الإيمان
بالقدر(/)
الإيمان بالقدر
قال تعالى:" وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان، آية: 2)
د. على محمد محمد الصَّلاَّبي(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى كل إنسان في الوجود يبحث عن حقيقة الإيمان بالقدر
أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجهه الكريم.
قال تعالى:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف، آية: 110)(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران، آية: 102).
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء، آية: 1) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب، آية: 70 ـ 71).
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.(1/3)
أما بعد: هذا الكتاب يتحدث عن القدر وقد سرت على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة في بيان هذا الركن من الإيمان وابتعدت كل البعد عن مناهج الفرق الكلامية المذاهب الفلسفية وحرصت على أن أبين ما كان عليه رسول الله وأصحابه من صفاء ووضوح في أصول الإيمان وهذا الكتاب يستهدف مخاطبة العقول، وأحياء القلوب وتحريك الفطر، وربط الناس بالخالق العظيم وبيان ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلاً عن الفاضل الجليل وما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل فهو أسمى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه فهو أحد أركان الإيمان وقاعدة أساس الإحسان التي يرجع إليها ويدور في جميع تصاريفه عليها فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الأعراف، آية: 54).
ولقد وقفت على تجارب علماء كبار ممن خاضوا في بحر علم الكلام وكادوا أن يهلكوا لولا رحمة الله بهم وقدموا لنا خلاصة تجاربهم المريرة لكي نستفيد منها الدروس والعبر، وحثوا الناس على التمسك بالكتاب والسنة وهدي الصحابة الكرام ومن هؤلاء:
1ــ أبو الحسن الأشعري: قال: ..... قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روى عن الصحابة التابعين، وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون (1).
__________
(1) الإبانة لأبي الحسن الأشعري ص17.(1/4)
2ــ أبو حامد الغزالي: قال: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثباة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فما زادوا على أدلة القرآن شيئاً وما ركبوا ظهر اللّجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان (1).
3ــ إمام الحرمين الجويني: قال: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي (2).
4ــ الفخر الرازي: قال:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه، آية: 5) " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" (فاطر، آية: 10) وأقرأ في النفي " وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا" (طه، آية: 110) ومن جرّب مثل تجريبتي عرف مثل معرفتي (3).
__________
(1) إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي ص89 ـ 90.
(2) من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين للصَّلاَّبي ص159.
(3) عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين ص159.(1/5)
فهذا الكتاب يتحدث عن القدر بعيداً عن صخب الأهواء وأغشية الشبهات وضجيج المجادلات، فقد طالعت ركاماً هائلاً من الميراث التاريخي في هذا الباب فرأيت من الفائدة تركها والعودة إلى عصر النبوة والصحابة للوصول إلى يقين ذلك الجيل المبارك وطمأنينته والذي نهل من المعين الصافي الذي تكفل الله بحفظه والمتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام، آية: 153).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (2).
ففي هذا الكتاب كان الحديث في المبحث الأول: عن القضاء والقدر في اللغة والشرع والفرق بين القضاء والقدر، وأدلة القرآن على وجوب الإيمان به، وحديث القصص القرآني عنه، كقصة نوح وإبراهيم، ويوسف، وموسى وزكريا ومريم، وصاحب الجنتين، والأدلة من السنة النبوية على وجوب الإيمان به والوصايا النبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر ونهى الرسول صلى الله عليه سلم عن الخوض فيه، حديث الصحابة عنه وفي المبحث الثاني: كان التفصيل عن مراتب القدر، كالعلم، والكتابة، والإرادة والمشيئة، والخلق، وتضمن المبحث الثالث: التقادير الخمس كالتقدير الأزلي، وتقدير يوم الميثاق، والعمري والحولي، واليومي، وتضمن أيضاً: أنواع الإرادة، الكونية والشرعية والفرق بينهما.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ بلاغا في ك القدر (2/ 898).
(2) مسلم، ك الأقضية (2/ 1343 ـ 1344).(1/6)
في المبحث الرابع: كان الحديث عن لا حول ولا قوة إلا بالله، وعن فضلها ومعناها وما تضمنته من معان عقدية عظيمة، كالإقرار بالتوحيد، والتوكل على الله وتفويض الأمور إليه، كما كان الحديث في هذا المبحث عن الاحتجاج بالقدر على المعاصي.
وفي المبحث الخامس، تكلمت عن الهداية والإضلال ومراتب الهداية، كالهداية العامة، وهداية الإرشاد والدعوة والبيان، وهداية التوفيق والإلهام والهداية إلى طريق الجنة كما أشرت لأسباب الهداية التي ذكرت في القرآن كالمحافظة على الفطرة الإنسانية نقية صافية، واستعمال السمع والبصر والعقل، والعلم، والإيمان، والاهتداء، والدعاء، والاعتصام بالله، والاتباع والطاعة، والخشية والإنابة، والبراءة من الكافرين، والجهاد، كما أشرت إلى الضلال ومراتبه، وحرية العبد في اختياره للهدى والضلال، كما لخصت أهم أسباب الضلال، كعدم استخدام الإنسان مواهبه في التفكر في آيات الله، والذنوب والمعاصي، واتباع الشيطان، والجهل واتباع الظن، والجدال في الله وآياته بغير علم، والغفلة، والتعصب بالباطل، والتقليد المذموم، والشك والريب، والجحود، والتأبي والعناد والتعنت، والكبر، وحب الدنيا والاغترار بها واتخاذها لهواً، واتباع الهوى، والإستهزاء بآيات الله ورسله والمؤمنين، والكفر، والغلو في الأنبياء والصالحين، وصحبة السوء والبيئة الفاسدة، والتشبه بالضالين، والابتداع في الدين.(1/7)
وفي المبحث السادس: تكلمت عن سنة الله في الأخذ بالأسباب وأشرت إلى الأخذ بالأسباب في القرآن الكريم، كالأسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين الله عز وجل، كالدستور العادل والمنهج التربوي للشعوب، والاهتمام بالعلوم المادية والمعنوية وتوظيفها في الخير وفقهه في احياء الشعوب وأخلاقه القيادية، وكالأسباب التي اتخذها سليمان، كفقه في إدارة الدولة من دوام المباشرة لأحوال الرعية، وعمل قوانين تضبط الأمور، والاهتمام بالأجهزة الأمنية، وبنصر دعوة التوحيد والترفع عن حطام الدنيا والمقدرة على اتخاذ القرار الصحيح، والاستفادة من المهارات والمواهب، كما كان الحديث عن الأسباب والتوكل وبيان أن القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين، وأهمية التوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب وعن العلاقة بين الأسباب والمسببات، وتأثير السبب في المسبب، وشرح حديث رسول الله صلى عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وعلاقة الجزاء الأخروى بالأسباب، والحث على طلب الأسباب في الأمور المكفولة، ومراعاة صورة الأسباب في الخوارق، وتهيئة الأسباب لوقوع مراد الله عز وجل، وكون الأسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتقاء الموانع، وبيان أن إنكار قانون السببية يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم، وشرح مقولة منازعة الأقدار بالأقدار، والعلاقة بين الدعاء والقدر.(1/8)
وفي المبحث السابع: كان الحديث عن العدل الإلهي وسنة الله في الجزاء بجنس العمل، وأن الأصل في العقاب المماثلة، وصور من الجزاء بجنس العمل في الدنيا، كالاستهزاء بالمنافقين والسخرية منهم في الحياة الدنيا، وتسليط الظالم على مثله، واستئصال الله لمن أراد أيذاء رسله وأوليائه، ونصر الله منوط بنصرته للدين والحق، وسلب النعمة عمن منعها مستحقيها، وتيسير الله لمن يسَّر على عباده، وكان الحديث عن الجزاء بجنس العمل في الآخرة، كمعاملة أهل الفضل بالفضل، وترك الإنسان وإهماله في العذاب، كما أهمل الحق ولم يتبعه، والتهكم بالكفار والمنافقين كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا، كما كان الحديث عن الجزاء بجنس العمل بين العباد.
وفي المبحث الثامن: تحدثت عن الحكمة والتحسين والتقبيح وتكليف ما لا يطاق، فكان الحديث عن الحكمة في أفعال الله وشرعه، وفعل الأصلح، ومعنى الاستطاعة وتكليف بما لا يطاق.
وفي المبحث التاسع تكلمت عن سنة الله في الآجال، وقدرة الله وثمار الإيمان بالقدر والتي كان من أهمها؛ الإقدام على عظائم الأمور، والقضاء على الكسل والتواكل والثبات في مواجهة الطغيان، والصبر عند نزول المصائب والعز في طلب الحوائج والسكينة وراحة النفس وسكون القلب، والخوف والحذر من الله، والخلاص من الشرك والقضاء على الأمراض التي تعصف بالمجتمعات، والاستعانة بالله، والاعتماد على الله وحده، والاعتراف بفضله، والاستغناء بالخالق عن الخلق، والاعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة ثم كانت الخاتمة.(1/9)
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب 1/ 3/2010م الموافق 15/ربيع الأول/1431هـ والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنّه وكرمه وجوده، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه بالدعاء في ظهر الغيب.
قال تعالى:" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل، آية: 19).
قال تعالى:" مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (فاطر، آية: 2).
قال تعالى:" سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الصافات، آية: 180 ـ 182).
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك أتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين".
الإخوة الكرام: يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي وأطلب من إخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله والصواب لخدمة دينه العظيم
Mail: info@alsallaby.com
Website: www.alsallaby.com(1/10)
الفصل الأول
القضاء والقدر
المبحث الأول: القضاء والقدر في اللغة والشرع:
أولاً: القضاء والقدر لغة وشرعاً:
1ـ معنى القضاء لغة: إحكام أمر واتقانه وإنفاذه لجهته (1)، وقال ابن الأثير في النهاية: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه فمعنى القضاء في اللغة هو إحكام الشيء، وإتمام الأمر، وهذا هو معنى القضاء، وإليه ترجع جميع معاني القضاء الواردة في اللغة، وقد يأتي بمعنى القدر (2).
وقد ورد لفظ القضاء ومشتقاته كثيراً في القرآن الكريم، وكل معانيه التي قد تأتي متداخلة أحياناً ـ ترجع إلى الأصل السابق فمن المعاني التي ورد بها:
ــ معنى الأمر: قال تعالى:"وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّتَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ" (الإسراء، آية: 23) أي: أمر سبحانه وتعالى ـ بعبادته وحده لا شريك له (3).
ــ معنى الإنهاء: ومنه قوله تعالى:"وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ" (الحجر، آية: 66) أي: تقدمنا إليه وأنهينا (4).
ــ معنى الحكم: قال تعالى:"فَاقْضِ مَاأَنتَ قَاضٍ" (طه، آية: 72) أي: اصنع واحكم وافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك (5).
معنى الفراغ: ومنه قوله تعالى: " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" (فصلت، فصلت، آية: 12) أي: فرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين (6)، ومنه قوله تعالى:"فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ" (القصص، آية: 29) أي: فرغ من الأجل الأوفى والأتم (7).
ــ ومعنى الأداء: ومنه قوله تعالى:"فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ" (البقرة، آية: 200) أي: أديتموها وفرغتم منها (8).
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 99).
(2) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني صـ422.
(3) تفسير الطبري (15/ 62)، القضاء والقدر د. المحمود صـ34.
(4) زاد المسير لابن الجوزي (4/ 407)، القضاء والقدر صـ43.
(5) تفسير ابن كثير (5/ 298)، القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ43 فيه تفصيل.
(6) تفسير الطبري (24/ 99)، ابن كثير (7/ 156).
(7) معالم التنزيل للبغوي (5/ 172).
(8) تفسير الطبري (2/ 295)، القضاء والقدر للمحمود صـ35.(1/11)
ـ ومعنى الإعلام: ومنه قوله تعالى:"وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ" (الإسراء، آية: 4) أي: تقدمنا وأخبرنا بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل إليهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين (1).
ـ ومعنى الموت: يقال: ضربه فقضى عليه، أي: قتله (2)، قال تعالى:"فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ" (القصص، آية: 15) أي: مات (3).
ـ وهناك اشتقاقات أخرى ذكرتها كتب اللغة (4)، ومن خلال عرض هذه المعاني يتبين ما بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي من رابط قوي، فتقدير الله للأمور وكتابته لذلك، وكونها تجري بحكمة ودقة على حسب ما أرادها سبحانه وقضاها كل هذه المعاني يوحي بها المعنى اللغوي بمختلف معانيه الورادة (5).
2 ـ القدر لغة: فالقاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته (6). ويطلق القدر على الحكم والقضاء أيضاً ومن ذلك حديث الإستخارة "فاقْدُرُه ويسرّه لي" (7).
والقدَر بتحريك الدال أو تسكينها معناه الطاقة قال تعالى:" وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ" (البقرة، آية: 236): طاقته.
ويأتي أيضاً القدر بمعنى التضييق، قال تعالى:" وَأَمَّا إِذَا مَاابْتَلَاهُ فَقَدَرَعَلَيْهِ" (الفجر، آية: 16). يعني فضيق عليه، ومنه قوله تعالى في حق نبيه يونس ـ عليه السلام ـ "فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَعَلَيْهِ" (الأنبياء، آية: 87) أي: لن نضيق عليه، وليس كما ظن بعض الناس أن يونس ـ عليه السلام ـ شك في قدرة الله كلا. " فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَعَلَيْهِ" أي: لن نضيق عليه (8).
__________
(1) تفسير الطبري (15/ 20 ـ 21).
(2) لسان العرب (5/ 187)، القضاء والقدر للمحمود صـ35.
(3) القضاء والقدر للمحمود صـ35.
(4) الصحاح للجوهري (6/ 2463)، تاج العروس (10/ 396).
(5) القضاء والقدر صـ36.
(6) الصحاح للجوهري (2/ 286)، معجم مقاييس اللغة (5/ 62).
(7) البخاري، ك التهجد رقم 1166.
(8) الإيمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ40.(1/12)
وقدرت الشيء أقدره من التقدير، ومنه الحديث: "فإن غم عليكم فأقدروا له (1) ". أي قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، وقيل: قدروا له منازل القمر، فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أم ثلاثون (2).
وقدر كل شيء ومقداره: مقياسه، يقال: قدره به قدراً إذا قاسه، والقدر من الرحال والسروج: الوسط (3).
ويتبين لنا من التعريف اللغوي للقضاء والقدر: أن رابطاً قوياً جداً بينهما وبين التأصيل اللغوي والشرعي كذلك (4).
3 ـ المعنى الشرعي للقضاء والقدر:
هو تقدير الله تعالى ـ الأشياء في القدم، وعلمه ـ سبحانه ـ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة وكتابته سبحانه ـ لذلك ومشيئته لها ووقوعها على حسب ما قدرها جلّ وعلا وخلقه لها (5).
ومراتب القدر أربع،: كما هو ظاهر في التعريف
ــ العلم.
ــ الكتابة.
ــ المشيئة.
ــ الخلق والتكوين (6).
4 ـ الفرق بين القضاء والقدر:
من أهل العلم من قال: لا فرق بين القضاء والقدر، فكل منهما يدخل في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما فيشمل الآخر بمعنى: إذا أطلق التعريف على القضاء، فإنه يشمل القدر، وإذا أطلق التعريف على القدر فإنه يشمل القضاء.
والفرق قال آخرون: لا، هناك فرق بين القضاء والقدر، فالقضاء: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل.
أما القدر: فهو الحكم في وقوع الجزئيات لهذه الكليات التي قُدّرت في الأزل، فالقضاء أشمل وأعم من القدر.
__________
(1) البخاري، ك الصوم رقم 1906.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (4/ 23).
(3) ترتيب القاموس المحيط (3/ 570).
(4) الإيمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ40.
(5) شفاء العليل لابن القيم صـ 29، القضاء والقدر للمحمود صـ 40.
(6) القضاء والقدر صـ41 للمحمود.(1/13)
ومنهم من قال: بأن القدر: هو التقدير، والقضاء، هو التفصيل بمعنى: أن القدر: هو التقدير القديم الأزلي، والقضاء: هو التفصيل لهذا القدر الكلي في أوقات معلومة بمشيئة الله تبارك وتعالى على الكيفية التي أرادها أو خلقها عز وجل (1).
فالقضاء والقدر لفظان متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن افترقا، يعني: إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا بمعنى: إذا ذكر القضاء والقدر معاً، فالمعنى لكل مفردة منهما واحد، وإذا افرد اللفظان صار لكل مفردة منهما معنى يختلف عن معنى الآخر. فالتقدير: هو ما قدره الله سبحانه وتعالى في الأزل أن يكون في خلقه التقدير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً على القضاء، وأما القضاء إذا ذكر مع القدر فكلاهما معنى واحد مشترك، ويرى الخطابي: أن القضاء والقدر أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه (2).
والله أعلم أنه لا فرق بين القضاء والقدر، والذين قالوا بالتفريق بين القضاء والقدر لغة واصطلاحاً لا دليل لديهم من السنة الصحيحة، لا سيما وقد اتفقوا جميعاً على أنه إذا أطلق لفظ من هذين اللفظين فإنه يشمل الآخر (3).
ثانياً: أدلة القرآن على وجوب الإيمان بالقدر:
وردت في كتاب الله تعالى ـ آيات تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى، وعلى أن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على وفق ما قدرها ـ سبحانه وتعالى (4).
1 ـ قال تعالى:" إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر، آية: 49) قدر الله كل شيء في الأزل وكتبه سبحانه.
__________
(1) الإيمان بالقضاء والقدر، محمد حسان صـ41.
(2) المسائل العقدية التي حكى فيها الإجماع ابن تيمية الاجماع صـ810، معالم السنن (5/ 77).
(3) الإيمان بالقضاء والقدر، محمد حسان صـ42.
(4) القضاء والقدر د. المحمود صـ 50.(1/14)
2 ـ وقوله تعالى:" سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا" (الأحزاب، آية 38). أي قضاء مقضيا، وحكماً مبتوتاً وهو كظل ظليل، وليل أليل، وروض أريض في قصد التأكيد (1).
3 ـ وقوله تعالى:" فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى" (طه، آية: 40)، أي أنه جاء موافقاً لقدر الله تعالى وإرادته على غير ميعاد (2).
4 ـ وقوله تعالى:"فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" (المرسلات، آية: 21ـ 23). أي جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم، مؤجلاً إلى قدر معلوم قد علمه الله ـ سبحانه وتعالى ـ وحكم به، فقدرنا على ذلك تقديراً فنعم القادرون نحن، أو: فقدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن ـ على قراءتين (3)، والقراءة الثانية "قدَّرنا" بالتشديد توافق قوله تعالى:" مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ" (عبس، آية: 19).
5 ـ وقال تعالى:" وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان، آية: 2): أي كل شيءٍ مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيءٍ تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره (4).
6 ـ وقال تعالى:" وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ" (الرعد، آية: 8) أي: بأجل، كحفظ أرزاق خلقه وآجالهم، وجعل لذلك أجلاً معلوماً (5).
7 ـ وقال تعالى:" وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّبِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ" (الحجر، آية: 21).
__________
(1) فتح البيان في مقاصد القرآن، تفسير صديق حسن خان (7/ 375).
(2) تفسير ابن كثير (5/ 287).
(3) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ51.
(4) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 314).
(5) المصدر نفسه (2/ 492).(1/15)
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء، وأن كل شيءٍ سهل عليه يسير لديه، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف، " وَمَانُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ" كما يشاء وكما يريد ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة (1).
ــ وقال تعالى:" نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" (الواقعة، آية: 60) أي: صرفناه بينكم "وَمَانَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" أي: وما نحن بعاجزين (2).
ــ وقال تعالى:" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ" (فصلت، آية: 10).
ــ وقال تعالى: "مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ" (عبس، آية: 19)، أي: قدر أجله ورزقه وعمله، شقي أو سعيد (3).
وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الله قدر كل شيء.
ثالثاً: القصص القرآني والإيمان بالقدر:
كان جميع الأنبياء والرسل ومن تبعهم معتقدين بعقيدة التوحيد الخالصة الصحيحة، كما أوحى إليهم ربهم تبارك وتعالى، والإيمان بصفات الله تعالى، ومنها، العلم والقدرة والإرادة والخلق كلها داخلة في التوحيد الذي هو أساس دين الإسلام، وتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء وغيرهم، وبين قولهم بالقدر، وبأن ما شاء الله كان، وما لم يشأن لا يكون (4).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 547).
(2) صحيح تفسير ابن كثير (4/ 362).
(3) المصدر نفسه (4/ 595).
(4) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ126.(1/16)
1 ـ في قصة نوح عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: "قَالُواْ يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَاتَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِنشَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلاَيَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (هود، آية: 32 ـ 34).
فهم قالوا لنوح عليه السلام مستعجلين: يا نوح قد جادلتنا أي: حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك، فآتنا بما تعدنا من العذاب، فأجابهم نوح مبيناً أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء، ثم بين نوح أيضاً أن نصحه لا ينفع إذا كان الله يريد أغواءهم، فإرادة الله غالبة، ومشيئته نافذة (1).
2 ـ وفي قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع ابنه إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أراد ذبحه بأمر الله، يقول: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَاتُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات، آية: 102).
وقال تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي: بلغ أن ينصرف معه ويعينه (2)، وفي هذا يكون في الغالب أحب ما يكون لوالديه، فرأى أبوه في المنام أن الله يأمره بذبحه، ورؤيا الأنبياء وحي، فقال الابن مستسلماً: "يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ"، فأخبر أنه موطِّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله (3).
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 251 ـ 252)، تفسير السعدي (3/ 422).
(2) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة صـ273.
(3) تفسير السعدي (6/ 389).(1/17)
وهذا هو الشاهد.
3 ـ وفي قصة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول الله تعالى: "وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (يوسف، آية: 100).
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء أي: إذا أراد أمراً قيض له أسباباً ويسره وقدره، إنه هو العليم بمصالح عباده، الْحَكِيمُ: في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده (1)، فيوسف ـ عليه السلام ـ كان مؤمناً أن ما جرى ويجري له ولغيره إنما هو بقضاء الله وقدره (2).
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 336)، القضاء والقدر عبد الرحمن المحمود صـ127.
(2) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ127.(1/18)
4 ـ وموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر الله عنه إيمانه بأن الهداية والإضلال بيد الله، وهما تحت مشيئته، فقال تعالى في معرض قصته: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ" (الأعراف، آية: 155)، فقوله: "لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ": أي لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا منقبل هذا الوقت، قال موسى اعترافاً بالذنب وتلهفاً على ما فرط من قومه، أو المعنى: لو شئت أهلكتهم وإياي من قبل خروجنا حتى يعاين بنو إسرائيل ذلك ولا يتهمونني، وهذا على أن "لَوْ" للتمني. ثم قال: "إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء": أي ما هو إلا اختبارك وإمتحانك تضل بهما من تشاء وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، فأنت وحدك لك الملك ولك الخلق والأمر (1)، فقول موسى هذا يدل على تصديقه وإيمانه بالقدر (2).
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي (3/ 268 ـ 269).
(2) القضاء والقدر للمحمود صـ128.(1/19)
5 ـ وفي قصة موسى مع الشيخ الكبير حينما ورد ماء مدين يقول تعالى عن الشيخ: " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ" (القص، آية: 27)، والشاهد قوله: "سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ" أي: حسن الصحبة والوفاء، أو الصلاح العام ويدخل فيه صلاح المعاملة من باب أولى، وقيد ذلك بمشئة الله تفويضاً للأمر إلى توفيق الله ومعونته (1).
6 ـ ويقول تعالى عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ والخضر بعد أن بين له أنه لا يستطيع الصبر معه، فأجابه موسى كما قال الله: "قَالَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَاأَعْصِي لَكَ أَمْرًا" (الكهف، آية: 69).
سأصبر بمشيئة الله ولكن هل الاستثناء شامل قوله: "وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" أولاً؟ قولان للمفسرين والأرجح شموله لهما (2)، قال في تفسير الجلالين "قَالَ سَتَجِدُنِي إِنشَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" أي: وغير عاصٍ "لَكَ أَمْرًا" تأمرني به، وقيد بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين (3). فتعليق الأمر بمشيئة الله تعالى دليل على إيمان موسى بأن أي شئ لا يكون إلا إذا أراده الله وشاءه، وقصة موسى والخضر كلها في باب القدر، وقد وردت بتمامها في صحيح البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله موسى وددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما" (4).
__________
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 169).
(2) تفسير القرطبي (11/ 17)، القضاء والقدر للمحمود صـ129.
(3) تفسير الجلالين: حاشية الجمل الفتوحات الإلهية (3/ 37).
(4) البخاري، ك العلم، فتح الباري (1/ 317).(1/20)
7 ـ وبعد أن خسف الله بقارون وداره يقول تعالى عن قومه: "وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَايُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" (القصص، آية: 82).
فقوله "يَبْسُطُ الرِّزْقَ" لبعض عباده ويُضيّقه على بعضهم فله الأمر، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى (1).
8 ـ ويقول تعالى عن زكريا ومريم:" فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران، آية: 37).
فقوله:" إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ": الراجح أنه من كلام مريم، وهو يفيد التقرير بأن الله قد يرزق عباده بغير حساب، وأن ذلك مرتبط بمشيئته سبحانه (2).
__________
(1) تفسير السعدي (6/ 61)، القضاء والقدر صـ130.
(2) القضاء والقدر، د. عبد الرحمن المحمود صـ 131.(1/21)
9 ـ وفي قصة الرجل صاحب الجنتين، يقول تعالى عن صاحبه أنه قال له وهو يحاوره" وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَاشَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا" (الكهف، آية: 39) أي: هلا قلت عندما دخلتها:" مَاشَاءا للَّهُ"، أي الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان فترد أمر جنتك من الحسن والنضارة لخالقه سبحانه، ولا تفتخر به لأنه ليس من عملك وصنعك " لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" أي: وهلا قلت: "لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، معترفاً بأنها وما فيها بمشيئة الله ـ تعالى ـ إن شاء أبقاها، وإن شاء أفناها، وأنك عاجز عنها، وعن غيرها لولا معونة الله (1).
10 ـ والجن يذكر تعالى أنهم قالوا:"وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا" (الجن، آية: 10)، فهم بعد أن منعوا من استراق السمع جزموا أن الله أراد أن يحدث في الأرض حادثاً كبيراً من خير أو شر، فقالوا: " وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ .... " الآية، فهم مؤمنون بأن الله له الإرادة المطلقة، وقد كانوا مؤدبين فقد أضافوا الخير إلى الله تعالى والشر حذفوا فاعله تأدباً. (2)
__________
(1) فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن خان (5/ 454).
(2) تفسير ابن كثير (8/ 267)، القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ 131.(1/22)
إن الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان بالله، بل هو جزء حقيقي منه لأن معناه، الإيمان بإحاطة علم الله تعالى بكل شيء وشمول إرادته لكل ما يقع في الكون، ونفوذ قدرته في كل شيء والإيمان بالقدر، الذي جاء به الإسلام هو إيمان بمقتضى الكمال الإلهي الذي تميزت به عقيدة الإسلام، وصححت به أوهام الفلسفات، وانحراف الديانات في شأن الألوهية، فليس الإله في الإسلام إلهاً معزولاً عما يجري في الكون لا يعلمه ولا يتدخل فيه بتدبير ولا تصريف ك"إله أرسطو" الذي لا يعرف إلا ذاته، ولا يعلم عن هذا الكون شيئاً، ولا يدبر فيه أمراً، أو "إله أفلوطين" الذي لا يعلم ذاته نفسها وليس ك" إله المجوس" الذي له نصف الكون يدبره ويتصرف فيه، وهو ما يتعلق بالخير والنور، أما النصف الآخر وهو ما يتصل بالشر والظلمة، فذلك من شأن إله آخر، فهما إلهان إذن: أحدهما إله الخير والنور، والآخر إله الشر والظلمة والحرب بينهما سجال حتى ينتصر إله الخير في النهاية وليس هو ك "آلهة اليونان" التي تخبط في تصرفاتها خبط عشواء والتي تعيش في حرب مع البشر، حتى إن رواياتهم عن القدر وضرباته للناس تمثله هازئاً بهم، متحدياً لهم، يطاردهم ويتجنى عليهم، ولهذا كثر الحديث في أدبهم عن قسوة القدر، وعن القدر الأعمى، والقدر الغاشم ونحو ذلك، وليس ك "إله بني إسرائيل" الذي تصوره توراتهم المحرفة، وكتبهم واساطيرهم، غيوراً منتقماً مدمراً، متعصباً لشعب إسرائيل دون العالمين، خائفاً من الإنسان أن يأكل من شجرة الحياة، فيصبح كواحد من الآلهة، نادماً على ما يفعله في بعض الأحيان عاجزاً عن مقاومة الإنسان، حتى إن إسرائيل ليصارعه فيصرعه (1)،
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ10 ..(1/23)
ليس هذا الذي تتصوره أو تصوره الديانات والفلسفات هو إله الإسلام، إنما الإله في الإسلام هو مالك الملك، وصاحب الخلق والأمر، رب العالمين، هو خالق كل شيء عن قبضة قهره، ولا حي أو جماد عن دائرة سلطانه، يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو مع هذا بر كريم، عدل رحيم، عليم حكيم، لا يظلم أحداً، ولا يأخذ مخلوقاً بذنب غيره، ولا يبخسه أجر سعيه، فلا يخاف أحد عنده ظلماً ولا هضماً، والظلم: أن يعاقبه بما لم يفعل والهضم: أن يضيع أجر ما قد عمل، والله سبحانه لا يعاقب بغير سيئة ولا يضيع أجر حسنة، بل يضاعفها كما قال سبحانه:" إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرً عَظِيمًا" (النساء، آية: 40).
هذا هو الإله الذي يجري كل شيء في الكون بتقديره وتدبيره بعلمه ومشيئته ومقتضى حكمته، وعلى هذا الأساس كان إيمان السلف بالقدر من الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، فليس الإيمان بالقدر إيماناً بالبخت والمصادفات والعشوائية في الكون، كهؤلاء الذين ينقلون إلى العربية التغييرات اليونانية والغربية عن القدر فتراهم يقولون: القدر الأعمى، والقدر الأحمق، والقدر الغاشم، وعبث الأقدار ونحوها، وهي ألفاظ وتعبيرات يبرأ منها الإسلام والمسلمون، إنما هو إيمان بإحاطة علم الله وعموم مشيئته وشمول قدرته، وربوبيته لكل ما في الكون وإن كل ما يحدث في الوجود إنما يتم بناء على ترتيب أو تصميم سابق، وتدبير قدير، وتقدير عزيز عليم (1).
رابعاً: الأدلة من السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقدر:
دلت نصوص السنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً، ولكن نعرض لبعضها وسنبين البعض الآخر في الأدلة التفصيلية عند الحديث على مراتب القدر ومن هذه الأحاديث:
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ11.(1/24)
1 ـ حديث جبريل: المشهور برواياته المحتلفة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (1).
2 ـ حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه (2).
3 ـ حديث علي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر (3).
فالمراد بالحديث نفي أصل الإيمان عمن لم يؤمن بهذه الاربع: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، ويؤمن بالموت: أي فناء الدنيا، أو المراد: اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله لا بفساد المزاج كما يقول الطبائعيون، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر وأن كل ما يجري بقدر الله ـ تعالى ـ وقضائه (4)، ونفي أصل الإيمان عمن لم يؤمن بهذه الأمور يدل على وجوب الإيمان بها.
4 ـ حديث طاوس، قال: أدركت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل شيء بقدر، قال وسمعت عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز (5).
__________
(1) مسلم، ك الإيمان رقم 8.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 2439.
(3) صحيح الترمزي للألباني رقم 2246.
(4) تحفة الأحوذي للمبارك فوري (3/ 201).
(5) مسلم، ك القدر رقم 2655.(1/25)
5 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت:"يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر، آية: 48 ـ 49) (1).
6 ـ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من التكذيب بالقدر، وذلك في الحديث الذي رواه أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر" (2).
خامساً: وصايا نبوية لتدريب النفس على الرضا بالقضاء والقدر:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم مربياً ومزكياً لنفوس أصحابه، وهي المهمة التي شرفه الله سبحانه بها، وتتجلى هذه التزكية، بأوضح صورها من خلال هذه الوصايا الثلاثة التي تُعد بحق نماذج العلاج النبوي لأمراض النفوس وتدريبها عملياً على التسليم لقضاء الله وقدره والرضا به.
الوصية الأولى: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (3).
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 675.
(2) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 158).
(3) مسلم، ك القدر رقم 2664.(1/26)
وفي هذا الحديث النبوي يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أراد نيل محبة الله ورضوانه فعليه أن يبادر إلى تقوية إيمانه ومجاهدة نفسه، وطلب القوة في العلم والجسم، وغير ذلك من عناصر القوة النافعة التي تتضافر جميعها لتكوين شخصية المسلم الذي يحبه الله سبحانه، ولكي يحظى المسلم بذلك فلا بد له من الأخذ بالوصايا النبوية الواردة في هذا الحديث: وهي أن يحرص على ما ينفعه ويطلب العون من الله سبحانه ولا يعجز، وأن يسلم أمره لله فيما قدّر له فلا يسخط ولا يشتكي من المصائب ولا يدع للشيطان مدخلاً يقوله: "لو أني فعلت كذا وكذا" فكلمة "لو" تجلب الحسرة والأسى، وتزيد اللوعة وتورث القلق والاضطراب، ولن يستطيع إعادة ما فات ولا إحياء من مات مهما تحسر، وإنما سيجلب لنفسه الكآبة ولجسمه الأمراض والآلام ويتعرض لغضب الله، باعتراضه على قدره، فالعلاج العملي أن يقول: "قدّر الله وما شاء فعل"، مُعِلناً استسلامه لأمر الله ورضاه بقضائه وأن يعود لسانه على هذا القول كلما ناله شئ يكرهه (1).
الوصية الثانية: دعاء الاستخارة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني استخريك بعلمك واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فأقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فأصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويسمي حاجته (2).
__________
(1) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 160).
(2) البخاري، ك الدعوات باب دعاء الاستخارة (7/ 162).(1/27)
وهذه الوصية النبوية تعد تدريباً عملياً على توطين النفس ورضاها بالقضاء والقدر، وتسليمها لما يقدر الله، اعتقاداً بأن ذلك هو الأصلح، والأنفع للعبد، فإذا همَّ المسلم بأمر من الأمور المباحة، من سفر أو زواج، أو تجارة أو غير ذلك فعليه أن يبادر إلى العمل بهذه الوصية النبوية، فيدعو بدعاء الاستخارة متذللاً أمام ربه، متواضعاً بين يديه، مستسلماً لأمره، راضياً بحكمه، داعياً أن يختار الله له ما فيه الخير في دينه ومعاشه وعاقبة أمره، وأن يصرف عنه هذا الأمر إن كان فيه شر، ثم يعزم على هذا الأمر، فإن انشرح صدره له، ويسر الله طريقه، وهو الخير الذي اختاره الله، وإن جاء الأمر على عكس ذلك، فعليه أن يفرح، لأن الله صرف عنه شراً واختار له ما يصلحه، ولو لم يدرك الحكمة فلتطمئن نفسه ولا يبقى متعلقاً بهذا الأمر، أو قلقاً من أجله، وبهذه الوصية النبوية، يدرب المسلم نفسه عملياً على الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمره، ويجاهد نفسه على مخالفة هواها ويربيها على الالتزام بأمر الله، لأن في ذلك صلاح دنياه وآخرته (1).
روى الأعمش عن مسعود رضي الله عنه قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر إليه الله من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: أصرفوه عنه فإني أن يسرته له أدخلته النار، قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دُهيت؟ وما هو إلا فضل الله سبحانه.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم كثيراً بدعاء الاستخارة ليعلمه لأصحابه، كما يعلمه السورة من القرآن، وهذا دليل على غاية الإهتمام به، والحرص عليه (2) ومن هو ........
__________
(1) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 161).
(2) المصدر نفسه (1/ 161).(1/28)
الوصية الثالثة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم (1). وفي رواية البخاري: إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضل عليه (2).
(3) هذا الحديث دواء لداء الحسد والتشكي من الأقدار، فالنفس التي تتطلع إلى الآخرين لن ترضى بحالٍ من ألأحوال كلما بلغت درجة من الغنى والجاه تعودتها فملتها وتطلعت إلى المزيد فهي دائماً في تلهف إلى كثرة المال وتعلق به وسخط وحسرة وإزدراء للنعم، وجحود للمنعم، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب (4).
فإذا اتبع المسلم هذه الوصية النبوية فإنه سيعرف قدر النعمة ويرضى بما قسم الله له، وينال القناعة، ويحظى بالسعادة ولو كان مبتلى بالفقر أو المرض أو المصائب المختلفة، لأنه إن كان فقيراً لا يملك وفرة من المال فلينظر إلى من ابتلى بالفقر المدقع والجوع الشديد، وإن كان مريضاً يشكو من بعض الآلام فلينظر إلى من ابتلي بعاهة أو مرض مزمن خطير، وهكذا يبقى دائماً مقدراً للنعمة راضياً بما قسم الله له شاكراً صابراً، ولو أخذ المسلمون اليوم بهذه الوصية النبوية لسعدت أحوالهم، واستقامت أوضاعهم، وعرفوا الثمرة الحقيقية للإيمان بالقضاء والقدر، وسارعوا إلى التنافس في التقوى والعمل الصالح والتقرب إلى الله عوضاً عن التنافس على حطام الدنيا الزائل (5).
__________
(1) مسلم، ك الزهد رقم 2963.
(2) البخاري، ك الرقاق (7/ 187).
(4) رواه البخاري، ك الرقاق (7/ 175).
(5) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 163).(1/29)
نهي الرسول صلى الله عليه عن الخوض في القدر:
ــ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه ولم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: "وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم (1).
وعن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر أصحابي فامسكوا، وإذا ذكرت النجوم فامسكوا، وإذا ذكر القدر فامسكوا (2).
ـ ورى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما تنازعوا في القدر: "عزمت عليكم أن تنازعوا فيه (3)، وقد اختلف العلماء في توجيه هذه الأحاديث:
أ ـ فبعضهم رأى ثبوتها، واستدل بها على وجوب الوقف على الخوض والكلام في القدر، وقال: إن هذا أحسن المذاهب لمن آثر الخلاص والسلامة (4).
ب ـ وبعضهم رد هذه الأحاديث، وقال: إن أسانيدها كلها لا تخلو من مقال، فهي إذن ضعيفة لا يحتج بها (5).
جـ ـ والذي نرجحه أنها ثابتة، وأقل ما فيها أنها حسنة، لأن لها طرقاً يقوي بعضها بعضاً، وحينئذ فالجواب عنها كما يلي:
ــ إن المنهي عنه إنما هو الخوض فيها بالباطل، وذلك بالخوض في كل ما يتعلق بالقدر، ومحاولة معرفة وجه الحق فيه عن طريق العقل القاصر، ولا شك أن هذا لا يجوز.
ــ والقدر ركن من أركان الإسلام، وقد وردت فيه الآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يأتي النهي عن الكلام فيه؟ إ، هذا دليل على أن النهي إنما هو منصب على الخوض فيه على وجه التنازع والاعتراض على الله ـ تعالى ـ لا وجه المعرفة الصادقة من الأدلة الصحيحة.
__________
(1) رواه ابن ماجة في المقدمة رقم 85، وحسنه محقق جامع الأصول.
(2) مجمع الزوائد (7/ 202)، صححه الألباني في الصحيح الجامع.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 34.
(4) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ25.
(5) المصدر نفسه صـ25.(1/30)
ــ وفي الأحاديث نفسها ما يدل على ذلك، ألا وهو قوله: "إذا ذكر أصحابي فامسكوا" فهل معناه الإمساك عن ذكر الصحابة وفضائلهم وجهادهم؟ أم أن النهي منصب على شئ معين؟: وهو الإمساك عن ذكرهم بالباطل، وعما شجر بينهم ـ رضوان الله عليهم جميعاً ـ وكذلك يقال في القدر.
ــ والرسول صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة عن التنازع في القدر، وهذا حق؟ لأن التنازع مظنة الاختلاف، وهذا داعٍ إلى القول فيه بغير الحق، وهو منهي عنه، وإلا فالقدر من أركان الإيمان، ولا بد من معرفة هذا الركن بالتفصيل كما جاء في الكتاب والسنة وأقوال السلف، حتى يتحقق الإيمان، وحتى يثمر ثماره المرجوة.
ــ وعلماء السلف الذين ذكروا القدر، وبحثوا فيه، بل ألفوا رسائل وكتباً مستقلة، هل معناه أنهم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانت ترد حوله بعض الإشكالات، ألا يجب بيان الحق للناس حتى لا يضلوا؟ وحتى لا يكونوا على بصيرة من أمر دينهم؟
ــ أما ما يؤثر عن بعض العلماء من أن القدر سر لله في خلقه، وهذا صحيح يجب إدراكه لكل من يبحث في القدر، لكن هذا محصور في الجانب الخفي من القدر، ألا وهو كونه ـ سبحانه وتعالى ـ أضل وهدى، وأمات وأحيا، ومنع وأعطى، وقسم ذلك بين عباده بقدرته ومشيئته النافذة، فمحاولة معرفة سر الله في ذلك لا تجوز، لأن الله حجب علمها حتى عن أقرب المقربين، أما جوانب القدر الأخرى وحكمه العظيمة، ومراتبه ودرجاته وآثاره، فهذا مما يجوز الخوض فيه، وبيان الحق للناس فيه، بل بيانه مما يندب إليه وينبغي شرحه وإيضاحه للناس، إذ الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي ينبغي تعلمها ومعرفتها (1).
__________
(1) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ27.(1/31)
سادساً: في عهد الخلفاء الراشدين:
كان أمر العقائد في عهد الخلفاء الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ على ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلامة العقيدة، والتسليم لله ورسوله في كل أمر وعدم الجدال والخوض فيما خاض فيه من بعدهم، وبالنسبة لعقيدة القضاء والقدر، كان موقف الصحابة والتابعين التسليم والإيمان به على الوجه الحق، كما بينه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن يبدر منهم شيء إلا كما بدر من بعضهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وسرعان ما يزول الالتباس بالإيمان القوي بعد البيان والإيضاح (1)، ومن أقوال الصحابة في القضاء والقدر:
1 ـ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ خلق الله الخلق فكانوا في قبضته فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة (2).
2 ـ خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة إلى الشام ومعه جمهور المهاجرين والأنصار حتى قدم دمشق فوقع بالشام طاعون فخاف عمر أن يقدم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشار الصحابة في ذلك ممن معه من المهاجرين والأنصار ومن كان بالشام فقيهاً، فاختلفوا عليه حتى جاء عبد الرحمن بن عوف فروى له عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا سمعتم بأرض قوم فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً. فحمد الله عمر ثم انصرف فخطبهم على باب الجابية (3)، ليقص عليهم ويعرفهم سبب انصرافهم فقال في خطبته كما انزل الله في كتابه وأمر رسوله استفتاح الخطيب بها: من يضلل الله فلا هادي له ومن يهدي فلا مضل له، فقال جاثليق (4) النصارى: إن الله لا يضل أحداً مرتين أو ثلاثاً فأنكر الصحابة ذلك عليه مرتين:
فقال عمر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول؟
__________
(1) شرح أصول واعتقاد أهل السنة للالكائي (4/ 734).
(2) القضاء والقدر للمحمود صـ154.
(3) الجابية قرية من أعمال دمشق.
(4) جاثليق: لعلها رتبة دينية عند النصارى.(1/32)
قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحداً. فقال عمر: كذبت بل الله خلقك والله أضلك ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء الله أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك وتفرق الناس وما يختلف في القدر اثنان (1).
وعن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بَسْرغ (2) لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة وأصحابه، فأخبروه أن الوباء وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم فأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا في الأمر، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه.
وقال آخرون: إن معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء.
فقال عمر: ارفعوا عني:
ثم قال: ادع الأنصار فدعوا ـ فدعوهم ـ له، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين فاختلفوا كاختلافهم.
فقال: ارتفعوا عني
ثم قال: ادع لي من هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوا له فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم رجلان قالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فأذن عمر بالناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم نفر من قدر الله عز وجل إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها وادياً له عدوتان (3) "احداهما" خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، قال فحمد الله ثم انصرف (4).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 726).
(2) سرغ: قرية بوادي تبوك في أرض الجزيرة.
(3) ثنية عدوى: وهو جانب من الوادي وحافته.
(4) البخاري رقم 5729، 5730.(1/33)
وقال أبو عثمان النهدي سمعت عمر بن الخطاب ـ وهو يطوف بالبيت ـ يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فاثبتني فيها وإن كنت كتبتني على الشقوة فامحني منها واثبتني في السعادة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب (1).
3 ـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
خطب علي بن أبي طالب فقال: ما يمنعه أن يقوم ـ فيخضب هذه من هذا. قالوا: يا أمير المؤمنين أما إذ عرفته فأرنا نبير عترته فقال: أنشد الله رجلاً قتل لي غير قاتلي.
قالوا: فأوصنا قال: أكلكم إلى ما وكلكم الله ورسوله إليه. قالوا: فما تقول لربك إذا قدمت عليه؟ قال: أقول كنت عليهم شهيداً مادمت فيهم حتى توفيتني وهم عبادك إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم (2).
وقال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقيناً غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله (3). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن القدر لا يرد القضاء ولكن الدعاء يرد القضاء (4)، قال الله لقوم يونس:" لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" (يونس، آية: 98).
4 ـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويقر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت (5).
وقال رضي الله عنه: أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره (6)
5 ـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 735).
(2) المصدر نفسه (4/ 736).
(3) المصدر نفسه (4/ 738).
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 737).
المصدر نفسه (4/ 738).
(5) المصدر نفسه (4/ 739).
(6) المصدر نفسه (4/ 738)(1/34)
عن ابن طاووس عن أبيه قال: أشهد لسمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر (1) قال ابن عباس: إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه (2)، وقال ابن عباس: القدر نظام التوحيد فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها (3).
وعن عطاء بن أبي رباح قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني الضلالة والردى ألا تراه قد ظلمني؟ قال: إن الهدى إن كان شيئاً لك عنده فمنعكاه فقد ظلمك وإن كان هو له يؤتيه من يشاء فلم يظلمك. قم لا تجالسني (4). عن ابن عباس قال: كان الهدهد يدل سليمان على الماء، وقلت له: كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ عليه التراب؟ فقال: أعضك الله بهن أبيك، ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر (5).
6 ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
عن يحي بن يعمر قال: قلت لابن عمر: إنا نسافر فنلقي قوماً يقولون: لا قدر، قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء، وهم براء ـ ثلاث مرات (6).
__________
(1) المصدر نفسه (4/ 741).
(2) المصدر نفسه (4/ 742).
(3) المصدر نفسه (4/ 742).
(4) المصدر نفسه (4/ 743).
(5) المصدر نفسه (4/ 743).
(6) المصدر نفسه (4/ 744).(1/35)
7 ـ أبي بن كعب رضي الله عنه:
عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر فإنه وقع في قلبي شئ من هذا القدر فحدثني بشئ لعل الله أن يذهبه عني، فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار. قال: ثم أتيت ابن مسعود فحدثني بمثل ذلك ثم أتيت ابن ثابت فحدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
8 ـ عبادة بن الصامت رضي الله عنه:
عن عبادة قال له ابنه عبد الرحمن: يا عبادة أوصني، قال: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: يا بني اتق الله ولن تتق الله حتى تؤمن بالقدر ولن تؤمن بالقدر حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك (2).
9 ـ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
قال الحسن بن علي: قضي القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خلا (3).
10ـ عمرو بن العاص رضي الله عنه:
قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه ويرى في عين أخيه القذا فيعيبها ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها ويكون في دابته "الصعر" ويقومها جهده ويكون في نفسه الصعر، فلا يقومها (4).
11 ـ أبو الدرداء رضي الله عنه:
قال أبو الدرداء: ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والإستسلام للرب (5).
__________
(1) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 745).
(2) المصدر نفسه (4/ 746).
(3) المصدر نفسه (4/ 746).
(4) المصدر نفسه (4/ 747).
(5) المصدر نفسه (4/ 749).(1/36)
ولابد هنا من البيان أن تقسيم القدر إلى خير وشر، إنما هو بإضافته إلى الناس والمخلوقات، أما بالنسبة لله عز وجل، فالقدر كله خير وحكمة وعدل ورحمة من الله سبحانه الذي قضى بتقدير المصائب والبلايا وكل ما يكرهه الإنسان لحكم كثيرة من أبرزها:
ــ الابتلاء لعباده: واختبارهم وتمحيص الإيمان في قلوبهم وزيادة درجاتهم وثوابهم إذا صبروا، قال تعالى: "وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء، آية: 35)، والمقصود بالفتنة هنا الاختبار وقال سبحانه: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت، آية: 2 ـ 3).
ــ التربية والتأديب: والجزاء المعجل لكي يثوب الإنسان إلى رشده، ويرجع عن خطئه (1)، قال تعالى: "فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّاكَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ" (النحل، آية: 34).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة (2).
__________
(1) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 152).
(2) سنن الترمذي رقم 2396 حديث حسن غريب.(1/37)
ما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينه، وإن يسوؤه فهو نعمة، لأنه يكفر خطاياه، ويثاب عليه بالصبر ومن جهة إن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد، قال تعالى:"وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكم" (البقرة، آية: 216). وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى صبر (1). والمقصود أن الله تعالى منعم بهذا كله، وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (2).
(3) بيان قوله تعالى:" مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" (النساء، آية: 79). نلاحظ: فرّق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم، وبين السيئات التي هي المصائب، فجعل هذه من الله وهذه من نفس الإنسان، لأن الحسنة مضافة إلى الله، إذ هو أحسن بها من كل وجه .. أما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه فإن الرب لا يفعل سيئة قط بل فعله كله حسن وخير (4).
المبحث الثاني: مراتب القدر: على أربع مراتب:
أولاً: مرتبة العلم:
الإيمان بعلم الله عز وجل المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات، فعلم ما كان وما يكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، وأنه علم ما الخلق عالمون قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم ومن قبل أن يخلق الجنة والنار، علم دق ذلك وجليله وكثيره وقليله وظاهره وباطنه وسره وعلانيته ومبدأه ومنتاه، كل ذلك بعلمه الذي هو صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علّام الغيوب (5).
__________
(1) مجموع الفتاوى (8/ 209 ـ 210).
(2) منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 153).
(4) المصدر نفسه (1/ 154).
(5) معارج القبول للحافظ الحكمي (1/ 920).(1/38)
والأدلة من القرآن الكريم كثيرة منها:
1 ـ قوله تعالى:" وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (الأنعام، آية: 59).
ومفاتح الغيب فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها خمس لا يعلمها إلا الله وهي المذكورة في قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان، آية: 34).
والآية دلت على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ محيط علمه بجميع الموجودات بريها وبحريها وما تسقط من ورقة إلا يعلمها فهو يعلم حركة الجمادات، ومن باب أولى غيرها من الحيوانات وبني الإنسان المكلفين (1)، وقد أحاط علمه ـ سبحانه وتعالى ـ بكل حبة كائنة في ظلمات الأرض من الأمكنة المظلمة أو النبات الذي في بطن الأرض قبل أن يظهر (2).
2 ـ وقوله تعالى:" هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ" (الحشر، آية: 22) أي: السر والعلانية، أو الدنيا والآخرة، أو المعدوم والموجود (3).
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 260).
(2) فتح البيان صديق خان (3/ 172)، القضاء والقدر للمحمود صـ 56.
(3) تفسير النسقي (5/ 181).(1/39)
3 ـ وقال تعالى:" لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق، آية: 12)، فلا يخرج عن علمه شيء منها كائناً ما كان (1)، فإحاطته سبحانه بكل شيء علماً يدل على ثبوت صفة العلم لله المتصف به أزلاً والشامل لكل شيء (2).
4 ـ وقال تعالى:" إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" (طه، آية: 98).
فبعد أن أحرق موسى ـ عليه السلام ـ العجل، ونسفه في البحر، فبطل أن يكون إلهاً كما زعموا، فلما فعل ذلك وتبين لهم بطلانه، أخبرهم بمن يستحق العبادة وهو الله سبحانه وتعالى، المتوحد بالألوهية، والذي قد أحاط علمه بجميع الأشياء (3).
5 ـ وقال تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ" (البقرة، آية: 216). فعواقب الأمور لا يعلمها إلا الله (4).
6 ـ وقال تعالى: مجيباً الملائكة ـ بعد اخبارهم أنه جاعل في الأرض خليفة واستفهامهم ـ قال تعالى:" إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة، آية: 30) أي: أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء، ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة (5)، فعلمه محيط بكل شيء.
7 ـ وقال تعالى:" عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ" (سبأ، آية: 3).
__________
(1) فتح البيان (9/ 474)، القضاء والقدر المحمود صـ 56.
(2) القضاء والقدر المحمود صـ 56.
(3) تفسير السعدي (5/ 185).
(4) تفسير ابن كثير (1/ 368).
(5) تفسير ابن كثير (1/ 368)، القضاء والقدر المحمود صـ 57.(1/40)
الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو عالم أين ذهبت؟ وأين تفرقت؟ ثم يُعيدُهَا كما بدأها أوّل مرّة فإنه بكل شيء عليم (1).
8 ـ وقال تعالى:" هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى" (النجم، آية: 32). أي: هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم وتقع منكم، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صُلبه أمثال الذّرّ، ثم قسمهم فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للسعير، وكذا قوله" وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أمهاتكم" قد كتب الملك الذي يُوَكُّلُ به: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد (2).
9 ـ وقال تعالى:" أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت، آية: 10). أي: أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم وإن أظهروا لكم الموافقة (3)؟
10 ـ وقال تعالى:" وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا" (الجن، آية: 28).
ـ أدلة هذه المرتبة من السنة:
1 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين (4).
__________
(1) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 605).
(2) صحيح تفسير ابن كثير (4/ 318).
(3) لمصدر نفسه (3/ 457).
(4) البخاري رقم 2660.(1/41)
2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتجون البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها، قالوا: يا رسول: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. والشاهد قوله: " الله اعلم بما كانوا عاملين (1) " بالنسبة لأولاد المشركين والمسلمين، ومعنى ذلك أنهم لو عاشوا فإن الله عالم بأعمالهم خيرها وشرها، فالله يعلم ما كان، ومالم يكن لو كان كيف يكون (2).
3 ـ وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً، وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال: ما منكم من نفس إلا وقد عُلم منزلها من الجنة والنار. قالوا: يا رسول الله، فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ " فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (3) "، إلى قوله " فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" (الليل، آية: 5 ـ 10)، والشاهد قوله:" ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار" فالله علم أهل الجنة وأهل النار بعلمه القديم، فالحديث يدل على ثبوت العلم الكامل لله تعالى (4).
4 ـ وعن عائشة أم المؤمنين أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاءإلى صراط مستقيم (5).
__________
(1) البخاري رقم 2658.
(2) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ 58.
(3) مسلم رقم 2647.
(4) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ 59.
(5) مسلم، ك الصلاة رقم 770.(1/42)
5 ـ وقال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم (1)، فأسم الله "العليم" يقتضي أنه سبحانه عالم بأرزاق العباد وآجالهم وأعمالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم والشقي منهم والسعيد قبل أن يخلقهم (2).
ثانياً: مرتبة الكتابة:
وهي أن الله تعالى ـ كتب مقادير المخلوقات، والمقصود بهذه الكتابة الكتابة في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله من شيء، فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله وأدلة هذه المرتبة كثيرة نذكر منها:
1 ـ قوله تعالى:" مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الأنعام، آية: 38)، على أحد الوجهين، وهو أن المقصود بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فالله أثبت فيه جميع الحوادث، فكل ما يجري مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ (3).
2 ـ وقال تعالى:" وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء، آية: 105). فأخبر ـ تعالى ـ أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة (4). والآية دالة على مرتبة الكتابة عند من فسر الزبور بالكتب بعد الذكر، والذكر أمُّ الكتاب عند الله، وهو اللوح المحفوظ (5).
__________
(1) صحيح ابن ماجة للألباني (2/ 332).
(2) المباحث العقدية، علي الكيلاني (2/ 880).
(3) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ 60.
(4) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 177).
(5) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ 60.(1/43)
3 ـ وقال تعالى في قصة أسرى بدر:" لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (الأنفال، آية: 68)، أي: لولا كتاب سبق به القضاء عند الله أنه قد أحل لكم الغنائم وأن الله رفع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لمسكم العذاب (1)، فالآية دليل على الكتاب السابق (2).
4 ـ وقال تعالى:" أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (الحج، آية: 70). وهذه الآية من أوضح الأدلة الدالة، على علمه المحيط بكل شيء، وأنه علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب الله ذلك في كتابه اللوح المحفوظ (3)، فالآية جمعت بين المرتبتين (4).
5 ـ وقال تعالى:" وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (النمل، آية: 75)، أي: خفية أو سر من أسرار العالم العلوي والسفلي، إلا في كتاب مبين، قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة، فما من حادث جلي أو خفي، إلا هو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ (5)، فالآية دليل على الكتابة السابقة لكل ما سيقع.
__________
(1) تفسير السعدي (3/ 191).
(2) تفسير ابن كثير (5/ 448)، تفسير النسفي (3/ 389).
(3) تفسير ابن كثير (5/ 448)، تفسير النسفي (3/ 389).
(4) القضاء والقدر صـ 60.
(5) تفسير السعدي (5/ 598).(1/44)
6 ـ وقال تعالى في آية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة:" وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْه مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (يونس، آية: 61)، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ" أي: ما يغيب عن علمه وبصره وسمعه ومشاهدته أي شيء، حتى مثاقيل الذر، بل هو ما أصغر منها، وهذه مرتبة العلم، وقوله:"إِلاَّ فِي كِتَابٍ": مرتبة الكتابة، وكثيراً ما يقرن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين هاتين المرتبتين (1).
7 ـ قال تعالى:" وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" (يس، آية: 12)، أي: جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هَهُنا: هو أم الكتاب (2).
8 ـ وقال تعالى:" وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ *وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ" (القمر، آية: 52 ـ 53)، أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام " وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ" أي: من أعمالهم " مُسْتَطَرٌ" أي: مجموع عليهم، ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (3).
9 ـ وقال تعالى عن موسى حين قال له فرعون:" فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّايَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى" (طه، آية: 51ـ 52).
__________
(1) تفسير السعدي (3/ 366).
(2) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 654).
(3) المصدر نفسه (4/ 335).(1/45)
إن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدّر وهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول لم يعبدوه بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عَملَهمُ عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال " لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى" أي: لا يشذ عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتعالى وتقدّس وتنزه، فإن علم المخلوقات يعتريه نقصانان، أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء، والآخر: نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك (1).
10 ـ وقال تعالى:" وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (فاطر، آية: 11).
ـ الأدلة من السنة:
1 ـ قال عبد الله بن عمرو بن العاص، ـ رضي الله عنهما ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء (2)، فالدليل من الحديث قوله: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض، فالمراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له وقوله:" وعرشه على الماء" أي: قبل خلق السموات والأرض (3).
__________
(1) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 115).
(2) مسلم، ك القدر رقم 2653.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 203).(1/46)
2 ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه: ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام إنّي معلمك كلمات ينفعك الله بهنّ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (1).
3 ـ ومن الأحاديث المشهورة حديث: أول ما خلق الله القلم وفيه: أن الله أمره بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، فعن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لأبنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني (2)، فالرواية فيها دليل على مرتبة الكتابة حيث أمر الله القلم بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة (3).
ثالثاً: مرتبة الإرادة والمشيئة:
إن كل ما يجري في هذا الكون فهو بمشيئة الله، سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يخرج عن إرادته الكونية شيء ومن الأدلة في القرآن الكريم:
1 ـ قال تعالى:" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس، آية: 82).
أي: إنما يأمر بالشيء، أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له "كن" قولة فيكون (4)
__________
(1) سنن الترمزي (4/ 667) رقم 2516 حسن صحيح.
(2) سنن أبي داد، ك السنة، باب في القدر رقم 4700.
(3) القضاء والقدر، امحمود صـ65.
(4) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 675).(1/47)
2 ـ وقد ورد في القرآن الكريم ـ في الحديث عن بعض الأنبياء وغيرهم ـ تعليقهم كل أمر بمشيئة الله ـ سبحانه وتعالى ـ
أ ـ فنوح عليه الصلاة والسلام، لما قال له قومه:" فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِنشَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ" (هود، آية: 32، 33).
ب ـ وشعيب عليه السلام ـ بعد ـ ما طلب منه قومه أن يعود إلى ملتهم بين أنه لا يمكن أن يعود إلى ملتهم بعد أن نجاه الله منها هو والمؤمنون معه ولا ينبغي لهم ذلك إلا إذا شاء الله ذلك فقال:" قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الأعراف، آية: 89)، فعلق أعظم شيء وهو الإيمان والكفر على مشيئة الله.
جـ ـ ويوسف عليه السلام، قال لأهله بعد أن ألتقى بهم:" ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ" (يوسف، آية: 99).
س ـ وقال موسى عليه السلام ـ للعبد الصالح "قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" (الكهف، آية: 69).
ك ـ والله سبحانه وتعالى وجه نبيه قائلاً:" وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ" (الكهف، آية: 23، 24).
فهذه الآيات تدل على استقرار عقيدة المسلمين ويقينهم بهذه المرتبة من مراتب القدر (1).
__________
(1) القضاء والقدر، المحمود صـ 70.(1/48)
3 ـ قال تعالى:" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران، آية: 26)، أي: أنت المعطي وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم يشأ لم يكن (1).
4 ـ قال تعالى:" هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران، آية: 6)، أي وهو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء ذكوراً وإناثاً، أشقياء وسعداء مختلفين في صفاتهم وأشكالهم، حسناً وقبحاً (2).
5 ـ قال تعالى:" فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء" (الأنعام، آية: 125)، أي: ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، ويوسع قلبه للتوحيد والإيمان به " وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ" أي يجعل صدره ضيقاً، لا يتسع لشيء من الهدى ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه (3).
6 ـ وقال تعالى:" وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (السجدة، آية: 13).
7 ـ وقال تعالى:" وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى" (الأنعام، آية: 35).
8 ـ وقال تعالى:" وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" (هود، آية: 118).
__________
(1) صحيح تفسير ابن كثير (1/ 338).
(2) القضاء والقدر صـ 71.
(3) صحيح تفسير ابن كثير (2/ 69).(1/49)
9 ـ قوله تعالى ـ في معرض الحديث عن أهل الكتاب، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتبع أهواءهم، وأمره أن يلتزم الحكم بما أنزل الله، مبيناً أن لكل من الأمم الثلاثة: اليهود والنصارى، وأمة محمد، شريعة ومنهاجاً في كل من التوراة والإنجيل والقرآن،" وقد نسخ القرآن ما قبله" قال بعد ذلك:" وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَآ آتَاكُم " (المائدة، آية: 48)، أي: لجعلكم على شريعة واحدة، وكتاب واحد، ورسول واحد، لكن لما لم يشأ الله ذلك، بل شاء الأبتلاء والاختبار، فكنتم على الحالة التي أنتم عليها (1)، فمشيئة الله مطلقة، والنافذ هو ما يشاؤه ـ سبحانه وتعالى ـ فهذا دليل على مرتبة المشيئة (2).
ـ أدلة هذه المرتبة من السنة:
1 ـ عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء (3). فأوصى بالشفاعة وذلك فيما ليس بمجرم وضابطها: ما أذن في الشرع دون ما لم يأذن فيه (4)، ثم بين أن الله يقضي على لسان رسوله ما شاء، أي: يظهر على لسان رسوله بالوحي أو الإلهام ما قدره في علمه بأنه سيقع (5)، فهذا يدل على مرتبة المشيئة.
__________
(1) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ 69.
(2) المصدر نفسه صـ 69.
(3) البخاري، ك الزكاة، فتح الباري (3/ 299).
(4) فتح الباري (10/ 451).
(5) المصدر نفسه (13/ 452).(1/50)
2 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله (1)، فقوله: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فيه إثبات مرتبة الإرادة، وأن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى ـ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: وإنما أنا قاسم والله يعطي، أي: إنما اقسم ما أمرني الله بقسمته، والمعطي حقيقة هو الله ـ تعالى ـ فالأمور كلها بتقدير الله تعالى، والإنسان مصرف مربوب، ومن الأحاديث الدالة على الإرادة حديث حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ملكاً موكلاً بالرحم، إذا اراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة ... الحديث (2). فالله هو المريد الخلق الآدمي، والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً (3).
3 ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلاً، بل ما شاء الله وحده (4)، والحديث واضح الدلالة على إثبات مرتبة المشيئة، وأن الله تعالى له المشيئة المطلقة، وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة الله ـ تعالى ـ، والنهي في الحديث إنما هو عن قرن مشيئة الله بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عطفها بالواو والتي هي لمطلق الجميع من غير ترتيب ولا تعقيب، والرسول مثل غيره من العباد، فالكل خاضعون لمشيئة الله، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله (5).
__________
(1) البخاري، ك فتح الباري (1/ 164).
(2) مسلم رقم 2645.
(3) القضاء والقدر صـ76 المحمود.
(4) مصنف ابن أبي شيبة رقم 6742.
(5) القضاء والقدر المحمود صـ75.(1/51)
4 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت أرحمني إن شئت، أرزقني إن شئت، وليعزم مسئلته أنه يفعل ما يشاء لا مكره له (1).
ففيه إثبات المشيئة لله ـ تعالى ـ فهو الغفور الرحيم، والرازق إذا شاء، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا مكره له، والحديث فيه الحث على العزم في المسألة والجزم فيها، دون ضعف أو تعليق على المشيئة، وإنما نهى عن التعليق على المشيئة لأنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه إلى الإكراه، والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا مكره له، كما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هنا (2).
5 ـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (3). والشاهد قوله: "كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ومعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم، فيهدي ويضل كما يشاء، ففيه دلالة على مرتبة المشيئة (4).
6 ـ وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حين أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله: "ألا تصليان؟ " فأجابه بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال علي: فانصرف حين قلت له ذلك، ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مُوَلِّ يضرب فخذه وهو يقول: " وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (5).
__________
(1) فتح الباري (11/ 139) مسلم رقم 2678.
(2) شرح النووي على مسلم (17/ 6 ـ 7)، فتح الباري (11/ 140).
(3) مسلم، ك القدر رقمه 2654 (4/ 2045).
(4) شرح النووي على مسلم (16/ 204).
(5) فتح الباري (3/ 10) مسلم رقم 775 ..(1/52)
ففي هذا الحديث إثبات لمشيئة الله ـ تعالى ـ وأن العبد لا يفعل شيئاً إلا بإرادة الله وأما انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وضربه فخذه، واستشهاده بالآية، فمعناه: أنه تعجب من سرعة من جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه (1).
7 ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (2).
وهذا تحقيق لوحدانيته لتوحيد الربوبية خلقاً وقدراً وبداية وهداية هو المعطي المانع لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولتوحيد الإلهية شرعاً وأمراً ونهياً (3). وفي هذا الحديث: فيه من التفويض إلى الله تعالى والإذعان له والاعتراف بوحدانيته والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن الخير والشر منه والحث على الزهادة في الدنيا والإقبال على الأعمال الصالحة (4).
8 ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (5).
ففي الحديث حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان بمقادير الله وبمشيئة الله وإرجاع ما يقع للعبد إلى مشيئة الله: "وما شاء فعل" فيه إثبات المشيئة لله تعالى (6).
__________
(1) شرح النووي (4/ 2045).
(2) مسلم رقم 771.
(3) مجموع الفتاوي (14/ 376).
(4) شرح صحيح مسلم للنووي (4/ 195 ـ 196).
(5) مسلم رقم 2664.
(6) المباحث العقدية المتعلقة بالأذكار (2/ 883).(1/53)
9 ـ وعن ابن عباس رضي الله نهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده فقال: لا بأس عليك طهور إن شاء الله، قال الأعرابي: طهور، بل هي هي حمى تفور على شيخ كبير، تُزيره القبور، قال النبي صلى الله علي وسلم: فنعم إذاً (1).
وهذا الحديث استدل به البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد علي إثبات مشيئة الله عز وجل، كما هو واضح في تخريج الحديث، حيث بوّب له باب: في المشيئة والإرادة.
والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. فجعل كون هذا المرض الذي أصيب به المريض طهوراً من ذنوبه ومكفراً لها مقيداً بمشيئة الله تعالى وفوض ذلك فإن شاء الله تعالى جعله كفارة وطهوراً فهو يفعل ما يشاء وهو على كل شئ قدير. (2)
10 ـ وفيما يقال عند دخول القبور ما ورد عن عائشة أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (3).
والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً.
رابعاً: مرتبة الخلق: وهو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شئ، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرّة في السماوات وفي الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها، سبحانه لا خالق غيره ولا ربّ سواه (4). ومن الأدلة من القرآن.
__________
(1) البخاري، ك التوحيد رقم 7032.
(2) المباحث العقدية (2/ 884).
(3) مسلم، رقم 974.
(4) معارج القبول (3/ 940).(1/54)
1 ـ قال تعالى: " قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ" (الصافات، آية: 95 ـ 96). أي خلقكم وعملكم، فتكون ما مصدرية، وقيل: إنها بمعنى الذي، فيكون المعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم وهو الأصنام (1).
وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال: وكلا القولين متلازم والأول أظهر (2)، وقد علل ذلك بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يصنع كل صانع وصنعته وتلا بعضهم عند ذلك "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَاتَعْمَلُونَ" فأخبر الصناعات وأهلها مخلوقة (3)، فالله ـ تعالى ـ خالق الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك، الآية والحديث (4).
2 ـ قال تعالى: "اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" (الرعد، آية: 16)، وفي آية أخرى: "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" (غافر، آية: 62).
وهذه نصوص واضحة في الدلالة على مرتبة الخلق، وقد جاءت الآية الأولى في معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه ـ سبحانه وتعالى ـ فنفي ذلك سبحانه آمراً رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في الأمر، وتدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وانفراده بالخلق والرزق "قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" (الرعد، آية: 16)، وفي موضع آخر جاءت هذه الآية لبيان قدرة الله ـ تعالى ـ وكماله ودلائل وحدانيته " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" (الزمر، آية: 62)، أما الآية الثانية فقد جاءت أيضاً لبيان قدرة الله التامة، حيث جعل لعباده الليل والنهار ثم بين سبحانه أنه خالق كل شئ (5).
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير (7/ 70).
(2) تفسير ابن كثير (7/ 22) القضاء والقدر صـ77.
(3) تفسير ابن كثير (7/ 22) القضاء والقدر صـ77.
(4) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ77.
(5) القضاء والقدر، المحمود صـ78.(1/55)
3 ـ وقال تعالى: ممتناً على الصحابة ـ رضوان الله تعليهم ـ بعد أن أمرهم بالتثبت في خبر الفاسق قال تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ" (الحجرات، آية: 7).
والشاهد قوله: " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ..... " فهو سبحانه هو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم، وهو الذي جعل ما يضاد الإيمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروهاً عندكم وذلك بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر وعدم إرادة فعله، فالفاعل في كل ذلك هو الله ـ تعالى (1).
وهناك آيات كثيرة تدل على أن الله ـ تعالى ـ هو المضل والهادي، والمؤيد لعباده المؤمنين، والهازم لأعدائهم وأنه المضحك والمبكي، والمميت والمحيي، وكل ذلك دليل مرتبة (2) الخلق.
__________
(1) فتح البيان في مقاصد القرآن صديق خان (9/ 74).
(2) القضاء والقدر، المحمود صـ79.(1/56)
وقد أورد الحافظ ابن كثير هذا الدعاء في تفسيره آية الحجرات السابقة " وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ" قال لمّا كان يوم أحد وإنكفأ المشركون قال صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثنى على ربيِّ" فصاروا خلفه صُفُوفاً: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما بعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحيينا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق (1). فترى في هذا الحديث الإقرار بأن الله ـ تعالى ـ هو الفاعل لهذه الأمور، وهذا دليل على مرتبة الخلق (2).
ـ أدلة هذه المرتبة من السنة:
1 ـ عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها (3) ..
__________
(1) مسند أحمد (3/ 4224) السنة لابن أبي عاصم رقم 381.
(2) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ80.
(3) مسلم، ك الذكر والدعاء رقم 2722 (4/ 2088).(1/57)
الشاهد قوله:" اللهم آت نفسي تقواها وزكاها .. ، فالفاعل هو الله ـ تعالى ـ فهو الذي يطلب منه ذلك، ولفظ "خير" ليس للتفضيل، بل لا مزكي للنفس إلا الله، ولهذا قال بعد ذلك أنت وليها ومولاها (1)، فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر.
قال تعالى:" فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس، آية: 8).
قال سعيد بن حبير في تفسير هذه الآية " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" أي: فالخلق لله والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه، وقال ابن زيد في معنى الآية: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها بالفجور (2).
2 ـ وعن البراء بن عازم ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا صمنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بَغَوْا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا (3)
وفي رواية أخرى للبخاري: ولا تصدقنا ولا صلينا (4)، بدل: ولا صمنا ولا صلينا، وبهذه الرواية يستقيم الوزن، قال ابن حجر: وهو المحفوظ (5). ودليل هذه المرتبة قوله: لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فإنها دليل على أن الله هو خالق العباد وأفعالهم ومنها: الهداية، والصدقة، والصلاة (6).
3 ـ وعن ورّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أكتب إليّ ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى عليّ المغيرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (7).
__________
(1) شرح النووي على مسلم (17/ 41).
(2) زاد المسير، ابن الجوزي (9/ 140).
(3) فتح الباري (11/ 516).
(4) المصدر نفسه (7/ 399).
(5) المصدر نفسه (11/ 516).
(6) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ 83.
(7) فتح الباري (2/ 325).(1/58)
الشاهد قوله: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت فالمعطي والمانع هو الله ـ تعالى ـ، فهو الفاعل لهما، وهذا يدل على أن الخالق هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
وقوله:"ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، أو لا ينجيه حظه منك، بل ينفعه عمله الصالح (1).
4 ـ وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ: يا عبد الله ابن قيس، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله (2). والشاهد قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففيها الاعتراف بأنه لا صانع غير الله، ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، فمعناها: لا حركة ولا أستطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته، وحُكِيَ هذا عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وكله متقارب (3)، والكنز هنا: معناه ثواب مُدَّخر في الجنة عند الله وهو ثواب نفيس (4).
5 ـ وعن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين (5).
__________
(1) القضاء والقدر، المحمود صـ81.
(2) فتح الباري (11/ 500).
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 26 ـ 27).
(4) المصدر نفسه (17/ 27).
(5) مسلم، ك صلاة المسافرين رقم 771.(1/59)
ففي الحديث: دلالة على أن الله فطر السموات والأرض أي خلقهن وأبدعهن وأتقن صنعهن وأوجدهن من العدم على غير مثال سابق، فخلقه سبحانه لهذا الكون من أرض وسموات وما فيهن من رطب ويابس ومخلوقات عجيبة أكبر دليل على هذه المرتبة وأن الله يخلق الخلق بقدرته على ما اقتضاه علمه السابق ومشيئته النافذة (1).
6 ـ قال صلى الله عليه وسلم: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة (2).
والحديث يدل على شيء مما خلق الله تعالى وهو خلق الإنسان وما احتواه هذا المخلوق من أعضاء وأجهزة يعجز الإتيان بمثلها إلا من هو خالق كل شيء سبحانه فالناظر في نفسه ودقة تكوينها وعجيب خلقتها يؤمن بأن الله خالق كل شيء (3)، فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه، العالم به إذ انشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه (4).
المبحث الثالث: التقادير الخمس وأنواع الإرادة
أولاً: التقادير الخمس:
إن الإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير
1ـ التقدير الأزلي: قبل خلق السماوات والأرض عندما خلق الله تعالى القلم،
ـ قال تعالى:" قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا" (التوبة، آية: 51).
__________
(1) المباحث العقدية (2/ 886).
(2) البخاري، ك الدعوات رقم 5947.
(3) المباحث العقدية (2/ 886).
(4) مدارج السالكين (1/ 221).(1/60)
ـ وقال تعالى:" مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" (الحديد، آية: 22، 23).
ـ وقال تعالى:" وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (النمل، آية: 75).
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشُهُ على الماء (1).
2 ـ تقدير يوم الميثاق:
قال تعالى:" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الأعراف، آية: 172، 173).
وهو ميثاق الفطرة الأول، وفيه أخذ الله تعالى من ظهر آدم ذريته، وهم كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم وقال لهم" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا" (الأعراف، آية: 172) فجبلهم على حبه وتوحيده وتعظيمه وأقرهم على ذلك بالقوة فصارت النفوس تقر بخالقها، وتميل إلى توحيده وبقيت تلك الفطرة في قلوبهم حجة عليهم (2).
إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ويؤيد ذلك قوله تعالى:"فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (الروم، آية: 30).
__________
(1) مسلم، ك القدر رقم 2653.
(2) القضاء والقدر عند السلف، علي السيد الوصيفي صـ56.(1/61)
ثم جعلهم بعلمه وحكمته فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير (1). قال صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره وقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي. قال: فقال قائل: يا رسول الله، فعلى ماذا نعمل؟ قال: على موقع القدر (2).
3 ـ التقدير العمري: عند تخليق النطفة في الرحم، فيكتب إذ ذاك ذكوريتها وانوثتها والأجل والعمل، والشقاوة والسعادة وجميع ما هو لاق فلا يزاد فيه ولا ينقص منه (3).
ـ قال الله تبارك وتعالى:" يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا" (الحج، آية: 5).
ـ وقال تعالى:"وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَاتَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (فاطر، آية: 11).
ـ وقال تعالى:"هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (غافر، آية: 67).
__________
(1) المصدر نفسه صـ 57.
(2) السلسلة الصحيحة للألباني رقم 48.
(3) معارج القبول (3/ 934).(1/62)
ـ وقال تبارك وتعالى:"إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ
وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ" (النجم، آية: 32) وغيرها من الآيات (1).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: إن أحدكم يُجْمَعُ خَلْفُهُ في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يُرْسَلُ الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (2)، وفي رواية أخرى: إذا أمر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص (3) ,
4 ـ التقدير الحولي: في ليلة القدر:
قال تعالى:"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ" (الدخان، آية: 3 ـ 5).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال: يحج فلان وفلان (4).
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 935).
(2) البخاري في كتاب بدء الخلق رقم 3208.
(3) مسلم، ك القدر رقم 2645.
(4) تفسير ابن كثير (4/ 140).(1/63)
ومعنى يفرق أنه يكتب ويفصل كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى الأخرى من السنة القابلة (1)، فيقضي أمر السنة كلها من معايش الناس ومصائبهم وموتهم وحياتهم إلى مثلها من السنة الأخرى (2).
5 ـ التقدير اليومي: هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق.
ــ قال تعالى:" يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن، آية: 29).
روى ابن جرير بسند حسن عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن يغفر ذنباً، ويفرِّج كربا، ويرفع قوماً، ويضع آخرين (3).
قال سبحانه:"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (آل عمران، آية: 26).
وقال البغوي في تفسيره"كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ: من شأنه أن يحي ويميت، ويخلق ويرزق، ويُعز قوما ويذل قوماً، ويشفي مريضاً، ويفك عانيا، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء (4).
وجملة القول في ذلك أمن التقدير اليومي هو تأويل المقدورعلى العبد وإنفاذه فيه، في الوقت الذي سبق أن يناله فيه، لا يتقدمه ولا يتأخره.
__________
(1) تفسير أبو السعود (8/ 58).
(2) القضاء والقدر المحمود ص68.
(3) تفسير ابن كثير (4/ 273)، صححه الألباني في ظلال الجنة.
(4) تفسير الخازن والبغوي (6/ 80 ـ 81).(1/64)
ثم هذا التقدير اليومي تفصيل من تقدير الحولي، والحولي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة، والعمري تفصيل من التخليق العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الأزلي الذي خطه القلم في الإمام المبين والإمام المبين هو من علم الله عز وجل، وكذلك منتهى المقادير في آخريتها إلى علم الله (1)، فانتهت الأوائل إلى أوليته وإنتهت الأواخر إلى آخريته "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى" (النجم، آية: 42) (2).
ثانياً: أنواع الإرادة:
تنقسم الإرادة في كتاب الله إلى إرادة كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية.
1 ـ الإرادة الكونية:
هي المشيئة العامة التي يدخل فيها جميع المخلوقات من بر وفاجر وصالح وطالح، وهي إرادة الله تعالى لفعله، سواء إن كان المفعول منه محبوباً أو غير محبوب، يرضيه أم لا يرضيه، فالله تعالى يفعل ما يشاء، ولا يشاء شيئاً إلا بعد إرادته له، وكل ما كان منه فليس فيه إلا الجمال والجلال والحسن، أما أفعال العباد فهي منقسمة، ففيها الحسن وفيها القبيح، وليس للعباد أن يفعلوا ما يشاؤون، وإنما يفعلون ما يؤمرون به إمتثالاً وإنتهاءً، وهذا هو الحسن منهم، وتلك الإرادة متعلقة بالخلق، وهي من لوازم الربوبية، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويدخل في هذه المشيئة خلق الأقوياء والضعفاء والفقراء والمؤمنين الكفار، والملائكة والشياطين، وخلق الخيرات والفضائل، وخلق السيئات والحسنات، وخلق التوفيق والخذلان، وخلق القوة والعجز، والبلادة والذكاء (3). وهذه بعض الآيات تدل على الإرادة الكونية.
ـ قال تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" (الأنعام، آية: 112).
ــ قال تعالى: "وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (البقرة، آية: 353).
__________
(1) معارج القبول (3/ 939).
(2) معارج القبول (3/ 940).
(3) القضاء والقدر عند السلف للوصيفي صـ62.(1/65)
ــ وقال: "وَلَوْشَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِيا لأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس، آية: 39).
ــ وقال تعالى: "وَلَوْشَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ" (النساء، آية: 90).
ــ وقال تعالى: "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء" (الأنعام، آية: 125).
ــ وقال تعالى: "وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" (هود، آية: 44).
ــ وقال تعالى: "وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَايُرِيدُ" (البقرة، آية: 253).
ــ وقال تعالى: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَاشَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (الكهف، آية: 39).
ــ وقال تعالى: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" (السجدة، آية: 13).
ــ وقال تعالى: "وَمَاتَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" (الإنسان، آية: 30).
ــ وقال تعالى: " مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الأنعام، آية: 39).
ــ وقال تعالى: " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس، آية: 82).
وهذه الإرادة وتلك المشيئة هي التي تستلزم وقوع المراد، والمراد إما أن يكون مراد لذاته محبوباً لله تعالى، وذلك لما فيه من الخير، كخلق الأنبياء والصالحين وكذلك كافة الفضائل والخيرات، أو مراداً لغيره وهذا يطلق على الكفر وجميع الشرور والآثام، فإنها ليست مرادة لذاتها وإنما هي مرادة لشيء آخر محبوب إلى الله تعالى.(1/66)
قال تعالى "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم، آية: 41).
وهذا دليل على إثبات الحكمة في جميع أفعال الله تعالى وأحكامه (1)، والحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات، لأجلها شرع وفعل، وإن لم يعملها الخلق على التفعيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها إنتفاؤها في نفسها (2)
وحاصل الإرادة الكونية إثبات مشيئة الله تعالى المطلقة في إيجاد المخلوقات كلها واختلاف أنواعها وأشكالها، وتفاوت فضائلها وشرورها وجمالها ودمامتها وكيسها وعجزها، وكفرها وإيمانها، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالله على كل شئ قدير، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، ولا يقع فيه شئ كرهاً عنه، قال تعالى: "وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ" (الزمر، آية: 36 ـ 37).
__________
(1) القضاء والقدر عند السلف صـ63.
(2) القضاء والقدر عند السلف صـ64.(1/67)
فهو الذي أراد إيمان المؤمنين، وهو الذي أراد كفر الكافرين، وكل ذلك في علمه السابق، ولا يمكن لأحد أن يخرج عن علمه، وعلمه يستلزم ثبوت قدرته، وإذا كان قد علم أن أبا لهب سيكفر، فهذا معناه أنه لن يستطيع أن يخرج عن علمه ويؤمن، وهذا دليل أن الله تعالى سيحول بقدرته بينه وبين الإيمان، فلن يقدر عليه، ولن يقدر أبو لهب على خلاف ذلك، قال تعالى: " وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" (الأنفال، آية: 24). وهذا ليس من باب تكليف ما لا يطاق، وإنما هذا من باب العقوبة: وهي نوع من الخذلان لمن زاغ عن صراط الله المستقيم، وأما طاقة الأسباب فهي مقدورة له، ولكن الله تعالى لم يوفقه ولم يقدره على بلوغ غاياتها، فما آمن من آمن إلا بفضل الله تعالى ورحمته، وما كفر من كفر كرهاً عنه إنما كان ذلك بخذلان الله تعالى له: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" (يونس، آية: 99)، وهو سبحانه وتعالى خالق الخير، كما هو خالق الشر، لا إله غيره ولا ربٍ سواه، قال تعالى: "اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" (الزمر، آية: 22)، وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّافِي الأَرْضِ جَمِيعاً" (البقرة، آية: 29) (1).
__________
(1) القضاء والقدر عند السلف صـ64.(1/68)
وفي الإرادة الكونية قد يبغض الله تعالى طاعة العاصي ولا يعينه عليها بعد الإراشاد والنصح والبيان، وذلك لحكمه عظيمة جليلة، كما قال تعالى في المنافقين الذين تخلفوا مع الخوالف في بيوتهم، وتركوا الخروج للجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في غزوة تبوك: " وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ" (التوبة، آية: 46)، وقد بين الله تعالى الحكمة في بغضه لطاعته فقال: "لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" (التوبة، آية: 47).
وهو سبحانه: "لَايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء، آية: 23)، وذلك لأنه يتصرف في ملكه، وهذا ليس فيه ظلم، إنما الظلم في الحقيقة يكون من تصرف المتصرف فيما لا يملك، ومنع المستحق ما يستحقه، والله تعالى لا يجب عليه شئ لأحد حتى يحاسب على ما ضيق ومنع، وعلى ما أهان وخذل، وإنما هو حكمة بالغة ورحمة واسعة وعدل قويم (1).
أ ـ كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف تجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟
فالمراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
__________
(1) القضاء القدر عند السلف صـ65.(1/69)
والمراد لغيره، قد لا يكون مقصود للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فاجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاؤه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، كقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه (1).
فهوسبحانه يكره الشئ، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر هو أحبُّ إليه من فوته.
ومن ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاء الكثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه وجودها إليه من عدمها:
منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابلات.
ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل القهار، المنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، والخافض، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء.
ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: "لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجأ بقوم يذنبون، ويستغفرون، فيغفر لهم" (2).
ومنها: ظهور أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء في مواضعها، فلا يضع الشئ في غير موضعه، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على إنتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
__________
(1) منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي، عبد الله الحافي صـ329.
(2) مسلم، باب التوبة رقم 2748.(1/70)
ومنها: حصول العبودية المتنوعة التى لولا خلق إبليس لما حصلت كعبودية الجهاد، والصبر، ومخالفة الهوى، وعبودية الاستعاذة، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها (1).
ب ـ هل يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟
هذا سؤال فاسد وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب (2).
2 ـ الإرادة الشرعية:
هي إرادة الله تعالى لأمره الديني الشرعي، وهي التي أرسل من أجلها الرسل، وأنزل من أجلها الكتب وهي لا تستلزم وقوع المراد مع كونه محبوباً لله تعالى إلا إذا كان متعلقاً بالإرادة الكونية (3)، والإرادة الشرعية الدينية تدل دلالة واضحة على أنه سبحانه لا يحب الذنوب والمعاصي والضلال والكفر، ولا يأمر بها ولا يرضاها، وإن كان شاءها خلقاً وتقديراً وإيجاداً، وأنه سبحانه وتعالى يرضى ويحب كل ما يتعلق بهذه الإرادة الدينية الشرعية ويثيب أصحابها، ويدخلهم الجنة وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة وينصر بها، أي: الإرادة الدينية الشرعية للعباد من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين (4)، ومن الآيات الدالة على الإرادة الشرعية:
ـ قوله تعالى:" يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة، آية: 185).
ـ وقوله تعالى:"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ" (المائدة، آية: 6).
ـ وقوله تعالى:" وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا" (النساء، آية: 27).
ـ وقال تعالى:"يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء، آية: 28).
__________
(1) منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي صـ330.
(2) المصدر نفسه صـ330.
(3) القضاء والقدر عند السلف صـ 65.
(4) مجموع الفتاوى (8/ 188).(1/71)
ـ وقال تعالى:"إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (الأحزاب، آية: 33).
ـ قال تعالى:"إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَايَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ" (الزمر، آية: 7).
3ـ الفرق بين الإرادتين:
أـ الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
ب ــ الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه (1).
ج ــ فما كان بمعنى المشيئة فهو إرادة كونية وما كان بمعنى المحبة فهو إرادة شرعية، مثال الإرادة الشرعية قوله تعالى:" وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ" (النساء، آية: 27) لأن يريد هنا بمعنى يحب ولا تكون بمعنى المشيئة لأنه لو كان المعنى: والله يشاء أن يتوب عليكم، لتاب على جميع العباد وهذا أمر لم يكن فإن أكثر بني آدم من الكفار، إذن يريد أن يتوب عليكم يعني يجب أن يتوب عليكم ولا يلزم من محبة الله للشيء أن يقع لأن الحكمة الإلهية البالغة قد تقتضي عدم وقوعه ومثال الإرادة الكونية قوله تعالى:"إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" (هود، آية: 34) لأن الله لا يحب أن يغوي العباد إذن لا يصح أن يكون المعنى إن كان الله يحب أن يغويكم بل المعنى إن كان الله يشاء أن يغويكم.
س ــ الله يريد المعاصي كوناً لا شرعاً، لأن الإرادة الشرعية بمعنى المحبة والله لا يحب المعاصي ولكن يريدها كونا أي مشيئة فكل ما في السموات والأرض فهو بمشيئة الله (2).
4 ـ المخلوقات مع كل من الإرادتين: تنقسم إلى أربعة:
أ ــ ما تعلقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإن الله أراده إرادة دين وشرع، فإمر وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك ما كان.
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية، محمد الصالح بن عثيمين (1/ 223).
(2) المجموع الثمين، لمحمد بن عثيمين (1/ 157).(1/72)
ب ــ ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها وقعت أو لم تقع.
ج ــ ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره الله وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها كالمباحات والمعاصي فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها، ولم يحبها، إذ هو لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرته وخلقه لها لما كانت ولما وجدت، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
د ـ ما لم تتعلق به هذه الإرادة ولا هذه، فهذا ما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي (1).
والسعيد من عباد الله من أراد الله منه تقديراً ما أراد به تشريعاً، والعبد الشقي من أراد به تقديراً ما لم يرد به تشريعاً، وأهل السنة والجماعة الذين فقهوا دين الله حق الفقه، ولم يضربوا كتاب الله بعضه ببعض، علموا أن أحكام الله في خلقه تجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى الشرع دون القدر، أو نظر إلى القدر دون الشرع كان أعور، مثل قريش الذين قالوا:" لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ" (الأنعام، آية: 148).
وقال تعالى:" كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ" (الأنعام، آية: 148) (2).
__________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية (8/ 189)، القضاء والقدر عمر الأشقر صـ 108.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 198)، القضاء والقدر للأشقر صـ 108.(1/73)
ثالثاً: كلام حسن لابن القيم في الكوني والشرعي:
قال ابن القيم في شفاء العليل: الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء، والحكم، والإرادة، والكتابة، والإذن، والجعل، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والإنشاء: إلى كوني متعلق بخلقه، وإلى ديني متعلق بأمره وما يحقق ذلك من إزالة اللبس والإشكال، هذا الباب متصل بالباب الذي قبله (1)، فما كان من كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وما كان من الديني فهو متعلق بإلاهيته وشرعه، وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله، والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر، وأحكامه جارية على خلقه قدراً وشرعاً، ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني والقدري.
أما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق، والأمران غير متلازمين، فقد يُقضى ويُقدِّر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يشرَّع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره، ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم، وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي إذا عرف ذلك.
فالقضاء في كتاب الله نوعان:
ـ كوني قدري: كقوله:" فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ" (سبأ، آية: 14).
وكقوله تعالى:" وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ" (الزمر، آية: 75).
ـ وشرعي ديني: كقوله:" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُو اْإِلاَّ إِيَّاهُ" (الإسراء، آية: 23). أي: أمر وشرع ولو كان قضاء كونياً لما عبد غير الله.
والحكم أيضاً نوعان:
فالكوني: كقوله:" قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ" (الأنبياء، آية: 112). أي: افعل ما تنصر به عبادك، وتخذل به أعداءك.
والديني: كقوله:" ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ" (الممتحنة، آية: 10).
وقال تعالى:" إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ" (المائدة، آية: 1).
__________
(1) من كتاب شفاء العليل، أنظر: الجامع الصحيح في القدر صـ129.(1/74)
وقد يرد بالمعنيين معاً كقوله:" وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا" (الكهف، آية: 26)، فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي.
والإرادة نوعان:
فالكونية: كقوله تعالى:" فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" (البروج، آية: 16).
وقوله:" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً" (الإسراء، آية: 16).
وقوله:" إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" (هود، آية: 34).
والدينية: كقوله تعالى:" يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة، آية: 185). وقوله:" وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ" (النساء، آية: 27).
فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا، ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين (1)، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة، هل متلازمتان أم لا؟
والصواب أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعاً وديناً، وقد يأمر بما لا يريده كوناً وقدراً، كإيمان من أمره ولم يوفقه للإيمان مراد له ديناً لا كوناً، وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كوناً وقدراً، وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كوناً وقدراً، وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق، فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده، وإنما أحب منه عزمه على الامتثال، وأن يوطن نفسه عليه، وكذلك أمره محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة، وأما أمره من علم أنه لا يؤمن بالإيمان سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله، ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح (2).
وأما الكتابة:
فالكونية: كقوله:" كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي" (المجادلة، آية: 21).
__________
(1) الجامع الصحيح في القدر صـ 131.
(2) المصدر نفسه صـ 131.(1/75)
وقال تعالى:" وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء، آية: 105).
ـ وقال تعالى:" كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ" (الحج، آية: 4).
والشرعية الأمرية: كقوله:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ" (البقرة، آية: 183).
وقوله:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ" (النساء، آية: 23ـ 24).
وقوله:" وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" (المائدة، آية: 45)، فالأولى كتابة بمعنى القدر، والثانية كتابة بمعنى الأمر (1).
والأمر الكوني: كقوله:" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس، آية: 82).
وقوله:" وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ" (القمر، آية: 50).
وقوله:" وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً" (النساء، آية: 47).
وقال تعالى:" وَكَانَ أَمْرًامَّقْضِيًّا" (مريم، آية: 21).
__________
(1) الجامع الصحيح في القدر، مقبل الوادعي صـ 132.(1/76)
وقال تعالى:" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا" (الإسراء، آية: 16)، فهذا أمر تقدير كوني، لا أمر ديني شرعي، فإن الله لا يأمر بالفحشاء، والمعنى: قضينا ذلك وقدرناه وقالت طائفة: بل هو أمر ديني، والمعنى: أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا، والقول الأول أرجح (1).
والأمر الديني: قوله:" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" (النحل، آية: 90).
وقوله:" إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ كُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" (النساء، آية: 58). وهو كثير (2).
وأما الإذن الكوني: كقوله تعالى:" وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ" (البقرة، آية: 102)، أي: بمشيئته وقدره، وأما الديني، كقوله:" مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْتَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ" (الحشر، آية: 5) أي: بأمره ورضاه.
وقوله:" قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ" (يونس، آية: 59).
وقوله:" أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ" (الشورى، آية: 21).
وأما الجعل الكوني: كقوله:" إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا" (يس، آية: 8 ـ 9).
وقوله:" وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (يونس، آية: 100).
وقوله:" وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا" (النحل، آية: 72) وهو كثير.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه صـ 133 نقلاً عن شفاء العليل لابن القيم.(1/77)
وأما الجعل الديني: كقوله:" مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَسَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَحَامٍ" (المائدة، آية: 103) أي: ما شرع ذلك ولا أمر به، وإلا فهو مخلوق له، واقع بقدره ومشيئته، وأما قوله:" جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ" (المائدة، آية: 97).
فهذا يتناول الجعلين، فإنها جعلها كذلك بقدره وشرعه وليس هذا استعمالاً للمشترك في معنييه، بل إطلاق اللفظ وإرادة القدر المشترك بين معنييه فتأمله. (1)
وأما الكلمات الكونية: كقوله:" كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" (يونس، آية: 33).
وقوله:" وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ" (الأعراف، آية: 137).
وقوله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق (2). فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكون، ولو كانت الكلمات الدينية التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار.
وأما الديني: كقوله:" وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ" (التوبة، آية: 6) والمراد به القرآن وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: واستحللتم فروجهن بكلمة الله (3)، أي: إباحته ودينه، وقوله:" فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء" (النساء، آية: 3).
وقد اجتمع النوعان في قوله:" وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ" (التحريم، آية: 12). فكتبه كلماته التي يأمر بها، وينهي ويحل ويحرم، وكلماته التي يخلق بها ويكون.
وأما البعث الكوني: كقوله:" فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" (الإسراء، آية: 5).
__________
(1) الجامع الصحيح في القدر صـ 134.
(2) المصدر نفسه صـ 134.
(3) المصدر نفسه صـ 134.(1/78)
وقوله:" فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ" (المائدة، آية: 31).
وأما البعث الديني: كقوله:" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ" (الجمعة، آية: 2).
وقوله:" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" (البقرة، آية: 213).
وأما الإرسال الكوني: كقوله:" أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا" (مريم، آية: 83).
وقوله:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ" (الفرقان، آية: 48).
وأما الإرسال الديني: كقوله:" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ" (التوبة، آية: 33).
وقوله:" أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا" (المزمل، آية: 15).
أما التحريم الكوني، كقوله " وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ" (القصص، آية: 12).
وقوله: " قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً" (المائدة، آية: 26).
وقوله: " وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَايَرْجِعُونَ" (الأنبياء، آية: 95).
وأما التحريم الديني: كقوله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ" (النساء، آية: 23) و"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ" (المائدة، آية: 3)، و" وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَادُمْتُمْ حُرُمًا" (المائدة، آية: 96)، و" وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" (البقرة، آية: 275).
وأما الإيتاء الكوني
كقوله تعالى: " وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء" (البقرة، آية: 247)، وقوله: " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء" (آل عمران، آية: 26).(1/79)
وقال تعالى: " يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" (البقرة، آية: 269). فهذا يتناول النوعين، فإنه يؤتيها من يشاء أمراً وديناً وتوفيقاً وإلهاماً (1).
وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظهم من هذه الأمور الديني منها وأعداؤه واقفون مع القدر الكوني، فحيث ما مال القدر مالوا معه، فدينهم دين القدر ودين الرسل، واتباعهم دين الأمر فهم يدينون بأمره، ويؤمنون بقدره، وخصماء الله يعصون أمره، ويحتجون بقدره، ويقولون: نحن واقفون مع مراد الله، نعم مع مراده الكوني لا الديني، ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني، ولا يكون ذلكم عذراً لكم عنده إذ لو عذر بذلك لم يذم أحداً من خلقه ولم يعاقبه، ولم يكن في خلقه عاصٍ ولا كافر (2).
المبحث الرابع: لا حول ولا قوة إلا بالله
إن كلمة الحوقلة "لا حول ولا قوة إلا بالله" هي من الأذكار العظيمة القدر، الرفيعة المنزلة، العالية المرتبة، ولها من الفضائل والفوائد والمنافع ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه ويحثهم عليها، وتأتي هذه الكلمة في الأذكار المطلقة والمقيدة في مواضع كثيرة (3).
أولاً: فضلها: فمما يدل على فضلها وعلو منزلتها، ومما يرغب في الإكثار من قولها باللسان وإمرارها على الجنان أمور:
1 ـ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عنها بأنها كنز من كنوز الجنة:
فعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم، قال: وأنا خلفه وأنا أقول: قل، لا حول ولا قوة إلا بالله (4).
__________
(1) الجامع الصحيح في القدر صـ 137.
(2) الجامع الصحيح في القدر صـ137.
(3) المباحث العقدية (2/ 887).
(4) البخاري، ك المغازي (4/ 1541) رقم 39668.(1/80)
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالإذعان له وأنه صانع غيره ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئاً عن الأمر ومعنى الكفر هنا أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم (1).
والكنز مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع وذلك أنها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله تعالى ومعلوم أنه لا يكون شئ إلا بمشيئة الله وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شئ إلا ما أحدثه الله فيهم (2).
وقول "لا حول ولا قوة إلابالله" يوجب الإعانة ولهذا سنها النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقال المؤمن لصاحبه: "ولولا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة ألا بالله"، ولهذا يؤمر بهذا من يخاف العين على شئ فقوله: ما شاء الله، تقديره: ما شاء الله كان فلا يأمن، بل يؤمن بالقدر ويقول لا قوة إلا بالله (3).
__________
(1) شرح صحيح مسلم (17/ 26).
(2) مجموع الفتاوي (13/ 321).
(3) المصدر نفسه (13/ 321).(1/81)
2ـ ومن فضلها أن الله سبحانه يصدق قائلها ومن صدقه الله تعالى على ما يقول فليبشر بالخير بإذن الله (1)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا وحدي، وإذا فال: لا إله إلآ الله وحده لا شريك له، صدقه ربه قال: قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: صدق عبدي لا حول ولا قوة إلا بي (2).
3 ـ من فضلها أن من قالها حين يخرج من بيته مع البسملة والتوكل على الله أنه يوفي ويُكفي ويُهدى، فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج من بيته فقال بسم الله وتوكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله فيقال له حسبك قد كفيت وهديت ووفيت فيلقى الشيطان شيطاناً آخر فيقول له كيف لك برجل قد كفي وهدي ووفي (3).
4 ـ ومن فضائلها أنها من الباقيات الصالحات ومن أحب الكلام إلى المولى جل جلاله قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل " وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" (الكهف، آية: 46).
__________
(1) المباحث العقدية المتعلقة بالأذكار (2/ 891).
(2) سنن الترمذي، ك الدعوات (5/ 492) رقم 3430.
(3) سنن أبي داود رقم 5095 قال الترمذي حسن صحيح.(1/82)
فقد ورد في تفسير هذه الآية عن جمع من الصحابة والتابعين أن الباقيات الصالحات هي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (1)، وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله (2)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي ذكر الله، قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، واستغفر الله، وصلى الله على رسول الله والقيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد وأعمال الحسنات وهي الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة (3)، وقد ورد في فضلهن أي الكلمات الباقيات الصالحات أنهن يكفرنَّ الذنوب، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما على الأرض رجل يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كُفِّرت عنه ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر (4).
5 ـ ومن فضائلها أنها غراس الجنة فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على إبراهيم عليه السلام فقال: من معك يا جبريل؟ فقال: هذا محمد، فقال له إبراهيم أأمُر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله (5).
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (15/ 255).
(2) المصدر نفسه (15/ 255).
(3) المباحث العقدية (2/ 892).
(4) سنن الترمذي رقم 3460 وحسنه.
(5) ابن حبان في صحيحه (3/ 103) رقم 821.(1/83)
ثانياً: معنى لا حول ولا قوة إلا بالله:
الحول الحركة والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته وحُكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه وكله متقارب (1).
وقال الإمام الطحاوي في تفسيره لمعنى "لا حول ولا قوة إلا بالله": لا حيل ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله، وكل شئ يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وعكست إرادته الإرادات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً " لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" (الأنبياء، آية: 23) (2).
ولا شك أن معنى لا حول ولا قوة إلا بالله أوسع وأعم مما ذُكر، فلفظ الحول يتناول كل تحول من حال إلى حال، والقوة هي القدرة على ذلك التحول، فدلت هذه الكلمة العظيمة على أنه ليس للعالم العلوي والسفلي حركة وتحول من حال إلى حال ولا قدرة على ذلك إلا بالله، ومن الناس من يفسر ذلك بمعنى خاص فيقول لا حول من معصيته إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، والذي يدل عليه اللفظ، أن الحول لا يختص بالحول عن المعصية وكذلك القوة لا تختص بالقوة على الطاعة، بل لفظ الحول يعم كل تحول .. وكذلك لفظ القوة، قال تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً" (الروم، آية: 54).
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات للنووي (4/ 87).
(2) العقيدة الطحاوية صـ 444 ـ 445 مع شرحها لابن أبي العز الحنفي.(1/84)
ولفظ القوة لا يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره فهو قدرة أرجع من غيرها أو القدرة التامة ولفظ القوة قد يعم القوة التي في الجمادات بخلاف لفظ القدرة فلهذا كان المنفي بلفظ القوة أشمال وأكمل فإذا لم تكن قوة إلا به لم تكن قدرة إلا به بطريق الأولى وهذا باب واسع (1).
ولكلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله" تأثير في دفع داء الهم والغم والحزن، بسبب ما فيها ـ من كمال التفويض والتبرئ من الحول والقوة إلا به وتسليم الأمر كله له وعدم منازعته في شئ منه وعموم ذلك لكل تحول من حال إلى حال في العالم العلوي والسفلي والقوة على ذلك التحول، وأن ذلك كله بالله وحده فلا يقوم لهذه الكلمة شئ وفي الآثار أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إليها إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله، ولها تأثير عجيب في طرد الشيطان والله المستعان (2)
ولا حول ولا قوة إلا بالله، دليل على إثبات القدر (3).
وقد ذكر الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه هذه الكلمة العظيمة في أبواب عدة من صحيحه، ومن ذلك: كتاب القدر ومعروف أن فقه الإمام البخاري كما يقال في تراجمه مما يدل على أنه ـ رحمه الله ـ ما وضعها في كتاب القدر إلا لدلالتها عليه (4).
__________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 575).
(2) زاد المعاد لابن القيم (4/ 204).
(3) شرح العقيدة الطحاوية صـ447.
(4) المباحث العقدية (2/ 900).(1/85)
إن كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله دخلت من باب القدر لكونها تدل على مرتبة من مراتبه وهي المشيئة، فقد ذكرنا أن مراتب القدر أربع مراتب ومنها: الإيمان بمشيئة الله النافذة في خلقه وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فعندما يقول العبد "لا حول ولا قوة إلا بالله" يعتقد في قرارة نفسه أنه لا يستطيع التحول من أمر لآخر إلا إذا شاء الله له ذلك وقدره له، فلا ينصرف عن المعصية إلى الطاعة إلا بمشيئة الله تعالى، ولا ينصرف من المرض إلى الصحة إلا إذا كتب الله له الشفاء وشاء له، ولا يتحول من ضعف إلى قوة، ولا من ذلٍّ إلى عزٍ، ومن قلة إلى كثرة، ولا من جوع إلى شبع ولا من فقر إلى غنى، ولا من خوف إلى أمن، ولا من شرٍّ إلى خير إلا بمشيئة الله وإرادته، فلا يتحول ويتقلب من أي حال مهما كان إلى حال غيره إلا إذا شاء له الله ذلك، كما أنه ليس لعبد في نيل مطلوب والحصول على مرغوب أو دفع مرهوب إلا إن أعانه الله سبحانه وأمده بقوة منه، فالعبد، بقوله لهذه الكلمة يتبرأ من حوله وقوته، ويعتقد أن الحول والقوة بالله وحده فهو سبحانه مالك الملك وخالق، بيده أمور الخلق يتصرف بهم كيف يشاء ويصرّفهم حيث يشاء ويقلّب أحوالهم من حال إلى حال على حسب مشيئته وحكمته وإرادته لا مانع لما قضى ولا لما أعطى، ولا معطي لما منع بيده الملك وهو على كل شئ قدير (1).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 901).(1/86)
ثالثاً: تضمنت لا حول ولا قوة إلا بالله معان عقدية عظيمة القدر: لمن فقهها غير دلالتها على القدر منها:
1 ـ أنها كلمة استعانة بالله العظيم، ومن استعان بالله جل جلاله، فالله سبحانه يعينه على قضاء حوائجه، وجميع ما يصلحه. والاستعانة بالله من أفضل العبادات وأجلّها وتعرف منزلتها وعظم شأنها من خلال سورة الفاتحة التي أمر الله سبحانه عباده أن يتعبدوه بتلاوتها يومياً مراراً، وذلك في قوله تعالى: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فهذه الآية فيها إخلاص الاستعانة لله لأنه قدم ما حقه التأخير فأفاد حصر الاستعانة بالله وكذلك لا حول ولا قوة إلا بالله كلمة تحتوي على الإخلاص لله بالإستعانة فهي تدل على ما دلت عليه (1).
2ـ الإقرار بأنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، فقائلها يقر ويعتقد بأن الله وحده المدبر بهذا الكون المتصرف بحكمته ومشيئته فلا يقع فيه شئ إلا بإذنه ومشيئته، كما أنه معترف بأن من كان هذا وصفه فهو بالطبع غنيًّ عن خلقه قائم بذاته متصف بصفات الكمال من القدرة والعظمة والقوة والعزة، ومن يعتقد هذا في خالقه كان عليه لزاماً أن يؤلهه ويعبده ويقصده ويلتجئ إليه ولا يرجو أحداً سواه، ولا يدعو أحداً إلا هو، لأنه بيده التصرف التام وله الملك وهو على كل شئ قدير (2).
3 ـ التوكل على الله وتفويض الأمور إليه والاستسلام والإذعان له مع إظهار الذل والافتقار له سبحانه فهو الغني والعبد فقير إليه لا يملك من أمره شيئاً.
ويجدر التنبيه هنا على أمر يُخطئ به بعض الناس ألا وهو: استعمالهم هذه الكلمة في غير موضعها اللائث بها، ونجم ذلك عن عدم معرفة معناها ومحتواها فيجعلونها كلمة استرجاع لا كلمة استعانة بالله (3).
__________
(1) المباحث العقدية (2/ 902).
(2) المصدر نفسه (2/ 903).
(3) الحوقلة مفهومها وفضائلها ودلالاتها العقدية، عبد الرزاق العباد صـ83.(1/87)
رابعاً: الاحتجاج بالقدر على المعاصي:
الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية قديم، قدم بدء الخليقة، وأول من قال به إبليس أعاذنا الله منه، فإنه بعد أن رفض أمر الله بالسجود لآدم ـ عليه السلام ـ واستحق غضب الله عليه بلعنه وطرده من رحمته وإخراجه من الجنة، لم يندم، ولم يتب، ولم يرجع على نفسه باللائمة، بل زاد عصياناً وتمرداً، بإضافة غوايته إلى الله، فقال " رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الحجر، آية: 39). وهكذا تلقى كثير من البشر هذه الحجة الباطلة عن إبليس فغرقوا في الضلال ووقعوا في المعاصي والآثام ثم احتجوا على ذلك بالحجة الإبليسية، وقالوا: هذه شئ قدَّره الله علينا فحملوا مسئولية خطاياهم على ربهم، وهو الذي نهاهم عن تلك المعاصي، وقد أخبر الله عن أمثال هؤلاء (1):
ـ قال تعالى: "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ" (الأنعام، آية: 148).
ـ وقال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ" (النحل، آية: 35).
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة، د. سعيد مسفر القحطاني صـ253.(1/88)
ـ وقال تعالى: "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْهُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" (الزخرف، آية: 19 ـ 20)، وقد رد الله في القرآن الكريم هذه المزاعم، ووصف أصحابها بالكذب والتخرص، صحيح ما يجري في الكون يجري بمشيئة الله الكونية، ويقع وفقاً لإرادته، ولكن دعوى المشركين أنهم وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب تلك المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية، باطل ومردود لما يأتي.
1ـ إن مشيئة الله غيب لا يعلمه أحد قبل أن يقع، فمن أين لهؤلاء المشركين أن يعلموها ويحيلون عليها شركهم وضلالهم، كما أن علم الإنسان محدود، ومن ثم لا أحد يستطيع أن يعلم ما قدره الله في المستقبل من خير أو شر إلا بعد وقوع أحدها له أو عليه، أما قبل ذلك فلا علم لأحد بما سيحصل " وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَاتَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان، آية: 34). فلو كان عند المشركين من حجة مقنعة بأن الله راضٍ بذلك فليظهروها، وإلا فإن دعواهم معرفة الغيب وكشف أسراره كذب على الله، ودعوى باطلة لا برهان لهم عليها.(1/89)
2ـ إن الله أذاق الكافرين السابقين ألوان العذاب وأصناف العقاب جزاء على كفرهم، فلو لم يكونوا مختارين لما ارتكبوه من جرائم وآثام وكفر وشرك لما عذبهم الله لأن الله عدل لا يظلم أحد " وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" (1) (فصلت، آية: 46). وقال تعالى: "فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (العنكبوت، آية: 40).
3ـ إن الله خلق البشر وفطرهم على الاستعداد للخير والشر والهدى والضلال، ومنحهم العقل لترجيح واحد من هذه على الأخرى، وبيَّن لهم الآيات الكونية الهادية إلى الحق والخير، وأرسل الرسل وأنزل الكتب والشرائع كموازين ثابتة تعين الإنسان في اختياره، ومن ثم فلا حجة للإنسان بأن وقوعه في الضلال وإنحرافه عن الحق لم يكن باختياره وإرادته، أو أنَّ قدر الله هو الذي أضله (2)، قال تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس، آية: 7 ـ 8).
وقال تعالى: " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان، آية: 3)، ويقول سبحانه " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (البلد، آية: 10)، فكل إنسان إذن مسؤول محاسب على عمله من خير وشر (3).
__________
(1) العقيدة الإسلامية د. أحمد محمد جلي صـ 385.
(2) العقيدة الإسلامية د. أحمد جلي صـ 210.
(3) عقيدة التوحيد من الكتاب والسنة سعاد ميبر صـ210.(1/90)
4ـ إنّ سلف هذه الأمة قد فهموا القدر على حقيقته، ومن ثم ردوا ما تعلل به أصحاب الأهواء والشهوات ويروى أن أحد اللصوص سرق في عهد عمر رضي الله عنه فأحضر بين يديه فسأله عمر قائلاً: لم سرقت؟ فقال: قدر الله ذلك. فقال عمر رضي الله عنه: اضربوه ثلاثين سوطاً ثم اقطعوا يده. فقيل له: ولم؟ فقال: يقطع لسرقته ويضرب لكذبه على الله، ويقول الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى، بما يكون من اكتسابات العبد، وصدورها عن تقدير منه، وخلقه لها خيرها وشرها (1).
5ـ إن هذا القول "الاحتجاج بالقدر" يلزم منه أن يستوي أولياء الله وأعداء الله، ولا يتميز الأبرار من الفجار، ولا أهل الجنة من أهل النار، فإن هؤلاء جميعاً قد كتب مقاديرهم، قبل أن يخلقهم، وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح، وإلى شقي بالكفر والفسوق والعصيان (2).
ـ قال تعالى:" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (القلم، آية: 35، 36).
ـ وقال تعالى:" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" (ص، آية: 28).
ـ وقال تعالى:" لَايَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ" (الحشر، آية: 20).
وملخص القول في الاحتجاج بالقدر على المعاصي:
__________
(1) صحيح مسلم، شرح النووي (1/ 154 ـ 155).
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 63.(1/91)
لو كان الاحتجاج بالقدر، مقبولاً لقبل إبليس وغيره من العصاة ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو كان القدر حجة لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد على ذي جريمة، ولا جوهد في سبيل الله، ولا أمر بالمعروف ولا نُهي عن المنكر (1)، وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة فساده بصريح المعقول المطابق لما جاء به الرسول (2). وأخيراً فإن المحتج بالقدر يكذب واقع دعواه، إذا أنه لا يعلل بالقدر كل أحواله، وإلا لو كان صادقاً في زعمه لرضي بكل ما يقدره الله عليه من فقر وذل وجوع وذهاب مال، والواقع يشهد بعكس ذلك ويؤكد سعيه بكل الوسائل لجمع المال ودفع المرض وإذهاب الجوع .. الخ ولو كان المحتج بالقدر صادقاً في احتجاجه للزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون (3)، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات لزمهم أن لا يذموا أحداً ولا يبغضوا أحداً، ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحد فعله، وفعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل ... وأنهم كذابون مفترون في قولهم: إنَّ القدر حجة للعبد (4).
ـ هل أحتج آدم عليه السلام على الذنب بالقدر؟
__________
(1) مجموع الفتاوى لا بن تيمية (8/ 264 ـ 265).
(2) مجموع الرسائل والمسائل (5/ 139).
(3) العقيدة الإسلامية د. أحمد جلي صـ 387.
(4) مجمع الفتاوى ابن تيمية (8/ 263).(1/92)
ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها المحتجون بالقدر على توسيع تفريطهم وعصيانهم حديث احتجاج آدم وموسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وهو ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فجح آدم موسى ثلاثاً (1)؟
لقد تسرع بعض الناس فأنكروا هذا الحديث حين ظنوه سنداً للاحتجاج على الذنوب بالقدر، وتمحل آخرون تأويلات غير مقبولة، واتخذه آخرون تكأة يتوكؤون عليها، ويستندون إليها إذا وقعوا في الذنوب والآثام والديث لا مطعن في صحته، فقد رواه الشيخان عن حديث أبي هريرة وروي في السنن بإسناد جيد من حديث عمر رضي الله عنه (2) والحديث يشير إلى أمور في غاية الوضوح منها:
1ـ أن الحديث ليس فيه أن موسى لام آدم على المعصية، وإنما فيه أنه قاله: "يا آدم أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة"، وظاهر هذا القول أنه لامه على الإخراج من الجنة لا على الأكل من الشجرة، فيكون اللوم على المصيبة التي حصلت بسبب المعصية، لا المعصية نفسها (3)، والمؤمن مأمور على نزول المصائب أن يرجع إلى القدر ويحتمي به، فإن سعادة العبد أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويسلم للمقدور، ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول عند حلول ما نكره: قدر الله وما شاء فعل (4).
__________
(1) مسلم ك القدر رقم 13 (4/ 4042 ـ 4043)، البخاري، ك القدر (7/ 214).
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 66
(3) منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة (1/ 425).
(4) مسلم رقم 2664.(1/93)
2ـ أن موسى عليه السلام أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره الله أنه تاب على صاحبه، واجتباه بعده وهداه " ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (طه، آية: 122)، وموسى عليه السلام ومن هو دون موسى منزلة يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة، لا يبقى وجه الملامة على الذنب، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له (1)، وآدم أعلم بالله جل شأنه من أن يحتج بالقدر على الذنب، كيف وقد اعترف به واستغفر منه بقوله: " رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف، آية: 23) (2).
3ــ إن الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، وكذلك الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريراً لموقف الإنسان واستمراراً فيها فغير جائز (3).
4ــ من مسائل القدر في هذا الحديث، سبق الكتاب، أي كتابة كل شئ قبل وجوده، وفيه مقارنة بين حجة آدم وحجة موسى عليهما السلام، ثم تعقيب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "فجحّ آدم موسى، ويكررها ثلاثاً"، ولا يقول الرسول الكريم أن كلام موسى خطأ، بل يلفت النظر إلى شمول و حجة آدم عليه السلام (4).
ـ الحكمة من وجود المعاصي والكفر:
لوقوع المعاصي والكفر حكم كثيرة منها:
1ـ إتمام كلمة الله تعالى حيث وعد النار أن يملأها قال الله تعالى: " وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود، آية: 118 ـ 119).
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 67.
(2) المصدر نفسه صـ67.
(3) المجموع الثمين لابن عثيمين (2/ 159).
(4) القدر في ضوء الكتاب والسنة، محمد فتح الله كولن صـ48.(1/94)
2ـ ظهور حكمة الله تعالى وقدرته حيث قسم العباد إلى قسمين طائع وعاصي، فإن هذا التقسيم يتبين به حكمة الله عز وجل فإن الطاعة لها أهل هم أهلها، والمعصية لها أهل هم أهلها قال تعالى: " اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" (الأنعام، آية: 124).
ــ وقال تعالى: " وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" (محمد، آية: 17) فهؤلاء أهل الطاعة.
ــ وقال تعالى: " وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ" (التوبة، آية: 125).
ــ وقال: " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" (الصف، آية: 5)، وهؤلاء أهل المعصية، ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي لا يقدر عليه إلا الله كما قال تعالى: " لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء" (البقرة، آية: 2729).
ــ وقال تعالى " إِنَّكَ لَاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص، آية: 26).
3ـ لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة لله تعالى.
4ـ ومنها أن العبد إذا وقع في المعصية ومنَّ الله عليه بالتوبة إزداد إنابة إلى الله وانكسر قلبه وربما يكون بعد التوبة أكمل حالاً منه قبل المعصية حيث يزول عنه الغرور والعجب ويعرف شدة افتقاره إلى ربه (1).
5ـ ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة الله عليه بالطاعة إذا رأى حال أهل المعصية قال تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران، آية: 164).
__________
(1) المجموع الثمين (1/ 170).(1/95)
6ـ ومنها إقامة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لولا المعاصي والكفر لم يكن جهاد ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلى غير ذلك من الحكم والمصالح الكثيرة ولله في خلقه (1) شؤون.
المبحث الخامس: الهداية والإضلال:
إن مسألة هداية الله تعالى للعبد وإضلاله له هي قلب أبواب القدر ومسائله، لأن أعظم نعمة الهداية، وأعظم مصيبة هي مصيبة الضلال (2).
أولاً: مراتب الهداية:
1ـ الهداية العامة: وهي هداية كل مخلوق لما يصلح أمور معاشه، وهي أعم المراتب، وهي شاملة لجميع المخلوقات ودليلها قوله تعالى: " قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" (طه، آية: 50).
وهذه الهداية تعم جميع المخلوقات، وتعم سائر أمور المعاش من نكاح، وطعام وشراب، وجميع السلوك التي يهدي الله تعالى مخلوقاته لعملها من غير تعليم سابق كهداية النمل إلى تنظيم طرق المعاش وخزن الطعام وغير ذلك مما يحار العقل البشري فيه فسبحان من خلق فسوى ثم قدر فهدى (3).
2ـ هداية الإرشاد والدعوة والبيان وهي أخص من التي قبلها حيث إنها مختصة بالمكلفين من الخلق، والمراد بها دعوة الخلق وبيان الحق لهم، وهي حجة الله على خلقه، فلا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب.
ــ قال تعالى: " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (النساء، آية: 165).
ــ وقال تعالى: " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (يونس، آية: 147).
ــ وقال تعالى: " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (البلد، آية: 10).
__________
(1) المجموع الثمين لابن عثيمين (1/ 171).
(2) شفاء العليل صـ 117 لابن القيم.
(3) المصدر نفسه صـ117 إلى 129.(1/96)
ــ وقال تعالى: " وَمَاكُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء، آية: 15).
ــ وقال تعالى: "كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ" (الملك، آية: 8 ـ 9).
وهذه الهداية هي التي أثبتها الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الشورى، آية: 52).
وهي ثابتة من بعده للعلماء، والدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة (1)، وهي مرتبة عامة يشترك فيها الناس جميعاً، ولكنها لا يلزم عنها هداية التوفيق واتباع الحق، فكثير من الذين أرسل إليهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب، لم يؤمنوا وآثروا طرق الغواية " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" (النمل، آية: 14) أي جحدوا بالآيات بعد تيقنهم من صحتها وهذا النوع من الهداية عام للمؤمن والكافر (2).
وحجة الله قائمة بهذه الهداية بعدة أمور وهي:
في الآيات السمعية وهي متمثلة فيما يلي:
إرسال الرسل.
إنزال الكتب، بما فيها من الحق والبيان.
ــ البيان بالآيات الكونية والنظر في الآفاق، قال تعال: " قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُعَن قَوْمٍ لاَّيُؤْمِنُونَ" (يونس، آية: 101).
__________
(1) أصول الاعتقاد في سورة يونس، قذلة بنت محمد القحطاني صـ 508.
(2) العقيدة الإسلامية د. أحمد جلي صـ 382.(1/97)
ــ بيان الصراط المستقيم، وإقامة أسباب الهداية، باطناً وظاهراً، ومن لم تكتمل عنده هذه الأسباب لصغر أو لزوال عقل أو نحو ذلك فهؤلاء رفع عنهم التكليف، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما في وسعهم ودليل هذه المرتبة من سورة يونس ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى: "وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس، آية: 25)، فاشتملت هذه الآية الكريمة على هداية البيان والإرشاد في قوله تعالى: " وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِالسَّلاَمِ"، وعلى الهداية الخاصة وهي هداية التوفيق والإلهام في قوله تعالى: " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ" (يونس، آية: 13).
ــ وقال تعالى: " ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ" (يونس، آية: 74) نفي لهداية التوفيق عنهم لظلمهم، وهذا كما في قوله تعالى: " وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (فصلت، آية: 17). فهداهم في الهداية الأولى هداية البيان والإرشاد فأعرضوا عنها لم يقبلوها فعاقبهم الله تعالى بالضلال جزاء إعراضهم وردهم الحق (1).
__________
(1) أصول الاعتقاد في سورة يونس، صـ510.(1/98)
3ـ هدية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل (1)، وهذه لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن شاء هدايته اهتدى، ومن شاء ضلاله ضل، وهي أخص مما قبلها إذ هي خاصة للمهتدين من المكلفين، وهي حتمية الوقوع وهي التي نفاها الله تعالى عن رسوله في قوله تعالى: " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص، آية: 56).
وقال تعالى: " مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الانعام، آية: 39).
ــ وقال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (إبراهيم، آية: 4).
ــ وقال تعالى: " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" (الجاثية، آية: 23).
ــ وقال تعالى: " وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (يونس، آية: 19).
ــ وقال تعالى: " وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِالسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس، آية: 25).
ــ وقال تعالى: " كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" (يونس، آية: 33).
__________
(1) العقيدة الإسلامية أحمد جلي صـ 382.(1/99)
ــ وقال تعالى: "قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (يونس، آية: 35).
ــ وقال تعالى: "وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ" (يونس، آية: 40).
ــ وقال تعالى: " ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ" (يونس، آية: 74).
ــ وقال تعالى: "رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ" (يونس، آية: 88).
ــ وقال تعالى: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (يونس، 99 ـ 100).
والواقع أن استقراء النصوص القرآنية يكشف أن هذه الهداية وما يقابلها من الإضلال ليستا في الإنسان ابتداء وخلقه، بل هما نتائج لمقدمات، ومسببات لأسباب، فكما جعل الله تعالى الطعام سبباً في الغذاء والماء سبباً للري، والسكين ينتج عنه القطع والنار تسبب الحريق، فكذلك جعل أسباباً توصل إلى الهداية وأسباباً تقود إلى الضلال، فالهداية إنما هي ثمار العمل الصالح، والضلال إنما هو نتاج عمل قبيح وإسناد الهداية لله من حيث أنه وضع نظام الأسباب والمسببات لا أنه أجبر الإنسان على الضلال والهداية وهذا المعنى واضح جداً في الآيات القرآنية مثل:(1/100)
ـ قوله تعالى:" وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ" (الرعد، آية: 27).
ـ وقوله تعالى:" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت، آية: 69).
ـ وقوله تعالى:" وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" (محمد، آية: 17).
فهداية الله للناس بمعنى لطفه بهم وتوفيقهم للعمل الصالح إنّما هي ثمرة جهاد للنفس، وإنابة إلى الله واستمساك بإرشاده ووحيه (1).
وفي الإضلال يقول تعالى:" يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَايُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (البقرة، آية: 26 ـ 27).
ـ وقال تعالى:" يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَايَشَاء" (إبراهيم، آية: 27).
ـ وقال تعالى:"كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر، آية: 35).
ـ وقال تعالى:" فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (الصف، آية: 5).
ـ وقال تعالى:" كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (المطففين، آية: 14).
__________
(1) العقيدة الإسلامية د. أحمد جلي صـ 383.(1/101)
ـ وقال تعالى:" بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً" (النساء، آية: 155). فسبب الضلال هو الزيغ، والخروج عن تعاليم الله والكبر والجبروت والتعالي على الناس بغير حجة، ونقض عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ووصل ما أمر الله به أن يقطع، والإفساد في الأرض، والكفر واقتراف الآثام، فهذه من الأسباب التي أضلت الناس وأخرجتهم عن منهج الحق لأنهم آثروا العمى على الهدى، واستحبوا الظلام على النور، فكان أن كافأهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم، بمقتضى نظامه سبحانه في ارتباط الأسباب بمسبباتها وهذا ونحوه كثير في كتاب الله ومن ذلك:
قوله تعالى:" وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّيَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف، آية: 179) (1).
4ـ الهداية إلى طريق الجنة:
وهذه الهداية تكون في الآخرة بعد الحساب والجزاء ودليلها:
ـ قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (يونس، آية: 9).
ـ وقال تعالى:" وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ" (محمد، آية: 4، 5).
وهذه الهداية حاصلة لهم بعد قتلهم، فدل على أن المراد بها هداية إلى طريق الجنة على القول الراجح (2).
__________
(1) المصدر السابق صـ 384.
(2) أصول الاعتقاد في سورة يونس صـ512.(1/102)
ثانياً: أسباب الهداية: كثيرة منها:
1 ـ المحافظة على الفطرة الإنسانية نقية صافية:
الفطرة الإنسانية مفطورة على الإقرار بالله وإفراده بالربوبية والألوهية، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالألوهية محبة له، متعبدة، لا تشرك به شيئاً (1)، وأصل هذا العلم فطري ضروري وأشد رسوخاً في النفس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي أن الجميع لا يكون في مكانين، لأن هذه المعارف قد تعرض عنها أكثر الفطر، أما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة (2)، فالإقرار بالله هو أرسخ المعارف، وأثبت العلوم، وأصلح الأصول (3)
ـ قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَاتَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الروم، آية: 30 ـ 31).
ـ وقال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الأعراف، آية: 172 ـ 174).
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 205).
(2) المصدر نفسه (2/ 16).
(3) السنن الإلهية د. شريف الشيخ صالح (1/ 209).(1/103)
وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكون أنتم تجدعونها"، "ثم يقول أبو هريرة: " فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" (1).
وفي صحيح مسلم عن عياض بن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً (2).
وهذا صريح في أنه سبحانه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك (3).
وقد فطر الله عز وجل الإنسان أيضاً على معرفة الحق ومحبته له، وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم، يمكنه أن يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، وجعل في فطرته محبة ذلك، فإذا نظر الإنسان فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو في حاله في آياته أو نحو ذلك من شؤونه يحصل له العلم والإقرار بالنبوة، ثم إذا قوي النظر في أحواله حصل له من اليقين الضروري الذي لا يمكن دفعه (4).
فلا شك أن الإيمان والاهتداء هو الأصل، وأن الكفر والضلال هو الطارئ الذي يطرأ على النفس لسبب من أسباب الضلال (5).
__________
(1) البخاري، فتح الباري (8/ 512)، مسلم (4/ 2047).
(2) مسلم، ك الجنة وصفة نعيمها (4/ 2197).
(3) شفاء العليل صـ 595.
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 72).
(5) شرح العقيدة الطحاوية صـ 272.(1/104)
وقد أشارت الآيات والأحاديث التي أوردتها إلى بعض هذه الأسباب، فأشارت الآية الأولى أن الذي يصرف الفطرة عن الإيمان هو عدم العلم، فأشارت الآية الثانية إلى الغفلة والتقليد، وأنهما يصرفان الفطرة عن الإيمان بالله ورسوله بعدما أقام عليه الحجة بالفطرة والرسالة " أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ" (الأعراف، آية: 172 ـ 173).
وأشار الحديث الأول إلى أثر التربية والعادة، وأن من لا يستخدم عقله ويهتدي بالدين الحق الذي يرشده إليه العقل والعلم، بل يطيع والديه، وإن أمراه بالضلال (1). وأشار الحديث الثاني إلى أثر الشياطين في تزيين الباطل في نفوس الناس وإضلالهم بذلك (2).
إن أول أسباب الهداية، هو إبقاء هذه الفطرة نقية صافية تتلقى وحي الله وتستجيب له (3).
2ـ استعمال السمع والبصر والعقل:
إن الله عز وجل وهب الإنسان هذه النعم وأمتن عليه بها، وذلك لما لها من غايات سامية، منها النظر والتفكر في آيات الله المرئية، والاستماع والتدبر في آيات الله المسموعة (4).
ــ وقال تعالى: "وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل، آية: 78).
وقد جعل الله الإنسان مسئولاً عن استعمال هذه الملكات والمواهب وعن حسن توجيهه لها إلى ما خلقت له، قال تعالى: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء، آية: 36).
__________
(1) المصدر السابق صـ 273.
(2) السنن الإلهية في الحياة الإنسانية (1/ 211).
(3) المصدر نفسه (1/ 211).
(4) منهج التربية الإسلامية محمد قطب (1/ 77).(1/105)
وقد مضت سنة الله أن الإنسان إذا أحسن استخدام مواهبه من حواس ومشاعر ومدارك، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس، وما يجيء به الرسل من آيات وبينات، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص (1).
وبين سبحانه وتعالى في آيات كثيرة أن الذين ينتفعون بالنظر في هذا الكون ومظاهره هم الذين يمعنون النظر والتفكير والتدبر بعقولهم، قال تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (البقرة، آية: 164).
ــ وقال تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران، آية: 190 ـ 191).
إن الله عز وجل وهب الإنسان من القوة والملكات ما جعله طريقاً إلى هدايته إذا أحسن استخدامه، فاستعمال السمع والبصر والفؤاد في النظر في آيات الله، والتفكر في دلالاتها من أول سبل الهداية إلى معرفة الله وصفاته، وإلى الإيمان بصدق رسله، وإلى مزيد من ذلك الهدى بعد الإيمان (2).
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (2/ 1821).
(2) السنن الإلهية في الحياة الإنسانية (1/ 226).(1/106)
3ـ العلم:
ومن أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضلال: العلم، وقد كانت أول آية نزلت في القرآن الكريم في الدعوة إليه " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق، آية: 1).
وتوالت آيات القرآن الكريم بما يضيق المجال عن حصره في الدعوة إليه بيان فضل العلماء.
ــ قال تعالى: " وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا" (طه، آية: 114).
ــ وقال تعالى: " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة، آية: 11).
ــ وقال تعالى: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر، آية: 9).
ــ وقال تعالى: " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ" (محمد، آية: 19)، فأمر بالعمل بعد العلم (1).
وقد جاء القرآن الكريم يكشف لنا بوضوح عن تلك العلاقة الوثيقة بين العلم والهداية في آيات كثيرة، وذلك بحديثه عن العلماء واستعدادهم بما لهم من علم لخشية الله وحسن النظر في آياته والاعتبار بها وإدراك ما فصله الله منزلاً على رسوله وشهود وحدانيته سبحانه وتعالى (2).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 227).
(2) المصدر نفسه (1/ 228).(1/107)
قال الله عز وجل مبيناً أن العلماء هم الذين ينتفعون بالآيات المبثوثة في الكون، وهم الذين يستشعرون عظمة الله وقدرته، فيخشونه فيهديهم الله، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (فاطر، آية: 27 ـ 28)، فالذين يستفيدون من اختلاف ألوان الثمار والجبال والناس هم العلماء، وهم الذين يخشونه حق خشيته، لأنهم العارفون به وبصفاته جل جلاله، وكلما كانت المعرفة للعظيم القدير الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل، كانت هدايتهم كذلك أتم وأكمل (1).
وقال تعالى: " هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (يونس، آية: 5).
والعلماء هم أكثر استفادة وإدراكاً واتعاظاً واعتباراً، بالأمثال التي يضربها الله عز وجل في كتابه العزيز، ولأن امتلاكهم الأداء التي يعرفون بها عظمة وصدق هذه الأمثال، قال تعالى: " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ" (العنكبوت، آية: 43) الذين يعقلون عن الله عز وجل وأما مغلقي القلوب فيتخذونها مادة للسخرية والتهكم (2).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 328).
(2) المصدر نفسه (1/ 329)، زاد المسير لابن الجوزي (6/ 273).(1/108)
كما أنهم الأكثر استفادة من تبيين الآيات القرآنية وتوضيحها وتفصيلها وغير العالم يستوي عنده الإجمال والتفصيل، لأنه يملك لا الأداة التي يميز بها بين ذينك الأمرين قال تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الأعراف، آية: 32).
ــ وقال تعالى: " فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (التوبة، آية: 11).
ـ وقال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (الأنعام، الآية: 97).
كما أن العلماء هم أكثر تأثراً بكلام الله سبحانه وتعالى وأسرع استجابة له وأعظم خشوعاً وإخباتاً لعظمته، وجلاله، وأعظم إدراكاً لمحكمه ومتشابهه مما يجعلهم أكثر تسليماً وإذعاناً لما يتضمنه من عقائد وأحكام (1).
ـ قال تعالى:" قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَتُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا" (الإسراء، آية: 107ـ 109).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإنسانية (1/ 230).(1/109)
ـ وقال تعالى:" هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَاتَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَايَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ" (آل عمران، آية: 7).
وإن العلماء هم الذين يعرفون قدر كلام الله وعظمته وإعجازه، وإن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن بشر فيدفعهم ذلك إلى الإيمان والتسليم والإذعان والاستفادة مما حوى من هدى وبيان (1).
ـ قال تعالى:"وَمَاكُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ" (العنكبوت، آية: 48، 49).
والعلماء هم الأبعد عن إلقاءات الشيطان ونزغاته، ووسوسته وذلك لعلمهم بمداخله وأحابيله، فلا تزيدهم وسوسته إلا إيماناً ويقيناً وتسليماً بخلاف الجهلة الذين ينقادون لوسوسته وهم يحسبون أنهم يحسنون.
قال تعالى:" لِيَجْعَلَ مَايُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (الحج، آية: 53 ـ 54).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 231).(1/110)
ـ وقال تعالى:" شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران، آية: 18).
ولا تدل هذه الآية الكريمة على مجرد تشريف الله سبحانه لأهل العلم حيث جمع شهادته بالتوحيد إلى شهادة ملائكته وشهادتهم بذلك، ولكنها تدل كذلك على أن علمهم هو الذي يؤهلهم إلى شهود وحدانية الله عز وجل وإنفراده بالملك والتدبير، فالعلم من أول أسباب الهداية إلى معرفة طريق الله، والاستزادة منه سبيل إلى المزيد من هداه (1).
4 ـ الإيمان:
إن في كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وفي كل كائن من الكائنات لآية باعثة على الهدى وإن في ذلك التنسيق البديع والتوافق بين سائر الكائنات لتوائم حياة الإنسان وسعادته فوق الأرض لآيات وآيات كثيرة تبعث على الاهتداء إلى الحق وإن في القرآن الكريم وما حوى من دلائل وبينات وما جاء فيه من موعظة وآيات تحيي القلب وتشفي الصدور وتهدي إلى الحق والصراط المستقيم ولكن هذه الآيات وتلك لا تتضح ولا ينتفع بها إلا القلب المؤمن فالكفر حجاب وحاجز كثيف يمنع من دخول نور القرآن في القلب ويمنع كذلك من الانتفاع بالآية الهادية في هذا الكون فإذا زال هذا الحجاب وانكشف ذلك الحاجز انتفع الإنسان بتلك الآيات الكونية، وانفتحت أمامه أيضاً كنوز القرآن من الهدى والمعرفة وقد جاءت آيات كثيرة تبين أن المؤمن هو الذي ينتفع ويستفيد من الذكرى ومن هدى القرآن، ومن الآيات الباعثة على الهدى في هذا الكون:
ـ قال تعالى:"طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" (النمل، آية: 1 ـ 2).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الاجتماعية (1/ 232).(1/111)
ـ وقال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (يونس، آية: 57).
ـ وقال عز من قائل:" قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف، آية: 203).
ـ وقال تعالى:" قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل، آية: 102).
وقد أشارت هذه الآيات ـ وغيرها من الآيات في هذا المعنى ـ إلى معنيين رئيسيين هما:
الأول: وهو أن القرآن الكريم فيه بيان وإرشاد لطرق الهداية، وإنه زاجر بما فيه من الترغيب والترهيب، وارتكاب المعاصي، وإنه شافي لما في الصدور من الامراض المفضية إلى الهلاك والشك والشرك والنفاق والضلال وأنه هدى من الضلالة إلى الرشد والحق، وأنه يزيد المهتدي هدى، وأنه تثبيت أيضاً للمهتدين على الهدى، وهو أنه رحمة للناس بكل ما حوى من أوامر ونواه واعتقادات وعبادات وأنه نجاة لمن آمن به من عذاب الله وسبب في فوزه ودخوله الجنة (1).
الثاني: أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بهدي القرآن ويستفيدون مما حوى فيهتدون بهديه ويسيرون وفق هداه، فيهتدون إلى صراط مستقيم دون غيرهم من الجاحدين والكافرين به الذي هو عليهم عمى وضلالة وغم وخزي، وفي الآخرة جزاءهم على الكفر به الخلود في لظى (2)، وقد صرح القرآن الكريم بهذا المعنى في آيات منها:
ـ قال تعالى:" هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" (فصلت، آية: 44).
__________
(1) تفسير الطبري (9/ 162)، تفسير الألوسي (11/ 139)، زاد المسير (3/ 312)، تفسير القرطبي (5/ 3793).
(2) تفسير الطبري (11/ 124)، أضواء البيان (1/ 107).(1/112)
ـ وقال تعالى:" وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا" (الإسراء، آية: 82).
ـ وقال تعالى: "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ" (التوبة، آية: 124 ـ 125).
هذا بخصوص هداية القرآن وأن المؤمنين هم المنتفعون بهديه، وما حوى من آيات، وأما عن الآيات الكونية وأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بها ويهتدون بما ترشد إليه من التوحيد، ومن إضافة صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، فقد جاء في مثل قوله سبحانه:
ـ قال تعالى: " أَلَمْ يَرَوْ اْإِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل، آية: 79).
إن مشهد الطير وهي تحلق في جو السماء "مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّاللّهُ" مشهد عجيب بديع ذهب ما به من عجب: الإلفة والتكرار، ولكن قلب المؤمن هو الذي يشعر بإبداع الخلق والتكوين، ويدرك ما فيه من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر، ويدرك قدرة الله وإبداعه وحكمته فيما أودع فطرة الطير من سنن تمكنها من الطيران، وما أودع الكون من حولها من سنن مناسبة لهذا الطيران (1).
ومثل قوله سبحانه وتعالى: " أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النمل، آية: 86).
__________
(1) في ظلال القران (4/ 2186).(1/113)
ومشهد الليل الساكن، ومشهد النهار المبصر، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجداناً دينياً يجنح إلى الاتصال بالله الذي يقلب الليل والنهار، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان (1).
وقال سبحانه وتعالى مبيناً إنتفاع المؤمنين بما في السماوات والأرض من آيات، قال تعالى: " إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (الجاثية، آية: 3).
وإذا كان الإيمان سبباً في إهتداء العبد إلى الحق، وانكشاف الحجب أمام بصيرته، فإنه كذلك سبب في هدية الله في العبد وإعانته وتوفيقه وزيادته هدى إلى الصراط المستقيم، وتثبيته عليه، وقد جاءت آيات كثيرة تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها، منها:
ـ قوله تعالى: " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (التغابن، آية: 11).
ـ وقال عز من قائل: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (يونس، آية: 9).
ـ وقال تعالى: " يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء" (إبراهيم، آية: 27).
ـ وبين سبحانه وتعالى صفات المؤمنين الذين يهديهم فقال: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (البقرة، آية: 2 ـ 5).
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2668).(1/114)
5 ـ الإهتداء:
من أسباب الهداية المؤدية بالعبد إلى مزيد الهدى والتثبيت على الصراط المستقيم: اهتداؤه إلى الإيمان، والإتيان بأسبابه، فإذا فعل العبد ذلك، هداه الله بأن خلق فيه المشيئة المستلزمة للفعل، وألهمه ووفقه لطاعات وزاده هدى وتوفيقاً، وأعانه وهو ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، كما يزيد الذين ظلموا زيادة ضلال (1).
قال تعالى: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا" (مريم، آية: 175)، وهو من باب الجزاء من جنس العمل (2).
كما في قوله تعالى: " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" (البقرة، آية: 152).
ـ وقوله تعالى: " إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ" (محمد، آية: 7).
وقد جاءت بعض آيات القرآن الكريم مقررة لهذه الحقيقة زيادة الهدى لمن اهتدى وفق سنته سبحانه وتعالى في هداية من سلك سبيل الهدى وقصده (3).
ـ قال تعالى: " وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" (محمد، آية: 17).
ـ وقال تعالى: " وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى" (مريم، آية: 76).
وإن إيراد هداية الله مرة بصيغة الماضي، ومرة بصيغة المضارع، يفيد أن هداية الله لعباده بسبب اهتدائهم أمر محقق، وسنة جارية ماضية في الذين من قبل، وهي مستمرة ودائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد ورد في تفسير قوله تعالى: "اهْتَدَوْا" معاني متعددة دلت عليها أقوال المفسرين فذهب بعضهم إلى أن المقصود من الإهتداء هو الإيمان (4)، وجمع بعضهم بينه وبين التصديق بآيات الله، وربط بعضهم بينه بين الإتباع، وذهب فريق آخر إلى معنى "اهْتَدَوْا" أي: قصدوا الهداية وأرادوها (5).
__________
(1) شفاء العليل ابن القيم صـ74.
(2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 206).
(3) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 239).
(4) تفسير الرازي (21/ 249).
(5) تفسير ابن كثير (4/ 177).(1/115)
وقال الطبري مبيناً إهتداء العبد وهداية الله له: ويزيد من سلك قصد المحبة واهتدى لسبيل الرشد فآمن بربه وصدق بآياته، فعمل بما أمره به، وانتهى عمن نهاه عنه هدى على هداه وذلك نظير قوله: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا" (1) (التوبة، آية: 124).
إن ترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر، والذين اهتدوا بدأوا هم بالإهتداء، فكافأهم الله بزيادة الهدى، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل " وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ"، والتقوى حالة في القلب تجعله أبداً واجفاً من هيبة الله، شاعراً براقبته، خائفاً من غضبه، متطلعاً إلى رضاه، متحرجاً من أن يراه على هيئة أو في حالة لا يرضاها، هذه الحساسية المرهفة هي التقوى، وهي مكافأة يؤتيها من يشاء من عباده حين يهتدون هم، ويرغبون في الوصول إلى رضى الله (2).
6 ـ الدعاء:
إن من أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى أن يسأل العبد ربه ذلك لأن ما يستطيعه العبد هو فعل الأسباب، وأما ما تحقق النتيجة وهي الهداية إلى الصراط المستقيم، والإعانة والإلهام والتوفيق والتثبيت على الحق، فهي من شأن الله وفعله، لا يقدر على ذلك إلا هو سبحانه وتعالى، فالعبد إذا فعل الأسباب التي يقدر عليها سأل الله ما لا يقدر عليه وهو الهداية، كمن يتعاطى العلاج للشفاء من المرض، ثم يسأل الله عز وجل الشفاء لأنه هو الشافي والدواء إنما هو مجرد سبب ـ والأسباب لا تؤدي إلى نتائجها إلا بمشئة الله ـ ووفق قدر خاص لكل شئ منه سبحانه (3).
__________
(1) تفسير الطبري (16/ 119) السنن الإلهية (1/ 240).
(2) في ظلال القرآن (6/ 3294).
(3) السنن الإلهية (1/ 241).(1/116)
إن سؤال العبد لله سبحانه وتعالى بالهداية هو من الدعاء الذي وعد عليه بالاستجابة، كما في قوله تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" (البقرة، آية: 186).
ـ وقال تعالى: " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر، آية: 60).
ولما كان سؤال الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم من أجلَّ المطالب، ونيله أشرف المواهب، فقد علم سبحانه وتعالى عباده ـ في سورة الفاتحة ـ كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم، وتوحيدهم، هاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديتهم، وهاتان الوسيلتان لا يرد معهما الدعاء (1).
وهذا الدعاء يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إياها، والهداية هي معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله عالماً بالحق عاملاً به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالهداية الموجبة للإهتداء التي لا يتخلف عنها وهو جعل العبد مريداً للهدى، محباً له، مؤثراً له، عاملاً به، فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل (2).
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 23). لابن القيم.
(2) شفاء العليل صـ116.(1/117)
7 ـ الاعتصام بالله:
ومن بين الأسباب التي رتب الله سبحانه وتعالى عليها الهداية لعباده، حسب سنته تعالى في الهداية والإضلال: الاعتصام بالله وهو الامتناع بالله والالتجاء والفزع إليه والتوكل عليه في دفع شرور الكفار التي تؤدي بالمؤمنين إلى الضلال الذي يريده الكفار من المؤمنين (1) عامّة في قوله:" وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ" (النساء، آية: 89). واليهود خاصة كما ورد في قوله:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (آل عمران، آية: 99).
فقد بين سبحانه وتعالى أن الاعتصام بالله من التمسك بدينه والتوكل هو العمدة في الهداية إلى الصراط المستقيم والعمدة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد وطريق السداد (2).
قال تعالى: " وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (آل عمران، آية: 101).
فقوله: " فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" جواب الشرط ولكونه ماضياً مع "قد" أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه حصل وأن الهداية حاصلة حسب سنته سبحانه لا محالة (3).
ونظراً لأهمية الاعتصام فقد جاءت عدة آيات في كتاب الله تدعو المؤمنين وتذكرهم بالاعتصام بالله وبعهده من ذلك قوله سبحانه وتعالى: " فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج، آية: 78).
وقوله تعالى: " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ" (آل عمران، آية: 103).
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 461)، تفسير الرازي (8/ 174).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 378) السنن الإلهية (1/ 246).
(3) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 246).(1/118)
8 ـ الاتباع والطاعة:
ومن أسباب الهدى حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضلال الاتباع، وهو السير وفق الشرع ومقتضاه، واطراح كل شئ يخالف هدى الله سبحانه وتعالى، وطاعة الله في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى، وبهذا فإن الاتباع يشمل الالتزام بما ورد في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من عقائد وأحكام وأوامر ونواه وآداب وأخلاق، وكل ما يرشد إليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالاتباع ليس مجرد شعار يرفع، وإنما هو تحقيق معناه في قلب المسلم وجوارحه وأفكاره (1).
ونجد القرآن، والسنة المطهرة، يركزان على الاتباع ويعتبرانه مناط بالهداية، والطريق الموصلة إلى السعادة والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الدلائل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد بين أهمية الاتباع، وأثره في الوصول إلى الهدى وتجنب الضلال عندما خلق آدم وأنزله إلى الأرض، قبل أن يرسل أنبياءه ورسله،، فكان ذلك دليلاً حاسماً على ما للأتباع من أهمية ومكانة في الوصول إلى الهداية والنجاة (2).
ـ قال تعالى: " قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة، آية: 38).
ـ قال تعالى:" قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُ مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى" (طه، آية: 123).
وقد ربط الله عز وجل بين طاعته واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم وبين الهداية فجعل الطاعة والاتباع سبباً للهداية والرشاد.
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 348).
(2) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 248).(1/119)
ـ قال تعالى:" قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّاحُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" (النور، آية: 54).
فأخبر جل ثناءه أن الهداية إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه متعلق بالشرط فينتفي بانتفائه، وليس عليه إلا البلاغ والبيان (1).
ـ وقال تعالى:" قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (المائدة، آية: 15 ـ 16).
بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من أتبع كتاب الله وهو ما رضيه لعباده، فإن الله عز وجل يكافئه على ذلك بثلاثة أمور:
أولها: فهو يهدي من اتبعه سبل السلام الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه (2)، فاتباع هذا القرآن يسكب السلام في الحياة كلها، سلام الفرد سلام الجماعة، سلام العالم، سلام الضمير، سلام العقل، سلام الجوارح، سلام البيت، سلام الأسرة، سلام المجتمع، سلام البشر والإنسانية السلام مع الحياة ومع الكون، والسلام مع الله رب الكون والحياة والسلام الذي تجده البشرية ولم تجده إلا في هذا الدين وإلا في منهجه ونظامه وشريعته ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته حقاً إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه طرق السلام كلها (3)
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2528).
(2) تفسير المنار محمد رشيد رضا (6/ 350).
(3) في ظلال القرآن (2/ 863).(1/120)
الثاني: أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، أي يخرجهم من الكفر إلى نور الإيمان بتوفيقه وهدايته لهم (1)، لأن الجاهلية كلها ظلمات، ظلمة شبهات وخرافات، وحيرة وقلق وانقطاع عن الهدى، ووحشة واضطراب قيم.
الثالث: الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت، لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف، فيبطئ سالكه أو يضل في سيره، وقد جعل الله عز وجل اتباع رسوله فيما جاء به سواء كان مبيناً لمجمل القرآن، أو مقيداً لمطلقه، أو مخصصاً لعامه أو منشئاً لأحكام جديدة لم ترد في القرآن جعل ذلك سبباً من أسباب الهداية (2).
ـ قال تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف، آية: 158).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التمسك بسنته عصمة من الزيغ والضلال والفتن، فقال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (3).
وقال تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مبيناً أنه عليه الصلاة والسلام لا يتبع أهواء الكافرين، لأن في ذلك انحراف عن الصراط المستقيم وسبيل إلى الضلال:
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 250).
(2) المصدر نفسه (1/ 250).
(3) سنن الترمزي (5/ 44) حديث حسن صحيح.(1/121)
ـ قال تعالى:" قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" (الأنعام، آية: 56)، أي: لا اتبعكم على ما تدعونني إليه لا في العبادة ولا في غيرها من الاعمال لأنها مؤسسة على الهوى، وليست على شيء من الحق والهدى، فإذا فعلت ذلك فقد تركت محجة الحق وسرت على غير هدى فصرت ضالاً مثلكم وخرجت من عداد المهتدين (1).
ـ وقال تعالى:" وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا" (النساء، آية: 115)، أي: ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له ويتبع غير سبيل المؤمنين، هذا ملازم للصفة الأولى:" نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا" (النساء، آية: 115) أي: إذا سلك هذا الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسها في صدره ونزينها له استدراجاً له وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة (2).
ومن هذه النصوص وغيرها يتبين أن الاتباع مجبلة للهداية والرشاد، وعدم الاتباع موقع في الزيغ والضلال والهلاك (3).
__________
(1) تفسير المراغي (7/ 141).
(2) تفسير ابن كثير (1/ 554 ـ 55).
(3) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 253).(1/122)
9ـ الخشية:
ومن أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى، خشية الله عز وجل والخوف منه، فإن خشيته عز وجل تجعل صاحبها أكثر من غيره استعداداً للتذكر إذا وعظ وذكر، وللاعتبار بما يرى من آيات الله في الكون والحياة وما تجري به سنته في أحداث التاريخ، وللانتفاع بالإنذار بعذاب الله في الدنيا والآخرة، والاهتداء إلى الحق إذا هدى إليه وآيات القرآن الكريم توضح هذه الحقائق أكمل توضيح، حتى أنها لتصور لنا ما يعتري الخائفين من الله إذا سمع آيات الهدى تتلى عليهم:
ـ قال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر، آية: 23).
ـ وقال تعالى بعد أن ساق قصة فرعون وما آل إليه أمره من النكال والهلاك قال: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى" (النازعات، آية: 26) فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه أما الذي لا يخشى ربه فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين العظة حجاب (1).
ـ ويقول الله عز وجل عن تأثير خشيته في قبول التذكرة "طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّاتَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى" (طه، آية: 1 ـ 2)
ـ وقال تعالى:" فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يخَافُ وَعِيدِ" (ق، آية: 45).
ـ وقال تعالى:" وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الأنعام، آية: 51).
__________
(1) في ظلال القرآن (6/ 3816).(1/123)
فالذي يخشى يتذكر حين يذكر، ويتقي ربه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، خشية عقاب الله ووعيده (1)، وهذه ألوان من الهداية يؤتيه اله سبحانه من يخشاه، وقد جاء التصريح بترتيب الهداية على خشية الله دون من سواه.
قال تعالى:" فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (البقرة، آية: 150).
فالهدى إنما يكون نتيجة لخشية الله وحده دون من سواه، لأن ذلك يدفع من يخشى الله إلى اتباع أوامره واجتناب نواهيه، دون النظر إلى انكار غيره ممن لا يخشاهم من البشر فطريق الهدى هو خشية الله وعدم الخشية ممن سواه (2).
10 ـ الإنابة:
ومن أسباب الهداية التي جعلها الله سبباً في زيادة الهدى لأصحابها، إنابة العبد إلى الله، إنابة عبودية ومحبة وهي تتضمن أربعة أمور: محبته والخضوع له، والاقبال عليه والإعراض عما سواه (3).
ـ قال تعالى:"هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ" (غافر، آية: 13).
ـ وقال تعالى:" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَهَا مِن فُرُوجٍ *وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ" (ق، آية: 6 ـ 8).
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2327)، تفسير الطبري (16/ 137).
(2) تفسير المراغي (2/ 18).
(3) السنن الإلهية (1/ 258).(1/124)
وفي قوله تعالى:" تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ" (ق، آية: 8) دلالة على الإنابة سبب في الاعتبار لكل من تحققت فيه هذه الصفة، وأن هذه الصفة لتؤهلهم لثواب الله في الدنيا والآخرة فكما يثيب الله عز وجل عباده المنيبين إليه بالجنة في الآخرة فإنه سبحانه يثيبهم أيضاً بالهداية في الدنيا حسب سنته في الهداية والإضلال فيهديهم ويوفقهم إلى الرشاد وإصابة الحق، ويخلصهم لعبادته، والعمل بطاعته واجتناب ما حرمه ويوفقهم إلى تصديق ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام وإتباعه فيما جاء به (1) وفي تقرير ذلك.
ـ قال تعالى: " وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ" (الرعد، آية: 27).
ـ وقال تعالى: " وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْعِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر، آية: 17 ـ 18).
ـ وقال تعالى: " شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ" (الشورى، آية: 13).
ـ وأما جزاء المنيبين في الآخرة فقد قال تعالى: "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ" (ق، آية: 31 ـ 33).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 261).(1/125)
ـ ولذلك فقد أمر الله سبحانه عباده بالإنابة كما في قوله تعالى: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" (الزمر، آية: 53 ـ 54).
ـ وكما في قوله تعالى أيضاً: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الروم، آية: 30 ـ 31) (1).
11 ـ البراء من الكافرين:
ومن الطاعات التي خصص الله سبحانه وتعالى ذكرها وجعلها سبباً في زيادة هدى أصحابها، البراءة من الكافرين بالبعد عنهم والخلاص منهم والعداوة لهم وعدم موالاتهم بالتقرب إليهم أو إظهار الود لهم بالأقوال أو الأفعال أو النوايا (2)، قال تعالى: "لَاتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة، آية: 22).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 261).
(2) السنن الإلهية في الحياة الاجتماعية (1/ 264).(1/126)
وليس البراء من الكافرين هم مجرد البراء من أشخاصهم، بل هو أيضاً البراء من أفعالهم وبغضها، وما ذلك إلا لأن ولاءهم هو سبيل الضلال أو الضلال بعينه كما جاء في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة، آية: 51).
ـ وقال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة، آية: 24).
والبراء من الكافرين يجنب صاحبه الوقوع في أعمال المعصية والضلال التي يقترفونها، ويجنبه التشبه بأعمالهم التي تؤدي به إلى الضلال، ثم إن البراء منهم تجنبه محاولتهم ثنيه عن إيمانه وهداه، قال تعالى: "وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ" (النساء، آية: 89) (1).
12 ـ الجهاد: ومن أسباب الهداية الجهاد في سبيل الله، فقد رتب سبحانه وتعالى الهداية على الجهاد، وجعله سبباً من أسباب زيادة الهدى، قال تعالى: " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت، آية: 69). علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، ومراتب الجهاد أربع:
أ ـ جهاد النفس:
إحداها: أن يجاهد على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا بها، ومتى فاتها علمه، شقيت في الدارين.
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 264).(1/127)
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق ويتحمل كل ذلك لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يُسمى "ربانياً" حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلَّم فذاك الذي يدعى عظيماً في ملكوت السماوات (1).
ب ـ جهاد الشيطان مرتبتان:
إحداهما: جهاده على دفع ما يأتي إلى العبد من الشبهات والشكوك الفادحة في الإيمان.
الثانية: جهاده على دفع ما يُلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهاد الأول: يكون بعدة اليقين،، والثاني: يكون بعدة الصبر.
ـ قال تعالى: " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" (السجدة، آية: 24)، فأخبر أن أمامه الدين، إنما تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
ج ـ جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب:
وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخصُّ باليد، وجهاد المنافقين أخصُّ باللسان.
س ـ جهاد الظلمة والفسّاق ثلاث مراتب:
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:
__________
(1) فقه الجهاد للشيخ القرضاوي (1/ 140).(1/128)
الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز، انتقل إلى اللسان، فإن عجز، جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد "ومن مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق (1)، ولا يتمُّ الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والرّاجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌرَّحِيمٌ" (البقرة، آية: 218).
وكما أن الإيمان فرض على كلَّ أحد، ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد، والإخلاص والإنابة والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، والتوبة. وهجرة إلي رسوله بالمتابعة، والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إمرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (2)، وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين، لا يتوب فيه أحد عن أحد، وأما جهاد الكفار المنافقين، فقد يُكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد (3).
ثالثاً: الضلال ومراتبه:
الضلال: ضد الهدى، وضللت بعيري: إذا كان معقولاً فلم تهتد لمكانه، وضل عني: ضاع، وضللته: أنسيته.
ويقال لكل عدول عن المنهج عمداً، أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً: ضلال، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً (4)، وإضلال الله للإنسان على وجهين:
إحداهما: أن يكون سببه وهو أن يضل الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة.
__________
(1) مسلم في الإمارة رقم 1910.
(2) فقه الجهاد للقرضاوي (1/ 41) زاد المعاد لابن القيم (3/ 1205).
(3) زاد المعاد لابن القيم (3/ 1205).
(4) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 100).(1/129)
الثاني: من إضلال الله: وهو أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقاً محموداً كان أو مذموماً ألفه واستطابه وتعسر عليه صرفه وانصرافه (1).
والمقصود بإضلال الله للعبد هو خذلانه وعدم توفيقه وإعانته وعدم خلق المشيئة المستلزمة للهداية (2).
والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم، فهم إذا سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، سده عليهم اضطراراً، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوا، فيكون ذلك عقوبة لهم، كما يعاقبهم في الآخرة بدخولهم النار (3).
ومن رحمة الله بعباده، أن ما يفعله الله عز وجل من إضلال بعض عباده بالطبع والغشاوة والختم وغير ذلك، لا يفعله بالعبد لأول وهلة حين يأمره بالإيمان ويبينه له، وإنما يفعله به بعد تكرار الدعوة به سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منه، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوب هؤلاء العباد، ويختم عليهم، فلا يقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن معه ختم وطبع، بل كان اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية (4).
فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ" (البقرة، آية: 6 ـ 7).
1 ـ حرية العبد في إختياره للهدى والضلال:
الأعمال التي يقوم بها الإنسان وفقاً لإرادته الحرة وإختياره ورضاه، فالإنسان كائن عاقل مدرك مفكر، ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية الإختيار.
__________
(1) شفاء العليل صـ173، 196، السنن الإلهية (1/ 101).
(2) شفاء العليل صـ173، السنن الإلهية (1/ 101).
(3) السنن الإلهية (1/ 101)، شفاء العليل صـ186، 209.
(4) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 102).(1/130)
ـ قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء" (الحج، آية: 18).
فهذه الكائنات جميعها لا حرية لها ولا إختيار، بينما الإنسان الذي يعمل بمحض إرادته الحرة ومشيئته المختارة، قد يطيع وقد يعصي، وأكد القرآن أن الإنسان الذي تحمل الأمانة والتكليف زوده الله بقوى وملكات وإستعدادات لتحقيق تلك الخلافة ولأداء الأمانة، فخلق لديه الاستعداد للخير والشر، للتقوى والفجور، والهدى والضلال، ومنحه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، ووهبه القدرة التي لا يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباطل، أن يأتي الخير ويدع الشر، وأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل لهداية الإنسان وإرشاده لمنهج الحق والخير، وجعل في الإنسان قوة ذاتية واعية مدركة يمكن أن يستخدمها في تزكية النفس وتطهيرها، وتنمية إستعداد الخير فيها وتغليبه على إستعداد الشر، فيفلح الإنسان بهذا، وقد يظلم هذه القوة ويغطيها ويضعفها فيخيب، قال تعالى: " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس، آية: 9 ـ 10).
وقد نطق القرآن الكريم، بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته، مثل قوله تعالى: " جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأحقاف، آية: 14).
ـ قال تعالى: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" (فصلت، آية: 46).
وقال تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (المدثر، آية: 38).(1/131)
وأثبت القرآن للعبد في غير ما آية منه في المشيئة الاختيار، فقال تعالى: " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان، آية: 3).
إن الإنسان حر، لقد زوده الله بالعقل والإرادة، يختار ما يراه من حق أو باطل، ويفعل ما يروق له من خير أو شر، فهو مزود بوسائل الإدراك، يدرك ما في الأشياء من قيم ويحكم عليها ويختار، وهو بالخيار أن يسلك طريق الحق والخير فيكون شاكراً، أو يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل، فيكون كفوراً (1).
فالإنسان حر في دائرة أعماله الإختيارية والمرتبطة بالتكليف والمسئولية، وهذه الحرية يؤكدها ما يلي:
أ ـ واقع حياة الإنسان الذي يشعر بالفرق الواضح بين الأعمال الإختيارية وبين الأعمال التي تقع عليه اضطراراً.
ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المسئولية والتكليف، لا بد أن تكون منوطة باستطاعة الإنسان على الفعل أو الترك لأن من لا يملك هذه الإستطاعة فلا يصح عقلاً أن تتوجه إليه المسئولية أصلاً.
جـ ـ وإضافة إلى ذلك لو لم يكن الإنسان مختاراً، لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسئ، إذ أن كلاً منهما مجبر على ما قاله، ولبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا فائدة لهما، حيث أن الإنسان مسلوب الإرادة، ولما كان ثمة معنى لتكليف الله للعباد، لأن تكليفه إياهم مع سلب إختيارهم يتنافى مع العدل الإلهي الذي أثبته لنفسه، بل لو كان الإنسان مجبراً على أفعاله، لضاعت فائدة القوانين، ولبطل معنى الجزاء من الثواب والعقاب.
س ـ وقبل هذا كله، جاءت النصوص الشرعية تنسب العمل والإختيار إلى الإنسان، وما يكتسبه نتيجة لجهده، وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع، والنار لمن عصى (2).
ـ قال تعالى: " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَن كَثِيرٍ" (الشورى، آية: 30).
__________
(1) العقيدة الإسلامية د. أحمد محمد جيلي صـ363.
(2) العقيدة الإسلامية د. أحمد جيلي صـ365.(1/132)
ـ وقال تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم، آية: 41).
ـ وقال تعالى: " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ" (الكهف، آية: 29).
ـ وقال تعالى: " لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ" (التكوير، آية: 28).
ولكن هذه المشيئة الإنسانية محدودة مرتبطة بمشيئة الله المطلقة وتابعة لها، إذ أن الإنسان يعمل أعماله الإختيارية ويمارس حريته في العمل داخل دائرة صغرى تقع ضمن دائرة كبرى، هي نطاق النظام الكوني العام، إذ أن أعماله مهما كانت، وإختياره مهما كان خيراً أم شراً حقاً أم باطلاً، لن يخرج في أدائه الأخير عن السنن الكونية التي وضعها الله في الكون، وتقوم عليها قوانين الحياة البشرية " لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (التكوير، آية: 28 ـ 29).
فمشيئة الله ليست منفصلة عن مشيئة الله تعالى، ولا مستقلة عنها، بل أن الله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقتين: طريق الهداية وطريق الضلال، فإن إختار الطريق الأول، وفي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا إختار الثاني ففي نطاقها أيضاً (1).
2 ـ التوفيق بين مشيئة الله ومشيئة العبد للهدى والضلال:
أسند الله عز وجل الهداية والإضلال إلى مشيئته سبحانه في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: " وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النحل، آية: 93).
ـ وقال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (إبراهيم، آية: 4).
__________
(1) المصدر نفسه.(1/133)
ـ وقال تعالى:" وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ *وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ" (الزمر، آية: 36 ـ 37).
والواقع أن هذه وأمثالها نصوص عامة ولابد أن تحمل على النصوص المقيدة، فليست مشيئة الله للهداية والإضلال تسير جزافاً بدون حكمة، أو بدون سنة ماضية في هذا الشأن وذلك لأنه توجد هناك إلى جانب هذه الآيات العامة آيات أخرى تقيد مشيئة الله في الهداية والإضلال بأحوال خاصة وأسباب معينة وهذه الآيات المقيدة تبين لنا من يشاء الله تعالى هدايته ومن يشاء إضلاله وهذا إجمال يحتاج إلى تفصيل.
لقد ربط الله عز وجل كثير من الآيات بين مشيئة العبد للهدى، والضلال ومشيئته سبحانه وتعالى لهما، والله سبحانه لا يشاء إلا العدل والرحمة وهذا الذي عرفه رسل الله عليهم الصلاة والسلام ولهذا قال هود لقومه:" إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (هود، آية: 56). فأخبر عن عموم قدرة الله ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف يشاء، ثم أخبر أن هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم أي سبحانه وإن كانت قدرته تنالهم بما يشاء فإنه لا يشاء إلا العدل (1).
فهداية الله سبحانه لعباده أو إضلالهم إنما تقوم على أساس ترتيب المسببات على أسبابها والنتائج على مقدماتها، كما دل على ذلك كثير من الآيات ومنها:
ـ قوله تعالى:" وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ" (إبراهيم، آية: 27).
ـ وقوله تعالى:" وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ" (الشورى، آية: 13).
بين سبحانه وتعالى في الآية الأولى إن سبب إضلاله لبعض عباده هو الظلم، وبين في الآية الثانية أن سبب هدايته لبعض عباده هو إنابتهم إليه (2).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 105).
(2) المصدر نفسه (1/ 106).(1/134)
ومن تدبر القرآن تبين له أن عامة ما يذكره الله من خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل كقوله تعالى:" فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام، آية: 125).
ـ وقال تعالى:" فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" (الصف، آية: 5).
ـ وقال تعالى:" وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" (الليل، آية: 8 ـ 10).
وهذا وأمثاله بذلوا فيه أعمالاً عاقبهم الله بها على فعل محظور وترك مأمور، وتلك الأمور إنما خلقت لكونهم لم يفعلوا ما خلقوا له، ولابد لهم من حركة وإرادة فلما لم يتحركوا بالحسنات حركوا بالسيئات عدلاً من الله، حيث وضع ذلك في محله القابل له، وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملاً فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في السيئة: نفسك إن لم تشغلها شغلتك (1).
يقول الشيخ محمد رشيد رضا عند قوله تعالى:" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" (يونس، آية: 100) أي: وما كان لنفس ولا من شأنها فيما أشير إليه من استقلالها في أفعالها ولا مما أعطاها الله من الاختيار فيما هداه من النجدين وما ألهمها من فجورها وتقواها الفطريين أن تؤمن إلا بإرادة الله ومقتضى سنته في استطاعة الترجيح بين المتعارضين، فهي مختارة في دائرة الاسباب والمسببات ولكنها غير مستقله في اختيارها أتم الاستقلال بل مقيدة بنظام السنن و الأقدار، فالمنفي هو استطاعة الخروج عن هذا النظام العام لا الاستطاعة الخاصة الموافقة له (2).
__________
(1) الحسنة والسيئة لابن تيمية صـ 94 ـ 95.
(2) تفسير المنار (11/ 484).(1/135)
3 ـ التوفيق بين القدر الأزلي واختيار الهدى والضلال:
ومن مراجعة مجموعة النصوص التي تذكر الهدى والضلال، والتنسيق بين مدلولاتها جميعاً، يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الجدل الذي أثاره المتكلمون من الفرق الإسلامية والذي أثاره اللاهوت المسيحي والفلسفات المتعددة حول قضية القضاء والقدر عموماً: إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال، وذلك مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها، ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى، ومع إرسال الرسل بالبينات لآيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل .. ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به، وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره، كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى، وأن يجري قدر الله كذلك لإضلال من لا يستخدم ما أودعه الله من عقل، وما أعطاه من أجهزة الرؤيا والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون، وفي رسالات الرسل، الموحية للهدى، وفي كل الحالات تتحقق مشيئة الله ولا يتحقق سواها، ويقع ما يقع بقدر الله لا بقول سواه، وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن الله شاء هكذا، وما كان شئ ليقع إلا أن يوقعه قدر الله، فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور، كما أنه ليس هناك قوة إلا بقدر الله ينشئ الأحداث .. وفي إطار هذه الحقيقة الكبرى يتحرك الإنسان بنفسه، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً، وهذا هو التصور الإسلامي الي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة، حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل، وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، على سبيل الإحتجاج أو الجدل (1).
__________
(1) في ظلال القرآن (3/ 1400).(1/136)
رابعاً: أسباب الضلال:
للضلال أسباب كثيرة وعوامل حسبما تجري به سنة الله في عباده من ترتيب النتائج على مقدماتها واتباع المسببات لأسبابها، وقد تكون هذه الأسباب والعوامل فكرية، أو نفسية، أو أخلاقية، وقد ترجع إلى التأثر بالوراثة أو البيئة، أو النشأة أو طبيعة الحياة التي يحياها صاحبها أو غير ذلك من الأسباب والعوامل والتي من أهمها:
1ـ عدم استخدام الإنسان مواهبه في التفكر في آيات الله:
ـ قال تعالى:" وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" (البقرة، آية: 171).
فهم صم لا يسمعون الحق وعمي لا ينظرون إلى آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم الحق (1).
ـ وقال تعالى:"أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" (الفرقان، آية: 44).
فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلاً من الأنعام، لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يميناً ولا شمالاً والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون، ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوباً تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة، والاسماع والأبصار، فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق ـ مع الدليل إليه ـ أضل وأسوأ حالاً ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه (2).
__________
(1) شفاء العليل صـ 199، 206 السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 114).
(2) أعلام الموقعين لابن القيم (1/ 159).(1/137)
ـ قال تعالى:" وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ" (الأعراف، آية: 198). فبين سبحانه عدم انتفاعهم بآيات الهدى.
ـ وقال تعالى:" فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ *كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ *فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ" (المدثر، آية: 49 ـ 51). فهم قد نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها، ويعقرها وهم في جهلهم هذا كالحمر التي لا تعقل شيئاً (1).
ـ وقال تعالى:" وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ" (يوسف، آية: 105).
بين سبحانه وتعالى إعراض الصالحين عن النظر في الآيات الكونية ولذلك فإن الكفار يشهدون على أنفسهم إذا عاينوا نتيجة ضلالهم بعدم العقل والسمع " وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" (الملك، آية: 10) (2).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 164) بتصرف، السنن الإلهية (1).
(2) المصدر نفسه.(1/138)
2 ـ الذنوب والمعاصي:
إن من أسباب الضلال حسب سنته سبحانه وتعالى ارتكاب الذنوب والمعاصي وذلك أن الذنوب سبب في صدأ القلب وتكون الران عليه الذي يمنع من دخول الإيمان إلى قلب صاحبه، قال تعالى:" إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (المطففين، آية: 12 ـ 14). أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الران الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا (1)، ثم إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع فلا يكون للإيمان إليه مسلك ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تعالى في قوله:" خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ" (البقرة، آية: 7).
وجاء قوله تعالى مهدداً للذين يقترفون الذنوب والمعاصي بأن يطبع على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان (2).
ـ قال تعالى: "أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ" (الأعراف، آية: 100).
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 485)، فتح القدير (4/ 400).
(2) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 119).(1/139)
ثم إن الذنوب والمعاصي سبب في مرض القلوب، لأن صحتها تكون بمعرفة الله وطاعته والإنابة إليه والتزام أمره واجتناب نعيمه وإيثاره على غيره ومحبته والتوكل عليه وإفراده بالعبودية دون سواه (1)، فإذا تتابعت هذه الذنوب وتكاثرت اشتد مرض القلب، ثم لا تزال الذنوب بالقلب حتى تغلب عليه فيموت بالكلية، ومن مات قلبه فإنه لا ينتفع بالهدى ولا الإيمان ولا يسمع ولا يعقل ولا يبصر.
فالقرآن الكريم لا ينتفع به إلا من كان حياً أما من صار في عداد الأموات فإنه لا ينتفع به (2).
قال تعالى:" إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ" (يس، آية: 69 ـ 70).
وقال تعالى:" إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" (الأنعام، آية: 36).
3ـ اتباع الشيطان:
ومن أسباب الضلال الخطيرة والتي ضل بها كثير من الخلق، اتباع الشيطان الذي نذر نفسه وبذل عمره لإغواء بني آدم.
قال تعالى:" قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (الأعراف، آية: 14 ـ 17).
ـ وقال تعالى:" قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" (الحجر، آية: 36 ـ 40).
__________
(1) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 7)، السنن الإلهية (1/ 119).
(2) السنن الإلهية (1/ 119).(1/140)
وقد أمر الله عز وجل بالحذر منه، واستفراغ الجهد في معاداته وبين أنه عدو لدود وظاهر لبني الإنسان (1).
ـ قال سبحانه وتعالى:" إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" (فاطر، آية: 6).
ـ وقال تعالى:" إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا"
وقد جاء القرآن الكريم كاشفاً مداخل الشيطان وخططه في إضلال بني آدم في غير ما آية ومجمل هذه الخطط والمداخل ما يلي:
أ ـ الأمر بالسوء والفحشاء والقول على الله بغير علم:
قال تعالى:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة، آية: 168 ـ 169).
والسوء: الأثم، وقيل معاصي الله، فإنما سماها الله سوءاً لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله، وأما الفحشاء فهي كل مستفحشة ذكره وقبح مسموعه، وقيل الزنا (2).
ب ـ تزيين الأعمال الباطلة والمحرمة:
ـ قال تعالى: " فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأنعام، آية: 43) من الشرك والمعاندة والمعاصي.
وبين الشيطان أنه يزين لبني آدم أعمالهم ليغويهم، قال تعالى حاكياً قوله: " قَالَرَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الحجر، آية: 39).
__________
(1) روح المعاني للألوسي (15/ 94).
(2) تفسير الطبري (2/ 772)، السنن الإلهية (1/ 122).(1/141)
ـ وقال تعالى مبيناً نتيجة تزيين الشيطان للناس أعمالهم وهو الضلال: " وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ" (النمل، آية: 24).
ـ وقال سبحانه وتعالى: " وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ" (غافر، آية: 37)، أي: صد عن طريق الهداية فأصبح ضالاً لا يقبل الهدى (1).
وبين سبحانه وتعالى أنه قد أضل هؤلاء الذين قبلوا تزيين الشياطين لهم فخلت بهم سنته في الضلال، وحق عليهم القول، فالشيطان حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وفي المستقبل، فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، فعاقبهم بما ارتضوا لأنفسهم (2).
ـ قال تعالى: "وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ" (فصلت، آية: 25).
وتزيين الشيطان للناس أعمالهم على قسمين: فردي وجماعي، فالفردي كما في الآية السابقة من تزيين الشيطان لفرعون عمله، وأما التزيين الجماعي كما في قوله تعالى: " وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ" (العنكبوت، آية: 38) (3).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 122).
(2) تفسير ابن كثير (4/ 97)، السنن الإلهية (1/ 124).
(3) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 125).(1/142)
جـ ـ الوعود والأماني الكاذبة:
ـ قال تعالى: "وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا" (النساء، آية: 119 ـ 120) أي ولأضلنهم عن الحق "وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ" أي: أزين لهم ترك التوبة وأعدهم الأماني وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ" قال عدد من العلماء: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة (1)، وأما تغيير خلق الله: فهو دين الله، ومعنى تغيير الدين تحليل الحرام وتحريم الحلال (2).
ومن الوعود الباطلة التي يعدها الشيطان لأتباعه: أنهم إذا أنفقوا في سبيل الله فسيحل بهم الفقر (3).
ـ قال تعالى: " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً" (البقرة، آية: 268).
وقد فسر ابن كثير: الفحشاء بالأمر بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخالق (4).
__________
(1) صحيح تفسير ابن كثير (3/ 535).
(2) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 122).
(3) تفسير بن كثير (1/ 312)، السنن الإلهية (1/ 126).
(4) تفسير ابن كثير (1/ 312).(1/143)
ح ـ الإستهواء:
ومن الناس من يضله الشيطان بعد أن كان قد عرف الإيمان وذاقه، وقد صور الله حالة هذا الذي إستهواه الشيطان بعد أن كان مؤمناً فيقول، قال تعالى: "قُلْ أَنَدْعُومِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام، آية: 71).
فالذي استهوته الشياطين هو الذي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه، يقال: هوى يهوي إلى الشئ أسرع فيه، بعد أن كان مؤمناً (1)، ولفظ الإستهواء لفظ مصور ويا ليته يتبع هذا الإستهواء في إتجاهه فيكون في إتجاه واحد، وهو الضلال، ولكن هناك من الجانب الآخر أصحاب يدعونه إلى الهدى يقولون: إئتنا فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم، وهو بين هذا الدعاء وهذا الإستهواء في حيرة واضطراب وضلال وتيه (2).
د ـ الموالاة:
ومن الناس من يتخذ الشيطان ولياً ونصيراً ومعيناً من دون الله، يلتجئ إليه ويدعوه، قال تعالى: " فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ" (الأعراف، آية: 30).
وقد قضى الله عز وجل فيمن تولى الشيطان أن يضله عن الصراط المستقيم ويهديه إلى عذاب الجحيم (3).
ـ قال تعالى: " وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ" (الحج، آية: 3 ـ 4).
__________
(1) تفسير القرطبي (3/ 2454).
(2) فتح القدير للشوكاني (2/ 130) في ظلال القرآن (2/ 1132).
(3) السنن الإلهية (1/ 128).(1/144)
س ـ الإستحواذ:
ويبين الله سبحانه وتعالى فريقاً من الذين يضلهم الشيطان وهؤلاء الذين يستولي عليهم إستيلاء تاماً، ويغلب على عقولهم وقلوبهم بوسوسته، وتزيينه حتى يتبعوه في كل ما يأمرهم به، ويصبحون أداة طيعة للشيطان، فينسيهم ذكر الله بقلوبهم وألسنتهم (1).
ـ قال تعالى: "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (المجادلة، آية: 18 ـ 19).
ـ قال تعالى: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ") يس، آية: 60 ـ 62).
4 ـ الجهل وإتباع الظن:
ـ قال تعالى: مبيناً ضلال قوم ثمود: "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ" (الأحقاف، آية: 22 ـ 23).
ـ وقال تعالى مبيناً ضلال من إتبع جهله، ونسب إليه سبحانه الولد، قال تعالى: "وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا" (الكهف، آية: 4 ـ 5).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 128).(1/145)
ـ وقال تعالى مبيناً جهل كفار قريش بدعوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة ما يعبدون من الأصنام والأحجار والآلهة المزيفة المدعاة، قال تعالى: "اللّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ" (الزمر، آية: 62 ـ 64).
بين سبحانه وتعالى عقابه للذين لا يعلمون وسنته فيهم فقال: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم، آية: 58 ـ 59).
وأما إتباع الظن والذي هو مجرد حدس وخرص وأوهام والذي لا ينبني على علم، فإنه ولا شك سبب من أسباب الضلال حسب سنته سبحانه وتعالى، فقد سجل القرآن الكريم في كثير من الآيات على كفار قريش ضلالهم بسبب إتباعهم الظن ـ كسابقيهم من الكافرين ـ وذلك بجعل الأصنام شركاء لله، وبعبادتهم لها وزعمهم أنهم مجبورون في ضلالهم هذا وغيهم (1).
ـ قال سبحانه وتعالى: " أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْهُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ" (يونس، آية: 66).
ـ وقال تعالى: " وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ
عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ" (يونس، آية: 36).
__________
(1) روح المعاني (8/ 51)، في ظلال القرآن (3/ 1227).(1/146)
ـ وقال تعالى: " وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ" (الجاثية، آية: 32) (1).
5 ـ الجدال في الله وآياته بغير علم:
ومن أعظم أسباب الضلال: الجدال في توحيد الله وصفاته، وشرعه، وقدره، وكتابه، واليوم الآخر بغير علم، يدفعم لذلك الكبر، والجهل، والحسد والتعصب، ويزعمون للناس ولأنفسهم أنهم إنما يناقشون ويجادلون، لأنهم لم يقتنعوا بالحق، وأنهم غير مستيقنين فيه (2).
ـ قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (غافر، آية: 56).
ـ وقال تعالى:" كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ *الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَمَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر، آية: 34 ـ 35).
وقال تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِعِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ *ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ" (الحج، آية: 8 ـ 9).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 132).
(2) في ظلال القرآن (5/ 3089). السنن الإلهية (1/ 132).(1/147)
6ـ الغفلة:
من أسباب الضلال غفلة الناس عن الأدلة الموصلة إلى الحق والهدى وعدم النظر فيها:
ـ قال تعالى:" إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (يونس، آية: 6 ـ 8).
ـ وقال سبحانه وتعالى:" اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ" (الأنبياء، آية: 1 ـ 3).
ـ وقال تعالى:" سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْعَنْهَاغَافِلِينَ" (الأعراف، آية: 146).
7ـ التعصب:
إن التعصب للباطل من أسباب الضلال، قال تعالى مبيناً أثر التعصب في ضلال اليهود، وعدم إيمانهم، واتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (البقرة، آية: 91).(1/148)
وقال تعالى مبيناً تعصب كل من طائفتي اليهود والنصارى لنفسها وزعم كل طائفة منهما أنها على الحق دون غيرها، فكفر اليهود بعيسى عليه السلام رغم أنه منهم، وقد كانوا ينتظرونه لإعادة مجدهم وعزهم تعصباً وقالت النصارى: أن اليهود ليسوا على شيء حقيقي من الدين لإنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم (1).
قال تعالى:" وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (البقرة، آية: 111 ـ 113).
8ـ التقليد:
إن من أسباب الضلال عند الكافرين من الأولين والآخرين التقليد للآباء دون نظر أو فكر، قال تعالى:" وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ" (الزخرف، آية: 23).
__________
(1) تفسير المنار (1/ 429).(1/149)
ـ وقال تعالى:" أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" (إبراهيم، آية: 9 ـ 10).
لقد كانت حجة الكافرين بالله المعرضين عن الانتفاع بالآيات التي جاءهم بها الأنبياء، قولهم:" إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ" (الزخرف، آية: 22)، وهي مقولة تدعو إلى السخرية، فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد، بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل، وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع حيث هو منساق ولا يسأل أين يمضي ولا يعرف معالم الطريق (1).
إنها: طبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول، لا يفكر أصحابها فيما يعبد آباؤهم ما قيمته؟ وما حقيقته؟ وماذا يساوي في معرض النقد والتفكير (2)؟
ومن الأقوام التي حدثنا القرآن الكريم عنها، وكان من أسباب ضلالها تقليد الآباء: قوم نوح عليه السلام الذين قابلوا دعوة نبيهم بالرفض والجحود بدون دليل أو سند سوى أنهم لم يسمعوا بمثل دعوته في آبائهم الأولين وكأن الحجة والدليل هو ما سمعوه من آبائهم.
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 3182).
(2) المصدر نفسه (4/ 2091)، السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 141).(1/150)
ـ قال تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ" (المؤمنون، آية: 23 ـ 24).
وقوم عاد يعجبون مما ليس منه عجب، وينكرون على نبيهم أن يأتيهم بعبادة الله الواحد، ونبذ عبادة الآلهة المتفرقة التي كان يعبدها آباؤهم الأولون فيسألون منكرين:" أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا" (الأعراف، آية: 70).
وبنفس العلة والحجة رفضت ثمود دعوة أخيهم ونبيهم صالح عليه السلام وجعلوا ما عليه آباءهم ـ سواء أكانوا سابقين أو حاضرين ـ حجة تمنعهم من الإيمان (1).
ـ قال تعالى:" إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ * قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ" (هود، آية: 61 ـ 62).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 143).(1/151)
وكذلك نجد قوم إبراهيم يصرون على عبادة التماثيل التي لا تضر ولا تنفع ولا يجدون جواباً لسؤال نبيهم:" مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ" (الأنبياء، آية: 52)، إلا أن قالوا:" قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ" (الأنبياء، آية: 53)، هذا هو الجواب، وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد، في مقابلة حرية الإيمان وانطلاقه للنظر والتدبر، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمتها الحقيقية لا التقليدية، فالإيمان بالله يحرر الإنسان من القدسات الوهمية التقليدية والوراثات المتحجرة التي لا تقوم على دليل (1).
وقوم شعيب يقولون لنبيهم:" قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ" (هود، آية: 87). وقابل فرعون وملؤه دعوة موسى عليه السلام بالتقليد الأعمى المزري الذي يسيطر على العقول فيجعلها لا تفكر، وعلى البصائر فيقفلها فلا يجعلها تنظر أو تعتبر:" قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ" (يونس، آية: 78).
وأما كفار قريش فقد قال تعالى حاكياً أقوالهم:" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ" (المائدة، آية: 104).
ـ وقال تعالى:" أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ" (الزخرف، آية: 21 ـ 22).
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2385).(1/152)
ـ وقال تعالى:" وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ" (سبأ، آية: 43).
والقرآن الكريم وهو يدعو إلى هذا التحرر والتفكير يسوق الأدلة والآيات والحجج والبراهين التي تبرهن وتثبت أنه دين الله الذي فيه نجاة البشر جميعاً من الظلمات إلى النور (1).
ـ قال تعالى:" هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف، آية: 203).
ـ وقال تعالى:" كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ" (البقرة، آية: 151).
فمن تدبرها وعقلها وصل إلى الحق واهتدى ومن هنا فقد كان سبيل المؤمنين المهتدين هو الاتباع عن بصيرة وبتدبر وتعقل (2)، كما قال موسى عليه السلام عندما سأله فرعون: قال تعالى:" قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى" (طه، آية: 49 ـ 54).
__________
(1) تفسير المنار (2/ 27)، السنن الإلهية (1/ 147).
(2) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 147).(1/153)
وكما قال يوسف عليه السلام متبعاً ملة آبائه ولكن عن بصيرة ويقين (1)، قال تعالى:" إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" (يوسف، آية: 37 ـ 39).
وهكذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ" (الأنعام، آية: 161 ـ 164).
ـ وقال تعالى:" ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَاكَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل، آية: 123).
فاتباع الآباء واقتفاء آثار السابقين من الذين هداهم الله عن بينة ودليل هو سبيل الهداية، كما قال تعالى بعد أن ذكر أنبياء الله الذين هداهم من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس، ولوطاً ومن آبائهم وذرياتهم.
قال تعالى:" أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ" (الأنعام، آية: 90).
__________
(1) تفسير المراغي (12/ 174).(1/154)
وأما اتباع الأبناء للآباء والأجداد وتقليدهم والتمسك بآرائهم، ومحاكاتهم في كل أقوالهم وأعمالهم من غير بينة ولا حجة ظناً منهم على الحق، دون النظر في أدلة من يدعوهم إلى الهدى، ويقيم الدلائل والبينات على صحة ما يدعوا إليه وهو الضلال، وهو سبيل الكافرين، وعلة الإعراض عن الإيمان بالله والسير على طريق الهدى الذي ارتضاه للناس (1).
9 ـ الشك والريبة:
ومن الأسباب التي يستحق بها بعض العباد الضلال: مرض القلوب وهو خروج القلب عن صحته، فإن صحته أن يكون عارفاً بالله، محباً له مؤثراً له على غيره، ومرض القلب هو شكه فمرض المنافقين هو مرض شك (2).
وقد جعل الله عز وجل ذلك سبباً في زيادة المرض في قلوبهم، وعدم إيمانهم، فالمرض ينشئ المرض، والإنحراف يبدأ يسيراً ثم ينفرج الزاوية في كل خطوة، سنة لا تتخلف (3).
ـ قال تعالى: "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" (البقرة، آية: 10).
ـ وقال تعالى: "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ" (التوبة، آية: 124 ـ 125).
ـ وقال تعالى: "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ" (غافر، آية: 34).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 149).
(2) شفاء العليل صـ211.
(3) في ظلال القرآن (1/ 43) السنن الإلهية (1/ 43).(1/155)
وبين سبحانه وتعالى في آية أخرى أنه يعاقب المنافقين الذين لا يوفون بعهودهم مع الله عز وجل بنفاق مستمر في قلوبهم إلى يوم لقائهم، وهذا حسب سنته سبحانه وتعالى في تأثير الأعمال على النفوس، وأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكن النفاق ويقويه القلب (1).
ـ قال تعالى: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ" (التوبة، آية: 75 ـ 77).
ثم قال سبحانه وتعالى مبيناً أنه لا يهدي هؤلاء المنافقين، لأن سنته سبحانه وتعالى جرت في الممعنين في فسوقهم، وتمردهم المصرين على نفاقهم الذين أحاطت بهم خطاياهم أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان والهداية (2)، قال تعالى: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة، آية: 80).
10 ـ الجحود:
ومن الأسباب التي رتب الله عز وجل عليها الضلال حسب سنته سبحانه وتعالى في الهداية والضلال: الجحود والذي يعني الإنكار مع العلم (3).
__________
(1) روح المعاني (10/ 144)، تفسير المتار (10/ 648).
(2) تفسير المنار (10/ 657)، السنن الإلهية (1/ 150).
(3) الصحاح (2/ 451) للجوهري.(1/156)
ـ قال تعالى: "وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي مَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون" (الأحقاف، آية: 26).
" إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ": بمنزلة التعليل لسلبه إياهم ما أنعم عليهم به من السمع والبصر والعقل، حتى وقعوا في الضلال (1).
ـ قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ" (العنكبوت، آية: 47).
ـ وقال تعالى: "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ" (العنكبوت، آية: 48 ـ 49).
ـ وقال تعالى: "وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ" (لقمان، آية: 32).
والختار: الذي هو في غاية الغدر، والكفور: الذي لا يشكر نعمة الله، بل يجحدها (2).
ـ وقال تعالى: "وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" (هود، آية: 59).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 151).
(2) تفسير القرطبي (6/ 5162 ـ 5163).(1/157)
ـ وقال تعالى: "وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ* فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" (النمل، آية: 12 ـ 14).
ـ قال تعالى: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ" (الأنعام، آية: 33).
وإذا كان مصير الجاحدين بآيات الله في الدنيا الضلال والغواية فإن مصيرهم في الآخرة الحسرة والندم، إذ يكونون من أصحاب النار (1).
ـ قال تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ" (الأعراف، آية: 50 ـ 51).
11 ـ التأبي والعناد والتعنت:
فالتأبي عن الإيمان، وعصيان أوامر الله يؤديان لصاحبهما إلى الضلال، قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى" (طه، آية: 56).
وأما العناد فحالة نفسية تدفع بصاحبها إلى التأبي عن الانصياع للحق على سبيل المكابرة دون أن تكون لديه مبررات بذلك، حتى ولو كانت مبررات زائفة أو باطلة (2).
__________
(1) السنن الإلهية في الحياة الإجتماعية (1/ 157).
(2) السنن الإلهية (1/ 157).(1/158)
ـ قال سبحانه وتعالى مبيناً أن العناد مانع عن الهدى وسبب في الضلال: "كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا" (المدثر، آية: 16).
وقال مبيناً على الضلال ومصوراً شدة عناد الضالين.
ـ وقال تعالى: "وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ" (الحجر، آية: 14 ـ 15).
ـ وقال سبحانه وتعالى عنه: "وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ" (الأنعام، آية: 7)، وقد بلغ العناد من كفر قريش غايته، حين قالوا: "اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (الأنفال، آية: 32).
وأما مثال التعنت ما كان من كفار قريش عندما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية من ست آيات اقترحوها، ولو عقلوا لأدركوا أن في القرآن وفي الكون أضعافاً مضاعفة عن هذا العدد أو هذه الآيات التي طلبوها (1)، قال تعالى حاكياً قول كفار قريش: "وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً" (الإسراء، آية: 90 ـ 93).
__________
(1) تفسير الطبري (15/ 159 ـ 166).(1/159)
12 ـ الكبر: من أسباب الضلال طبقاً لسنته سبحانه وتعالى في الهداية والإضلال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" (1).
وقال النووي الكبر هو الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق (2).
وقد وردت الآيات في ذم الكبر والمتكبرين وهو سبب الضلال والإضلال (3).
قال سبحانه وتعالى عن الكفار: "إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ" (الصافات، آية: 35)، أي: يتعظمون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون.
ـ وقال تعالى: "إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ" (النحل، آية: 22).
وقال عن ضلال اليهود بسبب كبرهم: "أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ" (البقرة، آية: 87).
وقال عن كبر كفار قريش وامتناعهم لذلك عن الإيمان، كسابقيهم: "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا" (الفرقان، آية: 21).
__________
(1) مسلم، ك الإيمان، باب تحريم الكبر (1/ 93).
(2) صحيح مسلم شرح النووي (2/ 91).
(3) السنن الإلهية (1/ 160).(1/160)
وأما قوم نوح فقد وصفهم نبيهم عليه السلام كما حكى القرآن ذلك: "وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا" (نوح، آية: 7)، فقوله: " جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ" لئلا يسمعوا صوتي " وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ" أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني، وقيل جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي فيكون استغشاء الثياب على هذا النحو زيادة في سد الأذان (1).
ـ وقال تعالى: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (لقمان، آية: 7).
ـ وقال تعالى: " يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا" (الجاثية، آية: 8).
ـ وقال تعالى: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ" (المنافقون، آية: 5).
وإذا كان المتكبر يدفعه كبره ألا يسمع آيات الله، وإذا سمعها فلا ينظر فيها ولا يتدبرها، ولا ينقاد إلى ما تدعو إليه من الهدى، فإن ذلك يستتبع نتائجه في عقله وغيبه، وذلك بصرف الله إياه عن الإنتفاع بآياته سواء الكونية أو السمعية (2).
ـ قال تعالى: " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ" (الأعراف، آية: 146).
__________
(1) فتح الغدير (5/ 297)، السنن الإلهية (1/ 164).
(2) روح المعاني (9/ 60).(1/161)
ويعاقبه كذلك بالطبع على قلبه حتى يصير ذلك سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارقه ويغطي على قلبه ويستوثق منه فلا يدخله شئ من الهدى (1)، قال تعالى: " كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر، آية: 35).
13 ـ حب الدنيا والاغترار بها واتخاذها لهواً:
إن من أسباب الضلال شعور الإنسان إن هذه الحياة الدنيا مصادفة عمياء وأن الوجود بها ليس له هدف، قال سبحانه وتعالى رداً على من كان ذلك معتقدهم: " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون، آية: 115).
ـ وقال تعالى: " كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ" (القيامة، آية: 20 ـ 21).
وقال الله عز وجل: " اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ" (إبراهيم، آية: 2 ـ 3).
ـ وقال تعالى: " فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (النجم، آية: 29).
ـ وقال تعالى: " وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ" (يونس، آية: 88).
ـ وقال سبحانه وتعالى مسجلاً عى الكافرين بسبب غرورهم بالدنيا: " ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا" (الجاثية، آية: 35).
__________
(1) شفاء العليل صـ198، 199، السنن الإلهية (1/ 165).(1/162)
ثم إن حبهم لهذه الدنيا يدفعهم إلى الإنغماس في شهواتها ومنها إلى حد الترف الذي من طبيعته، أنه يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتستجيب وتستجيب (1).
فقال تعالى مبيناً أن المترفين اتبعوا ترفهم وكفروا بما أرسل به المرسلون: "فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ" (هود، آية: 116).
ـ وقال تعالى ذكره: " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ" (سبأ، آية: 34).
14 ـ أتباع الهوى:
والمقصود بالهوى ميل النفس للشهوة (2)
لقد جرت سنة الله تعالى في الهداية والإضلال أن يكون أتباع الهوى سبباً من أسباب الضلال.
ـ قال تعالى: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (القصص، آية: 50).
ـ وقال سبحانه:" وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ" (الأنعام، آية: 119).
ـ وقال سبحانه:" وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص، آية: 26).
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 6467).
(2) ذم الهوى لابن الجوزي صـ12.(1/163)
ـ وقال عز وجل:" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" (الجاثية، آية: 23).
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حيث تترك الأصل الثابت وتتبع الهوى المتقلب، حين تتعبد هواها وتخضع له، وتجعله مصدراً لتصوراتها، وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتقيمه إلهاً قاهراً لها مسؤولاً عليها، تتلقى إشارته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول، يرسم هذه الصورة ويعجب منها في استنكار شديد " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ"؟ أفرأيت إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب، وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض" وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ" على علم من الله باستحقاقه للضلالة، أو على علم منه بالحق لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع، وهذا يقتضي إضلال الله له، والإملاء له عمياه " وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً" فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور، وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعته للهوى، طاعة العباد والتسليم " فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ" والهدى هدى، وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة، فذلك من شأن الله الذي لا يشاركه فيه أحد، حتى رسله المختارون، " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" ومن تذكر صحا وتنبه وتخلص من ربقة الهوى، وعاد إلى النهج الثابت الواضح، الذي لا يضل سالكوه (1).
وهذه السنة سنة الله في إضلال من اتبع هواه تحققت في أقوام سابقة وستمضي دائماً في كل قوم يتبعون أهوائهم ويحيدون عن الحق (2).
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 3230 ـ 3231).
(2) السنن الإلهية (1/ 171).(1/164)
ـ قال تعالى:" فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ" (القصص، آية: 44).
ـ وقال تعالى:" وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" (النازعات، آية: 40 ـ 41).
وقد حذر الله عز وجل نبيه داود عليه السلام من أن يؤثر هواه في قضائه بين الناس على الحق والعدل فيه فيكون نتيجة ذلك ميله عن طريق الله الذي جعله الله عز وجل لأهل الإيمان به، فيكون من الهالكين بضلاله عن سبيل الله، قال تعالى:" يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص، آية: 26).
وقال تعالى محذراً خاتم الأنبياء والمرسلين من طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره، واتبع هواه المتقلب وآثره على الحق.
ـ قال تعالى:" وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" (الكهف، آية: 28).
ومن المواطن التي حذر الله عز وجل عباده من اتباع الهوى فيها ما جاء في قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء، آية: 135).(1/165)
ـ وقال تعالى:" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْعَن سَوَاء السَّبِيلِ" (المائدة، آية: 77).
ـ وقال تعالى مبيناً عدم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم للهوى تجنباً لما يستتبعه الهوى من الضلال:" قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" (الأنعام، آية: 56).
ـ وقال تعالى:" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الأعراف، آية: 175 ـ 176).
وهكذا يتبين لنا بجلاء أهمية الهوى، وإن الوقوع في ذلك وقوع في الضلال وبالتالي الوقوع في الفساد الشامل للسماء والأرض ومن فيهم كما قال تعالى:" وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" (المؤمنون، آية: 71).(1/166)
فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة، وبالحق الواحد يدبر الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة، ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى والحب والبغض والرغبة والرهبة والنشاط والخمول وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات، وبناء الكون وبما فيه الإنسان يحتاج إلى الثبات والاستقرار والاطراد على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد (1).
15 ـ الاستهزاء بآيات الله ورسله والمؤمنين:
ـ قال تعالى:" ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا" (الكهف، آية: 106).
ـ وقال تعالى:" وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا" (الفرقان، آية: 41).
ـ وقال تعالى:" إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ" (المؤمنون، آية: 109 ـ 110).
وهكذا فإن الاستهزاء بآيات الله ورسله والمؤمنون، يشغل صاحبه عن التدبر والتفكر في دلائل الإيمان التي في الوجود، وفي دلائل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشغله أيضاً عن الاعتبار بما أثر الإيمان في نفوس أصحابه وحالهم وسلوكهم وإن ذلك الاستهزاء أيضاً يباعد بينه وبين صاحبه عن كل الدلائل والبينات ولا شك أن ذلك كله يسلمه إلى الضلال والغي (2).
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2475).
(2) السنن الإلهية (1/ 178)، في ظلال القرآن (4/ 2482).(1/167)
16 ـ الكفر:
بين سبحانه وتعالى في غير ما آية وإن سنته في الكافرين هي أن يعاقبهم بالإضلال وعدم الهداية، وقد جاء التعبير عن كفرهم هذا بالظلم تارة، وبالفسق تارة أخرى، وبالتكذيب ثالثة، وبالإجرام رابعة، ليضيف كل لفظ من هذه الألفاظ معنى آخر، بالإضافة إلى معنى الكفر، وقد جاء بيان جزائهم في أكثر من سياق سواء في الكفر أو الفسق أو الظلم، ليكشف أيضاً علل ذلك الكفر، وصفات الذين حكم عليهم بالكفر أو الفسق أو الظلم وعدم الهداية لهم، ومن خلال تتبع الآيات التي جعلت الظلم والفسق والكفر والإجرام سبباً في الضلال وعدم الهداية، وتبين أن المقصود بمعظمها الشرك وعدم الإيمان بالله وما يترتب عليه، وجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتكذيب بها، وإن كان لكل لفظ من هذه الألفاظ له معناه الذي يختص في الأصل والوضع (1).
أ ـ الفسق: والفسق يقع على كثير الذنب وقليله، ولكنه تعورف بالكثير أكثر، ومن وجوه ورود الفسق في القرآن في الكفر وترك التوحيد، فالكافر فاسق لاخلاله بما ألزمه العقل واقتضته الفطرة السليمة (2)، قال تعالى: " وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور، آية: 55).
ومن الآيات التي بينت سنة الله في إضلال هذا الصنف من الناس والذي يجمع بينهم الكفر قوله سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ" (البقرة، آية: 26).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 180).
(2) المصدر نفسه (1/ 180).(1/168)
ـ وقال سبحانه وتعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة، آية: 24).
المعنى: قد مضت سنة الله تعالى في القوم الفاسقين المارقين من الدين بعد معرفتهم، كالمنافقين أن يكونوا محرومين من الهداية الفطرية التي يعرفها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، فلا يعرفون ما فيه مصلحتهم وسعادتهم من أتباعه فيؤثرون حب القرابة والمنفعة العارضة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد المفروض في سبيله (1).
وقال سبحانه وتعالى في حق المنافقين وهم كافرون عن الحقيقة: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة، آية: 80).
أي جرت سنة الله في الراسخين في فسوقهم وتمردهم، المصرين على نفاقهم الذي أحاطت بهم خطاياهم أن يفقدوا الاستعداد للهداية، والله عز وجل لذلك لا يهديهم، عقوبة منه لأنهم لا يستحقونها (2).
وأما ترتيب عدم الهداية بسبب الظلم: فقد ورد في آيات كثيرة، منها:
ـ قوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الأحقاف، آية: 10).
__________
(1) تفسير المنار (10/ 236).
(2) تفسير المنار (10/ 567)، السنن الإلهية (1/ 182).(1/169)
فحرمهم الله سبحانه الهداية لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان، ومن فقد هداية الله ضل (1).
ـ وقال تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (الجمعة، آية: 5).
ـ وقال تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (التوبة، آية: 19).
ـ وقال سبحانه وتعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة، آية: 258).
فالله عز وجل من سنته أن لا يهدي الذي ظلم نفسه بالامتناع عن قبول الهداية، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق، ويستسلم للطاغوت، ويترك ما أعطاه الله من الفهم، إتباعاً لهواه وشهوته، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضل ضلالاً بعيداً (2).
ومن الآيات التي جاءت تبين أن الكفر سبب في تحقق الله في الإضلال:
__________
(1) فتح القدير (5/ 16)، السنن الإلهية (1/ 182).
(2) تفسير البيضاوي (1/ 73)، تفسير المراغي (3/ 27).(1/170)
قوله سبحانه: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (التوبة، آية 37).
ـ وقال سبحانه وتعالى: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (المائدة، آية: 67).
ـ وقال تعالى: "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ" (الزمر، آية: 3).
ـ وقال سبحانه وتعالى مبيناً أن التكذيب بآيات الله سبب في الضلال: " وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ" (يونس، آية: 95 ـ 96).
وقال سبحانه وتعالى مبيناً أن الإجرام سبب في الضلال، وسبب في حلول سنة الله فيمن هذه صفته (1) " وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ *لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ" (الحجر، آية: 11 ـ 13).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 187).(1/171)
17 ـ الغلو في الأنبياء والصالحين:
إن الإفراط والغلو في تعظيم الأنبياء والصالحين بالقول والاعتقاد والفعل وتجاوز الحد والحق في منزلتهم التي أنزلهم الله إياها من إدعاء الألوهية لهم أو صرف شئ من العبادة ـ لا تنبغي إلا لله ـ لهم مثل التشريع والذبح والتضرع والدعاء إلى غير ذلك من أنواع العبادات سبب في الضلال (1).
فأما عن ضلال اليهود والنصارى بسبب غلوهم، فقد قال تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة، آية: 30 ـ 31).
ـ وقال سبحانه وتعالى عن غلو النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (النساء، آية: 171).
__________
(1) السنن الإلهية (1/ 195).(1/172)
18 ـ صحبة السواء والبيئة الفاسدة:
بين سبحانه وتعالى أن الصاحب السوء قد يكون سبباً في ضلال صاحبه، قال تعالى: "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا" (الفرقان، آية: 27 ـ 29).
ويصور القرآن الكريم جانباً من وسوسة صاحب السوء لصاحبه بقوله: " يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ" على سبيل الاستهجان والاستبعاد للبعث والحساب، ثم يبين أنه لولا فضل الله على ذلك الصاحب وعدم استجابته له لكان هو وإياه في سواء الجحيم (1).
ـ قال تعالى: "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ" (الصافات، آية: 50 ـ 57)، فمخالطة أهل السوء ومصاحبتهم ضلال، أو سبيل إليه، ومقاربة منه (2).
19 ـ التشبه بالضالين:
حذر القرآن الكريم بالتشبه باليهود والنصارى وسائر الكفرة لأن هذا التشبه يؤدي إلى الضلال، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا" (الأحزاب، آية: 69).
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2987 ـ 2988).
(2) السنن الإلهية (1/ 200).(1/173)
ـ وقال تعالى: " وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (آل عمران، آية: 105).
ـ وقال تعالى: " وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" (الأنفال، آية: 47).
وكل ما ورد في القرآن من قصص اليهود أو النصارى، أو سائر الكفرة من الملل الأخرى في بيان معاصيهم وأخلاقهم ومعتقداتهم الباطلة، فيه عبرة لنا حتى لا نتشبه بهم فنضل كما ضلوا (1)
20 ـ الابتداع في الدين:
البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقتصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية (2).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية صـ 17.
(2) الاعتصام للشاطبي (1/ 37).(1/174)
قال صلى الله عليه وسلم: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (1)، فقوله: كل بدعة ضلالة: هو من جوامع الكلم لا يخرج عنه شئ، وهو أصل عظيم من أصول الدين وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (2) فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة (3). وعن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا وعضوا عليه بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (4)
__________
(1) مسلم، ك الجمعة (2/ 591).
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (5/ 301).
(3) جامع العلوم والحكم صـ 233.
(4) سنن أبي داود (5/ 13 ـ 15).(1/175)
ودوافع البدعة كما ذكر الشاطبي رحمه الله هي: الجهل، حسن الظن بالعقل، واتباع الهدى، وكل ذلك من خطط الضلال وأسبابه والعياذ بالله، فالإحداث في الشريعة، إنما يقع إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحق بحسب الاستقراء في الكتاب والسنة .. إلا أن الجهات الثلاثة قد تنفرد وقد تجتمع، فإذا اجتمعت فتارة تتعلق بالأدوات التي تفهم بها المقاصد وهي اللغة العربية، فإن الله أنزل القرآن بلفظ عربي ولا يستخرج أحكامه ويعرف مقاصده إلا من كان على علم باللغة وأصولها، وتارة تتعلق بالمقاصد، وذلك بالجهل أن الله أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وتبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله حتى كمل الدين بشهادة الله بذلك حيث قال تعالى:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" (المائدة، آية: 3).
فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء فقد كذب بقوله:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ".
وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرك، وتارة يقدم عليه، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد، وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل (1). من هنا يتبين أن الابتداع في الدين وعدم اتباع هدى الله سبحانه وتعالى سبب من أسباب الضلال (2).
__________
(1) الاعتصام (2/ 293) بتصرف.
(2) السنن الإلهية (1/ 207).(1/176)
المبحث السادس: سنة الله في الأخذ بالأسباب:
إن الإيمان بالقدر لا يعارض الأخذ بالأسباب المشروعة، بل الأسباب مقدَّرة أيضاً كالمسببات، فمن زعم أن الله تعالى قدّر النتائج و المسببات من غير مقدماتها وأسبابها، فقد ذهل عن حقيقة القدر، وأعظم على الله الغرية، فالأسباب مقدّرة كالمسببات (1)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرّقي، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله (2)، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت قائمة على الأخذ بالأسباب وسيرته تشهد بأنه كان يتخذ كل الوسائل والتدابير وأسباب العمل (3).
إن سنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً بالله وقضائه وقدره وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد قاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم، وقاوم المرضى بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد وكان يستعيد بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل (4).
__________
(1) منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة (1/ 428).
(2) سنن ابن ماجة (2/ 1137)، رقم 3437 حسن صحيح.
(3) العقيدة الإسلامية، د. أحمد جلي صـ 391.
(4) رواه ابن حبان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضميري.(1/177)
وقال: وفر من المجذوم فرارك من الأسد (1)، وما غزواته المظفرة صلى الله عليه وسلم إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذ الحذر وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، أعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه وغير ذلك الطريق، واختبأ في الغار (2)، وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين.
وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى وفهموا أن الإيمان بالقدر لا يعني ترك الأخذ بالأسباب ولهذا أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، وفهموا أن الإيمان بالقدر لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، ولهذا أنكر عمر عن أبي عبيدة رضي الله عنهما ربطه القدر بعدم الإخذ بالأسباب، كما ورد في قصة طاعون عمواس الشهير، فحين همّ عمر بالرجوع إلى المدينة في حدود الشام، قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فدهش عمر لهذا الاعتراض وقال لأبي عبيدة: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم أردف قائلاً: أرأيت لو كان إبل هبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصيبة والأخرى جديبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله (3).
__________
(1) البخاري ك الطب باب 19 (5/ 5380).
(2) عقيدة التوحيد سعاد ميبر صـ 212.
(3) البخاري، ك الطب رقم 5729.(1/178)
فعمر وأبو عبيدة يعلمان أنّ القدر علم الله السابق بما يحدث غير أن عمر كان يرى أنّ قدر الله لا دخل له في موضوع ربط الأسباب بالمسببات، فالذهاب إلى الشام مع وجود الطاعون يتسبب عنه الموت والرجوع أخذ بالأسباب للنجاة من الطاعون، ولهذا أنكر عمر على أبي عبيدة أن يعترض عليه قائلاً له: لو غيرك يا أباعبيدة، ولم يكتف بذلك، بل شرح رأيه بأن الذهاب إلى الشام ذهاب بقدر الله، والرجوع إلى المدينة رجوع بقدر الله، أي بعلم الله، مما يدل على أن القدر لا يصح أن يربط بالإقدام على الأعمال أو الإحجام عنها، ولا يصح أن يترك الأخذ بالأسباب بحجة القدر (1).
ولهذا يذهب ابن القيم إلى: أن الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر إليها، وأنه لا دين إلا بذلك كما لا حقيقة إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها "أي الأسباب" لا على محوها، ولا ننكر الوقوف معها، فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم، لا يتم إسلامه وإيمانه إلآ بذلك "الإيمان"، وبالأسباب عرف الله وبها عبد الله، وبها أطيع الله وبها تقرب إليه المتقربون، وبه نال أولياؤه رضاه، وجواره في جنته، وبها نصر حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه، وبها إنقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها، والالتفاف إليها، والنظر إليها، هو الواجب شرعاً، كما هو الواقع قدراً (2).
إن قدر اللله حق وقدر الله نافذ، ولكنه ينفذ من خلال السنن التي أقام الله عليها نظام الكون، من خلال الأسباب التي خلقها سبحانه وشرعها، وليستقيم عليها أمر الوجود ونظام التكليف، فهذه السنن والأسباب جزء لا يتجزأ من قدر الله الشامل المحيط (3).
__________
(1) العقيدة الإسلامية، د. أحمد جلي صـ 391.
(2) مدارج السالكين لابن القيم (3/ 407 ـ 408).
(3) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 51.(1/179)
أولاً: الأخذ بالأسباب في القرآن الكريم:
القرآن الكريم حافل بالآيات التي توجب على المسلمين الأخذ بالأسباب في شتى مناحي الحياة والعمل على استقصاء تلك الاسباب للوصول إلى المراد، خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه الأمم والأفراد، ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد (1).
1ـ قوله تعالى:" وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" (الأنفال، آية: 60).
إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل وقد قال الأصوليون: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (2).
وفي قوله:" مَّا اسْتَطَعْتُم" قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا يقعد المسلمون عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقاتها (3)، والمراد بالقوة هنا: ما يكون سبباً لحصول القوة ولهذا:
__________
(1) السنن الإلهية في الأمم والأفراد د. مجدي عاشور صـ 61.
(2) في ظلال القرآن (2/ 919).
(3) فقه النصر والتمكين للصلّابي صـ 221.(1/180)
ـ قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما تتقوى به على حرب العدو وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثاً (1). وهذا لا ينفي كون غير الرمي معتبراً كما قوله: الحج عرفة (2). وقوله: الدين النصيحة (3). لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا (4). كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة "قوة" هنا نكرة لا معرفة فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيعرف مع الزمن المتجدد فهي تتسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات .. وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة (5)، وتدخل القوة الاقتصادية، والسياسية، والأمنية والإعلامية، .. الخ ومعنى"رِّبَاطِ الْخَيْلِ": هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى (6).
ومعنى " وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ" قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين، وذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال جل شأنه " تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ" ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك يفيد أمور كثيرة:
ـ أنهم لا يتجرأون على دخول دار الإسلام.
ـ أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم بإحترام المسلمين والاستجابة لطلباتهم.
ـ أنه ربما صار ذلك داعياً إلى الإيمان لما يرون من قوة أهله وعزتهم.
ـ أنهم لا يعينون سائر الكفار.
__________
(1) مسلم مع شرح النووي (13/ 64).
(2) مسلم، ك الإيمان (1/ 74).
(3) المصدر نفسه.
(4) تفسير المنار (5/ 53).
(5) التمكين للأمة الإسلامية صـ 89 محمد السيد يوسف.
(6) تفسير النسفي نقلاً عن فقه النصر والتمكين صـ 221.(1/181)
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصّلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاماً عالمياً وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد، ويقابلوا الريح بالإعصار ويقابلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه وبكل ما امتدت إليه يدهم، وبكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في هذا العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون (1).
إن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مصاعد المجد، أن تجاهد بمالها ونفسها الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مراراً عديدة، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف (2).
__________
(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي صـ 225.
(2) لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم، شكيب أرسلان صـ 164.(1/182)
إن إعداد القوة يستدعي إنفاقاً، وقد تكفل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه، قال تعالى: "وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" (الأنفال، آية: 60)، وقد جاء التحذير من عدم الإنفاق في سبيل الله، مع بيان أن ذلك سبب للأهلاك والمذلة، وذلك في قوله تعالى: "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة، آية: 195)، أي: إذ لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتم أنفسكم، ففي الآية: النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك (1)، وقد بين أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه سبب نزول هذه الآية، فعن أسلم بن عمران قال: كنا بمدينة الروم "القسطنطينية" فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيه فصاح الناس وقالوا: سبحان، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل: وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار، لما أعزَّ الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرَّاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: " وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة، آية: 195)، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو (2).
__________
(1) الكشاف للزمخشري (1/ 343).
(2) سنن الترمذي (5/ 212) حسن صحيح غريب.(1/183)
وعموم الآية يقتضي الإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوي به المسلمون على عدوهم والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده (1)
إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين، سنة الأخذ بالأسباب ولذلك يجب على أفراد الأمة وقادتها العاملين للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
إن الله عز وجل أمرنا بالإعداد الشامل في قوله:"وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ"، وإعداد القوة في حقيقته الأخذ بالأسباب الشاملة، كقوة العقيدة والإيمان، وقوة الصف والتلاحم، وقوة السلاح والساعد، إن الآية الكريمة تضع إذهان المسلمين على الإعداد الشامل المعنوي والمادي، والعلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات وتدخل في طياتها الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي والسياسي والأمني والعسكري (2).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 164.
(2) فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم صـ 214.(1/184)
2ـ قال تعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" (الكهف، آية: 83 ـ 98).(1/185)
فقد وازن ذو القرنين بين الأسباب التي أتاحها الله له واتبعها واستقصاها، حتى إن القرآن يلح على ذلك ويبينه ويكرر التزامه في العمل بالأسباب، وذلك في مواضع ثلاثة من الآيات التي أشرنا إليها حيث يقول "فَأَتْبَعَ سَبَبًا" (الكهف، آية: 85) وبعدها يكرر:"ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا" (الكهف، آية: 89 ـ 92)، وقرن ذو القرنين بما انطوى عليه من أسباب معنوية، وما كان عليه من إيمان وتقوى وعمل صالح في قوله:"هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" (الكهف، آية: 98)، فاجتمعت له الأسباب الظاهرة والباطنة فكان له التمكين والغلبة ونفع الناس وإعانتهم (1).
وذو القرنين علم قرآني بارز، خلّد الله ذكره في كتابه الخالد، إنه الرجل الطواف في الأرض، الصالح العادل الخاشع لربه والمنفذ لأمره، والقائم بين الناس بالإصلاح، والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها، فلم يغره مال ولا منصب، ولا جاه ولا قوة ولا سلطان، بل إنه بقي ذاكراً لفضل ربه ورحمته، متأهباً لليوم الآخر ليلقى جزاءه العادل عند ربه ويكفي أن يبقى ذو القرنين تلك الشخصية العظيمة في التاريخ، وذلك العلم البارز في العدل والإصلاح والقيادة، ومثال الحاكم الصالح على مر التاريخ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بشهادة الكتاب الخالد (2).
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
ـ الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخرلتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد، وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 167.
(2) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان صـ 247 ـ 249.(1/186)
ـ الرجال الاشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين، وكذلك خضوع الأقاليم له فتح الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية، كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية، بل بقي مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا.
ـ الاهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سبباً فأتبع سبباً.
الأسباب التي اتخذها ذو القرنين للتمكين لدين الله عز وجل:
أ ـ الدستور العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته ولذلك ساق الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل، فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش، وإنما عملهم بهذا المنهج الرباني، قال تعالى: "قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" (الكهف، آية: 87: 88).
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه، وعلى فطنته وذكائه، وعلى عدله ورحمته، لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم، ليسوا على مستوى واحد، ولا على صفات واحدة، ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعاً معاملة واحدة، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم الصالح، ومنهم الطالح، فهل يستوون في المعاملة؟ ذو القرنين: أما الظالم الكافر وسوف نعذبه لظلمه وكفره، وهذا التعذيب عقوبة له، فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا، ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.(1/187)
إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذّب مرتين، مرة في الدنيا على يديه، والأخرى يوم القيامة، حيث يعذبه الله عذاباً نكراً، أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين يجزيه الجزاء الحسن، ويكافئه المكافأة الطيبة ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودَّة (1).
لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس هو التقوى والإيمان والعمل الصالح ودائماً يتطلع إلى مقامات الإحسان.
ب ـ المنهج التربوي للشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجاً أساسياً، وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى (2).
وهذا دستور الحاكم الصالح، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير، والجزاء الحسن عند الحاكم والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسناً أو مكاناً كريماً وعوناً وتيسيراً، ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة، عندئذ يجدون ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج، أما حين يضطرب ميزان الحكم، فإذا المعتدون المفسدون ومقربون إلى الحاكم، مقدمون في الدولة، وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذ، تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة فساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد (3).
__________
(1) مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (2/ 330 ـ 331).
(2) فقه النصر والتمكين للصلابي صـ 142.
(3) في ظلال القرآن (4/ 922).(1/188)
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعات هدية للمحسن ليزداد في إحسانه وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده، حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حد وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان (1).
جـ ـ الإهتمام بالعلوم المادية والمعنوية وتوظيفها في الخير:
قال تعالى:"إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" إنه شخص مكن له رب السماوات والأرض الخالق المدبر المتصرف في شؤون الكون، رب العزة والجبروت مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض.
ـ مكن له في العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعوداً وهبوطاً.
ـ مكن له في سياسة النفوس أفراداً وجماعات تهذيباً وتربية وانتظاماً.
ـ مكن له في أسباب القوة من الاسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر.
ـ مكن له في أسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنما الزراعة.
ومهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين الحسنة التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى:"إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا"، ويبقى للتصور مجال وللخيال سعة لاستشفاف صورة هذا التمكن وأشكاله، وذلك من خلال المؤكدات العدة التي وردت في الآية الكريمة (2).
ونلاحظ من خلال الآيات أن ذا القرنين وظف علوماً عدة في دولته القوية ومن
__________
(1) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 624).
(2) مباحث في التفسير الموضوعي د. مصطفى مسلم صـ 304.(1/189)
أهم هذه العلوم:
ـ علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها، وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولا يخلو الأمر أن يكون في جيشه متخصص في هذا المجال (1).
ـ كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما اتيح له:"آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" (الكهف، آية: 96).
أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فأتوه إياها، فأخذ يبني شيئاً فشيئاً حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساوياً لهما في العلو ثم قال للعمال: انفخوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين (2). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة، قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: أتوني نحاساً مذاباً أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثاً في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته (3).
__________
(1) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 624).
(2) روح المعاني للالوسي (16/ 40).
(3) فتح القدير (3/ 313).(1/190)
ـ كان واقعياً في قياسه للأمور وتدبيره لها فقد قدّر حجم الخطر، وقدّر ما يحتاج إليه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهاراً لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القوم المفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين:"فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا" (الكهف، آية: 97)، أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملامسته، وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته (1).
لقد كان ذو القرنين على علم باخبار الغيب التي جاءت بها الشرائع، ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكئة لتبرير القعود والهوان، فقد بنى السد وبذل فيه الجهد، مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله (2).
س ـ فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته:
ـ الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس ووجد عندها قوماً، فدعاهم إلى الله تعالى، وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح.
قال تعالى:"أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" (الكهف، آية: 87 ـ 88).
__________
(1) فتح القدير للشوكاني (3/ 313).
(2) فقه النصر والتمكين للصلابي صـ 144.(1/191)
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين، وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم، فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم، ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره، أما المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ـ الرحلة الثانية:
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق، ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة، إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عند شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة، وذهب الشيخ محمد متولي الشعرواي إلى أن المقصود بقوله تعالى:"لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا" (الكهف، آية: 90)، هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن (1).
ونظراً لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل (2).
__________
(1) القصص القرآني من سورة الكهف صـ 87.
(2) مباحث في التفسير الموضوعي مصطفى مسلم صـ 306.(1/192)
ـ الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وكان المنطقة، ومن حيث الأعمال التي قام بها، فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين، بل قام بعمل عمراني هائل، أما الأرض فوعرة المسالك، وأما السكان ـ وكأن وعورة الأرض قد أثرت في طبائعهم، وطريقة تخاطبهم مع غيرهم ـ ففي التفاهم والمخاطبة لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه، ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه:"وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا" (الكهف، آية: 93).
ونلاحظ من خلال السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
ـ هم قوم متخلفون "لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا" ,هذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى، لأنهم لم يطلعوا عليها ولم يتعلموها، فهم منغلقون على لغتهم فقط. وإمّا معناه: إن الكلام لا ينفع معهم، لأنهم لا يفقهون، ولا يتفاعلون معه، ولا يتفاهمون مع قائله، لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم، أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
ـ هم قوم ضعفاء: ولذلك عجزوا عن صدّ هجمات يأجوج وماجوج والوقوف في وجههم، ومنع أفسادهم.
هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم، ومقاومة المعتدين ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية، قوة ذي القرنين، حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.(1/193)
ـ هم قوم اتكاليون كسالى: لا يريدون أن يبذلوا جهداً ولا أن يقوموا بعمل، ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين، وأوكلوا إليها حقها، أما هم فمستعدون لدفع المال له (1).لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة، فكان يدير العمل بروح الجماعة ويشترك بنفسه مع إشراك غيره، ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماسة والحيوية والتعاون المشترك (2)، قال تعالى:"مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" (الكهف، آية: 95 ـ 96).
لقد كان ذو القرنين حريصاً على مصلحة الناس، ناصحاً لهم فيما يعود عليهم بالنفع، ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية، لما في ذلك من تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم (3)، ومن نصحه وإخلاصه لهم، أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون، فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سداً، أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردماً، والردم هو الحاجز الحصين، والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق، فوعدهم بفوق ما يرجعون (4).
لقد عفّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في تعليمهم النشاط والعمل، والكسب، والسعي، فقال لهم:"فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" (الكهف، آية: 95).
__________
(1) مع قصص السابقين للخالدي (2/ 338).
(2) الحاكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 627).
(3) أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/ 243).
(4) روح المعاني (16/ 40).(1/194)
إن في هذه العبارة القرآنية معلماً بارزاً في تضافر الجهود، وتوحيد الطاقات، والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجيهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية، ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات، وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن امتنا الإسلامية ملأى بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة والأموال المهدرة والأوقات المبّددة، والشباب الحيارى وهي تنتظر من قيادتها في كافة الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف (1)، "فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين، لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم، ثم يهاجم ويهزمهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم، ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
ولم يأت ذو القرنين بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات، ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يبنون السد بأيديهم، وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
__________
(1) مع قصص السابقين (2/ 342).(1/195)
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين، وهذا يلفتنا إلى أن عطاء الله سبحانه وتعالى، عطاء إمكانات، وعطاء ذاتي في النفس .. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل، والعطاء الذاتي في النفس: هو القوة الذاتية داخلك التي تعطيك طاقة العمل، وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس .. لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة، وأنه لا يستخدمها وأن لديه قوة تحمّل بإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر .. وأن يعمل أعمالاً كثيرة (1).
إن ذا القرنين لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين، إنما استعان بهؤلاء الضعفاء وطلب منهم أن يأتوا بالحديد، ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبلين، ثم قام بصهر الحديد، وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج، بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه، وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط، ليأخذوا الثقة في أنفسهم بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم، والإسلام ينهانا أن نعوّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجراً بلا عمل، لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع، فالإنسان متى تقاضى أجراً بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبداً (2).
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الأرض، فقوى المستضعفين وجعله قادراً على حماية أنفسهم من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد، ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين بل نقلهم إلى ساحة العاملين.
فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين، وصلوا إلى هدفهم المنشود، وغايتهم المطلوبة (3).
ونقف مع ذي القرنين بعد أن تمّ بناء السد:
__________
(1) القصص القرآني في سورة الكهف محمد متولي الشعراوي صـ 93.
(2) المصدر نفسه صـ 94.
(3) فقه النصر والتمكين صـ 150.(1/196)
ـ نظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه (1).
ـ ذكر ذي القرنين لربه عند انجاز عمله، يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه، فإن من أعظم صور الذكر، هي أن يذكر العبد ربه عند توفيقه في عمل، فيستشعر أن هذا بأمر ربه، فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
ـ كان بناء السد رحمة من الله تعالى، وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه، وتمكينه الذي مكنه الله له، استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم، منع العدوان عنهم، فكان علمه رحمة من ربه، وكان استخدامه له رحمة من ربه.
ـ كان القوم مهدّدين بيأجوج ومأجوج، معرضين لإفسادهم ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد، فكان السد رحمة من الله لهم، وكان خلاصاً لهم وإنقاذاً بإذن الله، فلو لم يتم عمل ولا جهد ولا حركة، لما انقذوا أنفسهم من الخطر، لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل وتكاتف الجهود والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية (2)
ـ "فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" (الكهف، آية: 98).
ع ـ قوله تعالى:"كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا": وقبل أن يكمل القرآن الحديث عن حروب ذي القرنين، وفتوحاته وقبل أن يتحدث عن مهمته في المنطقة الشمالية، توقف سياق القرآن ليقرر حقيقة أساسية وهي قوله:"كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا".
__________
(1) في ظلال القرآن (4/ 2293).
(2) مع قصص السابقين (2/ 350).(1/197)
أي أن الله سبحانه كان عالماً بأحوال ذي القرنين مطلعاً على حركاته، محيطاً بأخباره وأخبار جيشه، فما يسيرون خطوة إلا بإذن الله، ولا يتحركون حركة إلا بمشيئة الله، ولا يكسبون معركة أو يحتلون بلداً إلا والله عالم بهم مطلع عليهم، خبير بهم ونقف لنتساءل عن الحكمة عن ذكر حقيقة إحاطة الله بأخبار ذي القرنين وجيشه وعلمه بها أثناء حديثه عن فتوحاته؟ إن الحكمة التي قد تبدو لنا هي: حرص القرآن على ربط كل ما يحدث في الكون بإرادة الله ومشيئته وعلمه سبحانه حتى لا ينسى الناس هذه الحقيقة وهم يتابعون الأحداث وحتى لا يظنوا أن الناس يتحركون بها بقدراتهم الذاتية، بمعزل عن علم الله وإذنه، فها هو ذو القرنين قام بفتوحات عظيمة، في الجبهة الغربية ثم في الجبهة الشرقية وقام بإنجازات عظيمة في الجبهة الشمالية، لكن الله مطلع على أعماله، محيط بأخباره، عالم بإنجازاته وهو مقدّر لها ومريد لها سبحانه (1).
إن قصة ذي القرنين تدل على وجوب الأخذ بالأسباب وبيان أن ذلك ضروري للنهوض الحضاري للأمم، وقد قدم القرآن الكريم "ذا القرنين" أنموذجاً متجسداً لربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج واعتبر ذلك مقدمة لابد منها للنهوض والإنجاز الحضاري وبذلك لم يكتف القرآن بتأكيد موضوع السنن والأسباب نظرياً، لقد مكن الله له في الأرض فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم ويسّر له أسباب الحكم والفتح وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع، وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة "فَأَتْبَعَ سَبَبًا" (الكهف، آية: 85).
__________
(1) مع قصص السابقين في القرآن (2/ 325).(1/198)
إن قصة ذي القرنين من قصص القرآن التي يتمثل بها من الدلالة على القدرة الفائقة لأصحابها ومدى ما كانوا عليه من قوة وتمكين، ولكن بواسطة ما سنّة الله من أسباب في هذا الكون، ووسائل تؤدي إلى غاياتها المراد منها، لتمثل بذلك أنموذجاً لكل مسلم يريد أن يسلك في هذه الحياة على هدي من الفهم لسنن الله في الخلق، وليتقين كل أحد أن التمكين في الأرض والسعادة في الآخرة، إنما يتحصل بأسباب ووسائط سواء المادي منها والمعنوي، من ما تحقق به ذو القرنين (1).
ش ـ أخلاقه القيادية:
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:
ـ الصبر: كان جلداً صابراً على مشاق الرحلات، فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين، فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة، وإلى عقلية يقظة، وذكاء وقاد، وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك (2).
ـ مهابته: كانت له مهابة ونجابة يستشعرها من يراه لأول مرة، ولكنها ليست مهابة الملوك الظلمة الجبارين فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين، استأنسوا به، ووجدوا فيه مخلصاً من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسداً مثل المفسدين أو الظالمين، ومعه من القوة والعدة ما ليس لمثلهم (3).
__________
(1) السنن الإلهية في الأمم والأفراد د. مجدي محمد عاشور ص166.
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 624).
(3) المصدر السابق (2/ 624).(1/199)
ـ الشجاعة: كان قوي القلب جسوراً غير هياب من التبعات الضخمة والمسؤوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه، فإن ما طلب من إقامة السد كان عملاً عظيماً في ذاته، حيث أن القوم المفسدين كان من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر (1).
ـ التوازن في شخصيته: فلم تؤثر شجاعته على حكمته، ولم ينقص حزمه من رحمته، ولا حسمه من رفقه وعدالته، ولم تكن الدنيا كلها ـ وقد سخرت له ـ كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
ـ كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين، بل نسب الفضل إلى ربه (2) سبحانه وقال:"هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" (الكهف، آية: 98).
ـ العفة: كان مر تفعاً عن مال لا يحتاجه ومتاع لا ينفعه، فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين، عرضوا عليه الخراج، فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه (3).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 624).
(2) المصدر نفسه (2/ 627).
(3) الحكم والتحاكم (2/ 625).(1/200)
إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته ولا سلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار (1). وكذلك أكرمه الله بكثرة الاعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه، وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها (2)، وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض، فكل هذه الأمور لا تعطي لشخص عادي، ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ، إلا أن يكون مؤيداً من الله، ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين، ويدل على هذه العناية أيضاً ضمير العظمة في قوله:"وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" (الكهف، آية: 84)، أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه، فزوده بعلم منازل الأرض وأعلامها وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم فكان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم (3).
__________
(1) روح المعاني (16/ 30).
(2) البر المحيط (6/ 159).
(3) روح المعاني (16/ 31).(1/201)
لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سبباً، وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض، وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعوداً وهبوطاً، وفي سياسة النفوس أفراداً وجماعات تهذيباً وتربية وانتظاماً، وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر، وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة، وقيل: مهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض (1). يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى:"إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" (الكهف، آية: 84).
لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى واستعداده لليوم الآخر، ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب، وكان حريصاً على الأعمال الإصلاحية في كافة الاقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة في الارض شرقاً وغرباً، وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران (2).
3ـ الأسباب التي اتخذها داود عليه السلام للتمكين لدين الله:
قال تعالى:"فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة، آية: 251).
__________
(1) مباحث في التفسير الموضوعي صـ 304 مصطفى مسلم.
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 623).(1/202)
أكرم الله تعالى بقتل جالوت وبين القرآن الكريم أن داود عليه السلام كان مجاهداً في جيش طالوت، وممن نجحوا في الإمتحان العسير الذي قرّر رئيس الجيش أن يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح فقد رفع داود عليه السلام رآية النصر، وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لجالوت، وكان إذ ذاك فتى، وتم له الظفر، فالتقت على محبته القلوب، وتأكدت له أوامر الإخلاص، وأصبح بين عشية وضحاها حديث بني إسرائيل، يكنون له في نفوسهم الإحترام والمحبة، والتوقير ومنذ ذلك الحين بدا نجمه يصعد في السماء ويتنقل من ظفر إلى ظفر، ويجيئه النصر يتبعه النصر، حتى ولي الملك أخيراً وأصبح ذا سلطان وظهرت ملامح الحكم في زمنة في عدله وحكمه، وكان أوّابا رجاعاً إلى ربه بالطاعة والعبادة، والذكر والاستغفار، لقد كان منهج التغيير في زمن داود عليه السلام هو الصراع المسلح بين قوى الخير والشر والإيمان والكفر، والهدى والضلال، وبالفعل تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم.
ـ قال تعالى:"اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص، آية: 17 ـ 20).
إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السلام يتعرف على صفات الحاكم المؤمن الذي مكن الله له وهي تحقق للقائد المسلم كمال السعادة في الدنيا والآخرة، ومن أهم هذه الصفات.
ـ الصبر: فقد أمر الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.(1/203)
ـ العبودية: وقد وصفه ربه بقوله: "عَبْدَنَا"، وعبر عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم والوصف بالعبودية لله غاية التشريف كوصف محمد صلى الله عليه وسلم بها ليلة المعراج "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ" (الإسراء، آية: 1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود عليه السلام تحدث عنه بيَّن فضله وإجتهاده في العبادة: "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً (1).
ـ القوة على أداء الطاعة: والاحتراز عن المعاصي في قوله: "ذَا الْأَيْدِ .... ".
ـ والرجوع إلى الله بالطاعة في أموره كلها، في قوله تعالى: "إِنَّهُ أَوَّابٌ". وصف بالقوة على طاعة الله وبأنه أواب دليل على كمال معرفته بالله التي جعلته يجتهد في العبادة على نهج رباني صحيح.
ـ تسبيح الجبال والطيور معه: "إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ" (ص، آية: 18 ـ 19) أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل: "يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ" (سبأ، آية: 10).
قال ابن كثير: وكذلك الطير تسبح بتسبيحه، وترجع بترجيعه إذا مر به الطير، وهو سابح في الهواء، فسمعه، وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات، وترجع معه، وتسبح تبعاً له (2)
ـ قوة الملك:"وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ" (ص، آية: 20) اي: قوينا ملكه بالجند أو الحرس، وجعلنا له ملكاً كاملاً في جميع ما يحتاج إليه الملوك.
__________
(1) مسلم، ك الصيام، بان النهي عن صوم الدهر رقم 189.
(2) تفسير ابن كثير (4/ 29).(1/204)
ـ الحكمة: "وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ" (ص، آية: 20) أي: أعطيناه الفهم والعقل والفطنة، والعلم، والعدل، وإتقان العمل، والحكم بالصواب.
ـ حسن الفصل في الخصومات: "وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص، آية: 20) أي: وألهمنا حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإيجاز البيان، بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل (1).
إن داود عليه السلام شدّ ملكه بالتسبيح والذكر والطاعة، فكان عليه السلام يسبح بالعشي والإشراق وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل وكذلك تجاوبت الطيور، قال تعالى:"إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ" (ص، آية: 18).
فوهبه الله هبة عظمى ذكرها في كتابه عز وجل:"وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص، آية: 20)، الذي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع الملوك العظماء، بحيث لا يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه، وكثافة حراسه الذين قيل: إنهم كانوا ألوفاً كثيرة يتناوبون في حراسته ولم ينكسر له جيش في معركة أبداً بعون الله ونصره (2).
أ ـ استخلاف الله تعالى لداود عليه السلام:
قال تعالى:"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص، آية: 26).
خاطب الله تعالى داود عليه السلام بأن جعله حاكماً بين الناس في الأرض، فله الحكم والسلطة، وعليهم السمع والطاعة ثم بين الله تعالى له قواعد الحكم تعليماً لغيره من الناس:
ـ "فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ" أي: فاقضي بين الناس بالعدل، الذي قامت به السموات والأرض وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
__________
(1) تفسير المنير لوهبة الزحيلي (23/ 183 ـ 185).
(2) تفسير القرطبي (15/ 162).(1/205)
ـ "وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى" أي: لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا، فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار، لذا قال:"فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ" أي: إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال، والانحراف عن جادة الحق، وعاقبته الخذلان، قال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" أي: إن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل لهم عقاب شديد يوم القيامة، والحساب الآخروي بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل (1).
ب ـ هبة من الله مباركة وفتح وإلهام:
إن داود عليه السلام كان له كثير من الابناء والأولاد إلا أن الله خصه بالابن الصالح النبي الملك سليمان عليه السلام، وأثنى الله عليه في كتابه بكونه أواب إلى الله ـ عز وجل ـ كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله ـ عز وجل ـ في أكثر الأوقات، ومن مزيد فضل الله على عبده داود أن وهبه سليمان الذي ورث عن أبيه الملك والنبوة، قال تعالى:"وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" (ص، آية: 30).
لقد أكرم الله تعالى سليمان عليه السلام بالملك والنبوة وأعطاه الفهم الثاقب، والرأي السديد، ورجاحة العقل ومما يدل على ذلك قوله تعالى:"وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" (الأنبياء، آية: 78 ـ 79).
ج ـ ابتكار في صناعة الأسلحة:
__________
(1) فقه النصر والتمكين صـ 126.(1/206)
قال تعالى:"وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ" (الأنبياء، آية: 80)، كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح فهو أول من سردها وحلقها فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام ابد الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى:"فَهَلْ أنتُمْ شَاكِرُونَ" (الأنبياء، آية: 80) أي: على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر الله به والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة، وهذا دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والضائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن، وشريعة الديان، قال تعالى:"وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (سبأ، آية: 10 ـ 11).
وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع، ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش (1).
__________
(1) فقه النصر والتمكين صـ 129.(1/207)
وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية:"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد، آية: 25).
سورة الحديد؟ هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من التحضير والإبداع والبناء التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءاً أساسياً من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم، من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده، وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دوماً عن الحديد "البأس الشديد" متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري و"المنافع" التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كافة مجالات نشاطه وبنائه "السلمي"؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن في مسائل السلم والحرب، وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلماً وحرباً؟
إن الدولة المعاصرة التي تمتلك خام الحديد تستطيع أن ترهب اعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل ... وتستطيع أيضاً ـ أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها (1).
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ منح الحديد لداود عليه السلام وعلمه كيف يلينه، لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله، ولاشك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي ... الخ
__________
(1) التفسير الإسلامي للتاريخ صـ 221 ـ 222 عماد الدين خليل.(1/208)
وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقاً وارتباطاً صميماً بين آية الحديد، وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم، وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته "البأس"، ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجيء لكي يعلم الله مَن "يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحديد، آية: 25).
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية الإسلام والتقدم به وتحقيق النصر للمؤمنين وإقامة شرع الله في مناحي الحياة.
إن قول الله تعالى:"وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" (سبأ، آية: 10) فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإنسانية في طاعة الله.
4 ـ الأسباب التي إتخذها سليمان ـ عليه السلام ـ للتمكين لدين الله:
تسلّم سليمان ـ عليه السلام ـ قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى، لقد أوتي سليمان ـ عليه السلام ـ الملك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي، ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم، هيأه لأن يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ، لقد أعطي النبوة، ومنح العلم وأوتي الحكمة، وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل (1).
أ ـ بداية التمكين:
قال تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" (النمل، آية: 15 ـ 16).
__________
(1) فقه النصر والتمكين صـ130.(1/209)
بدأ التمكين بتلك الإشارة "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ... "، وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم، فتبرز قيمة العلم، وعظمة المنة به من الله على العباد، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين، ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه، لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار، وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه، وأن ينفقه فيما يرضى الله الذي أنعم به وأعطاه، فلا يكون العلم مُبعداً لصاحبه عن الله، ولا منسياً له إياه، وهو بعض مننه وعطاياه وبعد الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها، يفرد سليمان بالحديث: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" (النمل، آية: 16).
ب ـ فقه سليمان ـ عليه السلام ـ في إدارة الدولة:
إن القصص القرآني في سيرة سليمان أشار إلى أساليبه في إدارة الدولة والمحافظة على التمكين، وأهم هذا الفقه يظهر في النقاط الآتية:
ــدوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها، والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها، فهذا كان حال سليمان ـ عليه السلام ـ "وَتَفَقَّدَ الطَّيْر" (النمل، آية: 20) وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والاهتمام بكل جزء فيه، والرعاية بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء (1).
__________
(1) تفسير القرطبي (13/ 177).(1/210)
ولا شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة. إن سليمان كان مهتماً بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال وخاصة إذا راب شيء في أحوالهم، فسليمان عليه السلام لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال "مَالِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ" يعني "أهو غائب"؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له (1)، ثم قال:"أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ" (النمل، آية: 20)، سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق، فسليمان عليه السلام أراد أن يفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط ولكن عن جد وشدة، إذا لم يكن الغياب بعذر (2).
ـ لابد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسيئ، ويحسن للمحسن ولابد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة، وأن تكون على قدر الخطأ وحجم الجرم وهذا عين العدالة، ولهذا لم يقطع سليمان عليه السلام بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ، بل جعله متوقفاً على حجم الخطأ "لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ .. " (النمل، آية: 21).
وقد استدل أهل العلم بهذه الآية على أن العقاب على قدر الذنب، وعلى الترقي من الشدة إلى الأشد بقدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل (3).
__________
(1) تفسير الرازي (24/ 189).
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 593).
(3) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 593).(1/211)
ـ الأهتمام بالأجهزة الأمنية، لابد للدولة المسلمة أن تهتم بالأجهزة الأمنية وتحرص أشد الحرص على الإهتمام بالأخبار والمعلومات حتى توظف لخدمة الدين، وعقيدة التوحيد، ونشر المبادئ السامية، والأهداف النبيلة، والمثل العليا، وأن تحرص على تحبيب الجهاد لأبنائها بواسطة الأجهزة الإعلامية والوسائل التربوية، وأن تهيئ النفوس للظروف المناسبة لإقامتها للدين وإعلاء لكلمة الله، وهكذا كان شأن سليمان عليه السلام ـ كما قال القرطبي ـ رحمه الله: فإنما صار صدق الهدهد عذراً له، لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد (1).
ـ الإهتمام بنصر دعوة التوحيد، ولابد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دعوة التوحيد، وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف فإن سليمان عليه السلام لما استمع إلى خبر القوم المشركين، شمّر عن ساعد الجد في إيصال البلاغ إليهم، وبدأ معهم بالحجة والبيان. قال تعالى:"اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ" (النمل، آية: 28).
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ودعائهم إلى الإسلام، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار (2).
ولقد كان كتاب سليمان عليه السلام لملكة سبأ يبدأ بالرحمة وتتخلله الكرامة، وآخره الدعوة إلى الاستجابة لله والاستسلام له سبحانه "إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" (النمل، آية: 30 ـ 31).
__________
(1) تفسير القرطبي (13/ 189).
(2) المصدر نفسه (13/ 190).(1/212)
ـ الترفع على حطام الدنيا: فملكة سبأ عندما عملت الحيلة لاختبار سليمان عليه السلام، تفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن بها حبه للدين، فأظهر عدم الاكتراث بهذا المال، وأعلم من جاءوا به أن الله تعالى آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى وآتاه من الدنيا مالاً مزيد عليه، فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية، وصارحهم بأنهم هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها أما هو فلن يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف (1)، قال تعالى:"أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ" (النمل، آية: 36).
ـ المقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب للمكان المناسب، وعدم التردد في القرار الصعب للتغلب على الحال الأصعب، فعندما وجد سليمان عليه السلام أن القوم مازالوا على الشرك، بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلابته في الحق قال للوفد الذي جاء بالهدية:"ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ" (النمل، آية: 37).
__________
(1) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 598).(1/213)
ولامانع من ركوب الشدة مع المعاند، واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة فإن ذلك قد لا ينفع غيره في إنقاذ الناس من الشرك، بل من المعادن البشرية ما لا يلين إلا تحت وهج السيف وسنابك الخيل، وكان هذا الاسلوب سبباً في إسلام ملكة سبأ وانقيادها وجنودها لسليمان ولا مانع من استعمال الذكاء والعقل النير، ودقة التدبير، في استجلاب قلوب المدعوين إلى الدين واستخدام نعم الله في دلالة الخلق على الله ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم وتجلب احترام خواصهم، فسليمان لما بلغه خبر مجئ ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنودها، أراد أن يعلمها مدى ما أعطاه الله من قوة حتى أن عرشها الذي تركته في حماية عظيمة وحرس كثيف يسبقها إليه (1).
ـ الاستفادة من المهارات والمواهب: وعلى الدولة المسلمة أن تستفيد من المهارات والمواهب وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية ووضع الفرد المناسب في مكانه الصحيح، إن مملكة سليمان عليه السلام كان فيها من الإنس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد، ولكن سليمان عليه السلام اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة فـ "تخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف، لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة (2).
ج ـ أبرز صفات سليمان ـ عليه السلام ـ كحاكم لدولة:
إن الآيات الكريمة عرضت صفات سليمان ـ عليه السلام ـ كملك وحاكم ممكن له في الأرض وفي هذا إشارة من الله تعالى إلى الصفات القيادية المطلوبة للإشراف على تمكين شرع الله تعالى.
__________
(1) المصدر نفسه (9/ 193).
(2) تفسير روح المعاني (9/ 193).(1/214)
ـ الحزم: ويظهر ذلك عند القيادة إن غلب الظن أن هناك تقصيراً، أو تكاسلاً عن الحضور وقت الطلب أو التأخر وقت العمل "لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ" (النمل، آية: 21) فإنه قد تبين لسليمان عليه السلام أن الهدهد غائب، فتهدد بذلك أمام الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب، حتى لا يكون غيابه ـ إن لم يؤخذ بالحزم ـ سابقة سيئة لبقية الجند (1).
ـ التريث والتأني قبل الحكم، فلعل للغائب عذراً أو للمقصر حجة تدفع الإثم، وترفع العقوبة، ولهذا قال سليمان بعدها:"أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" (النمل، آية: 21) أي: بحجة تبين عذره في غيبته (2). وهذا هو اللائق بالحاكم والقاضي إذا كان عادلاً، وسليمان عليه السلام الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند النمل، لا ينتظر منه مع الهدهد، أو ما دونه أو ما فوقه، إلا أن يكون عادلاً لا يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة ولا يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2638).
(2) تفسير القرطبي (13/ 180).(1/215)
ـ سعة الصدر في الاستماع إلى اعتذار المعتذر، وحجة المتخلف، وسليمان عليه السلام انصت لاسترسال الهدهد حتى انتهى من قوله، على الرغم من أن فيه نوع معاتبة لسليمان، وفيه نسبة عدم الاحاطة إليه:"أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" (النمل، آية: 22ـ 26)، كل هذا وسليمان لا يقاطعه، ولا يكذبه، ولا يعنفه، حتى ينتهي من سرد الحجة، التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السلام.
ـ قبول الإعتذار ممن يعتذر في الظاهر، وإيكال سريرته إلى الله، فسليمان عليه السلام سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى تحري الخير.
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: هذا دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه (1).
__________
(1) تفسير القرطبي (13/ 184).(1/216)
ـ التروي في تصديق الخبر، فهذا الذي حكاه الهدهد، أمر ليس بالسهل ولا باليسير، ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة، الطويلة، وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية، ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار، ومع ذلك لم يبادر عليه السلام إلى التصديق، كما أنه لم يتعجل التكذيب، بل قال"سَنَنظُرُ" وهو من النظر، أو التأمل والتحري (1)، وقوله تعالى:"أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" (النمل، آية: 27)، يعني أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد (2).
ـ عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان، وإسناد الفضل إلى الله في كل نعمة، وتجديد الشكر على هذه النعم، وسليمان عليه السلام لما طلب الإتيان بعرش بلقيس أجابته جنوده التي سخرها الله له مسارعين إلى الطاعة، فلما وجد سليمان طلبه مجاباً، وأمره مطاع سارع إلى ضبط النفس في سلك الخشية ومنهاج التواضع والطاعة لله رب العالمين:"فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ" (النمل، آية: 40) أي: رأى العرش ثابتاً عنده قال:"هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي" أي: هذا النصر والتمكين من فضل ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها، فإن من شكر لا يرجع نفع شكره إلا إلى نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد، ومن كفر النعم فإن الله غني عن شكره، كريم في عدم منع تفضله عنه (3).
__________
(1) تفسير الرازي (24/ 193).
(2) تفسير ابن كثير (3/ 349).
(3) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 600).(1/217)
ـ التواضع وهو في قمة المجد وللتمكين: كان سليمان عليه السلام دائم التواضع حتى قيل: إنه كان يمشي منكسر الرأس خشوعاً لله وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والإنس والطير مر على واد النمل، وفي نظرة التواضع إلى الأرض أبصر نملة، فأشخص النظر صوابها، وأصاخ السمع إليها، وبما علم من منطق الطير والحيوان حاول تفهم أمرها. لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجنود في ركب سليمان، لقد سمعها وفهم قولها:"قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" (النمل، آية: 18). نعم إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة، تسعى كأخواتها للرزق وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك العادل، حتى لا تقع مظلمة غير مقصودة من أحد منهم، قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: التفاتة مؤمن: أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة، فما فوقها إلا بألا يشعروا (1).
إن هذه النملة لم تكن إلا واحدة من رعايا سليمان في مملكته التي ضمت إلى جانب الإنس والجن أنواعاً وألواناً من الحيوان والطير والهوام.
لقد سمع كلامها، وتفهم شكواها، فتبسم من قولها، فرقّ قلبه الكبير، رفقاً لجرمها الصغير، فرحمها وأخواتها، وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من انصافها وإيصال العدل إليها، وسُرَّ بأن عدالته وجنوده قد عرفها كل مخلوق، حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدماً، بأنهم إن أصابوا نملة بأقدامهم، فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور (2).
"فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ" (النمل، آية: 19).
__________
(1) تفسير القرطبي (13/ 170).
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/ 589).(1/218)
لقد أدرك سليمان عليه السلام أنه ـ في جنب الله ـ في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه ولهذا قال:"وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل، آية: 19).
ثانياً: الأسباب والتوكل:
التوكل على الله سبحانه ـ وتعالى ـ لا يمنع من الأخذ بالأسباب فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشيء النتائج فيتوكل عليها (1)، فالتوكل: هو قطع النظر في الأسباب بعد تهيئة الأسباب، كما قال صلى الله عليه وسلم: أعقلها وتوكل (2).
ففي جانب الأسباب يقول الله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ" (النساء، آية: 71)
ــ وقال تعالى:"وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال، آية: 60)
ــ وقال تعالى:"فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ" (الجمعة، آية: 10).
وفي جانب التوكل، قال تعالى:"وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (آل عمران، آية: 122).
ــ وقال تعالى:"فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ" (آل عمران، آية: 159).
ــ وقال تعالى:"وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (المائدة، آية: 23).
ولقد أرشدنا النبي صلى اله عليه وسلم في أجاديث كثيرة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه صلى الله عليه وسلم على عدم تعارضها، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماساً، وتعود بطانا (3).
__________
(1) التمكين للأمة الإسلامية صـ 252.
(2) صحيح ابن حبان (2/ 510).
(3) سنن الترمذي (4/ 573) رقم 2344 حسن صحيح.(1/219)
في هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب، حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها (1).
إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السماوات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية (2).
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها، وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
ــ الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها، فهذا شرك يرقُّ ويغلظ وبين ذلك.
ــ ترك ما أمر الله به من الأسباب، وهذا أيضاً قد يكون كفراً وظلما وبين ذلك، بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمه، وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيان ما لا يرى النجاة والفرج والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحاً ولا توصله إلى المقصود، فيجرد عزمه للقيام بها حرصاً وإجتهاداً، ويفرغ قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريداً للتوكل وإعتماداً على الله وحده (3).
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: "أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" (4).
فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:
__________
(1) التمكين للأمة الإسلامية صـ252.
(2) مدارك السالكين لابن القيم (2/ 130).
(3) المصدر نفسه (3/ 501).
(4) مسلم، ك القدر، باب الأمر بالقوة (4/ 2052) رقم 2664.(1/220)
ــ تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها.
ــ وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
فالدين كله ظاهره وباطنه وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية (1).
1 ـ القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين:
إن القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهل بالدين، وهذا من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط (2).
2 ـ التوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب:
الأصل أن يستعمل العبد الأسباب التي بينها الله تعالى لعباده وأذن فيها وهو يعتقد أن المسبب هو الله سبحانه وتعالى، وما يصل إليه من المنفعة عند استعمالها بتقدير الله عز وجل، وأنه إن شاء حرمه تلك المنفعة مع استعماله السبب فتكون ثقته بالله واعتماده عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب (3).
__________
(1) في ظلال القرآن (2/ 919).
(2) فتاوى ابن تيمية (8/ 529، 530).
(3) شعب الإيمان للبيهقي (2/ 79).(1/221)
وبالتتبع لما قاله العلماء في التوازن بين المقامين نجد أن جمهورهم يقررون أن التوكل يحصل بأن يثق المؤمن بوعد الله، ويوقن بأن قضاءه واقع ولا يترك اتباع السنة في أبتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه، بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعاً ولا تدفع ضراً، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركون إلى سبب قدح في توكله (1)، وفي القصص القرآني ما يجلّي هذا التوازن أيما تجلية، ويبين كيف مفهوم هذين المقامين وتطبيقهما على أرض الواقع وعلى الوجه الذي تقتضيه العقيدة الصحيحة مثل:
أ ـ قصة يعقوب ـ عليه السلام ـ مع أبنائه عند وصيته لهم قبل دخولهم مصر لجلب ما يحتاجونه من طعام ومواد غذائية حين أصاب بلدهم الجدب والقحط، فقد وصّاهم: قال تعالى: "وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" (يوسف، آية: 67).
فيعقوب ـ عليه السلام ـ ضرب لنا المثل في كيفية الأخذ بالأسباب في نطاق التوكل على الله، إذ في قوله: "لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ" تدبير وتشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذن الله تعالى، ولكنه استدرك ذلك مبيناً لهم أن الأخذ بالأسباب هنا ليس هو بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه (2).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي محمد عاشور صـ215.
(2) روح المعاني للألوسي (13/ 19).(1/222)
فقال: "وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ" (يوسف، آية: 67) أي: لا يكون ما أمرتكم به مغنياً غناءً مبتدئاً من عند الله، بل هو الأدب والوقوف عندما أمر الله، فإن صادق ما قدّره فقد حصل فائدتان، وإن خالف ما قدّره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط (1).
وقد أراد يعقوب عليه السلام بهذا أن يعلّم أبناءه الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة، تأدباً مع واضح الأسباب ومقدّر الألطاف في رعاية الحالين لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال، فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها، ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها، وهذا سر مسألة القدر كما أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: أعملوا فكل ميسر لما خلق له (2).
وبهذا يثبت أن الأسباب لابد لها من سياج قوي من التوكل، تدور في فلكه ولا تخرج عن حقيقته، ليكون ذلك أدعى لتحقيق المراد، وأجدر لامتثال أمر الله، وذلك لأن الأسباب العادية لما لم تكن غير مستقلة في تأثيرها ولا غنية في ذاتها مفتقرة إلى ما وراءها ـ كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها، ليتم لها التأثير، ويكون ذلك منه جريّا في سبيل الرشد والصواب ويكون ذلك بالتوكل على الله سبحانه في الأمور كلها، فإن الله لا إله إلا هو، رب كل شيء، وهذا هو الله سبحانه وحده لا شريك له، فإن الله لا إله إلا هو رب كل شيء، وهذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى:"وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" (إبراهيم، آية: 12).
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (13/ 12).
(2) فتح الباري (8/ 709)، مسلم (4/ 2040).(1/223)
لقد مدح الله تعالى هنا يعقوب عليه السلام فقال تعالى:"وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" (يوسف، آية: 68)، لأنه عمل الأسباب واجتهد في توفيتها وهو مقتضى الحكمة، ثم رد الأمر كله لله تعالى واستسلم إليه وهو حقيقة التوحيد فقال:"وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ" (يوسف، آية: 67)، فالآية: فأثنى الله تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين (1).
ج ـ قصة مريم عليها السلام: وهي ـ كما وردت في القرآن الكريم ـ تبين لنا بوضوح بالغ أنه لا إختلاف ولا تباين بين مقامي الأخذ بالأسباب والتوكل، إذ كلُّ له ملابساته وظروفه التي ترجع مقاماً على آخر في بعض الأوقات والأحوال.
كانت مريم في بداية حياتها يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال تعالى:"كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران، آية: 37)، فلما ولدت أُمرت بهزّ الجذع، قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغاً فرغ الله جارحتها عن النّصَب، فلما ولدت عيسى عليه السلام وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها وردّها إلى العادة بالتعلق بالأسباب في عباده (2).
__________
(1) تفسير الثعالبي (2/ 247)، السنن الإلهية صـ 217 د. مجدي محمد عاشور.
(2) تفسير القرطبي (11/ 95 ـ 96)، السنن الإلهية د. مجدي صـ 217.(1/224)
س ـ السنة النبوية: فعلى مستوى السنة الفعلية ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة في الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو وتعاطى أسباب الأكل والشرب وأدّخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، ومع كل ذلك لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مال إلى شيء من الاسباب غفلة مقدار طرفة عين (1).
والمثال النبوي الفعلي لهذا التوازن ـ على وجه التفصيل حادث الهجرة الذي أصُطحب فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد استوفيا هما الاثنان في هذه الهجرة الاسباب المتاحة جميعها، لم يغفلا واحداً منها (2).
إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدّماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدّد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأن التخطيط جزء من السنة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذي يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين (3).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم، شرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ، نلاحظ الآتي:
ــ وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعاب، وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلاً:
ـ جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدة الحرّ ـ الوقت الذي لا يخرج فيه أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
__________
(1) فتح الباري لابن حجر (10/ 212).
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 217.
(3) الأساس في السنة، سعيد حوي (1/ 357).(1/225)
ـ اخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصّدّيق وجاء إلى بيت الصّدّيق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم (1).
ـ أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرج من عنده، ولما تكلّم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
ـ كان الخروج ليلاً، ومن باب خلفيّ في بيت أبي بكر (2).
ـ بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً، مادام على خُلُق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها (3).
ــ انتقاء شخصيات لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل هؤلاء الأفراد، وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
ــ وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه، ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
ــ فكرة نوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة ناجحة، قد ضلّلت القوم، وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله، وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة، بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يشكّون في أنه ما يزال نائماً مُسجّى في بردته، في حين النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ــ وقد كان عمل أبطال هذه الرحلة على النحو التالي:
ـ عليّ رضي الله عنه: ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، يخدع القوم، ويُسلّم الودائع، ويلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
__________
(1) في السيرة النبوية ـ قراءة لجوانب الحذر والحماية صـ 141 د. إبراهيم علي أحمد.
(2) من معين السيرة للشامي صـ 147.
(3) الهجرة في القرآن الكريم أحزمي سامعون صـ361.(1/226)
ـ عبد الله بن أبي بكر: رجل المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.
ـ أسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنود المشركين، بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.
ـ عامر بن فهيرة: الرّاعي البسيط الذي قدّم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كي لا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الرّاعي يقوم بدور الإمداد، والتموين، والتّعمية.
ـ عبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب، فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، وإقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف، لقد أخذ الرسول صلى اللع عليه ويلم بالأسباب المعقولة، أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثم باتت عناية الله متوقعة (1).
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال إتخاذ الأسباب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، وإتخذ كل الوسائل، ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يُستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح (2).
__________
(1) أضواء على الهجرة، توفيق محمد صـ393 ـ 397.
(2) السيرة النبوية للصلابي (1/ 480).(1/227)
وأما على مستوى السنة القولية ـ في هذا الصدد ـ نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" (1)، في الوقت الذي ثبت فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم (2). وظاهر الحديثين يدل على التنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب، إلا أنه عند التحقيق نجد أنه صلى لله عليه وسلم أكل مع المجذوم ليبين أن الله هو الذي يمرض ويشفي، وأنه لا شيء يعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها من إضافة إلى الله، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم إعتقادهم ذلك، في حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاقتراب من المجذوم، ليبين أن هذا من الأسباب التي أجرى الله تعالى العادة بأنها تقتضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثرت، وفي ذلك فسحة لمقام التوكل (3) على الله، وهذا يبين أن لكل حالة مقامها التي شرعها الله عز وجل لها. ومن ذلك ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بقوم فقال: من أنتم؟ قالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتواكلون، إنما التوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل (4).
ثالثاً: الأسباب والمسببات:
إن الله تعالى قدر الأشياء بأسبابها، فالقدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً، أي أن هذا المسبب سيقع بهذا السبب، ومن الأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق للجنة أهلاً خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنار أهلاً خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وهم بعمل أهل النار يعملون (5).
__________
(1) فتح البري على صحيح البخاري (10/ 158).
(2) سنن الترمذي (4/ 266)، صحيح الإسناد.
(3) فتح الباري (10/ 160 ـ 161).
(4) شعب الإيمان (2/ 81)، السنن د. مجدي صـ219.
(5) مسلم (4/ 2050)، السنن د. مجدي صـ218.(1/228)
وفي المضمار نفسه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته بأن الله كتب المقادير، فقالوا: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيسير إلى عمل أهل الشقاوة، اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" (الليل، آية: 5 ـ 10).
وفي هذا الحديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره (1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار، إذ هو نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى غيره وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر (2).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 196).
(2) شفاء العليل لابن القيم صـ53.(1/229)
فلا منافاة بين الأخذ بالأسباب والإيمان بالقضاء والقدر، فمن القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، وإستجلاب الرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح، وقد قال تعالى: "خُذُواْ حِذْرَكُمْ" (النساء، آية: 71)، وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذور، فيقال: إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر، وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدر الخير قدره بسببه، والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته (1).
ولبيان ارتباط الأخذ بالأسباب وتناسقه مع الإيمان والقدر وفق الحكمة الإلهية يقول الرازي عن تفسير قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ" (النساء، آية: 71) أنه لما كان الكل لقدر كان الأمر بالحذر أيضاً داخلاً في القدر، فكان قول القائل: أي فائدة من الحذر كلاماً متناقضاً، لأنه لما كان هذا الحذر مقدراً، فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر؟ (2).
وحاصل تحقيق كلام الرازي: أن القدر عبارة عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بمقتضى القدر لا بما يضاده (3).
__________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 202)، الفتاوى لابن تيمية (8/ 69 ـ 70).
(2) التفسير الكبير للرازي (5/ 308).
(3) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ210.(1/230)
ويؤيد ذلك من السنة النبوية ما ورد أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هي من قدر الله (1)، وذلك لأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره، وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك لم يجز أن يظن أن تلك الأمور تكون بدون الأسباب التي جعلها الله أسباباً، وهذا عام في جميع الحوادث (2).
إن قدر الله تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا، إلا بعد الوقوع فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفاً عن موافقة قدر الله لمأمولنا، فإن استفرغنا جهودنا وحُرمنا المأمول علمنا أن قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا، فأما ترك الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منا، وإعراض عما أقامنا الله فيه في هذا العالم، وهو تحريف لمعنى القدر (3).
إن القضاء والقدر اللذان ورد في القرآن ذكرهما ـ وجعلهما الناس مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة ـ سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكون وربط فيه بين الأسباب والمسببات، وبين النتائج والمقدمات سنة كونية دائمة، لا تتخلف والحاصل أن الإسلام لا يسمح أن يضل الإنسان أو ينحرف عن أوامر الله في عقائده ودينه، ثم يعتذر بالقضاء والقدر، ولو صح ذلك لبطلت التكاليف وكان بعث الرسل وإنزال الكتب، ودعوة الإنسان إلى دين الله وما يجب، ووعده بالثواب لأهل الخير وبالعقاب لأهل الشر ـ باطلاً ـ لا يتفق وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكليفه الرحيم بعباده (4).
__________
(1) سنن الترمذي (4/ 399)، حسن صحيح.
(2) مجموع الحوادث (8/ 275).
(3) تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور (4/ 138).
(4) الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت صـ212.(1/231)
1 ـ تأثير السبب في المسبب:
إن الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها ـ مع ذلك ـ أضداد تمانعها، والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة (1).
ولا قال أحد من أئمة المسلمين ـ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا مالك، ولا أبو حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء ـ إن، الله يكلف العباد ما لا يطيقونه. ولا قال أحد منهم: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، أو لا تأثير لها في كسبه، ولا قال أحد منهم: إن العبد لا يكون قادراً إلا حين الفعل، وإن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا معه، وإن العبد لا استطاعة له على الفعل قبل أن يفعله، بل نصوصهم مستفيضة بما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات استطاعة لغير الفاعل، كقوله تعالى: "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران، آية: 97).
ــ وقوله تعالى: "فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" (المجادلة، آية: 4).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (2).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 487).
(2) فتح الباري على صحيح بخاري (2/ 587).(1/232)
والمقصود بتأثير السبب في المسبب، أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً، وإلا يكون إثبات جميع الأسباب شركاً، وقد قال الحكيم الخبير:"فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ" (الأعراف، آية: 57).
ـ وقال تعالى:"فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" (النمل، آية: 60).
ـ وقال تعالى:"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ" (التوبة، آية: 14).
كما أن تأثير العبد في فعله يتوقف على تحقيق الشرط وانتفاء المانع، فإذا فُسّر التأثير بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع ـ وكل ذلك بخلق الله تعالى ـ فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فُسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولا ندله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ـ يقول تعالى:"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ" (فاطر، آية: 2).
ـ وقال تعالى:"قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" (سبأ، آية: 22 ـ 23).(1/233)
ـ وقال تعالى:"قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ" (الزمر، آية: 38)، ونظائر هذا في القرآن كثيرة (1).
إن من الأسباب ما يعرفه كل إنسان بفطرته مثل الوطء سبب الولد، والقاء البذور سبب للزرع، والأكل سبب للشبع، وشرب الماء سبب للري ومن الأسباب ما يجادل فيه بعض الناس مثل اتباع شرع الله سبب للسعادة في الدنيا والآخرة والخروج على هذا الشرع سبب للشقاوة في الدنيا والآخرة، والدعاء سبب لدفع المكروه ونوال المطلوب ومن الأسباب ما يخفى على كثير من الناس مثل أسباب الأحداث الإجتماعية وما يصيب الأمم من عز وذل وتقدم وتأخر ورخاء وشدة وهزيمة وانتصار ونحو ذلك فهذه الأحداث لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج ولا يمكن تخلف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمد الماء وغليانه ونزول المطر فهذه أحداث لها أسبابها التي قدّرها الله فمتى تحققت هذه الاسباب تحققت هذه الأحداث وكل الفرق بينها وبين الأحداث الإجتماعية أن الأولى أسبابها منضبطة ويمكن معرفة حصول أكثرها إذا عرفت أسبابها، أما الثانية أي الأحداث الإجتماعية فإن أسبابها كثيرة جداً، ومتشابكة ويصعب الجزم بوقت حصول نتائجها وإن أمكن الجزم بحصول هذه النتائج والشرع دلنا على هذا القانون العام قانون السبب والمسبب في نصوص كثيرة والمقصود أن ما قدّره الله وقضاه إنما قدّره بأسباب، فمن أراد الحصول على نتيجة معينة فلابد من مباشرة السبب المفضي إليها (2).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 134 ـ 135).
(2) الإيمان بالقضاء والقدر د. عبد الكريم زيدان صـ 20.(1/234)
وما ذهب إليه العلماء المحققون في فاعلية السبب في مسببه بإذن الله تعالى هو ما يتفق مع ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة وهو المنهج الوسط والطريق الاسدّ في إعمال النصوص كلها على وجه الجمع دون الاقتصار على بعضها وهذا ما ذكرناه، هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل العلم بالقبول ولا يخفى أن اعتناق هذا الرأي يفسح الطريق أمام القيام بأعباء خلافة الإنسان في الارض والتفكر في سنن الله في الخلق وتوطئة للوقوف على أسبابها ونتائجها، ومن ثمّ التفاعل مع معطياتها بما يحقق إناطة تحمل المسئولية بالمكلفين في الدنيا والآخرة، وهو الأمر الذي يوسع ويثري من دائرة الدراسات الإجتماعية والنفسية والأخلاقية وفق المنهج الإسلامي، مما يعيد لهذه الأمة شهودها الحضاري ووسطيتها الشاملة التي ضمنها لها الشرع الشريف في قوله تعالى:"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (البقرة، آية: 143)، وبذلك تعود الأمة إلى اصولها وخيريتها:"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران، آية: 110)، وبالأحرى تتخلص من تبعيتها للثقافات الوافدة التي ترزخ تحت وطأتها إلى يومنا هذا رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة (1).
2ـ قال صلى الله عليه وسلم: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر (2): وشرح هذا الحديث:
أن "العدوى":انتقال المرض من المريض إلى الصحيح وكما يكون في الأمراض الحسية يكون في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة، فقوله صلى الله عليه وسلم "عدوى" يشمل العدوى الحسية والمعنوية.
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 203.
(2) متفق عليه المجموع الثمين لابن عثيمين (2/ 208)، البخاري رقم 5757، مسلم رقم 2220.(1/235)
و"الطيرة": هي التشاؤم بمرئى أو مسموع أو معلوم.
و"الهامة": فسرت بتفسيرين:
الأول: داء يصيب المرضى وينتقل إلى غيره، وعلى هذا التفسير يكون عطفها على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثاني: طير معروف تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل فإن هذه الهامة تأتي إلى أهله وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه تكون في صورة الهامة وهي نوع من الطيور تشبه البومة أو هي البومة، تؤذي أهل القتيل بالصراخ حتى يأخذوا بثأره، وهم يتشاءمون بها فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت قالوا إنها تنعق به ليموت ويعتقدون قرب أجله وهذا باطل.
و"صفر": فسر بتفاسير:
الأول: أنه شهر صفر المعروف والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنه داء في البطن يصيب البعير وينتقل من بعير إلى آخر، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: صفر شهر صفر، والمراد به النسيء الذي يضل به الذين كفروا، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً.(1/236)
وأرجحها أن المراد صفر حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية، والأزمنة لا دخل لها في التأثير، وفي تقدير الله عز وجل فهو كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب التوكل على الله، وصدق العزيمة ولا يضعف المسلم أمام هذه الأمور، والنفي في هذه الأربعة ليس نفياً للوجود، لأنها موجودة ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله فما كان منها سبباً معلوماً فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببيته، فالعدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: لا يورد ممرض على مصح (1). أي لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى وقوله صلى الله عليه وسلم: فر من المجذوم فرارك من الأسد (2)، الجذام: مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، فالأمر بالفرار حتى لا تقع العدوى، وفيه اثبات العدوى لتأثيرها، لكن تأثيرها ليس أمر حتمي بحيث تكون علة فاعلة، ولكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار من المجذوم وأن لا يورد ممرض على مصح، من باب تجنب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، قال تعالى:"وَلاَتُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" (البقرة، آية: 195)، ويقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى، فإن قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: لا عدوى، قال رجل: يا رسول الله أرأيت الإبل تكون في الرمال مثل الضبا فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول (3)،
__________
(1) البخاري رقم 5771.
(2) البخاري رقم 5707.
(3) المجموع الثمين لابن عثيمين (2/ 212) ..(1/237)
فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله:" فمن أعدى الأول: إلى أن المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحات بتدبير الله عز وجل، فالمرض نزل على الأول بدون عدوى بل نزل من عند الله عز وجل، والشيء قد يكون له سبب معلوم، وقد لا يكون له سبب معلوم، وجرب الأول ليس معلوماً إلا أنه بتقدير الله تعالى وجرب الذي بعده له سبب معلوم ولو شاء الله تعالى ما جرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون، فالإنسان يعتمد على الله ويتوكل عليه وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه رجل مجذوم فأخذ بيده وقال له "كل" أي من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم لقوة توكله صلى الله عليه وسلم، فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي، وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث وإذا أمكن الجمع وجب لأن فيه إعمال الدليلين (1).
__________
(1) المصدر نفسه (2/ 212).(1/238)
3ـ الجزاء الأخروي والأسباب:
لم يقتصر قانون السببية على إقامة الكون وتسييره فحسب ولا على الثواب والعقاب الدنيوي وحده، وإنما تجاوز ذلك ليكون الاصل أيضاً في الثواب والعقاب الأخروي، وذلك من كمال العدل الرباني والحكمة البالغة، والاصل في ذلك قوله تعالى:"مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا" (النساء، آية: 147)، فهذه الآية دالة على اعتبار سنة الاسباب حتى في الجزاء الأخروي، إذ لا عذاب إلا بكفران، فإذا انتفى السبب ـ وهو الكفر سواء الاعتقادي أو العملي ـ فلا عذاب بل هو نعيم ودخول في معية المؤمنين كما دلت على ذلك الآيات السابقة لهذه الآية، وهي التي بيّنت طريق الخلاص للمنافقين من نفاقهم وسبيل قبول الله أعمالهم، فقالت بعد توعد المنافقين بالدرك الاسفل من النار:"إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" (النساء، آية: 146).
والآيات في اعتبار الأسباب في الجزاء الأخروي كثيرة، ومنها على سبيل المثال:
ـ قوله تعالى:"كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" (الحاقة، آية: 24).
ـ وقوله تعالى:"كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الطور، آية: 19).
ـ وقوله تعالى:"ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ" (آل عمران، آية: 181 ـ 182).
ـ وقوله تعالى:"لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا *جَزَاء وِفَاقًا" (النبأ، آية: 24 ـ 26).
ـ وقوله تعالى:"فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (التوبة، آية: 95) (1).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ145.(1/239)
4ـ الحث على طلب الاسباب في الأمور المكفولة:
ترشدنا الآيات القرآنية إلى الأمر الشرعي قائم على حث الخلق على الأخذ بالأسباب حتى في الأمور التي كفلها الله له بموجب فضله وكرمه، ومن شواهد ذلك قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" (الملك، آية: 15).
فقد تكفل الله برزق مخلوقاته بدليل قوله تعالى: "وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا" (هود، آية: 6).
ـ وقال تعالى: "وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَاتُوعَدُونَ" (الذاريات، آية: 22).
ـ وقال تعالى: "وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ" (العنكبوت، آية: 60). ولكنه سبحانه جعل طريق وصول هذا الرزق وتحصيله في الأخذ بالأسباب والسعي والكسب في الحياة (1)
ومع تقدير الله للعبد في الرزق، فيجب عليه طرق الأسباب في طلب الرزق، وهذا لا ينافي التوكل، وزيادة الرزق جعل الله لها أسباباً منها:
أ ـ صلة الرحم: قال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه (2).
ب ـ تقوى الله: قال تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" (الطلاق، آية: 2 ـ 3).
وكذلك اجتناب البغي، وظلم العباد، والرياء، وأكل مال اليتيم.
وكذلك الأسباب الطبيعية والمادية، كالسعي للرزق وبذل الجهد، واختيار الأزمان المناسبة وحسن اختار المكاسب النافعة ونحو ذلك، وهذه الأسباب والمسببات كلها بقدر الله تعالى ومشيئته (3).
__________
(1) المصدر نفسه صـ146.
(2) البخاري رقم 1961.
(3) أصول الاعتقاد في سورة يوسف صـ501.(1/240)
وما أجمل ما قاله عمر بن الخطاب لبعض الناس في زمنه عندما قال: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم أرزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وإنما يرزق الله تعالى بعضهم من بعض، أما قرأتم قول الله تعالى: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ" (الجمعة، آية: 10) (1).
5 ـ مراعاة صورة الأسباب في الخوارق:
إذا كان الأصل في السنن الجارية هو تعلق المسببات بأسبابها، وارتباط النتائج بمقدامتها، فإن الأصل لا يتغير في السنن الخارقة المبنية على خرق العادة والأسباب، وعدم التغيير فيها يتمثل في مراعاة صورة الأسباب في تلك الخوارق ليظل قانون السببية عالقاً بذهن المكلف، ومرتبطاً بإقامة الكون وحركة الحياة، والقرآن الكريم زاخراً بالآيات التي يمكن الاستدلال بها في هذا الصدر (2)، ومنها:
ـ قوله تعالى: "فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً" (البقرة، آية: 60). ـ وفي الكلام حذف تقديره: فضرب فانفجرت (3).
قال القرطبي: وقد كان الله تعالى قادراً على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب، ولكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد، وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في الميعاد (4).
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ56.
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ147.
(3) المصدر نفسه صـ148.
(4) الجامع لأحكام القرطبي (1/ 419).(1/241)
6 ـ تهيئة الأسباب لوقوع مراد الله:
إذا أراد وقوع شئ في هذا الوجود هيأ له أسبابه التي يقع بها، وذلك لأنه جعل نظام هذا الكون مبنياً على سنن لا تنخرم وقوانين لا تنخرم إلا بمشيئة الله عز وجل، كما هو الشأن في المعجزات وخوارق العادات، وهو استثناء من القاعدة التي قام عليها الكون من اعتبار الأسباب ـ حقيقة ـ في الوصول إلى مسبباتها، وقد قيل إذا أراد الله أمراً يسّر أسبابه، ومن التطبيقات الواضحة لهذا العنوان في القرآن الكريم ما جاء في حيثيات غزوة بدر وملابساتها، حيث هيأ الله تعالى أسباب النصر للمسلمين في هذا اليوم،، ولم يجعل نصرهم ـ في ظاهر الأمر ـ من قبيل الخوارق المحضة التي ليس للسبب فيها نصيب، خاصة في مثل هذا الموقف الشديد الذي عانى فيه المسلمون من قلة العدد والعتاد، كل ذلك ليتبين للمسلمين قبل غيرهم أن السنن الإلهية والقوانين الربانية التي قام عليها نظام الكون لا تتخلف عادة، وقد تجلت هذه الأسباب، وظهرت فيما جاء في قوله تعالى عن غزوة بدر: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ" (الأنفال، آية: 11).
فإن اغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة، ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب (1).
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير (9/ 278).(1/242)
7ـ الأسباب تعمل مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع:
فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع (1) ولابد من تمام الشروط وزوال الموانع ـ أي في انتاج الأسباب ـ وكل ذلك بقضاء الله وقدره وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه، بل لابد من انضمام أسباب أخرى إليه، ولابد أيضاً من صرف المواقع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى (2).
ـ قال تعالى:"أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ" (الواقعة، آية: 63 ـ 64) أي: إذا كانت منكم الحراثة والبذر ـ مع اعانتنا لكم على ذلك ـ فإن إتمام الزرع والإثمار وتوفير الشروط وإزالة الموانع من شأننا نحن، ويؤكد ذلك قوله تعالى:"أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ" (النمل، آية: 60).
فقد ذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلق الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء، اغتراراً بالسبب فبودر بالتأكيد بأن الله خلق الاسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب، وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر، أو يقتلهما، ولذلك جمع بين "وَأَنزَلَ" وقوله:"فَأَنبَتْنَا" تنبيهاً على إزالة الشبهة (3).
__________
(1) مجموع الفتاوى (8/ 133).
(2) المصدر نفسه (8/ 167).
(3) تفسير التحرير والتنوير (20/ 11).(1/243)
8ـ إنكار قانون السببية يؤدي إلى ابطال حقائق العلوم:
لقد ثبت بنص القرآن أن الأسباب الشرعية هي محل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهي في اقتضائها لمسسبّباتها قدراً، فهذا شرع الرب وذلك قدره، وهما خلقه وأمره، والله له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق الله، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها، بل يجريها على أسبابها وما خُلقتُ له، فهكذا الأسباب الشرعية لا يخرجها عن سببها وما شُرعت له، بل هذه سنته شرعاً وأمراً، وتلك سنته قضاء وقدراً، وسنته القدرية قال تعالى: "فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر، آية: 43).
فالمسببات مرتبطة بأسبابها شرعاً وقدراً، ولذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم، كما أن إنكار الأسباب لأن تكون موصلة لها بأنها أمر مردود، بل أن النتائج المترتبة على إنكار قانون النسبية كافية لهدم حقائق العلوم كلها، فإن العلوم جميعها تستند إلى هذا، القانون (1).
ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، وهو طعن في الشرع أيضاً فالله تعالى يقول: "وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" (البقرة، آية: 164).
ـ وقال تعالى: "يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ" (المائدة، آية: 16) (2).
والحاصل أنه قد ثبت بالقطع أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر، آية: 49).
ـ وقال تعالى: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" (الفرقان، آية: 2).
ـ وقال تعالى: "فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (انساء، آية: 19).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ158.
(2) المصدر نفسه صـ158.(1/244)
ـ وقال تعالى: "وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة، آية: 216).
والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها، ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشيء الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة التي تنشيء الآثار والنتائج وتهيء الظروف لتحققها، كما تنشيء الأسباب والمقدمات "لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا" (الطلاق، آية: 1)، "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ" (الإنسان، آية: 30).
والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يُقدّر آثارها ونتائجها، والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجاة من الوسواس والهواجس:"الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة، آية: 268) (1).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 161.(1/245)
9ـ منازعة الأقدار بالأقدار:
من الأصول القطعية مباشرة الأسباب وعلى هذا فإن تركها قدح في الشرع مما يدحض ادعاءات الجهال والمغرضين، ونزيد هنا فنقول أن صاحب الإيمان بالقدر ينازع القدر بالقدر، بمعنى أن لا يستسلم للقدر مادام له دافع أو رافع أو مانع، فيأخذ من الأسباب ما يحقق ذلك، قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: كثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، وما قاله هذا الشيخ الجليل العارف بالله حق، ويريد بقوله رحمه الله تعالى أنه يدافع المقدور مادام في مدافعته مجال مستعيناً بالله تعالى مبتغياً وجهه، وتفصيل ذلك أن المسلم مطالب بأخذ الوقاية من المحذور لئلا يقع ويرفعه ودفعه إذا وقع، فمن الأول أخذ الحمية لئلا يقع المرض والابتعاد عن محل الوباء لئلا يصاب به الإنسان، والتحصن وراء الجدر والحصون في الحروب وقاية من العدو.(1/246)
وليس في هذه الوقاية ومباشرة أسبابها مناقضة للإيمان بالقدر، وإنما أخذ بقدر لمنع قدر، والقدر مادام مجهولاً عندنا وهو محتمل الوقوع فنحن نباشر أسباب عدم وقوعه فإن كان مكتوباً عند الله وقوعه لم يتيسر لنا مباشرة أسباب دفعه، أو تتيسر لنا هذه الأسباب ولكن لا تؤدي إلى نتيجتها لوجود مانع يمنع من افضائها إلى مسببها، والمقصود هنا أن مباشرة الاسباب لمنع وقوع ما يحتمل وقوعه من الأقدار ليس فيه مناقضة للمعنى الصحيح للقدر وإنما هو أخذ بقدر لمنع قدر لأن السبب والمسبب بقدر الله تعالى جاء في الحديث الشريف: قيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتدوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال هي من قدر الله (1)، فإذا كان من قدر الله أن لا يصاب الإنسان بالمرض قدّر الله له مباشرة ما يدفع به وقوع المرض وعندما وصل الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مشارف الشام وعلم بنزول الطاعون فيهم وهمّ بالرجوع قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرار من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه: لو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ونقع في قدر الله، ثم قال عمر رضي الله عنه ما معناه: لو كان عندك غنم أو إبل وأمامك أرض مجدبة وأخرى مخصبة فإذا نزلت بالمجدبة أو المخصبة أو تحولت من المجدبة إلى المخصبة، فكل ذلك بقدر الله (2).
__________
(1) سنن الترمذي (4/ 399) حسن صحيح.
(2) الغيمان بالقضاء والقدر عبد الكريم زيدان صـ 29.(1/247)
ومن النوع الثاني من منازعة الأقدار بالأقدار مباشرة الاسباب الرافعة للقدر بعد وقوعه كتناول الدواء لرفع المرض، وطرد الأعداء والكفرة من ديار المسلمين بعد تسلطهم باعداد العدة لذلك ثم قتالهم، ومثاله أيضاً انحباس المطر يرفع بالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفاره، كما هو معروف في الفقه في باب صلاة الاستسقاء، وكما دل عليه قوله تعالى حكاية عن نبيه نوح عليه السلام وما قاله لقومه، قال تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا" (نوح، آية: 10 ـ 11). فالالتجاء إلى الله والإنابة إليه واستغفارة من أهم الأسباب لدفع المكروه ورفعه بعد وقوعه، ومنعه من الوقوع قبل أن يقع، وهذه معاني يفقهها أهل الإيمان، لا أهل الكفر والجهالة والعصيان (1).
__________
(1) المصدر نفسه صـ30.(1/248)
رابعاً: الدعاء والقدر:
الدعاء مثل سائر الأسباب، كالتوكل والصدقة ... سبب لجلب المنافع ودفع المضار (1)، ثم الدعاء ـ مع ثبوت كونه سبباً ـ داخل في القضاء، ولا خرج عن القضاء، فإن الدعاء من جملة ما سبق به القضاء، لأن الله سبحانه أحاط بكل شئ علماً، وقدر كل شئ تقديراً، ولا يمكن أن يخرج شئ عن قضائه، فلهذا الدعاء نفسه داخل القضاء، إذا قدر الدعاء وأنه سبب لكذا فلا بد أن يدعو الرجل وأن يتسبب ذلك فيما جعله الله سبباً، فالدعاء سبب لجلب النفع، كما أنه سبب لدفع البلاء، فإذا أقوى منه دفعه، وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه، وليس شئ من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب، ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة الله تعالى وقدرته من الصلاة والدعاء والذكر، والاستغفار والتوبة، والاحسان بالصدقة والعتاقة، فإن هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه، كما في الحديث: "إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان (2) "، وهذا كما لو جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له، وإذا هجم البرد يدفع بإتخاذ الدفء، فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء (3). ويدل على دفاع العدو بالدعاء مع الجهاد قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "هل تنصرون إلا بضعفائكم"، ولفظ النسائي: "إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم (4) "، والحاصل إن من جملة القضاء ردّ البلاء بالدعاء، فالدعاء داخل تحت القضاء وليس خارجاً عنه (5).
__________
(1) الفتاوى (10/ 550).
(2) صحيح الجامع للألباني (6/ 241) رقم 7616.
(3) الدعاء ومنزلته من العقيدة جيلان العروسي (1/ 356).
(4) البخاري (6/ 88) رقم 2896، النسائي (6/ 37) رقم الباب 37.
(5) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 357).(1/249)
1 ـ دلالة القرآن الكريم على ذلك:
ـ قال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر، آية: 60).
ـ وقال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" (البقرة، آية: 186).
ـ وقال تعالى: "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ" (انساء، آية: 32).
إن الله سبحانه وتعالى نهى في هذه الآية عن الحسد، وتمني زوال نعمة الغير، وأمر بسؤاله من فضله فدل على أنه بسبب السؤال يعطي مثلما أعطى لذلك الذي فضله، وربما يعطي أكثر، فلو كان الدعاء والسؤال لا أثر له في إعطاء السائل ما تمناه وسأله، لزم أنه لا فائدة في الأمر به في هذا المقام، وهذا يخالف ما يقتضيه سياق الآية (1).
وقدوردت آيات كثيرة جداً، ذكر الله فيها ما وقع لأنبيائه وأوليائه وعباده الصالحين من المحن والبلايا والشدائد العظام، فاستغاثوا بربهم وتضرعوا له، وابتهلوا إليه، فاستجاب الله لهم، وكشف عنهم تلك المحن، بعد دعائهم، وقد حكى الله لنا ألفاظ دعواتهم وصيغ إبتهالاتهم لنقتدي بها، ونأخذ العبر والدروس، ومن تلك الدروس التي نأخذها تأثير الدعاء وفائدته العظيمة في جلب المنافع ودفع المضار، وأنه سمة العبودية، وأنه الغذاء الروحي لاسيما عند نزول الشدائد المدلهمة (2)، ومن ذلك
__________
(1) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 359).
(2) المصدر نفسه (1/ 360).(1/250)
أ ـ مما حكى الله لنا عن نوح ـ عليه السلام ـ مما يدل على تأثير الدعاء:
ـ قال تعالى: "وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ" (الصافات، آية: 75)، ما أصرحها في تأثير الدعاء وأوضحها وأبينها من حجة قاطعة، وما أبلغها من برهان ساطع، ومثلها قوله تعالى في قصة نوح أيضاً: "وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ" (الأنبياء، آية: 76 ـ 77).
ب ـ دعاء أيوب ـ عليه السلام ـ:
ـ قال تعالى: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" (الأنبياء: 83 ـ 84)، تدل الآيتان على المقصود من عدة أوجه، منها العطف بالفاء السببية في الموضعين: فاستجبنا، فكشفنا، ودلالة فاستجبنا وكشفنا اللغوية ودلالة السياق هذه الدلالات الواضحة على تأثير الدعاء (1).
جـ ـ دعاء يونس ـ عليه السلام ـ:
قال تعالى: "وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ" (الأنبياء، آية: 87 ـ 88).
__________
(1) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 362).(1/251)
فدلتّ الآيتان على أن الدعاء هو السبب في نجاته من عدة أوجه، منها إلغاء السببية، ومنها كلمتا: استجبنا ونجينا كما دلت على أن هذا ليس خاصاً به بل المؤمنون عامة إذا وقعوا في شدة واستغاثوا بربهم فهو ينجيهم، كما دلت أيضاً على أنه لولا الدعاء لما نجا من هذا الكرب العظيم ولبقي في بطن الحوت، وقد صرحت بذلك آية أخرى قال تعالى: "فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" (الصافات، آية: 143 ـ 144).
فكلمة لولا في مثل هذا الموضع تدل على امتناع الجملة الثانية لوجود الأولى (1)، وهذا صريح قاطع في أن الدعاء هو السبب في نجاته ولو لم يحصل الدعاء لما نجا ولبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة (2).
ج ـ دعاء زكريا عليه السلام:
قال تعالى:"وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ" (الأنبياء، آية: 89 ـ 90).
ففي هذا ترتيب للاستجابة على النداء، كما أن فيه تعليلاً للاستجابة بكونهم مسارعين في الخيرات، وداعين الله رغبة ورهبة (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 362).
(2) المصدر نفسه (1/ 362).
(3) المصدر نفسه (1/ 363).(1/252)
خ ـ في قصة موسى وهارون في استغاثتهما بالله:
قال تعالى:"وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا" (يونس، آية: 88 ـ 89)، فصرحت الآيتان بإجابة دعوتهما واستغاثتهما بالله تعالى وأن ذلك عقب ابتهالهما إلى الله تعالى فدل هذا على ترتيب الإجابة على الدعاء ترتب المسبب على السبب (1) وفي قوله تعالى في قصة تضرع موسى وابتهاله إلى الله قال تعالى:"قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي" إلى أن أجابه الله بقوله:"قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى" (طه، آية: 25 ـ 36)، ما أوضحها في الدلالة على تأثير الدعاء في الإجابة (2).
س ـ دعاء المؤمنين من الأمم السابقة:
ـ قال تعالى:"وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ" (البقرة، آية: 249 ـ 250).
ـ وقال أيضاً:"وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران، آية: 147 ـ 148).
__________
(1) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 364).
(2) المصدر نفسه (1/ 364).(1/253)
2ـ دلالة الفطرة على تأثير الدعاء بإذن الله:
قال تعالى:"أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (النمل، آية: 62).
فالآية صريحة الدلالة على أن دعاء المضطر هو السبب في إجابة سؤاله وكشف السوء عنه وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على وحدانيته وتفرده بالربوبية والألوهية ولهذا أعقبه بقوله:"أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (1).
الإنسان من طبيعته إذا وقع في شدة وضيق عليه تحركت فطرته ومشاعره، واتجه إلى الله ونسى ما كان يدعو من قبل وهنا يوقن أنه لا منقذ إلا الله، وتنكشف عنه الحجب، ويزول الرين، وتذهب الغشاوة وينطرح بين يدي الله منكسراً متواضعاً مبتهلاً متضرعاً باكياً ويجأر إلى الله كاشف السوء مجيب المضطرين غياث المغيثين منقذ الهالكين، وجابر المنكسرين ومنقذ الغرقى، وسامع النجوى، فكم من ملحد نزلت به ضائقة آب إلى الله (2)، وكم من شارد فاسق وقع في مأزق تاب إلى الله ورجع إلى طاعته، فالفطرة خير شاهد وأقوى دليل وأنصع برهان، وأوضح حجة لأنها لا تحتاج إلى تركيب مقدمة وإقامة أدلة جدلية واستنتاج ودليلها لا يمكن مقاومته، ولا دفعه بالشبهات والوساوس، ألا ترى الإنسان إذا ما وقع في معصية يتجه مباشرة إلى السماء ويرفع يديه قائلاً: يا رب يا رب وهذه الحالة تهجم عليه وتسيطر على تفكيره وشعوره وتجعله يشعر أنه لا منقذ ولا منجي ولا مغيث إلا الله سبحانه وتعالى، فلو لم تدل الفطرة على تأثير الدعاء لما اتجهت إلى الدعاء ولكانت تلجأ إلى وسائل أخرى للاستغاثة والاستعانة (3).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 359).
(2) العقيدة في الله لعمر الأشقر صـ 67، الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 368).
(3) الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية (1/ 368).(1/254)
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان هذه في عدة آيات منها:
ـ قوله تعالى:"وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ" (يونس، آية: 12).
ـ وقال سبحانه:"وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ" (الزمر، آية: 8).
ـ وقال تعالى:"وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ" (فصلت، آية: 51).
ـ وقال تعالى:"وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ" (النحل، آية: 53).
ـ وقال تعالى:"هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" (يونس، آية: 22).
ـ وقال تعالى:"وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا" (الإسراء، آية: 67).
ـ وقال تعالى:"وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ" (لقمان، آية: 32).(1/255)
فالإنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك الأشياء التي كان يتعلق بها ويرجع إلى ربه، فتحصل له معرفة قوية من أقوى مايكون المعارف، فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال (1).
3ـ دلالة السنة النبوية على تأثير الدعاء:
وأما السنة الدالة على تأثير الدعاء، فأكثر من أن تحصر فقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أمران: فعله للدعاء والثاني: حثه صلى الله عليه وسلم وترغيبه في الدعاء (2)، ومن الأدلة ما يلي:
أ ـ حديث أنس بن مالك: قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاء، وفي رواية وجاع العيال، وفي رواية أخرى: هلكت الأموال وانقطعت السبل فأدع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا، وفي رواية وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، ثم جاء ذلك الرجل أو غيره في الجمعة المقبلة فقال: تهدمت البيوت وانقطعت السبل فأدع الله يمسكها، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت (3).
ب ـ حديث النزول، وهو حديث مشهور متواتر، ومن طرقه، ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟ (4)
__________
(1) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 369).
(2) المصدر نفسه (1/ 366).
(3) البخاري رقم 932، مسلم رقم 897.
(4) فتح الباري على صحيح البخاري (3/ 29)، رقم 1145، مسلم رقم 758.(1/256)
إن المشاهدة لتأثير الدعاء لمن أكبر الأدلة وأصدقها برهاناً وأقواها حجة، فنحن رأينا وشاهدنا في أنفسنا ومن حولنا تأثير الدعاء، فمن منا لا يقع في شدة وكرب وضيق ثم يستغيث بربه فلا يرى أثر ذلك؟ فنحن نشاهد في حياتنا وأيامنا القصيرة وقائع لنا ولغيرنا يحصل فيها إجابة الدعاء بعد يأس وقنوط من المخلوقات، وبعد انقطاع السبل والحيل فهذا يكفي وحده للدلالة. والحق الذي لا مرية فيه أن الدعاء سبب من الأسباب وأن له تأثيراً في جلب المنافع ودفع المضار، كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة، وأنه لا منافاة بين القدر والدعاء، فالدعاء من جملة ما سبق به القدر وتضمنه القدر السابق (1).
ولاشك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي حرك العبد إلى الدعاء ويسره له وهو الذي قذف في قلب العبد الحركة إلى الدعاء وألهمه التضرع والابتهال والانطراح بين يديه ووفقه لذلك وصرف عنه الموانع من استكبار، وكسل وغير ذلك، فهذا الخير منه ولولا الله لما دعا العبد.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه (2).
فإذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه دعاءه والاستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سبباً للخير الذي قضاه له (3).
__________
(1) الدعاء ومنزلته من العقيدة (1/ 374).
(2) المصدر نفسه (1/ 375).
(3) المصدر نفسه (1/ 375).(1/257)
المبحث السابع: العدل الإلهي وسنة الله في الجزاء بجنس العمل:
من أسماء الله الحسنى "العدل" ولم يأت هذا الاسم في القرآن الكريم وقد جاء في حديث الأسماء الحسنى وأجمعت عليه الأمة ومعناه:
العادل: وهو الذي يصدر منه فعل العدل وهو المضاد للجور والظلم وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم وإذا آمن العبد بأن الله هو العدل لم يعترض عليه في أحكامه وتدبيره وسائر أفعاله، وافق مراد العبد أو لم يوافق، لأن كل ذلك عدل وهو كما ينبغي وعلى ما ينبغي (1).
فالعدل كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل، وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكّن من أسباب الهداية والطاعة بالاسماع والأبصار والعقول وهذا عدله ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يُعينه ويُفقّه، فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلىّ بينه وبين نفسه، ولم يُرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله، ولم يحرمه عدله (2).
وقد اتفق أهل الأرض والسموات على أن الله تعالى "عدل" لا يظلم أحداً، حتى أعداءه المشركين الجاحدين لصفات كماله، فإنهم مقرّون له بالعدل، ومُنزّهون له عن الظلم، حتى إنهم ليدخلون النار وهم مُعترفون بعدله، كما قال تعالى:"فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ" (الملك، آية: 11).
وقال تعالى:"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ" (الأنعام، آية: 130).
فهو سبحانه ـ قد حرّم الظلم على نفسه وأخبر أنه لا يُهلك:"الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ" (الأنعام، آية: 131).
__________
(1) أسماء الله الحسنى د. فاروق حماده صـ 128.
(2) جهود الإمام ابن القيم في توحيد اسماء الأسماء والصفات د. وليد محمد عبد الله العلي (2/ 1291).(1/258)
فأفعال الله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً، فهي كلها بين الفضل والرحمة وبين العدل والحكمة، وما ينزل الله ـ سبحانه ـ بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة، فإنما فعل بهم ما يستحقونه، فإنه لا يأخذ إلا بذنب ولا يعذب إلا بعد قيام الحجة، وأقواله كلها عدل، فهو لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ولا ينهاهم إلا عمّا مضرته خالصة أو راجحة وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء ووزنه لأعمالهم لا جور فيه، كما قال تعالى:"وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء، آية: 47)، فهو على صراط مستقيم في قوله، وفعله وحكمه (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: عدل فِيّ قضاؤك (2). فالله عدل في جميع أقضيته في عبده، قضائه السابق فيه قبل إيجاده، وقضائه فيه المقارن لحياته، وقضائه فيه بعد مماته، وقضائه فيه يوم معاده (3).
وقال الله ـ على لسان نبيه هود عليه السلام:"إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (هود، آية: 56).
فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم (4).
فالله يأمر بالعدل ويفعله وهو أعدل العادلين، فما قضى في عبده قضاء إلا هو واقع في محله الذي لا يليق به غيره، إذ هو الحكم العدل الغني الحميد (5).
__________
(1) الجزاء من جنس العمل د. سيد حسين العفاني (1/ 33).
(2) صحيح ابن حبان رقم 972.
(3) الجزاء من جنس العمل (1/ 33).
(4) جهود الإمام ابن القيم الجوزية في تقرير الاسماء والصفات (2/ 1292).
(5) الجزاء من جنس العمل (1/ 34).(1/259)
فالله وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل فالشرع والقدر والخلق والأمر والثواب والعقاب قائم بالعدل "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً" (الأنعام، آية: 115).
والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها وتنزيلها منازلها، وإنه لم يخص شيئاً منها إلا بمخصص اقتضى ذلك وإنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ولا يمنع من يستحق العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقاً (1).
والله يفعل ما يريد، وحكمه ماض في العبيد، على النهج السديد (2).
"وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" (الكهف، آية: 49). وهذا الكمال عدل فإن النفي هنا لإثبات كمال الضد (3).
ـ قال تعالى:"إِنَّ اللّهَ لاَيَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ" (النساء، آية: 40).
ـ وقال تعالى:"إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا" (يونس، آية: 44).
ـ وقال تعالى:"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هود، آية: 100 ـ 102).
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم:"وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هود، آية: 102).
ـ وقال تعالى:"وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" (الكهف، آية: 59).
__________
(1) مدارج السالكين (3/ 457 ـ 460).
(2) الجزاء من جنس العمل (1/ 34).
(3) الجزاء من جنس العمل (1/ 34).(1/260)
ـ وقال تعالى في شأن أصحاب السبت:"فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ" (الأعراف، آية: 165).
ـ فالله لا يظلم الناس شيئاً في دنياهم وإنما يؤاخذهم بظلمهم، ولا يظلمهم في الآخرة (1).
ـ قال تعالى:"فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (يس، آية: 54).
ـ وقال تعالى في آخر آية نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال:"ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ" (البقرة، آية: 281).
وقال صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن الله ـ تبارك وتعالى ـ أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا (2).
وعلى مستوى المعاملات بين الناس جاء الأمر الإلهي بتحري العدل، قال تعالى:"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ" (النحل، آية: 90).
فالنصوص التي ذكرت في القرآن والسنة للدلالة على تحريم الظلم وتنزيه الله عنه، تقتضي كمال عدله وحكمته وغناه، ووضعه العقوبة والثواب مواضعها (3).
قال الشاعر:
والعدل من أوصافه في فعله ... ومقاله والحكم في الميزان
فعلى الصراط المستقيم إلهنا ... قولا وفعلاً ذاك في القرآن (4)
ومن أكبر مظاهر عدل الله في خلقه في الدنيا والآخرة سنة الجزاء بجنس العمل وقد تكاثرت النصوص لهذا المعنى، وهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه، كله قائم بهذا الأصل (5).
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 35).
(2) مسلم، ك البر والصلة رقم 2577.
(3) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود صـ 287.
(4) الجزاء من جنس العمل (1/ 33).
(5) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 269.(1/261)
أولاً: الأصل في العقاب المماثلة:
إن الوعيد والعقاب الإلهي مبني على العدل الإلهي، بحيث تكون العقوبة مكافئة للذنب الواقع ولذلك يصرّح القرآن بقوله:"وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا" (الشورى، آية: 40).
ـ وقال تعالى:"وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة، آية: 194).
ـ وقال تعالى:"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ" (النحل، آية: 126)، بل قد يتجاوز الله بمشيئته عمن أساء يقول سبحانه:"وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الشورى، آية: 30)، ويحرّض الله الناس على الصفح عمن ظلمهم أو أساء إليهم، فهو يسرّع لهم القصاص والمعاملة بالمثل ولكنه في الوقت يدعو إلى العفو والصفح ويوكل أجر فاعلهما عليه سبحانه، زيادة في الإغراء وحثاً على التسامح، فيقول تعالى:"وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ" (الشورى، آية: 40).
ـ وقال تعالى:"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ" (النحل، آية: 126).
والحاصل أن عقاب الله العبد يكون على قدر ذنبه وما أرتكبه، ولذلك ألمحت بعض الآيات بأن جزاء العقوبة هو ما كان يقترفه العبد، قال تعالى:"هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (الأعراف، آية: 147).
وبلفظ الخطاب ورد قوله تعالى:"إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (النمل، آية: 90).
ـ وقوله:"وَمَاتُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الصافات، آية: 39).
وأما في جانب الوعد والثواب فيعامل الله عباده بالفضل والزيادة وإن كانت من جنس العمل الذي فعله العبد، يقول تعالى:"وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" (محمد، آية: 17).(1/262)
ـ وقال تعالى:"لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم، آية: 7).
ـ وقال تعالى:"فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ" (النساء، آي: 173).
والقرآن الكريم حافل بالتطبيقات المتنوعة على سنة الجزاء بجنس العمل، ولكن قبل الشروع في هذه النماذج نعرض للآيات القرآنية التي تعد حقائق أصيلة لهذه السنة، ومن الأمثلة على ذلك:
1 ـ قوله تعالى: " يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم" (يونس، آية: 23).
فالمراد بالبغي هنا ما كان على النفس خاصة بإيرادها موارد التهلكة والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية، وقد يراد به ـ أيضاً ـ البغي على الناس، فالناس نفس واحدة، على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة والخطاب بـ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ" يفيد العموم فيدخل فيه المخاطبون وغيرهم، وفي الآية ذم للبغي في أوجز لفظ، ومعنى "عَلَى أَنفُسِكُم" أي وبال البغي عليكم ولا يجنى ثمرته إلا أنتم (1).
وقد دلت الآية على أن البغي يجازى صاحبه عليه في الدنيا والآخرة (2)، فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنزال أهله الرجوع إلى الله، وإنباؤه إياهم بما كانوا يعملونه وذلك في قوله تعالى في عجز الآية نفسها: "ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"، والمراد بالإنذار هنا لازمه وهو الجزاء، وأما الدنيا فالشاهد الذي ذكرناه "إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم" ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم (3).
__________
(1) تفسير البحر المحيط (5/ 140)، السنن الإلهية مجدي عاشور صـ227.
(2) السنن الإلهية مجدي عاشور صـ227.
(3) أخرجه أحمد (5/ 38)، صحيح.(1/263)
يقول محمد رشيد رضا: فوجود الأعداء والمبغضين ضرب من ضروب العقوبة، وإن لم يستطيعوا إيذاء الباغي لعجز، فكيف إذا قدروا وفعلوا الغالب؟ وأما بغي الملوك والحكام على الأقوام والشعوب فأهون عقوبته عداوتهم والطعن عليهم، وقد تفضي إلى إغتيال أشخاصهم، أو إلى شل عروشهم والقضاء على حكمهم، إما بثورة من الشعب تستبدل بها عرشاً بعرض، أو نوعاً من الكم بنوع آخر، وإما بإغارة دولة قوية على الدولة التي يضعفها البغي، تسلبها إستقلالها وتستولي على بلادها (1). وتلك هي عدالة الله في تحقيق قانونه في الخلق وجزائهم بجنس ما يعملون (2).
2 ـ قال تعالى: "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر، آية: 43).
"اسْتِكْبَارً افِي الْأَرْضِ" إي استكبروا عن اتباع آيات الله "وَمَكْرَ السَّيِّئِ"، أي: ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله.
"وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، أي: وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم (3).
فمن سنن الله ونواميسه في خلقه "لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"
ولهذا قيل: وما ظالم إلا سيُبلى بظالم
وقال الشاعر:
لكل شئ آفة من جنسه ... حتى الحديد سطا عليه المُبردُ (4)
فما يصيب مكرهم السيء أحداً إلا أنفسهم وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا ينتظرون إذن؟
__________
(1) تفسير المنار (11/ 344).
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ228.
(3) الجزاء من جنس العمل (1/ 84).
(4) التحرير والتنوير (22/ 235).(1/264)
إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم وهو معروف لهم وتمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد (1) "فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (فاطر، آية: 43).
3 ـ قال تعالى: "فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ" (الفتح، آية: 10).
ما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله والله هو الغني عن العالمين، وبالمقابل فإن العبد هو الخاسر حتى ينكث وينقض عهده مع الله، فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذي يكرهه ويمقته، فالله يحب الوفاء والأوفياء (2).
وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينجح حتى ينزل به: من مكر أو بغي، أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى: "لَايَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" "إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم" "فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ" (3)
ثانياً: الجزاء بجنس العمل في الدنيا:
1 ـ الاستهزاء بالمنافقين والسخرية منهم في الحياة الدنيا:
ـ قال تعالى: "وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا
مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" (البقرة، آية: 14 ـ 15).
ـ قال تعالى: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة، آية: 67).
__________
(1) في ظلال القرآن (5/ 2949).
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ228.
(3) السنن الإلأهية د. مجدي عاشور صـ229 ..(1/265)
ـ وقال تعالى: "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ" (التوبة، آية: 79).
هذا من باب المقابلة على سوء ضيعهم واستهزائهم بالمؤمنين، لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من يسخر منهم إنتصاراً للمؤمنين في الدنيا، وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً ألياً، لأن الجزاء من جنس العمل (1).
2 ـ تسليط الظالم على مثله:
قال تعالى: "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأنعام، آية: 129).
وفال تعالى: "وَلاَتَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ" (هود، آية: 13).
وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة، آية: 51).
وفي قوله: "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا": تدل الآية على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم (2).
3 ـ استئصال الله لمن أراد إيذاء رسله وأوليائه:
قال تعالى: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" (غافر، آية: 5).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ229.
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ234.(1/266)
وقال تعالى عن ظلم فرعون لبني إسرائيل ومحاولته إخراجهم من أرضهم: "فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا" (الإسراء، آية: 103 ـ 104).
ويقرر القرآن الكريم هذه السنة في آيات أخر قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ" (إبراهيم، آية: 13 ـ 14).
وقال تعالى: "لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا" (الأحزاب، آية: 60 ـ 62).
4 ـ نصر الله منوط بنصرته للدين والحق:
قال تعالى: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي" (المجادلة، آية: 21).
وقال تعالى: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر، آية: 51).
وقال تعالى: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم، آية: 47).
وهذا النصر الإلهي مشروط بالإيمان ونصرة دين الله، وفي ذلك يقول الله تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد، آية: 7)، وقال تعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ" (الحج، آية: 40).(1/267)
5 ـ سلب النعمة عمن منعها مستحقها:
يبين القرآن الكريم أن عقاب الله بالمرصاد لمن منع أحداً شيئاً يستحقه وأن سنة الله في هذا أن ينقلب مقصود المانع عليه ويعامله الله بنقيض مقصوده، فيأخذ الله ما بين يديه من نعمة ويسلبه ما كان سبباً في التجني على خلقه ويتركه في رماد، والشاهد على ذلك جلياً في قصة أصحاب الجنة التي قصّها علينا القرآن للاعتبار والعظة، قال تعالى: "إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَ اقَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" (القلم، 17 ـ 27).
فأصحاب الجنة لما عزموا على منع الفقير حقه الذي كفله الله له عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شئ ثم بين الله أن حكمه هذا سنة جارية، في خلقه وقضاء عام لمن وقع في مثله "كَذَلِكَ الْعَذَابُ" (القلم، آية: 33) أي: هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات (1).
وبالمقابل فإن الله قد ضمن لمن تعدى بخيره على غيره أن يرزقه من جنس ما أنفقه ويزيده فيه سواء في الدنيا أو في الآخرة، فقال: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ، آية: 39).
وقال تعالى: "وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" (البقرة، آية: 272).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ241.(1/268)
وفي الحديث القدسي: أنفق أنفق عليك (1).
6 ـ تيسير الله لمن يسَّر على عباده:
قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ
اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة، آية: 11).
وفي قوله "يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ" مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة وأعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة.
وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه أيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه (2).
ويؤكد هذا الموضع من الشاهد قول النبي صلى الله عليه وسلم: من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3).
__________
(1) مسلم (2/ 690).
(2) السنن الإلهية مجدي عاشور صـ 243.
(3) صحيح مسلم (4/ 2074)، السنن الإلهية صـ 244.(1/269)
وفي قوله تعالى:"وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" أي: إذا قيل: ارتفعوا وإنما يراد بذلك وإذا قيل قوموا إلى قتال عدو أو صلاة أو عمل خير أو تفرقوا عن رسول الله فقوموا (1)، فقد جعل جزاء امتثال أمره في تلك الآية أن رفع درجة أصحابها بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة خاصة العلماء منهم الذين جمعوا بين العلم والعمل فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة (2).
7ـ الجزء بجنس العمل على مستوى الوسائل:
إن أي تدبير أو فعل من العبد مهما بلغ في اتقانه ونسجه فإن الله هو القاهر فوق عباده لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء، وفي هذه الغاية القصوى في استشعار العبد بالمراقبة، ومن ثم الامتثال بالعبودية.
ومن الآيات الدالة على هذه المسألة:
ـ قوله تعالى: "أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ" (الطور، آية: 42).
ـ وقال تعالى: "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا" (الطارق، آية: 15 ـ 16).
ـ وقال تعالى عن صالح ـ عليه السلام ـ وقومه ثمود: "وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِمَ ما شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ" (النمل، آية: 48 ـ 51).
__________
(1) جامع البيان للطبري (28/ 259).
(2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (2/ 221).(1/270)
ـ وقال تعالى: "وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" (آل عمران، آية: 54 ـ 55).
ـ وقال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْيَقْتُلُوكَ أَوْيُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال، آية: 30).
وسمي جزاء المكر مكراً، وجزاء الكيد كيداً، تنبيهاً على أن الجزاء من جنس العمل (1).
ثالثاً: الجزاء بجنس العمل في الآخرة:
كما أن سنة الجزاء بجنس العمل حاكمة في معاملة الله خلقه في الحياة الدنيا، فهي كذلك في الآخرة، ومن ثم كانت سنة أساسية بين السنن، والتطبيقات القرآنية تترى في هذا المعنى، وتصل إلى حد التواتر، من حيث العدد، وإلى القطع من حيث المعنى والمراد من ذلك (2).
1 ـ معاملة أهل الفضل بالفضل:
ـ قال تعالى: "هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (الرحمن، آية: 60)، أي: هل ثواب خوف مقام الله عز وجل لمن خافه فأحسن في الدنيا عمله، وأطاع ربه إلا أن يحسن إليه في الآخرة ربه بأن يجازيه على إحسانه ذلك في الدنيا ما وصف في الآيات من قوله تعالى: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" (الرحمن، آية: 46)، إلى قوله تعالى: "كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ" (الرحمن، آية: 58) (3).
__________
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 233).
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ250.
(3) جامع البيان للطبري (27/ 198).(1/271)
ـ وقال تعالى: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السجدة، آية: 16 ـ 17).
قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم وأخفى الله لهم ما لم ترعين ولم يخطر على قلب بشر (1).
وفي الحديث القدسي: قال تعالى: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ" (السجدة، آية: 17) (2).
ـ وقال تعالى: "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ") النور، آية: 22).
ـ وقال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التغابن، آية: 14).
2 ـ ترك الإنسان وإهماله في العذاب، كما أهمل الحق ولم يتبعه:
قال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" (طه، آية: 124 ـ 126).
أخبر تعالى أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عمياً، فإن الجزاء أبداً من جنس العمل (3).
__________
(1) تفسير القرآن الكريم (3/ 260) روح المعاني (21/ 132).
(2) مسلم في صحيحه (4/ 2174).
(3) السنن الإلهية، د. مجدي عاشور صـ256.(1/272)
وقال تعالى: "الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا" (الأعراف، آية: 51).
وقال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ" (الجاثية، آية: 32 ـ 34).
3 ـ التهكم بالكفار والمنافقين كما كانوا يتهكمون بالمؤمنين في الدنيا:
قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المطففين، آية: 29 ـ 36).
وقال تعالى: "يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ" (الحديد، آية: 13).(1/273)
والشاهد في الآية قوله: "قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا"، فالظاهر من إسناد "قِيلَ" بصيغة المجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين (1)،
وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكماً، إذ لا نور وراءهم، وإنما أرادوا إطماعهم ثم تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين، لأن الخيبة بعد الطمع أشد حسرة وهذا استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم (2)، ومما يؤيد أن هذا التخبط والحيرة الشديدة التي أصابت المنافقين في الآخرة هو جزاء لهم من جنس ما كانوا عليه في الدنيا أنهم كانوا كذلك في الدنيا في قلق دائم وحيرة مستمرة، وتخبط متواصل لأنهم كانوا"مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء" (النساء، آية: 143) (3).
رابعاً: الجزاء بجنس العمل بين العباد:
إن سنة الله في خلقه أن يكون جزاؤهم بجنس ما عملوه، وهذا أمر تكويني أقام الله عليه الدنيا والآخرة ليكون قانوناً حاكماً في المجازاة والمحاسبة وليس هذا فحسب، وإنما أراد الله عز وجل أن يكون هذا القانون وتلك السنة أمراً شرعياً تكليفياً، وقد أمر الله الناس بالتعامل به فيما بينهم، ليتحقق العدل والأمان في المجتمع بين الأفراد والجماعات والأمم، فأنزل الآيات التي توجب العمل بهذه القاعدة، وجعلها مستمرة في أبواب الشرع عامة في مسائله، وبين النبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة بأحسن بيان وأدق تطبيق، وبهذا يتبين أن الشرع والقدر قد تظاهرا على تقرير هذه السنة، وتلك القاعدة والتي هي من حكمة الله البالغة في خلقه (4).
__________
(1) المصدر نفسه صـ262.
(2) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ 263.
(3) المصدر نفسه صـ 263.
(4) المصدر نفسه.(1/274)
قال تعالى: "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا" (الشورى، آية: 40)، وقال تعالى: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ" (النحل، آية: 126). وقال تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة، آية: 194).
ومن الأمثلة في القرآن الكريم في هذا الباب ما يلي:
1 ـ الآيات التي وردت في القصاص:
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة، آية: 178 ـ 179).
وفي هذا المعنى أيضاً يأتي قوله تعالى عن حكم القصاص في الكتب السماوية السابقة:
قال تعالى: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ" (المائدة، آية: 45).(1/275)
وقد بينت السنة المطهرة تطبيق حد القصاص على الوجه الأكمل، وبما يحقق القاعدة التي تتحدث عنها، وبهذا يتبين لنا المصالح الجمة التي بنيت على مشروعية القصاص، وإقامته في المجتمع، ومن تلك المصالح زجر المعتدي ومن يحاول الاعتداء ليرتدع قبل اقترافه عمله، ومنها جبر خاطر المعتدي عليه، ومنها التفادي من ترصد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم، فإبطال الحكم بالقصاص يعطل هذه المصالح ويقوض بنيان المجتمع، ويشيع الفوضى في الدولة، وينخر في قواها المتمثلة في أفرادها وطوئفها (1).
2 ـ حد الحرابة والإفساد:
وبهذا المعنى أيضاً جاء حد الحرابة والإفساد في قوله تعالى: "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا" (المائدة، آية: 33"، وهي شاهد لما نحن فيه على تفسير ابن عباس في رواية عطاء، وهو مذهب جمهور العلماء لأن كلمة "أَوْ" هنا ليست للتخيير، بل هي للتقسيم أو بمعنى آخر: لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات، فمن اقتصر على القتل قُتل، ومن قتل وأخذ المال، قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يديه ورجله من خلاف، ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نُفي من الأرض (2).
__________
(1) السنن الإلهية د. مجدي عاشور صـ266.
(2) التفسير الكبير للرازي (5/ 666)، السنن الإلهية صـ266.(1/276)
3 ـ من تطبيقات ذلك العصر النبوي:
ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية مجازاة الناس بجنس أعمالهم والشاهد الصريح في ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة (1)، فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بذل كل ما يملك ـ من مال ونفس وأهل وولد ـ لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عطاؤه بلا حدود، يستحق الجزاء من صاحب النعمة المطلقة، وولي كل منحة وجود، فرد النبي صلى الله عليه وسلم مكافأته لله عز وجل، ليتفضل على أبي بكر بالإنعام والإكرام، وليكون الأصل في الجزاء أن يكون من جنس العمل (2).
والمثال الثاني في عصر النبوة: أنه لما أُسرت ابنة حاتم الطائي في أيدي المسلمين ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: كان أبي يفك العاني، يحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة. فقال صلى الله عليه وسلم: "خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق" (3).
وفي رواية: فخلى سبيلها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملني، وأعطاني نفقة حتى خرجت إلى أخي عدي بالشام (4).
لقد عاملها الرسول صلى الله عليه بجنس ما كان أبوها يعامل الناس رغم كفر أبيها، ليدلنا ذلك، على أن هذه القاعدة عامة ما لم تحرم أصلاً شرعياً، أو تعارض دليلاً قطعياً (5).
__________
(1) سنن الترمذي (5/ 609) حسن غريب من هذا الوجه.
(2) السنن الإلهية، مجدي عاشور صـ271.
(3) نوارد الأصول للحكيم الترمذي (2/ 314)، شعب الإيمان للبيهقي (6/ 24).
(4) السيرة النبوية (5/ 277) الطبقات الكبرى (1/ 322).
(5) السنن الإلهية صـ271.(1/277)
المبحث الثامن: الحكمة والتحسين والتقبيح وتكليف ما لا يطاق وقدرة الله عز وجل:
أولاً: الحكمة في أفعال الله وشرعه:
1 ـ الله الحكيم الحكم الحاكم:
من أسماء ربنا جل وتعالى التي عرَّف بها نفسه إلى عباده، وذكرها في كتابه، وعلى ألسنة رسله وأنبيائه "الحكيم"، وقد ورد هذا الاسم "الحكيم" أربعاً وتسعين مرة في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل: "الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (البقرة، آية: 32)، "العَزِيزُ الحَكِيمُ" (البقرة، آية: 129)، "الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (الأنعام، آية: 18)، "وَاسِعًا حَكِيمًا" (النساء، آية: 130).
وقال تعالى: "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً" (الأنعام، آية: 114).
فهذا دليل على أن اسمه أيضاً "الحكم"، وقد جاء في خمسة مواضع بصيغة الجميع منها: "وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" (الأعراف، آية: 87)، و"أَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ" (هود، آية: 45)، و"أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التين، آية: 8).
و"الحكيم": هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها ويضعها في موضعها، كما قال سبحانه "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (النمل، آية: 88)، و"الحكيم" هو الذي يضع الشئ في موضعه بقدره، فلا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، مع ما له في ذلك من الحكم البالغة العظيمة التي لا يأتي عليها الوصف، ولا يدركها الوهم (1).
فالحكيم الذي لا يدخل تدبيره ولا شرعه خلل ولا زلل، وأفعاله وأقواله تقع في مواضعها بحكمة وعدل وسداد، فلا يفعل إلا الصواب ولا يقول إلا الحق (2).
وأما "الحكم" فهو من له الحكم والسلطان والقدر، فلا يقع شئ إلا بإذنه وهو المدبر والمتصرِّف "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (الرحمن، آية: 29).
و"الحكم" أيضاً من له التشريع والتحليل والتحريم، فالحكم ما شرع الله، والدين ما أمر ونهى، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، فاجتمع في الاسم "القدر" و"الشرع" "أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ" (الأعراف، آية: 54).
__________
(1) مع الله د. سلمان العودة صـ183.
(2) المصدر نفسه صـ185 ـ 186.(1/278)
وحين يقول: "أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" و"خَيْرُ الْحَاكِمِينَ"، فإن ذلك تأكيد على عدله ورحمته ووضعه الأشياء في موضعها، فليس في قدره ظلم ولا تعسُّف، وليس في شرعه محاباة ولا تحيز، بل هو حفظ للحقوق، حقوق الحاكم والمحكوم، والرجل والمرأة، والبرِّ والفاجر، والمسلم والكافر، والقوي والضعيف، وفي كل الأحوال حرباً وسِلماً، وعلى كل أحد دون استثناء، ولذا وجب على كل مسلم تحكيم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في دقيق أموره وجلِّها على الصعيد الفردي والجماعي، والأسري، الخاص والعام، والسياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام، وكل شئ من حكمه وحكمته: أنه عدل لا يظلم أحداً، ولا يحمل هذا وزر ذاك، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ولا يدع محسناً إلا أثابه على إحسانه "إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" (الكهف، آية: 30) (1).
2 ـ المراد بالحكمة: الغايات المحمودة المقصودة بفعل الله وشرعه، وهي مقدمة في العلم والإدارة، متأخرة في الوجود والحصول، أي أنها تترتب على الأحوال والأفعال وتحصل بعدها (2).
والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إلى الله يحبها ويرضاها، فهي صفة له تقوم به، لأن الله لا يوصف إلا بما قام به، وهي ليست مطلق الإرادة، وإلا لكان كل مريد حكيماً ولا قائل به.
ثانيهما: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة يفرحون ويلتذون بها في المأمورات والمخلوقات والحكمة لا يحيط بها علماً إلا الله تعالى، وبعضها معلوم للخلق وبعضها مما يخفى عليهم.
والحكمة في أفعال الله تعالى نوعان (3):
ــ حكمة مطلوبة لذاتها، كما في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، آية: 56).
__________
(1) مع الله د. سلمان العودة صـ187 ـ 188.
(2) منهاج السنة (1/ 141) أعلام الموقعين (1/ 197 ـ 201).
(3) شفاء العليل لابن القيم صـ322، مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه د. خالد محمد نور عبد الله (1/ 453).(1/279)
ــ وقال: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق، آية: 12).
فبين الله أن الحكمة من خلقه الجن والإنس ليعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، وهذا أمر محبوب لله تعالى ومطلوب له، وكذلك بين أن من حكمة خلقه السماوات والأرض وتدبيره لهما علم العباد بقدرة الله وعلمه سبحانه.
ــ حكمة مطلوبة لغيرها وتكون وسيلة إلى مطلوب لنفسه ويوضحها قول الله تعالى: "وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ" (الأنعام، آية: 53)، فاللام في قوله: "لِّيَقُولواْ" دالة على الحكمة من قوله المذكور وهو امتحان بعض خلقه ببعض فكبراؤا القوم يأنفوم ويستكبرون عن قبول الحق عند الله رؤيتهم ضعفاء قد أسلموا فيقولون عند ذلك: "أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا"، فهذا القول بعض الحكمة المطلوبة بهذا الامتحان، وهي وسيلة إلى مطلوب لنفسه، فامتحان الله لهؤلاء يترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء، وذلك يوجب آثار مطلوبة للفاعل من إظهار عدله، وحكمته وعزته، وقهره وسلطانه، وعطائه من يستحق عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع، ولا يليق به غيره، ولهذا قال الله تعالى: "أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ" (الأنعام، آية: 53) (1).
__________
(1) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (1/ 452).(1/280)
3 ـ الحكمة الحاصلة من الشرائع:
وأما الحكمة الحاصلة من الشرائع فثلاثة أنواع:
ــ النوع الأول: حكمة حاصلة من الأمر بفعل مشتمل على مصلحة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالعدل والإحسان، والصدق، أو حاصلة من النهي عن فعل مشتمل على مفسدة معلومة بأصل الفطرة والعقل، كالظلم والكذب، فالعدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل عل فسادهم، والشرع في أمره بالعدل ونهيه عن الظلم ولم يثبت للفعل صفة لم تكن ولكن لا يلزم من حصول القبح في الفعل بالعقل أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك.
ــ النوع الثاني: حكمة حاصلة من الأمر بفعل، أو النهي عن فعل بحسب اشتماله على المصلحة والمفسدة التي لا تعرف بخطاب الشرع، فيكون الفعل قد اكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع، كالتجرد في الإحرام والتطهر بالتراب، والسعي بين الصفاء والمروة، ورمي الجمار، ونحو ذلك.
ــ النوع الثالث: حكمة يكون منشؤها من الأمر لا من المأمور به، فيكون المراد من الأمر الإبتلاء والامتحان ولا يكون المراد فعل المأمور به ومثاله: أمر الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بذبح ابنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ فأراد الله إبتلاء خليله إبراهيم بعد أن رزقه الولد حتى يكون قلبه كله لله، ولم يكن تحقق ذبح ولده مراداً لله، وفي ذلك يقول الله تعالى: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ" (الصافات، آية: 102 ـ 106) فلما تحقق ما أراده الله نسخ الأمر وهو لم يكن مريداً وقوع ذبح ابنه (1).
__________
(1) المصدر السابق (1/ 455).(1/281)
وزاد ابن القيم نوعاً رابعاً، وهو ما نشأت المصلحة فيه من الفعل المأمور به والأمر معاً ومثاله: الصوم والصلاة والحج وإقامة الحدود وأكثر الأحكام الشرعية، فإن مصلحتها ناشئة من الفعل والأمر معاً، فالفعل يتضمن مصلحة والأمر به يتضمن مصلحة أخرى، فالمصلحة فيها من وجهين (1).
4 ـ الأدلة الدالة على الحكمة:
والأدلة الدالة على الحكمة كثيرة جداً ذكرها العلماء والفقهاء في كتبهم، وقد حاول ابن القيم حصرها بأنواعها ـ بعد أن ذكر أن آحاد الأدلة كثيرة يصعب سردها كلهاـ وقد أوصلها إلى إلى اثنين وعشرين نوعاً ومن هذه الأدلة:
النوع الأول: وهو أعلاها، ما ورد فيه التصريح بلفظ الحكمة قال تعالى: "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ" (القمر، آية: 5)، أي أن الله أرى الكافرين في آياته ـ وهي هنا إنشقاق القمر ـ وأتاهم بأنباء زاجرة لهم عن غيهم وضلالهم، كل ذلك حكمة منه سبحانه لتقوم حجته على العاملين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل.
النوع الثاني: ذكر ما هو من صرائح التعليل، وهو من أجل أو لأجل، قال الله تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" (المائدة، آية: 32)، فقول "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ" متعلق بـ"كَتَبْنَا" بمعنى: السبب في الحكم بشرعية القصاص على ابن آدم لأجل قتل ابن آدم أخاه، وكان ذلك حراسة الدنيا.
__________
(1) المصدر نفسه (1/ 455).(1/282)
النوع الثالث: الإتيان بكي الصريحة في التعليل، كما قال تعالى: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر، آية: 7).
فعلل سبحانه قسمته الفئ بين الأصناف التي ذكرها كي لا يتناوله الأغنياء دون الفقراء، وقال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد، آية: 22 ـ 23).
أنا قدر المصائب والبلاء قبل أن يبرأ الأنفس والمصائب والأرض، ومصدر ذلك قدرته وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده ولا يفرحهم بما آتاهم إذا علموا أن المصيبة مقدرة كائنة ولا بد، وقد كتبت قبل خلقهم وذلك يهون عليهم ما أصابهم (1).
النوع الرابع: ذكر المفعول له، وهو علة للفعل المعلل به، قال الله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل، آية: 89)، فقوله: "تِبْيَانًا" ـ وما بعدها ـ الأحسن أن ينصب على أنه مفعول لأجله لدلالة قول الله تعالى: "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (النحل، آية: 64).
وقال تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" (النحل، آية: 44)، وفي الآيتين بيان لتلك، وقال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا" (الإسراء، آية: 59) أي لأجل التخويف (2).
__________
(1) المصدر السابق (1/ 457).
(2) المصدر السابق (1/ 457) شفاء العليل صـ 326.(1/283)
النوع الخامس: التعليل بـ"لعل" فهي في كلام الله تأتي للتعليل المجرد لا للترجي لاستحالته عليه، فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة، آية: 21)، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة، آية: 183)، وقوله "لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه، آية: 44).
فلعلّ في المواضع المتقدمة قد أخلصت للتعليل للسبب الذي تقدم أولاً، والرجاء الذي فيها متعلق المخاطبين.
النوع السادس: تعليله سبحانه وتعالى عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه، فمن الأول قول الله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" (الشورى، آية: 27).
بيَّن سبحانه أنه لا يوسع الدنيا ـ لبعض ـ الناس سعة تضرهم في دينهم، وهو سبحانه ينزل من رزقه بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته، فالمانع من بسط الرزق حصول البغي من الناس، ومن الثاني قول الله تعالى: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف، آية: 32)، فوصف بعض الرزق بكونه طيباً مانع من الحكم بتحريمه.
النوع السابع: إنكار الله سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة بقوله: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون، آية: 115)، وقوله: "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" (القيامة، آية: 36).(1/284)
والأنواع كثيرة والأصل أن يأتي التعليل بالحروف، وقد تدل عليه الأسماء والأفعال، والحق يقال أن السياق له أثر في الدلالة على العلية إن لم تكن الأدلة نصاً في العلية، فينظر فيما يحتمل التعليل وعدمه يحسب السياق (1).
5 ـ الحكمة من خلق إبليس ووجود هذه الآثام والشرور في الكون:
في ذلك من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله، فمنها أن يكمل الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة الشيطان وحزبه ومخالفته ومراغمته وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به سبحانه من الشيطان، والإلجاء إليه سبحانه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يمكن أن يحصل لهم بدون خلق الله.
ــ ومنها ـ أي من الحكم ـ خوف المقربين من المؤمنين من ذنوبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس، وكيف طرد من رحمة الله تعالى لذنبه؟ فكيف يأمن المقربون بعد ذلك؟ وكيف يأمن المؤمنون الصادقون بعد ذلك؟ إن كان قد طرد إبليس بذنب كيف يعجب بعد ذلك عالم بعلمه؟
فستظل هذه العبودية ملازمة للملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والمؤمنين الصادقين لخوفهم من رب العالمين، لأنه طرد إبليس من رحمته بذنب وقع فيه، فالملائكة المقربون إذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك مع أنهم لم يخالفوا الله في أمر، كما قال الله عز وجل في شأنهم: "لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم، آية: 6).
__________
(1) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم(1/285)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أطَّت السماء وحق لها أن تَئط ما فيها من موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله (1)، فهذا جبريل راه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كالحلس البالي من شدة خوفه من الكبير المتعال، وهو أمين وحي السماء، وهكذا، فالملائكة المقربون لما رأوا وشاهدوا ما كان من إبليس ازدادوا خوفاً ووجلاً، فكيف تستخرج العبودية إلا بمثل هذا الإبتلاء والتمحيص؟
والأنبياء والمرسلون وهم أعرف الناس بالله إزدادوا خوفاً ووجلاً من رب العالمين، والمؤمنون الصادقون لا يغتر واحد منه بعلمه ولا بعمله، بل يظل دائماً على خوف ووجل، لأنه لا يأمن من مكر الله (2). قال تعالى: "فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (الأعراف، آية: 99).
ومنها: أي من حكم خلق الله لإبليس: أنه تبارك وتعالى جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر على طاعته وأصر على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر آدم ـ عليه السلام ـ عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصي أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل إبليس عبرة لمن أصر، وأقام على الذنب، وجعل آدم عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله في هذا من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة.
ومنها: أي من هذه الحكم أيضاً: أن الله تبارك وتعالى قد جعل إبليس محكَّاً يمتحن به خلقه، ليتبين به خبيثهم وطيبهم، والله سبحانه وتعالى لا يبتلي خلقه وعباده ليعلم الخبيث من الطيب، فالله علم الخبيث والطيب أزلاً قبل أن يخلق الخبثاء والطيبين، ولكنه أراد أن يميز الخبيث من الطيب من الناس في الدنيا ويمحص الصف، ويجازي العباد وفق أعمالهم لا بمقتضى علمه فيهم (3).
__________
(1) السلسلة الصحيحة للألباني رقم 1722.
(2) الإيمان بالقضاء والقدر، محمد حسان صـ154 شفاء العليل لابن القيم صـ511 إلى 520.
(3) الإيمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ158.(1/286)
ـ قال تعالى: "مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ" (آل عمران، آية: 179).
ـ وقال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران، آية: 142).
ـ وقال تبارك وتعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ" (البقرة، آية: 214).
وقال تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت، آية:2 ـ 3).(1/287)
ـ ومنها: أي من الحكم: أن يُظهر الله عز وجل كمال قدرته لخلقه، فالله عز وجل خلق جبريل وجعله رسولاً للأنبياء، فهو أمين وحي السماء الذي به حياة الأرواح، وخلق ميكائيل، وجعله على الأرزاق والأمطار التي بها حياة الأبدان، وخلق إسرافيل ووكله بالصور الذي ينفخ فيه بأمر الله، لتحيا الأبدان مرة أخرى، ففيه حياة الأبدان بعد أماتة الله لها يوم القيامة، وخلق سائر الملائكة، وخلق إبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه، فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث، والضد إنما يظهر جنسه بضده، فلولا القبيح لم نعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم نعرف قدرالغنى، وخلق الله آدم من غير أب ومن غير أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر البشر من أب وأم، لنعلم أن الله على كل شئ قدير، إن شاء أن يخلق بغير أب وبغير أم خلق، وإن شاء أن يخلق من أب وأم خلق، فالله سبحانه وتعالى يخلق الأضداد ليظهر كمال قدرته ومشيئته تبارك وتعالى.
ـ ومنها: أنه سبحانه وتعالى يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن يحصل لهم بدونه، فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها، وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله.
سبحانه من خلق الخلق بحكمته وعدله، فما من شئ في الكون صغر أو كبر علمناه أو جهلناه، رأيناه أم غاب عنا إلا وهو مخلوق لله بعدله وحكمه (1).
__________
(1) الإيمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ159.(1/288)
ــ ومنها: أن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا إلى غير ذلك من هذه المعاني هي أحب العبودية إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه العبودية لا تتحقق إلا بالجهاد بكل ما تحمله الكلمة من معنى هو ذروة سنام العبودية، وأحبها إلى الرب سبحانه، فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله، لو لم يخلق الله عز وجل إبليس، فكيف تحقق مرتبة العبودية بجهادك لنفسك ولهواك وللشيطان؟
ومنها أن من أسماء الله: الحكيم، والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي يليق به، فاقتضت حكمته خلق المتضادات، وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الاحكام والصفات والخصائص (1).
__________
(1) الإيمان بالقضاء والقدر محمد حسان صـ 161.(1/289)
ومنها: أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه، فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته، كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا، وهو يحمد نفسه على ذلك كله، ويحمده عليه وملائكته ورسله وأولياؤه، ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم، وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كماله عليه الحمد التام (1)، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة والنعمة السابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وما ذكرنا من هذه الحكم قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من تحيط بكمال الله وحكمته في خلقه لكل شيء (2)، فإن كان الله تبارك وتعالى قد خلق إبليس لهذه الحكم التي وقفنا على بعضها، فلا شك أن خلق الله لغير إبليس ـ وهو رأس الشر ـ لحكم كثيرة من باب أولى، فالله تبارك وتعالى لم يُطلع خلقه إلا على بعض الحكم (3).
ويكفي العاقل: أن يعلم أن الله عز وجل عليم وحكيم، بهرت الألباب حكمته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصاه لوحه وقلمه، وأن الله في قدره سراً مصوناً وعلماً، مخزوناً احترز به دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريته وإنما يصل أهل العلم به وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك، وقد لا يؤذن لهم في ذكرها، وربما كلموا الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن شيء من سر القدر، وأنه لو شاء أن يطاع لأطيع، وأنه مع ذلك يعصى فأخبرهم سبحانه أن هذا سره، وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق (4).
__________
(1) شفاء العليل صـ 514، الإيمان بالقضاء والقدر صـ 161.
(2) شفاء العليل صـ 239، الإيمان بالقضاء والقدر صـ 162.
(3) الإيمان بالقضاء والقدر صـ 162.
(4) كلام لابن تيمية نقله القرضاوي في الإيمان بالقدر صـ 82.(1/290)
وعن عمران بن ميمون عن ابن عباس قال: لما بعث الله موسى وكلمه قال: اللهم أنت رب عظيم ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى لما عصيت وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: إني لا أُسأل عما أفعل وهم يسألون، فانتهى موسى (1).
أ ـ ما الحكمة من إيجاد الكرام الكاتبين مع أن الله يعلم كل شيء:
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 82.(1/291)
نقول في مثل هذه الإمور إننا قد تدرك حكمتها وقد لا تدرك فإن كثيراً من الأشياء لا نعلم حكمتها كما قال تعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الإسراء، آية: 85)، فإن هذه المخلوقات لو سألنا سائل ما الحكمة أن الله جعل الإبل على هذا الوجه، وجعل الخيل على هذا الوجه، وجعل الحمير على هذا الوجه، وجعل الآدمي على هذا الوجه، وما أشبه ذلك، ولو سألنا عن الحكمة في هذه الأمور ما علمناها ولو سئلنا ما الحكمة في أن الله عز وجل جعل الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً وصلاة العشاء أربعاً وما أشبه ذلك ما استطعنا أن نعلم الحكمة في ذلك وبهذا علمنا أن كثيراً من الأمور الكونية وكثيراً من الأمور الشرعية تخفي علينا حكمتها وإذا كان كذلك فإنا نقول إن التماسنا للحكمة في بعض الأشياء المخلوقة أو المشروعة إن منّ الله علينا بالوصول إليها فذاك زيادة فضل وخير وعلم، وإن لم تصل إليها فإن ذلك لا ينقصنا شيئاً، ثم نعود إلى جواب السؤال وهو ما الحكمة في أن الله عز وجل وكل بنا كراماً كاتبين يعلمون ما نفعل؟ فالحكمة من ذلك بيان أن الله سبحانه وتعالى نظم الاشياء وقدّرها وأحكمها إحكاماً متقناً حتى إنه سبحانه وتعالى جعل على أفعال بني آدم وأقوالهم كراماً كاتبين موكلين بهم يكتبون ما يفعلون مع أن سبحانه وتعالى عالم بما يفعلون قبل أن يفعلوه ولكن كل هذا من أجل بيان كمال عناية الله عز وجل بالإنسان، وكمال حفظه تبارك وتعالى وأن هذا الكون منظم أحسن نظام ومحكم أحسن إحكام والله عليم حكيم (1).
__________
(1) المجموع الثمين لابن عثيمين (1/ 168).(1/292)
ب ـ الشر لا ينسب إلى الله:
الشر لا ينسب إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: والشر ليس إليك (1)، فلا ينسب الشر لا فعلاً ولا تقديراً ولا حكماً، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي:
ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار، فالمفعول شر ولكن الفعل خير، لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شراً محصناً، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر صار ذلك شراً بالنسبة له، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله، فيكون خيراً، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت"َفجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (البقرة، آية: 66).
وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله وكم من إنسان أذنب ذنباً ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيراً منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه ـ الصلاة والسلام ـ لم يحصل له الإجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم قال تعالى:"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف، آية: 23) فقال تعالى:"ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (الشورى، آية: 122).
__________
(1) مسلم رقم 771.(1/293)
والثلاثة الذين خلفوا بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم حتى ضاقت عليه أنفسهم وضاقت عليهم الارض بما رحبت وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم، صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه ـ ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبداً، وصارت حالهم أيضاً، بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذُكروا بأعينهم قال:"وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (التوبة، آية: 118) (1).
فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة وهذا شيء عظيم، وسواء كان ذلك في الإمور الشرعية أو في الإمور الكونية، ولكن هاهنا أمر يجب معرفته وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله سبحانه وتعالى، فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه فهو خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: الخير بيديك والشر ليس إليك (2).
__________
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد محمد صالح العثيمين (3/ 178).
(2) صحيح مسلم رقم 771.(1/294)
ولم يقل والشر بيدك، فلا ينسب الشر إلى الله أبداً، فضلاً عن أن يكون بيديه فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء فالله لا يريد بقضاء الشر شراً، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك فهو وإن كان شراً في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شراً محضاً، حتى المقضي على كونه شراً ليس شراً محضاً، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر في محل خير في محل آخر ولنضرب لذلك مثلاً: الجدب والفقر هذا شر، لكنه خير باعتبار ما ينتج عنه، قال تعالى:"ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم، آية: 41) والرجوع إلى الله ـ عز وجل ـ من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيراً كثيراً، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح ولهذا قال:"لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله ـ عز وجل ـ واشتغلوا بالمال فإذا أُصيبوا بفقر رجعوا إلى الله وعرفوا أنهم ضالون، فهذا الشر صار خيراً باعتبار آخر، كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه لكنه خير بالنسبة لغيره، أما بالنسبة له فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضاً خير في غير السارق فإن فيه ردعاً لمن أراد أن يسرق وفيه أيضاً حفظ للأموال، لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده امتنع من السرقة فصار في ذلك حفظ لأموال الناس (1).
__________
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد (3/ 179).(1/295)
فالله سبحانه وتعالى لا يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه، ولا منفعة فيه لأحد، وليس له فيه حكمة ولا رحمة، ولا يعذب الناس بلا ذنب، وقد بين العلماء ما في خلقه لإبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة، فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً وباعتبار آخر شراً، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده فمنهم من يمقته ويحارب منهجه، ويعاديه ويعادي أولياءه، ويوالي الرحمن ويخضع له، ومنهم من يواليه ويتبع خطواته (1).
ثانياً: التحسين والتقبيح:
هذا الموضوع له علاقة بالموضوع السابق، فالبحث فيه ناتج عن البحث في تعليل أفعال الله هل يحكم عليها بحكم العقل أولاً (2)؟ إن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها غير صحيح، والمذهب الصحيح في هذه المسألة أنه: ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
1ـ أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فساده، فهذا النوع هو حسن قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد الشرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح (3)، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث الله إليهم رسولا وهذا خلاف النص، قال تعالى:"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء، آية: 15).
2ـ أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
__________
(1) القدر للأشقر صـ 71.
(2) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ 248.
(3) المصدر نفسه صـ 255.(1/296)
3ـ أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن به العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" (الصافات، آية: 103) حصل المقصود ففداه بالذبح وكذلك حديث الابرص والأقرع والأعمى لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم، فرضي الله عنك وسخط على صاحبيك (1)، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، فهذه الاقسام الثلاثة هي الصواب (2).
وهناك نقطة مهمة وهي: إن ادراك العقل لحسن الفعل أو قبحه أكثره مجمل، فالعقل لا يحيط بالوجوه والاعتبارات للأفعال كلها ولذلك كان الشرع وإرسال الرسل لابد منه خاصة مع غلبة الهوى، ولكن هذا لا يمنع وجود قدر مشترك بين العقلاء في إدراك حسن بعض الأفعال أو قبحها (3)، وإذا تتبعنا نصوص الشرع لوجدنا الدلالة على أن هذا مركوز في الفطرة ومن الأدلة على ذلك:
1ـ قال تعالى:"وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ" (الأعراف، آية: 28 ـ 29).
فالفاحشة هنا هي طواف المشركين عراة بالبيت رجالاً ونساء، فبين الله أنه لا يأمر به لقبحه، ثم بين الله أنه لا يأمر إلا بما هو حسن (4).
__________
(1) البخاري رقم 3464، فتح الباري (6/ 500).
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 434 ـ 436).
(3) مفتاح دار السعادة نقلاً عن مسائل أصول الدين (1/ 382).
(4) مدارج السالكين (1/ 249) لابن القيم.(1/297)
2ـ وقال الله تعالى:"قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (الأعراف، آية: 33)، ففي الآية علق الله التحريم ببعض الأفعال لفحشها.
3ـ وقال الله تعالى:"وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً" (الإسراء، آية: 32)، فالله عز وجل علل النهي عن قرب الزنا بكونه فاحشة (1).
4ـ وقال الله تعالى:"قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف، آية: 32)، فوصف الله بعض رزقه بأنه طيب، وأن هذا الوصف يقتضي عدم تحريمه، فدل على ثبوت وصف للفعل هو منشأ للمصلحة مانع من التحريم، وهذا هو التحسين العقلي عينه (2).
__________
(1) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (1/ 483.
(2) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 249).(1/298)
5ـ لقد ضرب الله أمثلة عقلية كثيرة دالة على حسن التوحيد ومدح فاعله، وعلى قبح الشرك وذمه وذم فاعله، والأدلة فيه كثيرة، فمن ذلك قول الله تعالى:"ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الروم، آية: 28). ففي هذا المثل بيان من الله للمشركين أنهم إذا كانوا لا يرضون أن يكون مماليكهم شركاء لهم، فكيف ساغ لهم أن يجعلوا المخلوقين شركاء للخالق فالخالق أولى بالتنزيه ونفي الشريك في العبادة (1)، فلو كان الشرك قبيحاً لمجرد النهي عنه، لاكتفى بالنهي عنه فقط، ولم يذكر مثلاً يدل على قبحه في العقول والفطر (2).
ومنه قول الله تعالى:"أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" (يس، آية: 23 ـ 24).
فلم يحتج الله عليهم بمجرد الأمر، بل احتج عليهم بالعقل ومقتضى الفطرة، لأن من لا يملك دفع ضر عن نفسه فأولى أن لا يقدر على دفعه عن غيره، فكانت عبادته من كان نافعاً ضلالاً مبيناً (3).
__________
(1) مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه (1/ 484).
(2) المصدر نفسه (1/ 484).
(3) المصدر نفسه (1/ 484)، مفتاح دار السعادة (2/ 333).(1/299)
إن مجرد معرفة حسن الأفعال وقبحها بالعقل قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يترتب عليه الثواب والعقاب، كما أننا نثبت حسن الأفعال وقبحها لذاتها ومعرفة العقل لذلك، كما أنه له مدخل في معرفة حسن بعض الأفعال وقبحها، وأما الثواب على فعل الأفعال الحسنة فإنما هو من قبل الشارع والعقاب على فعل الأفعال القبيحة، إنما هو من قبل الشارع، فلا يجب شئ على المكلف قبل ورد الشرع، والثواب والعقاب متوقف على بعثة الرسل، كما قال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء، آية: 15).
وتحقيق الحق في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة (1).
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل إن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون العمل القبيح موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، والأوثان، والكذب، والزنا، والظلم، والفواحش كلها في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع (2).
فالله سبحانه وتعالى لا يعذب عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل عليهم فضلاً منه تعالى ورحمة، قال تعالى: "وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" (القصص، آية: 59).
__________
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 7).
(2) مدارج السالكين (1/ 247).(1/300)
وهذا من فضل الله ورحمته أن لا يعذب الناس إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل، قال الله تعالى: "رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء، آية: 165)، فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الحجة إنما قامت بالرسل وأنه بعد مجيئهم لا يكون للناس على الله حجة، وهذا يدل على أنه تعالى لا يعذب الناس قبل مجئ الرسل إليهم، لأن الحجة حينئذ لم تقم عليهم، فالصواب إثبات الحسن والقبح عقلاً ونفي التعذيب على ذلك إلا بعد بعثة الرسل، فالحسن والقبح العقلي لا يستلزم التعذيب، وإنما يستلزمه مخالفة المرسلين (1).
ومن الآيات الدالة دلالة صريحة على معرفة العقل حسن الأفعال وقبحها وأنها في ذاتها حسنة وقبيحة قول الله تعالى: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ" (الأعراف، آية: 127) وذلك لأن المعروف الذي يأمرهم به تعالى هو ما تعرفه وتقر بحسنه العقول والفطر السليمة وأن المنكر الذي ينهاهم عنه تعالى هو ما تنكره العقول والفطر السليمة وتقر بقبحه (2)، ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نفس الآية: "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ"، فهذه الآية تدل دلالة صريحة في أن الحلال كان طيباً قبل حله، وأن الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه (3).
__________
(1) مجموع الفتاوي (8/ 435) دار السعادة (2/ 39).
(2) منهج السلف والمتكلمين، جابر ادريس علي (1/ 142).
(3) المصدر نفسه (1/ 142).(1/301)
إن الطيب إذا أحل من الشارع فقد اكتسب طيباً آخر إلى طيبه، فصار طيباً من الوجهين معاً، وكذلك القبيح إذا نهى الشارع عنه اكتسب قبحاً إلى قبحه، فصار قبيحاً من الوجهين معاً (1)، وذلك لأن حسن الأفعال وقبحها ثابتان لذاتها، ويكتشف ذلك بالعقل والشرع معاً (2).
ثالثاً: فعل الأصلح، معنى الاستطاعة وتكليف ما لا يطاق:
1 ـ وجوب فعل الإصلح:
هذه المسألة متفرعة عن مسألة التحسين والتقبيح العقليين، معتقدنا في هذه المسألة: إنه لا يجب فعل الأصلح على الله تعالى، بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، فالله أمر العباد بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وأن فعل المأمور به مصلحة عامة لمن فعله، وأن إرسال الرسل مصلحة، وإن كان فيه ضرر على بعض الناس لمعصيته، ففعل المأمور به وترك المنهي عنه مصلحة لكل فاعل وتارك، وأما نفس الأمر وإرسال الرسل فمصلحة عامة للعباد، وإن تضمن شراً لبعضهم وهكذا سائر ما يقدره الله ـ تعالى ـ تغلب فيه المصلحة والرحمة والمنفعة، وإن كان في ضمن ذلك ضرر لبعض الناس، فلله في ذلك حكمة أخرى .. وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر لبعض الناس، أو هو سبب ضرر ـ كالذنوب ـ فلابد في كل ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقها، وقد غلبت رحمته غضبه (3).
2ـ معنى الإستطاعة:
هذه المسألة من أهم المسائل في باب القدر، لأنها تتعلق بقدرة العبد واستطاعته التي جعلها الله مناط التكليف، ويتعلق بها أمران مهمان:
أحدهما: هل للعبد قدرة يفعل أو لا؟ والثاني: هل استطاعته قبل الفعل فقط أو معه فقط، أو هي قبل الفعل وبعده؟ وتحدث العلماء في هذه المسألة بالتفصيل فقالوا:
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 249 ـ 250)، المصدر نفسه (1/ 143).
(2) منهج السلف والمتكلمين (1/ 143).
(3) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ 259.(1/302)
أ ـ فهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الألآت، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل قد تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين، ومثال هذه الاستطاعة قوله تعالى:"وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" (آل عمران، آية: 97)، فهذه الاستطاعة قبل الفعل، ولو لم تكن إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولا عصى أحد بترك الحج، ولا كان الحج واجباً على أحد قبل الإحرام، بل قبل فراغه، ومن أمثلتها قوله تعالى:"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (التغابن، آية: 16). فأمر بالتقوى بمقدار الاستطاعة، ولو أراد الاستطاعة المقارنة لما وجب على أحد من التقوى إلا ما فعل فقط، إذ هو الذي قارنته تلك الاستطاعة (1)، وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وعليها يتكلم الفقهاء، وهي الغالبة في عرف الناس (2).
ب ـ وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى:"مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ" (هود، آية: 20).
وقوله:"وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا" (الكهف، آية: 100 ـ 101).
__________
(1) القدر، ابن تيمية صـ 372.
(2) القضاء والقدر، المحمود صـ 269.(1/303)
فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم، وصعوبته على نفوسهم فنفوسهم لا تستطيع إرادته، وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوا، وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة، واتباعها، وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له (1). وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل (2).
وبذلك نثبت نوعي الاستطاعة، سواء التي هي مناط التكليف، وهذه تكون قبل الفعل، وبها يتعلق الشرع حيث لا يكلف غير المستطيع، والأخرى التي تكون مع الفعل، فهذه يتحقق الفعل بها وتكون بقدرة العبد وفعله، لكنها لا تقع إلا موافقه للقضاء والقدر (3).
3ـ لا تكليف إلا بما يطاق:
لم يكلف الله تعالى الخلق إلا بما يطيقونه، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير "لا حول ولا قوة إلا بالله" نقول: لا حيلة لأحد وتحوّل لأحد ولا حركة لأحد عن معصية الله، إلا بمعونة الله ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى، قال تعالى:"لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" (البقرة، آية: 286)، وقال تعالى:"لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" (الانعام، آية: 152).
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/ 61).
(2) القضاء والقدر صـ 270.
(3) المصدر نفسه صـ 272.(1/304)
المبحث التاسع: سنة الله في الآجال وقدرة الله وثمار الإيمان بالقدر:
أولاً: سنة الله في الآجال:
إن الله سبحانه وتعالى قدّر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، قال تعالى:"إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" (يونس، آية: 49).
وقال تعالى:"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً" (آل عمران، آية: 145).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله، ولن يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار، وعذاب القبر: كان خيراً وأفضل (1).
فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بالحرق، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب، والله خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة (2).
ولما قتل في غزوة أحد من المسلمين من قتل، وأخذ المنافقون من ذلك قضية يلونها بألسنتهم، ويلوون المسلمين على خروجهم لقتال المشركين وإن إخوانهم الذين قتلوا، لو كانوا عندهم، ولم يخرجوا للقتال، ما ماتوا وما قتلوا فرد عليهم القرآن أبلغ الرد، مندداً بهم وبموقفهم، فقال:"وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ" (آل عمران، آية: 154).
وقال عز وجل:"وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" (فاطر، آية: 11).
__________
(1) المنحة الإلهية في تهذيب شرح الطحاوية، عبد الآخر حماد الغنيمي صـ 320.
(2) المصدر نفسه صـ 320.(1/305)
والمعمر: من يعيش عمراً طويلاً في العادة، ومن ينقص من عمره: من يعيش عمراً قصيراً، قدره بعضهم بما قبل الستين، والضمير في "عُمُرِهِ" عائد على الجنس لا على العين، لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره.
وجاء عن ابن عباس في تفسير الآية: ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر والحياة، ببالغ العمر "أي الطويل" ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له فذلك قوله:"وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ" يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
وبعضهم فسّر " وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ" بمعنى ذهب العمر قليلاً.
قليلاً: سنة بعد سنة، وشهراً بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، ويوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتابه (1).
ومنهم من فسر نقص العمر بقلة البركة فيه، والزيادة في العمر بإلقاء البركة فيه (2)، فقد جاء في الحديث الشريف: من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره (3)، فليصل رحمه (4).
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 550).
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ60.
(3) أي في أجله.
(4) متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان رقم 1657.(1/306)
فالآجال سواء كانت قصيرة أو طويلة مقدرة من أسبابها، وليست منفصلة عنها، كما يتوهم عوام الناس، فمن قدر له طول الأجل، قدر له أنه سيتهيأ له من الأسباب، من توافر الغذاء الصحي، وطيب الهواء النقي، وممارسة العمل البدني أو الرياضي والابتعاد عما يضر بالبدن تناوله، من المسكرات أو المخدرات، أو اللأشياء الضارة كالتدخين، أو طول السهر، أو ارتكاب المحرمات، فهو بهذه الأسباب يطول عمره، وهذه الأسباب مقدرة كمسبباتها، ومن قدر له قصر العمر، قدر له أن يبتلي بسوء التغذية، أو سوء التهوية أو الإصابة بعدوى أو تناول ما يضره ويؤذيه، أو يصيبه حادث في طريق، بأن يموت في كارثة عامة كالزلزال، أو يقتله قاتل عمداً أو خطأ، فيموت وينتهي أجله بواحد من هذه الأسباب أو غيرها، ولكنه مات في وقته المقدر له، وفي "أجله المسمى" عند الله، فلا انفصال في الأقدار بين المسببات وأسبابها بحال (1).
وقد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول بعضهم: إذا كان الله علم كل ما هو كائن، وكتب ذلك كله عنده في كتاب الله فما معنى قوله:"يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ" (الرعد، آية: 39).
وإذا كانت الأرزاق والأعمال والآجال مكتوبة لا تزيد ولا تنقص فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم: من سرّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه (2).
وكيف تفسرون قول نوح لقومه:"أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى" (نوح، آية: 3 ـ 4).
والجواب أن الأرزاق والأعمار نوعان:
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ60.
(2) متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان رقم 1657، والقضاء والقدر، عمر سليمان الأشقر صـ 66.(1/307)
نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل، ونوع أعلم الله به ملائكته فهذا هو الذي يزيد وينقص، ولذلك قال تعالى:"يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" (الرعد، آية: 39)، وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي قدر الله فيه الإمور على ما هي عليه، ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص وكذلك الرزق بحسب الأسباب، فإن الملائكة يكتبون له رزقاً وأجلاً، فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل، وإلا فإنه ينقص له منهما (1).
والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد فإن الله يأمر الملك أن يكتب لعبده أجلاً، فإن وصل رحمه، فيأمره بأن يزيده في أجله ورزقه والملك لا يعلم أيزاد له في ذلك أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولم يتأخر (2).
ثانياً: قدرة الله عز وجل:
القدر والقدرة والمقدار على الشيء: القدرة عليه، وقدرت الشيء: أقدره قدراً، من التقدير، وفي الحديث: فإن غمّ عليكم فأقدروا له (3).
وقال تعالى:"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ" (الزمر، آية: 67) أي: ما عظمّوا الله حق تعظيمه (4).
والقدير: أبلغ في الوصف بالقدرة من "القادر" و"المقتدر": من أقتدر وهو أبلغ.
وقد ورد اسم الله "القادر" سبحانه اثنتي عشرة مرة خمس منها بصيغة الجمع، كقوله تعالى:"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ" (الأنعام، آية: 65).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 540)، القضاء والقدر عمر الأشقر صـ 67.
(2) المصدر السابق (8/ 517)، القضاء والقدر عمر الأشقر صـ 67.
(3) مع الله، سلمان العودة صـ 233، البخاري رقم 1900.
(4) مع الله صـ 233.(1/308)
ـ وقال تعالى:"وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ" (المؤمنون، آية: 95).
ـ وقال تعالى:"أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ" (يس، آية: 81).
ـ وقال تعالى:"فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" (المرسلات، آية: 23).
وورد اسم الله "القدير" سبحانه خمساً وأربعين مرة منها قوله تعالى:"أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِبِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة، آية: 148)
ـ وقال تعالى:"إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا" (النساء، آية: 149).
ـ وقال تعالى:"يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة، آية: 40).
ـ وقال تعالى:"وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" (الحج، آية: 39).
وورد اسم المقتدر في قوله سبحانه:"وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا" (الكهف، آية: 45).
ـ وقال تعالى:"فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ" (القمر، آية: 42).
ـ وقال تعالى:"فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ" (القمر، آية: 55).
والله هو القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء ولا يفوته مطلوب، بخلاف خلقه، فهو سبحانه لا يتطرّق إلى العجز ولا يعترضه فتور.(1/309)
"والقادر" سبحانه هو من يتيسر له ما يريد على ما يريد لظهور أفعاله، ولا يظهر الفعل اختياراً إلا من قادر غير عاجز، كما قال سبحانه:"وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة، آية: 20). فوصف نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه محيط بهم، "والقدير" هو "القادر"، كما أن "العليم" هو "العالم" "والقدير" سبحانه كامل القدرة، فبقدرته أوجد الموجودات وبقدرته دبّرها وبقدرته سوّاها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت ويبعث العباد للجزاء وبقدرته يقلب القلوب على ما يشاء ويريد (1).
قال الشاعر:
وهو القدير وليس يُعجزُه إذا ... ما رام شيئاً قط ذو سلطان (2)
ثالثاً: ثمار الإيمان بالقدر:
للإيمان بالقدر ـ كما جاء في القرآن والسنة ـ وكما فهمه سلف الأمة ثمار مباركة وآثار طيبة، في عقلية المسلم ونفسيته، في وجدانه وأرادته، وعلاقته بنفسه وبربه، وبمن حوله، وما حوله، وفي الحياة الإسلامية بصفة عامة، يشهد بها كل ذي لب، ويلمسها كل ذي بصر، لما لها من تأثير إيجابي في السلوك الخاص والعام وفي السلم والحرب، وفي اليسر والعسر والرخاء والشدة، والنعماء والبأساء (3)، ومن أهم هذه الثمار والآثار:
__________
(1) مع الله صـ 235.
(2) مع الله صـ 234.
(3) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 88.(1/310)
1ـ الإقدام على عظائم الإمور:
الإيمان بالقدر في حياة المؤمن أقوى حافز للعمل الصالح والإقدام على عظائم الإمور بثبات وعزم وثقة ولقد كانت الصورة الصحيحة للإيمان بالقدر في حياة الأجيال الأولى من المسلمين هي التي صنعت تلك العجائب التي سجلها تاريخهم والتي ثبتت الدعوة في الأرض ونشرتها على نطاق واسع في فترة وجيزة من الزمن لا مثيل لها ـ في قصرها ـ في التاريخ، وهي التي أقامت هذا البناء الشاهق في كل ميدان من ميادين الحياة، نعم، لقد كان من أول ثماره الباهرة ذلك الاستبسال في الجهاد في سبيل الله وفي سبيل نشر الدعوة (1)، فقد كانوا لا يخافون الموت، لأنهم يوقنون بأن الآجال محددة لا تتأخر ولا تتقدم لحظة واحدة ولما كانت هذه العقيدة راسخة في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوتهم (2)، ومهما كان عددهم، لقد أيقنوا بقول الله تعالى:"قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (التوبة، آية: 51).
فإذا كان لا يصيب الإنسان إلا ما كتبه الله له، سواء كان قاعداً في بيته أو في ميدان القتال، ففيم الجبن وفيم الفرار من القتال خوفاً من الموت؟ فهل القتال هو الذي يقتل؟ أم قدر الله لإنسان ما أن يموت في لحظة معينة في حالة معينة هو الذي يميته؟ وإذا كان كتب عليه الموت فهل يعفيه منه ألا يذهب إلى القتال؟ وإن كان لم يكتب عليه فهل يقتله الذهاب إلى الميدان؟
__________
(1) ركائز الإيمان محمد قطب صـ 426.
(2) الإيمان بالقضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود صـ 454.(1/311)
هكذا كان الأمر في حسّهم فأقبلوا على الجهاد في ثقة وثبات وعزم، وكان منهم ما سجله التاريخ من مواقف رائعة من الشجاعة والصبر على الشدة مع الإطمئنان إلى قدرة الله سبحانه، ولقد وعى المسلمون كذلك الدرس الذي نزل عليهم في سورة آل عمران بشأن غزوة أحد، حين قال المنافقون:"هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ" فرد عليهم:"قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" وحين قالوا:"لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" فرد عليهم:"قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ" وحين قال الله للمؤمنين:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ" (آل عمران، آية: 156 ـ 158). وعوه فأيقنوا أنه لا يموت إلا من كتب عليه الموت ولو كان في مضجعه في بيته وأنه إن لم يكن كُتب عليه الموت في تلك اللحظة فكل هول الحرب وكل سهام الأعداء وسيوفهم لن تصيبه بالموت وأيقنوا كذلك أنه حين يكون الإنسان في القتال ويموت ـ بقدر من الله ـ فأمامه المثوبة والأجر وهو الكاسب بهذا القدر الذي قدره له الله، لذلك كان القتال في سبيل الله أمراً محبباً إلى نفوسهم، فنصروا الله فنصرهم وثبت أقدامهم (1)، كما وعد سبحانه:"إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد، آية: 7).
__________
(1) ركائز الإيمان محمد قطب صـ 427.(1/312)
كذلك كان الإيمان بالقدر على هذه الصورة هو حافزهم للانسياح في الارض، سواء لنشر الدعوة، أو طلب الرزق، أو اكتشاف المجهول من الأرض، فكان لهم في كل ميدان نشاط ملحوظ وآثار مشهودة، ففي نشر الدعوة نجد أن الإسلام قد امتد من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً في فترة من الزمن لا تتجاوز قرن وهي سرعة لا مثيل لها في التاريخ، وأنتشر مع الإسلام سلطان الدولة الإسلامية بما أرهب أعداء الله.
وانتشر معه كذلك اللسان العربي بسرعة تفوق الوصف في انتشار اللغات في الأرض وفي ميدان طلب الرزق تدفقت الثروات على العالم الإسلامي حتى صار المسلمون أغنى أمة في الأرض، لأنهم يجوبون البحار والقفار تجاراً وصناعاً فيأتي إليهم المال من كل سبيل وتتاح معه فرصة العمران والحضارة، وفي ميدان الكشف الجغرافي كان المسلمون هم الذين ارتادوا البقاع المجهولة ـ أول من ارتادها ـ ورسموا لها الخرائط الجغرافية الدقيقة التي مكنت "فاسكوا داجاما" و"ماجلان" فيما بعد من القيام برحلاتهما حول أفريقيا وآسيا، كما كشفوا منابع النيل ورسموا خرائطه التي جاء المكتشفون الأوربيون على هداها من بعد ليزعموا أنهم هم المكتشفون، وهكذا امتدت الحياة بجميع صورها شرقاً وغرباً بهذا الدافع الإيماني العميق (1).
__________
(1) ركائز الإيمان صـ 248.(1/313)
2ـ القضاء على الكسل والتواكل:
إن جموع المسلمين قد انحرفت في العصور الأخيرة في عقيدة القدر بشأن ما يجري في الحياة الدنيا، لقد أصابهم التواكل فيما أصابهم من انحرافات، وأدى بهم التواكل إلى العجز والكسل والقعود، لقد فهم ـ بعض الناس ـ من معنى أنه لا يحدث في الكون إلا ما يريده الله، أنه لا حاجة للإنسان أن يعمل، فإن قدر الله ماض سواء عمل الإنسان أو لم يعمل، فلا ضرورة للكد في طلب الرزق لأن: مالك سوف يأتيك، ولا ضرورة للنشاط والحركة لأنها في زعمهم ضد التوكل الصحيح، كما فهموا كذلك من معنى التسليم لقدر الله القعود عن تغيير ما أصاب الإنسان من فقر أو مرض أو جهل أو حتى معصية، لأن كل ذلك مقدر من عند الله فلا ينبغي مقاومته إنما ينبغي الاستسلام له! وهذا التواكل وهذه السلبية ليست من الإسلام في شيء على الإطلاق، وإلا فلو كانت من الإسلام فكيف غابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحبه الكرام الذين تلقوا عنه المفاهيم الصحيحة لهذا الدين (1)؟
والفهم الصالح لم يفهم قط من عقيدة القدر هذا الفهم الخاطئ الذي يلغي مسئولية الإنسان عن عمله؟
لقد فهم المسلمون من درس أحد أن ما وقع لهم كان مقدراً لهم عند الله، ولكنه كان في ذات الوقت من عند أنفسهم بسبب معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم:"أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران، آية: 165 ـ 166).
__________
(1) المصدر نفسه صـ 430.(1/314)
فقد وعى المسلمون من الدرس أن كون الهزيمة تمت بقدر الله لا ينافي أنها في ذات الوقت "مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ" أي: أن وقوع شيء بقدر الله لا ينفي مسئولية الإنسان عن خطئه، فليس لمخطئ أن يهز كتفيه ويقول: إنما وقع الخطأ مني بقدر من الله، ولقد قدّر الله ألا أخطئ لما أخطأت فلست مسئولاً عن الخطأ، كلا: إن الإيمان بالقدر لا يتنافى فيه أن يكون الحدث مقدراً من عند الله، وأن يكون الإنسان مسئولاً عن عمله في ذات الوقت، كذلك وعى المسلمون من وقعة أحد وأحداثها درساً آخر.
إن عليهم أن يسلموا لقدر الله، ولكن ما معنى التسليم؟ هل معناه القعود عن تغيير ما أصابهم، ولو أنه قد أصابهم بقدر من الله؟
إنما قال لهم:"فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْ لاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (آل عمران، آية: 153).
فالحزن يفتت العزيمة ويوهنها، وهو الأمر الذي لا يريده الله لهم، فوجّههم إلى التسليم بقدر الله لكيلا يحزنوا وتتفتت عزيمتهم، ولكن هل طلب منهم الاستسلام لما أصابهم بمعنى عدم العمل على تغييره (1).
__________
(1) ركائز الإيمان صـ 431.(1/315)
إن أحداث المعركة سارت في خط مختلف تماماً، فقد جمع الله الرسول صلى الله عليه وسلم مشاعر المسلمين وعزائمهم كما جمع صفوفهم ليدخل بهم المعركة مرة أخرى على أثر الهزيمة. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:"الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ" (آل عمران، آية: 172 ـ 174).
لقد صرف الله أعداءهم فلم تقع المعركة، ولكنهم كانوا قد استعدوا للقتال تماما، استعدوا له بأرواحهم، ومشاعرهم، فجمعوا عزائمهم رغم تخويف الناس لهم وعزموا على لقاء العدو متكلين على الله، وهذا هو التوكل الحق الذي يطلبه الله من المسلمين.
إن القعود عن تغيير الأمر الواقع بحجة أنه واقع بقدر من الله جهالة عظيمة لا تنبغي للمسلم، نعم إن ما وقع بالفعل قد وقع بقدر من الله ـ وإن كان لا ينفي مسئولية الإنسان ـ ولكن من يعلم ما يكون عليه قدر الله غداً، بل في اللحظة القادمة، هل علم ذلك القاعد المتواكل أن قدر الله القادم لن يكون مغايراً لقدر الله الواقع؟ أليس في الاحتمال أن الله قد قدر للحظة القادمة قدراً غير القدر الذي كان في اللحظة الماضية؟ فكيف يقعد عن العمل بزعم أنه متوكل على الله مستسلم لقدره (1)؟
__________
(1) ركائز الإيمان صـ 432.(1/316)
إن الفهم الصحيح للإيمان بالقدر، لا ينفي مسئولية الإنسان عن عمله، ولا يدعو إلى القعود عن تغيير الواقع، يدعوا إلى التواكل وعدم الأخذ بالاسباب انتظاراً لقدر الله وذلك هو الفهم الذي ينبغي أن يعود المسلمون إليه، ليزول عنهم ما أصابهم من فقر وجهل ومرض وتواكل وعجز، وما ترتب على ذلك كله من غلبة عدوهم عليهم، وهوائهم على أنفسهم وعلى الناس (1).
3ـ الثبات في مواجهة الطغيان:
ومن ثمار الإيمان بالقدر، أنه يهب صاحبه ثباتاً ورسوخاً في مقاومة الباطل ومواجهة الظلم والطغيان، وإنكار المنكر، لا يهاب فرعوناً متألهاً ولا طاغوتاً متجبراً، وذلك أن الناس عادة يخافون على أمرين نفيسين عندهم وهما:
العمر والرزق والعمر محتوم، والرزق مقسوم ولهذا وقف المؤمنون في وجه الطغاة والجبارين، ولم يعبأوا بجبروتهم ولم يهنوا أمام قوتهم وطغيانهم وفي عصرنا رأينا العلماء والدعاة الشامخين يواجهون المستعمرين، وأذناب المستعمرين من الملوك والرؤساء، لا يبالون بما يصيبهم في سبيل الله (2).
__________
(1) المصدر نفسه صـ 433.
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي.(1/317)
فالإيمان بالقدر من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيابين ولا وجلين، وكان الواحد منهم يطلب الموت في مظانه، ويرمي بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثمّ تراه يموت على فراشه، فيبكي أن لم يسقط في ميدان النزال شهيداً وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال (1)، فهذا خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة وأدرك ذلك بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس والسماء تنهل عليّ، وأنا انتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدّر لي إلا أن أموت على فراشي (2)، وقد تصدى خالد لطغيان الفرس والروم معاً.
4ـ الصبر عند نزول المصائب:
ومن ثمرات الإيمان بالقدر الصبر عند نزول المصائب، فالمؤمن بالقدر لا يسيطر عليه الجزع، والفزع، ولا يستبد به السخط والهلع، بل يستقبل مصائب الدهر بثبات، كثبات الجبال فقد استقر في اعماقه، قول الله تعالى:"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" (الحديد، آية: 22 ـ 23) (3).
__________
(1) القضاء والقدر، عمر الاشقر صـ 112.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي (1/ 382)، عمر بن الخطاب للصّلّابي صـ 351.
(3) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 91.(1/318)
فالإيمان بالقدر من أعظم الأدوية التي تعين المؤمن على الشدائد والمصائب والبلايا، فهذه ثمرة من أعظم ثمرات الإيمان بالقدر (1)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أفراد الأمة الإسلامية هذا الإيمان ويرشدهم ويعلمهم كيف يتعاملوا مع المصائب والشدائد، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً لها في الموت، فقال للرسول: أرجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى (2).
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى: معناه الحث على الصبر والتسليم لقضاء الله تعالى وتقديره أن هذا الذي أخذ منكم كان له لا لكم فلم يأخذ إلا ما هو له، فينبغي أن لا تجزعوا كما لا يجزع من استردت منه وديعة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وله ما أعطى" معناه أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه بل هو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" معناه: أصبروا ولا تجزعوا فإن كل من يأت قد انقضى أجله المسمى فمحال تقدمه أو تأخره عنه، فإذا علمتم هذا كله فأصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم، وهذا الحديث من قواعد الإسلام المشتملة على جمل من أصول الدين وفروعه والآداب (3)، والمراد بأصول الدين هنا الإيمان بالقضاء والقدر (4).
ومن الأذكار التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة قوله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد (5).
__________
(1) الإيمان بالقدر محمد حسان صـ 250.
(2) البخاري رقم 6228، مسلم 923.
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 224 ـ 225).
(4) المباحث العقدية المتعلقة بالأذكار (2/ 816).
(5) مسلم رقم 593، البخاري رقم 844.(1/319)
وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات، لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإعطاء وتمام القدرة (1).
والمسلم يرضى ويسلم ويسلي نفسه بالصبر الجميل عند نزول المصائب، قال عز وجل:"وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" (البقرة، آية: 155 ـ 157).
وتعلم الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء العظيم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً، قال: فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها (2).
5ـ الرضا والقناعة بما قسم الله:
ومن ثمار الإيمان بالقدر: رضا المؤمن بما قسم الله، وقناعته بما رزق الله، وهذا بثمر ثمرات طيبة في نفسية المؤمن وحياته.
أولها: عن القلب، فمن الناس من لو أوتي وادياً من ذهب لابتغى ثانياً، ولو أوتي ثانياً لتمنى ثالثاً، ومثله كجهنم يقال لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟
والغنى الحقيقي ليس إلا غنى النفس الذي قال عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة الغرض، إنما الغني عن النفس (3).
__________
(1) فتح الباري (2/ 332 ـ 333).
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 383)، رقم 199.
(3) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان رقم 624.(1/320)
وقال صلى الله عليه وسلم: "أرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس (1).
وقال الشاعر:
إن الغنى هو الغنى بنفسه ... ولو أنه عار المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... وإذا قنعت فبعض شئ كاف
ولا يعرف هذا الغنى النفسي إلا من رضى بما قسمه الله، وقنع به.
والثاني: الإجمال في الطلب: فهو يسعى في رزقه، ويكدح في حياته، ولكن بإجمال واعتدال، وليس كأولئك الذين يلهثون أثناء النهار والليل مكدودي الأجسام، مشتتي القلوب، مهمومي النفوس، لا يشعرون بهدوء بال، ولا براحة نفس، ولا بإطمئنان فكر، فإن حصلوا على المزيد إزدادوا لهثاً وهما إن أخفقوا امتلئوا نكداً وغماً (2)، وفي الحديث إن روح القدس نفث في روعي: أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب (3).
وثالثها: ألا يتطلع إلى ما ليس في وسعه وليس من شأنه ويرضى بما وهب الله له مما لا يستطيع تغييره وفي حدود ما قدر له يجب أن يكون نشاطه وطموحه، فلا يعيش متمنياً ما لا يتيسر له، متطلعاً إلى ما وهب لغيره ولم يوهب له، وذلك كتمني الشيخ أن يكون له قوة الشباب، وتطلع المرأة الدميمة إلى الحسناء في غيرة وحسد، ونظرة الشاب القصير إلى الرجل الطويل في حسرة وتلهف، وطموح البدوي الذي يعيش في أرض فقراء بطبيعتها إلى رفاهية الحياة وأسباب النعيم، وكما حدث في عهد الرسول حين تمنى النساء أن يكن لهن ما للرجال، فأنزل الله: "وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ" (النساء، آية: 23) (4).
__________
(1) صحيح الجامع الصغير رقم 100.
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ93.
(3) صحيح الجامع الصغير رقم 2085.
(4) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ94.(1/321)
إن الإيمان بالقدر يبعث إلى القناعة وعزة النفس والإجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين وقطع الطمع مما في أيديهم، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين، وهذا أسمى فلاحه ورأس نجاحه قال الشاعر:
أفادتني القناعة كل عز ... وهل عز أعز من القناعة
فصيرها لنفسك رأس مال ... وصير بعدها التقوى بضاعة
تجز ربحاً وتغنى عن بخيل ... وتنعم في الجنان بصبر ساعة (1)
6 ـ العز في طلب الحوائج:
ومن ثمار الإيمان بالقدر، أن يطلب المؤمن حاجته عند من هي عنده بعزة نفس لا يطأطئ رأسه ولا يذل نفسه ولا يدني ظهره لمخلوق، إن الله تعالى كتب العزة للمؤمن فلا ينبغي له أن يفرط فيها، قال عز وجل: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (المنافقون، آية: 8).
فلا يحل لمؤمن أن يذل نفسه لمخلوق مثله من أجل حاجة عنده، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه ـ عبد الله بن عباس ـ هذه الكلمات العظيمة: "احفظ الله يحفظك/ احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشئ، لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (2).
__________
(1) الوسطية في القرآن الكريم للصلابي صـ343.
(2) سنن الترمذي رقم 2516 حسن صحيح.(1/322)
7 ـ السكينة وراحة النفس وسكون القلب: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هدف منشود، فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها، وإنك لتجد عند خواص المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين، من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر على بال ولا يدور حول ما يشبهه خيال، فلهم في ذلك الشأن القدح المعلى والنصيب الأوفى، فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر (1).
وهذا ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (2)، ويقول مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى السجن: ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحلت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (3).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ97.
(2) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي صـ34.
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية، جهاده ودعوته أحمد القطان صـ101.(1/323)
بل إنك تجد عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار الكتاب والمفكرين والأطباء من غير المسلمين، فكم من الأطباء غير المسلمين على سبيل المثال من يعجب، ويذهب به العجب كل مذهب، وذلك إذا كان لديه مريض مسلم واكتشف أنه مصاب بداء خطير ـ كالسرطان ـ مثلاً فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار هذا المريض ومصارحته بعلته، فتجده يقدم رجلاً ويؤخر الأخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشية من ردة فعل المريض إزاء هذا الخبر، وما أن يعلمه بمرضه ويخبره بعلته، إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبل هذا الخبر بنفس راضية وصدر رحب، وسكينة وهدوء، لقد أدهش كثيراً من هؤلاء إيمان المسلمين بالقضاء والقدر فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وارتفاع معنوياتهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة (1)، فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله وبقضائه وقدره.
ومليحة شهدت لها ضراتها ... والفضل ما شهدت به الأعداء
__________
(1) الإيمان بالقضاء والقدر محمد إبراهيم الحمد صـ32.(1/324)
ومن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا في ذلك ـ الكاتب المشهور "ر. ن. سي. بودلي" مؤلف كتابي "رياح على الصحراء" و"الرسول" وأربعة عشر كتاباً أخرى، والذي أورد رأيه "دبل كارينجي" في كتابه "دع القلق وأبدأ الحياة" في مقالة بعنوان "عشت في جنة الله" يقول بودلي: في عام 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية، الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء وقضيت هنالك سبعة أعوام، وأتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم وآكل من طعامهم، واتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد صلى الله عليه وسلم وعنوانه "الرسول"، وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرحل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والإطمئنان والرضا بالحياة، وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، فهم ـ بوصفهم مسلمين ـ يؤمنون بالقضاء والقدر، ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هيناً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً عل أمر، إنهم يؤمنون بأن " ما قدر يكون" وأن الفرد منهم "لَّن يُصِيبَه إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَه"، وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيادي كلا (1).
__________
(1) الوسطية في القرآن الكريم للصلابي صـ344.(1/325)
ثم أردف قائلاً: ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه، هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال وادي "الرون" في فرنسا وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة، ولكن العرب لم يشكو إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة "قضاء مكتوب"، لكنهم ما أن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتهم، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى، قال رئيس القبيلة الشيخ: لم نفقد الشئ الكثير، فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شئ، ولكن حمداً لله وشكراً، فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد (1).
وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً فانفجرت إحدى الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار إحتياطي، وتولاني الغضب وانتابني القلق والهم، وسألت صاحبي من الأعراب: ماذا وعسى أن نفعل؟ فذكرني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق، ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، لكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفذ، وهنالك أيضاً لم تثر ثائرة أحد من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يقطعون الطريق سيراً على الأقدام (2).
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق بقوله: قد اقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرحل ـ أن مرض النفوس، والسكيرين الذي يحفل بهم أمريكا، وأوربا ـ ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها، إنني لما أعان شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة والقناعة والرضا (3).
__________
(1) دع القلق وأبدأ الحياة، ديل كارنيجي صـ290، 291.
(2) المصدر نفسه صـ 290 ـ 291.
(3) المصدر نفسه صـ291 ـ 295.(1/326)
وأخيراً ختم كلامه بقوله: وخلاصة القول أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء ـ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة، ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكنات والعقاقير (1).
8 ـ المؤمن لا يعيش بين "لو" و"ليت":
إن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي وسخطه على الحاضر وخوفه من المستقبل.
إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب الدهر، فيظل شهوراً وأعواماً آلامها، ويستعيد ذكرياتها القائمة، متحسراً تارة، متمنياً أخرى، شعاره: ليتني فعلت،، وليتني تركت، وأني فعلت كذا لكان كذا، وقديماً قال الشاعر:
ليت شعري وأين من "ليتُ"؟ ... إن "ايتا" وإن "لوّا" ـ غناء
ولذا ينصح الأطباء النفسانيون والمرشدون الاجتماعيون، ورجال التربية، ورجال العمل، أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولَّى لا يعود.
ما مضى فات، والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أتت فيها
وقد صور هذا المعنى أحد المحاضرين بإحدى الجامعات بأمريكا تصويراً بديعاً لطلبته حين سألهم: كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كثير من الطلبة .. أصابعهم، فعاد يسألهم: وكم منكم مارس نشر نشارة الخشب؟ فلم يرفع أحد منهم إصبعه، وعندئذ قال المحاضر: بالطبع لا يمكن لأحد أن ينشر نشارة الخشب، فهي منشورة فعلاً. وكذلك الحال مع الماضي: فعندما ينتابكم القلق لأمور حدثت في الماضي، فاعلموا أنكم تمارسون نشر النشارة!!
__________
(1) الوسطية في القرآن الكريم صـ346.(1/327)
وقد نقل هذا التصوير "ديل كارينجي" في كتابه "دع القلق وأبدأ الحياة"، كما نقل قول بعضهم: لقد وجدت أن القلق على الماضي لا يجدي شيئاً تماماً، كما لا يجديك أن تطحن الطحين، ولا أن تنشر النشارة، وكل ما يجديك إياه القلق هو: أن يرسم التجاعيد على وجهك، أو يصيبك بقرحة في المعدة (1).
ولكن الضعف الإنساني يغلب على الكثيرين، فيجعلهم يطحنون المطحون، وينشرون المنشور، ويبكون على أمس الذاهب، ويعضون على أيديهم أسفاً على ما فات، ويقلبون حسرة ما مضى، وأبعد الناس عن الاستسلام لمثل هذه المشاعر الأليمة، والأفكار السقيمة هو المؤمن الذي قوي يقينه بربه، وآمن بقضائه، وقدره فلا يسلم نفسه فريسة للماضي وأحداثه، بل يعتقد أنه أمر قضاه الله كان لا بد أن ينفذ، وما أصابه من قضاء الله لا يقابل بغير الرضا والتسليم (2).
إن شعار المؤمن دائماً: "قدر الله، وما شاء فعل، الحمد لله على كل حال"، وبهذا لا يأس على ما فات ولا يحيا في خضم أليم من الذكريات، وحسبه أن يتلو قوله تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (التغابن، آية: 11).
وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (3).
فقد أمر المؤمن في هذا الحديث بالحرص على ما ينفعه سواء في دينه أم دنياه، والاستعانة بالله على ذلك فهو الذي يهيء له الأسباب، ويزيل من طريقه العوائق، كما قال تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُو إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة، آية: 5).
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ97، دع القلق صـ173.
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ 97.
(3) مسلم رقم 2664.(1/328)
وقال الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجنى عليه اجتهاده
ومن العجز المذموم هنا: إلقاء الأحمال على القدر والاحتجاج به في الإعفاء من المسئولية، وقديماً قيل: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير وحديثاً قال الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال: المسلم الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، أما المسلم القوي يعتقد أنه قدر الله الذي لا يغلب وقضاؤه الذي لا يرد، وقد روي أن بعض الصحابة ـ في زمن الفتوح الإسلامية ـ سأله أحد قادة الفرس: من أنتم؟ وما حقيقتكم؟ فقال له: نحن قدر الله، ابتلاكم الله بنا، وابتلانا بكم، فلو كنتم في سحابة في السماء لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا (1).
إن من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم إذا أصابه شئ من شدائد الدنيا وابتلاؤاتها ـ وما أكثرها ـ ألا يسلم نفسه للتحسر والأسى على ما فاته، فيصبح ويمسي، وهو يمضغ كلمات الأسى والأسف، ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا على سبيل التحسر والتمني، ويجتر الذكريات الحزينة، بل أمره أن يرد الأمر هذا إلى قدر الله، ويسلم أمره وقضائه قائلاً: قدر الله وما شاء الله فعل، معتبراً أن الخير فيما اختاره له، ثم هو لا يقدر على غير ذلك، وليتجه ـ بعد ذلك ـ للمستقبل ويعمل ويبني وينتج، لا إلى "اللَّولَوة" التي يقول فيها "لو أني فعلت، ولو أني تركت" فإن "لو" هذه "لو" المتمنية والمتحسرة تفتح عمل الشيطان، وعمله ليس وراءه إلا الضياع والخسران (2).
__________
(1) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ100.
(2) الإيمان بالقدر للقرضاوي صـ101.(1/329)
9 ـ الخوف والحذر من الله: فالمؤمن بالقدر على حذر من الله، قال تعالى: "فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" (الأعراف، آية: 99).
فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والفتن التي توجه سهامها إلى القلوب كثيرة، والمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة والإكثار من الصالحات ومجانبة المعاصي والموبقات، كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه ويسأله الثبات على الحق، كما يسأله الرشد والسداد (1).
10 ـ الخلاص من الشرك:
لا يتم توحيد الله إلا لمن أقرَّ أن الله وحده الخالق لكل شئ في الكون، وأن إرادته ماضية في خلقه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل المعذبين بالقدر لم يوحدوا ربهم، ولم يعرفوه حق معرفته، والإيمان بالقدر مفرق طريق بين التوحيد والشرك، فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من دون الله آلهة وأرباباً (2).
11 ـ الاستقامة: والإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصر في حقه أحد أو يسئ إليه، أو يرد إحسانه بالإساءة أو ينال من عرضه بغير حق، تجده يعفو ويصفح، لأنه يعلم أن ذلك مقدر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حق نفسه، أما في حق الله فلا يجوز العفو ولا التعلل بالقدر، لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعايب (3).
__________
(1) القضاء والقدر د. عمر الأشقر صـ111.
(2) القضاء والقدر للأشقر صـ110.
(3) القضاء والقدر للمحمود صـ 457.(1/330)
والإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء لا تبطره النعمة، ولا تيئسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات من الله، لا بذكائه وحسن تدبيره "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ" (النحل، آية: 53)، ولا يكون حاله حال قارون الذي بغى على قومه واستطال عليهم بما أعطاه الله من كنوز وأموال.
قال تعالى:"إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي" (القصص، آية: 76 ـ 78).
ويكون المؤمن بالقدر على الأستقامة في حالة السراء والضراء (1).
12ـ القضاء على الأمراض التي تعصف بالمجتمعات:
الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف، بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، لأنه هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، وهو يعلم حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور، وهكذا فالمؤمن يسعى لعمل الخير، ويحب للناس ما يحب لنفسه، فإن وصل إلى ما يصبو إليه حمد الله وشكره على نعمه، وإن لم يصل إلى شيء من ذلك صبر ولم يجزع، ولم يحقد على غيره ممن نال من الفضل ما لم ينله، لأن الله هو الذي يقسم الارزاق فيعطي ويمنع وكل ذلك ابتلاء وامتحان منه سبحانه وتعالى ـ لخلقه (2).
__________
(1) القضاء والقدر للأشقر صـ 110.
(2) القضاء والقدر للمحمود صـ 453.(1/331)
قال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء من أمور الدنيا، لأنه إن كان ـ أي هذا الرجل ـ من أهل الجنة، فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا وهو مصيره إلى الجنة وإن كان ـ هذا الرجل ـ من أهل النار فكيف أحسده على شيء من أمور الدنيا، وهو يصير إلى النار (1).
فالحسد يحرق صاحبه، والمحسود قد يُصابُ بالعين إن كانت العين خبيثة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن العين (2). وقال صلى الله عليه وسلم: العين حق، ولو كان شيء سابق القدر، سبقته العين (3).
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا (4).
وعلاج الحسد بالرضى بالقضاء والقدر، وتارة بالزهد في الدنيا، وتارة بما يتعلق بتلك النعم من هموم الدنيا وحساب الآخرة، فيتسلى المؤمن بذلك ولا يعمل بمقتضى ما في النفس أصلاً ولا ينطق، فإذا فعل ذلك لم يضره ما وضع في جبلته (5). يعني: إذا لم يحول الذي في نفسه إلى كلمات حاقدة حاسدة أو إلى أفعال حاقدة حاسدة لا يضره ما تحدث به النفس أحياناً، فالنفس قد جبلت على مثل هذا (6).
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين صـ 169.
(2) القضاء والقدر، محمد حسان صـ 268.
(3) مسلم، رقم 2188.
(4) البخاري رقم 6065، مسلم رقم 2559.
(5) القضاء والقدر، محمد حسان صـ 273.
(6) القضاء والقدر، محمد حسان صـ 273، مختصر منهاج القاصدين صـ 169 ـ 170.(1/332)
فالذي يؤمن بالقدر يحمل قلباً نظيفاً طاهراً من الغل والحقد والحسد والغش والضغينة لإخوانه، لأنه إن نظر إلى أخ من إخوانه ووجده في نعمة فهو يعلم يقيناً أن الذي أنعم عليه بهذا هو الله، فهو يحب لأخيه النعمة ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى الذي رزق أخاه أن يرزقه بما رزق أخاه فهذه كلها أمراض القلب لا تداوى إلا بالإيمان بالله سبحانه وتعالى (1)، والمؤمن بالقدر يعلم بأن الله يعطي ويمنع لحكمه، فإن من العباد من لا ينفعه إلا الغنى، ولو أفقره الله لأفسده ذلك، ومن العباد من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغناه الله لأفسده ذلك، ومن العباد من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمه الله لأفسده ذلك ومن العباد من لا يصلحه إلا المرض ولو صح لأفسده ذلك فلا يوجد شيء في الكون بدون حكمة وبغير حكمة، فالله هو الحكيم الخبير، سواء علمنا الحكمة أم جهلناها، فالله جل وعلا يقدر بحكمة وعلم (2).
__________
(1) الإيمان بالقضاء والقدر، محمد حسان صـ 268.
(2) المصدر نفسه صـ 276.(1/333)
13ـ الإستعانة بالله:
ومن ثمار الإيمان بالقدر يعلم العبد يقيناً أن الأمر كله بيد الله خلقاً ومشيئة وتقديراً وإيجاداً، فالمستعان على حصول المراد هو الله وحده دون غيره، ولهذا فهو يستعين بالله على حصول مراده، ولأمر ما كانت سورة الفاتحة تقرأ في كل صلاة، بل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، كما جاء في الحديث الشريف وفي هذه السورة الكريمة، قوله تعالى:"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة، آية: 5)، فإذا استعان بالله وباشر السبب وحصل المقصود فهذا من فضل الله وإن لم يحصل المقصود لم ييأس المسلم فقد يكون في تأخير حصول المطلوب خير لا تعرف وجهه، فالله يعلم ونحن لا نعلم، وما نعلمه من حكمته تعالى شيء قليل للغاية بالنسبة لما لا نعرفه من هذه الحكمة وعليه ـ أي على المسلم ـ أن يجدد السعي مستعيناً بالله ولا يعجز عن ذلك ولا يقبل لو إني فعلت كذا كان كذا، فإن هذا الكلام لا يفيد شيئاً وإنما يفتح باباً لعبث الشيطان (1).
14ـ الاعتماد على الله وحده:
وصاحب الإيمان الصحيح بالقدر يباشر الاسباب بيده ولكن اعتماده على الله وحده لا على السبب، وهكذا كان حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختفى صلى الله عليه وسلم في الغار وهذا منه صلى الله عليه وسلم مباشرة لسبب الخلاص من المشركين ولكن ما كان اعتماده في الخلاص من المشركين على هذا السبب ـ ولا على غيره من الأسباب ـ ولكن كان اعتماده على الله وحده، قال تعالى:"ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا" (التوبة، آية: 40).
__________
(1) القضاء والقدر للبيهقي مقدمة عبد الكريم زيدان صـ 30.(1/334)
فثقته صلى الله عليه وسلم واطمئنانه وسكينته وأمله في الخلاص، إنما كان ذلك بسبب تلك المعية الخاصة المتأنية من اعتماده على الله لا بسبب الاختفاء بالغار، وفي معركة بدر بعد أن نظم صلى الله عليه وسلم الجيش وباشر الاسباب المادية للمعركة رجع إلى العريش المنصوب له يدعو ربه ويكثر من الدعاء لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن النصر بيد الله والاعتماد في تحصيله يجب أن يكون على الله لا على الأسباب التي باشرها وإن كان لابد من مباشرتها، وهذا هو التوكل الصحيح الذي هو من ثمرات الإيمان الصحيح بالقدر، ومن ثمرات التوكل كفاية الله "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق، آية: 3) (1).
15ـ الاعتراف بفضل الله:
والإيمان بالقدر يجعل موقف صاحبه عند فعل الحسنات موقفاً صحيحاً سليماً تترتب عليه طهارة قلبه من أرجاس كثيرة وبالتالي يستقيم سلوكه وتزكوا اخلاقه، وتفصيل ذلك أن صاحب الإيمان بالقدر يشاهد القدر ويستحضره في ذهنه عند فعل الحسنات وعمل الصالحات وهذه المشاهدة تثمر في نفسه الاعتراف بأن ما صدر منه وهو بمحض فضل الله عليه ليس له فيه شيء، وهذا يؤدي بدوره إلى قمع نوازع الكبر والغرور والعجب بنفسه والمن على الناس ونحو ذلك من الأقذار القلبية، لأن هذه الأقذار إنما تكون في الإنسان لاعتقاده أن فيه من معاني الامتياز على غيره ما يدعوه إلى التكبر عليهم والعجب بنفسه والغرور ونحو ذلك، سواء كانت هذه المعاني أعمالاً صالحة أو عبادة أو فعل حسنات أو قوة أو علماً أو سلطاناً أو مالاً أو كثرة اتباع ونحو ذلك، فإذا شاهد القدر عند فعله الحسنات، أو عند حصول شيء مما ذكرنا في يده، وعلم أن ذلك كله من عند الله وحده وما حصل على يديه هو محض فضل الله عليه، زال منه العجب والكبر والغرور والمنة على الله وعلى الناس، وبالتالي تجره هذه المشاهدة وما يترتب عليها إلى حمد الله وشكره وهكذا يفعل المؤمنون.
__________
(1) المصدر نفسه صـ 32.(1/335)
قال تعالى:"وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ" (الأعراف، آية: 43)، وهداية الله للعبد تتضمن الأعمال الصالحة التي يعلمها، والعلم بالحقائق الدينية والعمل بها ونحو ذلك، كما أن مشاهدة القدر عند فعل الحسنات تفيد المسلم من ناحية أخرى هي استدامة افتقاره إلى الله وتصرفه بهذه الكيفية وتثبته الدائم برحمة الله وطلب عفوه وعدم الالتفاف إلى عمله، واعتقاده الجازم بأن فوزه في الآخرة إنما يكون بمحض فضل الله ورحمته لا بعمله، لأن عمله الطيب إنما هو محض فضل الله فلا يستحق به الجنة وإنما يستحقها بفضل آخر من الله تعالى وبهذا جاء في الحديث الشريف: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل (1).
__________
(1) المصدر نفسه صـ 33، البخاري (8/ 141)، مسلم (8/ 139).(1/336)
لكن قد يقول بعض الناس قولكم منقوض بقوله تعالى:"تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الأعراف، آية: 43)، فدخول الجنة إنما يكون بالعمل فكيف تنفونه؟ أو تقللون من شأنه؟ والجواب أن الآية الكريمة دلت على أن العمل سبب لدخول الجنة، فالباء في قوله تعالى "بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" هي باء السببية ونحن لا ننكر الأسباب، ولا كون العمل الصالح سبباً للجنة، الذي تتكلم فيه وننفيه أن يكون العمل عوضاً وثمناً مكافئاً لدخول الجنة، وهذا ما نفاه الحديث الشريف، فالباء في قوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله: هي باء المعاوضة والثمنية، كما في قول القائل اشتريت هذا القلم بدرهم، فالعمل ليس عوضاً ولا ثمناً لدخل الجنة، ولا يصلح أبداً أن يكون عوضاً لها. ولتقريب هذا المعنى إلى الأذهان نقول أن الإنسان لو عبد ربه عمره كله وأتى بالصالحات فأية نسبة بين ما قدم من عمل في عمره المحدود وبين نعيم الجنة الدائم الممدود؟ أية نسبة بين عمل في زمن يتناهى، هو عمر الإنسان، وبين نعيم في زمن لا يتناهى هو نعيم الجنة؟ فلابد إذن من فضل الله ورحمته ليظفر المؤمن بالجنة، وهذا المعنى لا يمكن تحصيله وانصباغ النفس به إلا بالمشاهدة الدائمة للقدر عند فعل الخير والحسنات وفائدة أخرى لمشاهدة القدر عند فعل الحسنات هي أن المسلم إذا فعل خيراً لغيره وهذا من الحسنات، قد تتحرك فيه نوازع المنة على الغير وحب الاستعلاء عليه والاستشراف إلى طلب العوض منه، فهذه النوازع تموت إذا شاهد القدر وهو يفعل الخير لغيره لأنه بهذه المشاهدة يعلم أنه واسطة فقط لإيصال ما قدره الله من خير لذلك الغير، فلا داعي إذن لأنه يَمُنّ هو على هذا الغير أن يستعلي عليه أو يتطلع إلى العوض منه، أرأيت لو أن سيداً أرسل خادمه بهدية إلى شخص أيكون من حق الخادم أن يمن على المهدي إليه أو يستعلي عليه بهذه الهدية وهو محض واسطة لإيصالها إليه؟(1/337)
وإذا كان صاحب الإيمان بالقدر لا يمن ولا يستعلي على من فعل له خيراً، فمن باب أولى أن لا يكون كذلك إذا لم يفعل له شيئاً، وبهذا المسلك الحميد من صاحب الإيمان بالقدر، أي يفعله الخير للناس دون منة أو استعلاء عليهم أو طلب العوض منهم يكون من الذين قال الله فيهم "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا" (الإنسان، آية: 9).
16ـ الاستغناء بالخالق عن الخلق:
ومن ثمرات الإيمان بالقدر الاستغناء بالخالق عن المخلوق والحرص على رضى الله وحده ورجاؤه والخوف منه، والتوكل عليه والاستعانة به وتفويض الأمر إليه والانكسار بين يديه وتبليغ رسالات الله بدون وجل ولا تردد ولا خشية من أحد على وجه الأرض "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا" (الأحزاب، آية: 39).
وقال صلى الله عليه وسلم: من أرضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس (1).
فالسعيد الذي لا يعنيه إلا رضا الله، ولا يعنيه الشر إطلاقاً، لا يلتفت إلى الخلق، لأنه على يقين أن رزقه بيد الخالق، لا بيد الخلق وأن قلوب الخلق لا تقبل إليه بالحب والبغض إلا بتقدير الخالق، فهذا لا يعلق قلبه بالمخلوقين لا بثنائهم، لا ببغضهم، ولا بذمتهم، ولا بحمدهم، بل يعلق قلبه بربهم جل جلاله، فلا يعنيه إلا أن يقول: قال الله: قال رسوله بما يرضي الله سبحانه لا بما يُحصّلُ به رضا الناس (2)، فمن قال لله لا يخشى في الله لومة لائم، بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، أسعده الله في الدنيا والآخرة (3).
__________
(1) السلسلة الصحيحة للألباني رقم 2311.
(2) القضاء والقدر، محمد حسان صـ 225.
(3) المصدر نفسه صـ 225.(1/338)
17ـ الاعتراف بالذنب والمسارعة للمغفرة والتوبة:
وصاحب الإيمان الصحيح بالقدر يشاهد نفسه عند فعل السيئات وارتكاب المنهيات ولا يحتج بالقدر على عصيانه لأنه لا حجة لأحد فيه، كما بيّنا، وإنما يرجع إلى نفسه ليوبخها من كبوتها حالاً كما ينهض من الوحل، إذا وقع فيه ويعقد العزم على عدم العودة إلى الذنب، ويتوجه إلى الله بالإعتراف بالذنب بانكسار قلب، وبهذا كله علّمنا القرآن وضرب لنا الأمثال وقص علينا موقف انبيائه الكرام في مثل هذه الأحوال، قال تعالى عن نبيه آدم عليه السلام:"رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف، آية: 23)، وقال تعالى عن موسى عليه السلام:"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" (القصص، آية: 16).
وفي الحديث الشريف: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (1)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: أما من يشاهد القدر عند فعله السيئات محتجاً به دافعاً المسئولية عن نفسه فمثله مثل إبليس حيث قال كما أخبرنا الله عنه:"قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الحجر، آية: 39).
وكان عاقبته كما هو معروف الطرد من رحمة الله (2).
هذه بعض ثمار الإيمان بالقدر وغيرها كثير:
ـ كأداة عبادة الله عز وجل، فالقدر مما تعبدنا الله سبحانه بالإيمان به، وقوة الإيمان، فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه، فلا يتخلى عنه لا يتزعزع أو يتضعضع مهما ناله في ذلك السبيل.
ـ الهداية، كما قال تعالى:" وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" (التغابن، آية: 11)
__________
(1) صحيح البخاري رقم 6306.
(2) القضاء والقدر للبيهقي صـ 35.(1/339)
ـ الكرم، فالذي يؤمن بالقدر، وأن الفقر والغنى بيد الله وأنه لا يفتقر إلا إذا قدر الله له ذلك، فإنه ينفق ولا يبالي.
ـ إحسان الظن بالله قوة الرجاء، فالمؤمن بالقدر حسن الظن بالله، قوي الرجاء به في كل أحواله.
عدم الاعتماد على الكهان والمنجمين المشعوذين والتمسح بأتربة القبور، ودعاء غير الله، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، لأنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً.
ـ ومن ثمرات الإيمان بالقدر: السلامة من الاعتراض على أحكام الله الشرعية، وأقداره الكونية والتسليم لله في ذلك كه
ـ عدم اليأس من انتصار الحق: فالمؤمن بالقدر يعلم علم اليقين أن العاقبة للمتقين وإن قدرة الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يدب اليأس إلى قلبه، لا يعرف إليه طريقاً مهما احلولكت ظلمة الباطل.
ـ علو الهمة، وعدم الرضا بالدون، وعدم الرضا بالواقع الأليم (1).
"وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين"
__________
(1) الوسطية في القرآن الكريم صـ 339 ـ 343.(1/340)
الخاتمة
وبعد: فهذا ما يسره الله لي من الحديث عن الإيمان بالقدر في هذا الكتاب، وقد سميته "الإيمان بالقدر"، فما كان فيه من صواب فهو محض فضل الله عليَّ، فله الحمد، والمنة، ما كان فيه من خطأ، فاستغفر الله تعالى، وأتوب إليه، والله ورسوله بريء منه، وحسبي أني كنت حريصاً ألا أقع في الخطأ، وعسى ألا أحرم من الأجر.
أدعو الله أن ينفع بهذا الكتاب بني الإنسان أينما وجد، ويكون سبباً في زيادة إيمانه، وهدايته أو تعليمه أو تذكيره، وأن يذكرني من يقرؤه من إخواني المسلمين في دعائه، فإن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى، وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر، آية: 10).
ويول الشاعر:
إلهي لا تعذبني فإني ... مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلة إلا رجائي ... وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا ... وأنت عليَّ ذو فضل ومنّ
إذا فكرت في ندمي عليها ... عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيراً وأني ... لشر الناس إن لم تعف عني
((سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك))(1/341)
كتب صدرت للمؤلف:
1 ـ السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث.
2 ـ سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
3 ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شخصيته وعصره.
4 ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: شخصيته و عصره.
5 ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: شخصيته و عصره.
6 ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب. شخصيته و عصره.
7 ـ الدولة العثمانية: عوامل النهوض والسقوط.
8 ـ فقه النصر و التمكين في القرآن الكريم.
9 ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10 ـ تاريخ دولتي المرابطين و الموحدين في الشمال الإفريقي.
11 ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12ـ الوسطية في القرآن الكريم.
13ـ الدولة الأموية، عوامل الإزدهار و تداعيات الإنهيار.
14ـ معاوية بن أبي سفيان، شخصيته و عصره.
15ـ عمر بن عبد العزيز، شخصيته وعصره.
16ـ خلافة عبد الله بن الزبير.
17ـ عصر الدولة الزنكية.
18ـ عماد الدين زنكي.
19ـ نور الدين زنكي.
20ـ دولة السلاجقة.
21ـ الإمام الغزالي وجهوده في الإصلاح والتجديد.
22ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني.
23ـ الشيخ عمر المختار.
24ـ عبد الملك بن مروان بنوه.
25ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26ـ حقيقة الخلاف بين الصحابة.
27ـ وسطية القرآن في العقائد.
28ـ فتنة مقتل عثمان.
29ـ السلطان عبد الحميد الثاني.(1/342)
30ـ دولة المرابطين.
31ـ دولة الموحدين.
32ـ عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33ـ الدولة الفاطمية.
34ـ حركة الفتح الإسلامي في الشمال الافريقي.
35ـ صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء.
38ـ الحملات الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) والأيوبيون بعد صلاح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل الإنتشار وتداعيات الإنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41ـ الإيمان بالله جل جلاله.
42ـ الإيمان باليوم الآخر.
43ـ الشورى في الإسلام.
44ـ السلطان محمد الفاتح.
45ـ الإيمان بالقدر.(1/343)