بالظاهر، فجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين؛ لأن بعض أهل البدع يعتقد في صفات الله تعالى أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين؛ فمن ثم ينفون عن الله ما وصف به نفسه؛ فهذا خطأ من وجهين:
الأول: أن السلف لم يجعلوا صفات الله، تعالى مماثلة لصفات المخلوقين، ومن نسب إليهم ذلك؛ فقد أخطأ عليهم.
الوجه الثاني: أن زعم من زعم أن ظاهر الصفات التمثيل أو التشبيه بصفات المخلوقين قول بلا علم، ولا ريب أن من اعتقد أن ظاهر الصفات التمثيل أو الشبيه بصفات المخلوقين قد أخطأ وضل وخالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها؛ لأن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11]؛ فنفى الله جل وعلا عن نفسه مماثلة المخلوقين، وبعد النفي أثبت لنفسه السمع والبصر.(1/10)
ولكن ليعلم أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من الأئمة الأربعة ولا من غيرهم من أئمة الهدى: إن ظاهر الصفات التمثيل، بل كلهم متفقون على، إمرار الصفات كما جاءت، مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها، مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((التدمرية)) المطبوعة ضمن ((الفتاوى)) (3/ 43): ((القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد. فإنه يقال: لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك: فإن كان القائل يعتقد أدى ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم؛ فلا ريب أن هذا غير مراد، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل...)).(1/11)
إلى أن قال رحمه الله: أو إن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع؛ فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد؛ كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون عليه كعلمنا وقدرته كقدرتنا، وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة عالم حقيقة قادر حقيقة؛ لها يكن فرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير؛ فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [البينة: 8]، وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف: 54] وغيرها،: إنه على ظاهره؛ لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حبا كحبه، ولا رضي كرضاه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين؛ لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مرادا، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به؛ لم يكن له نفي هذا الظاهر، ونفي أن يكون مرادا؛ إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا؛ إلا من جنس ما ينفى به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحدا.
وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض وهي قائمة بنا كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.(1/12)
ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير؛ لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا. فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه؛ لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه، فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين؛ فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه؛ كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر؛ فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي)).
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: ((فسقوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل...)): قول بلا علم، وهو أصل التعطيل.
وقد دل العلم على تسمية ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: صفات، والعقل الصحيح لا يخالف السمع الصحيح؛ فإذا صح السمع بتسمية ما وصف الله به نفسه صفات؛ فالعقل يوافقه ولا يخالفه؛ إلا إن كان العقل فاسدا؛ فلا عبرة به.
وأهل العلم والدين يثبتون لله تعالى جميع الصفات التي صحت بها النصوص، لا يعدون ذلك؛ فهم لا يصفون الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يحرفون، ولا يكيفون، ولا يمثلون، وهذا حقيقة الانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتحريف صفات الله تعالى ونفي معانيها وما دلت عليه إلحاد عظيم، وهو من أعظم الكذب على الله تعالى، وقد قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الصف: 7]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [النحل: 116].(1/13)
وأي افتراء أعظم من نفي الأسماء الحسنى والصفات العلى عن الله تعالى ووصفه بصفات العدم؟!
وقد عاب إبراهيم الخليل أباه لكونه يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا؛ كما قال تعالى عن إبراهيم: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } [مريم: 42]؛ فدل ذلك على أن الله يسمع ويبصر، وإلا؛ لقال أبو إبراهيم: وربك كذلك!
ولكن أهل التعطيل لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق؛ فأدى ذلك بهم إلى نفي الصفات عن الله تعالى؛ مدعين نفي مماثلة صفات الخالق للمخلوق.
وأهل السنة لم يقولوا: إن صفات المخلوق تماثل صفات الخالق! وحاشاهم من ذلك، ولكن أهل البدع يلبسون على الخلق، ويدعون أن من اثبت الصفات وأثبت معانيها؛ فقد شبه المخلوق بالخالق، وهذا من جهلهم بالله تعالى.
وأهل العلم والدين يقولون: إن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليس فيه تمثيل للمخلوق بالخالق، ومن زعم ذلك؛ فقد ألحد في أسماء الله وآياته، وحرف الكلم عن مواضعه، وسلك مسلك النفاة الجهمية؛ فكون الله تعالى موصوفا بالرحمة والسمع والبصر واليدين وغير ذلك من صفاته، والمخلوق موصوفا بالرحمة والسمع والبصر واليدين؛ لا يلزم منه مماثلة أو مشابهة، فليست رحمة الخالق كرحمة المخلوق، ولا سمعه كسمعه... وكذلك يقال في سائر الصفات.
وهذا أمر معلوم عند أئمة السلف، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، ولم ينازع في ذلك إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته واتبع هواه.
وأهل البدع الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه قد وقعوا في التعطيل أولا؛ لكونهم سلبوا عن الله تعالى ما سمي ووصف به نفسه، وفي التشبيه ثانيا؛ لأن من لم يصف الله تعالى بصفاته؛ فقد شبهه بالجمادات والناقصات، تعالى الله عن قول الجهمية ومن سلك مسلكهم علوا كبيرا.(1/14)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ((التدمرية)) المطبوعة ضمن ((الفتاوى)) (3/ 48): ((إن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه؛ فيقع في أربعة أنواع من المحاذير:
أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومهاً وعطله؛ بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيء الذي ظنه بالله ورسوله؛ حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل؛ قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.
الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب.
الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات أو صفات المعدومات، فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله وفي الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسماء الله وآياته...).
وابن الجوزي في هذا الموضع قد عطل الله تعالى عن صفات الكمال، وادعى أن تسميتها مبتدعة، بينما في كتابه ((تلبيس إبليس)) (ص 101) قال عن آيات وأحاديث الصفات: ((إنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها...))، وهذا تفويض من ابن الجوزي.
وقال (ص 102) في الطريق السليم من ((تلبيس إبليس)): ((إنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير...)).(1/15)
فقوله: ((من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسيرا: يتنافى مع ما قرره في كتابه ((دفع شبه التشبيه))، وهذا مما يؤكد اضطرابه في العقيدة؛ فتارة يثبت، وتارة ينفي، وتارة يفوض.
ومن ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (4/ 169): ((إن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات، بل له من الكلام في الإثبات نظما ونثرا ما أثبت به كثيرا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف؛ فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس؛ يثبتون تارة، وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات؛ كما هو حال أبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي)).
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: ((ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث)): من أعظم الجهل وأقبحه، وهذا القول من ابن الجوزي مبني على أن ظاهر النصوص التمثيل بصفات المحدثين، وهذا الفهم الفاسد جعله يدأب لنفي ما فهمه، فوقع في التعطيل ثم التشبيه، وسببه هذا الفهم العاطل، وقد تقدم رد هذا الفهم وإبطاله؛ فإن الله جل وعلا متصف بصفات الكمال، وصفاته لائقة به.
وأهل الباطل مضطربون في هذا الباب أشد الاضطراب؛ فإن منهم من ينفي جميع ما وصف الله به نفسه، ومنهم من يثبت بعض الصفات وينفي بعضها؛ فيقولون: لله حياة ليست كحياتنا، وينفون عن الله اليدين والقدم ونحو ذلك!! وهذا تناقض؛ فمن أثبت لله الحياة؛ لزمه إثبات سائر الصفات، والذين أثبتوا لله تعالى القدم واليدين والسمع والبصر ونحو ذلك متفقون ومجمعون على أن يد الله ليست كأيدينا، وقدمه ليست كأقدامنا.(1/16)
ثم إنه يقال لمن زعم أن وصف الله تعالى بالقدم واليدين والسمع والبصر يلزم منه التشبيه؛ يقال: يلزم مثل ذلك أيضا فيمن أثبت الحياة والقدرة؛ فإذا لزم التشبيه في وصف الله بالقدم واليدين والصورة؛ لزم التشبيه في وصف الله بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، إذا؛ لا فرق بين ذلك، ولكن أهل الباع لا يفقهون، وأصولهم يناقض بعضها بعضا؛ لأنها مبنية على الجهل والضلال ومخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأثمنها.
ثم إن قول ابن الجوزي: ((ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر...)): يقال عنه: إن لفظة (الظاهر) صارت لفظة مشتركة؛ فإن الظاهر عند أهل العلم والدين الذين اتبعوا كتاب ربهم وسنة نبيهم ولم يركنوا إلى أهل الكلام وعلومهم يخالف الظاهر الذي يطلقه من تأثر بآراء المتكلمين واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يقل أحد من أهل العلم والدين: إن ظاهر استواء الله على عرشه ورحمته ومحبته ونحو ذلك مثل استواء المخلوق ورحمته ومحبته، ومن قال ذلك؛ فقد شبه الخالق بالمخلوق، وهذا كفر صريح، ولكن لا يكفر المعين حتى تقوم الحجة عليه.
والله جل وعلا ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، وهذا أمر يجب القطع به، وطرح ما سواه من الترهات والأباطيل والأوهام المشككة في عقائد المسلمين.
والمسلمون متفقون مجمعون على أن الظاهر من قوله تعالى:
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [الأعراف:54،وغيرها]: أن الله جل وعلا عال على خلقه، مستو على عرشه، وهذا مراد يزيد بن هارون رحمه الله؛ إذ يقول: ((من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة؛ فهو جهمي)) (1).
*قال ابن الجوزي (ص 100) أيضا:
__________
(1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب((السنة)) (1/ 123).(1/17)
((ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات؛ قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة؛ مثل: يد على نعمة، وقدرة ومجيء وإتيان على معنى بر ولطف، وساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين...)).
* أقول:
لم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة الهدى والدين: إن ظواهر الصفات هو المعهود من نعوت الآدميين، بل إنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، وقالوا: من شبه الله بخلقه؛ فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه؛ فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه أو ما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيها.
وحمل صفات الله تعالى على الظاهر ليس تشبيها كما يظنه من تأثر بآراء المتكلمين؛ فإن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11]؛ فنفى الله جل وعلا عن نفسه مماثلة المخلوقات، وأثبت لنفسه الصفات، وليس بعد هذا البيان بيان لمن عقل أمر الله.(1/18)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (33/ 175): ((... الظاهر من فطر المسلمين قبل الأهواء وتشتت الآراء، وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى؛ كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته؛ كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والمحبة، والغضب، والرضى؛ كقوله: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75]، و((ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة))... إلى غير ذلك؛ فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا أو أجساما؛ لأن ذواتنا كذلك، وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه الكريمة؛ فكما أن لفظ (ذات) و (وجود) و (حقيقة) تطلق على الله وعلى عباده، وهو على ظاهره في الإطلاقين، مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله مساويا لظاهره في حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا أو حدوثا، سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة...)).
وقول ابن الجوزي: ((قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة؛ مثل: يد على نعمة): يقال: قد أصابوا في ذلك؛ فإن حمل اليد على النعمة لا يصح البتة، بل هو من أعظم الإلحاد والتحريف.
فهل يصح أن يقال في قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]؛ أي: نعمتي؟! فهذا من أعظم الباطل وأقبح التحريف؛ فإن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى؛ كما قال تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34].
ومن فسر قوله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ؛ بمعنى القدرة؛ فتحريفه أعظم من سابقه؛ فإن الله جل وعلا خلق جميع الخلق بقدرته؛ فلا يكون لآدم مزية على غيره، وهذا واضح جلي لمن لم تجتله الشياطين عن فطرته.(1/19)
وسيأتي إن شاء الله زيادة بيان وإيضاح لهذه المسألة، وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فلا يصح حملها على القوة ولا على النعمة، وصرف الكلام عن ظاهره بدون دليل تحكم.
والأدلة على إثبات اليدين لله تعالى- وكلتا يدي ربي يمين- كثيرة جدا من الكتاب والسنة:
قال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ... } [الزمر: 67].
ولئن حرف أهل البدع الآية المتقدمة من إثبات اليدين لله تعالى، وحملوها على معنى القدرة أو النعمة مع بطلانه لغة وشرعا؛ فهل يصح حمل هذه الآية على النعمة أو القدرة؟! هذا ما لا سبيل لهم إليه؛ فلا يصح أن يقال: { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ؛ أي: بقدرته أو نعمته؛ فإن القدرة لا يمين لها، كذلك النعمة!!
يوضح ذلك ويبينه ما رواه مسلم في ((صحيحه)) (1827) عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن جل وعلا، وكلتا يديه يمين...))؛ فلا يصح أن يقال: وكلتا قدرتيه يمين، أو نعمتيه!!
فإذا بطل هذا القول؛ وجب الانقياد والإذعان لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يصف الله أحد من البشر أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف ربه كما وصف الله به نفسه؛ بأن له يدين، وهاتان اليدان حقيقيتان؛ فيجب إثباتهما لله تعالى؛ إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل؛ فالله جل وعلا: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11].(1/20)
ثم إن ابن الجوزي أراد أيضا حمل مجيء وإتيان الرب جل وعلا على معنى (بر) و(لطف)، وهذا خلاف مذهب السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فإن السلف يثبتون لله تعالى الإتيان والمجيء على ما يليق بالله جل وعلا؛ قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر: 22]، ومن قال في هذه الآية: جاء بره ولطفه؛ فقد ألحد في آيات الله تعالى، وحرف الكلم عن مواضعه؛ كتحريف اليهود.
وقول السقاف معلقا على قول ابن الجوزي المتقدم في تأويل المجيء والإتيان؛ قال: ((وقد ثبت كما قدمنا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أول قول الله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } بمعنى: جاء ثوابه؛ كما هو ثابت عنه بالإسناد الصحيح في (البداية والنهاية)): تعلق بما هو أوهى من ببت العنكبوت.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم لا يتأولون مجيء الرب بمجيء ثوابه؛ كما أنهم لا يتأولون الرحمة بإرادة الإنعام، ولا المحبة بالرضى أو علامة القبول، ولا الساق بالشاة، وما نقل عن أحمد رحمه الله فيما يخالف ذلك؛ كالذي نقله البيهقي وابن كثير، واحتج به الجهمي السقاف؛ يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: قيل: إن ذلك من رواية حنبل عنه، وحنبل ينقل عن أحمد رحمه الله ما لا ينقل غيره، بل ينقلون خلافه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((مختصر الصواعق)) (ص: 395): ((إن حنبلا تفرد بها عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، و إذا تفرد بما خالف المشهور عنه؛ فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع؟ فكيف في هذه المسألة؟!))
الوجه الثاني: قيل: إن الإمام أحمد رحمه الله قال ذلك على وجه الإلزام لخصومه.(1/21)
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/ 75): ((إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له؛ فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قولوا: يجيء كلامه مجيء ثوابه! وهذا قريب)).
قال ابن القيم رحمه الله: (فأحمد ذكر ذلك على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه، لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به)(1).
الوجه الثالث: أن يقال: إن ذلك وقع من أحمد ثم رجع عنه؛ لأن أكثر النقول عن أحمد رحمه الله مصرحة بعدم التأويل في جميع الصفات، بل كان ينكر على من يتأول شيئا من آيات أو أحاديث الصفات، ويزجر من يفعل ذلك، وربما هجره وهجر مجلسه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (5/ 401): ((ولا
ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول: إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك)).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله على رواية حنبل- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 391)-: ((وهذه رواية: إما شاذة، أو أنه رجع عنها؛ كما هو صريح عنه في أكثر الروايات، وإما أنها إلزام منه ومعارضة لا مذهب، وهذا الاختلاف وقع نظيره في مذهب مالك؛ فإن المشهور عنه وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها، وقد روي عنه أنه تأول قوله: (ينزل ربنا)؛ بمعنى: نزول أمره، وهذه الرواية لها إسنادان:
أحدهما: من طريق حبيب كاتبه، وحبيب هذا غير حبيب، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله.
والإسناد الثاني: فيه مجهول لا يعرف حاله.
فمن أصحابه من أثبت هذه الرواية، ومهم من لم يثبتها؛ لأن المشاهير من أصحابه لم ينقلوا عنه شيئا من ذلك)).
__________
(1) انظر: ((مختصر الصواعق)) (391).(1/22)
أفول: وهذا هو الحق؛ فإنه لا يشك من له معرفة بصناعة الحديث ومذهب مالك أن النقل عن مالك في تأويل النزول لا يصح، بل هو كذب مفترى , وأهل الباطل يتعلقون بمثل هذه الأباطيل، ويدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم على إثبات
إمرارها كما جائت مع فهم معناها وإثبات حقائقها.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (5/401))
على الحكاية المنقولة عن مالك في تأويل النزول؛ قال رحمه الله:
((وكذلك ذكرت هذه رواية عن مالك رويت من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب، لكن هذا كذاب باتفاق أهل العلم بالنقل، لا يقبل أحد منهم
نقله عن مالك، ورويت من طريق أخرى ذكرها ابن عبد البر، وفي إسنادها من لا نعرفه...)).
والحاصل أن التأويل لا يصح عن الإمام أحمد ولا عن مالك، وليس
هو مذهباً للسلف، ولا يتعلق بما ينقل عن الأئمة- وهو إما خطأ عليهم، أو كذب، أو غير ذلك مما يشبهه-؛ إلا من في قلبه زيغ ومرض.
وقد أجاد العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى؛ حيث يقول
- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 391)-:
((فصل: وها هنا قاعدة يجب ا لتنبيه عليها، وهي أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما تأويل شيء في موارد النزاع لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية أو الحديث، وهو نظير اختلافهم في تفسير آيات أو أحاديث؛ مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [النجم: 13]؛ فقال ابن عباس: رأى ربه. وقالت عائشة: بل رأى جبرائيل. وكتنازع ابن مسعود وابن عباس في قوله تعالى:
{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [الدخان: 10]؛ فقال ابن مسعود: هو ما أصاب قريشاً من الجوع، حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان. وقال ابن عباس: هو دخان يجيء قبل يوم القيامة. وهذا هو الصحيح... ونظائر ذلك؛ فالحجة هي التي تفصل بين الناس)).(1/23)
أقول: وعلى ذلك دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؛ فمن جاء بالحجة؛ قبل قوله، ومن لم يأت بها؛ رد قوله، وإن كان عالماً جليلاً؛ فالحجة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء: 159]، والرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته والتحاكم إليها.
فإذا رددنا الاختلاف في آيات وأحاديث الصفات؛ وجدنا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ترك التأويل الباطل، ووجوب إثبات الصفات لله تعالى.
ومن ذلك المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك؛ فإن الله جل وعلا
أثبت مجيئه وإتيانه، وقد تقدم قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [ الفجر: 22].
وأما الإتيان؛ فقد قال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [البقرة: 210]،وقال تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } [النعام: 158]؛ ففرق الله جل وعلا بين
إتيان الملائكة وإتيانه بنفسه، وهذا ظاهر، وقد قال مجاهد على قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } ؛ قال: ((يوم القيامة لفصل القضاء))(1).
__________
(1) انظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/ 96)، و((تفسير عبد الرزاق)) (1/2 / 222)، و((تفسير ابن كثير)) (2/ 200- 201)، و((مختصر الصواعق)) (ص 294- 295)، و((الدر المنثور)) (3/ 388).(1/24)
وقد حرف هذه الآية وما في معناها من إثبات الإتيان لله جل وعلا الجهمي المعطل الكوثري في تعليقه على كتاب ((الأسماء والصفات)) للبيهقي، وقال: ((قال الزمخشري ما معناه: يأتي الله بعذاب في الغمام الذي ينتظر منه الرحمة، فيكون مجيء العذاب من حيث تنتظر الرحمة أفظع وأهول. وقال إمام الحرمين: { فِي } بمعنى الباء. كما سبق. وقال الفخر الرازي: أن يأتيهم أمر الله...)).
وهذا كله تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للآيات عن معناها بتأويلات مستكرهة موروثة عن الجعد بن درهم.
وما تقدم فيه كفاية في الرد على من تأول الإتيان بالتأويلات الباطلة.
وأما قول الكوثري. ((قال الزمخشري))؛ فأقول: وإن كان الكوثري شراً من الزمخشري؛ إلا أن الزمخشري معتزلي متلاعب بكتاب الله جل وعلا، محرف للكلم عن مواضعه.
وقد قال العلامة حمد بن عتيق رحمه الله كما في ((الدرر السنية)) (10/ 15): ((ومن أبلغ الناس بحثاً في المعاني الزمخشري، وله في ((تفسيره)) مواضع حسنة، ولكنه معروف بالاعتزال، ونفي الصفات، والتكلف في التأويلات الفاسدة، والحكم على الله بالشريعة الباطلة، مع ما هو عليه من مسبة السلف، وذمهم، والتنقص بهم، وفي تفسيره عقارب لا يعرفها إلا الخواص من أهل السنة، وقد قال فيه بعض العلماء:
ولكنه فيه مقال لقائل ... وزلات سوء قد أخذن المخانقا
ويسهب في المعنى القليل إشارة ... بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلاً ... وكان ممجًا في الخطابة وامقاً
ويشتم أعلام الأئمة ضلة ... ولا سيما إن أولجوه المضائقا
لئن لم تداركه من الله رحمة ... لسوف يرى للكافرين مرافقا
وأما نقل الكوثري عن الرازي؛ فسيأتي إن شاء الله تعالى ترجمة لبيان حال الرازي، وبيان ما هو عليه من الاعتقاد، وكلام العلماء فيه؛ حتى لا يغتربه من لا يعرف حاله.
* قال ابن الجوزي (ص 101):(1/25)
((فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه (يعني: مذهب أحمد) ما ليس منه! ثم قلتم في الأحاديث: تحمل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة...)).
* أقول:
اتفق السلف على مراعاة الألفاظ في باب الأسماء والصفات؛ فلا يثبت لله تعالى إلا ما جاءت به النصوص، ولا ينفى إلا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقول ابن الجوزي: ((وظاهر القدم الجارحة)): ابتداع في الدين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت القدم لله تعالى، كما في ((الصحيحين)) وغيرهما عن ا أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه، فتقول: قط قط))؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت لربه صفة القدم، ولم يتكلم في الجارحة، وكذلك أصحابه من بعده لم يتكلموا في الجارحة لا نفياً ولا إثباتاً.
وأهل الأهواء يتكلمون بمثل هذه الألفاظ، ويوقعون الناس في لبس وجهل وضلال؛ لأن هذه الألفاظ ألفاظ مجملة؛ تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، وأهل البدع لا يريدون بها إلا باطلاً وتكذيباً للحق وتصديقاً للباطل.
والأصل الذي قرره غير واحد من أهل العلم، خصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن مثل هذه الألفاظ (أعني: الجسم، والحيز، والعرض، ومثل ذلك الجارحة) لا تثبت ولا تنفى حتى يعرف مراد المتكلم بها.
وأهل الأهواء والبدع كالجهمية والأشاعرة والإباضية وغيرهم من أهل الإلحاد لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق؛ فهم يتوهمون أنهم إذا أثبتوا لله تعالى قدماً والمخلوق له قدم؛ فقد شبهوا الخالق بالمخلوق -تعالى الله عن قولهم-، ومن ثم؛ جرهم هذا الفهم الفاسد إلى نفي صفات الله تعالى أو بعضها.(1/26)
وبعض أهل الجهل يقول: ظاهر الاستواء المماسة، وظاهر القدم واليدين الجارحة... ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة؛ فهم يحدثون في الدين ما ليس منه، وينفون بهذه الألفاظ المحدثة المبتدعة ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، وهذا من أعظم الجهل والضلال.
والواجب على جميع المسلمين أن لا يتكلموا إلا بما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك الألفاظ المحدثة التي تورث الشبه والشكوك، فلو كان فيها خير للأمة؛ لتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولنشرها أصحابه من بعده؛ فإنهم أحرص الناس على الخير، فلما لم يتكلموا فيها لا نفياً ولا إثباتاً؛ علم أن الكلام فيها بدعة وضلالة وإحداث في الدين ما ليس منه.
والحاصل أن صفة القدم جاءت بها النصوص الصحيحة؛ فلا ترد بألفاظ مجملة مبتدعة، كلفظة (الجارحة)، ومن نفى عن الله تعالى صفة القدم بمثل هذه الشبهة ونحوها من الشبه الباطلة؛ فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولا إخال مخالف ذلك إلا مبتدعاً ضالاً، إن لم يكن كافراً معانداً، أو زنديقاً مارقاً، يبث الشبه بين المسلمين؟ ليفسد عليهم دينهم.
* قال ابن الجوزي (ص102):
((ومن قال: استوي بذاته؛ فقد أجراه مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل، وهو العقل؛ فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت! ما أنكر عليكم أحد، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح؛ فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه، ولقد كسيتم هذا المذهب شيناً قبيحاً، حتى صار لا يقال: حنبلي؛ إلا مجسم...)).
* أقول: جواب هذا الكلام الباطل من وجوه:
الوجه الأول: أن قوله: ((ومن قال: استوى بذاته؛ فقد أجراه مجرى الحسيات)):(1/27)
قول مخالف للكتاب والسنة، وهذا اللازم لا يلزم؛ فإن السلف إذا قالوا: استوى على العرش؛ لا يتكلمون فيما عدا ذلك، وإلزام أهل الأهواء لعلماء السلف أن ذلك يجري مجرى الحسيات لازم باطل؛لأن أهل الأهواء _ كما تقدم _لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق،ومن ثم يحدثون ألفاظاً مبتدعة، ومع ذلك ينفون بها النصوص الصريحة؛فيبتدعون أولاً، ويعطلن ثانياً،ويشبهون ثالثاً.
وسيأتي إن شاء الله الكلام على الاستواء ولفظة (الذات) فيه.
الوجه الثاني: أن قوله: ((فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت؛ ما أنكر عليكم أحد)): يقال عنه: إن قراءة الآيات والأحاديث في الصفات من غير فقه لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منها ضلال عظيم، وهذا مذهب المفوضة، ويزعمون جهلاً منهم وضلالا أن هذا هو مذهب السلف وهذه طريقتهم،وهذا إما كذب عليهم- وما أرخص الكذب عند أهل الأهواء -،وإما خطأ؛ فإن مذهب السلف قراءة آيات الصفات وأحاديثها مع فهم معانيها، واعتقاد ما دلت عليه؛فوصف الله تعالى بالرحمة يدل على أن لله تعالى رحمة يرحم بها عباده، ووصف الله بالسمع يدل على أن لله سمعا يسمع به كلام عباده... وأهل الباطل سلطوا التأويل على ذلك؛ فمنهم من نفى عن الله تعالى صفة الرحمة والسمع وغير ذلك، ومنهم من قال:هذه ألفاظ تثبت لله تعالى، ولكنها لا تعقل معانيها، ولا يدرى ما المراد منها، وانبرى قسم من هذا الصنف وقالوا:لا تقرأ آيات ولا أحاديث الصفات عند العامة، وهذا تعطيل لأصل من أعظم أصول الدين.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((مدارج السالكين)) (3/363): ((لا يستقر للعبد قدم في المعرفة – بل ولا في الإيمان-حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله،ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه؛فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان،وثمرة شجرة الإيمان...)).(1/28)
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه((الرد على الطوائف الملحدة)) القول في تفنيد قول من قال:لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام؛فليراجع(6/327-الفتاوى المصرية).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله مبيناً مذهب المفوضة-وهم أهل التجهيل– ومفند ا قولهم؛ قال (ص540– مختصر الصواعق):
((والصنف الثالث: أصحاب التجهيل، الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يدري ما ا أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله وهي عندنا بمنزلة { كهيعص } [مريم: 1]، { حم. عسق } [الشورى:1-2]، و { المص } [الأعراف:1]؛ فلو ورد علينا منها ما ورد؛ لم نعتقد فيه تمثيلا ولا تشبيها، ولم نعرف معناه، وننكر على من تأوله، ونكل علمه إلى الله تعالى !!
وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف،وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات،ولا يفهمون معنى قوله: { لما خلقت بيدي } [ص: 75]، وقوله: { وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الزمر: 67]وقوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . [الأعراف: 54، وغيرها]...وأمثال ذلك من نصوص الصفات.
وبنوا هذا المذهب على أصلين:
أحد هما: أن هذه النصوص من التشابه.
والثاني:أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله.(1/29)
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون هذه الآيات المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريد به، ولازم قولهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه. ثم تناقضوا أقبح تناقضن، فقالوا: تجري على ظواهرها، وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل، ومع ذلك؛ فلها تأويل لا يعلمه إلا الله !! فكيف يثبتون لها تأويلا، ويقولون: تجري على ظواهرها، ويقولونك: الظاهر منها مراد، والرب منفرد بعلم تأويلها؟! وهل في التناقض أقبح من هذا؟! وهؤلاء غلطوا في المتشابه،وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله؛ فأخطئوا في المقدمات الثلاث، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين، وسدوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ،ولا وصول لنا إلى الصواب!! فتركوا التدبر المأمور به والتعقل لمعاني النصوص، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التي أنزلت في ذلك،وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها،وأولئك جعلوها عرضة للتأويل والتحريف؛كما جعلها أصحاب التخيل أمثالا لا حقيقة لها)). وقول ابن الجوزي: فلو أنكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت؛ ما أنكر عليكم أحدا)): يقال:لا يضر المنكر إلا نفسه،ولا يهلك إلا نفسه،ولا يضر إنكار أهل الباطل وقيامهم على أهل الحق؛ فإن أهل الأهواء أهل ظلم وبغي وجهل مطبق، وسيرتهم معروفة،ومناهجهم مكشوفة، وأهل الحق لا يدعون بيان الحق، خصوصا في مثل هذه المسألة التي هي أصل من أصول الدين من أجل جعاجع المبطلين المعطلين وتكالبهم على أهل الحق والدين، وما من صاحب حق ودعوة مبنية على الكتاب والسنة؛إلا ويقيض الله له أعداء يؤذونه ويعادونه، والله جل وعلا ناصر دينه وكتابه وإن رغمت أنوف أهل الأهواء،الذين نصبوا العداوة لأهل الحق، واختلفوا(1/30)
عليهم الأكاذيب، ورموهم بعظائم الأمور، وبهتو هم.اللهم! فعياذا بك ممن كانت هذه صفته وهذه مسلكه وسبيله.
الوجه الثالث:أن قول ابن الجوزي:((إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح)): يقال عنه ويجاب:إن حمل الصفات على ظاهرها وإثبات حقائقها لله تعالى دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما تقدم.إن ابن الجوزي أن القبيح حمل الصفات على ظواهرها التمثيل بصفات المخلوقين؛فهذا كما قال،ولكن لم يقل أحدا من السلف: إن ظواهر الصفات هو التمثيل؛كما وضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في ((التدمرية))،وقد تقدم النقل عنه. وكذلك لم يقل أحد من السلف بتمثيل صفات الخالق بالمخلوق، ومن و من نسب ذلك إليهم؛ فقد أخطأ عليهم أقبح الخطأ. وأهل البدع ينسبون مثبت الصفات لله تعالى على وفق ما جاءت به النصوص إلى التشبيه، وينسبونه إلى الأخذ بالظاهر، والظاهر عند هم هو التمثيل؛فينبغي التنبه لذلك.
الوجه الرابع:أن قول ابن الجوزي: ولقد كسيتم هذا المذهب شينا قبيحا حتى صار لا يقال: حنبلي؛إلا مجسم)): يقال عنه:إن معظم المنتسبين لمذهب الإمام أحمد رحمه الله على مذهب السلف في باب الأسماء والصفات وغيره من الأبواب،ومذهبهم في هذا الباب أقرب إلى الدليل من المذاهب الأخرى،وقد زانوا مذهب إمامهم في اعتقادهم الحسن، وأخذهم بالكتاب والسنة، وتركهم التأويل الباطل والتحريف والتعطيل،وهجرهم لأهل البدع، ومصار متهم إياهم،وكشفهم عوارهم، وهتكهم أستارهم، ومن عاب من كانت هذه صفته وسماه مجسما؛ فإنما ينبئ عن سوء عقيدته، ويهتك ستر نفسه، ويكشف عن طويته المتلوثة بالبدع والضلالات، ولا يضر المثبتين لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته لنفسه له رسول محمد صلى الله عليه وسلم تلقيب أهل البدع لهم بألقاب مكذوبة مفتراة؛كالحشوية، والمجسمة...ونحو ذلل من الألفاظ التي هم أحق بها وأهلها.(1/31)
وقد قال أبو حاتم وغيره من علماء السلف: ((علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل الأثر حشوية؛يريدون إبطال الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وعلامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ونابتة...))(1) ومن نظر في كتب أهل البدع من المتقدمين منهم والمتأخرين؛ علم صدق ما قاله أبو حاتم رحمه الله؛ فكتب الكوثري والسقاف وأضربهما من الجهمية مليئة بسب علماء السلف، ورميهم بالتجسيم، ووصفهم بالحشوية ونحو ذلك.
وسالك الصراط المستقيم لا يتزعزع عن الطريق السوي، ولا يدعه من أجل شناعة المشنعين وطعن الطاعنين، بل لا يزيده ذلك إلا طمأنينة ومعرفة للحق وتمسكا به.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله بعدما ذكر بعض صفات الرب جل وعلا؛ قال: ((فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما، كما أنا لا نسب للصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصغاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية؛ ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها:
فإن كان تجسيما ثبوت استوائه ... على عرشه إني إذا لمجسم
وإن كان تشبيها ثبوت صفاته ... فمن ذلك التشبيه لا أتكتم
وإن كان تنزيها جحود استوائه ... وأوصافه أو كونه يتكلم
فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا ... بتوفيقه والله أعلى وأعلم (2)
* قال السقاف(102، تعليق رقم 18):
((قال العلامة ابن الأثير في كتابه((الكامل)): قال الحسن البصري:
__________
(1) انظر: ((العلو)) (ص 139) للذهبي، و((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) لللالكائي(2/ 179).
(2) الصواعق) (3/940).(1/32)
أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إ لا واحدة؛لكانت موبقة:انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة،وذوو الفضيلة، واستخلا فه بعده ابنه –يزيد-؛ سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير - أي: العود، وهو من آلات اللهو _، وادعاؤه زيادً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))، وقتله حجراً _ وهو أحد الصحابة العباد _ وأصحاب حجر؛فيها ويلاً له من حجر !ويا ويلاً له من حجر وأصحب حجر. انتهى كلام ابن الأثير، وما بين الشرطتتين إيضاح مني...))
وقال السقاف (ص 236)
((وكان معاوية بن سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر يوم الجمعة، فجعل لعنه كأنه أحد أركان الخطبة؛ ففي ((صحيح مسلم)) (4/1874برقم 2409) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه؛ قال: ((استعمل على المدينة رجل من آل مروان.قال:فدعا سهل بن سعد، فأمره أن يشتم علياً.قال: فأبى سهل،فقال له: أما إذا أبيت؛ فقل: لعن الله أبا تراب...)) ولم يمتثل لأمره سهل رضي الله عنه ,
قلت:ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛قال له ((ولست تاركاً إصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه)) انتهى من ((الكامل)).
أقول: الجواب عن هذا الكلام من وجهين: مجمل ومفصل: فأما المجمل؛فيطالب السقاف الجهمي بصحبة ما نقله عن الحسن البصري في شأن معاوية رضي الله عنه.
والقول بأن ابن الأثير ذكره في ((الكامل)) لا يكفي،وليس هذا من العلم في شيء فإن ابن الأثير لم يروه أولاً بالسند، ثانياً:أهل السير والتواريخ يذكرون ما وقفوا عليه من الأخبار صح مخرجه أولم يصح، وقليل من أهل السير والتواريخ من يمحص ما ينقله.ومن آنس من نفسه علماً وإنصافاً؛ علم يقيناً عدم صحة ما ذكر عن الحسن البصري، وأنه كذب مختلق.(1/33)
برهان ذلك أن أثر الحسن قد رواه محمد بن جرير الطبري في ((تاريخه)) (3/232)؛ قال: ((قال أبو مخنف، عن الصقعب بن زهير، عن الحسن، به)).
وهذا سند موضوع:
أبو مخنف _واسمه لوط بن يحيى _: أخباري متروك، ولا يحتج بأخباره إلا جاهل بأمره أو شيعي محترق، وأكثر الحكايات المكذوبة التي تروي عن الصحابة وغيرهم يكون من طريقة.
قال أبو حاتم _كما في ((الجرح والتعديل)) (7/182) _: ((أبو مخنف متروك الحديث)).
وقال ابن معين: ((ليس بشيء)).
قال ابن عدي في ((الكامل)) (6/ 2110): ((وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمة؛ فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته وباسمه، حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعي محترق...)).
وقال الدار قطني:((ضعيف)).
وقال الذهبي في (3 / 419): ((أبو مخنف أخباري تالف، لا يوثق به...)).فإذا علم بطلان هذا الأثر، وأنه موضوع؛ فالاستدلال به لهضم مكانة الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان وتنقصه من أعظم الضلال والزيغ، وهذه بضاعة المفلس من العلم النافع،إذا لم يجد ما يؤيد به دعواه وباطله وفجوره؛ ركن إلى الكذب والبهت، وأي كذب بهت أعظم من الكذب على الصحابة وبهتهم وتقو يلهم ما لم يقولوا ورميهم بالنقائص؟!
قال الإمام الثقة الثبت أبو زرعة رحمه الله تعالى:((إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعلم أنه زنديق،وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة،
والجرح بهم أولى، وهم زنادقة))، رواه الخطيب في ((الكفالة)) (ص97).(1/34)
وقد اتفق المسلمون على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة (1)، وكان أحاديث...)). ومعاوية رضي الله عنة ممن أسلم عام فتح مكة مع من أسلم،وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عدة غزوات؛كحنين وغيرها،وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه أنزل سكينته يوم حنين على رسوله وعلى المؤمنين، ومعاوية رضي الله عنه ممن شهد حنينا فدخل في الآية.
قال تعالى: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين...َ } [ التوبة:25- 26].
ومعاوية رضي الله عنه ممن اقتفى أثر السابقين الأولين، وسار بسيرتهم، واتبعهم بإحسان، وقد رضي الله عن السابقين الأولين وعمن اتبعهم بإحسان:
كما قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100].
__________
(1) انظر:((فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله)) (4/478).(1/35)
وقال تعالى: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح:29].
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله على هذه الآية((فهذا يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلقا))(1).
أقول: ويؤخذ من الآية وما قبلها فضل الصحابة جميعا رضي الله عنهم، ووجوب محبتهم واحترامهم وتوقيرهم وذكر محاسنهم؛ لتألفهم القلوب، ويحب الكف عن مساويهم، والإمساك عما شجر بينهم، لئلا تنفر منهم القلوب، ويجب التنكيل بمن يعاديهم وبغضهم، أو يسبهم، أو ينقصهم، أو ينتقص أحدا منهم.
ومن هاتين الآيتين وغيرهم من الآيات يتبين ظلال الروافض وخبثهم وبعدهم عن الكتاب والسنة، وقد كفرهم غير واحد من أهل العلم.
وقد انتزع الإمام مالك رحمه الله من قوله تعالى: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } كفر الرافض.
قال ابن كثير رحمه الله في((تفسيره))(2) على هذه الآية:((لأنهم يغيظونهم،ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم؛ فهو كافر؛لهذه الآية)).
ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك.
__________
(1) انظر: ((فتاوى شيخ الإسلام)) (4/463).
(2) 4/ 219)،وانظر:((شرح السنة)) (1/ 229) للبغوي رحمه الله.(1/36)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في((العقيدة الوسطية)):((ومن أصول أهل السنة والجماعة:سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما وصفهم الله به في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم }
[الحشر:10])).
أقول: وقد خالف الروافض ومن سلك مسلكهم من أهل الزيغ والإلحاد مذهب أهل السنة والجماعة في وجوب احترام الصحابة وتطهير الألسنة من سبهم وذمهم وذكر مساويهم، وقد أحبر الله جل وعلا أن الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، والروافض لجهلهم وضلالهم وفساد عقائدهم يلعنونهم ويسبونهم وقد أمروا بالإستغفار لهم؛ فخالفوا الكتاب والسنة، واتبعوهم أهواءهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في((زاد المعاد)) (5/869):((ولهذا أفتى أئمة الإسلام كمالك والإمام أحمد وغيرهما أن الرافضة لاحق لهم في الفيء؛لأنهم ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار ولا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [ الحشر: 10]، وهذه مذهب أهل المدينة، واختار شيخ الإسلام ابن تيميه، وعليه يدل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين)).(1/37)
وقد زاد في الزمان طغيان الروافض على أوائلهم، وعظم كفرهم، وأعلنوا براءتهم من أبو بكر وعمر جهارا، ومع ذلك؛حصل من قبل الكثيرين تساهل من جهتهم،وولوا بعض المناصب؛ فأين الدين؟! وأين الولاء والبراء؟! وأين سل السيف عليهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون، عاد الدين غريبا كما بدأ، وجاهر أهل البدع والفجور ببدعهم وفجورهم،وشتموا أخيار الأمة، واختلقوا الأكاذيب عليهم ليشينوهم؛ فالله المستعان(1)
والحاصل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من جملة الصحابة الذين ثبتت فضائلهم ووجبت جبت محبتهم واحترامهم وموالاتهم.
__________
(1) ذكر العلامة ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)) (14/310)قصة عظيمة،فيها ما يسر المؤمنين،ويغيظ المنافقين؛ قال رحمه الله في حوادث سنه ست وستين وسبعماية:
((وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود ابن إبراهيم الشيرازي، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنهما،فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، فاستتابه عن ذلك، وأحضر الضرب؛ فأول ضربة قال: لا إله الله، علي ولي الله !ولما ضرب الثانية؛ لعن أبا بكر وعمر، فالتهمه العامة، فأوسعوه ضربا مبرحا؛ بحيث كاد يهلك،فجعل القاضي يستكفهم عنه، فلم يستطع ذلك، فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة، وقال: كانوا على الضلال. فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة، وشهد عليه قوله بأنهم كانو على الضلالة؛ فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه؛ فأخذ إلى ظاهر البلد، فضربت عنقه، وأحرقته العامة قبحه الله، وكان ممن يقرأ بمدرسة أبي عمر ثم ظهر عليه الرفض، فسجنه الحنبلي أربعين يوماً، فلم ينفع ذلك، ومازال يصرح في كل موطن يمر فيه بالسب، حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع، وكان سبب قتله قبحه الله من كان قبله))
فما أحسن هذا وأعظمه لو عمل به قضاة هذا الزمان وأجري هذا الحكم على روافض زماننا؛ فكفرهم فوق كفر المقتول؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/38)
وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما؛ فطريقة أكثر علماء السلف الإمساك عما شجر بينهما.
وقد دلت السنة على أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أقرب إلى الحق من معوية، وهذا لا يقدح في معاوية وفضله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم،فاجتهد، ثم أخطأ؛ فله أجر))، رواه الشيخان وغيرهما عن عمرو بن العاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((العقيدة الواسطية))ذاكراً بعض أصول أهل السنة والجماعة؛ قال (1):
((ويمسكون عما شجر بين الصحبة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات مالا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به،كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب؛ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.
فإذا كان هذا من الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا؛ فلهم أجران، وإن أخطئوا؛ لهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟!
ثم القدر الذي ينكر من فعلهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم؛من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
__________
(1) انظر ((فتاوى شيخ الإسلام)) (3/154_ 155).(1/39)
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة،التي هي خير الأمم وأكرمها على الله)). الوجه الثاني: أن ما نقله السقاف عن ابن الأثير من معاوية:((إنه أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة)): قد تقدم أن الحسن لم يقل ذلك، وأنه مختلف عليه مكذوب. ثم إن هذا أيضا من الكذب على معاوية رضي الله عنه، والكذب مجانب الإيمان، والكذب على الصحابة ليس كالكذب على من بعدهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال))، حديث صحيح،رواه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر، وروى أبو داود وغيره عن المستورد رضي الله عنه؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كسي ثوبا برجال مسلم؛ فإن الله يكسوه مثله من جهنم،ومن قام برجل مقام سمعة ورياء؛ فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة))
ومعاوية رضي الله عنه لم يأخذ الأمر من غير مشورة كما زعمه من زعمه، إنما سلم له الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر وبايعه، وحقن بذلك دماء المسلمين، وكان معاوية والحسن كل منهما قد سار بعساكره، ولكن –ولله الحمد والمنة –لم يقع بينهما قتال، وسمي هذا العام عام الجماعة؛ لاجتماع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن: ((ابن هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين))، رواه البخاري عن أبي بكرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتاوى))(4/467):
((دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، أن الذي فعله الحسن كان محمودا عند الله تعالى محبوبا مرضيا له ولرسوله)).
قلت:وقد حصل ولله الحمد بتوليه معاوية خير عظيم للأمة.(1/40)
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في)) (6/232.): ((فلم يكن ملوك المسلمين ملك خير من معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده...)).
والحاصل أن من قال: إن معاوية انتزى على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة!! فقد قال ما لا علم له به، ولا يبعد أن يكون هذا من وضع الرافضة؛ ليشنوا بذلك معاوية؛ فإنهم أهل كذب وافتراء، بل هم من أعظم الناس كذبا وبهتا للأبرياء.
الوجه الثالث: أن قوله:((وقتله حجرا، وهو أحد الصحابة العباد)):
جوابه من وجهين:
الأول: أن حجرا قد اختلف العلماء في صحبته على قولين:
القول الأول: أن صحابي، وقد ذكره في الصحابة غير واحد من أهل العلم، كابن سعد.
والثاني: أنه ليس بصحابي، ولم يرد دليل صحيح صريح يدل على صحبته، وقد نقل ابن كثير في((البداية والنهاية)) (8/50) عن أبي أحمد العسكري أنه قال:((أكثر طرق أمر معاوية بقتل حجر منقطعة، وهي مخرجة عند الفسوي في ((المعرفة والتاريخ))و الحاكم في ((مستدركه)) وغيرهما(1).
ومن أمثلها ما رواه الحاكم في ((مستدركه)) (3/469) من طريق إسماعيل بن علية عن هشام بن حسان عن ابن سيرين؛ أن زيادا أطال الخطبة، فقال حجر بن عدي: الصلاة! فمضى في خطبته، فقال له: الصلاة! وضرب بيده إلى الحصى، وضرب الناس بأيديهم إلى الحصى، فنزل، فصلى، ثم كتب فيه إلى معاوية، فكتب معاوية: أن سرح به إلي. فسرحه إليه، فلما قدم عليه؛ قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال: وأمير المؤمنين أنا؟ إني لا أقيلك ولا أستقيلك. فأمر بقتله، فلما انطلقوا به؛ طلب منهم أن يأذنوا له، فيصلى ركعتين، فأذنوا له، فصلى ركعتين، ثم قال: لا تطلقوا عني حديدا، ولا تغسلوا عني دما، وادفنوني في ثيابي؛ فإني مخاصم. هشام: كان محمد بن سيرين إذا سئل عن الشهيد؛ ذكر حديث حجر.
وهذا سند صحيح.(1/41)
وقد جاء: ((أن معاوية لما قدم المدينة؛ دخل على عائشة، فقالت: حجرا؟ فقال: يا أم المؤمنين! إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم))(1).
فالظاهر أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قتل حجرا خشية أن يثير الفتنة بين الناس؛ فهو رضي الله عنه مجتهد في ذلك، فإن كان نصيبا؛ فله أجران، وإن كان مخطئا؛ فله أجر واحد؛ كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في ((الصحيحين)) وغيرهما عن عمرو بن العاص.
وقدح السقاف وطعنه في معاوية من أعظم الظلم؛ فإن معاوية إن كان مخطئا:
فمثله كمثل خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد))؛ قالها مرتين. والحديث في ((صحيح البخاري)) من حديث عبد الله بن عمر.
وكمثل أسامة بن زيد رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة. قال أسامة: فلحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه؛ قال: لا إله إلا الله. فكف الأنصار، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا؛ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟)). قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. والحديث في ((الصحيحين)).
__________
(1) ذكره ابن كثير رحمه الله في ((البداية والنهاية)) (8/ 50)، وقال: ((رواه أحمد، عن عفان، عن ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة أو غيره؛ قال: لما قدم معاوية المدينة...)).(1/42)
وكمثل النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ مر بهم رجل يرعى غنما له، وأتوا بغنمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله هذه الآية: { فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } إلى آخر الآية [النساء: 94].
والحديث رواه أحمد والترمذي وغيرهما من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس، ورواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب، وللحديث شاهد عند الإمامين البخاري ومسلم في ((صحيحيهما))(1).
وكل ما جرى من أسامة ومن خالد ومن النفر كان عن اجتهاد لا عن هوى وعصبية وظلم.
والخطأ مغفور لهذه الأمة؛ كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286]، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث ابن عباس مرفوعا: ((إن الله جل وعلا قال: قد فعلت))(2).
وهذا من الخطأ المحقق؛ فكيف فيما لم يتبين أمره ولم يوقف فيه على حقيقة الحال؟!
وأقل أحوال معاوية رضي الله عنه أن يكون مجتهدا مخطئا؛ فمثله لا إثم عليه، وعدله وحمله على الناس أمر مشهور مجمع عليه بين الخاص والعام، ولا عبرة بحثالة الروافض الذين يطعنون عليه ويلزمونه.
الوجه الرابع: أن قول السقاف: ((وكان معاوية بن أبي سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر يوم الجمعة...)): يقال عنه: هذا يحتاج إلى نقل صحيح،ولم يذكر السقاف حجته في ذلك،ومن كان له معرفة بسيرة معاوية رضي الله عنه؛علم أن هذا النقل مكذوب عليه؛فإن الرافضة قد وضعوا أحاديث وحكايات في ذم معاوية رضي الله عنه.
__________
(1) انظر: ((صحيح البخاري)) (8/ 258_ الفتح)، و ((صحيح مسلم)) (3025).
(2) انظر: ((صحيح مسلم)) (2/ 146- نووي).(1/43)
ومن العجب أن الرافضة لا ترضى بسب علي رضي الله عنه، ونحن لا نرضى بذلك، ومع ذلك، يسبون أبا بكر وعمر ويلعنونهما؛ فأيهما؛ أعظم سب علي أم سب أبي بكر وعمر؟! والسقاف يطعن على معاوية بحكايات مكذوبة، ولا يطعن على الروافض؛ إن كان لا يرى رأيهم بسبهم أبا بكر وعمر كما تواتر ذلك عنهم.
وقد ذكر بعض العلماء- كما هو مذكور في بعض كتب التاريخ- أنه وقع تلاعن بين علي ومعاوية؛ كما وقعت بينهما المحاربة، وهذا في حياة علي رضي الله عنه،وليس فيه أنه وقع لعنه من قبل معاوية بعد وفاته، فضلا عن أن يكون سن للناس ذلك على المنابر.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في((المنهاج)) (4/468) جوابا على قول الرافضي: ((وأما ما ذكره من لعن علي؛ فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم،وقيل: إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى، والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان، وهذا كله؛ سواء كان ذنبا أو اجتهادا، مخطئا أو مصيبا؛ فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك؛ بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك...)).(1/44)
الوجه الخامس: أن قول السقاف: ((ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛ قال له: ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه. انتهى من ((الكامل)))): يقال عنه: إن هذا من وضع الرافضة وبهتهم، وقد روى هذا الأثر ابن جرير في ((تاريخه)) (3/ 218): ((... الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبا وجهلا، ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد؛ كما دخل فيهم النصيرية والإسماعيلية وغيرهم؛ فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه؛ فهم كما قال فيهم الشعبي- وكان من أعلم الناس بهم-: لو كانوا من البهائم؛ لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير؛ لكانوا رخما، ولهذا كانوا أبهت الناس وأشدهم فرية؛ مثل ما يذكرون عن معاوية؛ فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر غيره، وجاهد معه، وكان أمينا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي، وولاه عمر بن الخطاب الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته...)).
قال السقاف (ص 103):
((وقد فشا النصب بين الحنابلة وهو بغضهم لآل البيت، أو عدم احترامهم لهم، وموالاة طائفة معاوية أو الدفاع عنها بالحجج التي هي أوهى من بيت العنكبوت، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ونحن نجد في هذه الأيام من يفتخر بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصا لسيدنا الحسن ولسيدنا الحسين ابني سيدنا علي والسيدة فاطمة عليهما السلام، والحمد لله تعالى ولا نجد من يفتخر بالانتساب إلى معاوية وذريته...)).
*الجواب أن يقال:(1/45)
هذا كلام جاهل، والجهمية كلهم جهال، وأجهل منهم الرافضة، الذين يرمون أهل السنة بالنصب، وقد قال أبو حاتم رحمه الله: ((وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة ناصبة...))؛ فمن نافح عن الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، وذب عن عرضه، وشنأ ترهات الروافض فيه، ونزله المنزلة التي كان عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ رماه أهل الضلال بالنصب.
وقول السقاف: ((ونحن نجد في هذه الأيام من يفتخر بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم)): لا ريب أن نسب النبي صلى الله عليه وسلم نسب عظيم، والانتساب إليه شرف، ولكن لا يفيد ولا ينفع الانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم مع مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن بطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه))، رواه مسلم(1) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولو كان الانتساب لآل النبي ينفع دون العمل؛ لنفع أبا طالب وأبا لهب وغيرهما ممن مات على الكفر وهو ذو نسب.
قال تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ 101 فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 102 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 103 تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون: 101- 104].
ثم إنه يقال: إن الافتخار بالانتساب لآل النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرهم ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من عمل أهل الجاهلية؛ كما دلت السنة على ذلك:
__________
(1) مسلم)) (17/ 21- 22- نووي).(1/46)
ففي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي سلام؛ أن أبا مالك الأشعري حدثه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة))، وقال: ((النائحة؛ إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)).
وروى أبو داود من طريق هشام بن سعد المدني، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليد عن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)).
قال السقاف (ص 106، تعلق رقم 22):
((... والعجب من ابن تيمية الذي يثبت الحركة والانتقال في الموافقة (2/4) بهامش ((مناهج سنته)) وينسبه للسلف، وليس الأمر كما قال، وكلام السلف ليس من حجج الشرع)).
أقول: جواب هذا الكلام أن يقال:
لئن مات السبكي الأشعري وابن جهبل الكلابي وغيرهما من أهل الذب على ابن تيمية رحمه الله؛ لقد ورثهما من هو مثلهما وأشد كذبا وافتراء؛ كالجهمي الكوثري والسقاف الذي اتبع أثر الكوثري حذو القذة بالقذة؛ فأظهر البدع، ونشرها بين الأنام، وبث لضلالات في الكتب، وكفر خيار الأمة، وكذب على العلماء، وقولهم ما لم يقولوا، وقيل:
إذالم تضن عرضاولم تخش جالقا
... وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع
وما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الأذى من قبل أعدائه وحساده أمر مشهور عند العلماء وطلبة العلم؛ فقد اختلقوا عليه الأباطيل، وقولوه ما لم يقل، ونسبوا إليه الترهات؛ حتى إنهم نسبوا إليه القول بقدم العالم، مع أن الشيخ رحمه الله في سائر كتبه يرد هذا القول بالأدلة النقلية والحجج العقلية.(1/47)
ولما كان أهل البدع من جميع الطوائف أهل ظلم وبغي وجهل، وليس عندهم من العلم والبرهان ما يواجهون به العلماء المحققين من أهل السنة؛ لجؤوا إلى الكذب والافتراء، وتحميل الكلام ما لا يتحمل، وتعظيم ما لا يستحق التعظيم؛ فهذا السقاف يعزو إلى شيخ الإسلام بأنه يثبت الحركة والانتقال لله تعالى، ولم يخش وعيد العقوبات المترتبة على الكذب وإضلال العباد بالتلبيس، مع أن الحركة لله تعالى مما سكت عنها النص؛ فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة إثباتها؛ كما أنه لم يأت نفي ذلك، وتحمل معنى حقا، وتحتمل معنى فاسدا، والعبرة بمذهب الرجل وما يناظر عليه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر أن الحركة تثبت لله تعالى كما نسب إليه السقاف؛ فإنه ذكر في((درء تعارض النقل والعقل)) أقوال العلماء، ولم يرجح شيئا، وهذا نص كلامه في((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 7- تحقيق رشاد سالم،2/ 4- هامش منهاج السنة)؛ قال بعد ذكر حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما؛ قال:(1/48)
((بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكراماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة؛ كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة؛ فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم، وطائفة أخرى من السلفية؛ كنعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب((الصحيح)) وأبي بكر بن خزيمة وغيرهم كأبي عمر بن عبد البر وأمثاله يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلا ونحوه، ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة؛ لكونه غير مأثور، وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء؛ كأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما، ومنهم من يوافق الأولين؛ كأبي عبد الله بن حامد وأمثاله، ومنهم طائفة ثالثة كالتيميين وابن الزعفراني وغيرهم يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم...)).
فهذا ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الموافقة الذي يزعم السقاف أنه أثبت فيه الحركة الانتقال لله.
ولم يأت في كلام الشيخ رحمه الله ذكر للانتقال، إنما هي لفظة مزيدة من السقاف، كعادته في الزيادة في الكلام؛ ليثبت باطله.
وأما الحركة؛ فهذا كلام الشيخ بحروفه، فلم يثبت الحركة لا من قريب ولا من بعيد، إنما ذكر رحمه الله أقوال العلماء ومذاهبهم.(1/49)
وقد قال رحمه الله في كتاب ((الاستقامة)) (1/70): ((وكذلك لفظ (الحركة) أثبته طوائف من أهل السنة والحديث، وهو الذي ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في ((السنة)) التي حكاها عن الشيوخ الذين أدركهم؛ كالحميدي وأحمد بن حنبل وسعيد بن منصور وإسحاق بن إبراهيم، وكذلك هو الذي ذكره عثمان بن سعيد الدارمي في ((نقضه على بشر المريسي))، وذكر أن ذلك مذهب أهل السنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة من الشيعة والكرامية والفلاسفة الأوائل والمتأخرين كأبي البركات صاحب((المعتبر)) وغيرهم، ونفاه طوائف،منهم أبو الحسن التميمي وأبو سليمان الخطابي، وكل من أثبت حدوث العالم بحدوث الأعراض كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم ممن سلك في إثبات حدوث العالم هذه الطريقة التي أنشأها قبلهم المعتزلة، وهو أيضا قول كثير من الفلاسفة الأوائل والمتأخرين؛ كابن سينا وغيره.
والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك، ولم يثبت عنه إثبات لفظ (الحركة)، وإن أثبت أنواعا قد يدرجها المثبت في جنس الحركة؛ فإنه لما سمع شخصا يروي حديث النزول ويقول: ينزل بغير حركة ولا انتقال ولا بغير حال! أنكر أحمد ذلك، وقال: قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو كان أغير على ربه منك.
وقد نقل في رسالة عنه إثبات لفظ(الحركة)؛ مثل ما في ((العقيدة)) التي كتبها حرب بن إسماعيل، وليست هذه العقيدة ثابتة عن الإمام أحمد هي ألفاظ حرب بن إسماعيل، لا ألفاظ الإمام أحمد، ولم يذكرها المعنيون بجمع كلام الإمام أحمد كأبي بكر الخلال في كتاب ((السنة)) وغيره من العراقيين العالمين بكتاب أحمد، ولا رواها المعروفون بنقل كلام الإمام، لا سيما مثل هذه الرسالة الكبيرة، وإن كنت راجت على كثير من المتأخرين...)).
فهذا ما يقرره الشيخ رحمه الله في سائر كتبه فيما يتعلق بالحركة يذكر أقوال العلماء وأدلتهم.(1/50)
وقد ذكر رحمه الله في مواضع متعددة من كتبه ((أن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله؛ فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح؛ فإنه داخل فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك؛ كلفظ(الجسم) و(الجهة) و(الحيز) و(الجبر) ونحو ذلك، بخلاف ألفاظ الرسول؛ فإن مراده بها يعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه، ولو لم يعلم الرجل مراده؛ لوجب عليه الإيمان بما قاله مجملا، ولو قدر معنى صحيح_ والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر به_؛ لم يحل لأحد أن يدخله في دين المسلمين؛ بخلاف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن التصديق به واجب.
والأقوال المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم و مراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة.
ولما انتشر الكلام المحدث، ودخل فيه ما يناقض الكتاب والسنة، وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة؛ صار بيان مرادهم بتلك الألفاظ وما احتجوا به لذلك من لغة وعقل يبين للمؤمن ما يمنعه أن يقع في البدعة والضلالة أو يخلص منها_ إن كان قد وقع_ ويدفع عن نفسه في الباطن والظاهر ما يعارض إيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك...))(1).
ثم لو فرضنا أن شيخ الإسلام رحمه الله أثبت الحركة لله تعالى؛
__________
(1) انظر: ((الفتاوى)) (5/432).(1/51)
فليس ذلك قادحا في علمه ولا دين؛ فإن كان مصيبا؛ فله أجران، وإن كان مخطئا؛ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له؛ فإنه رحمه الله من أهل العلم والاجتهاد، الذين توفرت فيهم شروطه، وليست هذه المسألة مما يضلل فيها المخلف؛ إلا إذا علم منه أنه يقصد معنى فاسدا، علما أن أهل الأهواء الذين ينفون عن الله الحركة يقصدون نفي صفات الرب جل وعلا؛ كالحياة، والمجيء، والنزول... ونحو ذلك مما دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة عليه.
وقول السلف عن الشيخ بأنه ينسبه إلى السلف !! هذا الكذب؛ فشيخ الإسلام رحمه الله نقل عن بعضهم إثبات الحركة وهو صادق في نقله؛ فهذه كتبهم موجودة، وبالرجوع إليها يتبين صدق الشيخ في ذلك، ولم يقل الشيخ رحمه الله: إن جميع السلف قالوا بذلك! إنما ذكره عن بعضهم؛ كما تقدم نقله عنه.
وقول السقاف: ((وكلام السلف ليس من حجج الشرع)): كلام مجمل؛ فإن أراد أن كلام بعضهم ليس بحجة ما لم يذكر دليلا؛ فهذا صحيح؛ فالحجة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أراد أن جميع كلام السلف ليس بحجة؛ فهذا خطأ؛ فإن اتفاقهم وإجماعهم حجة، ومذهبهم لا يكون إلا حقا وصوابا، والخروج عن مذهبهم والعدول عنه اتباع لغير سبيل المؤمنين:
وقد قال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: ].
وقال ابن قدامة رحمه الله في((ذم التأويل)) (ص 115): ((فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه؛ فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين:(1/52)
فإن كانوا مصيبين؛ وجب اتباعهم؛ لأن اتباع الصواب واجب، وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام، ولأنهم إذا كانوا مصيبين؛ كانوا على الصراط المستقيم، ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم، وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه، ونهى عن اتباع ما سواه؛ فقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].
وإن زعم زاعم أنهم مخطئون؛ كان قادحا في حق الإسلام كله:
لأنه إن جاز خطؤهم في غيره من الإسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها، ولا تثبت معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي رووها؛ فتبطل الرواية، وتزول الشريعة!! ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا ولا يعتقده!!
ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا: إما أم يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه: فإن لم يعلموه؛ فكيف علمناه نحن؟! وإن علموه، فوسعهم أن يسكتوا عبه؛ وجب أن يسعنا ما وسعهم.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي في الصفات، وهو حجة الله على خلق الله أجمعين؛ يجب عليهم اتباعه، ويحرم عليهم خلافه، وقد شهد الله تعالى بأنه على الصراط المستقيم، وأنه يهدي إليه، وأن من اتبعه أحبه الله، وكن عصاه؛ فقد عصى الله: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا } [ الأحزاب: 36]، { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء: 14])).
قال ابن الجوزي(107):
((فصل: فإن قال قائل: ما الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه؟ قلنا: إن الخلق غلب عليه الحس؛ فلا يكادون يعرفون غيره...)).
أقول: جواب هذا أن يقال:(1/53)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه، وذكره صلى الله عليه وسلم لصفات ربه؛ كالرحمة، والغضب، والرضى، والسمع، والبصر... ونحو ذلك: ليس موهما للتشبيه عند من سلمت فطرته ولم تتغير وتتلوث بحثالة الجهمية والمعطلة.
وأهل البدع لما كانوا لا يفهمون من صفات الخالق إلا مثل ما يفهمونه من صفات المخلوقين؛ عطلوا الرب جل وعلا عن أسمائه وصفاته، وهذا من جهلهم بالكتاب والسنة؛ فهم مثلوا أولا، ثم عطلوا ثانيا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لأصحابه في المجامع الكبيرة صفات ربه جل وعلا، ولم يستنكروا شيئا من ذلك، فلو كانت موهمة للتشبيه؛ لبادروا إلى السؤال والاستفهام عن ذلك، ولكنهم لسلامة فطرتهم وعدم تلوثها بالعقائد الفاسدة؛ لم يستنكروا، ولم يستشكلوا شيئا من ذلك، بل أقروا بها، وآمنوا بها، وأثبتوا ما دلت عليه، واعلموا أن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى:11]؛ بخلاف آيات الأحكام؛ فإنهم يستشكلون كثيرا منها، ولذلك يبادرون إلى السؤال والاستفصال عما أشكل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله- كما في((مختصر الصواعق)) (ص 17)-: ((تنازع الناس في كثير من الأحكام، ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا، وأن العناية ببيانها أهم؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين، وإثباتها من لوازم التوحيد، فبينها الله سبحانه وتعالى ورسوله بيانا شافيا،لا يقع فيه لبس يوقع الراسخين في العلم.
والحاصل الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس، وأما آيات الصفات؛ فيشترك في فهم معناها الخاص والعام؛ أعني: فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية...)).(1/54)
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بألفاظ موهمة للتشبيه، إنما أهل الباطل لا يفهمون من ذكر آيات وأحاديث الصفات إلا ما يقتضي التشبيه؛ فالباطل نشأ من فهمهم، وإلا فلم يقل أحد من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا قال أحد من أئمة الهدى- كمالك وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ويزيد بن هارون والأوزاعي وأحمد والبخاري وابن خزيمة والدارقطني- ولا غيرهم من أهل العلم والدين من أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بألفاظ موهمة للتشبيه.
والكتاب والسنة وإجماع السلف تدل عليه السلام بطلان هذا القول؛ فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
قال السقاف (108،تعليق رقم 24 على قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله)) ):
ولم يثبت، من أنه في((صحيح الإمام مسلم)) رحمه الله تعالى،وذلك لأنه ورد في غير((صحيح مسلم)) بأسانيد صحيحة؛ أنه قال لها: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟))؛ فبين أن الاختلاف من تصرف الرواة الذين رووا الحديث، فصار لفظ: ((أين الله؟)): محل احتمال، وما طرأ فيه الاحتمال؛ سقط به الاستدلال...)).
أقول: الجواب أن يقال:
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله؟)): أمر مجمع عليه بين الأمة، ولم ينكره أحد من أهل العلم والدين، وقد تلقى الحديث أهل العلم والدين بالقبول، وقابلوه بالتسليم، حتى إن الإمام الذهبي رحمه الله قتال في كتابه ((العلو)) (ص 16)):
((فمن الأحاديث المتواترة الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي... (فذكر الحديث))).
وطعن من طعن فيه من أهل الأهواء في هذا العصر؛ كالكوثري، والغماري، والسقاف؛ مما لا يقام له وزن؛لأنه مبني على إنكار علو الله على خلقه، وقد اتفق المسلمون على أن الله فوق سماواته، مستو على عرشه، والقرآن مملوء بإثبات علو الله على خلقه.(1/55)
قال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام:18].
وقال تعالى عن فرعون: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ 36 أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [ غافر:36-37]، ولو لم يكن موسى يقول: إلهي في السماء؛ لما أمر فرعون ببناء الصرح للاطلاع على إله موسى، وكان فرعون يكذبه في ذلك (1).
وقال تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ 16 أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك: 16- 17].
وقال تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } [ النحل:50].
وقال تعالى: { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء: 158].
وقال: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10].
وقال: { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55].
وقال تعالى: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة: 255[.
وقال: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ: 23].
وغي ذلك من الآيات الدالة على علو الله على خلقه.
وأما الأحاديث الدالة على علو الله على خلقه؛ فهي كثيرة، بلغت حد التواتر، وأجمع عليها المسلمون، شرق بها الجهمية والمعطلة وأشباههم من المنحرفين عن الكتاب والسنة المخالفين للفطر السليمة والعقول الصحيحة.
وفي((صحيح البخاري)) (8/ 67- فتح) و((مسلم)) (7/ 162- نووي) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء...)).
__________
(1) انظر للفائدة ما قاله الدارمي على الآية المتقدمة في ((الرد على الجهمية))(ص 37)،وابن قدامة في ((إثبات صفة العلو)) (ص 188).(1/56)
وفي ((صحيح مسلم)) (10/ 403- فتح، باب { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: ((كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات)).
وقصة معراج النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأدلة على إثبات علو الله على خلقه، والقصة مخرجة في ((الصحيحين)) وغيرهما من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 47) في قصة المعراج: ((وهي متواترة...)).
وهذه الأدلة الدالة على إثبات علو الله على خلقه هي غيض من فيض.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله؟)): من أدلة إثبات علو الله على خلقه، وتضعيف من ضعفه من أهل الأهواء؛ يقال لهم: ((بيننا وبينكم الإسناد))، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: ((بيننا وبين القوم القوائم))؛ يعني: الإسناد، رواه الإمام مسلم في مقدمة((صحيحة)) (1/88- نووي).
وبدراسة الحديث تظهر صحته، علما أن الحديث في((صحيح مسلم))، وقد تلقاه أهل العلم بالقبول، وقابلوه بالتسليم؛ إلا أحاديث يسيرة انتقدها بعض أئمة الحديث الذين لهم قدم صدق فيه.(1/57)
قال الإمام مسلم رحمه الله في ((صحيحه)) (5/20) ((حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في لفظ الحديث؛ قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي؛ قال:...))الحديث وفيه قال: ((وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم؛ فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله ! أفلا أعتقها؟ قال:((ائتني بها)). فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟)).قالت: في السماء.
قال: ((من أنا؟)). قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها؛ فإنها مؤمنة)).
ورواه: أحمد في ((مسنده)) (5/ 447)،وأبو داود في ((سننه)) (1/ 242، باب تشميت العاطس في الصلاة)، والنسائي (3/ 14-الكلام في الصلاة)، ومالك (1)
في ((الموطأ)) (4/ 84-شرح الزرقاني)، وابن الجارود في((المنتقى))(1/ 193)، وأبو عوانة (2/141)، وغير هم كثير؛من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، من عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم به.
ومالك رحمه الله رواه عن هلال، عن عطاء، عن عمر بن الحكم.
وصوابه: معاوية بن الحكم.
والحديث سنده على شرط الشيخين، ورواته كلهم ثقات.
وقد تتبعت كلام العلماء والمحدثين على هذا الحديث؛ فلم أر بينهم خلافا في صحته، ولم أجد أحدا تعرض له بتضعيف؛ فدل ذلك على أن الحديث مقبول عند جميع العلماء، حتى الذين حرفوا معناه وتلاعبوا بدلالاته لم يطعنوا في سنده.
__________
(1) عند مالك في ((الموطأ)): ((عمر بن الحكم))؛ بدل: معاوية بن الحم! وقد قال ابن عبد البر – كما عند الزرقاني في ((شرحه للموطأ))-((هذا وهم عند جميع علماء الحديث...)).(1/58)
فخرق إجماع أهل العلم الذين هم أهله الكوثري والغماري والسقاف، فشككوا في صحة الحديث، وأعلنوا على أنفسهم بالجهل وتحريف الكلم عن مواضعه.
وحديث معاوية بن الحكم لا ينافي ما رواه: أحمد في((مسنده)) (3/451)، ومالك في ((موطئه)) (4/ 85- الزرقاني)؛ من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن رجل من الأنصار؛ أنه جاء بأمة سوداء، وقال: يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة؛ فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله؟)).قالت: نعم. قال: ((أتشهدين أني رسول الله؟)). قالت: نعم.قال: ((أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟)). قالت: نعم. قال: ((أعتقها)).
فهذا الحديث صحيح، وحديث معاوية بن الحكم أصح منه، ولا تنافي بين الحديثين؛ فضلا عن أن يكون حديث الأنصاري معلا لحديث معاوية بن الحكم؛ فكلاهما ثابتان من جهة النقل(1)، وإعلال حديث معاوية بن الحكم بحديث الأنصاري- خطأ محض؛ فإنه لا تنافي بين الحديثين حتى يعل أحدهما بالآخر؛ فتعدد القصة وارد.
ثم إن حديث معاوية بن الحكم أصح من حديث الأنصاري؛ فإعلال حديث الأنصاري- إن كان هناك علة- أولى من إعلال حديث معاوية بن الحكم!!
فإذا تبين صحة حديث معاوية؛ ففيه سؤال بـ ((أين الله))، والجهمية تنكر ذلك، وتخالف ما دل عليه الحديث الصحيح، وليس هناك جهل وإعراض فوق هذا!!
__________
(1) انظر: ((العلو)) للذهبي (ص 17- 18)، و ((شرح الزرقاني على موطأ مالك)) (4/ 86)، و((دفاع عن حديث الجارية)) (ص 24- 25) للشيخ سليم الهلالي.(1/59)
وقد قال الإمام أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله بعد ذكره لحديث معاوية وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله))؛ قال: ((ومن أجهل جهلاً وأسخف عقلاً وأضل سبيلاً ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله!! بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: ((أين الله؟))؟!))(1).
وقول السقاف: ((فصار لفظ ((أين الله)) محل احتمال، وما طرأ فيه الاحتمال؛ سقط به الاستدلال)): ليس بصحيح؛ لأن الاحتمال الوارد غير صحيح، وما كان كذلك؛ فطرحه متعين.
ثم إن القول بأن ما طرأ فيه الاحتمال سقط به الاستدلال: قول غير صحيح؛ فإن الاحتمال الضعيف لا يسقط الاستدلال بالحديث الصحيح، وإلا؛ لسقط الاستدلال بعشرات الأحاديث؛ لإيراد الاحتمالات البدعية التي يثيرها أهل البدع؛ فكل حديث لا يوافق عقائدهم الفاسدة يجلبون عليه بخيلهم ورجلهم.
وأما الاحتمال المبني على أدلة صحيحة؛ فأهل العلم والدين يجمعون بين النصوص قدر الإمكان إن كان ثم تعارض في الظاهر؛ لأن الجمع بين النصوص الصحيحة إن كانت في الظاهر متعارضة أمر متعين على القول الصحيح.
قال السقاف (ص 108، تعليق رقم 25):
((لقد أول الإمام البخاري رحمه الله تعالى الضحك بالرحمة فيما نقله عنه الحافظ البيهقي في كتابه العظيم ((الأسماء والصفات)) (ص 298- بتحقيق الإمام المحدث الكوثري)، ويصح تأويله أيضا بالرضى)).
أقول: وبطلان هذا الكلام يتبين بثلاثة أوجه:
الأول: أن ما نقله السقاف عن الإمام البخاري من تأويل الضحك بالرحمة خطأ، ولم يصح نقل ذلك عن الإمام البخاري رحمه الله.
وقول السقاف: ((نقله عنه البيهقي)): لا يكفي، والبيهقي ذكره عن البخاري مجردا، دون ذكر السند إليه ومجرد كون البيهقي ذكره في كتابه ((الأسماء والصفات)) لا يدل على ثبوته، ولا يجوز القطع والجزم بأن البخاري رحمه الله أول صفة من الصفات بمثل هذا النقل المجرد العاري عن السند.
__________
(1) انظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص 89).(1/60)
وقد قال ابن حجر في ((الفتح)) (8/ 632) عن هذا النقل: ((ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لبا من البخاري)).
ثم إن تأويل الضحك بالرحمة فاسد؛ لمخالفته للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
وقد دلت الأمة على وصف الله تعالى بالضحك كسائر صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
ففي ((صحيح البخاري)) (6/ 39- الفتح) و((مسلم)) (رقم 1890) من طريق أبي الزناد، عن الأعراج، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد)).
وفي ((صحيح البخاري)) (7/ 119- فتح) و ((مسلم)) (رقم 2045)- واللفظ للبخاري- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يضم (أو: يضيف) هذا؟)). فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: ((أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم...)) الحديث، وفيه: فلما أصبح؛ غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ضحك الله الليلة (أو: عجب) من فعالكما...)).
وروى الإمام مسلم في ((صحيحه)) (رقم 187) من طريق حماد بن سلمة:حدثنا ثابت، عن أنس، عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل؛ فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها؛ التفت إليها، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: ((من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فبقول: إني لا أستهزئ منك،ولكني على ما أشاء قادر)).(1/61)
فهذه الأحاديث الصحيحة دالة على إثبات صفة الضحك لله تعالى،وكما أننا نثبت لله تعالى حياة ليست كحياة المخلوقين؛ نثبت لله تعالى ضحكا ليس كضحك المخلوقين؛ فالضحك في حق الله تعالى صفة كمال، لا نقص فيه بأي وجه من الوجره. قال أحمد بن نصر: ((سألت سيفان بن عيينة عن حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يضع السماوات على إصبع...))، وحديث: ((إن الله يعجب...))، و ((ضحك...))...؟ فقال سفيان: هي كما جاءت؛ نقر بها، ونحدث؛ بلا كيف))(1).
وقال الإمام الآجري في ((الشريعة)) (ص 277، باب الإيمان بأن الله عز وجل يضحك): ((قال محمد بن الحسين: اعلموا وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل أن أهل الحق يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه عز وجل،وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم (2)، وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع،ولا يقال فيه: كيف؟! بل التسليم له، والإيمان به؛ أن اله عز وجل يضحك، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته رضي الله عنهم؛فلا ينكر هذا إلا من لايحمد حاله عند أهل الحق، وسنذكر منه ما حضرنا ذكره، والله الموفق للصواب،ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
فذكر رحمه الله عدة أحاديث في الباب، ثم قال: ((هذه السنن كلها نؤمن بها، ولا نقول فيها:كيف؟! والذين نقلوا هذه السنن هم الذين نقلوا إلينا السنن في الطهارة وفي الزكاة والصيام والحج والجهاد وسائر الأحكام من الحلال والحرام، فقبلها العلماء منهم أحسن قبول، ولا يرد هذه السنن إلا من يذهب مذهب المعتزلة؛ فمن عارض فيها، أو ردها،أو قال:كيف؟ فاتهموه واحذروه)).
__________
(1) انظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/437-438).
(2) إذا صح مخرجه عن الصحابي أو الصحابة؛ فله حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد في هذا الباب العظيم.(1/62)
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم الأصبهاني في ((الحجة في بيان المحجة)) (1/440): ((قال أبو معمر الهذاي: من زعم أن الله تعالى لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)؛ فهو كافر بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفا؛فألقوه فيها)).
ومن قال من أهل الأهواء: إن الضحك مجاز، أو المراد به الرضى، فقد غلط غلطا بينا، وخالف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فالأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز.
ودعوى أن المراد بالضحك الرضى مخالف لمعتقد السلف!!
وتأويل أهل الأهواء الضحك بالرضى دليل على تناقضهم واضطرابهم في هذا الباب، وإعلانهم على أنفسهم بالجهل بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ودليل على مخالفتهم لصريح المعقول؛ لأن أهل الأهواء إذا أولوا صفة الضحك بالرضى؛ فقد أثبتوا لله تعالى صفة الرضى، وهم ينفون عن الله هذه الصفة؛ فلا إله إلا الله، والله أكبر! ما أجهل أهل الأهواء وأشد تناقضهم واضطرابهم!
فخالفوا صحيح المنقول، وكابروا في صريح المعقول.
الوجه الثاني: أن وصف السقاف للكوثري بـ((الإمام المحدث))!! وصف غير مطابق لموصوف.
فالكوثري ليس إماما إلا في التهجم؛ فقد شحن كتبه بنشر مذهب الجهمية الذين كفرهم خمسمائة عالم وأكثر من ذلك من سائر البلدان، ونصب العداء وأظهر البغضاء لأهل التوحيد والعقيدة، وكفر علماء الأمة الذين ينشئون مذهبه، مع كثرة سبه وشتمه من لا يستحق التكفير عنده.(1/63)
ومن نظر في كتبه وتعليقاته- ورأى ألا ينظر فيها إلا لكشف ما فيها من البدع-؛ رأى العجب العجاب من تحريفه الكلم عن مواضعه، وشدة عداوته لعقيدة السلف، وإشادته بمذهب الخلف، ولا يتحاشى عن رمي ابن خزيمة وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهم الله بالتجسيم، وأما تلاعبه بالأحاديث؛ فحدث ولا حرج؛ فما يخالف من الأحاديث بدعه وفجور يطعن فيه، وإن كان الحديث في((الصحيحين))، وإن لم يضعفه؛ شك في دلالة الحديث على المراد، ونازع في معناه.
ومع هذا كله نرى المعلق على((الأجوبة الفاضلة)) و((الرفع والتكميل)) و((قواعد في علوم الحديث)) يعظمه، ويصفه بأوصاف كاذبة خاطئة لا يستحقها من هو خير منه، مع أن هذا المعلق يدعي محبة الشيخين ابن تيمية وابن القيم، فالله المستعان.
وقد قال هذا المعلق الذي فتن بمحبة الكوري الجهمي قبل تقدمته لـ((الأجوبة الفاضلة))؛ قال: ((الإهداء إلى روح أستاذ المحققين، الحجة، المحدث، الفقيه، الأصولي، المتكلم، النظار، المؤرخ، النقاد، الإمام محمد زاهد الكوثري، الذي كان يوصي بكتب الإمام اللكنوي ويحض عليها،رحمهما الله تعالى...)).
أقول: الإهداء فيه ما فيه من التشبيه بالغرب، ومخالفة هدي السلف، وبسطه في غير هذا الموضع، والكلام مع هذا المفتون في قوله: ((أستاذ المحققين، الحجة، النقادة...)).
وهذا تصويب لحال الكوثري، وإن رغم أنف هذا المفتون.
وأي تحقيق عند الكوثري؟! أهو نشر مذهب السلف؟أم نشر مذهب الخلف؟ إن كان الأول؛ فتكذبه كتب الكوثري وتعليقاتة الماكرة، وإن كان الثاني؛ أهذا هو التحقيق عند هذا المفتون؟ أم هذا الإجرام العظيم والتجهم الذميم؟!
وقوله ((الحجة)): هذا من أعظم الجهل؛ فليس الكوثري حجة، بل هو جهمي لا اعتداد به ولا كرامة له.
وقوله: ((النقادة)): هذا جهل آخر، وكتب الكوثري وتعليقاته لا تنقد إلا مذهب السلف، وتطعن في كتبهم،وتشكك في عقائد مؤلفيها، وهذا من أعظم الإلحاد والضلال.(1/64)
ووصف الكوثري بـ (النقادة)- مع أن هذه حاله- ضلال بعيد وانحراف عن مذهب السلف؛ فكلامهم في وجوب مجانبة أهل البدع والتحذير من كتبهم ومجالستهم أمر مشهور مذكور في كتب السنة.
وقال الإمام البغوي رحمه الله في كتابه ((شرح السنة)) (1/ 227): ((وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أعل البدعة ومهاجرتهم)).
ولا يثني أحد على أهل البدع- وأي بدع؟! بدع جهمية!! – ويثني على كتبهم، ويرغب فيها؛ إلا وهو يحبهم، ومن أحب قوما؛ حشر معهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحب))، رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.
وعلماء السلف رحمهم الله بينوا أمر الجهمية، وكشفوا حالهم، وأظهروا كفرهم؛ حتى قال ابن المبارك رحمه الله: ((لأن أحكي كلام اليهود والنصارى أحب إلي من أن أحكي كلام الجهمية))(1).
قال الدارمي: ((وصدق ابن المبارك أن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى...)).
فكيف مع هذا يمدح من يدعي العلم واتباع السلف رأسا من رؤوسهم؟!
وقد قال الإمام البخاري رحمه الله في((خلق أفعال العباد)) (ص 11): ((وإني لأستجهل من لا يكفرهم؛ إلا من لا يعرف كفرهم)).
وقال الإمام الدارمي رحمه الله في((الرد على الجهمية)) (ص 173) بعدما ذكر حديث علي في قتل الزنادقة؛ قال: ((فرأينا هؤلاء الجهمية أفحش زندقة، وأظهر كفرا، وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته فيما بلغنا عن هؤلاء الزنادقة الذين قتلهم علي عليه السلام وحرقهم)).
__________
(1) رواه الدارمي في((الرد على الجهمية)) (ص 21).(1/65)
الوجه الثالث: أن قول السقاف: ((ويصح تأويله(أي: الضحك) أيضا بالرضى)): قول غير صحيح، وهو من التحريف؛ فالله جل وعلا متصف بصفة الضحك؛ كما صحت النصوص في ذلك؛ فنثبت ذلك لله تعالى إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى:11].
والعجيب أن السقاف لا يثبت لله تعالى صفة الرضى، وهنا فسر الضحك بالرضى!! وهذا من أعظم التناقض والاضطراب في هذا الباب!!
وهذا التناقض الذي يصدر من أهل البدع هو الذي دعا بعض العقلاء للتوبة والإنابة والدخول في مذهب السلف-عموما- المبني على الكتاب والسنة؛ كما فعل أبو محمد الجويني والد أبي المعالي، وكتب نصيحة في صفات الله تعالى، وقال في هذه النصيحة (1):
((إنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل: (مسألة الصفات)، و(مسألة الفوقية)، و(مسالة الحرف والصوت في القرآن المجيد)، وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك؛ من تأويل الصفات وتحريفها، أو إمرارها، أو الوقوف عليها، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات، وكذلك في إثبات العلو والفوقية، وكذلك في الحرف والصوت.
ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم؛ منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء، وتأول النزول بنزول الأمر، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين، وتأول القدم بقدم صدق عند ربهم... وأمثال ذلك.
ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله معنى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت، ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.
__________
(1) طبعت هذه النصيحة بعنوان: ((النصيحة في صفات الرب جل جلاله))، طبع المكتب الإسلامي، وقد نسبوها لابن شيخ الحزامين، وهذا خلاف ما هو معروف.(1/66)
ومما ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة؛ مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعين؛ لأني على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، عرفت منهم فرائض ديني وأحكامه؛ فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي، ولي فيهم الاعتقاد التام بفضلهم وعلمهم.
ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجدر الكدر والظلمة منها، وأجد ضيق الصدر وعد انشراحه مقرونا بها.
فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول؛ مخافة الحصر والتشبيه.
ومع ذلك؛ فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله؛ أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني، وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها، وأعلم بالأضرار أنه كان يحضر في مجلسه الشريف العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان صلى الله عليه وسلم يصف بها ربه- لا نصا ولا ظاهرا- مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء- مشايخي الفقهاء المتكلمون-؛ مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر...
وغير ذلك من، ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الأيمان بما يظهر من كلامه في صفة لربه من الفوقية واليدين وغيرهما؛ مثل أن ينقل عنه مقاله تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها؛ مثل فوقية المرتبة، ويد النعمة، وغير ذلك...)).
وذكر كلاما، ثم قال: ((فلم أزل في هذه الحيرة والاضطراب من اختلاف المذاهب والأقوال، حتى لطف الله بي، وكشف لهذا الضعيف عن وجه الحق كشفا اطمأن إليه خاطره، وسكن به سره، وتبرهن الحق في نوره، وأنا أصف بعض ذلك إن شاء الله تعالى)).
فذكر رحمه الله اعتقاده في مسألة العلو ومسألة الفوقية ومسألة الاستواء.(1/67)
ثم ختم رحمه الله كلامه بقوله: ((فرحم الله عبدا وصلت إليه هذه الرسالة ولم يعالجها بالإنكار، وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل وأطراف النهار، وتأمل النصوص في الصفات، وفكر بعقله في نزولها، وفي المعنى الذي نزلت له، وما الذي أريد بعلمها من المخلوقات، ومن فتح الله قلبه؛ عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب بها، والتوجه إليه منها، وإثباتها له بحقائقها وأعيانها؛ كما يليق بجلاله وعظمته؛ بلا تأويل ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا جحود ولا وقوف، وفي ذلك بلاغ لمن اعتبر، وكفاية لمن استبصر)).
قال ابن الجوزي (ص 108):
((ثم لم يذكر الرسول الأحاديث جملة (أي: أحاديث الصفات)، وإنما كان يذكر الكلمة في الأحيان؛ فقد غلط من ألفها أبوابا على ترتيب صورة غلطا قبيحا)).
وعلق السقاف على هذا الكلام (رقم 26) قائلا:
((كابن خزيمة في كتابه ((التوحيد))، الذي سماه الإمام الفجر الرازي في ((تفسيره)): كتاب الشرك، وقد ندم ابن خزيمه على تصنيفه ورجع عنه؛ كما جاء عند بإسنادين في كتاب ((الأسماء والصفات)) للحافظ البيهقي، ومثل كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة كتاب ((السنة)) المنسوب لابن أحمد، وكذلك ((سنة)) الخلال، وأمثال هذه الكتب التي تحمل في طواياها تجسيما صريحا وروايات تالفة)).
أقول:
أما قول ابن الجوزي: ((فقد غلط من ألفها أبوابا على ترتيب صورة غلطا قبيحا))؛فإنه قول غير صحيح، بل هو خطأ محض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن بالكتابة عنه، فلما أذن؛ دخل كتابة أحاديث الصفات ضمن الإذن دخولا أوليا، وجمعها في كتاب واحد مما يسهل الوقوف على صفات الرب جل وعلا ومعرفة ما اتصف به.
فلبس في جمعها في موضع واحد محذور شرعي ولا عقلي، ولم يمنع من ذلك أحد من علماء السلف الذين يفون الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(1/68)
والذين ألفوا كتبا في جمع أحاديث الصفات لم يؤلفوها إلا بعدما رفع أهل البدع رؤوسهم، وبثوا ضلالهم، وأنكروا صفات الرب جل وعلا؛ فرأى كثير من أهل السنة جمعها في كتب مستقلة؛ ليردوا بها على أهل الأهواء الذين شرقوا بها، ولم يؤمنوا بها، أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقد أحسنوا في جمعها كل الإحسان؛ فلا عبرة بأهل الأهواء الذين ينكرون ذلك.
والعجيب أن أهل الأهواء يجمعون ويرون جمع الأحاديث المتعلقة بالطهارة في موضع واحد وفي كتاب مستقل، والأحاديث المتعلقة بالصلاة في موضع واحد...وهكذا في باقي الأبواب المتعلقة بالأحكام الفقهية، وهذا في نفسه أمر محمود، ولكنهم ينكرون جمع أحاديث الصفات في كتب مستقلة، مع أن العناية – كما دل ذلك الكتاب والسنة – بتوحيد الأسماء والصفات آكد وأهم من العناية بالأحكام؛ فمن أنكر جمع أحاديث الصفات في موضع واحد أو كتاب منفرد؛ فلينكر على جميع علماء الأمة الذين صنفوا المصنفات وجمعوا أحاديث الطهارة في أبواب مستقلة.
وأما قول السقاف: ((إن الفخر الرازي سمى كتاب ابن خزيمة كتاب الشرك))؛ فجوابه من وجهين:
(27/ 151) على قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } . [الشورى:11]، واعتمد كلامه هذا الجهمي الملحد حسن السقاف.
الوجه الثاني: لا بد من النظر في هذا الإطلاق العظيم على كتاب ابن خزيمة؛ لأنه لا يجوز الحكم على كتاب ابن خزيمة ولا على غيره من الكتب إلا بعد قراءته والنظر فيه.
أما الوجه الأول؛ فالرازي- واسمه محمد بن عمر- ليس رجلا نكرة لا يعرف، بل كتبه معروفة مشهورة، ومن قراءتها يتبين حاله، وهو رأس من رؤوس المتكلمين، وجهبذ من جهابذتهم:
له تفسير مشهور، اسمه ((مفاتيح الغيب))، شحنه بآراء المتكلمين ونصرة مذهب الأشاعرة الضالين.
وله كتاب اسمه ((المحصول))؛ قال فيه بعض العلماء:
محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله جهل بلا دين(1/69)
أصل الضلالات والشرك المبين وما ... فيه فأكثره وحي الشياطين
ن
وله كتاب اسمه ((السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم))، ذكر غير واحد من أهل العلم والتحقيق أنه كفر صريح:
قال ابن تيمية رحمه الله في ((نقض المنطق)) (ص 47): ((صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام)).
وقال الذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (3/340): في كتاب الرازي ((السر المكتوم...)) سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى)).(1/70)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((نقض المنطق)) (ص 52- 53): ((... إن الذين لبسوا الكلام بالفلسفة من أكابر المتكلمين تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين؛ وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم؛ مثل: ((تفسير المعراج)) الذي ألفه أبو عبد الله الرازي، الذي احتذى فيه حذو ابن سينا وعين القضاة الهمداني؛ فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين؛ لا في الأحاديث الصحيحة، ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السؤال والطريقة، أو بعض شياطين الوعاظ، أو بعض الزنادقة، ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم ولا يوجد في أثاره من علم؛ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب؛ فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك، ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين وعلمائهم، حتى أن طائفة ممن كانوا يعظمونه، لما رأوا ذلك؛ تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك، حتى أروه النسخة بخط بعض المشايخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه ((المطالب العالية))، وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين..)).
وأقوال العلماء في بيان حال الرازي كثيرة.
فإذا كانت هذه حاله في الضلال؛ فمن الجهل الاستدلال بقوله الشنيع على كتاب الإمام ابن خزيمة رحمه الله الذي تلقاه العلماء بالقبول.(1/71)
وأما الوجه الثاني؛ فكتاب ابن خزيمة رحمه الله كتاب عظيم، وهو من خيرة الكتب المصنفة في التوحيد، وقد ألفه ابن خزيمة رحمه الله لما كثرت البدع، وانتشر أصحابها، وانطمس الحق في كثير من البلدان، وراج الباطل على ضعاف الإيمان، واستحكمت غربة الزمان بين الأنام.
قال رحمه الله في بيان سبب تأليفه: ((أما بعد؛ فقد أتى علينا برهة من الدهر، وأنا كاره الاشتغال بتصنيف ما يشوبه شيء من جنس الكلام من الكتب، وكان أكثر شغلنا بتصنيف كتب الفقه، التي هي خلو من الكلام في الأقدار الماضية التي قد كفر بها كثير من منتحلي الإسلام، وفي صفات الله عز وجل التي نفاها ولم يؤمن بها المعطلون، وغير ذلك من الكتب التي ليست كتب الفقه.
وكنت أحسب أن ما يجري بيني وبين المناظرين من أهل الأهواء في جنس الكلام في مجالسنا، ويظهر لأصحابي الذين يحضرون المجالس والمناظرة، من إظهار حقنا مخالفينا: كاف عن تصنيف الكتب على صحة مذهبنا وبطلان مذاهب القوم، وغنية عن الإكثار في ذلك.(1/72)
فلما حدث في أمرنا مما كان الله قد قضاه وقدر كونه مما لا محيص لأحد ولا موئل عما قضى الله مونه في اللوح المحفوظ قد سطره من حتم قضائه؛ فمنعنا عن الظهور ونشر العلم والتعليم مقتبس العلم ما كان الله قد أودعنا من هذه الصناعة؛ كنت أسمع من بعض أحداث طلاب العلم والحديث ممن لعله كان يحضر بعض مجالس أهل الزيغ والضلالة من المعطلة والقدرية المعتزلة ما تخوفت أن يميل بعضهم عن الحق والصواب من القول إلى البهت والضلال في هذين الجنسين من العلم؛ فاحتسبت في تصنيف كتاب يجمع هذين الجنسين من العلم؛ بإثبات القول بالقضاء السابق والمقادير النافذة قبل حدوث كسب العباد، والإيمان بجميع صفات الرحمن الخالق جل وعلا مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الثابتة الصحيحة بنقل أهل العدالة موصولا إليه صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا ممن وفقه الله لإدراك الحق والصواب، ومن عليه بالتوفيق لما يحب ويرضى: صحة مذهب أهل الآثار في هذين الجنسين من العلم، وبطلان مذاهب أهل الأهواء والبدع الذين هم في ريبهم وضلالتهم يعمهون، وبالله ثقتي، وإياه أسترشد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
وقد ذكر رحمه الله في كتابه ما يشفي العليل ويروي الغليل من سياق الآيات وذكر الأحاديث الدالة على صفات الله تعالى؛ من: السمع، والبصر، واليدين، والقدم، والنفس، والعلم، والكلام... وغير ذلك مما ذكره وبرهن عليه، وقد فند في كتابه شبه المشبهين وتعطيل المعطلين.
فهل هذا شرك كما ادعاه أهل التعطيل وبعض أهل الحيرة، الذين لم يعرفوا ربهم وخالقهم، الذين جعلوا التوحيد شركا والشرك توحيداً؛ كما نطقت بذلك ألسنتهم، وشهدت به عليهم كتبهم؟!(1/73)
قال ابن القيم رحمه الله- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 108)-: ((ومن العجب أنهم سموا توحيد الرسل شركا وتجسيما وتشبيها مع أنه غاية الكمال، وسموا تعطيلهم وإلحادهم وبغيهم توحيدا وهو غاية النقص، ونسبوا أتباع الرسل إلى تنقيص الرب وقد سلبوا كل كمال، وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال وقد نزهوه عنه؛ فهذا توحيد الجهمية والمعطلة...)).
ومن تحاكم إلى الوحي المبين، ونبذ هذيان أهل الكذب والمين؛ تبين له أن كتاب ابن خزيمة في التوحيد مشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور من غيها، وأن كتب أهل التعطيل- كالرازي وأمثاله- مشتملة على التشبيه والتعطيل، وأن أهل التعطيل يسمون التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب شركا، ويسمون التعطيل الموروث عن الجهم بن صفوان والجعد بن درهم توحيدا؛ فالله المستعان.
وأما قول السقاف: ((وقد ندم ابن خزيمة على تصنيفه، ورجع عنه؛ كما جاء عنه بإسنادين في كتاب((الأسماء والصفات)))): فهذا من الكذب والبهتان، والكذب مجانب الإيمان، وما أرخص الكذب والبهتان على أهل الأهواء من ذوي الأضغاث!!
فابن خزيمة رحمه اله لم ينقل عنه بأنه رجع أو ندم على تصنيف كتابه كتاب((التوحيد))، ولم يذكر البيهقي في((الأسماء والصفات)) شيئا من ذلك، ولم يشر إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد، إنما ذكر ما جرى بين ابن خزيمة وبين بعض أهل عصره من مسألة الكلام، ولم يتعرض لكتاب((التوحيد)) الذي صنفه ابن خزيمة!!
والكوثري مع ضلاله وتجهمه ومخالفته لكثير من المنقول والمعقول لم يذكر ما ذكره السقاف من أن ابن خزيمة ندم أو رجع عن كتابه، بل قال الجهمي الكوثري: ((قد ألف كتاب((التوحيد)) فأساء إلى نفسه))؛ فهو يثبت تأليفه، ولم يذكر رجوعه أو ندمه، وأما قوله: ((فأساء إلى نفسه))؛ فهذا على رأيه ورأي أهل البدع، الذين لا يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(1/74)
والحاصل أن ابن خزيمة رحمه الله لم يزل في حياته منافحا عن عقيدة السلف، مفندا لمذهب الخلف، إلى أن لقي الله تعالى.
ومذهبه الذي مات عليه- ولا تزال أقواله تنقل عنه في التراجم -: ((أنه ليس لأحد مع رسول الله: ((صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر))(1).
وقال رحمه الله: ((من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سماواته؛ فهو كافر، حلال الدم، وكان ماله فيئا)).
وقال: ((القرآن كلام الله، ومن قال: إنه مخلوق؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا؛ قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين)).
فهذا بعض اعتقاد الإمام ابن خزيمة رحمه الله؛ فهل عاقل يرجع عن هذه الأقوال التي دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على صحتها؟! أم هو كذب أهل البدع والأهواء واختلافهم ما يستحي العاقل من ذكره؟!
فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بهد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة.
وقول السقاف: ((ومثل كتاب((التوحيد)) لابن خزيمة كتاب السنة)) المنسوب لابن أحمد، وكذلك((سنة)) الخلال)): قول عظيم، وإفك خطير!! { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف: 5].
فجعل كتب السلف كتب شرك من أعظم الباطل وأشنعه، ولا يصدر ذلك ممن يعلم ما يقول، ويعلم أنه سوف يقف بين يدي الله تعالى.
وأي جرم أعظم من الجرأة على كتب السلف ووصفها بأنها كتب شرك؟!
وقول السلف: ((وأمثال هذه الكتب التي تحمل في طواياها تجسيما صريحا...)): قد تقدم ما يبطله، , أن أهل البدع يصفرن أهل السنة بأوصاف هم أحق بها وأهلها.
وليس- ولله الحمد-في وصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبها وصفه به رسول صلى الله عليه وسلم مما صحت به الأخبار تشبيه ولا تجسيم، إنما التشبيه نفي صفات الله تعالى، ووصف الله بالعدم.
__________
(1) انظر: ((تذكرة الحفاظ)) (2/ 728).(1/75)
فإذا كنتم أيها الجهمية لا تثبتون لله تعالى لا رحمة ولا رضى ولا غضبا ولا محبة ولا علوا ولا استواء على العرش ولا يدين ولا قدما ولا صورة ولا ساقا ولا أصابع ولا ضحكا ولا مجيئا ولا نزولا ولا كلاما ولا سمعا ولا بصرا؛ فقد جعلتم معبودكم عدما، وشبهتموه بالناقصات والمعدومات!!
وأي كفر أعظم من هذا الكفر؟!
وأي تشبيه للخالق بالمعدومات أعظم من هذا التشبيه؟!
فما هرب منه المعطلون؛ وقعوا فيه من حيث لا يشعرون.
ومن عرف مذهب الجهمية، ووقف على حقيقة حالهم، كان له معرفة بأدلة الكتاب والسنة على فهم السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان؛ علم حقيقة كفرهم، وعرف مصداق ما قاله أئمة الهدى فيهم:
كقول ابن المبارك: ((كل قوم يعرفون ما يعبدون؛ إلا الجهمية)) (1).
وقول الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله: ((ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليود والنصارى...))(2).
وأما ما قاله المعلقان على((شرح السنة)) للبغوي (1/ 228) على قول الإمام البخاري رحمه الله المتقدم من أنه((من الغلو الإفراط الذي لا يوافقه عليه جمهور العلماء سلفا وخلفا، وكيف يذهب هذا المذهب، مع أنه قد خرج في ((صحيحه)) أحاديث كثيرة رويت عن الجهمية والخوارج وغيرهما من الفرق؛ فإذا كان يحكم بكفرهم؛ فكيف يروي عنهم؟!)).
فجوابه من وجوه:
الوجه الأول: ليس في قول البخاري غلو ولا إفراط، ولكن الجهل بمذهب الجهمية وحقيقة قولهم يجعل البعض يتكلم ويهذي بما لا يدري، ومن نظر في أقوال الجهمية، وله معرفة بالكتاب والسنة؛ قال فيهم أكثر مما قاله الإمام البخاري.
__________
(1) خلق أفعال العباد)) (ص16).
(2) خلق أفعال العباد)) (ص13).(1/76)
الوجه الثاني: أن قول المعلقين: ((لا يوافقه عليه جمهور العلماء...)): قول لا زمام ولا خطام، ولم يذكرا من هم جمهور العلماء الذين لا يوافقون البخاري؟! أهم من أهل السنة؟ أم من أهل البدع؟ فإن كان الأول؛ فهذا خطأ وجهل؛ فجمهور لعلماء يوافقون البخاري، يعرف ذلك من نظر في كتب السنة لأئمة السلف (1)، وإن كان الثاني؛ فلا عبرة بعلماء البدع والضلال.
الوجه الثالث: أن قولهما: ((وكيف يذهب هذا المذهب مع أنه قد خرج في ((صحيحه)) أحاديث كثيرة رويت عن الجهمية والخوارج؟!)): فهذا أيضا قول لا دليل عليه سوى القول بلا علم؛ فالإمام البخاري رحمه الله لم يخرج لرافضي ولا الجهمي (2)
__________
(1) قال الآجري في((الشريعة)) (ص 75): ((والجهمية عند العلماء كافرة...)).
وانظر: ((المختار في أصول السنة)) (ص 51).
(2) هذا وقد رمي إسماعيل بن علية- وهو من رجال السته- بالتهجم؛ بدعوى أنه يقول: القرآن مخلوق! وهذا إن صح عنه؛ فقد جاء ما يعارضه ويدل على توبته؛ فإنه كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
وقيل: غلط عليه بعضهم، ونسب إليه القول بخلق القرآن؛ بسبب أنه حدث بحديث: ((تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما)). فقيل لابن علية: ألهما لسان؟ قال: نعم؛ فكيف تكلما؟!
وقد قال الفضل بن زياد: ((سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن وهيب وابن علية؟ قال: وهيب أحب إلي، ما زال ابن علية وضيعا من الكلام الذي تكلم به إلى أن مات. قلت: أليس قد رجع وتاب على رؤوس الناس؟ قال: بلى، ولقد بلغني أنه أدخل على محمد الأمين ابن هارون، فلما رآه؛ زحف إليه، وجعل يقول: يا ابن كذا وكذا! تتكلم في القرآن؟ وجعل إسماعيل يقول: جعلني فداك، زلة من عالم)).
وقال الذهبي رحمه الله في((الميزان)) (1/ 219): ((ابن علية قد تاب ولزم السكوت)).
وانظر: ((سير أعلام النبلاء)) (9/ 110-112)، و((تهذيب التهذيب)) (1/ 243).
وخلاصة القول في ابن علية: إما أنه قال: القرآن مخلوق! وتاب من ذلك، وإما أنه قد غلط عليه بعضهم.
وما قيل أيضا عن بشر بن السري من أنه جهمي؛ فجوابه ما قاله الذهبي في((الميزان)) (1/ 318): ((أما التهجم؛ فقد رجع عنه)).
وينبغي أن يعلم أنه ليس كل راو قيل فيه: جهمي، أو: رافضي؛ صار حقاً وصدقاً؛ فلا يقابل قول القائل بالتسليم؛ فلا بد من بينة وبرهان وأدلة كالشمس على ما ادعاه من أنه جهمي أو رافضي، والله أعلم.(1/77)
، فضلا عن أن تكون أحاديث كثيرة مروية في ((الصحيح)) لهما؛ كما ادعاه هذان المعلقان المتسرعان، أما الخارجي؛ فليس بمنزلة الجهمي ولا الرافضي؛ فإن الجهمية والروافض شر من الخوارج؛ كما هو معلوم عند أهل التحقيق، والخوارج أصدق بكثير من الجهمية والروافض، وأكذب الطوائف على الإطلاق هم الروافض؛ كما هو معلوم لمن قرأ عن القوم (1).
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: ((ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة)).
وعبارات السلف كثيرة جدا في ذم الرافضة وعدم الرواية عنهم؛ لكثرة كذبهم، ولتميزهم عن غيرهم بالكذب وشهادة الزور.
والحاصل أن تكفير الجهمية والرافضة ليس فيه غلو ولا إفراط؛ فمخالفتهم للمنقول والمعقول أمر مشهور، لا يجهله صغار طلبة العلم، فضلا عن كبارهم؛ فالله المستعان.
* * *
قال ابن الجوزي (ص110، على قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]):
((أي: جاء أمره)). وقال: ((لا بد من تأويله)). وقال: ((قاله أحمد بن حنبل، وإنما صرفه إلى ذلك أدلة العقل؛ فإنه لا يجوز عليه الانتقال)).
أقول:
ابن الجوزي في كثير من المواضع من ((تفسيره)) يتأول مجيء الرب بمجيء أمره؛ كما تأول ذلك هنا؛ قال على قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } [ الأنعام:158]؛ قال: ((قال الحسن: أو يأتي أمر ربك. وقال الزجاج: أو يأتي إهلاكه وانتقامه: إما بعذاب عاجل، أو بالقيامة))!!
هكذا نقل ابن الجوزي هذين القولين، ولم يتعقبهما بشيء، مع أنهما مخالفان لمذهب السلف.
وما نقله ابن الجوزي عن الحسن لا يصح عنه؛ فإنه نقل مكذوب.
وقال ابن الجوزي على قوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ } [البقرة: 210]؛ قال:
__________
(1) انظر: ((منهاج السنة)) لشيخ الإسلام(1/ 59- 63).(1/78)
((كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا، وقد ذكر القاضي أبو يعلي عن أحمد؛ أنه قال: المراد به قدرته وأمره)). قال: ((وقد بينه في قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل:33])).
أقول:
قد تقدم الجواب عما نقل عن أحمد من التأويل، وأنه إما غلط أو شاذ مخالف لما ثبت عنه بالنقول الصحيحة من إثبات المجيء لله تعالى.
ثم إن تأويل مجيء الرب بمجيء أمره: لا يصح، وصرف للآيات بغير دليل ولا برهان، وهذا من أعظم التحريف والإلحاد؛ فلو كان المراد بالمجيء مجيء أمر الرب؛ ليبينه الله تعالى؛ كما في قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل: 33]، ولكن لما قال: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [ الفجر:22]؛ دل على إثبات المجيء لله تعالى، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء.
وقد دلت السنة على إثبات المجيء لله تعالى كما دل على ذلك الكتاب:
ففي((صحيح البخاري)) (13/ 419-فتح) و((مسلم)) (رقم182) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر؟)).
قالوا لا يا رسول الله! قال: ((فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)). قالوا: لا يا رسول الله! قال: ((فإنكم ترونه كذلك: يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا؛ فإذا جاء ربنا؛ عرفناه. فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون أنت ربنا. فيتبعونه...)).
وتأويل المجيء بمجيء الأمر تأويل محدث مبتدع، لم يقله النبي، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم.(1/79)
وقول ابن الجوزي: ((قال أحمد بن حنبل: وإنما صرفه إلى ذلك أدلة العقل؛ فإنه لا يجوز عليه الانتقال)): يقال عنه: إن هذا النقل مكذوب على أحمد رحمه الله.
ثم إن أدلة الانتقال؛ لا تصرف النصوص وتخرجها عن معانيها المراد بها.
وأما لفظ الانتقال؛ فلم يرد ذكره لا في السنة؛ فلا يجوز نفي مجيء الرب جل وعلا ولا إتيانه بمثل هذا التعليل؛ فإن نفي الصفات التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بألفاظ لم يرد ذكرها لا في الكتاب ولا في السنة كالانتقال ونحوه خروج عن مذهب السلف الذين يراعون لفظ القرآن والحديث في الإثبات والنفي.
* * *
قال ابن الجوزي (ص 110):
((فإذا سأل العامي عن قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف:154، وغيرها]؟ قيل له: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة...)).
وقال(ص112 على آية الاستواء):
((وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت؛من غير تفسير ولا تأويل...)):
وقال (ص127):
(( وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتض الحس، فقالوا: ((استوى على العرش بذاته))، وهي زيادة ل تنقل، إنما فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشيء إنما تستوي عليه ذاته)).
أقول:
ابن الجوزي في مواضع كثيرة من كتبه يرجح مذهب المفوضة،خصوصا في الاستواء، ويظن أن هذا المذهب هو مذهب السلف، وهذا خطأ على السلف وجهل بمذهبهم.
وميل ابن الجوزي إلى التفويض في بعض الحالات وإلى التأويل في الحالات الأخرى دليل على اضطرابه في العقيدة، وأنه لم يثبت على قاعدة في توحيد الأسماء والصفات.
والعجيب أن من يسلك مسلك التفويض يستدل لمذهبه بمقالة مالك وغيره من علماء السلف: ((الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول))(1).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/398).(1/80)
وهذه المقالة ليس فيها تفويض، إنما فيها إثبات استواء الرب جل وعلا على عرشه استواء حقيقيا، وذلك لمن عقل وتدبر.
فمراد من قال: ((الكيف غير معقول)): نفي علم الكيفية، وليس مراده نفي حقيقة الصفة؛ كما يظنه أهل التحريف؛ فنحن لا نعلم كيفية استوائه كما أننا لا نعلم كيفية ذاته، ولكن مما لا نزاع فيه بين علماء السلف أننا نعلم معنى الاستواء،وهذا معنى قول السلف: ((والاستواء غير مجهول))؛ فالسلف ينفون علم الكيفية، ولا ينفون حقيقة الصفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الفتاوى)) (5/41):
((فقول ربيعة ومالك: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب)): موافق لقول الباقين: ((أمروها كما جاءت بلا كيف))؛ فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة.
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غيرهم فهم لمعناه على ما يليق بالله؛ لما قالوا: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول))، ولما قالوا: ((أمروها كما جاءت بلا كيف))؛ فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا، بمنزلة حروف المعجم.
وأيضا؛ فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات.
وأيضا؛ فإنه من ينفي الصفات الخبرية- أو الصفات مطلقا- لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف! فمن قال: إن الله ليس على العرش. لا يحتاج أن يقول: بلا كيف. فلو كان مذهب الساف نفي الصفات في نفس الأمر؛ لما قالوا: بلا كيف.
وأيضا؛ فقولهم: ((أمروها كما جاءت)): يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظا دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية؛ لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة. وحينئذ؛ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول...)).(1/81)
فإذا علم بطلان قول من استدل بمقالة مالك على التفويض؛ فليعلم أن ابن الجوزي وقع فيه، وادعى فيه دعوى عريضة من أنه مذهب السلف، ونقل الإجماع عليه.
قال في((صيد الخاطر)) (ص 84): ((فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد؛ لم ألمه، وهذه طريقة السلف)).
وقال أيضا في ((صيد الخاطر)) (ص 84))مقاله عظيمة تدل على توغله في التفويض وبعده عن مذهب السلف الصالح الذي دل الكتاب والسنة والإجماع الصحيح على صحته؛ قال:
((ولقد عجبت لرجل أندلسي، يقال له: ابن عبد البر، صنف كتاب((التمهيد))، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا (1)، فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش؛ لأنه لولا ذلك؛ لما كان لقوله:((ينزل)): معنى. وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل؛ لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام، فقاس صفة الحق عليه؛ فأين هؤلاء واتباع الأثر...)) انتهى كلامه.
وقال في ((تفسيره)) (3/213) على قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف:54، وغيرها]: ((وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية...)).
وهذا الذي ذكره ابن الجوزي من أن إجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية خطأ ومخالف لمذهب السلف بأجمعهم، فضلا عن أن يكون مذهبهم.
ومعاذ الله أن يكون مذهب السلف قراءة الآيات والأحاديث من غير فهم لمعناها وما دلت عليه؛ وقد أمر الله تعالى بتدبر القرآن وذم الذين لا يتدبرونه:
فقال تعالى: { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء:82 ].
وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد:24].
وآيات الصفات داخلة في التدبر المأمور به.
وهل يعقل أن يؤمر المسلم بتدبر ألفاظ لا معاني لها؟!
__________
(1) انظر ما قرره ابن عبد البر رحمه الله على حديث النزول في((التمهيد)) (7/ 129).(1/82)
فإذا قال الله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]؛ استفدنا من هذه الآية ثلاثة معان:
الأول: إثبات اسم الرحمن لله تعالى.
الثاني: إثبات العرش.
الثالث: إثبات استواء لله على العرش استواء حقيقيا.
ودعوى ابن الجوزي أن السلف لا يزيدون على قراءة الآية جهل بمذهب السلف وحقيقة قولهم، وكلام السلف ينقضه:
قال الأوزاعي: ((كنا والتابعون متوافرون نقول: أن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا))(1).
وقال يزيد بن هارون: ((من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة؛ فهو جهمي)) (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في((الفتاوى)) (33/ 178): ((... الظاهر من لفظ((استوى)) عند عامة المسلمين الباقين على الفطر السليمة التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل، هذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين...)).
وقال علي بن الحسن بن شقيق: ((قلت لعبد الله بن المبارك: كيف نعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة، على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض. فقيل هذا لأحمد بن حنبل. فقال: وقال أبو عمر الطلمنكي: ((أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته)).
وقال: ((أجمع أهل السنة على أنه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز...)) (3).
__________
(1) الأسماء والصفات)) للبيهقي(2/ 150).
(2) رواه عبد الله بن أحمد في((السنة)) (1/ 123)).
(3) انظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (ص 76)).(1/83)
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: ((من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته؛ فهو كافر بربه يستتاب، فإن تاب، وإلا؛ ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حيث لا يتأذى المسلمون والمعاهدون بنتن ريح جيفته، وكان ماله فيئا، لا يرثه أحد من المسلمين؛ إذ المسلم لا يرث الكافر...)) (1).
ولا بد من حمل استواء الرب على العرش على الحقيقة، وهكذا سائر صفات الرب جل وعلا، وهذا أمر متفق عليه بين علماء السلف.
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في((التمهيد)) (7/ 145): ((أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج؛ فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، وهم أئمة الجماعة، والحمد لله...)).
وكلام السلف في هذا الباب كثير، وحاصله أنه لا نزاع بينهم في أن الرب جل وعلا مستو على عرشه استواءً حقيقيا، وأطلق بعضهم أنه مستو على عرشه بذاته (2)، وهذه اللفظة لم ترد لا في الكتاب ولا في سنة صحيحة؛ فتمر الأحاديث كما جاءت، فنعتقد أن الله تعالى مستو على عرشه استواءً حقيقيا.
__________
(1) رواه: الحاكم في كتاب((معرفة علوم الحديث)) (ص 84)، وابن قدامة في ((العلو)) (ص 185).
(2) ونقل الطلمنكي الإجماع على ذلك، وقد تقدم قوله.(1/84)
والأحاديث صريحة في أن الله مستو على العرش بذاته؛ إلا من هذه اللفظة لم ترد؛ فمن أطلقها؛ إنما أراد بها الرد على الجهمية والمعطلة والمفوضة، الذين ينكرون استواء الرب جل وعلا على عرشه استواءً حقيقيا، وإطلاقها في هذا الموطن لا شيء فيه؛ لقمع المبتدعة الضالين، ولأن المعنى يقتضي ذلك؛ فقطعا إذا قيل: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5]؛ فالخبر عن المعنى لا عن اللفظ؛ كما هو معلوم عند أهل التحقيق، ومن لم يطلقها؛ فقد وقف مع النصوص، مع إقراره بأن الأحاديث الصحيحة في إثبات استواء الله على عرشه صريحة في ذلك، والله أعلم.
* * *
* قال السقاف (ص111، تعليق رقم35، عن إبراهيم الحربي):
((وهو الذي قال -كما في ترجمة معروف الكرخي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/343)-: ((قبر معروف الترياق المجرب))؛ كما نقلناه عنه في كتابنا ((الإغاثة)))).
* أقول:
لابد من معرفة أصلين عظيمين لا غنى لأي مسلم عنهما:
الأصل الأول: أن لا يعبد إلا الله(1)
__________
(1) وهذا توحيد الإلهية، وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادات.
وقد أبطل السقاف هذا النوع من التوحيد، وأعلن عن وثنيته في رسالة له اسمها: ((التنديد بمن عدد التوحيد...))!! يبطل فيها تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات!! ويزعم أن هذا التقسيم بدعة خلفية مذمومة؛ كما في (ص8).
وأقول: لو قرأ هذا الجاهل ليس في هذه المسألة فحسب؛ فالأمر أعظم.
فهذا الجاهل الذي ابتلينا به في هذا الزمان يكتب وينشر بدعاً وضلالات، بل وكفراً صريحاً، يزعم أن التوحيد هو توحيد الربوبية، وأبطل توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات:
قال عن توحيد الأسماء والصفات –كما في (ص18)-: ((إنه تشبيه وتجسيم)).
وقال (ص32) معلناً وثنيته: ((إن مجرد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرجاء أو التوسل أو التذلل لا يسمى عبادة...)).
وقال (ص33): ((كما أن الاستغاثة أيضاً بمخلوق عبادة له؛ كما ثبت في ((الصحيحين)): ((إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك؛ استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع ليقضي بين الخلق))؛ فما زعمه الجهلة أن كل نداء للميت عبادة له؛ فهو من التخبط في الجهل القبيح...)).
أقول: التخبط والجهل القبيح هو عدم التفريق بين الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه وبين الاستغاثة بالأموات والغائبين وسؤالهم جلب المنافع ودفع المضار؛ فهذا الثاني شرك أكبر لا نزاع فيه، وإن رغم أنف السقاف وأتباعه من المستغيثين بغير الله تعالى.
وأي مراغمة ومصادمة لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم أعظم من دعاء الأموات والغائبين وإنزال ذلك منزلة الدعاء المأمور به؟!
والله جل وعلا يقول: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ 13 إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } . [فاطر: 13- 14]
وقال تعالى: { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } . [النمل: 62]
والسقاف يعتقد أن كل ما تقدم من دعاء الأموات والغائبين ليس بشرك، إنما الشرك اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها؛ كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لمن اعتقد فيه ذلك... كما صرح به (ص34).
ومما يدل أيضاً على أن السقاف منغمس في الوثنية جاهل بالتوحيد وبما بعث الله به رسله وأنزل من أجله كتبه: قوله في مقدمة رسالة ((إرغام المبتدع)) (ص3) ((فالتوسل والاستغاثة والتشفع بسيد الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصباح الظلام من الأمور المندوبات المؤكدات، وخصوصاً عند المدلهمات...))!!
وهذا من أكبر الأدلة وأوضح البراهين على ضلاله وبعده عن الكتاب والسنة، ولحوقه بعباد القبور، وما ذكرته من حال السقاف غيض من فيض؛ فكتبه كلها تدعو إلى البدع والضلالات؛ فالحذر الحذر من هذا الرجل ومن كتبه؛ فإنه داع من دعاة جهنم.(1/85)
.
الثاني: أن لا يعبد إلا بما شرع على ألسن رسله.
فالأولى معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني معنى شهادة أن محمدا رسول الله، ومعناها طاعته فيما أمر،وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر.
فمت عبد الله تعالى بالمحدثات والبدع؛ نقص تحقيقه لشهادة أن محمد عبده ورسوله، وقد يزول بالكلية.
فإذا تقرر هذان الأصلان؛ فليعلم أن الله جل وعلا ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبد وحده لا شريك له:
كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . [ الذاريات: 56]
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . [البقرة: 21]
وقال: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } . [النساء: 36]
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ... } . [النخل: 36]
وعبادة الله تعالى لا أن تكون موافقة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبادة الله تعالى بالمحدثات والبدع مردودة على صاحبها:
لما روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد))، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو رد)).
وروى الإمام أبو داود والترمذي وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة،وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).(1/86)
وعبادة الله تعالى عند قبور الصالحين، أو تحري الدعاء عند قبورهم، من محدثات الأمور التي نهينا عنها،ووسيلة من وسائل الشرك، ولو كان هذا الفعل خيراً؛لسنه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة؛ فإنه بلغ البلاغ المبين؛ وأدى الأمانة، ونصح للأمة، فلم يدع شيئاً يقرب إلى الجنة إلا وبينه لنا صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد وغيره بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه؛
قال: ((لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم،وما يحرك طائر جناحيه في السماء؛ إلا أذكرنا منه علماً)).
فلو كانت العبادة مشروعة عند قبور الصالحين، أو تحري الدعاء عند قبورهم له مزية وفيه فضل؛ لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً،ولفعله الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، الذين هم أحرص الناس على الخير، وأسرعهم مبادرة إليه، فلما لم يفعلوه؛علم أنه بدعة وضلالة ووسيلة من وسائل الشرك.
وما ذكره السقاف محسنا له من أن إبراهيم الحربي قال: ((قبر معرف الترياق المجرب)): جوابه من وجهين:
الوجه الأول: المطالبة بتصحيح النقل عن الحربي، وكون الذهبي ذكر ذلك عته في ((السير)) ليس حجة، ما لم يذكر السند، فينظر فيه.
والذهبي عفا الله عنه عنده تساهل في نقل مثل هذه الحكاية وأشباهها دون تعقب لها، وقد قرأت كتابه ((السير))، فرأيت فيه أشياء يتعجب منها، كيف يذكرها ولا يتعقبها، مع أن بعضها مما يناقض ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان الأولى بالذهبي رحمه الله ردها وإبطالها، أو عدم ذكرها؛ لأنها تخالف مذهب السلف، وهو واحد من علماء السلف الذين خدموا هذا الدين بالمصنفات الكثيرة.
وقد رأيت بالاستقراء أهل السير والتواريخ يتساهلون في النقل، والله المستعان.(1/87)
الوجه الثاني: لو فرضنا صحة ما نقل عن الحربي؛ فالقاعدة الكلية المجمع عليها بين المسلمين: أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وقول الحربي خطأ؛ لمخالفته للكتاب والسنة وهدي الصحابة رضي الله عنهم.
والعجيب أن الذهبي في ((السير)) (9/ 343) قال معلقا على مقاله إبراهيم الحربي: ((يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء...))!!
وهذا عجيب من الذهبي؛ إذ مثل هذا وسيلة من وسائل البدع والشرك.
والعبادات أيضا مبناها على التوقيف لا على الرأي والاستحسان، و إلا؛ لقال من شاء ما شاء، وانفتحت أبواب المحدثات من كل جانب.
ومما يبطل المقالة المنسوبة إبراهيم وما في معناها ما روى أبو يعلي الموصلي في((مسنده)) (1/ 245) وغيره من طريق علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين؛ أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها، فيدعو فيها، فقال، ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبوراً؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم)). إسناده لا بأس به، وتضعيف من ضعفه بعلي بن عمر غير سديد؛ فإنه قد روى عنه جمع، ومثله حسن الحديث (1)؛ لأن الراوي إذا روى عنه جمع، ولم يأت بما ينكر عليه، ولم يكن فيه جرح؛ صار حديثه حجة، وهذا المذهب هو المذهب الصحيح، وهو منهج أكثر المحدثين.
__________
(1) وقد ذكر البخاي في((التاريخ الكبير)) (2/3- 289) ولم يذكر فيه لا جرحا ولا تعديلا.(1/88)
قال الإمام الدارقطني رحمه الله في((سننه)) (3/ 174): ((وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان رواته (1) عدلا مشهورا، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا؛ فإذا كان هذه صفته؛ ارتفع عنه اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفا...)).
وهذا القول من الدارقطني في غاية التحقيق، ومن سبر منهج المتقدمين؛ كأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومن قبلهم ومن بعدهم؛ علم أن هذا القول هو الصواب.
ولما قال ابن القطان في مالك بن الخبر الزيادي: ((هو ممن لم تثبت عدالته))؛ قال الذهبي: ((يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة)).
وفي رواة((الصحيحين)) عدد كبير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم.
والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه؛ أن حديثه صحيح.
ومنه يتبين أن تضعيف من ضعف الحديث بعلي بن عمر غير صحيح، بل الحديث ثابت على منهج أهل التحقيق.
وللحديث أيضا شاهد:
قال الإمام عبد الرازق في((المصنف)) (3/577): عن الثوري، عن ابن عجلان، عن رجل يقال له: سهيل، عن الحسن بن الحسن بن علي؛ قال رأى قوما عند القبر، فنهاهم، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني)).
والحاصل أن تحري الدعا عند القبر معروف أو غيره من الصالحين بدعة ووسيلة من وسائل الشرك، ولا يبعد أن يأتي جاهل من الجهلة فيسأل صاحب القبر، خصوصا في البلاد التي يكثر فيها الجهل!!
وقد خيم الجهل على معظم البلاد في هذا الزمان، واستحكمت غربة الدين، وتسلط الحكام الظلمة المجرمون على عباد الله المؤمنين، وأرخوا العنان لأهل البدع والملحدين؛ فعثوا في الأرض فسادا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* * *
__________
(1) هكذا في الأصول، ولعل الكلمة: ((راويه)).(1/89)
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه" (ص113):
«قال الله تعالى: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 27]، قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله: ]يُريدُونَ وجَهْهُ[ [الأنعام: الآية 52]، أي: يريدونه، وقال الضحَّاك وأبو عبيدة في قوله: ]كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص: الآية 88]، أي: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا، وليس لهم دليل إلا ما عرفوا من الحسيات؟! وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه.
وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا يجوز إثبات رأس.
قلت: ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ما ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس».
· والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: مجمل ومفصَّل:
أما المجمل، فإنه يقال: قد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهًا كما أن له يدين وسمعًا وبصرًا وصورةً وعلمًا وحياةً وقدمًا، وغير ذلك ممَّا وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد r، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى: الآية11]؛ فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تُشبه الذوات، فكذلك نثبت لله تعالى وجهًا لا شبيه له ولا نظير.
وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقًّا وتحتمل باطلاً، وقد أرادوا بها قطعًا معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق.
وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.
وبالاعتصام بكتاب الله وسنة رسول r نجاة من أباطيلهم وشبههم.(1/90)
وفي الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة شيء كثير ممَّا يرد على الجهمية وغيرهم من النفاة، ويدحض شبههم، ويقمع باطلهم:
قال تعالى: ]كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص : الآية 88].
وقال تعالى: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن : الآية 27].
وفي «صحيح الإمام البخاري» رحمه الله (13/388) عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: ]قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ[، قال النبي r: «أعوذ بوجهك»، فقال: ]أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ[، فقال النبي r: «أعوذ بوجهك»، قال: ]أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً[، فقال النبي r:«هذا أيسرُ».
فهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات صفة الوجه لله تعالى ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 179) عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله r بخمس كلمات، فقال: «إن الله عزَّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور (وفي رواية أبي بكر: النار)، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه؛ فعموا وصموا.
والأشاعرة تحرفه وتتأوَّله بتأويلات فاسدة: إما بتفسير الوجه بالذات لتنفي صفة الوجه عن الله، وإمَّا بغير ذلك من التأويلات المستكرهة.
وهناك أيضًا من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه ما يغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة:(1/91)
ففي «صحيح البخاري» (13/423) و«مسلم» (رقم 180) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي r، قال: «جنتان من فضَّة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
فقوله: «على وجهه»: فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة.
وأهل الباطل تأوَّلوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال عياض: «فمن أجرى الكلام على ظاهره؛ أفضى به الأمر إلى التجسيم...»!!
وهذا خطأ وغلط؛ فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والواجب على جميع الخلق التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله r، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد.
والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه؛ فالله المستعان.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات الوجه لله تعالى ما رواه أبو داود (1/124) بسند حسن من طريق عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي r، أنه كان إذا دخل المسجد، قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم»، قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: «فإذا قال ذلك؛ قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم».
فقوله: «وبوجهه الكريم»: دليل على إثبات الوجه لله تعالى.
ويرد على زعم أن الوجه هو الذات بأن النبي r استعاذ أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانيًا بوجهه الكريم، والعطف يدل على المغايرة.
والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد خرَّجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول، مقابلين لها بالتسليم، ولم يُنكرها أحد منهم.(1/92)
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» بعد أن ساق الآيات الدالة على إثبات الوجه لله تعالى، قال:
«فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عزَّ ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجلَّ ربنا عن مقالة المعطِّلين، وعزَّ أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عمَّا يقول الجهميُّون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه محمد r...».
وقال رحمه الله: «نحن نقول وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إن لمعبودنا عزَّ وجلَّ وجهًا كما أعلمنا الله في محكم تنزيله...».
وأمَّا الجواب المفصَّل؛ فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ابن الجوزي قال علي قول الله تعالى: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 27]؛ قال: «قال المفسِّرون: معناه: يبقى ربك»: وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ؛ فهناك من المفسرين ممن قبل ابن الجوزي فسَّر الآية بغير ما ادَّعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس محصورًا فيمن صنَّف كتابًا أو كتبًا في التفسير.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في «تفسيره» على قوله تعالى: ]كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ الرحمن : الآيتان 26- 27]:
«يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس؛ فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام، و]ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ من نعت الوجه؛ فلذلك رفع ]ذو[..».
هذا مذهب أهل التحقيق في تفسير هذه الآية، ومن فسَّر الوجه بالذات؛ فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.(1/93)
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في «كتاب التوحيد» (1/51): «وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية [نفسه] التي أضاف إليها الجلال بقوله: ]تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 78]، وزعت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام، لا الوجه».
قال أبو بكر: «أقول – وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدَّعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[[الرحمن: الآية 27]: فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو أن قوله: ]ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[: مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع؛ لكانت القراءة: (ذي الجلال والإكرام)؛ مخفوضًا، كما كان الباء مخفوضًا في ذكر الرب جلَّ وعلا.
ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: ]تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية78]، فلمَّا كان ]الْجَلاَلِ[ و]الإِكْرَامِ[ في هذه الآية صفة للرب؛ خفض ]ذِي[ خفض الباء الذي ذكر في قوله: ]ربِّك[، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة التي كانت صفة الوجه مرفوعة؛ فقال: ]ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[، فتفهَّموا يا ذوي الحِجا هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، لا تغالطوا؛ فتتركوا سواء السبيل.
وفي هاتين الآيتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله، صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، ولا أن وجهه غيره، كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجه الله لو كان الله؛ لقرئ: (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)! فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ولوضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم r؟!».(1/94)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله – كما في «مختصر الصواعق» (ص337)-: «إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب: أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه الثوب، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابلٌ لدبره، ومثل هذا وجه الكعبة ودبرها؛ فهو وجه حقيقة، ولكنه بحسب المضاف إليه، فلما كان المضاف إليه بناء؛ كان وجهه من جنسه، وكذلك وجه الثوب أحد جانبيه، وهو من جنسه، وكذلك وجه النهار أوَّله، ولا يقال لجميع النهار، وقال ابن عباس: وجه النهار أوَّله، ومنه قولهم: صدر النهار، قال الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وأنشد للربيع بن زياد:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ
فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نَهارِ
والوجه في اللغة: مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يوجه منه، ووجه الرأي والأمر: ما يظهر أنه صوابه، وهو في كل محل بحسب ما يضاف إليه؛ فإن أضيف إلى زمن؛ كان الوجه زمنًا، وإن أضيف إلى حيوان؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى من ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[ [الشورى : الآية 11]، كان وجهه تعالى كذلك».
أقول: ولما كان ابن الجوزي مضطربًا في العقيدة؛ ففي بعض كتبه يؤول، وفي بعضها يثبت؛ فقد جاء عنه ما يدل على أنه يثبت الوجه لله تعالى؛ كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة.
قال في كتابه «مجالس ابن الجوزي» يرد على من أوَّل الوجه بالذات: «وقول المعتزلة: إنه أراد بالوجه الذات؛ فباطل؛ لأنه أضافه إلى نفسه، والمضاف ليس كالمضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه...».(1/95)
وهذا حق، ولكن ابن الجوزي لم يثبت على هذا، والاضطراب ظاهر عليه في كتبه، فإنه لا يثبت على قدم النفس ولا على قدم الإثبات؛ فيثبت تارة وينفي تارة، وكثيرًا ما يفوض، كما صنع في «تلبيس إبليس»، فإنه قال (ص101):
«ومن الناس من يقول: لله وجه، هو صفة زائدة على صفة ذاته؛ لقوله عز وجل: ]ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ[ [الرحمن: الآية 26]، وله يد، وله إصبع؛ لقول رسول الله r: «يضع السماوات على إصبع»، وله قدم... إلى غير ذلك ممَّا تضمنته الأخبار، وهذا كلُّه إنما استخرجوه من مفهوم الحس، وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها..».
الوجه الثاني: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، قلت (القائل ابن الجوزي): فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟!».
وجواب هذا أن يقال: إن القول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل، يحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
والألفاظ المجملة التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة ولم يتكلم بها الصحابة توقع اللبس، وطريق السلامة التفصيل:
فمن أثبت الوجه لله تعالى وغيره من الصفات التي صحَّت بها النصوص، وقال: صفات الله زائدة على الذات؛ فمراده زائدة على ما أثبته نفاة الصفات؛ فإنهم يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، فلا يثبتون لله وجهًا ولا يدين ولا قدمًا ولا صورةً ولا كلامًا، بل لا يثبتون إلا ذاتًا مجردة عن الصفات، وهذا ضلال باتفاق علماء السلف؛ إذ لا توجد ذات مجردة عن الصفات، وأهل البدع يوردون الألفاظ المجملة تلبيسًا على الخلق؛ ليدركوا مرادهم من حيث لا يُشْعَر بمقصدهم، ولذلك لا يثبتون الوجه لله تعالى ولا غيره من الصفات، ويعيبون على من قال: إن الوجه صفة زائدة على الذات، مع أن مراد مَن قال في صفات الله: زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته نفاةُ الصفات.(1/96)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (5/326): «وإذا قال مَن قال مِن أهل الإثبات للصفات: أنا أثبتُ صفات لله زائدة على ذاته، فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات؛ فإن النفاة اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات، فقال أهل الإثبات: نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، وأما الذات نفسها الموجودة، فتلك لا يتصور أن تحقق بلا صفة أصلاً، بل هذا بمنزلة من قال: أثبت إنسانًا لا حيوانًا ولا ناطقًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره ولا له قدرة ولا حياة ولا حركة ولا سُكُون... أو نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق ولا جذع ولا ليف... ولا غير ذلك، فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يُسمون نفاة الصفات معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإنْ كانوا هم قد لا يعلمون أنَّ قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين؛ فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود! حق ليس بحق! خالق ليس بخالق! فينفون عنه النقيضين: إمَّا تصريحًا بنفيهما، وإمَّا إمساكًا عن الإخبار بواحد منهما..».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات»؛ فهذا جهل بالنصوص وبما عليه علماء السلف، فإنهم متفقون على إثبات صفة الوجه لله تعالى حقيقة.
وأما قول من قال من العلماء: إن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، فمرادهم زائد على ما نفاه نفاةُ الصفات المعطلة، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله محمد r.(1/97)
الوجه الثالث: أنَّ قول ابن الجوزي: «ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه»: يقال عنه: هذا جهل وقول فاسد، فإننا لو سلمنا أن المراد بقول الله تعالى: ]كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ[ [القصص: الآية 88]؛ أي: إلا ذاته، أو: إلا هو، لم يكن في ذلك دليل على نفي الوجه عن الله تعالى؛ لأن النصوص كثيرة في إثبات الوجه لله تعالى، ولا عبرة بحثالة الجهمية والمعطلة الذين ينكرون ذلك، ويكون معنى الآية على ما قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (ص24): «ونفى عنه الهلاك إذا أهلك الله ما قد قضى عليه الهلاك ممَّا قد خلقه الله للفناء لا للبقاء، جلَّ ربنا عن أن يهلك شيء منه مما هو من صفات ذاته..».
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا نجوِّز إثبات رأس، قلت (القائل ابن الجوزي): ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوَزه في التشبيه غير الرأس».
يجاب عنه، فيقال: إن من أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r، ولم يتجاوز القرآن والحديث الصحيح؛ فقد سلك الصراط المستقيم، واقتفى أثر النبي الكريم r إلى يوم الدين.
ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد r، أو حرَّف ذلك، أو اقشعرَّ جلده من ذلك استنكارًا؛ فقد ضلَّ عن الهدي القويم، وسلك مسلك النفاة من الجهمية والمعطلين.
وإن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد r.
وهذا الأصل يجب التمسك به والعض عليه بالنواجذ، خصوصًا عند جِدال المبطلين، وتلبيس المماحلين، وتشبيه المشبهين.
فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به، فليعلم أنَّ النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها، فمن أنكرها، فإنما ينكر على الله قوله وعلى الرسول r خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل.(1/98)
قال تعالى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا[ [النساء: الآية 65] .
ومن ردَّ آيات الصفات وأحاديثها أو حرَّفها؛ فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم.
وقول ابن حامد: «ولا نجوِّز إثبات الرأس»: قصده في ذلك أن النص لم يأتِ به، ولو جاء النص به؛ لكنَّا أوَّل القائلين به؛ تفاديًا من غضب الله وغضب رسوله r.
وقد قال تعالى: ] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ [النور: الآية 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
فلما لم يأتِ النص بإثبات الرأس لله تعالى، لم يقل به ابن حامد.
وأي عيب في هذا؟!
ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهًا، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد؛ فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحاح، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله السلامة والعافية.
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص113، على قوله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [[طه : الآية 39]، و]وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا[ [هود : الآية 37]).
«قال المفسرون: بأمرنا، أي: بَمرْأى منا.
قال أبو بكر بن الأنباري: أمَّا جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، يقال: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع؛ لأن عادة الملك أن يقول: أَمَرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما.(1/99)
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن الله ليس بأعور»، وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخيل من الصفات وجه».
· أقول: الجواب عن هذه الجهالات من وجهين: مجمل ومفصل:
فأمَّا المجْمَل؛ فإنه قد اتفق علماء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين على أن الله تعالى لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله محمد r؛ دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، واتفقوا أيضًا على أنَّ باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس، ولا مجال للقياس فيه، فلا نثبت لله تعالى إلا ما جاء به السمع.
فكان مما جاء به السمع ذِكْر العين لله تعالى مفردة، كما في قوله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [[طه :الآية 39]، وذكرها بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: ]فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا[ [الطور: الآية 48]، وجاءت السنة بذكر العينين لله تعالى.
فكان الواجب على كل مسلم الإيمان بذلك، وإثبات العينين لله تعالى حقيقة، والتسليم والانقياد، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى، وترك التحريف وصرف النصوص عن حقائقها بلا برهان.
قال الهروي في كتاب «الأربعين» (ص64، باب إثبات العينين له تعالى وتقدَّس)، وساق بالسند حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:
«قال رسول الله r: «ما من نبيٍّ؛ إلا وقد حذَّر أمته الأعور الكذَّاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)...»، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري(13/389) ومسلم (رقم 2933) من طريق شعبة عن قتادة، قال: سمعتُ أنس بن مالك... ورواه أيضًا البخاري (13/389- فتح) ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر عن النبي r به».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص48): «ففي تأويل قول رسول الله r: «إن الله ليس بأعور»: بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور».(1/100)
وقال رحمه الله: «والعور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين».
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (1/97): «فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي r، الذي جعله الله مبينًا عنه عز وجل في قوله: ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ [النحل: الآية44]، فبيَّن النبي r أن لله عينين، فكان بيانه موافقًا لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب..».
وإثبات العينين لله تعالى أمرٌ متفق عليه بين علماء السلف، ومجيئهما في القرآن بلفظ المفرد المضاف إلى الضمير المفرد وبلفظ الجمع المضاف إلى ضمير الجمع لا يدل على أن لله تعالى عينًا واحدة، كما أن لفظ الجمع لا يدل على أن لله تعالى أعينًا متعددة، فيحمل ما جاء بالكتاب على ما وضحته السنة، فيزول الإشكال.(1/101)
قال العلاّمة المحقق ابن القيم رحمه الله في «الصواعق» (1/205): «... فذكرَ العينَ المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعين مجموعة مضافةً إلى ضمير الجمع، وذكرُ العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني، وأحمله على عيني... ولا يريد به أنَّ له عيناً واحدة، فلو فهم أحد هذا من ظاهر كلام المخلوق؛ لعُدَّ أخرق، وأمَّا إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا؛ فالأحسن جمعها، مشاكلة للفظ، كقوله: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنا[ [القمر: الآية 14]، وقوله: ]وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا[ [هود: الآية 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد، كقوله: ]بِيَدِهِ المُلْكُ[ [الملك: الآية1]، و]بِيَدِكَ الخَيْرُ[ [آل عمران: الآية 26]، وإن أضيفت إلى ضمير جمع؛ جمعت، كقوله: ]أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا[ [يَسَ: الآية 71]، وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: ]بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ [الروم: الآية 41]، وقوله: ]قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ[ [الأنبياء: الآية 61].
وقد نطق القرآن والسنة بذكر اليد مضافة إليه سبحانه مفردة ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة، ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي r: «إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت؛ قال له ربه: إلى من تلتفت؟إلى خير لك مني؟».
وقولُ النبي r: «إن ربكم ليس بأعور»: صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلاَّ؛ فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهل يَفْهمُ من قول الداعي: «اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام»: أنها عين واحدة ليس إلا إلاَّ ذهن أقلف وقلب أغلف؟!(1/102)
قال خلف بن تميم: حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم ابن أدهم: هذا السبع، فنادى: يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء، وإلا (يعني: فاذهب)، فضرب بذنبه، وولى مدبرًا، فنظر إبراهيم إلى أصحابه، وقال: قولوا: اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء».
قال عثمان الدارمي: «الأعور ضد البصير بالعينين، وقد قال النبي r في الدجال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»، وقد احتج السلف على إثبات العينين له سبحانه بقوله: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنا[ [القمر: الآية 14]».
وممن صرح بذلك إثباتًا واستدلالاً أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها، فقال في «المقالات» و«الموجز» و«الإبانة»، وهذا لفظه فيها:
«وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله..».
إلى أن قال: «وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ [طه : الآية 5]، وأن له وجهًا، كما قال: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ[ [الرحمن: الآية 27]، وأن له يدين، كما قال: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[ [المائدة: الآية 64]، وقال: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيدَيَّ[ [صَ: الآية 75]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنا[ [القمر: الآية 14]».(1/103)
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرة على وجه، ولم يفهموا من الأيدي أيادي كثيرة على شقٍّ واحد، حتى جاء هذا الجهمي، فعضه القرآن، وادعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيع على من بدَّعه وضلله من أهل السنة والحديث، وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنعون، ] وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[ [التوبة: الآية 105]».
وأما الجواب المفصل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[ [طه: الآية 39]، وقوله: ]وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا[ [هود: الآية 37]: «قال المفسرون: بأمرنا، أي: بمرأى منا»:
يقال: إنه خطأ من وجهين:
الوجه الأول: أن المفسرين لم يطبقوا على هذا التفسير، وعبارة ابن الجوزي فيها إيهام أن جميع المفسرين يقولون ذلك، وهذا خطأ، فابن جرير مثلاً – وتفسيره يُعد من أجلِّ التفاسير وأشهرها – قال على قول الله تعالى: ]وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا[ [هود: الآية 37]، قال: «بعين الله ووحيه كما يأمرك».
الوجه الثاني: أن تفسير الآيتين بما ذكر ابن الجوزي خطأ؛ إذ لو أراد الله تعالى بقوله: ]وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي[ [طَه: الآية 39]، أي: بأمري، لقال: «ولتصنع بأمري».
وكذلك الآية الأخرى يقال فيها مثل ما قيل في هذه.
وقول من قال: «بمرأى منا»: يقال: لا شك أن ذلك بمرأى من الله تعالى، وهذا من اللوازم، وليس هو معنى الآية، فالواجب أولاً إثبات العينين لله تعالى، ثم لا بأس بعد ذلك بذكر اللوازم من الرؤية ونحو ذلك.
ولكن أهل الأهواء يُفسرون الآيات التي في الصفات بلوازمها، وينفون حقائقها، وهذا عين المحادة لله ورسوله r.(1/104)
وقد ثبت عن ابن عباس في قول الله تعالى: ]واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا[ [هود: الآية 37]، قال: «بعين الله تبارك وتعالى»، رواه عنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/41) من طريق محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، به، ورواته كلهم ثقات.
وكذلك قال قتادة: «بعين الله...»، فيما رواه عنه ابن جرير في «تفسير».
وأما قول الجهمي الكوثري في تعليقه على «الأسماء والصفات» على أثر ابن عباس المتقدم، قال: «وفي سند الحديث حجاج المصيصي، اختلط في أواخر عمره، وعطاء ضعفه البخاري، وعكرمة مختلف فيه»، فهو كلام جاهل، ليس له حظ ولا نصيب من هذا العلم، كما أنه لا له حظّ ولا نصيب من معرفة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح:
فقوله: «حجاج المصيصي اختلط في أواخر عمره»: يقال عنه: ذكر ذلك بعض العلماء، كما في ترجمته في «تهذيب الكمال» (5/456) و«تهذيب التهذيب» (2/181).
وهذا لا يؤثر على حديثه مطلقًا؛ لأنه إنما قيل إنه تغير لما رجع إلى بغداد، وحديثه عن ابن جريج ليس من ذلك.
وقد سمع التفسير من ابن جريج إملاءً، كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل، قال أحمد: «ولم يكن مع ابن جريج كتاب التفسير، فأملى عليه».
وقد قال يحيى بن معين: «قال لي المعلى الرازي: قد رأيت أصحاب ابن جريج بالبصرة، ما رأيت فيهم أثبت من حجاج»، قال يحيى: «وكنت أتعجب منه، فلما تبينت ذلك، إذا هو كما قال، كان أثبتهم في ابن جريج».
وقال أبو مسلم المستملي: «خرج حجاج الأعور من بغداد إلى الثغر في سنة تسعين ومائة»، قال: «وسألته، فقلت: هذا التفسير سمعته من ابن جريج؟ فقال: سمعت التفسير من ابن جريج، وهذه الأحاديث الطوال، وكل شيء قلت: حدثنا ابن جريج، فقد سمعته».
وأما قوله: «وعطاء ضعَّفه البخاري»، فهذا غير ناهض لتضعيف عطاء الخراساني:(1/105)
فتضعيف البخاري لرجلٍ ما لا يدل على ضعفه مطلقًا، وأنه لا يحتج بحديثه، فقد وثق عطاء أئمة ثقات أثبات لهم قدرهم في هذا الشأن.
قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: «ثقة».
وقال ابن معين: «ثقة».
ووثقه أيضًا الدارقطني.
وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة، معروف بالفتوى والجهاد».
وقد خرج البخاري لعطاء في «صحيحه» في تفسير سورة نوح، ولكن اختلف العلماء رحمهم الله في عطاء، هل هو ابن أبي رباح أم الخراساني؟ جاء عند عبد الرزاق في «تفسيره» التصريح بأنه الخراساني.
والحاصل أن عطاء الخراساني ممن يحتج بحديثه، كما عليه أكثر أئمة الحديث ونقاده، والله أعلم.
وأما قوله: «وعكرمة مختلَف فيه»: فهذا شغب لا طائل تحته، فالاختلاف في توثيق الراوي ليس تضعيفًا له.
وعكرمة: ثقة حافظ، خرج له البخاري في الأصول، والأربعة، وروى له مسلم مقرونًا، وقد روى عن جماعة من الصحابة.
ووثَّقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: «ليس أحدٌ من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة».
وقد تكلم بعضهم في حديث عكرمة، فقيل: سبب ذلك لرأي رآه عكرمة، وإلا، فهو حجة في الحديث، والكلام الذي قيل فيه لا يطعن في حديثه، وما كل راوٍ يتكلم فيه يطرح حديثه، فلا بد من النظر والوقوف على كلام الجارح، هل هو مؤثر، أم غير مؤثر؟
والحاصل أن عكرمة حجة في الحديث، وشغب الكوثري ممَّا لا يقام له وزن، ولم يبْنِ كلامه على قواعد وأسس سليمة، إنما يلقي الكلام على عواهنه، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما»: يقال عنه:(1/106)
إن مراد القاضي أبي يعلى بقوله: العين صفة زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته النفاة؛ لأن النفاة يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، والسلف يخالفونهم في ذلك، فيثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r مما صحَّت به الأحاديث.
وإن كان اللفظ والقول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أو غير زائدة غير مأثور عن النبي r وعن صحابته الكرام، ويحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
ولكن مراد أهل الإثبات بقولهم: «صفة زائدة على الذات»، أي: زائدة على ما أثبته النفاة، وهذا المعنى حق، خلافًا لأهل البدع الذين ينكرون صفات الله تعالى أو يُحرفونها، ولا يثبتون لله تعالى، لا وجهًا، ولا سمعًا، ولا بصرًا، ولا عينين... ولا غير ذلك من الصفات الذاتية، ولا كثيرًا من الصفات الفعلية، فقد شبهوا معبودهم وربهم بالناقصات، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وأما عيب ابن الجوزي على أبي يعلى وابن خزيمة، فليس في محله، وهذا العيب في الحقيقة إنما يقع على من دلَّ الأمة على أن لله عينين، فليس ابن خزيمة أول من ذكر العينين لله تعالى حتى يخص بالإنكار، ولو تفكر في ذلك أهل الأهواء؛ لعلموا فساد عقولهم وتناقضهم واضطرابهم، ولعلموا أنهم في الحقيقة إنما يطعنون على من جاء بإثبات العينين لله تعالى حقيقة ودعا الناس إلى الإيمان بذلك.
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله r: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: قد تقدم ذكر الأدلة على إثبات العينين لله تعالى، وليس في إثباتهما ابتداع في الدين، إنما الابتداع هو نفيهما عن الله، ووصف الله تعالى بالنقائص، وهذا أصل التعطيل.
وقول ابن الجوزي: «وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله r: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: إن دليل الخطاب في هذا الموضع حجة، وقد أجمع عليه العلماء، وأثبتوا لله عينين.(1/107)
وقد تقدم إثبات الوجه لله تعالى وغيره من الصفات بنصوص قطعية متواترة، ومع ذلك أنكرها ابن الجوزي وصرفها عن ظاهرها بحجج عقلية متهافتة مضطربة، يستحي العاقل من ذكرها، فليس قوله: «من دليل الخطاب»: هو المانع له من إثبات العينين لله تعالى، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص114)، على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]:
«اليد في اللغة بمعنى النعمة والإِحسان، قال الشاعر:
مَتَى تُناخِي عِنْدَ بابِ بَنِي هَاشِمٍ
تُرِيْحِي فَتَلْقَيْ مِنْ فَواضِلِهِ يَدا
ومعنى قول اليهود: ]يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ[ [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليدُ: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد.
وقوله تعالى: ]بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64]، أي : نعمته وقدرته.
وقوله: ]لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، أي: بقُدْرتي ونعمتي.
وقال الحسن في قوله تعالى: ]يَدُ اللهِ فوقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية10]: «أي: منته وإحسانه».
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان بالدين» ا هـ.
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.
وقال ابن عقيل: «معنى الآية: لما خلقت أنا، فهو كقوله: ]ذلِكَ بما قَدَّمَتْ يداكَ[ [الحج: الآية10]، أي: بما قدمت أنت».
* أقول مستعينًا بالله تعالى لكشف هذه الأباطيل: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته، فلا يجوز العدول عن ذلك، إلا إن كانت هناك قرينة تمنع الحمل على الحقيقة.
الوجه الثاني: أن حمل الكلام على ما يجوز في اللغة، وترك ظاهر الكلام، يؤدي إلى خلل ولبس في فهم المراد، ومن ثَمَّ لا يحصل ضبط كلام متكلم إلا بالاستفسار عن مراده ومقصده، وهذا خلاف ما عليه المسلمون قديمًا وحديثًا، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق.(1/108)
الوجه الثالث: أن حمل صفات الرب جل وعلا على المعاني اللغوية أو على المجاز دون الحقيقة يقتضي تعطيل الرب جل وعلا عن صفات الكمال، فلا يثبت له علم ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا غير ذلك مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد r.
الوجه الرابع: أن حمل الكلام على غير حقيقته يقتضي أن الله جل وعلا يخاطب العباد بما لا يفهمون، أو بما ظاهره غير مراد.
الوجه الخامس: أنه وإن جاز في اللغة إطلاق اليد على النعمة أو القوة في بعض المواضع، فلا يصح أن يجعل هذا الإطلاق عامًّا في كل شيء:
فقوله تعالى: ]لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: لا يصح أن يقال: لما خلقت بقدرتي أو بنعمتي؛ لأن نعم الله متعددة، وليست محصورة في نعمتين، فإن هذا لا يقوله عاقل، قال تعالى: ]وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[ [إبراهيم: الآية34، النحل: الآية 18].
وأما حمل اليدين في قوله تعالى: ]لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75] على القدرة، فهذا أيضًا فاسد؛ لأن القدرة صفة واحدة، قال تعالى: ]أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا[ [البقرة: الآية 165].(1/109)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن لفظ (اليدين) بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأنَّ من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: ]إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْرٍ[ [العصر: الآية 2]، ولفظ الجمع في الواحد، كقوله: ]الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ...[ [آل عمران: الآية 173]، ولفظ الجمع في الاثنين، كقوله: ]صَغَتْ قُلُوبُكُمَا[ [التحريم: الآية4]، أمَّا استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد، فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني: رجلين! ولا: عندي رجلان، ويعني به الجنس! لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد، فقوله: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ[ [ص: الآية 75]: لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد...».
وممَّا يدل على فساد قول من زعم أن اليدين بمعنى القوَّة: قوله r: «إن المقسطين عند اللهِ، على منابرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين...»، خرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1827) عند عبد الله بن عمرو.
قال ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 73): «هذا حديث ثابت باتفاق».
فهل يصح يا معطلة أن يقال: وكلتا قوتيه يمين؟!
فهل للقوة يمين؟!
فإن قلتم: نعم، خالفتم أهل العقول، وصرتم مع البله والجهال والحمقى والمغفلين!! وإن قلتم: لا، خصمتم، ووجب عليكم التسليم والانقياد وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة، وليس بعد ذلك إلا العناد، وبئس الزاد ليوم المعاد.(1/110)
الوجه السادس: أنَّ قول ابن الجوزي: «ومعنى قول اليهود: ]يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[ [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليد القوة»: قولٌ غيرُ صحيح، بل هو باطل، ويبطله قوله تعالى بعد ذلك: ]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ[ [المائدة: الآية 64]، فلا يصح أن يقال: نعمتاه مبسوطتان؛ لأن نعم الله تعالى ليست محصورة في نعمتين إجماعًا ضروريًّا، فثبت أن المراد: إثبات اليدين لله تعالى حقيقيتين، كما أجمع على ذلك أهل العلم والإيمان، ولا أعلم أحدًا نازع في ذلك إلا أهل البدع والضلال، الذين لم يستضيئوا بالكتاب ولا بالسنة على فهم السلف الصالح.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: «وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64]، أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل.
والدليل على نقض دعواه هذه أنَّ نعم الله كثيرة لا يُحصيها إلا الخالق البارئ، ولله يدان لا أكثر منهما، كما قال لإبليس عليه لعنة الله: ]ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه، فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته، كان مبدِّلاً لكلام الله.
وقال الله عز وجل: ]والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بَيَمِينِهِ[ [الزمر: الآية 67].
أفلا يعقل أهل الإيمان أن الأرض جميعًا لا تكون قبضة إحدى نعمتيه يوم القيامة، ولا أن السماوات مطويات بالنعمة الأخرى؟!
ألا يعقل ذوو الحجا من المؤمنين أن هذه الدعوى التي يدَّعيها الجهمية جهلٌ أو تجاهلٌ شر من الجهل؟!
بل الأرض جميعًا قبضة ربنا جلَّ وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليدُ الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يسارًا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه.(1/111)
وافهم ما أقول من جهة اللغة، تفهم وتستيقن أنَّ الجهمية مبدِّلة لكتاب الله لا متأولة قوله: ]بَلْ يداهُ مَبْسُوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64].
لو كان معنى اليد النعمة كما ادعت الجهمية، لقرئت: بل يداه مبسوطة، أو: منبسطة؛ لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمه نعمتين لا أكثر، فلما قال الله عز وجل: ]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ[ [المائدة: الآية 64]؛ كان العلم محيطًا أنه ثبت لنفسه يدين لا أكثر منهما، وأعلم أنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
والآية دالة أيضًا على أن ذكر اليد في هذه الآية ليس معناه النعمة:
حكى الله جل وعلا قول اليهود، فقال: ]وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[، فقال الله عز وجل ردًّا عليهم: ]غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ[، وقال: ]بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ[ [المائدة: الآية 64]، وبيقين يعلم كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: ]غُلَّتْ أَيْدِيْهِم[؛ أي: غُلَّت نعمهم، لا، ولا اليهود [أرادوا] أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: ]يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ[، وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء...».
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: «أي: بقدرتي ونعمتي»: باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن القوة والنعمة لم تردا بلفظ التثنية.
الوجه الثاني: أنه لو صح ورود القدرة أو النعمة بلفظ التثنية، ففي هذه الآية باطل اتفاقًا؛ لأنه لا يكون لآدم خصيصة على غيره من سائر المخلوقات، فالكل مخلوقون بقدرة الله تعالى، فلا يكون هناك مزية لآدم على غيره، وهذا باطل باتفاق المسلمين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: «احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه...».(1/112)
فقوله: «خلقك الله بيده»: صريح في تخصيص آدم بذلك، وإلا، لم يكن في قوله: «خلقك الله بيده»: فائدة؛ لأن كل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله سبحانه.
وكذلك حديث الشفاعة المخرج في «الصحيحين» من حديث أنس يدل على اختصاص آدم بكونه خلقه بيده، فإن فيه: «يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا!»، قال: «فيأتون آدم r فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده...».
فحمل اليد هنا على القدرة أو النعمة من أعظم الإلحاد والتحريف لكلام النبي r.
فكون المؤمنين يوم القيامة يأتون آدم ويقولون: «أنت أبو البشر، خلقك الله بيده...»: دليل ظاهر وبرهان لا ينازع فيه إلا جهمي على اختصاص آدم عن غيره، وأن الله خصه بكونه خلقه بيديه.
الوجه الثالث: قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: «إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله: ]خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: يأبى حمل الكلام على القدرة؛ لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدَّى الفعل إلى اليد، ثم ثنَّاها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك: كتبت بالقلم، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه.
بخلاف ما لو قال: عملت، كما قال تعالى:]بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[ [آل عمران: الآية 182]، و]بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ[ [الحج: الآية 10]، فإنه نسب الفعل إلى اليد ابتداء، وخصَّها بالذكر؛ لأنها آلة الفعل في الغالب.
ولهذا؛ لما لم يكن خلقُ الأنعام مساويًا لخلق أبي الأنام، قال تعالى: ]أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنعاماً[ [يس: الآية 71]، فأضاف الفعل إلى الأيدي، وجمعها، ولم يدخل عليها الباء، فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر.
ويتضمنُ التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام، وهذا من أبطل الباطل، وأعظم العقوق للأب، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق بالدين..».(1/113)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/366): «.. أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدَّى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، فإنه نصٌّ في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلَّم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت: كافٍ في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة، كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة.
ولستَ تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو: فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد، والفعل وقع بغيرها».
الوجه الثامن: أن قول ابن الجوزي: «وقال الحسن في قوله تعالى: ]يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية 10]، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين»:
يجاب عنه فيقال: لو فرضنا أنَّ النقل عن الحسن صحيح – ولا أخاله يصح-، فلا يدل على نفي اليدين عن الله تعالى؛ لأن تفسيره هذه الآية باللازم لا يدل على نفيه الصفة عن الله تعالى مطلقًا في كل المواضع كما فعل النفاة من الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة.
وقول ابن الجوزي: «هذا كلام المحققين»: غير صحيح، فالتحقيق أن هذه الآية تدل كغيرها من الآيات على إثبات صفة اليد الله تعالى حقيقة، وتأويلها بالمنة أو النعمة تأويل لا دليل عليه سوى الظن والتخمين، وكلام المحققين على خلافه.
قال أبو الحسن الأشعري في «الإبانة»: «فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: ]يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية 10]، وقوله عز وجل: ]لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]».(1/114)
وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في (باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا): «والبيان أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: ]مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: ]يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[؛ فكذَّبهم في مقالتهم، وقال: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ[ [المائدة: الآية 64]، وأعلمنا أن: ]وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ[ [الزمر: الآية 67]، و]يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح: الآية 10]....».
وقال رحمه الله تعالى في (باب ذكر سنة سابعة تثبت يد الله): «والبيان أن يد الله هي العليا، كما أخبر الله في محكم تنزيله: ]يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح : الآية 10]، فخبر النبي r أيضًا أن: «يد الله هي العليا»، أي: فوق يد المُعْطَى والمعطِي جميعًا».
وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري وابن خزيمة في إثبات صفة اليدين لله تعالى حقيقة، أخذًا من نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: ]يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ[ [الفتح : الآية 10]: هو الصواب، فإضافة اليد إلى الله في قوله: ]يَدُ اللهِ[: لا تدل إلا على إثبات الصفة حقيقة، ويبطل ذلك تأويلها بالمنة أو الإحسان أو غير ذلك من التأويلات الباطلة.
الوجه التاسع: أن قول ابن الجوزي: «وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين» ا هـ، قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه»:
يجاب عنه فيقال: إن ما ذكره أبو يعلى رحمه الله من إثبات اليدين لله تعالى هو قول جميع علماء السلف، فلا تثريب على أبي يعلى، فإنه لم ينفرد بهذا القول، ولم يقله برأيه، فقد دلَّ الكتاب والسنة على صحة هذا القول، وعلى فساد ما عداه.(1/115)
وقد قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى في كتاب «الشريعة» (ص323): «يقال للجهمي – الذي ينكر أن الله عزَّ وجل خلق آدم بيده -: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة..».
أقول: وقد تقدمت الأدلة من القرآن على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة في مواضع متفرقة، وأجهزنا على تحريف من حرفها أو تأولها على غير التأويل المأثور عن السلف.
وأمَّا الأحاديث الثابتة عن النبي r في إثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فهي كثيرة جدًّا:
منها: ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 2759) عن أبي موسى عن النبي r، قال: «إن الله عز وجل يبسط يَدَهُ بالليلِ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
وروى الإمام البخاري في «صحيحه» (3/ 278) من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب -، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مِثْلَ الجبل».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (رقم 1014) من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله r: «ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب-، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله».
فقوله: «أخذها الرحمن بيمينه»: ينفي ويبطل تأويل من تأول ذلك بالنعمة أو القدرة.
وفي هذا الحديث أيضًا إثبات الكف لله تعالى.
والحديث قال عنه ابن منده رحمه الله: «ثابت باتفاق، وله طرق عن أبي هريرة...».
وروى الإمام البخاري (8/551- فتح) ومسلم (رقم 2787) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله r يقول: «يقبض اللهُ الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟».(1/116)
وروى الإمام مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن عمر، قال: رأيت رسول الله r على المنبر، وهو يقول: «يأخذ الجبَّار عزَّ وجل سماواته وأرَضيه بيدَيْهِ».
وروى البخاري (13/ 393- فتح) ومسلم (رقم 993) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: «يدُ اللهِ ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده؟»، وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان؛ يخفض ويرفع».
وهذه الأحاديث وما في معناها من الأحاديث الدالة على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة ممَّا لم نذكره قد تلقاها أهل المشرق والمغرب بالقبول، وقابلوها بالتسليم، ولم ينكرها منكرٌ منهم، وأنكرها الجهمية وأشباههم، فخالفوا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فكذبوا بالحق، وصدقوا بالباطل.
قال الإمام السجزي في «رسالته لأهل زبيد» (ص 173): «وأهل السنة متفقون على أن لله سبحانه يدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر، قال الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]، وقال النبي r: «وكلتا يدي الرحمن يمين...».
وتأويل من تأول اليدين بمعنى القدرة أو النعمة جهل وضلال.
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص 33) بعد أن ذكر جملة من الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى:
«وفي هذا الباب أحاديث كثيرة تركناها مخافة التطويل، وفيما ذكرنا من ذلك بيان بيِّن ودلالة ظاهرة في تثبيت يدي الله أنهما على خلاف ما تأوَّله هذا المريسي الضال، الذي خرج بتأويله هذا من جميع لغات العرب والعجم، فليعرض هذه الآثار رجلٌ على عقله: هل يجوز لعربي أو عجمي أن يتأول أنها أرزاقه وحلاله وحرامه؟!(1/117)
وما أحسب هذا المريسي إلا وهو على يقين من نفسه أنها تأويل ضلال ودعوى محال، غير أنه مكذب الأصل، متلطف لتكذيبه بمحال التأويل، كيلا يفطن لتكذيبه أهل الجهل، ولئن كان أهل الجهل في غلط من أمره، إن أهل العلم منه لعلى يقين، فلا يظنن المنسلخ من دين الله أنه يغالط بتأويله هذا إلا من قد أضله الله، وجعل على قلبه وسمعه وبصره غشاوة.
ثم إنَّا ما عرفنا لآدم من ذريته ابنًا أعق ولا أحسد منه، إذ ينفي عنه أفضل فضائله وأشرف مناقبه، فيسوِّيه في ذلك بأخس خلق الله؛ لأنه ليس لآدم فضيلة أفضل من أن الله خلقه بيده من بين خلائقه، ففضَّله بها على جميع الأنبياء والرسل والملائكة، ألا ترون موسى حين التقى مع آدم في المحاورة، احتج عليه بأشرف مناقبه، فقال: «أنت الذي خلقك الله بيده»، ولو لم تكن هذه مخصوصة لآدم دون مَنْ سواه، ما كان يخصه بها فصيلة دون نفسه، إذ هو وآدم في خلق يدي الله سواء في دعوى المريسي، فلذلك قلنا: إنه لم يكن لآدم ابن أعق منه، إذ ينفي عنه ما فضَّله الله به على الأنبياء والرسل والملائكة المقربين..».
الوجه العاشر: أنَّ قول ابن الجوزي: «وقال ابن عقيل: معنى الآية: لما خلقتُ أنا، فهو كقوله: ]ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ[ [الحج: الآية 10]، أي: بما قدَّمتَ أنت»: يجاب عنه بأن يقال:
لا إله إلا الله واللهُ أكبر! ما أعظم هذا التحريف وأقبحه وأبشعه! وواللهِ؛ ما يرضى الله ولا رسوله r بمثل هذا التحريف الباطل، ومعنى الآية ظاهر وواضحٌ كل الوضوح، لا خفاء به ولا لبس، ففيها إثبات اليدين لله تعالى حقيقة.(1/118)
وزعم أن المعنى: «لما خلقت أنا»: تكلفٌ وصرف للمعنى الصحيح بلا برهان، فدخول الباء في قوله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]: نص صريح في أن الله جلَّ وعلا خلق آدم بيديه حقيقة، واليدان من صفات الرب جل وعلا الذاتية، ولو كان المعنى على ما تقول المعطلة: لما خلقت أنا!! لما كان لآدم خصِّيصة على غيره، ولكان قول موسى لآدم: «أنت الذي خلقك الله بيده»: لا معنى له، ومثلُ هذا ينزه عنه موسى كليم الرحمن.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/ 366): «ولا يجوز أن يكون: لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل، كقوله: ]بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ[ [الحج: الآية 10]، و]قَدَّمَتْ أَيْدِيْكُمْ[ [آل عمران: الآية 183]، ومنه قوله: ]مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنْعامًا[ [يس: الآية 71]...».
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص 118، على قول الله تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ[ [القلم: الآية 42]):
«قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء: يكشف عن شدَّة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق، وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمَّرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أنَّ الرجل إذا وقع في أمرٍ عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدَّة، وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون، وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» عن النبي r: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدَّته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى «يكشف عنها»: يزيلها...».
قال ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في «يضع قدمه في النار»...».
قال ابن الجوزي: «قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض...».
* أقول: وجواب هذا الكلام من وجهين: مجمل، ومفصل:(1/119)
فأمَّا المجمل، فإنه يقال: إن الرسول r قد بلَّغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، فمن ثَمَّ كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أساس الإيمان، وقد كان النبي r يُبين هذا الباب بيانًا عامًّا، فعلمه الخاص والعام، ولم يستنكر أحد منهم شيئًا من هذا الباب، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جلَّ وعلا يقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، كما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا.
وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، ولكن أهل الأهواء والضلال لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله محمد r؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ[ [الشورى: الآية11]، فمن شبَّه الله بخلقه، فهو كافر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد r؛ فهو كافرٌ أيضًا.
ومما لا نزاع فيه بين علماء السلف أنه ليس في إثبات الصفات لله جل وعلا تشبيه ولا تمثيل، إنما التمثيل والتشبيه يقع ممن نفى عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله r.(1/120)
ومن الصفات التي يُوصف به الرب جل وعلا وشرق بها أهلُ البدع ولم يثبتوها لله تعالى صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهًا للخالق بالمخلوق، وهذا ضلال عظيم، وإفك مبين، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله r، وقد دلّت سنته الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد أن الساق يثبت لله تعالى، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تشبه الذوات، كذلك نقول في صفات الله تعالى، كالساق وغيرها: إنها لا تشبه الصفات؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات، وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا حقيقة الإيمان، والبراءة من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحَّت بها النصوص كالساق من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاء بالكتاب والسنة، وننعى عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم r.
قال تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه.
وما جاء عن ابن عباس، أنه قال: «يريد القيامة والساعة لشدَّتها»، فقد ضعَّفه بعض العلماء وصححه آخرون.
ومن أمثل أسانيد ما جاء عن ابن عباس ما رواه الفرَّاء في كتابه «معاني القرآن» (3/177)، قال: «حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قرأ: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، يريد القيامة والساعة لشدَّتها..».
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة، لثبوت النص عن النبي r في تفسير الآية بما يخالف ما قاله ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن الآية تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى على القول الصحيح.(1/121)
يدل على ذلك ما رواه الدارمي في «سننه» (2/326) من طريق ابن إسحاق، قال: أخبرني سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله r يقول: «إذا جمع الله العباد بصعيد واحد، نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، فيلحق كلُّ قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم، فيقول: ما بالُ الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا، عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ[ [القلم: الآية 42]، ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة...».
سنده حسن، فإن محمد بن إسحاق صدوق، وحديثه من قبيل الحسن إذا صرَّح بالسماع، وهنا صرَّح بالسماع، وباقي رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض.
والحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت على الآية، فقوله: «فيكشف لهم عن ساقه»: صريح في إثبات الساق لله؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدَّة قطعًا.
وقوله: «وذلك قول الله تعالى: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ..[ [القلم: الآية 42]»: ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
يؤيده ما رواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 40) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله r: «]يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ[ [القلم: الآية42]». قال: «يكشف الله عزَّ وجلَّ عن ساقه».
فهذا التفسير من النبي r لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أنَّ الآية من آيات الصفات، وأن المراد منها: إثبات صفة الساق لله جل وعلا.
وجاءَت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.(1/122)
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في «صحيحه» (8/ 663 – الفتح، باب يوم يكشف عن ساق): حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي r يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهرهُ طبقًا واحدًا».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (3/ 25-27 – نووي) بلفظ: «فيكشف عن ساق»، والمعنى واحد على كلا اللفظين.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/ 520) والطبراني في «الكبير» (9/ 417) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي r؛ قال:
«يجمع اللهُ الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا، أربعين سنة، شاخصة أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء».
قال: «فينزل الله عز وجل في ظللٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا».
قال: «فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون».
قال: «ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عُزيرًا شيطان عُزير، ويبقى محمد r وأمته».(1/123)
قال: «فيتمثل الرب جلَّ وعزَّ، فيأتيهم، فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ يقولون: إنَّ لنا إلهًا، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة، إذا رأيناه، عرفناها، فيقول: ما هي؟ يقولون: يكشف عن ساقه».
قال: «فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخر كل من كان بظهره طبق، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون..» الحديث.
وسنده ممَّا تقوم به الحجة.
وقد قال الذهبي رحمه الله في كتابه «العلو» (ص 73): «إسناده حسن».
وقال في «الأربعين» (ص122): «وهو حديث صحيح».
والحديث رواه الحاكم في «مستدركه» (4/ 589) وابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (2/ 583-584) كلاهما من طريق أبي خالد الدالاني، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، به.
وقال الحاكم عقبه: «رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في «الصحيحين»، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمَّا الأئمة المتقدمون، فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح، ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة».
أقول: وقد تُوبع الدالاني في الرواية عن المنهال، تابعه زيد بن أبي أنيسة – كما تقدم – عند عبد الله بن أحمد والطبراني.
وزيد ثقة، وثقة ابن معين وابن سعد وغيرهما.
فمنه يتبين ثبوت الحديث وحجيته.
وقد صححه المنذري رحمه الله في «الترغيب والترهيب» بعدما عزاه لابن أبي الدنيا والطبراني.(1/124)
وروى ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (2/ 428-429) من طريق سفيان، قال: ثنا مسلمة – وهو ابن كهيل -، عن أبي الزعراء، قال: ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: «تفترقون أيُّها الناس عند خروجه ثلاث فرق...»، فذكر الحديث بطوله، وقال: «ثم يتمثل الله للخلق، فيلقى اليهود، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقول: سبحانه، إذا اعترف لنا، عرفناه، فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خرَّ لله سجدًا».
وهذا موقوف حسن، وله حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد.
والحاصل أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة في ذلك عن النبي r وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.
وأما الجواب المفصَّل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى : ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، «أي: يكشف عن شدَّة»: قولٌ غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنَّة، علم خطأ هذا القول وبطلانه.
الوجه الثاني: أننا لو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل هذا على صحة قولهم وبطلان ما عداه، فليس كلُّ قول يذهب إليه الجمهور يكون صوابًا، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، إنما يعرف بالأدلة والبراهين، وقد أوردنا فيما تقدم أدلة صحيحة لا معارض لها تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى.
ثم إنه يقال أيضًا: لو صحَّ ما زعمه ابن الجوزي، فلا يدل أيضًا على نفي الجمهور صفة الساق عن الله تعالى، وإنما هو أمرٌ ظهر لهم في معنى الآية ليس غير، بخلاف أهل البدع، فلا يثبتون لله تعالى صفة الساق مطلقًا، لا من الكتاب، ولا من السنة.(1/125)
الوجه الثالث: أن تفسير الساق بالشدة غير صحيح، يبطله ما رواه ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 37) من طريق عبد الرزاق، أنبا الثوري، عن مسلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، في قوله جلَّ وعز: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، قال: «عن ساقيه».
قال أبو عبد الله: «هكذا في قراءة ابن مسعود، و]يكشف[: بفتح الياء وكسر الشين».
فلا يصح أن يقال: يكشف عن شدتيه!!
الوجه الرابع: أن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَت الشدَّة عن القوم لا كُشِف عنها! كما قال الله تعالى: ]فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ[ [الزخرف: الآية 50]، وقال: ]وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ[ [المؤمنون: الآية 75]، فالعذاب والشدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
وأيضًا، فهناك تحدث الشدَّة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يُدعون إلى السجود، وإنما يُدعون إليه أشدَّ ما كانت الشدة».
الوجه الخامس: قال شيخ الإسلام رحمه الله في «نقض أساس التقديس» (الجزء الثالث): «إن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساق بأنه إظهار الشدَّة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون، يكشف لهم عن ساقه، فيسجدون له، فإذا تأوَّلوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة».
الوجه السادس: أن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يَرِد ما يخرجها عن ذلك، فقوله جلَّ وعلا: ]يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ[ [القلم: الآية 42]، دليل على إثبات الساق لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى: الآية 11].(1/126)
فحقيقة اللفظ إثبات الساق لله تعالى، فلا يعدل عن ذلك إلا بدليل، وليس عند أهل البدع من الأدلة سوى دعوى مشابهة المخلوق للخالق، ولو عقلوا، لعلموا أن قولهم هو التشبيه.
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قوله r: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: «هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدته»: قولٌ مردود، مخالف لمذهب السلف، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فالحديث على ظاهره فيه إثبات الساق لله تعالى، فيجب إثباته كإثبات سائر صفاته، دون تحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل.
وهذا حقيقة الإيمان: إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.
الوجه الثامن: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»، قلت (القائل ابن الجوزي): وذكر الساق مع القدم تشبيه محض».
أقول: وهذا الكلام ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض:
فقوله: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية»:
أقول: هذا حق، فإن الأدلة كتابًا وسنة تدل عليه، فمن أنكره، فإنما ينكر على النبي r وعلى الصحابة الذين نقلوا لنا ذلك.
وقوله: «وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»:
أقول: وهذا أيضًا من الحق الذي يجب اعتقاده والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية، التي يجب الإيمان بها، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل.
ففي «صحيح البخاري» (8/ 594 – فتح، و13/ 368 – فتح) ومسلم (رقم 2848) عن أنس رضي الله عنه عن النبي r، قال: «لا تزالُ جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ربُّ العزَّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط! قط! وعزَّتك، ويزوي بعضها إلى بعض».
قوله: «قدمه»: الهاء تعود على الرب جل وعلا.
والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله تعالى.(1/127)
وروى الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» (8/ 595- فتح) ومسلم (رقم 2846) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي r: «تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنَّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أُعذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها: فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحدًا، وأمَّا الجنة، فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا».
وروى: ابن أبي شيبة في كتاب «العرش وما رُوي فيه» (ص79)، والدارمي في «رده على بشر المريسي» (ص67)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/301)، والدارقطني في «الصفات» (ص49)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 282)، وغيرهم، بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «نقضه»: «صحيح مشهور».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه».
وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي، لا يقال من قبل الرأي، ولا مجال للاجتهاد فيه.
فيؤخذ منه إثبات القدمين لله تعالى، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ [الشورى: الآية11].
قال أحمد بن حنبل: «أحاديث الصفات تمر كما جاءت».
فمن حرفها وتأولها، فقد سلك مسلك النفاة الجهمية، ومن أنكرها، فهو على شفا جرفٍ هارٍ.
قال الإمام الثقة حماد بن سلمة – وقد كان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع -: «من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث، فاتهموه على الدين».(1/128)
وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى – وذكر عنده أن الجهمية ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا!! فقال عبد الرحمن بن مهدي: «قد هلك قوم من وجه التعظيم، فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يُرسل رسولاً، ثم قرأ: ]وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ[ [الأنعام: الآية 91]».
ثم قال: «هل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أن نعبده! ولكن نعبد من هو أقرب إليه منا، فعبدوا الشمس، وسجدوا لها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ]وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى[ [الزمر: الآية 3]».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وذكر الساق مع القدم تشبيه محض»، فهذا قول جاهل لا يفهمُ من صفات الخالق إلا ما فهمه من صفات المخلوق، وقد تقدم إبطال هذا القول العليل الفاسد، الناشئ من التشبيه الخالص، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي (ص 120):
«قال ابن حامد: يجب الإيمان بالله لله تعالى ساقًا صفةً لذاته، فمن جحد ذلك كفر.
قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف بمن ينسب إلى العلم؟! فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة».
* أقول:
هذا الكلام يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن حامد: «يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقًا صفة لذاته»: قول صحيح، والأدلة من الكتاب والسنة تؤيده وتنصره، والمخالف في ذلك مستحق للذم؛ لأنه لم يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد r.(1/129)
قال تعالى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا[ [النساء: الآية 65]، فليس – والله – لمن عطَّل الله عن أسمائه وصفاته أو حرَّفها حظ ولا نصيب من هذا التحكيم المأمور به.
الوجه الثاني: أن إنكار ابن الجوزي على ابن حامد في قوله: «فمن جحد ذلك كفر»: إنكار في غير محله؛ لأن من أنكر آية من كتاب الله، فقد أنكر الكتاب كلَّه وكفر بذلك، ومن أنكر حديثًا عن النبي r، فقد أنكر الحديث كلَّه وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وكلام العلماء كثير في ذلك.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[ [البقرة: الآية 85].
قال الإمام البربهاري رحمه الله: «ومن ردَّ حديثًا عن رسول الله r؛ فقد ردَّ الأثر كله، وهو كافرٌ بالله العظيم».
وقال الإمام إسحاق بن راهويه: «مَن بلغه عن رسول الله r خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر».
ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه «الإحكام» (1/ 97) عن محمد بن نصر المروزي عنه.
وقال أبو معمر الهذلي: «من زعم أن الله لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)، فهو كافرٌ بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفًا، فألقوه فيها».
وهذا كله في تكفير العموم، وأنَّ من قال كذا، فحكمه كذا، ولا يلزم منه تكفير المعيَّن، حتى تقوم عليه الحجة؛ لأن الجاهل والمتأوِّل لهما حكمهما.(1/130)
وما تقدَّم ذكره عن الأئمة يمكن حمله أيضًا على المصر بالباطل، المعاند، المعرض عن أدلة الكتاب والسنة، الصادّ عنهما.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» (ص127):
واشْهَدْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُكْفِرو
إِذْ أَنْتُمُ أَهْلُ الجَهَالَةِ عِنْدَهُمْ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الكُفْرانِ بَلْ
إِلاَّ إذَا عانَدْتُمُ وَرَدَدْتُمُ
فَهُناكَ أَنْتُمْ أَكْفَرُ الثَّقَلَيْنِ مِنْ
نَكُمُ بِما قُلْتُمْ مِنَ الكُفْرانِ
لَسْتُمْ أُوْلِي كُفْرٍ وَلا إِيْمانِ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الإِيْمانِ
قَوْلَ الرَّسولِ لأِجْلِ قَوْلِ فُلانِ
إِنْسٍ وَجِنٍّ ساكِنِي النِّيرانِ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «المنهاج» (5/ 240): «قد ينقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده: أن هذا القول كفر، ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفَّر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع...».(1/131)
وقال رحمه الله في «المسائل الماردينية» (ص71): «وحقيقة الأمر في ذلك أنَّ القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ]إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا[ [النساء: الآية10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعيَّن من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون لهن حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها...».
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة»: يقال عنه:
إن صرف المتأوِّلين الكلام عن حقيقته وردهم الأمر إلى اللغة في كل شيء ليس منهجًا مستقيمًا ولا مسلكًا صحيحًا، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه.
وفي كثير من صفات الله تعالى يزعم أهل التعطيل أن اللغة تدل على كذا وتومئ إلى معنى كذا، فإذا نظرْنا في كلام أهل اللغة، لم نجد عالمًا منهم قال بهذا القول الذي يزعمونه، كما في قوله تعالى: ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ [طه : الآية 5]: المعطلة يقولون: ]استوى[، بمعنى: (استولى)، وأهل اللغة واللسان العربي لا يعرفون ]استوى[ بمعنى (استولى)، فالمعطلة جهلة بأمر الله، جهلة باللغة العربية، كذبة في النقل.(1/132)
ثم إن ردَّ المعطلة الأمرَ إلى اللغة يقتضي تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم من أعلم الناس باللغة، وأفهمهم لمعانيها، ولم يفعلوا فعل المؤوِّلين المحرفين الذين يتلاعبون بكلام الله وكلام رسوله r، ويدَّعون أنَّ ذلك ممَّا توجبه اللغة، فلو كان ذكر الساق في حق الله يعني به الشدَّة، أو القدم يعني به الموضع، أو الضحك يعني به الرضى، لبيَّنه النبي r بيانًا عامًّا لأهمية هذا الباب، ولما أحال الأمة على فهومهم، مع تباينها واختلافها.
والحاصل أنَّ الأصل في الكلام عند جميع العقلاء يراد به الحقيقة، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل.
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة»: يقال عنه:
إن من أثبت لله تعالى الساق والقدم إنما أثبتهما بأدلة جلية نقلية من الكتاب والسنة، فالكتاب دلَّ على أن لله ساقًا، فيجب إثباته لله تعالى دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، والسنة أيضًا دلَّت على إثبات الساق والقدم لله تعالى، وهاتان الصفتان من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى.
وهذا قول جميع علماء السلف، فلا أعلم بينهم نزاعًا في إثبات هاتين الصفتين، وكذلك سائر ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله محمد r.
ومن زعم أنَّ إثبات الساق والقدم لله تعالى تجسيم، فقد أعظم على الله الفرية، وقال ما لا علم له به، وهذا أصل الضلال:
قال تعالى: ]قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ [الأعراف: الآية 33].
وقال: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36].(1/133)
وليس – ولله الحمد – فيما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيه ولا تجسيم، إنما التشبيه في نفي صفات الله تعالى ووصفه بالعدم؛ كما عليه أهل التعطيل، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه ووصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقبون أهل السنة الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وعضوا عليها بالنواجذ بالمجسمة والمشبهة.
فإذا كان وصف الله جل وعلا بالساق والقدم والصورة والوجه والسمع والبصر والعينين تشبيها؛ فمرحبا بالتشبيه؛ فالأسماء لا تغير الحقائق عندنا.
ولكن معاذ الله أن يكون وصف الله بذلك تشبيها, إنما التشبيه أن يقال: قدم كقدمي! وساق كساقي! ويد كيدي! والسلف يبكرون هذا ويكرون قائله، أما إثبات الصفات لله تعالى ما يليق به مع نفينا لصفاته أن تكون مماثلة لصفات المخلوقين؛ فهذا مسلك الأنبياء والمرسلين.
قال الإمام أبو حاتم رحمه الله: ((علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ونابتة)).
وقال الإمام، العالم، العلامة، ناصر السنة، وقامع البدعة، ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في ((نونيته)) التي كشف فيها الطوائف المبتدعة المخالفة للكتاب والسنة وهتك أستارهم وبين عوارهم؛ قال:
((فصل في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة، أنهم أولى بكل لقب خبيث)).
كم ذا مشبهة مجسمة نوا ... بتة مسنة جاهل فتان
أسماء سميتهم بها أهل الحديث ... وناصري القرآن والإيمان
سميتموهم أنتم وشيوخكم ... بهتاً بها من غير ما سلطان
وجعلتموها سبة لتنفروا ... عنهم كفعل الساحر الشيطان
ما ذنبهم والله إلا أنهم ... أخذوا بوحي الله والفرقان
وأبوا بأن يتحيزوا لمقالة ... غير الحديث ومقتضى القرآن
وأبوا يدينوا بالذي دنتم به ... من هذه الآراء والهذيان
وصفوة بالأوصاف في النصين من ... خبر صحيح ثم من قرآن
إن كان ذا التجسيم عندكم فيا ... أهلا به ما فيه من نكران(1/134)
إنا مجسمة بحمد الله لم ... نجحد صفات الخالق الديان (1)
والله ما قال امرؤ منا بأن ... ن الله جسم يا أولي البهتان
والله يعلم أننا في وصفه ... لم نعد ما قد قال في القرآن
أو قاله أيضا رسول الله فهو ... الصادق المصدوق بالبرهان
أو قاله أصحابه من بعده ... فهم النجوم مطالع الإيمان
سموه تجسيما وتشبيها فلسـ ... ـنا جاحديه لذلك الهذيان
بل بيننا فرق لطيف بل هو الـ ... فرق العظيم لمن له عينان
إن الحقيقة عندنا مقصورة ... بالنص وهو مرادة التبيان
لكن لديكم فهي غير مرادة ... أنى يراد محقق البطلان
فكلامه فيما لديكم لا حقيـ ... ـقة تحته تبدو إلى الأذهان
…
في ذكر آيات العلو وسائر الـ ... أوصاف وهي القلب للقرآن
بل قول رب الناس ليس حقيقة ... فيما لديكم يا أولي العرفان
وإذا جعلتم ذا مجازا صح أن ... ينفى على الإطلاق والإمكان
وحقائق الألفاظ بالعقل انتفت ... فيما زعمتم فاستوى النفيان
نفي الحقيقة وانتفاء اللفظ إن
... دلت عليه فحظكم نفيان
ونصيبنا إثبات ذاك جمعية ... لفظا ومعنى ذاك إثباتان
فمن المعطل في الحقيقة غيركم ... لقب بلا كذب ولا عدوان
وإذا سببتم بالمحال فسبنا ... بأدلة وحجاج ذي برهان
تبدي فضائحكم وتهتك ستركم ... وتبين جهلكم مع العدوان
يا بعد ما بين السباب بذاكم ... وسبابكم بالكذب والطغيان
من سب بالبرهان ليس بظالم ... والظلم سب العبد بالبهتان
فحقيقة التجسيم أن يك عندكم ... وصف الإله الخالق الديان
بصفاته العليا التي شهدت بها ... آياته ورسوله العدلان
فتحملوا عنا الشهادة واشهدوا ... في كل مجتمع وكل مكان
أنا مجسمة بفضل الله ولـ ... ـيشهد بذلك معكم الثقلان
الله أكبر كشرت عن نابها ... الحرب العوان وصيح بالأقران
__________
(1) في بعض النسخ: ((الرحمن)) وكذلك في مخطوطة الشيخ سليمان بن سحمان ومخطوطة الشيخ على الخراز.(1/135)
وتقابل الصفان وانقسم الورى ... قسمين واتضحت لنا القسمان (1)
تم
تم الجزء الأول من((إتحاف أهل الفضل والإنصاف بنقض كتاب ابن الجوزي دفع شبه التشبيه وتعليقات السقاف)) ولله الحمد والمنة على يد الفقير إلى الله سليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان في شهر الله المحرم يوم الأربعاء تاريخ(24/1/ 1414هـ).
ويليه الجزء الثاني.
والله أسأل التمام، وحسن الختام، وأن يجعل عملنا صالحا، لوجهه خالصا ولا يجعل لأحد شيئا.
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة…
إشارة إلى رسالة المؤلف ((الكشاف...))…
سبب رد المؤلف على السقاف…
ابن الجوزي والسقاف ينقلان التأوليل الباطل عن أئمة السف وهو إما نقل ضعيف من حيث السند أو نقل محرف…
موقف السقاف وأتباعه من أئمة السلف…
موقف السقاف وأتباعه المبتدعة إذا وجدوا نقلاً مجرداً أو محرفاً عن أحد السلف يوافق أهوائهم…
الواجب عند وجود خطأ من أحد العلماء…
الواجب على المسلمين عند التنازع…
معنى الرد إلى الله والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم…
من عصى الله ورسوله له حظ من الضلال، ومن نبذ أقوال الرسول... فليس له حفظ من الإيمان…
فصل: في الفرق بين من جعل التأويل الباطل منهجاً وطريقة، وبين عالم أخطأ أو زل زلة، وحكم كل قسم.…
أمثلة لمن جعل التأويل الباطل منهجاً وطريقة…
الاعتذار لمن زل من أهل السنة وأول صفة من الصفات…
مثال لمن زل من أهل السنة أول صفة…
حكم من سوى بين القسمين السابقين…
فصل: الأصل في الرد أن يكون بعلم وعدل لا يجهل وظلم.…
منهج السقاف في تعليقه على كتاب ابن الجوزي، وفي غيره من كتبه…
طريقة أهل البدع -ومنهم الكوثري والسقاف- في الرد…
ما يلاقيه أهل السنة من أهل البدع، وموقف أهل السنة من أهل البدع في الرد…
__________
(1) انظر: ((النونية)) (ص 102) الناشر مكتبة ابن تيمية، و(ص109) توزيع دار الباز، و(ص 129) بقلم الشيخ ابن سمحان، و(ص 114) بقلم الشيخ الخراز.(1/136)
مدح العدل، واستعماله مع أهل البدع، ونقل عن ابن تيمية في ذلك…
نقل عن ابن تيمية أن أعبد أهل الأهواء وأصدقهم هم الخوارج…
فصل: بعض من ينتسب إلى السلف يخطئ عليهم ويهم في قوله وفعله فيكون مدخلاً لأهل البدع…
من الظلم أن ينسب خطأ رجل من أهل السنة إلى منهج أهل السنة…
طَعَنَ ابن الجوزي في القاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن حامد بحق وبغير حق…
نقل عن ابن تيمية فيمن سمع الآثار والأحاديث وعظم مذهب السلف وشارك المتكلمين الجهمية في بعض أثولهم…
ليس لابن الجوزي معرفة بما عليه مذهب السلف عموماً وما عليه أحمد بن حنبل خصوصا
الواجب أن يكون الجكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم…
فصل: في بيان أخطأ ابن الجوزي وضلال السقاف…
تقديم السقاف لكتاب ابن الجوزي…
فصل: قال ابن الجوزي: ((وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء...))…
معنى أخذ السلف بالظاهر…
بيان خطأ من ظن أن أخذ السلف بالظاهر هو مماثلة صفات الخالق بصفات المخلوق
أنواع صفات المخلوقين…
تسمية ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم صفات وصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وهو حقيقة الانقياد…
تحريف الصفات ونفي معانيها إلحاد عظيم…
أهل التعطيل لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفات المخلوق…
صفات الخالق لا تماثل صفات المخلوق…
الذين ينفون صفات الله وقعوا في التعطيل أولاً وفي التشبه ثانياً…
نقل عن ابن تيمية في أن من توهم في بعض صفات الله أنها تماثل صفات المخلوقين وقع في أربعة محاذير…
تناقض ابن الجوزي في باب الأسماء والصفات…
اضطراب أهل الباطل في باب الأسماء والصفات…
إطلاق لفظه الظاهر عند أتباع السلف غير إطلاقها عند الخلف…
ظواهر الصفات…
إطلاق اليدين على الله بمعنى النعمة أو القدرة والرد على من قال بهذا…
لا يصف الله أحد أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم…(1/137)
الرد على من حمل مجي وإتيان الرب جل وعلا على معنى بر ولطف…
الرد على من قال: إن الإمام أحمد أول المجيء بمجيء الثواب…
الرد على من قال: عن الإمام مالك أو نزول الرب بمعنى نزول أمره…
فضل: قاعدة مهمة فيما إذا ثبت عن أحد الأئمة تأويل شيء في موارد النزاع…
تفسير الزمخشري…
اتفق السلف على مراعاة الألفاظ في باب الأسماء والصفات…
الموقف من الألفاظ التي لم يذكرها السلف نفياً ولا إثباتاً…
مبحث الاستواء…
الرد على من قال: إن إثبات الاستواء لله فقد أجراه مجرى الحسيات…
قول من قال: إن قراءة الآيات والأحاديث في الصفات من غير فقه لمراد الله ومراد رسوله ضلال مبين…
منهج السلف مع أحاديث الصفات…
منهج أصحاب التجهيل والرد عليهم…
مقولة أصحاب التنحيل والرد عليهم…
الانتصار للمذهب الحق في حمل الصفات على ظاهرها وإثبات حقائقها…
لم يقل أحد من السلف بتمثيل صفات الخالق بالمخلوق…
الحنابلة من أسلم الناس في باب الأسماء والصفات…
لا يضر أهل الحق لمز أهل الباطل إياهم ووصفهم بالصفات القبيحة وأن هذا من صفات أهل البدع…
كتب أهل البدع مليئة بسب علماء السنة…
وقيعة السقاف في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما…
الذب عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما…
الكذب بضاعة المفلس من العلم النافع…
عظم الوقيعة في الصحابة…
ضلال الرافضة وكفرهم وأنه لا حظ لهم في الفيء…
الخلاف الذي وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما…
عظم الكذب على المؤمن خاصة إذا كان صحابياً…
اتهام السقاف معاوية رضي الله عنه أنه أخذ الأمر عن غير مشورة الصحابة والذب عن معاوية رضي الله عنه…
سبب قتل معاوية حجراً…
افتراء السقاف على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بأنه أول من سن لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر يوم الجمعة…
كذب الرافضة وبهتهم…
الجهمية كلهم جهال وأجهل منهم الرافضة…
بهت السقاف الحنابلة بأنه فشا فيهم النصب…
الافتخار بالأنساب من أعمال الجاهلية…(1/138)
السبكي وابن جهبل والكوثري والسقاف من أهل الكذب على ابن تيمية…
كثرة الكذب على ابن تيمية واتهامه بالباطل من أعداءه…
صفة الحركة لله عز وجل…
صفة الانتقال…
العقيدة المروية عن أحمد التي كتبها حرب ليست ثابتة عنه بألفاظها بل هي ألفاظ حرب…
مراعاة لفظ القرآن والسنة في إثبات ونفي الصفات للرب عز وجل …
مقصد أهل الأهواء من نفي الحرمة عن الرب عز وجل…
حجية كلام السلف…
لم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ موهمة لتشبيه، والرد على من زعم ذلك
إثبات علو الله على خلقه…
دفاع عن حديث الجارية…
معنى (أن ما طرأ عليه الاحتمال يسقط)…
بطلان ما نسب إلى البخاري من تأويل صفة الضحك…
طريقة السلف إثبات الثفات بلا كيف…
من أنكر الصفات فقد كفر…
الرد على من قال: إن الضحك مجاز والمراد به الرضا…
حال الكوثري…
إهداء الكتب وما في ذلك…
بغض أهل البدع ومجانبتهم وهجرهم…
بيان تناقض السقاف…
تنبيه حول كتاب ((النصيحة في صفات الرب)) المطبوع!!…
جواز جمع أحاديث الصفات وتصنيفها على الأبواب والرد على من أنكر ذلك، ووقت جمع السلف أحاديث الصفات…
تسمية الرازي ((كتاب التوحيد)) لا بن خزيمة ((كتاب الشرك))!!…
الكلام على الفخر الرازي…
مدح كتاب ابن خزيمة ((التوحيد)) والذب عنه…
عدم ندم ابن خزيمة على تأليف كتابه، وبيان كذب السقاف إذا ادعى ذلك…
بيان كفر الجهمية وأنهم شبهوا الله بالمعدومات…
رد على المعلقين على كتاب ((شرح السنة)) للبغوي في انتقادهما على البخاري…
جمهور العلماء يوافقون البخاري على تكفير الجهمية…
لم يخرج البخاري في صحيحه لجهمي ولا لرافضي…
تبيين ما نسب إلى ابن علية من التهجم…
الخوارج أحسن حالا من الجهمية والروافض…
جواب مجمل عما نقل عن أحمد من التأويل…
الرد على من تأول المجيء لله بأنه مجيء أمر الله…
إثبات صفة المجيء للرب عز وجل …
أدلة العقل لا تصرف النصوص ولا تخرجها عن معانيها …(1/139)
ابن الجوزي يرجح مذهب المفوضة كثيرا وينسبه للسلف…
السلف ينفون معرفة كيفية الصفات لا حقيقتها…
الرد على من استدل بمقالة مالك في الاستواء على التفويض…
استواء الله على العرش…
إطلاق لفظه ((بذاته)) في استوى على العرش بذاته …
أصلان عظيمان عليهما قيام دين الإسلام…
إنكار السقاف توحيد الألوهية والرد عليه وتبيين جهله بالتوحيد وانغماسه في الوثنية…
عبادة الله عند قبور الصالحين من المحدثات…
الرد على السقاف في استدلاله بما روي عن إبراهيم الحربي أنه قال في قبر معروف أنه…
(( التريقات المجرب))…
حكم الراوي إذا خلا من التوثيق والتجريح وروى عنه جمع ولم يأت بما ينكر عليه…
تحري الدعاء عند القبر بدعة …
إثبات الوجه لله عز وجل…
المجسم المشبه هو الذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق…
جاء عن ابن الجوزي إثبات الوجه مما يدل على اضطرابه في باب الأسماء والصفات…
ابن الجوزي كثيرا ما يذهب إلى التفويض…
القول بأن الصفات زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل …
اتفاق السلف على إثبات الوجه لله حقيقة …
اتفاق السلف على أن باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس …
إثبات العين لله عز وجل …
إبطال قول من تأول العين لله عز وجل…
تضعيف البخاري لرجل ما لا يدل على ضعفه مطقاً…
الاختلاف في توثيق راو لا يدل على ضعفه…
معنى قول القاضي أبي يعلى: (( العين ضفة زائدة على الذات ))…
الأصل حمل الكلام على حقيقته …
إثبات اليدين لله عز وجل وإبطال قول من تأولهما…
نقل عن الدارمي أن من أنكر أن الله خلق آدم بيده كفر بالقرآن ورد السنة وخالف الأمة
عظم التحريف وقبحه وشناعته…
إثبات الساق لله عز وجل …
الموقوف إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه له حكم الرفع…
إثبات القدم لله عز وجل …
الموقوف إذا كان مما لا مجال للاجتهاد فيه له حكم الرفع والرد على الغماري في الحاشية لإنكاره ذلك…(1/140)
من أنكر آية من كتاب الله أنكر الكتاب كله، ون أنكر حديثا فقد أنكر الحديث كله…
لا يلزم من تكفير العموم تكفير المعين…
نقل من نونية ابن القيم رحمه الله في العذر بالجهل…
المعطلة جهلة بأمر الله جهلة باللغة العربية كذبة في النقل…
الأصل في الكلام أن يراد به حقيقة ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل…
إذا كان إثبات الصفات تشبيها فمرحبا بالتشبيه…
نقل فصل من النونية بعنوان(( فصل في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة وبيان أنهم أولى بكل لقب خبيث…
آخر الجزء الأول من الرد المفصل على السقاف ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله…
الفهارس العامة…
فهرس الآيات…
فهرس الأحاديث…
فهرس الآثار…
فهرس الرجال المتكلم عليهم بجرح أو تعديل…
فهرس الموضوعات…(1/141)