... س308: عرف الولاء والبراء في اصطلاح علماء الاعتقاد .
... ج308: الولاء في الاصطلاح : هو التعاضد والنصرة والمحبة ، ومنه قول الله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } أي : يتناصرون ويتعاضدون . ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) وشبك بين أصابعه ، وهو في الصحيح .
... فهذا التشبيك دليل على وجود التعاضد والنصرة وهذا التعاضد والتناصر له مقتضيات كثيرة سيأتي الكلام عليها - إن شاء الله تعالى - .
... وأما البراء في الاصطلاح فهو : المصارمة والعداوة والمجانبة والتبري والبغض ، ومنه قوله تعالى عن إبراهيم والذين آمنوا معه : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده ... } الآية .
... والبراء أيضًا له مقتضيات كثيرة سيأتي الكلام عنها - إن شاء الله تعالى - .
... والخلاصة أن يقال : الولاء والمولاة هي التعاضد والنصرة بكل معانيها . والبراء والتبري هو البغض والعداوة بكل معانيها ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س309: ما الذي يدور عليه الولاء والبراء ؟
... ج309: أقول : الولاء مداره على الحب ، والبراء مداره على البغض .(1/1)
... فأما الحب فلابد أن يتوفر في الولاء ، بل هو عموده الأساسي الذي ينبني عليه بعد ذلك لوازم هذا الولاء وتوابع هذا الحب ، وهذا الحب مكانه ومقره القلب الذي هو مكان العاطفة ، إلا أنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح ، وإلا لكان كذبًا وزورًا وادعاءً ؛ وذلك لأن المتقرر عند الجميع أن كل إناءٍ بما فيه ينضح وأن الجوارح لابد أن تتأثر بما يكون في القلب ، فالذي يدعي الولاء والمحبة للمؤمنين فلابد أن يأتي بمصداق هذه الدعوى حتى لا تكون دعوى مجردة عن البرهان ، وبرهانها الذي يصدقها هو ما يظهر على الجوارح من الأعمال ، ونعني بها مقتضيات الولاء ، فليس الولاء كلمة تقال أو عاطفة باطنية فقط ، بل يختلف صدق الدعوى باختلاف ظهور الآثار ، فمن كانت الآثار فيه أكثر فهو الأصدق ، وتقوى هذه الآثار كلما قويت المحبة التي في القلب التي هي مدار الولاء ، وبناءً عليه فمن يدعي الولاء للمؤمنين وهو يبغضهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء لهم وهو يخادعهم ويغشهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء لهم وهو يخذلهم ويسلمهم ويعين عليهم عدوهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي ولاءهم وهو لا يهتم بأمورهم فلا يحزن لحزنهم ولا يفرح لفرحهم فهو كاذب ، ومن يدعي الولاء لهم وهو يؤذي أولياء الله تعالى من العلماء والعباد والدعاة والصالحين بالسجن والتعهدات والمنع من نشر علمهم ومن الدعوة إلى الله تعالى فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء للمؤمنين وهو يحكم فيهم قوانين الشرق والغرب فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي الولاء لهم وهو عبد ذليل لفراعين الغرب والكفرة يستجيب لكل ما يأمرون به أو ينهون عنه في عباد الله تعالى ولا هَمَّ له إلا إرضاء هؤلاء الطواغيت ، فإذا قالوا : اقتل فلانًا قتله ، وإذا قالوا : اسجن فلانًا سجنه ، وإذا قالوا : امنع فلانًا منعه ، وإذا قالوا : ارفض هذا التشريع رفضه ، وهو مع ذلك يدعي أنه ولي للمؤمنين فهو كاذب في هذه الدعوى فاجر(1/2)
فيها .
... فالولاء مداره على المحبة والمحبة عمل القلب ، ولها آثار كثيرة فلابد للعبد من الصدق في عمل الباطن حتى يتصحح له عمل الظاهر ، فأسال الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح بواطننا وظواهرنا إنه خير مسئول ، فهذا بالنسبة لما يدور عليه الولاء وهو المحبة .
... وأما البغض الذي هو مدار البراء ، فكذلك نقول فيه أن محله ومقره القلب ، إلا أنه لابد أن يكون له أثر ظاهر على سلوك العبد وتصرفاته ، ويظهر هذا البغض في معاملاته مع أعداء الله ظهورًا واضحًا جليًّا ؛ لأن هذه المعاملات هي التي يظهر فيها حقيقة الموالاة والمعاداة ، فاحذر من مخالفة القول للعمل ، واحذر من تناقض الظاهر مع الباطن ، فلابد من المفاصلة والمصارمة والتباعد باطنًا وظاهرًا ، وعلى هذا مدار الشريعة ، فإن الشريعة إنما نزلت لتفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، فالذي يريد تمييع هذه الفروق وإزالتها أو يهوِّن في تطبيقها فهو منافق زنديق مصادم للمقصود الشرعي الأعظم ، وبناءً عليه فمن يدعي البراء من الكفرة وهو قد ارتمى في أحضانهم يربونه كيف شاءوا فهو كاذب في دعواه هذه ، ومن يدعي البراء منهم وهو معظم لحضارتهم ومقدم لهديهم على هدي الكتاب والسنة فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي البراء منهم وهو يحكم قوانينهم فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي البراء منهم متشبه لهم في ملبسهم وطريقة أكلهم وعاداتهم وتقاليدهم المخالفة للشريعة فهو كاذب في دعواه ، ومن يدعي البراء منهم وهو يريد من أمة الإسلام أن تتمثل بهم في أمورهم الخاصة والعامة فهو كاذب في دعواه ، وغير ذلك .
... ونفهم من هذا أن البراء ليس كلمة تقال ولا هو عاطفة باطنية فقط ، بل لابد أن يصدق الظاهرُ الباطنَ ، فمن ظهرت على جوارحه آثار البراء فهو صادق في دعواه ، ومن خالف فعلهُ قولَه فالله له بالمرصاد، فإن السر عنده علانية ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا السماء في العالية .(1/3)
... والخلاصة : أن مدار الولاء على المحبة ، ومدار البراء على البغض ، وأرجو منك أن تعيد قراءة هذا الجواب وتتفكر فيه ، فإنه ثلاثة أرباع هذا الباب ، والله الموفق والهادي إلى الصواب ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س310: ما مفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة ؟
... ج310: أقول : إن مفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة تقتضي بغض أعداء الله تعالى ومعاداتهم والتبري منهم والتجافي عنهم ومصارمتهم وعدم التودد لهم بقولٍ أو فعل أو إشارة ، ومجاهدتهم بكل أنواع الجهاد بالقلب واللسان واليد والسيف والقلم ، فنجاهد كل طائفة منهم بما يناسبها من الجهاد ، وأن لا نتشبه بهم فيما هو من عاداتهم وعباداتهم وهجرهم وفضح أستارهم وكشف مخططاتهم وإدخال الغيظ في قلوبهم ، وإهانتهم وعدم إكرامهم والحط من قدرهم واضطرارهم إلى أضيق الطريق ، وعدم بداءتهم بالسلام ، وألاَّ يروا منَّا فعلاً أو يسمعوا قولاً يوجب دخول السرور على قلوبهم ، ومحاصرة اقتصادهم ومحاولة تضييق مجالات التعامل معهم حتى لا يستفيدوا من أموال المسلمين ويقاتلونهم بها وتكون أموالنا عونًا لهم علينا ، وأن لا تكون بيننا وبينهم علاقات وصداقات ودية ، فإن هذا منافٍ لمعنى التبري منهم ، بل الواجب قطع العلاقات معهم إلا فيما اضطررنا إليه ولم نجد بدًا من التعامل معهم فيه ، فلا بأس ولكن الضرورة تقدر بقدرها .
... وبالجملة : فكل ما من شأنه أن يكون برهانًا على صدق البغض القلبي الذي عليه مدار البراء فإنه داخل في مفهومه ، والله أعلم .
* * *
... س311: ما الولاء الذي يريده الله منا ؟ مع بيان ذلك بالدليل ، وتوضيح المراد من كل واحدٍ منها بأدلته ؟(1/4)
... ج311: أقول : الولاء الذي يريده الله جل وعلا من عباده هو الولاء له جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولعباده المؤمنين ، فهذه أنواع الولاء المشروعة وما عداها فليس بمشروع ، بل إن ما عداها داخل في الولاء الممنوع ، وبه تعلم أن الولاء قسمان : ولاء مشروع أي مأمور به ، وولاء ممنوع أي منهي عنه .
... والولاء المشروع هو الولاء لله تعالى ، والولاء لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والولاء لعباده المؤمنين ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } ، فقوله : { إنما } هي أداة حصر ، أي : أنه يجب حصر الولاية فيما ذكر فقط ونفيها عما عداه ، فهذه الآية الكريمة حددت لنا الذين يتوجه إليهم بالولاء ، وهم : الله تعالى ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والذين آمنوا .
... واعلم أن المراد بالولاء بكل واحدٍ من هؤلاء يقتضي أمرين : الحب والنصرة .
... فأما حب الله تعالى فهو أساس الدين وقاعدة الشريعة ، فهو جل وعلا أحق من يتوجه إليه بالموالاة بكل أشكالها ومختلف صورها ، ومحبته جل وعلا محبة تعبد واتباع ، فحبه تعالى ركن من أركان الولاء ، أي : أنه لا يمكن أن يقوم ولاء لله تعالى بدون تحقيق هذا الحب ، بل لا يقبل إسلام بدون هذا الحب ، بل يجب على المسلم أن يفوق حبه لله تعالى كل حب ، قال تعالى : { والذين آمنوا أشد حبًا لله } ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ، وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } .(1/5)
... وهذا الحب له مقتضيات ، منها : توقيره ، وتعظيمه ، وإفراده بالتوحيد جل وعلا ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والتحاكم إليه ، وإسلام القلوب والوجوه له ، والإيمان به ، واللجأ إليه في جميع الأمور ، ورجاؤه ، والتقرب إليه بما يحبه ويرضاه من الشرائع إيجابًا أو استحبابًا ، والإكثار من ذكره بأنواع الذكر المشروعة ، والإقبال على التعرف عليه بمعرفة أسمائه وصفاته والتعبد له بآثارها ومقتضياتها ، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا نعبد الله ولا نتقرب إليه إلا بما شرعه لنا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه ، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، وغير ذلك مما توجبه محبته جل وعلا ؛ وذلك لأن حبه جل وعلا إذا تحقق في القلب فإنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح ، والله المستعان .(1/6)
... وأما نصرته جل وعلا فهي الركن الثاني من أركان موالاته جل وعلا ، فيجب على المسلم الذي يوالي الله تعالى أن ينصر الله تعالى كما قال الله جل شأنه : { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، وقال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره } ، وقال تعالى : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } ، وقال تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } ، والمراد بنصره جل وعلا نصره باتباع شريعته بفعل المأمور وترك المحظور ، ونصر كتابه ، والدفاع عن دينه ، والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والجهاد في سبيله ، وترك شهوات النفوس التي لا يرضاها ، ونصرة أوليائه ، وغير ذلك ، فمن تحقق فيه ذلك فإنه يكون قد حقق ركني ولاية الله جل وعلا التي هي المحبة والنصرة ، وبه تعلم أن موالاة العباد لله جل وعلا تتفاوت بين شخصٍ وآخر بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات وظهور هذه الآثار ، فمحبته لها آثارها ونصرته لها آثارها ، فأعظمنا تحقيقًا لهذه الآثار أكبرنا ولاية له جل وعلا ، والله أعلم .
... وأما الموالاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهي أيضًا تقتضي أمرين هما : المحبة والنصرة .(1/7)
... فأما محبته فهي فرض لازم على كل أحد ، بل هي من مقتضيات الشهادة بأنه رسول الله ، بل لابد أن تكون محبتنا له مقدمة على محبة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن والأنفس والناس أجمعين ، فإنه لم يحقق الإيمان الواجب من قدم شيئًا من هذه المحاب على محبته - صلى الله عليه وسلم - كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... )) الحديث ، متفق عليه . ولما قال له عمر : يا رسول الله ، إني أحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي . فقال : (( لا يا عمر حتى من نفسك )) . فقال عمر : والذي بعثك بالحق إني لأحبك أكثر من نفسي . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( الآن يا عمر )) والحديث في صحيح البخاري .(1/8)
... فهذه الأدلة تدل دلالة صريحة على أن محبته - صلى الله عليه وسلم - شرط من شروط تحقيق الإيمان الواجب ، بل ليست محبته فقط ، وإنما تقديم محبته على كل محبة ، ثم اعلم أن محبته - صلى الله عليه وسلم - ليست شعورًا نفسيًا أو مجرد اعتقاد فقط ، بل لابد أن يأتي العبد ببرهانها الذي يصدقها ، وهو اتباعه - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فعنوان محبته الاتباع وترك الابتداع ، وبناءً عليه فنقول : أعظمنا وأصدقنا محبة له أشدنا له اتباعًا وأكملنا به اقتداءً ، وبه تعلم أن الذين يحتفلون بمولده هم في الحقيقة يبغضونه وإن ادعوا حبه ؛ لأن ما يفعلونه ويقولونه من هذه البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان هي في حقيقتها مضادة لما جاء به ، ومخالفة لشريعته ، فكيف يزعمون حبه وهم يخالفون أمره ويدخلون في شريعته ما ليس منها ، وهم مع ذلك يرفضون تحكيم ما جاء به من الشرع ويستبدلونه بقوانين الشرق والغرب ، فسبحان الله ما هذا التناقض ؟
... والمقصود : أن محبته ليس عقيدة باطنية فقط ولا كلمة تقال فقط ، بل لابد مع الاعتقاد والقول تصديق ذلك بالاتباع ، والله الموفق والهادي ، فهذا بالنسبة لمحبته .
... وأما نصرته - صلى الله عليه وسلم - فاعلم - يا رعاك الله تعالى - أن من تمام الموالاة أن ينصر المسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل أنواع النصرة ، وبكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ ولوازم .
... فمن جملة هذه المعاني : نصرته بالإيمان به وأنه آخر الأنبياء ، فلا نبي بعده .
... ومنها : نصرته بالذب عن سنته والدفاع عنها بما يفتحه الله على العبد من العلم النافع .
... ومنها : نصرته بالإقبال على سنته تعلمًا وتعليمًا وحفظًا وشرحًا ونشرًا .
... ومنها : نصرته بتقديم قوله على قول كل أحدٍ ، كما قال الناظم :
والقول منه مقدم فاحذر إذا ... ذكر الحديث تقول شيئًا ثاني(1/9)
... ومنها : نصرته بطاعة أمره وترك نهيه وتصديقه في كل ما أخبر به .
... ومنها : نصرته بتعزيره وتوقيره وتعظيمه وتقديره حق قدره ، قال تعالى : { فالذين آمنوا بالله ورسوله وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } ، وقال تعالى : { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ... } الآية .
... ومنها : نصرته بحب صحابته واعتقاد أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وأنه لا كان ولا يكون مثلهم ، والذب عنهم ونشر فضائلهم والصمت وعدم الخوض فيما جرى بينهم من الخلاف .
... ومنها : محاربة البدع بكل أنواع المحاربة الممكنة ، ولا نعني بدعة بعينها ، بل نحارب البدع كلها بكل صورها ومختلف أشكالها .
... ومنها : بيان مكانته - صلى الله عليه وسلم - وفضله ونشر شمائله والتحلي بأخلاقه وسلوك سبيله واتباع سنته واقتفاء أثره وغير ذلك من معاني الاتباع .
... ومنها : قتل سابه والقادح فيه انتصارًا له - صلى الله عليه وسلم - كما مضى ذكره مفصلاً في الكلام عن سب النبي - عليه الصلاة والسلام - ، قال تعالى : { وينصرون الله ورسوله } ، وقال تعالى : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } .
... فإذا حقق العبد هذين الركنين فقد حقق ولايته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المعلوم أن تحقيق الولاية كمالاً ونقصًا يتفاوت بتفاوت تحقيق هذه المقتضيات ، أعني آثار المحبة والنصرة له - صلى الله عليه وسلم - ، والله أعلم .
... وأما موالاة المؤمنين فلها ركنان أيضًا ، وهما : المحبة والنصرة .
... فأما المحبة فاعلم - يا رعاك الله - أنه يجب وجوب عين على كل مسلم أن يحب إخوانه المسلمين فهم إخوة له في العقيدة وشركاء له في التوحيد ، كما قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } ، وقال تعالى عن المشركين : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } .(1/10)
... وهذه المحبة تقتضي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) متفق عليه ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر شرطًا لا يتحقق كمال الإيمان الواجب إلا به .
... ومحبته أيضًا تقتضي تحقيق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ... )) الحديث .
... وتقتضي أيضًا تحقيق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) .
... وتقتضي أيضًا التسامح والتصافح والتوادد والتعاطف والتراحم فيما بيننا .
... وتقتضي أيضًا حفظ عرضه فلا يغتاب بعضنا بعضًا ولا ينم بعضنا على بعض .
... وتقتضي أيضًا ستر عيوبه والتجاوز عن أخطائه ما أمكن ذلك .
... وتقتضي أيضًا بذل النصيحة له بلا غش كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( الدين النصيحة )) ، وقال : (( وإذا استنصحك فانصح له )) .
... وتقتضي أيضًا سد فاقته وإعانته بما تقدر عليه من بذل جاهٍ أو مال ونحو ذلك ، وإن مما امتدح الله به الأنصار - رضي الله عنهم - قوله تعالى : { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدروهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ، فالمحبة بين المسلمين فرض لازم لابد من تحقيقه بتحقيق مقتضياتها وآثارها ، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك .(1/11)
... وأما نصرته فاعلم أنه يجب على المسلم الذي صرف ولاءه للمؤمنين أن ينصر إخوانه في الله وأن يشد عضد إخوانه في العقيدة بما آتاه الله تعالى من قوة وقدرة ، قال تعالى : { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } ، فنرى المسلم الحق يشعر بأخيه المسلم في كل مكان وإن تباعدت الأقطار واختلفت الألوان واللغات والجنسيات ، فكل ذلك لا أثر له في زيادة الحب أو ضعفه ، فإنه مهما تباعدت مساقط رؤوسهم فإن الدين يشملهم والعقيدة تجمعهم .
... وهذه النصرة تقتضي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتعليمه إن كان جاهلاً وتذكيره إن كان ناسيًا وتخليصه من الأسر والرق إن كان مأسورًا أو رقيقًا .
... وتقتضي أيضًا اللين وخفض الجناح له كما قال تعالى : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } .
... وتقتضي أيضًا محبته ومودته والحفاظ على حرمته ونصرته بالمال والنفس .
... وتقتضي أيضًا نصرته بأن يخلفه بخير في أهله وماله .
... وتقتضي أيضًا نصرته بالدعاء له .
... وتقتضي أيضًا الذب عن عرضه عند سماع غيبته .
... وبالجملة فلابد من نصره ظالمًا ومظلومًا ويوضح ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا )) فقال : يا رسول الله : أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا ؟ فقال : (( تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصر له )) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث في الصحيح .
... وبالجملة فالكلام على هذه الأمور يطول ويحتمل أكثر من ذلك . والمقصود أن الولاء المشروع إنما هو الولاء لله تعالى بنصرته ومحبته ، والولاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنصرته ومحبته ، والولاء للمؤمنين بنصرتهم ومحبتهم ، والله يتولانا وإياك وهو أعلم وأعلى .
* * *
... س312: كيف يكون ولاء المؤمن لكتاب الله تعالى ؟
... ج312: يكون ولاء المؤمن لكتاب الله إذا حقق عدة أمور :
... منها : أن يعتقد أنه كلام الله منزل غير مخلوق ، وأنه من الله بدأ وإليه يعود .(1/12)
... ومنها : السعي الحثيث في تحقيق مقاصد إنزاله ، وهي تلاوته باللسان وتدبره وتعقله والتذكر والاتعاظ به وتفهمه ، قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } .
... ومنها : العمل به بالائتمار بأوامره واجتناب زواجره وتصديق أخباره وأخذ العبرة والفائدة والدروس من قصصه وأمثاله .
... ومنها : الحذر والتحذير من تحريفه عن مواضعه أو الإلحاد في آياته بتكذيبها أو تعطيلها عن معانيها المرادة منها أو إخراجها عن مدلولاتها الصحيحة إلى معانٍ باطلة .
... ومنها : احترامه بكل أنواع الاحترام المشروعة من تعظيمه وألا يمسه إلا على طهارة كاملة وأن يبعده عن الأماكن التي لا تليق به .
... ومنها : الذب عنه ومحاربة خصومه المكذبين به وكشف زيف كلامهم وفضح أسرارهم وهتك عوارهم ودحض شبهاتهم التي يثيرونها حوله .
... ومنها : الإقبال عليه تلاوة وحفظًا وتعلمًا وتعليمًا ونشرًا .
... ومنها : التحاكم إليه عند التنازع كما قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ، وقد أجمع السلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه .
... ومنها : الاستماع والإنصات عند تلاوته تمسكًا للفائدة ولنزول الرحمة كما قال تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } .
... ومنها : الاستشفاء به ، فإن الله جل وعلا جعل هذا القرآن هدى وشفاء ، كما قال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } ، وقال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ، وقال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } .
... وإنه لما خف يقين كثير من الناس في القرآن تعلقت قلوبهم بالعلاج البدني المجرد وتركوا الاستشفاء بالقرآن ، وإلى الله المشتكى .(1/13)
... ومنها : عدم التقدم عليه بقول أو فعل، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ، فلا نقول حتى يقول ، ولا نحكم حتى يحكم وهكذا ، وبناءً على ذلك فهو المقدم على آراء الرجال ومذاهب أصحاب المذاهب ؛ لأنه الميزان الذي يوزن به الحق من الباطل والصواب من الخطأ ، فما وافقه من الأقوال فهو الحق والصواب ، وما خالفه فهو الباطل والخطأ ، فلا عبرة بقولٍ خالفه ، ولا اعتداد برأي خالفه ، ولا عبرة بمذهبٍ خالفه ، ولا عبرة بحكمٍ خالفه ، ولا عبرة باجتهادٍ خالفه ، فهو الأصل وما سواه ففرع ، وهو المتبوع وما سواه فتابع ، وهو الميزان وما سواه فموزون ، فأسأله جل وعلا أن يجعلنا وجميع إخواننا المسلمين ممن حقق الولاء للقرآن ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س313: كيف يكون ولاء المؤمن لدين الله جل وعلا ؟
... ج313: يكون ولاء المؤمن لدين الله تعالى بتحقيق عدة أمور :
... منها : حب شريعة الله تعالى ، الحب الذي يثمر العمل بها بانشراح صدر وإقبال قلب وسعادة روح .
... ومنها : تعلم أحكام هذا الدين العظيم وشرائعه ، وقد تقرر في القواعد والضوابط أن العلم الواجب على كل أحدٍ هو العلم الذي تتوقف عليه صحة العقيدة والعبادة ، وما زاد على ذلك ففرض كفاية في حق عموم الأمة وسنة في حق الأفراد ، وأعني العلم الشرعي .
... ومنها : نشره بمختلف الوسائل وعلى جميع بقاع الأرض وبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك ، والدعوة إليه وإيصال صورته الحقيقية المشرقة الصافية لجميع البشر على وجه هذه البسيطة ، ويتضمن ذلك : التعريف بمحاسن الإسلام والجهاد في سبيل الله تعالى .
... ومنها : الذب عن هذا الدين ، بتوضيح الاعتقاد الصحيح وكشف الشبه ومحاربة أهل الأهواء والبدع وإثبات صلاحيته المطلقة في كل زمانٍ ومكانٍ ، والله المستعان .(1/14)
... ومنها : نصره بالجهاد بالنفس والمال لإعلاء كلمة هذا الدين وبإعلاء رايته خفاقة عزيزة في سائر بلاد الشرك ، ونصره بنصر قضاياه في كل المحافل ، والله المستعان ، وهو أعلى وأعلم .
* * *
... س314: كيف يكون ولاء المؤمن لصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
... ج314: يكون ولاؤنا للصحابة بتحقيق عدة أمور :
... منها : أن نعتقد الاعتقاد الجازم أنهم خير البشر بعد الأنبياء والرسل ، فلا كان ولا يكون مثلهم .
... ومنها : أن نعتقد أن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه .
... ومنها : أن نحبهم وننصرهم بالقول واليد والقلم وبكل ما يدخل تحت ذلك المسمى .
... ومنها : أن ننشر فضائلهم ونظهر محاسنهم للعامة والخاصة .
... ومنها : أن نمسك عن الخوض فيما شجر بينهم مع اعتقادنا الجازم أنهم في ذلك الخلاف مجتهدون محبون للحق ، فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد .
... ومنها : الذب عنهم ممن نالهم بسوءٍ أو قدح فيهم بشيءٍ بكشف عواره وهتك أستاره وفضيحة أمره وتزييف كلامه ، وألا نمكنه من ولايةٍ أو منصب وأن يهجر ويعزر بما يردعه وأمثاله عن الكلام في خيار الأمة ، وألا يتلطف معه بقولٍ أو فعل ، وإني لأعجب كل العجب في هذا الزمان فإنه لو تكلم الرافضي في بعض الملوك أو الأمراء لأخذ من تلابيب رقبته وأهين كامل الإهانة ولغيبت شمسه ، ولكنه يقع في خيار الأمة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخصوصًا أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما - يقع فيهم سبًا وقدحًا ولعنًا وتكفيرًا وشتمًا ونعلم ذلك منه فلا نحرك لذلك ساكنًا ولا نتكلم عليه ببنت شفة وكأن الأمر لا يعنينا ، بل وازداد الأمر سوءًا أن نعاقب من ينكر عليه حرصًا على الائتلاف السياسي وعدم إثارة الفتن ، فيا سبحان الله إن هذا الشيء عجاب ، فاللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء ، والأمر ستكون له عاقبته الوخيمة على الأمن والاقتصاد ، بل على المجتمع بأسره حكومة وشعبًا ، فالله المستعان .(1/15)
... ومنها : دراسة سيرهم وأخذ الفوائد والأخلاق والعبرة منها ، فإنهم القدوة للأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، فهم أبر الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا ، فلابد أن تدرس سيرهم وخصوصًا للصغار حتى يتخذهم الشخص قدوة من صغره ، فإن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه وفطرته ، فلابد أن يكون له قدوة وخير القدوة هم سلف هذه الأمة ومقدموها - أعني صحابة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، فلابد من إطلاعه على سير القوم بالأسلوب المناسب وتكريرها على مسامعه ليعيش معهم بقلبه وتفكيره ، والله المستعان .
* * *
... س315: ما أقسام البراء ؟ مع توضيح ذلك بالدليل والتمثيل ؟
... ج315: قسم العلماء البراء إلى قسمين : البراء المطلق ، ومطلق البراء ، وبمعنى آخر نقول : البراء الكلي ، والبراء الجزئي .
... ونعني بالبراء المطلق أو البراء الكلي ، أي البراء التام من الفعل وصاحب الفعل ، كما قال تعالى عن إبراهيم والذين آمنوا معه : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده ... } الآية ، فالمراد بالبراءة هنا البراءة المطلقة الكلية التامة الأبدية حتى يحصل منهم الإيمان .
... وهذا البراء أو نقول : هذه البراءة الكلية لها مقتضيات حتى تكون براءة صادقة ، وهي العداوة الكاملة التي لابد من ظهور آثارها على الجوارح من مجانبتهم المجانبة التامة وعدم العيش معهم والاستئناس بهم أو التشبه بهم في شيء من عباداتهم وعاداتهم وهكذا .(1/16)
... وتقتضي أيضًا وجود البغضاء المطلقة في القلب ، ولذلك فإن الله قال في الآية السابقة : { وبدا } أي : بسبب هذه البراءة التي تقدم ذكرها { بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا } ، فمن تحقق فيه مقتضى البراءة المطلقة فلابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة التي تقتضي عداوته العداوة المطلقة وبغضه البغض المطلق ، وهذا فرض واجب على كل أحد ، وهي من الأمور التي نتقرب بها إلى الله تعالى ، وأنت خبير - إن شاء الله تعالى - أن البراءة المطلقة إنما تكون في حق الكافر الكفر الأكبر ، والمشرك الشرك الأكبر ، والمنافق النفاق الاعتقادي ، فالكافر لابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق ، والمشرك شركًا أكبر لابد أن نتبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق ، والمنافق النفاق الأكبر لابد أن نبرأ منه البراءة المطلقة ونعاديه ونبغضه المعاداة والبغض المطلق للآية السابقة ، ولقوله تعالى : { لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ... } الآية ، ولقوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي أن من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره فقط لا بباطنه ونيته ، وذلك كما قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : (( إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم )) رواه البخاري . وقال الثوري : قال ابن عباس : (( ليس التقية بالعمل وإنما التقية باللسان )) اهـ .(1/17)
... وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } ، وقال تعالى منكرًا على من يوالي الكفار : { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا } ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا ، وهي تفيد إفادة وجوب البراءة المطلقة لمن اتصف بالكفر أو الشرك الأكبر أو النفاق الاعتقادي ، فهذا بالنسبة للبراء المطلق أو البراء الكلي .
... وأما مطلق البراء أو البراء الجزئي ، فإنه يكون لعصاة الموحدين سواءً كانت المعصية معصية شهوة أو شبهة ، ويدخل في ذلك المبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم كالأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والخوارج والكلابية والمرجئة ونحوهم ، فنبرأ منهم لكن ليس البراء المطلق ؛ لأن معهم أصل الإسلام وإنما نبرأ منهم مطلق البراء أي بعض البراء لا كل البراء ، ومطلق البراء ممن تحقق فيه ما يقتضيه ، يوجب مطلق العداوة أي بعضها لا كلها ، ويوجب مطلق البغضاء أي بعضها لا كلها ، وهذا يؤيد مذهب أهل السنة أنه قد يجتمع في الشخص الواحد موجب المحبة والعداوة ، وموجب الثواب والعقاب ، وبعبارة أخرى نقول : عصاة الموحدين نحبهم ونواليهم بما معهم من الإيمان ، ونبغضهم ونعاديهم بما معهم من الفسوق والعصيان ، ونضرب لك أمثلة ليتضح لك الأمر - إن شاء الله تعالى - فأقول :
... منها : عبدالله بن أبي بن سلول ، نبرأ منه البراءة المطلقة ونبغضه البغض المطلق ونعاديه المعاداة المطلقة ؛ لأنه منافق النفاق الأكبر ، بل هو عند أهل العلم رأس المنافقين .(1/18)
... ومنها : أبو لهب وأبو جهل ، نبرأ منهما البراءة المطلقة ونبغضهما البغض المطلق ونعاديهما المعاداة المطلقة ؛ لأنهما كافران ومشركان ، بل هما رأس كفار هذه الأمة ، لعنهم الله وأبعدهم وسحقًا لهم ثم سحقًا .
... ومنها : الأشعري - وأعني به من يعتقد معتقد الأشاعرة - ، نبرأ منه مطلق البراءة ونبغضه مطلق البغض ونعاديه مطلق العداوة ؛ وذلك لأن معه أصل الإسلام ، ولكنه جاء بهذه البدع المخالفة للشريعة ، فنبغضه بقدر ما عنده من البدع .
... ومنها : ما يقول : الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، لاشك أنه جاء ببدعة مخالفة للشريعة ولما أجمع عليه أهل السنة قاطبة ، ويسمَّون المرجئة ، فهؤلاء لا يكفرون الكفر الأكبر ، ولكنهم يوصفون بالمبتدعة ، فهم موحدون ، لكن عندهم هذه البدعة ، فنبرأ منهم مطلق البراءة ونبغضهم مطلق البغض ونعاديهم مطلق العداوة ، أي أن هذه البراءة والعداوة والبغض تكون بقدر ما معهم من المخالفة .
... ومنها : السراق والزناة وشاربو الخمر وقطاع الطريق والبغاة وسائر أصحاب المعاصي ، فهؤلاء لا يخرجون من دائرة الإسلام بهذه المعاصي ، بل ينقص إيمانهم بقدر ما عندهم من المعصية ، وبناءً عليه فنبرأ منهم مطلق البراءة ونبغضهم مطلق البغض ونعاديهم مطلق العداوة ، ويكون ذلك بقدر ما مع كل واحدٍ منهم من المعصية وهكذا ، وعليه فقس ، ولعل الأمر اتضح - إن شاء الله تعالى - ، وأزيده وضوحًا بذكر خلاصته فأقول :
البراء
* * *
... س316: هلا ضربت لنا أمثلة على موالاة الكفار لنحذرها ونحذِّر منها ؟
... ج316: نعم وعلى الرحب والسعة ولا منة لي في ذلك ، بل الفضل كله والخير كله والمنة كلها لله جل وعلا ، فهو الموفق والهادي والمنعم والمتفضل ، فالحمد لله على فضله وإحسانه أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ، وما أنا إلا خويدم لك في إيصال ما فتحه الله علي من العلم النافع وأعوذ بالله من غرور النفس ومن الرياء ، وأسأله جل وعلا الإخلاص في القول والعمل .(1/19)
... فأقول : الأمثلة على موالاة الكفار كثيرة ، ولكن نذكر لك أهمها فأقول :
... منها : الرضا بكفرهم وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهبٍ من مذاهبهم الكافرة ، وهذه الصورة ناقضة للتوحيد من أساسه وقد جعلها العلماء من جملة نواقض الإسلام ، فنبرأ إلى الله منها ومن أهلها ، والله أعلم .
... ومنها : التولي العام للكفار باتخاذهم أنصارًا وأعوانًا وأصدقاء وإخوانًا أو الدخول في دينهم أو إعانتهم على مراسم كفرهم بقولٍ أو عمل ، والله المستعان .
... ومنها : التحاكم إليهم عند نزول الحوادث وترك التحاكم للشريعة ، فما أن تنزل نازلة بالمسلمين إلا ويرفعون الأمر إلى الكفار ليحكموا فيه ، وهذا خطير جدًا ؛ لأنه نوع من الإيمان بما هم عليه من الكفر ، قال تعالى : { ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا } ، والله أعلم .
... ومنها : مودتهم ومحبتهم والسعي الحثيث في تحقيق ما يرضيهم ولو كان على حساب الإسلام وقضاياه ، وهذا مزلق خطير وطامة كبيرة ، قال تعالى : { لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ... } الآية .
... ومنها : الركون إليهم ، قال تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } ، والمراد بالركون إليهم أي الاعتماد عليهم في سائر الأمور أو أغلبها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وفكريًا وغير ذلك ، والله المستعان .
... ومنها : مداهنتهم ومجاملتهم ومداراتهم على حساب ديننا ، قال تعالى : { ودوا لو تدهن فيدهنون } .
... ومنها : اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } .(1/20)
... ومنها : طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به ، قال تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا } ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } .
... ومنها : توليتهم أمرًا من أمور المسلمين كالإمارة والكتابة وقيادة الجند أو توزيرهم ، ونحو ذلك .
... ومنها : التشبه بهم فيما هو من عباداتهم أو عاداتهم ومشاركتهم في أعيادهم وفي مراسم كفرهم الخاصة بهم وتهنئتهم على ذلك .
... ومنها : تهنئتهم باستقلال بلادهم والدعاء لهم بمزيد من الرخاء والاستقرار كما هو حاصل هذه الأزمنة في كثير من بلاد الإسلام .
... ومنها : البشاشة لهم والطلاقة وانشراح الصدر لهم وإكرامهم ، وتقديمهم في المجالس وتقريبهم ، وإفساح الطريق لهم ، وبداءتهم بالسلام ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه )) .
... ومنها : السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله )) ، رواه أبو داود بإسناد حسن .
... وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا )) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
... وبناءً عليه فإنه لا يجوز السفر إلى ديارهم إلا بثلاثة شروط :
... الأول : أن يكون عنده علم يمنع به الشبهات .
... الثاني : أن يكون عنده دين يمنع به الشهوات .
... الثالث : أن يكون ثمة حاجة أو ضرورة لسفره هذا كتعلم علم نافع للأمة لا يوجد في بلاد المسلمين ، أو لعلاجٍ لا يوجد في بلاد المسلمين ونحو ذلك .
... ومنها : معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم فيه .
... ومنها : تعظيمهم بإطلاق الأوصاف عليهم كصاحب الفخامة أو السيد الرئيس أو صاحب العظمة .
... ومنها : مناصحتهم والثناء عليهم ونشر فضائلهم .(1/21)
... ومنها : تفضيلهم على المسلمين ، وهذه طامة يقع فيها كثير من المغرورين بما عليه الغرب من الحضارة والتقدم .
... ومنها : التآمر معهم وتنفيذ مخططاتهم والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم ومكاتبتهم بعورات المسلمين ونقاط الخلل فيهم .
... ومنها : فرح القلوب بانتصارهم على المسلمين كما قد فرح بعض المنافقين هذه الأزمنة بانتصار بعض دول الكفر على بعض دول الإسلام .
... ومنها ولعله آخرها : من هرب إلى ديارهم مبغضًا الإقامة في ديار المسلمين ومعتزًا بالكافرين ومحتميًا بهم كما هو حاصل من بعض المنافقين في هذه الأزمنة ، والله أعلم .
* * *
... س317: ما خلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء للكفار - باختصار - ؟
... ج317: هذا سؤال مهم ، وبيانه أن يقال :
... إن موالاتهم تختلف باختلاف الحال ، فإن من الموالاة ما يكون كفرًا وردة وانسلاخًا من الدين ، وذلك مثل : التولي المطلق ، ومودتهم لأجل دينهم وسلوكهم والرضا بأعمالهم وتمني انتصارهم على المسلمين ، وطاعتهم في التشريع ، واعتقاد مساواتهم بالمسلمين وأن المسلمين لا ميزة لهم ، والوثوق بهم وائتمانهم دون المسلمين ، ونصرتهم ومساعدتهم على حرب المسلمين ، والتشبه بهم إعجابًا واستحسانًا في قضايا التوحيد والعبادات ، وكذلك التشبه المطلق بهم ، فهذه الصور من الموالاة كفر أكبر - والعياذ بالله تعالى - .
... ومن الولاء ما يكون كبيرة من الكبائر ، لا يكفر فاعلها إلا إذا فعلها استحلالاً ، وذلك كاتخاذهم بطانة ، ومداهنتهم ، والتذلل لهم ، وملاينة الحربيين منهم ، والمبالغة في رفع شأنهم وتعظيمهم ، والدخول في سلطانهم بلا حاجة ولا اقتضاء مصلحة عامة ، والتشبه بهم في أخلاقهم وشعائرهم كالموالد والأعياد ، والإقامة عندهم لمن لا يستطيع إعلان دينه مع قدرته على الهجرة ، فهذه الصور من الولاء لا تصل إلى حد الكفر ، بل هي في دائرة الكبائر ما لم يكن مستحلاً لها .(1/22)
... ومن الموالاة ما يكون أقل من ذلك ، وذلك كميل القلب غير الإرادي إلى الزوجة الكتابية أو للابن غير المسلم ، أو لمن بذل إلينا معروفًا ، أو من كان منهم صاحب خلقٍ وأدب ، أو الثقة فيهم ، أو العمل لديهم مع وجود الإهانة والاحتقار مع وجود فرص عملٍ أخرى ، أو بداءتهم بالسلام والدعاء لهم بالصحة والعافية ولبلادهم بمزيد من الأمن والاستقرار والرخاء ، أو تهنئتهم في المناسبات العادية والأفراح مثل الزواج والسلامة من الحوادث والكوراث ، ونحو ذلك ، فهذه تتراوح بين التحريم والكراهة بحسب الحال والملابسات ، والله المستعان .
... واعلم - رحمك الله تعالى - أن هناك أشياء مباحة لا تعد من باب الموالاة لهم ، وذلك كمعاملتهم بالحسنى واللطف ولاسيما المسالمين منهم ، والصدقة على محتاجيهم والإهداء إليهم وقبول الهدية منهم ، وتعزيتهم في مصائبهم على الوجه المشروع ورد التحية عليهم ، ومعاملتهم في العقود المالية المباحة وتأجيرهم المساكن والدور بشرط أن لا تكون من بنيان المسلمين المجاورين ولا تتخذ كنيسة أو دار فساد ، وكذلك استعمالهم عند الحاجة إليهم في الأمور العادية كإصلاح سيارة أو بناء مسكن أو صناعة شيء من الأشياء ، وأيضًا السفر إليهم للأغراض المباحة مع توفر الشروط المعروفة وقد تقدم ذكرها ، وكذلك زيارتهم للغرض المشروع ، ومن ذلك أيضًا مصالحتهم ومسالمتهم عند الحاجة ، والاستفادة من مخترعاتهم وصناعتهم ، وأكل طعامهم إذا كانوا من أهل الكتاب وذكروا اسم الله على ذبائحهم ، فهذه الصور وأشباهها لا تدخل في الموالاة الممنوعة ، بل هي جائزة وقد ورد لكثير منها أدلة ، لكن تركت ذكرها خشية الإطالة .(1/23)
... وبهذا يتبين لك جليًا أن موالاة الكفار منها ما هو كفر وردة ، ومنه ما هو كبيرة ، ومنه ما هو صغيرة ، ومنه ما هو مكروه ، ومنه ما قد يعده البعض من الموالاة لهم وهو ليس من الموالاة لهم في شيء ، فلا يطلق على جميع صور الموالاة حكم واحد ، بل لابد من معرفة عين الصورة وإنزالها على الأدلة الشرعية والاستنارة بآراء أهل العلم الراسخين ، وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س318: ما حكم ما يتردد على ألسنة البعض من قولهم : ( الدين لله والوطن للجميع ) فهل لهذه الكلمة تعلق بقضية الولاء والبراء ؟
... ج318: أقول : إن هذه الكلمة كلمة ضالة خبيثة فاجرة ، يراد بها تمييع قضية الولاء والبراء ، وهي من وسائل مكر الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم بالمسلمين ، فإن مفادها ومؤداها تمييع قضية المحبة والعداوة وعدم التمييز بين الطيب والخبيث ، فيعيش المسلم مع الكافر دون تحديد شخصية ولا معرفة دين ولا بيان معتقد ، ويعيش الجميع تحت راية واحدة وأنه لا اعتبار باختلاف الأديان والاعتقادات والملل والنحل ما دام الوطن واحدًا ، ولا حق لأحدٍ من أفراد هذا الوطن أن ينكر على الفرد الآخر ما يدين به ويعتقده ، فكل يعتقد ما يشاء فهو حر في اعتقاده ولا دخل لأحدٍ فيه .(1/24)
... وهذه دعوى لنبذ التفريق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ، وبين حزب الله المفلحين وحزب الشيطان الهالكين ، ومؤداها ترك الإنكار والأمر بالمعروف ، وهي نفخة علمانية خبيثة يراد بها تعظيم صورة الوطن في النفوس وتقديم الوطنية على أخوة الدين ، فالواجب رفضها والبراءة منها والإنكار على من يتلفظ بها ، وهي كقولهم : ( ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) ، أي أن الدين حقه جل وعلا وأما المواطنة فهي حق الجميع ، فالجميع يعيش تحت راية واحدة ، فتكون المحبة والعداوة والولاء والبراء مرتبطة بالمصالح الدنيوية الشخصية والعلاقات المادية ، ولا دخل للعقيدة والدين فيها ، فنعوذ بالله من فساد العقائد وخداع الألفاظ البراقة ، فالحذر الحذر - أيها الأخ المبارك - من هذه الكلمة ، فإنه يراد بها إزهاق روح الأخوة الإيمانية وإذهاب هيبة الولاء والبراء ، والله المستعان ، وهو أعلى وأعلم .
... س319: كيف يتعامل المسلم مع المنافقين ؟ مع توضيحها بالدليل ؟
... ج319: أقول : المسلم في كل مصادره وموارده لابد أن يكون تابعًا للدليل من الكتاب والسنة ، وهذه المسألة قد فصلتها الأدلة الصحيحة الصريحة ، فيتعامل المسلم مع المنافقين كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل معهم فإنه القدوة الحسنة فداه روحي وأبي وأمي والناس أجمعين ، وقد ذكرها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى ورفع نزله في عليين - في كتابه زاد المعاد ، فقد ذكر أن سيرته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بقبول علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، وأنه كان يجاهدهم بالحجة والعلم ، وأن الله أمره أن يعرض عنهم ، وأمره أن يغلظ عليهم وأن يبلغ القول البليغ إلى نفوسهم ، ونهاه أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبروهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم ، فهذه تسع مسائل هي مجمل الجواب ، وإليك هذه المسائل مقرونة بأدلتها فأقول :
... نتعامل مع المنافقين بما يلي :(1/25)
... أولاً : قبول علانيتهم ، ودليل ذلك : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسمح لهم بالخروج معه للجهاد وبالدخول في المسجد وبالصلاة معه ، ولما تخلف طائفة منهم في غزوة تبوك جاءوا واعتذروا وحلفوا بالله أنهم لم يستطيعوا الخروج ولا عدة عندهم ويخافون من الفتنة ، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم وكان يقول : (( أتريد أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه )) ، وغير ذلك من الأدلة ، وإنه مع علمنا اليقيني بوجودهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - إلا أننا لم نقرأ ولا نعرف أنه عامل أحدًا منهم بما يسره في قلبه ، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة .
... ثانيًا : توكيل سرائرهم إلى الله تعالى ، ذلك لأن النفاق أمر باطني لا يرى ، ولكن له علامات وهم يحاولون إخفاء هذه العلامات ، ونحن مأمورون بالأخذ بالظاهر ، وأما أمر السرائر فإنه إلى الله تعالى ، ويستدل على ذلك بما سبق من الأدلة ، فإن قبول علانيتهم يلزم منه أنه لم ينظر إلى ما يسرونه من النفاق في قلوبهم ، والله المستعان .
... ثالثًا ورابعًا : مجاهدتهم بالعلم والحجة والإغلاظ عليهم ، قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } ، والمجاهدة هنا تختلف ، والمراد مجاهدة المنافقين ، فإنها مجاهدة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان .
... خامسًا : الإعراض عنهم ، قال تعالى : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } ، وقال تعالى : { ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } .
... سادسًا : إغلاظ القول لهم وإقامة الحجة عليهم ، قال تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغًا } .(1/26)
... سابعًا : أننا لا نصلي على أحدٍ ثبت نفاقه يقينًا ، وذلك لقوله تعالى : { ولا تصل على أحدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره } .
... ثامنًا : أننا لا نشهد جنائزهم ولا نقوم على قبورهم كما في الآية السابقة ، والشاهد منها قوله : { ولا تقم على قبره } ، فيدل ذلك على المنع من شهود جنائزهم والقيام على قبورهم .
... تاسعًا : أن لا نستغفر لهم ، كما قال تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } ، وقال تعالى : { سواءً عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } .
... فهذا هو منهجنا في التعامل معهم ، ولكن أنبهك على أمر مهم وهو أن الحالات التسع السابقة إنما هي فيمن ثبت نفاقه يقينًا بالقرائن الواضحة التي لا تحتمل الشك والتردد في حاله وإلا فلا ينبغي اتهام أحدٍ بالنفاق ، عافانا الله وإياك من هذا البلاء الخطير ، والله أعلم .
* * *
... س320: اذكر لنا شيئًا من صفات المنافقين مؤيدة بالأدلة حتى نَحْذَرَ من الاتصاف بها ونُحَذِّر المسلمين منها ؟
... ج320: صفاتهم كثيرة وقد فضحهم الله في القرآن غاية الفضيحة وبيَّن مكنون نفوسهم وما تحمله صدورهم من الغل والحسد والحقد لعباد الله تعالى ، وبالتتبع لبعض الآيات والسور والأحاديث تبين لنا من صفاتهم ما يلي :
... فمنها : إخلاف الوعد ونقض المواثيق ، قال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصَّدَّقنَّ ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } .
... وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : (( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان )) ، وهذه الصفة من أبرز صفاتهم قبحهم الله تعالى .(1/27)
... ومنها : الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة والفجور في المخاصمة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذ حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر )) متفق عليه .
... ومنها : لمز المؤمنين في صدقاتهم وتعبداتهم ، كما قال تعالى : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم } .
... ومنها : التذبذب بين فريق الإيمان وفريق الكفار ، كما قال تعالى : { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } ، فهم يتكيفون حسب غلبة أحد الفريقين ، فإن كانت الغلبة للكفار قالوا : ألم نكن معكم ونمنعكم من المؤمنين ، وإن كانت الغلبة للمؤمنين قالوا : نحن معكم على الإسلام ضد الكفار ، فهم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذا مرة وإلى هذا مرة )) رواه مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - .
... ومنها : أنهم يفسدون في الأرض بدعوى الإصلاح ، كما قال تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } .
... ومن إفسادهم أن يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، كما قال تعالى : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون } .
... ومن إفسادهم أنهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت ، كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا } .(1/28)
... ومن إفسادهم أنهم إذا دعوا لتحكيم الكتاب والسنة صدوا عن الداعي صدودًا وأعرضوا عنه إعراضًا ، كما قال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا } ، فنعوذ بالله منهم ومن حالهم .
... ومنها : السخرية من عباد الله الصالحين وحزبه المفلحين ، كما قال تعالى : { فيسخرون منهم سخر الله منهم } ، وقال تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، فيسخرون من اللحية وتقصير الثوب والحجاب والأذان وغير ذلك ، بل ويسخرون بأعظم من ذلك وهو تطبيق الشريعة - والعياذ بالله - ، فيصفون من يطبق الشريعة بالتأخر والأصولية والرجعية والإرهاب وغير ذلك من الأوصاف التي يقصدون بها السخرية والاستهزاء واللمز ، نسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم ، قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
... ومنها : مخادعة المؤمنين والكيد لهم بالتخطيط والتدبير ، قال تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } .
... ومنها : أنهم يريدون إشاعة الفتنة والفاحشة بين المسلمين وخصوصًا في أمور الجهاد ، كما قال تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين } ، وقال تعالى عنهم في سياق الآيات المحاربة للإفك : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ، وقال تعالى : { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون } .(1/29)
... ومنها : كراهتم للإنفاق في سبيل الله ، بل كراهتم للشريعة جملة وتفصيلاً ، وأنهم لا يقومون ولا يأتون للصلاة إلا وهم كسالى ، كما قال تعالى : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } ، وقال تعالى عنهم : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } ، ويزداد ثقل الصلاة عليهم في العشاء والفجر ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا )) ، وهذا الكسل والتثاقل عن الإتيان للصلاة جعل كثيرًا منهم يؤخرون الصلاة عن وقتها وينقرونها نقر الغراب ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلاً )) رواه مسلم .
... ومنها : الخوف الشديد الذي استحكم على عقولهم وقلوبهم حتى صار صفة راسخة ، كما قال تعالى : { أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } الآية ، ونحو هذه الآية .
... ومنها : الفرح بانتصار الكفار ، والاستياء من انتصار أهل الإسلام ، كما قال تعالى : { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون } .(1/30)
... ومنها وهو خاتمتها : اختلاف بواطنهم مع ظواهرهم ، فظواهرهم مختلفة عن بواطنهم ، فهم يدَّعون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما قال تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، ويدعون حب المؤمنين ويبطنون بغضهم والحقد عليهم ، كما قال تعالى : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } .
... فهذه بعض صفاتهم وهي أهمها ، وإلا ففي النصوص أكثر من ذلك ، فنعوذ بالله من النفاق كله ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س321: اذكر لنا شيئًا من صور الموالاة للمنافقين ؟
... ج321: الصور كثيرة ، ولكن أذكر لك أهمها فأقول :
... من هذه الصور : التلطف معهم ، وشهود جنائزهم ، والصلاة عليهم ، وتقديمهم في المجالس ، وأن يقال لهم : يا سيد ، وأعظم من هذا : يا صاحب العظمة ونحو ذلك ، وفي الحديث : (( لا تقولوا للمنافق يا سيد ... )) الحديث .
... ومن هذه الصور أيضًا : توليتهم المناصب الدينية والدنيوية ، وإظهار الاحترام لهم ، واصطفاؤهم على المؤمنين ، وتقريبهم ، وفرض الأعطيات لهم من بيت مال المسلمين ، والإصغاء لحديثهم وتصديقه والعمل بموجبه .
... ومن الصور أيضًا : تسليطهم على مناهج التعليم ، ليضعوا فيها ما يشاءون ويحذفون ما يشاءون ويصيغوا للأمة ما تمليه عليهم شياطينهم من الإنس والجن ، وهذه طامة كبرى ومزلق خطير جدًا ، فإذا تولت هذه الفئة الفاسدة مناهج الأمة وفتح لها الباب في صياغة هذه المناهج على الوجه الذي يريدونه فقل على الأمة السلام ، ولذلك فيجب على ولي الأمر حفظ مناهج الأمة من عبث العابثين ونفاق المنافقين ، وكل سيقف بين يدي الله تعالى ويحاسبه على عمله .(1/31)
... ومن الصور أيضًا : الدفاع عنهم ، وفرض العقوبات على من يصفهم بالنفاق ، أو يحاربهم أو يمس مشاعرهم ، ومن عجائب زمننا والعجائب كثيرة أن بعض الدول المجاورة لبلاد الحرمين تعاقب بالسجن سنة أو أقل أو أكثر لمن يقول للرافضي : يا رافضي ! فأي موالاة بعد هذه الموالاة ؟ وبعض الدول تمنع منعًا باتًا دخول أو طباعة الكتب التي تبين فضائح الرافضة أو بعض الفرق ، ألا فشاهت وجوه أهل النفاق وخاب مسعاهم ، فإنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
... ومن الصور أيضًا : تمكينهم من وسائل الإعلام ، كالتلفاز والإذاعة المسموعة والجريدة المقروءة وغير ذلك ، وما فسد الإعلام إلا لما تولته هذه الفئة الفاسدة ، وهذا غش للرعية ، فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يتقوا الله تعالى في رعاياهم وأن يحفظوا عليهم دينهم وأخلاقهم ، فلا يولون في هذه المناصب المهمة المؤثرة إلا أهل الكفاءة من أهل الدين والصيانة والغيرة والصلاح ، وأنا في هذه النصيحة لا أخص إعلام دولة بعينها ، بل الكلام عام لكل إعلام المسلمين في سائر الدول ، والله أسأل أن يعين ولاة الأمور على القيام بهذه الأمانة العظيمة والحمالة الكبيرة وأن يغفر لنا ولهم ولجميع المسلمين زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة ، فالكل يقصر، ولكن الموفق هو من إذا ذكر تذكر ، وإذا وعظ انتصح، والله تعالى أعلى وأعلم.
* * *
... س322: هل يجوز السفر لبلاد الكفر ؟(1/32)
... ج322: الأصل أن الذهاب إلى ديار الكفر ممنوع ، وذلك لما فيه من تعريض الإنسان نفسه إلى الفتنة في دينه وماله ونفسه وأهله ، فكم ممن ذهب وعاد متنكرًا لدينه ووطنه وعادات قومه السامية وتقاليدهم ، وقد تقرر بالدليل أن الذهاب إلى ديارهم من جملة الموالاة لهم ، وقد تقرر أيضًا أن من مقتضيات البراء منهم مجانبتهم ومصارمتهم المجانبة والمصارمة المطلقة ، وقد تقرر أيضًا في القاعدة الشرعية الكبرى أن هذه الشريعة المباركة جاءت لتقرير المصالح وتكمليها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، ومن المعلوم أيضًا أن المتقرر أيضًا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وبناءً عليه فالأصل في السفر لديار الكفر المنع والتحريم ، فلا يجوز الذهاب إليهم ، ويزداد الأمر منعًا وتحريمًا إذا كان المقصود من السفر للإقامة بينهم ، ويزداد الأمر سوءًا على سوءٍ ويعظم التحريم إذا كان ذهابه إليهم لطلب العزة منهم بالحماية والنصرة التمكين - نعوذ بالله من الخذلان - ، لكن لما تفاقم الأمر وعظمت البلية وانفتحت البلاد بعضها على بعض نظر العلماء أن من براءة الذمة مع كثرة السفر إلى ديار الكفار ، أن يشترطوا شروطًا من باب النصح للأمة للحفاظ على دينها وأخلاقها ، فقالوا : لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار إلا لمن استجمع ثلاثة شروط :(1/33)
... الأول : أن يكون عنده علم من الكتاب والسنة يستطيع به أن يدفع ما قد يرد عليه أو يراه من الشبه في أمور الاعتقاد والتشريع ، فإن الأمر في بلاد الكفر مفتوح على مصراعيه ، فكل أصحاب المذاهب الباطلة والأهواء المختلة والآراء المعتلة يجدون الفرصة لطرح معتقداتهم الفاسدة وتصوراتهم المخالفة للكتاب والسنة ، فضلاً عن شبه الكفرة التي يثيرونها حول الإسلام على وجه العموم ، أو حول بعض قضاياه وما أكثر هذه الشبه وشدة وقعها على الجاهل الذي لا حظ له من علم النبوة ، وقد تقرر أن من الضرورات الخمس التي جاءت بها الشرائع حفظ الدين ، فمن لم يك يحمل شيئًا من علم الشريعة الذي يحميه من هذه الشبه فلا يجوز له الذهاب إلى ديار الكفار ، وهذا شرط أساسي لابد من مراعاته ولا ينبغي التساهل فيه .
... الثاني : أن يكون عنده دين وورع وتقى يمنعه من مواقعة الشهوات ، وذلك لأن بلاد الكفر تعج فيها الشهوات بمختلف أنواعها وتباين أشكالها ، وتحصيلها لا كلفة فيه ، ففيها الزنا الظاهر ، وشرب الخمر الظاهر ، وغير ذلك من المنكرات ، فلابد أن يكون الذاهب هناك ذا دين وتقى وورع ومراقبة لله تعالى ، حتى يكون ذلك مانع له وزاجر لنفسه عن مواقعة شيء من هذه المنكرات ، ولكم ولكم رأينا وسمعنا عن أشخاص ذهبوا إلى هناك وليسوا على دين يمنعهم ويزجرهم فغرقوا في مستنقعات الشهوات وعفن المنكرات ، فهذا أيضًا شرط أساسي ، فلا يجوز للعبد أن يعرض دينه للفتن ، فإن العبد لا تؤمن عليه النكسة - والعياذ بالله - .
... الثالث : أن يكون الداعي لهذا السفر حاجة لا تنقضي إلا به ، وذلك كعلاج لا يوجد في بلاد الإسلام ، أو يوجد فيها ولكن يحتاج المريض إلى تقنية أعلى من التقنية الموجودة في بلاد الإسلام ، وكالذهاب للدعوة إلى الله تعالى ، وكالسفر لتسويق أو شراء سلع من هذه البلاد الكافرة ونحو ذلك .(1/34)
... وبناءً عليه فإذا لم تكن ثمة حاجة لهذا السفر فلا يجوز حينئذٍ ، واعلم - رحمك الله تعالى - أنه ليس من الحاجة السفر للسياحة للنزهة والفرجة وتتبع الآثار ونحو ذلك ، بل نقول كما قال كثير من الأئمة : إن السياحة في البلاد بلا مقصود شرعي ليست من الإسلام في شيء .
... فإذا توفرت هذه الثلاثة جاز السفر حينئذٍ ، وكل سيقف بين يدي ربه ويحاسبه على عمله ويسأله عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه ، والله أعلم .
* * *
... س323: ما القواعد التي يجب مراعاتها في الحكم على الآخرين ؟ اذكرها مجملة ؟
... ج323: هذه القواعد كثيرة وقد كتبت فيها مؤلفًا مستقلاً فراجعه إن شئت ، وخلاصة هذه القواعد كما يلي :
... القاعدة الأولى : يجب صون المنطق عن الحرام ويسن كفه عن المكروه وفضول المباح .
... القاعدة الثانية : لنا الظاهر والله يتولى السرائر .
... القاعدة الثالثة : صفاء السريرة على المحكوم عليه وإحسان الظن به مطلب أساسي في الحكم عليه .
... القاعدة الرابعة : ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه .
... القاعدة الخامسة : من وقع في مكفر أو مبدع أو مفسق فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
... القاعدة السادسة : الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يستلزم انطباقه على الأفراد قطعًا إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
... القاعدة السابعة : لا تقوم الحجة على المعين إلا بعد بلوغها وفهمها مطلق الفهم .
... القاعدة الثامنة : لا يحكم على الغير لمخالفته شيئًا ثبت الخلاف فيه لاسيما إذا كان قويًا.
... القاعدة التاسعة : يجب في الحكم على الغير النظر في القرائن المصاحبة للقول والفعل .
... القاعدة العاشرة : طلب العذر للمخالف مقدم على الحكم عليه .
... القاعدة الحادية عشرة : لازم القول ليس قولاً إلا بعد عرضه وقبوله .
... القاعدة الثانية عشرة : من العدل والإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه .(1/35)
... القاعدة الثالثة عشرة : الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين .
... القاعدة الرابعة عشرة : لا تبنى الأحكام على الإشاعات والنقول والأراجيف .
... فهذه جملة من قواعد في الحكم على الآخرين وقد ذكرتها بأدلتها وفروعها وتفاصيلها في الكتاب المذكور ، والله يحفظك ويرعاك ، وهو أعلى وأعلم .
* * *
... س324: عرف الساعة اصطلاحًا ، مع بيان إطلاقاتها .
... ج324: الساعة اصطلاحًا : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة .
... سميت بذلك : لأنها تأتي بغتة كما قال تعالى : { ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة } ، فهي تأتي والناس غافلون ، فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة ، وذكر أهل العلم - رفع الله درجاتهم في الفردوس الأعلى - أن الساعة تطلق ويراد بها معانٍ ثلاث :
... الأول : الساعة الصغرى ، ويراد بها موت الإنسان ، فمن مات فقد قامت قيامته لدخوله بالموت في عالم البرزخ الذي هو أول عوالم الآخرة .
... الثاني : الساعة الكبرى ، ويراد بها القيامة الكبرى ، وهي المرادة بلفظ الساعة في القرآن ، كقوله تعالى : { يسألك الناس عن الساعة } ، وكقوله تعالى : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } ، وكقوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } ، وكقوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب } ، وغير ذلك من الآيات .
... الثالث : تطلق الساعة أحيانًا ويراد بها موت أهل القرن الواحد ، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنه - قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن الساعة ، متى الساعة ؟ فينظر إلى أحدثهم سنًا فيقول : (( إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم الساعة )) . قال هشام : يعني موتهم . فإذا مات أهل القرآن فإنه يقال : قامت قيامتهم .(1/36)
... وبعض أهل العلم يقول : الساعة لها ثلاث معانٍ : صغرى ، ووسطى ، وكبرى ، ويعني بالصغرى موت الفرد ، وبالوسطى موت أهل القرن ، وبالكبرى القيامة الكبرى ، وهو خلاف في عبارة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
* * *
... س325: ما أقسام أشراط الساعة باعتبار ذاتها ، وباعتبار ظهورها من عدمه ؟
... ج325: أقول : قسَّم أهل العلم أشراط الساعة باعتبار ذاتها إلى قسمين : أشراط صغرى ، وأشراط كبرى ، ويجمعها قول الله عز وجل : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها } ، وذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - أن الأشراط الصغرى هي التي تتقدم الساعة الكبرى بأزمانٍ بعيدة متطاولة ، وتكون في أصلها معتادة الوقوع ، مثل : قبض العلم ، وظهور الجهل ، وشرب الخمور ، ونحو ذلك مما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .
... وأما الأشراط الكبرى ، فهي التي تقارب قيام الساعة مقاربة وشيكة سريعة ، وتكون في ذاتها غير معتادة الوقوع ، كالدخان ، والدجال ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونحو ذلك مما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - .
... وبه تعلم أن أشراط الساعة الصغرى تختلف مع الكبرى من عدة فروق : أحدهما : أن الأشراط الصغرى تتقدم قيام الساعة بأزمنة كبيرة مديدة ، وأما الأشراط الكبرى في التي تقارب قيام الساعة جدًا .
... والفرق الآخر : هو أن الأشراط الصغرى معتادة في ذاتها ، وأما الأشراط الكبرى فإنها في ذاتها غير معتادة .
... فهذا بالنسبة لتقسيم أشراط الساعة باعتبار ذاتها .
... وأما أقسامها باعتبار ظهورها من عدمه ، فقد قسمها أهل العلم إلى ثلاثة أقسام :
... الأول : قسم منها ظهر وانقضى .
... الثاني : قسم ظهر ولا زال يتتابع ويكثر .
... الثالث : قسم لم يظهر إلى الآن .
... فأما القسمان الأولان فهما من أشراط الساعة الصغرى ، وأما القسم الثالث فهو الأشراط الكبرى وبعض الأشراط الصغرى ، والله أعلم .
* * *(1/37)
... س326: عدد لنا بعض أشراط الساعة الصغرى مقرونة بأدلتها مع شيء يسير من تفاصيلها ؟
... ج326: أشراط الساعة الصغرى كثيرة جدًا ، ونذكر منها ما يلي :
... فمنها : بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن بعثته - صلى الله عليه وسلم - علامة على قرب قيام الساعة ، ففي حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بعثت أنا والساعة كهاتين )) ويشير بإصبعيه فيمدهما . رواه البخاري . ولمسلم نحوه عن أنس وفيه : وضم السبابة والوسطى ، وعن قيس بن أبي حازم عن أبي جبير مرفوعًا : (( بعثت في نسم الساعة )) وصححه الألباني - رحمه الله تعالى - ، والمراد بنسم الساعة ، أي أول هبوب ريحها ، أي أنه بعث في أول أشراط الساعة ، وإشارته - صلى الله عليه وسلم - بالسبابة والوسطى يحتمل أمرين :
... أحدهما : أن الساعة تعقب بعثته كما أن الوسطى هي التي تعقب السبابة ولا إصبع تفصل بينهما ، بل هما متقاربتان لا يفصل بينهما شيء .
... الثاني : أن الوسطى أطول من الإصبع السبابة بشيءٍ يسير ، فكأن المدة بين بعثته وقيام الساعة إنما هو كفضل الوسطى على السبابة ، والمقصود أن المراد من هذه الأحاديث الإخبار بقرب بعثته - صلى الله عليه وسلم - من قيام الساعة ، فالله المستعان .
... ومن الأشراط الصغرى : موته - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ، ففي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( اعدد ستًا بين يدي الساعة : موتي ، ... )) الحديث ، فموته - صلى الله عليه وسلم - من أعظم المصائب التي وقعت على الأمة ، والله أعلم .(1/38)
... ومن الأشراط الصغرى : فتح بيت المقدس ، فقد جاء في حديث عوف المذكور آنفًا : (( اعدد ستًا بين يدي الساعة )) ، وذكر منها : (( وفتح بيت المقدس )) ، وقد تم هذا الفتح في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنة ست عشرة من الهجرة ، وذهب عمر بنفسه وصالح أهلها وفتحها وطهرها من اليهود والنصارى ، وبنى بها مسجدًا في قبلة بيت المقدس ، والله أسأل أن يعيد هذا الفتح في هذا الزمان الذي سيطر فيه أولاد القردة والخنازير على هذه البقعة الطاهرة وما ذلك على الله بعزيز .
... ومن الأشراط أيضًا : طاعون عمواس ، وهي بلدة بفلسطين على ستة أميال من الرملة على طريق بيت المقدس ، فقد جاء في حديث عوفٍ السابق : (( اعدد ستًا بين يدي الساعة )) وذكر منها : (( ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم )) .
... فقوله : (( موتان )) هو عبارة عن الموت الكثير الوقوع ، وقوله : (( قعاص الغنم )) هو داء يصيب الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة .
... وقد ذكر ابن حجر - رحمه الله تعالى - أن هذه الآية يقال إنها خرجت في طاعون عمواس في خلافة عمر ، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس ، فقد انتشر هذا الوباء العام في كورة عمواس ثم انتشر في الشام جميعها ، فمات فيه خلق كثير من الصحابة وغيرهم ، فقد مات فيه أكثر من خمسة وعشرين ألفًا من المسلمين ، فنعوذ بالله من البلاء والوباء ، والله أعلم .(1/39)
... ومن الأشراط أيضًا : ظهور المدعين للنبوة ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله )) ، وفي حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي )) رواه أبو داود والترمذي بإسنادٍ صحيح .
... وليس المراد بهذه الأحاديث كل من ادعى النبوة ، فإنهم كثير لا يحصون ، وإنما المراد من ادعى النبوة وصارت له شوكة وكثر أتباعه وعظمت به الفتنة كمسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وسجاح ولكنها رجعت إلى الإسلام ، وطليحة بن خويلد الأسدي ولكنه تاب ورجع إلى الإسلام وحسن إسلامه ، والمختار بن أبي عبيد الثقفي ، وغير هؤلاء .
... وقد روى الإمام أحمد في المسند بإسنادٍ صحيح من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال : (( في أمتي كذابون ودجالون سبعة وعشرون ، منهم أربع نسوة ، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي )) ، فدل هذا الحديث أن من هؤلاء الكذابين المدعين للنبوة أربع نسوة ، والله أعلم .
... ومن الأشراط أيضًا : ظهور نار في أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى )) متفق عليه .(1/40)
... وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع الهجري في عام أربعٍ وخمسين وستمائة ، وكانت نارًا عظمية كما وصفها وأفاض في وصفها من عاصرها من العلماء كأبي شامة ، والنووي وغيرهم ، ولكن أنبهك على أمر مهم وهي أن هذه النار المذكورة في الحديث ليست هي النار التي تخرج في آخر الزمان والتي تحشر الناس إلى محشرهم ، فإن هذه الأخيرة من الأشراط الكبرى ، وتلك من الأشراط الصغرى ، وسيأتي ذكرها - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلم .
... ومن الأشراط الصغرى : استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة حتى يدور رب المال على الناس بماله وصدقته فلا يقبلها أحد ، وهذه العلامة من العلامات التي ظهرت في عهد الصحابة وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - وفي بعض عصور الدولة العباسية ، ولا تزال تتجدد وتظهر إلى قيام الساعة ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يُهمّ رب المال من يقبل صدقته ويدعى إليه الرجل فيقول : لا أرب لي به )) متفق عليه ، وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه )) رواه مسلم ، والله أعلم .
... ومن الأشراط الصغرى : كثرة الفتن وتتابع ظهورها - نعوذ بالله منها - ، ففي حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا ابني آدم )) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والحاكم ، وصححه ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير أيضًا .(1/41)
... والفتن التي حصلت في الإسلام كثيرة أولها قتل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ، وقتل الخليفة الثالث عثمان - رضي الله عنه - ، واقتتال بعض الصحابة في موقعة الجمل .
... وغالب الفتن ستأتي من المشرق ، ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المشرق يقول : (( ألا إن الفتنة هاهنا ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان )) متفق عليه .
... وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا ، وبارك لنا في شامنا ويمننا )) . فقال رجل من القوم : يا رسول الله وفي عراقنا . قال : (( إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن وإن الجفاء بالمشرق )) .
... وأنت تعلم أن مشرق المدينة إنما هو ضاحية العراق وما وراءها ، صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق ، فمن العراق ظهر الخوارج والشيعة والروافض والباطنية ، وبه مقر حزب البعث الكافر ، وظهر فيه القدرية والجهمية والمعتزلة ، بل وأكثر مقالات الكفر والإلحاد والزندقة كان منشؤها من المشرق ، من جهة الفرس المجوس كالمانوية والزردشتية والمزدكية والهندوسية والبوذية والقاديانية والبهائية ، وغير هذه الأديان والفرق فإنها ظهرت من المشرق .
... وهذه العلامة من العلامات المتجددة إلى يوم القيامة ، والله المستعان .
... ومن الأشراط الصغرى أيضًا : قتال الترك ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك ، قومًا وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر )) رواه مسلم .
... وللبخاري عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا نعالهم الشعر ، وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة )) .(1/42)
... وعن عمرو بن تغلب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من أشراط الساعة أن تقاتلوا قومًا عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة )) رواه البخاري وأحمد واللفظ له .
... ومن الأحاديث المشهورة عند الصحابة حديث : (( اتركوا الترك ما تركوكم )) حديث حسن إن شاء الله تعالى .
... وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذه العلامة قد ظهرت وذلك لما غزا التتار العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري ، فإن التتار من الترك ، وقد ذكر الإمام النووي وهو ممن عاصر هذه الحروب المريرة : أن صفات التتار هي بعينها نفس الصفات الواردة في أحاديث قتال الترك ، وكذلك ذكره أبو العباس بن تيمية - رحمه الله تعالى - في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، والله أعلم .
... ومن الأشراط الصغرى أيضًا : ضياع الأمانة - والله المستعان - ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة )) . قال : وكيف إضاعتها ؟ قال : (( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) .
... وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف ترفع الأمانة من القلوب ، ففي الصحيح عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : (( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمرٍ دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء ، فيصبح الناس فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلاً أمينًا ، ويقال للرجل : ما أعقله ، ما أظرفه ، ما أجلده ، وليس في قلبه من الإيمان حبة خردل ... )) الحديث .(1/43)
... وهذه العلامة من العلامات التي ظهرت ولا تزال تتجدد في صورٍ مختلفة حتى تقوم الساعة ، فنعوذ بالله من خيانة الأمانة ، والله أعلم .
... ومن الأشراط أيضًا : قبض العلم ، وظهور الجهل ، وشرب الخمور ، وظهور الربا ، وقلة الرجال وكثرة النساء ، وكثرة الهرج - أي القتل - ، وكثرة الزنا ، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل )) ، وفي حديثه الآخر : (( إن من أشراط الساعة: أن يقل العلم ، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد )) .
... وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بين يدي الساعة يظهر الربا )) رواه الطبراني ، وقال المنذري : رواته رواة الصحيح . اهـ
... وعن أبي موسى الأشعري وعبدالله بن مسعود - رضي الله عنهما - قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن بين يدي الساعة أيامًا ينزل فيها الجهل ، ويرفع العلم ، ويكثر فيه الهرج ، والهرج القتل )) رواه البخاري ومسلم .
... وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان ، وينقص العلم ، وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج )) . قالوا : يا رسول الله ، وما الهرج ؟ قال : (( القتل القتل )) متفق عليه ، وغير ذلك من الأدلة .
... وهذه العلامات المذكورة ظهرت ولا تزال تظهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، والله المستعان .(1/44)
... ومن العلامات أيضًا : زخرفة المساجد والتباهي في بنائها وتشييدها مع تعطيل عمارتها المعنوية ، فقد روى الإمام أحمد في المسند عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد )) وصححه الإمام الإلباني - رحمه الله تعالى ورفع نزله في الفردوس الأعلى وجزاه الله خير ما جزى عالمًا عن أمته هو وسائر علماء المسلمين من محدثين وفقهاء - .
... وفي رواية للنسائي وابن خزيمة : (( من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد )) وصححه الألباني أيضًا .
... قال البخاري - رحمه الله تعالى - : يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً ، فالتباهي بها العناية بزخرفتها .
... قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى . اهـ
... وقد نهى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن زخرفة المساجد ؛ لأن ذلك يشغل الناس عن صلاتهم ، وقال - رضي الله عنه - عندما أمر بتجديد المسجد النبوي : (( أكنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس )) .
... وهذه العلامة قد ظهرت ولا تزال في تزايد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ونبرأ إلى الله تعالى من فعل بعض أهل زماننا ، والله أعلم .
... ومن العلامات أيضًا : التطاول في البنيان ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله جبريل عن الساعة : (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها فذلك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهائم في البنيان فذاك من أشراطها )) .
... ولمسلم من حديث عمر المشهور : (( وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان )) ، ولأحمد في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( العرب )) وإسناده صحيح .
... وللبخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( حتى يتطاول الناس في البنيان )) .(1/45)
... وهذه العلامة قد ظهرت ظهورًا لا خفاء فيه ، فتطاول الناس في البنيان وتفاخروا في طولها وعرضها وزخرفتها ، فاللهم إنا نسألك الاستعداد للساعة بالعمل الصالح الذي يرضيك عنا ، والله أعلم .
... ومن الأشراط أيضًا : أن تلد الأمة ربتها ، كما جاء ذلك صريحًا في حديث جبريل المشهور : (( إذا ولدت الأمة ربتها )) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ولمسلم من حديث عمر نحوه .
... وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك على أقوال ، والأقرب - والله أعلم - أنه عبارة عن كثرة الإماء كثرة مستغربة وعزوف الرجال عن الحرائر وتتبع الإماء والرضى بهن دون الحرائر ، ومع كثرة مواقعتهن يكثر استيلادهن ، والولد يتبع أباه الحر في الحرية ، فيكون الابن سيدها ، فيصدق عليها أنها ولدت ربها أي سيدها .
... وبناءً عليه فنقول : قد ظهر ذلك مع كثرة الفتوح وكثرة السبي في العصور الأولى مع قيام علم الجهاد ، وأما الآن فلا أثر لهذه العلامة ، ومن الجدير بالذكر أن المنكر في هذه العلامة ليس هو الجهاد أو كثرة السبي - حاشا وكلا - وإنما المنكر هو العزوف عن الحرائر وطلب الأولاد من الإماء وأنت خبير بأن ولد الأمة سيعاملها معاملة الأمة لا معاملة الأم فيكثر الضرب والسب والشتم والاستخدام لها ، فتكون أمه كأمته وخادمته ، وهذا القول هو الذي يجمع ما قاله أهل العلم ، ولا داعي لصرف الكلام عن حقيقته ؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة ، والله أعلم .
... ومن الأشراط أيضًا : تقارب الأسواق وتقارب الزمان ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان )) رواه البخاري .(1/46)
... وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ، ويكون الشهر كالجمعة ، وتكون الجمعة كاليوم ، ويكون اليوم كالساعة ، وتكون الساعة كاحتراق سعفة )) رواه أحمد ، والترمذي ، وقال ابن كثير : إسناده على شرط مسلم . وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح . وصححه الألباني - رحم الله الجميع رحمة واسعة - .
... وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ، ويكثر الكذب ، وتتقارب الأسواق )) رواه أحمد ، وقال الهيثمي : ورجال أحمد رجال الصحيح غير سعيد بن سمعان وهو ثقة . اهـ
... وقد اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في تفسير هاتي العلامتين ، والأقرب - إن شاء الله تعالى - أن المراد بتقارب الزمان هو التقارب الحسي والمعنوي ، ونعني بالتقارب الحسي قلة أجزاء الزمان كما ورد ذلك صريحًا في الحديث الآخر ، وهذا لم يظهر بعد ، فتكون السنة كالشهر في زمنه حقيقة ، ويكون الشهر كالأسبوع في زمنه حقيقة ، ويكون الأسبوع كاليوم في زمنه حقيقة ، ويكون اليوم كجزءٍ يسير من أجزائه حقيقة ، والله قادر على كل شيء .
... ويؤيد هذا أنه هو حقيقة التقارب وظاهره ، والأصل بقاء اللفظ على حقيقته وظاهره ، ولأنه ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - صريحًا ولا عبرة بتفسير أحدٍ مع تفسيره - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقرر في الأصول أن خير ما فسرت به السنة هو السنة ، ويؤيده أيضًا أن أيام الدجال تطول حقيقة وقد فهم الصحابة من قوله : (( يوم كسنة ، ويوم كشهر ... )) إلخ ، فهم الصحابة منه حقيقة هذا التطويل ، فكذلك نحن نفهم كما فهموا من قوله : (( ويتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ... )) إلخ ، نفهم منه التقارب الحقيقي .(1/47)
... وأما التقارب المعنوي فهو ذهاب بركة الزمان فتتفلت أوقاته وتنقضي ساعاته على الناس ولم يحصلوا فيه ما كان يحصله من قبلهم ، وبناءً عليه فنقول : أما التقارب المعنوي فإنه قد ظهر ولاشك ونحن نحسه من أنفسنا في التعامل مع أوقاتنا ، وأما التقارب الحسي فإنه لم يظهر بعد ، ولعل التقارب المعنوي علامة ومؤشر للتقارب الحسي ، والله المستعان وعليه التكلان .
... وأما تقارب الأسواق ، فالأقرب فيها حمله على الحقيقة أيضًا من أن المراد به تقاربها حقيقة سواءً في بنائها أو في تعاملاتها بيعًا وشراءً كما هو حاصل اليوم ، فتجد الأسواق تنافس البيوت في أعدادها كما لا يخفى على أحد فما بين السوق والسوق إلا مسافة يسيرة ، فهذا تقارب حسي ، وأما تقاربها في تعاملاتها بيعًا وشراءً فلا أظنه يخفى على أحد وخصوصًا مع ظهور هذه الأجهزة الحديثة ، فالشخص يشتري ويبيع من الأسواق البعيدة وهو في بيته أو في محل تجارته بلا عناءٍ ولا قطع مسافات وكأن السوق تحت يديه يشتري منه ما يشاء ويبيع لغيره وهو بعيد عنه ما يشاء بلا كلفة ولا مشقة ، وكذلك أيضًا سهولة الوصول إلى هذه الأسواق بالمراكب الحديثة من الطائرات والسيارات وغيرها ، فهذه المراكب جعلت الأسواق البعيدة كأنها قريبة فلا يقتطع الشخص في الذهاب للسوق البعيد ولو في غير بلاده إلا الوقت اليسير ، وهذا قد ظهر جليًا وتحقق ولا يزال في ازدياد ما ازدادت الحضارة وتقدمت التقنيات ، وأنت تعلم أثر الشبكة العنكبوتية في التقارب بين الأسواق ، فيشتري الشخص السلعة من أسواق أمريكا وهو في بلاد الخليج وتصله في أسرع وقت ، والله المستعان وعليه التكلان .
... وخلاصة الأمر أن التقارب في الزمان والأسواق كلها يراد بها حقائقها من التقارب الحسي والمعنوي ، والله أعلم .(1/48)
... ومن الأشراط : ظهور الشرك في هذه الأزمنة ، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة ، وهو طاغية دوس الذي كانت تعبده في الجاهلية )) .
... وروى أبو داود والترمذي من حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ... )) الحديث ، وهو حديث صحيح .
... وقد ظهرت هذه العلامة ظهورًا لا خفاء فيه ، وبخاصة في نجد قبل بزوغ فجر هذه الدعوة المباركة رضي الله عن إمامها وحامل لوائها الإمام المجدد الشيخ المجاهد محمد بن عبدالوهاب - رفع الله نزله وأجزل له الأجر والمثوبة وحشره مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعل قبره روضة من رياض الجنة وأمَّنَ فزعه يوم الفزع الأكبر وجزاه الله خير ما جزى عالمًا ومجاهدًا عن أمته وبارك في دعوته وجعلها باقية إلى يوم القيامة ورحم الله تلامذته من أولاده وأحفاده وسائر علماء الدعوة وبارك في جهودهم ونفعنا بعلمهم وأعظم الله أجورهم وأحيا في الأمة ذكرهم وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يغفر لهم يوم الدين ويجعل لهم لسان صدق في الآخرين وأن يرفع درجاتهم في عليين - ، والله أعلم .
... ومن الأشراط أيضًا : عود أرض العرب مروجًا وأنهارًا ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا )) ، وهذا الحديث فيه دلالة على أن أرض العرب كانت مروجًا وأنهارًا وأنها ستعود كما كانت ، آمنا بخبره - صلى الله عليه وسلم - وصدقنا ، والله أعلم .(1/49)
... ومن الأشراط أيضًا : كثرة المطر وقلة النبات ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى تمطر السماء مطرًا لا تُكِنُّ منها بيوت المدر ولا تُكِنُّ منها إلا بيوت الشعر )) .
... وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يمطر الناس مطرًا عامًا ولا تنبت الأرض شيئًا )) رواه أحمد بسندٍ جيد .
... وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس السنة ألاَّ تمطروا ، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض )) رواه مسلم .
... ومن الأشراط أيضًا : حسر الفرات عن جبل من ذهب ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبلٍ من ذهب يقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائةٍ تسعة وتسعين ويقول كل رجل منهم : لعلي أن أكون أنا الذي أنجو )) متفق عليه ، وفي الحديث الآخر : (( فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا )) .
... وقد تقرر لنا في مناسبات كثيرة أن الأصل في الكلام الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلا لقرينة صحيحة قد أيدتها الشواهد والأدلة ، وبناءً عليه فلا يصح تفسير هذا الجبل بالبترول وذلك لأمور :
... الأول : أن البترول إنما يحفر له الحفر العميقة ؛ لأنه لا يستخرج إلا من باطن الأرض السفلي ، والحديث فيه : (( جبل )) ، فأي تحريف هذا .
... الثاني : أنه قال : (( من ذهب )) ، والبترول ليس بذهبٍ على الحقيقة ، فإن الذهب هو المعدن المعروف .(1/50)
... الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خص الفرات بذلك ، والبترول نراه يستخرج من أماكن كثيرة ، فأي آية في ذلك حتى تفرد بالتخصيص والتنبيه ، فإن قلت : والذهب أيضًا يستخرج من أماكن كثيرة في العالم . فأقول : نعم ، ولكن هل هو على شكل جبل ؟ بالطبع لا ، فالغريب ليس من أنه ذهب ، وإنما الغريب أنه جبل من ذهب .
... الرابع : أننا لو حملنا الحديث على البترول لأوشكت الأمة أن تهلك على إطباقها على هذه المخالفة ؛ لأن الحديث فيه : (( فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا )) ، والدول الآن إنما قيام مصالحها ومصانعها على البتروك ، فأين عقل من فسره بذلك ، فإنه لم يقل أحد من العلماء بعد اكتشاف البترول لا يجوز الانتفاع به ، فانظر إلى هذا التفسير الذي هو ضحكة للعقلاء ، والله المستعان .
... الخامس : أنه صرف للفظ عن حقيقته وظاهره إلى معنى آخر غريب جدًا عن ظاهر اللفظ ولا قرينة توجب ذلك ، فهو مخالفة للقاعدة المتفق عليها : الأصل في الكلام الحقيقة ، وبناءً عليه فالمراد من الحديث الجبل حقيقة والذهب حقيقة ، وهي علامة لم تظهر بعد ولله الحمد ، والله أعلم .
... ومن الأشراط أيضًا : كلام السباع والجمادات للإنس وإخبارها بما حدث في غيابه ، وتكلم بعض أجزاء الإنسان كفخذه يخبره بما فعل أهله من بعده ، ففي حديث أبي هريرة الطويل في تكليم الذئب لراعي الغنم ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهله بعده )) رواه أحمد بسندٍ صحيح . وفي رواية له عن أبي سعيد الخدري - وذكر القصة - وفيه فقال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( صدق والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس ويكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده )) وسنده صحيح .(1/51)
... ولا يسعنا مع قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن نقول : آمنا به كل من عند ربنا ، وهذا لم يقع بعد ولله الحمد .
... ومن الأشراط أيضًا : فتح القسطنطينية ، ويكون فتحها قبل الدجال على يد المسلمين ، وقد دل الدليل أن هذا الفتح يكون بعد قتال الروم في الملحمة الكبرى وانتصار المسلمين عليهم فعندئذٍ يتوجهون إلى مدينة القسطنطينية فيفتحها الله لهم بلا قتال وسلاحهم التكبير والتهليل ، ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( سمعتم بمدينةٍ جانب منها في البر وجانب في البحر )) ؟ قالوا : نعم يا رسول الله . قال : (( لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق ، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاحٍ ولم يرموا بسهم قالوا : لا إله الا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها ، ثم يقولوا الثانية : لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الاخر ، ثم يقولوا : لا إله إلا الله والله أكبر ، فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا ، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ فقال : إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون )) رواه مسلم .
... وفتح القسطنطينية بدون قتال لم يقع إلى الآن ، وقد ذكر بعض أهل العلم أنها قد فتحت ، والصحيح أنها لم تفتح في عصر الصحابة ، فإن معاوية - رضي الله عنه - بعث إليها ابنه يزيد في جيش فيهم أبو أيوب الأنصاري ولم يتم لهم فتحها ثم حاصرها مسلمة بن عبدالملك ولم تفتح أيضًا ، ولكنه صالح أهلها على بناء مسجدٍ بها ، وأما فتح الأتراك لها فإنه كان بقتالٍ ، والحديث ينص على أنها تفتح بلا قتال ، والفتح الذي ذكر في الحديث إنما سيكون آخر الزمان قبيل خروج الدجال ، والله أعلم بزمانه تحديدًا ، لكنه مربوط بعودة المسلمين إلى عزهم بالتمسك بدينهم ونصرهم لقضاياهم وحماية جنابه وتحقيقه اعتقادًا وقولاً وعملاً وما ذلك على الله بعزيز ، والله أكبر ولا إله إلا الله ، والله أعلم .(1/52)
... ومن أشراط الساعة أيضًا : خروج القحطاني ، وذلك يكون في آخر الزمان أيضًا فإنه لم يخرج إلى الآن ، وهو رجل من قحطان تدين له الناس بالطاعة وتجتمع عليه بعد افتراق ، وذلك عند تغير الزمان ، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه )) وهو رجل صالح ، بدليل ما ذكره ابن حجر عن نعيم بن حماد أنه روى من وجهٍ قوي عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه ذكر الخلفاء ثم قال : (( ورجل من قحطان )) ، وأيضًا يؤيده ما أخرجه بسندٍ جيد عن ابن عباسٍ أنه قال فيه : (( ورجل من قحطان ، كلهم صالح )) ا.هـ كلام ابن حجر .
... واعلم - رحمك الله تعالى - أن هذا القحطاني ليس هو الجهجاه المذكور في حديث أبي هريرة عند أحمد بسندٍ صحيح قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يذهب الليل والنهار حتى يملك رجل من الموالي يقال له : الجهجاه )) وأصله في مسلم بدون لفظة : (( من الموالي )) فإن القحطاني من الأحرار نسبه إلى قحطان الذي ينتهي إليه أنساب أهل اليمن ، وأما الجهجاه فإنه من الموالي ، والله أعلم .
... ومنها أيضًا : قتال اليهود، ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )) متفق عليه واللفظ لمسلم .(1/53)
... ومنها أيضًا : انتفاخ الأهلة ، ومعناه أن يرى الهلال في أول الشهر فيقال : إنه ابن ليلتين أو ثلاث ، فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة )) وصححه الألباني - رحمه الله تعالى - ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة وأن يرى الهلال لليلة فيقال : لليلتين )) وفيه ضعف .
... فهذه بعض العلامات الصغرى ، وأستبيحك عذرًا من الإطالة فإنه أمر لابد منه في هذا السؤال خاصة ، والله يتولانا وإياك ، وهو أعلى وأعلم .
* * *
... س327: اذكر لنا نسب المهدي وشيئًا من صفاته مقرونة بالأدلة ؟ ...
... ج327: لقد ورد بذلك السنة الصحيحة ، وأن اسمه كاسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون اسم أبيه كاسم والد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون اسمه : محمد بن عبدالله ، وهو من ذرية فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ولد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - . قال ابن كثير : (( وهو محمد بن عبدالله العلوي الفاطمي الحسني - رضي الله عنه - )) ا.هـ
... فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني ، أو : من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض يقسم المال صحاحًا )) . فقال رجل : ما صحاحًا ؟ قال : (( بالسوية بين الناس )) وهذا سنده صحيح ورجاله ثقات . وفي رواية أخرى : (( لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي )) .(1/54)
... فهذه الأحاديث فيها دلالة واضحة على نسب المهدي واسمه ، ونزيد ذلك استدلالاً فنقول : عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( المهدي من عترتي من ولد فاطمة )) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم بإسنادٍ حسن .
... وعن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( المهدي منا آل البيت يصلحه الله في ليلة )) رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح ، فهذا يؤكد أن المهدي من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مذهب جماهير الأمة فلا يسوغ العدول عنه ولا الالتفات لغيره ، فهذا بالنسبة لاسمه ونسبه وأدلة ذلك ، وهو الشطر الأول للسؤال .
... وأما الشطر الثاني : ففي بيان صفته ، فقد ثبت في السنة الصحيحة أنه خفيف شعر النزعتين عن الصدغين إذ قد ذهب شعر رأسه إلى نصفيه .
... ومن صفاته : أنه طويل الأنف دقيق عند أرنبته مع حدب في وسطه ، ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( المهدي مني ، أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا ، ويملك سبع سنين )) رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وسنده حسن، بل وقد أشار الألباني إلى صحته كما في تخريج المشكاة، فقوله : (( أجلى الجبهة )) هو خفيف شعر ما بين النزعتين من الصدغين ، والذي انحسر الشعر عن جبهته ، وقوله : (( أقنى الأنف )) القنا في الأنف طول ورقة أرنبته مع حدبٍ في وسطه ، ذكر ذلك صاحب النهاية .
... ومن صفاته : أنه كان بعيدًا عن الصلاح ثم يوفقه الله تعالى للتوبة ويلهمه رشده كما في حديث علي السابق يرفعه : (( المهدي منا آل البيت يصلحه الله في ليلة )) .(1/55)
... هذا ما نعرفه من صفته والأمر غيب ويحتاج إلى دليل صريح صحيح ، ودعك من خزعبلات المتهوكين وتحريفات الشياطين وخرافات المهاويس الذين يضفون عليه من الصفات الخلقية ما لا دليل عليه ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س328: هل أحاديث المهدي في صفته وخروجه بلغت مبلغ التواتر أم أنها من الآحاد ؟
... ج328: أقول : الأحاديث في خروج المهدي قد بلغت مبلغ التواتر المعنوي ، وقد نص على ذلك الحافظ أبو الحسن الآبري ، والعلامة محمد البرزنجي في كتابه الإشاعة ، والإمام السفاريني في لوامع الأنوار ، والإمام الشوكاني وقد ألَّف رسالة في ذلك ، والشيخ صديق خان ، والشيخ محمد بن جعفر الكتاني كما في نظم المتواتر ، لكن ننبه على عدة أمور :
... الأول : أن التواتر الذي ينص عليه أهل العلم هنا إنما يعنون به التواتر المعنوي ، وهو اتفاق المعنى مع اختلاف في اللفظ ، وهو قسيم التواتر اللفظي .
... الثاني : أن أحاديث المهدي قد صح منها طرف كبير ، ومع صحة الحديث فإنه يجب قبوله واعتماد مدلوله ، ولا يشترط في إثبات الاعتقاد أن يكون النص متواترًا ، فإن هذا مسلك المبتدعة ، فلو أنه لم يصح في المهدي إلى حديث واحد فإنه يجب الإيمان به ؛ لأن المتقرر عند أهل السنة أن أخبار الآحاد حجة كما بحثنا هذه القاعدة في كتابنا تحرير القواعد ، فكيف وقد وصلت أحاديث - أعني أحاديث المهدي الصحيحة - إلى درجة التواتر المعنوي ؟
... الثالث : اعلم أن خروجه علامة من علامات الساعة الكبرى ، وبناءً عليه فيكون ذلك في آخر الزمان ، ولكن بلا تحديد زمن بعينه لعدم ورود ما يصح بذلك ، وإنما العلامة لخروجه امتلاء الأرض ظلمًا وجورًا كما صح بذلك الحديث السابق .
... الرابع : اعلم أننا متعبدون بالإيمان به وبما صح من اسمه ونسبه وصفاته ، وبمبايعته لو خرج ونحن أحياء ، إذا ثبت عندنا أنه المهدي الذي صحت به الأحاديث وثبتت به الآثار ، ولا نكلف أنفسنا شيئًا لم نكلف به مما لا دليل عليه .(1/56)
... الخامس : اعلم أن الرافضة المتهوكين يريدون أن يجعلوا هذا الفضل لإمامهم المزعوم في سرداب سامراء ، فهم ينتظرون خروجه ، فإن هذا نوع من الهذيان وقسط كبير من الخذلان وهوس شديد من الشيطان ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س329: كيف نجمع بين أحاديث إثبات خروج المهدي وحديث : ( لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ) ؟
... ج329: أقول : هذا الحديث رواه ابن ماجه والحاكم عن أنس يرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجاب عنه بأنه حديث ضعيف لا يثبت مثله ؛ لأن مداره على محمد بن خالد الجندي ، وقد قال الذهبي : (( قال الأزدي : منكر الحديث )) . وقال أبو عبدالله الحاكم : (( مجهول )) . ثم قال الذهبي بعد روايته للحديث المذكور : (( وهذا خبر منكر )) ا.هـ .
... وقد ضعفه أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - فقال في المنهاج : (( هذا الحديث ضعيف ، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس هو مما يعتمد عليه . ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد بن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به وليس هذا في مسند الشافعي . وقد قيل : إن الشافعي لم يسمعه من الجندي وإن يونس لم يسمعه من الشافعي )) ا.هـ كلام ابن تيمية .
... وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : (( مجهول )) .
... فخلاصة القول فيه أنه حديث ضعيف ، ومن المعلوم أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالأحاديث الصحيحة الصريحة ، وإذا سلمنا تنزلاً أنه حديث حسن كما ذكره الإمام ابن كثير فيجاب عنه بجوابين :
... أحدهما : أنه شاذ ؛ لأنه لا يقدر على مقاومة الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر في خروج المهدي ، وقد تقرر في قواعد الحديث أن الشاذ قسم من أقسام الضعيف .(1/57)
... الثاني : أن يصار إلى الجمع ، فيقال : إن قوله : ( لا مهدي إلا عيسى ) ليس يراد به نفي الوجود والحقيقة وإنما يراد به نفي الكمال ، أي لا مهدي كاملاً إلا عيسى ، ولا شك أن عيسى - عليه السلام - أكمل في الهداية من المهدي .
... ولكن كما ذكرت لك أن هذين الجوابين على تسليم فرض صحة الحديث المذكور ، وبذلك فلا يكون ثمة إشكال أو تعارض ، وقد ذكر هذا الجواب الثاني الإمام أبو عبدالله القرطبي في التذكرة ، والله أعلم .
... والخلاصة أن الأجوبة عن هذا الحديث ثلاثة :
... الأول : أنه ضعيف .
... الثاني : أنه شاذ .
... الثالث : أن المنفي هو الكمال ، والله أعلم .
* * *
... س330: ما العلامة الثانية من العلامات الكبرى على قيام الساعة مع ذكر الأدلة الدالة عليها ؟
... ج330: العلامة الثانية من الأشراط الكبرى خروج الدجال لعنه الله ، مسيح الضلالة ، وقد ثبتت بذلك الأحاديث الكثيرة :
... فمن ذلك : حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال : (( إن الله تعالى ليس بأعور ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية )) متفق عليه .
... ومن ذلك : ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع )) وذكر منها : (( ومن فتنة المسيح الدجال )) .
... ومن ذلك : حديث زيد بن ثابت الطويل ومنه : (( تعوذوا بالله من فتنة الدجال )) . فقالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال .
... ومن ذلك : حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال )) رواه مسلم .
... ومن ذلك : حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر )) رواه مسلم .(1/58)
... ومن ذلك : حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصف الدجال : (( إنه شاب قطط عينه طافية ... )) الحديث ، رواه مسلم .
... ومن ذلك : حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يا أيها الناس ، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال وإن الله عز وجل لم يبعث نبيًا إلا حذر أمته من الدجال وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج بعدي فكل حجيج نفسه والله خليفي على كل مسلم ، وإنه خارج من حلة بين الشام والعراق فيعيث يمينًا وشمالاً ، يا عباد الله فاثبتوا ... )) رواه ابن ماجه والحاكم بسندٍ صحيح .
... وغير ذلك من النصوص وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في سياق الأسئلة شيء منها ، والله أعلم .
* * *
... س331: اذكر لنا شيئًا من صفاته بالدليل ، وما سبب افتتان الناس به ؟
... ج331: أقول : لقد وردت النصوص بشيء من صفاته ، ودونك بعضًا منها :
... فمن صفاته لعنه الله : أنه أعور العين اليمنى ، وقد ورد ذلك في حديث ابن عمر : (( وإنه أعور العين اليمنى )) متفق عليه ، وفي الروايات : (( عينه طافية )) ، وفي بعضها : (( كأنها عنبة طافية )) ، وفي بعضها : (( مطموس العين )) ، والله أعلم .
... ومن صفاته : أنه شاب ، كما في حديث النواس السابق ، وفيه : (( إنه شاب )) .
... ومن صفاته : أنه شديد جعودة الشعر جدًا ، كما في حديث النواس أيضًا وفيه : (( قطط )) ، والقطط هو شديد جعودة الشعر ، وفي بعض الروايات : (( جعد الشعر )) ، وهو بمعنى القطط وتفسير له .
... ومن صفاته : أنه رجل قصير ، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج جعد أعور مطموس العين ليس بناتئة ولا حجراء ... )) الحديث ، وهو عند أبي داود في سننه بسند صحيح .(1/59)
... ومن صفاته أيضًا : أنه أفحج ، والفحج ، هو بعيد ما بين الفخذين ، أي أن فخذيه بينهما تنافر وتباعد ، ودليل ذلك حديث : (( إنه أعور أفحج )) ، وقد تقدم قبل قليل .
... ومن صفاته أيضًا : أنه رجل جسيم أحمر في لونه ، كما في حديث ابن عمر في وصفه - صلى الله عليه وسلم - لعيسى ابن مريم وللدجال في الرؤيا التي رآها وفيه : (( فإذا رجل جسيم أحمر ... )) الحديث رواه البخاري ومسلم .
... ومن صفاته أيضًا : أنه أجلى الجبهة وعريض النحر ، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين ، أجلى الجبهة عريض النحر ، فيه دفأ )) رواه أحمد وسنده جيد .
... ومن صفاته : أن فيه انحناءً ، للحديث السابق ، وفيه أنه قال : (( فيه دفأ )) والدفأ هو الانحناء ، ورجل أدفى أي فيه انحناء ، أي أن ظهره ليس مستقيمًا معتدلاً ، بل فيه شيء من الانحناء ، والله أعلم .
... ومن صفاته أيضًا : أنه قد كتب بين عينيه ( ك ، ف ، ر ) أي كافر ، كما في حديث أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( وإن بين عينيه مكتوب كافر )) متفق عليه ، وقد ثبت عن كثير من السلف أن هذه الكتابة بين عيني الدجال يقرؤها كل أحدٍ قارئ وغير قارئ .
... ومن صفاته : أنه عقيم لا يولد له ، وذلك لما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في قصته مع ابن صياد ، فقد قال لأبي سعيد : (( ألست سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه لا يولد له ؟ قال : قلت : بلى )) رواه مسلم .
... ومن صفاته أيضًا لعنه الله : أنه جثة كبيرة أي ضخم جدًا ، وذلك لما في حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - في قصة الجساسة ، وفيه : قال تميم - رضي الله عنه - : (( فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسانٍ رأيناه قط وأشده وثاقًا )) رواه مسلم .(1/60)
... وفي حديث عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال )) رواه مسلم أيضًا .
... وهذا لا يتنافى مع كونه قصيرًا ، فكم من قصير في قامته ضخم كبير في جثته، والله أعلم.
... ومن صفاته أيضًا : أنه كثير الشعر جدًا ، لما في حديث حذيفة وفيه : (( الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر )) ، والله أعلم .
... فهذه بعض صفاته التي صحت بها الأدلة ، والله يعيذنا منه ونسأله جل وعلا أن نموت قبل خروجه فإن الحي لا يؤمن عليه أن يفتتن به ، والله المستعان .
... وأما قولك في السؤال : ولماذا يفتتن الناس به ؟
... فأقول : اعلم أولاً - رحمك الله تعالى - أن فتنة الدجال من الأمور الكونية القدرية التي لابد وأن تقع كما أخبرت بذلك الأدلة وأن الله تعالى يجري على يديه بعض الخوارق التي بها يفتن الناس وفتنته أعظم الفتن ، فالله تعالى بحكمته أقدره على أشياء مذهلة تدهش العقول وتحير الألباب ، ولهذا حذرت منه الأنبياء جميعًا .
... فمن فتنته : أنه تظهر معه زهرة الدنيا من السعة والخصب والكنوز ، وأن الجماد يستجيب له ، وهذا خاص بمن أجابه وآمن به ، ففي حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذات غداة وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( فيأتي على القوم - أي الدجال - فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درًا وأسبغه ضروعًا وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم فيصبحون مُمْحِلِينَ ليس بأيدهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ... )) الحديث ، وقد رواه مسلم .(1/61)
... فأي فتنة أعظم من هذه الفتنة أن يشير إلى السماء فتمطر وإلى الأرض فتخرج زهرتها ، نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ثم نعوذ بالله منه ، والله المستعان .
... ومن فتنته أيضًا : أنه يجيء ومعه مثل الجنة والنار ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا أحدثكم حديثًا عن الدجال ما حدث به نبي قومه ؟ إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار ، فالتي يقول : إنها الجنة هي النار ، وإني أنذركم به كما أنذر نوح قومه )) رواه البخاري ومسلم .
... وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إن مع الدجال إذا خرج ماءً ونارًا ، فأما الذي يرى الناس أنه نار فإنه ماء بارد ، وأما الذي يرى الناس أنه ماء فإنه نار تحرق ، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء عذب )) وفي رواية : (( لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان ، أحدهما رأي العين نار تأجج فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارًا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فليشرب منه فإنه ماء بارد )) متفق عليه .
... فنعوذ بالله من فتنة الدجال ثم نعوذ بالله من فتنة الدجال ثم نعوذ بالله من فتنة الدجال .
... ومن فتنته أيضًا : أنه سريع الانتقال في الأرض ، فهو في سرعة انتقاله كالغيث استدبرته الريح ، ففي حديث النواس بن سمعان - الطويل - وفيه : قلنا يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال : (( كالغيث استدبرته الريح ... )) رواه مسلم وغيره .
... وفي حديث أنس بن مالك مرفوعًا : (( ليس من بلدٍ إلا سيطؤه الدجال ... )) الحديث ، وسيأتي قريبًا - إن شاء الله تعالى - ، فخطره عام على كل أهل الأرض في زمنه ، فالله نسأل أن نموت قبل خروجه .(1/62)
... ومن فتنته أيضًا : أن الشياطين تستجيب لأمره فلم يدخر عدو الله وسيلة من وسائل الإضلال إلا وسلكها ؛ لأن هدفه الوحيد الذي يسعى له هو إيقاع الناس في الكفر والشرك ، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( وإن من فتنته أن يقول للأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك ؟ فيقول : نعم ، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان له : يا بني اتبعه فإنه ربك )) رواه ابن ماجه والحاكم بسندٍ صحيح .
... فأي فتنة أخطر وأشد من هذه الفتنة ، فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يثبت المؤمنين في ذلك الزمان .
... ومن فتنته أيضًا : أنه يخرج في زمن ذهب فيه العلم وخفيت فيه آثار النبوة وعم فيه الجهل وكثرت فيه الفواحش والمضلات ، وهذا هو الذي يجعل أكثر الناس في حيرة من أمره ، ودليل ذلك أن خروجه - أي الدجال - من علامات الساعة الكبرى ، وقد وردت الأدلة بأن الساعة لا تقوم حتى يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويشرب الخمر ، ويكثر الزنا .
... ومن فتنته أيضًا: كثرة أتباعه من اليهود وشدة تسلحهم ودفاعهم عنه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة )) رواه مسلم ، فجيش بهذا العدد وهذه العدة في ذلك الوقت لاشك أنه فتنة للعباد ، والله المستعان .
... ومن فتنته أيضًا : أنه يخرج في وقت العرب فيه قليل جدًا ، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال : أخبرتني أم شريك أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ليفرن الناس من الدجال في الجبال )) . قالت أم شريك : (( فأين العرب يومئذٍ )) ؟ فقال : (( هم قليل )) .
... فلهذه الأمور العظام والفتن الجسام يقع كثير من الناس في شراكه ويستجيبون له إلا من ثبته الله تعالى ووقاه شر هذه الفتنة الكبيرة العظيمة الخطيرة ، والله أعلم .
* * *(1/63)
... س332: كيف العصمة من فتنته ؟ مع تأييد ذلك بالدليل ؟
... ج332: أقول : العصمة من هذه الفتنة يكون بأمور :
... أحدها : العصمة بالاستعاذة بالله من هذه الفتنة الخطيرة ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال )) . فالله هو الملجأ والمفزع والمعاذ والملاذ من خطر هذه الفتنة .
... وفي حديث زيد بن ثابت - الطويل - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابة أن يستعيذوا بالله من فتنة الدجال فقال : (( تعوذوا بالله من فتنة الدجال )) .
... فليكن هذا ديدنك - أعني كثرة الاستعاذة منه - فإنه لا يعدو أن يكون مخلوقًا ضعيفًا ذليلاً ، والله تعالى هو القوي العزيز القدير ، فلا مخرج من هذه الفتنة إلا بالاعتصام به وصدق اللجئ إليه جل وعلا ، ومن استعاذ بالله أعاذه ، ومن توكل عليه فهو حسبه وناصره ، فنعوذ بالله تعالى من هذه الفتنة ، بل ومن سائر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والله أعلم .
... ثانيها : سكنى المدينة أو مكة ، فإن ساكنها معصوم من هذه الفتنة إن كان ذا إيمان صادق ، فإن الله تعالى حرم على الدجال أن يطأ أرض المدينة ومكة ، ففي حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا حديثًا طويلاً عن الدجال ، فكان فيما يحدثنا به أنه قال : (( يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ... )) الحديث ، متفق عليه .
... وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس من بلدٍ إلى سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين تحرسها فينزل المدينة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات يخرج منها كل كافرٍ ومنافق )) رواه مسلم .(1/64)
... وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه : (( وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة لا يأتيهما من نقب من أنقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة ... )) الحديث ، وسنده صحيح ، والله أعلم .
... ثالثها : تعلم العلم الشرعي ، فإنه أعظم سلاح يدافع به المؤمن هذه الفتنة وغيرها من الفتن ، فإن من عرف علامات الدجال وصفاته بدراسة الأدلة عرف حقيقة أمره ، فلا ينخدع بما يجريه الله على يديه ، فإن العلم يورث البصيرة ، وصاحب البصيرة المستنيرة بالكتاب والسنة لا ينزلق وراء هذه الدعايات الكاذبة والفتن الزائغة ، وإنما الخوف على الجهلة الذين أشغلتهم دنياهم عن آخرتهم وآثروا العاجل على الآجل ، فعصفت بهم الشهوات وغرقوا في مستنقع الشبهات ، نعوذ بالله من حال أهواء النفوس ونزعات الشياطين ومضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والله أعلم .
... رابعها : أن يعتقد المؤمن الاعتقاد الجازم أنه لن يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت ، ولذلك فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر الناس الدجال وقال : (( إنه مكتوب بين عينه كافر يقرؤه من كره عمله أو يقرؤه كل مؤمن )) وقال : (( تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت )) .
... فهذا التنبيه النبوي الكريم الصادق منه كشف واضح وبيان ساطع وبرهان لامع على كذب دعوى الدجال للألوهية ، وأن مصدقه فيه هذه الدعوى إنما أتى من جهله بهذا التنبيه المهم ، فلابد من عقد القلب على ذلك ورسوخ هذه المسألة فيه وأن الدجال وإن جاء بالدنيا بأسرها وبالخوارق كلها ، فإنه كذاب فاجر في دعواه ، والله أعلم .
... خامسها : قراءة فواتح سورة الكهف عند رؤيته ، وذلك لحديث النواس بن سمعان - الطويل - وفيه : (( فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ... )) الحديث ، رواه مسلم .
... وهذا يجعل المسلم يحفظ هذه السورة كاملة ، وإن قصرت به العزيمة فلا أقل أن يحفظ فواتحها فقط .(1/65)
... وروى مسلم أيضًا عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال )) وفي بعض الروايات : (( من خواتيم سورة الكهف )) .
... وأقول : إنه لا يثقل حفظ ذلك المقدار إلا على من حرمه الله هذه العصمة ، فإنها مع يسرها إلا أنها تقيك من شر هذه الفتنة الكبيرة ، فوصيتي لنفسي ولك - أيها الأخ المبارك - أن تحفظها كلها فإنها يسيرة ، فإن عجزت عن حفظها فلا أقل من أن تحفظ عشرًا من فواتحها وعشرًا من خواتمها ، والله أسأل أن يعينك على ذلك ، والله أعلم .
... سادسها : الفرار منه وعدم التعرض إليه ، فإنه عدو ولا يجوز تمني لقاءه ، ولأن معه فتن عظيمة - كما ذكرت لك بعضها - ، والمؤمن لا يجوز له أن يعرض دينه للفتن ، فمن سمع به فليفر منه إلى الجبال والبلاد البعيدة ، وإن كان فراره إلى مكة والمدينة فهو الأكمل ولاشك ، ففي الحديث : (( ليفرن الناس من الدجال في الجبال )) ، ولا يثق العبد بنفسه ، فكم من واثق بها تعرض له ففتنه بما معه من الفتن والخوارق ، نسأل الله تعالى أن يعيذنا من فتنته وجميع المسلمين . فهذه بعض العواصم والوسائل التي يحصل بها النجاة من فتنته ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س333: كيف يكون هلاك هذا الطاغية ؟ وعلى يد مَنْ ؟ مع بيان ذلك بالدليل .
... ج333: أقول : يكون هلاك الدجال على يد نبي الله عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ، وبيان ذلك قد ورد في حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - في الحديث الطويل وفيه : (( فبينما هو كذلك إذ بعث الله عيسى ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعًا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ... )) الحديث ، رواه مسلم .(1/66)
... وله أيضًا من حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وفيه : (( فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ... )) الحديث ، والله أعلم .
* * *
... س334: ما قصة الجساسة ؟ ولماذا سميت بذلك ؟
... ج334: قصة الجساسة قد وردت في صحيح الإمام مسلم - رضي الله عنه - فقد رواها بسنده إلى عامر بن شراحيل الشعبي أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال : حدثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسنديه إلى أحدٍ غيره . فقالت : لئن شئت لأفعلن . فقال لها : أجل حدثيني . فقالت : نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يومئذٍ فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تأيمت خطبني عبدالرحمن بن عوف في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مولاه أسامة بن زيد ، وكنت قد حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أحبني فليحب أسامة ... )) الحديث ، وفيه أنها قالت : فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي ، منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي : الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال : (( ليلزم كل إنسانٍ مصلاه )) ثم قال : (( أتدرون لماذا جمعتكم )) ؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم .(1/67)
قال : (( إني والله ما جمعتكم لرغبةٍ ولا لرهبة ، ولكن جمعتكم لأن تميمًا الداري كان رجلاً نصرانيًا فجاء فبايع وأسلم فحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ، حدثني : أنه ركب سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهرًا في البحر ، ثم أرفؤوا إلى جزيرة من جزائر البحر حتى مغرب الشمس ، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة ، فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك من أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة . قالوا : وما الجساسة ؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق . قال : فلما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة . قال : فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسانٍ رأيناه قط خلقًا وأشده وثاقًا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك من أنت ؟ فقال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا : نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم فلعب بنا الموج شهرًا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه ، فجلسنا في أقربها ، فدخلنا الجزيرة فلقينا دابة أهلب كثير الشعر لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقلنا : ويلك من أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة . قلنا : وما الجساسة ؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعًا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة . فقال: أخبروني عن نخل بيسان . قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له : نعم . قال : إنه يوشك ألا يثمر . قال : أخبروني عن بحيرة طبرية . قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل فيها ماء ؟ قالوا : هي كثيرة الماء . قال : أما إن ماءها يوشك أن يذهب . قال : أخبروني عن عين زغر .(1/68)
قالوا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها . قال : أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟ فقالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب . قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم . قال : كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه . قال لهم : قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم . قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلى هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة استقبلني ملك بيده السيف صلتًا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها )) . قالت - أي راوية الحديث - : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطعن بمخصرته في المنبر - : (( هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة - يعني المدينة - ألا هل كنت حدثتكم ذلك )) ؟ فقال الناس : نعم. فقال : (( إنه قد أعجبني حديث تميم لأنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن ، لا بل من قبل المشرق ما هو ، من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو )) وأومأ بيده إلى المشرق ، قالت : فحفظت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/69)
... فهذا هو خبر الجساسة وشيء من أخبار الدجال ، وقف عند ذلك ولا تشغل نفسك عن معرفة مكانه فإنه من علامات الساعة الكبار والفتن العظام ، والحمد لله الذي أضلنا عن مكانه ، ولا تعرض نفسك للفتنة وكثرة السؤال عن مالا برهان عليه مما يحتاج إلى دليل ، وانظر إلى الصحابة - رضوان الله عليهم - فإنهم قد سمعوا هذا الحديث ولم يتكلفوا سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مكان هذه الجزيرة ، وإنما هذا دأب الفضوليين الذين كثروا في هذا الزمان ، ممن يدخلون أنوفهم فيما لا شأن لهم به ، فقف حيث وقف النص وقل : (( آمنا به كل من عند ربنا )) ، ولا تعمل عقلك في الأمور التي هي خارجة عن حد إدراكه فتهلك ، وعليك ببذل الجهد في تحصيل العلم النافع والعمل الصالح ، ولا تكن كأبي عبية ذي الأفكار والأوهام الغبية ، فإنه قد جعل عقله حاكمًا على الأدلة الشرعية ، وأعمله إعمال الأحمق في الأمور الغيبية ، فجادل في النصوص الواضحات الجلية ، ورد كثيرًا من الأدلة الشرعية ، بلا برهان ولا حجة نقية غير أنها لم تتوافق مع مدركاته العقلية فاطرحها ورفضها وعاب من يصدقها ووصفه بالأوصاف الردية ، ألا فخاب سعيه وشاه مذهبه ، ونعوذ بالله من تقديم العقول على الأدلة الشرعية ، بل النص عندنا هو المقدم وشأنه هو المعظم فهو الميزان وما سواه فموزون ، وهو السابق وما سواه فلاحق ، وهو المتبوع وما سواه فتابع ، وهو الأصل وما سواه ففرع ، فهذا الحديث يجب أن يتلقى بالقبول والإذعان والتسليم وترك الخوض فيما لا طائل من ورائه ولا ثمرة تجنى منه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله أعلم .
... وأما لماذا سميت بذلك : فاعلم أن الجساسة مأخوذة من الجس وهو تحسس الخبر ، فهي تتحسس الأخبار للدجال ، والله أعلم .(1/70)
... فإذا سُئلت : هل الجساسة هي الدابة التي ستخرج في آخر الزمان ؟ فقل : الله أعلم . وإن سُئلت : هل هذه الجزيرة في بحر كذا أو بحر كذا ؟ فقل : الله أعلم . والله يتولانا وإياك ، وهو أعلى وأعلم .
* * *
... س335: ما العلامة الثالثة من العلامات الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة .
... ج335: العلامة الثالثة هي نزول عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ، وقد ثبت نزوله بالكتاب ، والسنة ، والإجماع .
... فأما الكتاب : ففي قوله تعالى : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا } ، وقد ثبت عن ابن عباس بالسند الصحيح أنه فسر هذه الآية بالإيمان به بعد نزوله في آخر الزمان وقبل موته الميتة التي كتبها الله عليه ، ذكر ذلك ابن جرير وابن كثير وغيرهم من أئمة التفسير .
... ومنها قوله تعالى : { وإنه لعلم للساعة } أي أن نزوله من علامات قرب الساعة ، وقد قرئ في قراءة سبعية : { وإنه لعَلَمٌ للساعة } بفتح العين واللام وهي مروية عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أئمة التفسير .
... وأما السنة فكثير جدًا : فمن ذلك : ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد )) ، وزاد في رواية : (( وحتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها )) ، ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - : (( اقرءوا إن شئتم : { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ... } )) .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاس فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد )) .(1/71)
... ومن ذلك : ما رواه مسلم في الصحيح في حديث النواس - الطويل - ، وفيه : (( فبينما هو كذلك - أي الدجال - إذ بعث الله المسيح ابن مريم - عليه السلام - ... )) الحديث .
... ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم )) .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة )) قال: (( فينزل عيسى ابن مريم - عليه السلام - ، فيقول لهم : تعال فصل لنا . فيقول : لا ، إن بعضكم على بعضٍ أمراء تكرمة الله لهذه الأمة )) .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري في ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلامات الساعة ، وذكر منها : (( ونزول عيسى ابن مريم ... )) الحديث .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده ، ليهلنَّ ابن مريم بفج الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليثنينَّهما )) .
... ومن ذلك : ما رواه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه )) وسنده صحيح ، وأوله في صحيح البخاري ، والله أعلم .
... ومن ذلك : حديث أوس بن الصامت - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق )) رواه الطبراني بإسناد صحيح .(1/72)
... وغير ذلك من النصوص ، وقد ذكر كثير من أهل العلم أن الأحاديث في نزوله قد تواترت التواتر المعنوي ، وممن صرح بذلك ابن جرير الطبري في تفسيره ، وابن كثير في تفسيره ، ومن المتأخرين الشيخ صديق خان ، والشيخ الغماري وغيرهم ، فالواجب الإيمان بذلك ولا يجوز تحريف هذه النصوص ، أو دعوى أنها من الآحاد وأمور العقيدة لابد فيها من المتواتر ، فإن هذا مسلك الهالكين من أهل البدع ، والله أعلم .
... وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة - زادها الله شرفًا ورفعة - على نزول المسيح عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - ولم يخالف في ذلك أحد، إلا الفلاسفة والملاحدة ممن لا يعتد بخلافهم ولا وفاقهم ؛ لأنهم نكرات أوباش سفلة سقطة لا يعرفون معقولاً ولا يحترمون ويعظمون منقولاً ، فلا نقل عندهم ولا عقل ، ومن لا عقل ولا نقل عنده فإنه يكون من سقط المتاع الذي لا يؤبه بخلافه ولا بموافقته ، والله أعلم .
* * *
... س336: لماذا سمي عيسى ابن مريم بالمسيح ؟ واذكر لنا شيئًا من صفاته ، ومكان نزوله ووقته ، مؤيدًا جميع ما تذكره بالأدلة .
... ج336: أقول : أما سبب التسمية بذلك ، ففيه أقول :
... فقيل : لأن زكريا - عليه السلام - مسح عليه عندما ولد . وقيل : لأنه يمسح الأرض أي يقطعها . وقيل : لأنه يمسح ذا العاهة فيبرأ . وقيل : إنها مأخوذة من السماحة .
... وقد سماه الله في القرآن بذلك في عدة آيات فقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، وفي قوله تعالى : { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } ، وفي قوله تعالى : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } ، وغير ذلك من الآيات ، وقد وردت السنة أيضًا بهذه التسمية ، فنحن نقول كما قال ربنا وكما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - .(1/73)
... وأما صفاته ، فقد وردت السنة الصحيحة بشيءٍ من صفاته وأنه رجل مربوع القامة ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، جعد الشعر الجعودة المستحسنة ، أحمر اللون ، عريض الصدر ، وأنه مشبه بعروة بن مسعود الثقفي الصحابي الجليل - رضي الله عنه - ، وأن له لمة حسنة قد رجلها تملأ ما بين منكبيه ، ودليل ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليلة أسري بي لقيت موسى - فذكر صفاته - ، ولقيت عيسى فإذا هو ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني ( الحمام ) )) .
... وروى البخاري من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( رأيت عيسى وموسى وإبراهيم ، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر )) .
... وروى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني ... )) الحديث ، وفيه : (( وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي )) .
... وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أراني الليلة في المنام عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم كأحسن ما ترى من آدم الرجال ، له لِمَّةٌ كأنت ما أنت راءٍ من اللمم قد رجلها ، فهي تقطر ماءً ، متكئًا على رجلين يطوف بالبيت ، فسألت : من هذا ؟ فقيل : هذا المسيح ابن مريم )) ، والله أعلم .(1/74)
... وأما مكان نزوله وكيف ذلك ، فقد ثبت وصف ذلك في السنة الصحيحة ، وذلك أنه بعد خروج الدجال وإفساده في الأرض يبعث الله تعالى المسيح - عليه السلام - فينزل إلى الأرض ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام ، وعليه مهرودتان أي أنه قد لبس ثوبين مصبوغين بورسٍ وزعفران ، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي إليه طرفه . وقد ثبت ذلك في حديث النواس بن سمعان عند مسلم ، وقد ذكرناه من قبل ، وهو بنفس هذا اللفظ المذكور في الإجابة إلا قليلاً .
... ويكون نزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق ، وتكون مجتمعة لقتال الدجال ، فينزل وقد أقيمت الصلاة ، فيطلب منه أمير القوم وإمامهم أن يتقدم فيصلي بهم ، فيرفض ، ويصلي خلف أمير تلك الطائفة ، وقد تقدم الحديث في ذلك قبل قليل ، والله أعلم .
* * *
... س337: كم مدة مكثه - عليه السلام - في الأرض ؟ وبماذا يحكم عند نزوله ؟ وهل يصدق عليه أنه صحابي ؟
... ج337: لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مدة بقائه - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعين سنة ثم يموت الميتة التي كتبها الله عليه ، ويصلي عليه المسلمون ، ويدفن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون )) رواه أبو داود وإسناده صحيح .(1/75)
... وأما بماذا يحكم ؟ فاعلم - رحمك الله تعالى - أن عيسى - عليه السلام - من جملة المجددين في هذه الأمة ، فلا يحكم إلا بالشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - لا بشرعٍ جديد ؛ لأن دين الإسلام خاتم الأديان وشريعته آخر الشرائع وباقية إلى قيام الساعة لا تنسخ ، فيكون عيسى - عليه السلام - حاكمًا من حكام هذه الأمة ومجددًا من مجدديها ، إذ لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعيسى - عليه الصلاة والسلام - من جملة أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - عليه الصلاة والسلام - لعمر : (( لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي )) ، فلا يحكم إلا بالإسلام ، ولا يرضى إلا بالإسلام .
... فإن قلت : فإنه قد ثبت في الحديث أنه يضع الجزية ، والجزية من الشريعة ، فكيف يضعها ؟ فأقول : ليس هذا نسخًا ولا شرعًا جديدًا جاء به عيسى - عليه السلام - ، وإنما هو بهذا الوضع يحكم بالشريعة ؛ وذلك لأن وضع الجزية مقيد بزمن عيسى - عليه السلام - بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك إخبار راضٍ به مقررًا له ، وقد أخبرنا أن شريعته في الجزية هي أنها توضع عند نزول عيسى ابن مريم ، ولم ينكر ذلك ولم يأمر المسلمين في زمن نزوله برفض ذلك ، ومن المعلوم أن إقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة على الجواز كما تقرر ذلك في الأصول .
... وخلاصة الأمر : أن عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عند نزوله لا يحكم إلا بالإسلام ، والله أعلم .
... وأما قولك في السؤال : وهل هو صحابي ؟ فأقول : لقد عرف العلماء الصحابي بأنه : من ثبت لقاؤه للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته مؤمنًا به ومات على الإيمان .(1/76)
... وهذه القيود كلها متوفرة في عيسى - عليه السلام - ، فإنه قد لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في ليلة الإسراء والمعراج ، كما ثبت ذلك في الأحاديث في الصحيحين ، وسيأتي الكلام عن ذلك مفصلاً - إن شاء الله تعالى - ، وهو حال لقائه به مؤمنًا به ولاشك في ذلك وسيموت على الإيمان ولاشك ، فصدق عليه تعريف الصحابي ، فهو إذًا من جملة الصحابة ، ولا يرد على ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قد لقي آدم ، وموسى ، وإبراهيم ، وإدريس ، وزكريا ، ويحيى ، ويوسف ؛ لأن هؤلاء قد ماتوا الميتة التي كتبت عليهم ، وأما عيسى فإنه لقيه وهو حي الحياة الدنيوية ؛ لأن الله تعالى رفعه حيًا إلى السماء .
... ولذلك فإن الإمام الذهبي - رفع الله نزله في الفردوس الأعلى - قال في كتابه تجريد أسماء الصحابة : (( عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام -، صحابي ونبي ، فإنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء وسلم عليه ، فهو آخر الصحابة موتًا )) ا.هـ كلامه .
... وجملة القول: أنه - عليه السلام - من الصحابة، وهو آخرهم موتًا، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س338: ما العلامة الرابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة .
... ج338: العلامة الرابعة من علامات الساعة الكبرى هي خروج يأجوج ومأجوج ، وخروجهم على الناس قد ثبت به الكتاب ، والسنة الصحيحة ، والإجماع .(1/77)
... فأما الكتاب : فقوله تعالى : { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلةٍ من هذا بل كنا ظالمين } ، وقال تعالى : { حتى إذا بلغ السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا . قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا . آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قطرًا . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا . قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا . وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعًا } .
... فهذه الآيات تدل دلالة صريحة على أن اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة جدًا ، فالله المستعان .
... وأما السنة ، ففي أحاديث :
... منها : ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعًا ذات يومٍ فقال : (( ويل للعرب من شد قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه )) ، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب بنت جحشٍ : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) .(1/78)
... ومنها : ما جاء في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان - الحديث الطويل - وفيه : (( إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون ، فيمر أولئك على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرةً ماءً ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى والمؤمنون إلى الله تعالى ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفسٍ واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى ، فيرسل الله تعالى طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى )) وفي رواية : (( ثم يسيرون )) أي يأجوج ومأجوج (( حتى ينتهوا إلى جمل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبًا دمًا )) .
... ومنها : ما جاء في حديث حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - في تعديد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشراط الساعة وفيه : (( ويأجوج ومأجوج )) .
... ومنها : حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - الحديث الطويل - : (( ثم يرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون ، لا يمرون بماءٍ إلا شربوه ، ولا بشيء إلا أفسدوه يجأرون إلى الله تعالى فيميتهم فتجوى الأرض منهم ومن ريحهم ، فيجأرون إلي - أي إلى عيسى عليه السلام - فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيقذف بأجسامهم إلى البر )) رواه أحمد والحاكم وسنده جيد .(1/79)
... ومنها : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه : (( ويخرجون على الناس - أي يأجوج ومأجوج - فيستقون الماء ويفر الناس منهم ، فيرمون سهامهم فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض وغلبنا أهل السماء قوةً وعلوًا )) قال : (( فيبعث الله عز وجل عليهم نغفًا في أقفائهم فيهلكهم، والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرًا وتسكر سكرًا من لحومهم )) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي ، وقال الحافظ : رجاله رجال الصحيح إلا أن قتادة مدلس . اهـ ، وصححه الألباني - رحم الله الجميع رحمة واسعة - .
... ومنها : ما في الصحيح : (( يقول الله تعالى : ( يا آدم ) . فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار ... )) الحديث ، وفيه : (( إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم رجل واحد )) .
... وأما الإجماع : فقد أجمع أهل السنة - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - على إثبات ذلك ولم يخالف فيه إلا أهل الأهواء والبدع ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س339: ما أصل يأجوج ومأجوج ؟ ومن الذي بنى السد بينهم وبين الناس ؟ وأين هو الآن ؟ واذكر شيئًا من صفاتهم ؟
... ج339: أصل يأجوج ومأجوج من البشر من ذرية آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - ، وهذا قول أهل السنة ، وأما قول من قال إنهم من ذرية آدم فقط لا من حواء وأن آدم احتلم فاختلط منيه بالتراب فخلق منه يأجوج ومأجوج فهو قول ساقط لا دليل عليه ، ولم يرد عمن يجب قبول قوله ، وهو مخالف للحديث الصحيح : (( إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار )) ثم قال : (( إن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم رجل واحد )) رواه البخاري عن أبي سعيد - رضي الله عنه - .(1/80)
... ويدل على ذلك أيضًا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم وأنهم لو أرسلوا على الناس لأفسدوا عليهم معايشهم ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا )) وسنده جيد .
... قال ابن حجر: (( ولم نر هذا - أي القول الآخر - عند أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع: (( إنهم من ذرية نوح )) ونوح من ذرية حواء قطعًا )) ا.هـ .
... وذكر ابن كثير : (( أن يأجوج ومأجوج من ولد يافث أبي الترك ، ويافث من ولد نوح - عليه السلام - )) ا.هـ .
... فهذا يبين أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم وحواء - عليهما السلام - ولا اعتداد بقولٍ يخالف هذا القول .
... وأما الذي بنى السد بينهم وبين الناس فهو ذو القرنين الرجل الصالح والمجاهد العظيم ، وذلك ثابت بالقرآن كما في قوله تعالى : { حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولاً . قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا ... } الآيات بعدها .
... وأما مكانه بالتحديد فإنه لا يعرف ولا مطمع في معرفته ولم نكلف التعرف عليه ، بل نحن مأمورون بالابتعاد عنه ؛ لأن وراءه فتنة عظيمة ولا ينبغي تعريض النفس للفتن ، ولأن يأجوج ومأجوج أمتان مفسدتان عدوتان لنا ، والطمع في التعرف على مكانهم بالتحديد هو من باب تمني لقاء العدو ، وقد نهينا عن ذلك ، ويكفي من ذلك أن نؤمن بخروجهم ووجودهم ، والله أعلم بما وراء ذلك .(1/81)
... ودعك من الأخبار التي لم تبن على يقين وعلم وبرهان ، فإن بعض الأولين قد رام التعرف على مكان السد وبعث بعثًا وأنهم وجدوه ، ولكن لا يعرف لهذه القصة سند يثبت ، والأمر غيب ، ولو كان العلم بعين مكان السد مما ينفع العبد في دينه لبيَّنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولله در زينب بنت جحش التي سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لقد فتح من ردم يأجوج ومأجوج قدر هذه ... )) الحديث ، ولم تقل أين هو ولا بين لنا مكانه ، وإنما سألت عن المهم في الدين : (( أنهلك وفينا الصالحون )) .
... وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث الصحابة بأحاديث يأجوج ومأجوج ولم يتكلفوا أن يسألوا عن مكانه ؛ لأنهم علموا أنه مما لا ينفعه في دينهم ، ومن المتقرر أنه لابد من فهم الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، فمن سمعته يتكلف السؤال عن مكانهم ويتعب نفسه في جمع الأخبار في ذلك ، فقل له : ( هلك المتنطعون ) .
... والخلاصة : أن مكان السد تحديدًا مما لا يعرف ومما لم نكلف بمعرفته ، فالحمد لله رب العالمين .
... وأما صفاتهم : فهم في الجملة يشبهون أبناء جنسهم من الترك الغتم المغول ، ذلف الأنوف ، صهب الشعور ، عراض الوجوه ، كأن وجوههم المجان المطرقة ، على أشكال الترك وألوانهم ، وأنهم أقوياء .
... فقد روى الإمام أحمد عن ابن حرملة عن خالته قالت : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب ، فقال : (( إنكم تقولون : لا عدو ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يأتي يأجوج ومأجوج ، عراض الوجوه ، صغر العيون ، شهب الشعاف ، من كل حدبٍ ينسلون ، كأن وجوههم المجان المطرقة )) وسنده جيد .(1/82)
... وأما وصفهم بالقصر المفرط أو الطول المفرط ، والآذان الطويلة ، بحيث يفترش أحدهما ويلتحف الأخرى ، فلا والله لا سند لهذه الصفات يصح الاعتماد عليه ، وإنما هي مذكورة في آثار وأخبار لا سند لها أو لا يثبت أهل الحديث مثله ، فكل ذلك ضعيف لا يعتمد عليه .
... وأما قوتهم فهي ثابتة ، وذلك كما في حديث النواس عند مسلم وفيه : (( وإنه لا يدان لأحدٍ بقتالهم )) .
... فهذا ما يتعلق بهم ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س340: ما العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع الدليل .
... ج340: العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى ، هو الخسوف الثلاثة : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب .
... كما ورد ذلك في حديث حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لن تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات ... )) فذكر منها : (( وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب )) . قلت : يا رسول الله ، أيخسف بالأرض وفيها الصالحون ؟ قال له : (( إذا أكثر أهلها الخبث )) رواه الطبراني وسنده جيد .
... وهذه الخسوفات لم تقع بعد - ولله الحمد والمنة - ، بل هي كغيرها من الأشراط التي لم يظهر شيء منها ، وما ذكره بعض أهل العلم من وقوع بعض الخسوفات في أماكن وأزمنة متفرقة ، فإنما هو من الأشراط الصغرى ، أما هذه الخسوفات الثلاثة فإنها لم تقع بعد ، لأنها ستكون عظيمة ، فنسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء من ذلك ، نسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء من ذلك ، نسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء من ذلك ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س341: ما العلامة السادسة من علامات الساعة الكبرى ؟ موضحًا لها بالأدلة ؟
... ج341: العلامة السادسة من علامات الساعة الكبرى ، ظهور الدخان في آخر الزمان .
... وقد ثبت ذلك بالقرآن والسنة والإجماع .(1/83)
... فأما الكتاب : ففي قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس هذا عذاب أليم } .
... وقد اختلف أهل العلم في هذا الدخان المذكور في الآية على قولين : الأقرب منها قول ابن عباس - رضي الله عنهما - ومن تبعه من السلف من أنه لم يظهر بعد ، وأنه علامة من العلامات الكبرى للساعة ، فهو - أي الدخان - من الآيات المنتظرة التي نسأل الله تعالى أن نموت قبل ظهور شيء منها .
... وأما السنة : ففي حديث حذيفة بن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - عند مسلم قال : اطلع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : (( إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات )) فذكر منها : (( الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم ... )) الحديث .
... وقد أجمعت الأمة على أن الدخان من علامات الساعة ، ولكنهم اختلفوا هل هو من علاماتها الصغرى التي ظهرت وانقضت ، أو هو من العلامات الكبار التي لازالت تنتظر كغيرها من العلامات ؟ والصحيح : أنه من العلامات الكبار التي لازالت تنتظر ، وأما ما ورد في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه ما رأته قريش من شدة ما أصابها من الجوع والعطش ، فإن هذا نوع منه ولكنه ليس هو حقيقة ، فإن ما يراه شديد الجوع من الغتمة في الأفق إنما هو شيء يتوهمه بسبب شدة الجوع ، والدخان الذي أخبر به النص دخان حقيقي ، بل هو موصوف بأنه دخان مبين وأنه يغشى الناس ، وليست قريشًا وحدها ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن صياد : (( إني خبأت لك خبأً )) فقال : هو الدخ . فقال : (( اخسأ فلن تعدو قدرك )) .
... وهذه القصة في المدينة ، وهذا يدل على أنه مما ينتظر لا أنه مما مضى وانقضى ، والله ربنا أعلى وأعلم .
* * *
... س342: ما العلامة السابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع توضيحها بالأدلة .
... ج342: العلامة السابعة ، هي طلوع الشمس من مغربها - والعياذ بالله أن ندرك ذلك الزمن - .(1/84)
... وقد ثبت ذلك بالقرآن ، والسنة ، والإجماع .
... فأما القرآن : ففي قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا } ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة أن المراد ببعض الآيات المذكورة هو طلوع الشمس من مغربها وهو قول كثير من المفسرين .
... وروى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) .
... وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان ... )) فذكر الحديث وفيه : (( وحتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) .
... وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بادروا بالأعمال ستًا : طلوع الشمس من مغربها ... )) الحديث .
... ولمسلم أيضًا من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري في ذكر أشراط الساعة ، فذكر منها : (( وطلوع الشمس من مغربها )) .
... ولمسلم أيضًا من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها ، وطلوع دابة الأرض من موضعها ، وأيتهما كانت قبل الأخرى فالأخرى على أثرها قريبًا )) .(1/85)
... ولمسلم أيضًا من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يومًا : (( أتدرون أين تذهب الشمس )) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ، ارجعي من حيث جئت ، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ، ولا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة مطلعها ، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها : ارتفعي ، أصبحي طالعة من مغربك ، فتصبح طالعة من مغربها )) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أتدرون متى ذاكم ؟ ذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا )) ورواه البخاري أيضًا لكنه مختصر .
... وقد أجمعت الأمة على إثبات هذه العلامة ، فلا عبرة بمن تأثر بالعقلانيين الذين يقدمون العقل على النقل ويعرضون النصوص على عقولهم العفنة ، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه واتهموه ، فلا بارك الله فيهم ولا كثرهم الله ، ونعوذ بالله منهم ومن حالهم .
... فهذا هو شأن العلامة السابعة مقرونة بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع ، آمنا بذلك كله فإنه كل من عند ربنا ، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، والله أعلم .
* * *
... س343: ما العلامة الثامنة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها .
... ج343: العلامة الثامنة ، هي طلوع دابة الأرض من موضعها ، وذلك يكون في آخر الزمان .
... وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع .
... فأما الكتاب : فقوله تعالى : { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } .(1/86)
... وأما السنة : فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض )) .
... ولمسلم أيضًا عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما كانت قبل الأخرى فالأخرى على أثرها قريبًا )) .
... وله في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري في تعديد أشراط الساعة وذكر منها : (( والدابة )) وفي رواية : (( ودابة الأرض )) .
... ولأحمد في المسند من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - يرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( تخرج الدابة ، فتسم الناس على خراطيمهم ثم يغمرون - أي يكثرون - فيكم حتى يشتري الرجل البعير فيقول : ممن اشتريته ؟ فيقول : من أحد المخطمين )) وسنده صحيح .
... وروى مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بادروا بالأعمال ستًا ... )) وذكر منها : (( دابة الأرض )) .
... وقد أجمع أهل السنة قاطبة على إثبات خروج هذه الدابة ولم يخالف في ذلك أحد ، وإنما الخلاف حصل في بعض التفاصيل فقط ، وإلا فأصل خروج الدابة متفق عليه بين أهل السنة ، والله أعلم .
* * *
... س344: ما الذي يجب على المؤمن في أمر هذه الدابة ؟ وما الذي ينبغي له الحذر منه ؟(1/87)
... ج344: يجب على المؤمن في أمر هذه الدابة أن يؤمن إيمانًا جازمًا ويصدق تصديقًا يقينيًا بأن الله تعالى في آخر الزمان قرب قيام الساعة إذا وقع القول على الناس سيخرج عليهم من الأرض دابة - الله أعلم بحقيقة أمرها - وأنها تكلم الناس كلامًا يفهمونه ، وتسم المؤمن والكافر ، وأنها بلاشك تخالف معهود البشر من الدواب خلقة وعملاً ، وأنها من علامات الساعة الكبرى ، وأنه بعد خروجها يقفل باب التوبة فلا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا .
... والذي ينبغي للمؤمن الحذر منه هو الخوض فيما لا علم له به ولا برهان يعضده وأن يعلم أن الأمر غيب وأمور الغيب لا مدخل للعقول فيها ، فإنها خارجة عن مدركات العقول وطاقاته ، وليحذر العاقل من فتح الباب على نفسه بالترهات الباطلة والآثار التافهة التي لا خطام لها ولا زمام ، فإن بعض الأغبياء انساق وراء أفكاره التافهة حتى زعم أن الدابة هي هذه الحشرات التي في الجو وفي بدن الإنسان التي تفتك به وهو لا يشعر ، وهذا زعم باطل ورأي عاطل عن البرهان ، بل هو مخالف للنصوص ولما أجمع عليه أهل السنة ، ولا نقول إلا أن هذه الآراء الباطلة والمذاهب العاطلة هي في حقيقتها الجراثيم التي توجب لصاحبها تعطيل النصوص وتحريفها والتشكيك في صحتها وصراحتها ، وحق أصحابها أن يرش في وجوههم مبيد الحشرات حتى يتخلصوا من جراثيمهم التي عشعشت في عقولهم ونسجت خيوطها في أفهامهم ، نعوذ بالله من حال من قدم عقله على نص الشريعة ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س345: ما العلامة التاسعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها .
... ج345: العلامة التاسعة من العلامات الكبرى ، النار التي تخرج من اليمن من قعرة عدن ، من بحر حضرموت .(1/88)
... ودليلها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري الذي تقدم مرارًا وفيه : (( وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم )) رواه مسلم، وفي رواية : (( تخرج من قعر عدن )) ، وفي رواية : (( وآخر ذلك نار تخرج من اليمن من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر )) .
... وروى الإمام البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ... )) الحديث .
... وروى الإمام أحمد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس )) وسنده صحيح .
... وقد انعقد الإجماع على هذه العلامة العظيمة وأنها من العلامات الكبار التي هي آخر الأشراط باعتبار بقية العلامات السابقة ، والله أعلم .
* * *
... س346: كيف يكون حشر هذه النار للناس ؟ مع بيان ذلك بالدليل .
... ج346: أقول : إذا ظهرت هذه العلامة العظيمة من اليمن فإنها تنتشر في الأرض وتسوق الناس إلى أرض المحشر ، ويكون حشرها للناس على ثلاثة أشكال :
... الأول : أناس يحشرون راغبين طامعين كاسين راكبين .
... الثاني : أناس يمشون تارة ويركبون تارة ويعتقبون البعير الواحد .
... الثالث : أناس تحشرهم فتحيط بهم وتسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر ومن تخلف منهم فإنها تأكله .
... والدليل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يحشر الناس على ثلاث طرائق : راغبين راهبين ، واثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا ، وتبيت معهم حيث باتوا ، وتصبح معهم حيث أصبحوا ، وتمسي معهم حيث أمسوا )) متفق عليه .(1/89)
... وقد اختلف أهل العلم - رحمهم الله تعالى - في وقت هذا الحشر على هذه الصفة ، والصواب الذي لا مرية فيه أنه آخر الزمان قبل يوم القيامة لا بعده ، واختار هذا القول الإمام الخطابي ، والقاضي عياض ، والقرطبي ، وابن كثير ، وابن حجر ، وغيرهم ، وهو الذي يقتضيه الدليل السابق ، والله أعلم .
* * *
... س347: ما الأرض التي يحشر إليها الناس ؟ مع ذكر الدليل .
... ج347: الأرض التي يحشر إليها الناس هي أرض الشام ، ودليل ذلك حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إنكم محشورون رجالاً وركبانًا وتجرون على وجوهكم ههنا )) وأومأ بيده نحو الشام . رواه أحمد والترمذي وسنده حسن .
... وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( الشام أرض المحشر والمنشر )) صححه الإمام الألباني - رحمه الله تعالى - .
... وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : (( ليأتين على الناس زمان لا يبقى على الأرض مؤمن إلا لحق بالشام )) رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، والله أعلم .
* * *
... س348: من آخر من تحشرهم النار ؟ مع ذكر الدليل .
... ج348: آخر من تحشرهم النار راعيان من مزينة ، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلى العوافي - أي عوافي السباع والطير - فآخر من يحشر راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها ملئت وحوشًا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما )) وفي رواية أخرى : (( ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي )) والله أعلى وأعلم .
* * *
... س349: اذكر لنا بعض الوصايا التي منها ننطلق في تعلم هذه الأشراط .
... ج349: أوصي نفسي وإخواني عند قراءة هذه الأشراط الحرص على عدة أمور :(1/90)
... الأول : أن يكون قائدنا في إثبات شيء من هذه الأشراط إنما هو الدليل الصحيح الصريح فقط ، فلا يجوز التعويل في هذا الباب على الأحاديث الضعيفة والموضوعة والآثار الباطلة العاطلة فضلاً عن الآراء المجردة عن البرهان ، فإن هذه الأشراط وارتباطها بالساعة من الغيب والغيب مبناه على التوقيف ، فما أثبته الدليل الصحيح الصريح ، فالواجب إثباته ، وما نفاه الدليل الصحيح الصريح فالواجب نفيه ، وما لم يثبته ولم ينفيه فلا حق لأحد في إثباته ولا نفيه ، وإنما يسعنا أن نقول : الله أعلم .
... وهذا من أهم الأمور لمن أراد الدخول في هذا الباب ، وقد سلكت - ولله الحمد والمنة - في سرد هذه الأشراط على ما ثبت به النص من الكتاب والسنة ، وهذا من فضل الله تعالى ، فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا .
... الثاني : أن تعلم علم اليقين أن هذه الأشراط - أعني الأشراط الكبرى على وجه الخصوص - من العجائب العظام والغرائب الكبار التي تحار فيها العقول وتطيش فيها الألباب ، فلا سبيل للعبد إلا أن يصدق بها التصديق الجازم ، من غير إقحام لعقله الضعيف في درك شيء من ذلك ، وإنما لا يسعه إلا أن يقول : { آمنا به كل من عند ربنا } ، ونقول في حق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } .(1/91)
... واحذر كل الحذر من أن تجعل ميزان القبول والرد لمثل هذه النصوص هو موافقة العقل ومناظرته ، فإن هذا مسلك الهالكين من أهل البدع الذين يسمون أنفسهم - زورًا وبهتانًا - بالعقلانيين ، وهم والله المخرفون المتهوكون السفلة السقطة ، فالعقل المجرد عن هدي الكتاب والسنة لا ينفع صاحبه ، بل قد يكون سببًا لضلاله ، ومن المعلوم المتقرر أن النصوص الصحيحة لا تأتي بمحالات العقول وإنما قد تأتي أحيانًا بمحارات العقول ، فالوصية لنفسي ولمن شاء الله تعالى من إخواني أن يقفوا حيث وقف النص ويكلوا أمر الغيب إلى الله تعالى ، وأن يعتقدوا الاعتقاد الجازم أن ما أخفاه الله تعالى أوسع مما يتصوره لعبد ، فهو القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ، والله أعلم .(1/92)
... الثالث : من المتقرر عند عامة أهل العلم أن الوقت له أهمية قصوى ومنزلة عظمى ، والأدلة في ذلك كثيرة جدًا والذي نوصي به أنفسنا وإخواننا المسلمين عمومًا وطلبة العلم على وجه الخصوص أن لا يشغلوا أنفسهم في تفاصيل هذه الأشراط مما لم يرد به النص ، كإشغال النفس بالبحث عن جنس الدابة ، وما أصلها ؟ ومن أي الدواب هي ؟ وأين مكان السد ؟ وأين ستكون هذه الخسوف بالتحديد ؟ والشمس في غروب دائم باختلاف قرب البلاد وبعدها ؟ فيلزم من ذلك أن تكون في سجود دائم ، وكيف سيشرب يأجوج ومأجوج البحر وهو مالح شديد الملوحة منافر للطبع لا تطيقه النفس غير سائغ شرابه ؟ وهل يمكن لو اجتمع الناس جميعًا أن يشربوا البحر ؟ وكيف نتحقق وجود يأجوج ومأجوج وقد امتلأت الأرض وعمرت بالناس وعرفت أجزاءها بالبحث والتنقيب ؟ فلم نر سدًا ولا خلقًا بهذه الصفات ونحو هذه الأسئلة التي مؤداها التكذيب بصحيح الأخبار والتشكيك في ثبوتها وهي عند الأمة أثبت من شمس النهار والوقوع فيها تحريفًا وتعطيلاً واستهزاءً وسخرية ، وهذا موجب للتقحم في حفر الزندقة والإلحاد والثلوث بدرن النفاق والكفر الذي هو كفر العناد والإباء والاستكبار ، فضلاً عن القدح في ناقليها من خيار الأمة ، وكل ذلك سببه إشغال النفوس بما لم تكلف به ، وإدخالها فيما لا طائل من ورائه ولا ثمرة تجنى من البحث فيه .
... وإذا رأيت من يتكلف ذلك وجدته مقصرًا التقصير الكبير في جوانب الاستعداد ليوم المعاد ، فلو أنه أشغل نفسه فيما يعود عليه نفعه في العاجل والآجل لكان خيرًا له ، لكنه تسويل الشيطان وغروره وإملاؤه على النفوس بالباطل ، ومن المعلوم أن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علمًا .(1/93)
... فالوصية لي ولمن شاء الله من إخواني أن يدعوا كثرة الخوض بالأسئلة التي لا طائل من ورائها ولا دليل على جوابها وأن يعمروا أوقاتهم بتحصيل العلم النافع ، مقرونًا بالعمل الصالح ، متوجًا بالدعوة إليه ، متممًا بالصبر على الأذى فيه ، حتى يخرجوا من الخسر الذي أقسم الله عليه في سورة العصر ، والله أعلى وأعلم .
... الرابع : أوصيك إذا نظرت في الأدلة أن تنظر نظر المستفيد الطالب للحق والهدى والبيان ، فإن من نظر بهذا القصد فإنه يوفق بفضل الله تعالى ولا تنظر فيها نظر المجادل المناقش المتغطرس المتكبر عن الحق والهدى - أعاذك الله من هذا النظر الذي ضل صاحبه وخاب سعيه - وتذكر دائمًا قوله تعالى في القرآن : { وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين } فلا يزداد صاحب ذلك النظر إلى سفالاً وضلالاً ؛ لأنه لم يرم الهدى من هذه الأدلة ، فإن أشكل عليك فيها شيء فاعلم أن القصور في علمك وفهمك وبحثك ، لا في الأدلة حاشا وكلا ، بل القصور فينا نحن ، فنحن الذين قصرنا في علمنا وعملنا ، واستعذ بالله تعالى استعاذة الصادق من شهوات النفوس وخلجات الهوى ، واستعن بالله ولا تعجز ، وأدم النظر والمطالعة ، وأكثر السؤال عمَّا أشكل عليك ولا تعتد بنفسك ، واستنر بآراء من سبقك في ميدان العلم ، فإنهم أصحاب التجارب ، فرحمهم الله تعالى ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى وعاملهم بعفوه ، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س350: ما عقيدة أهل السنة في قضية الإسراء والمعراج ؟ مع ذكر الدليل على ذلك .(1/94)
... ج350: يعتقد أهل السنة - رحمهم الله تعالى - الاعتقاد الجازم ويؤمنون الإيمان اليقيني التام الذي لا يخالطه مطلق الريب أن الله تعالى قد أسرى بعبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء حتى بلغ السماء السابعة في ليلة واحدة ، وأن ذلك كان بروحه وجسده ، وكان يقظة لا منامًا - والله على كل شيء قدير - قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } ، وأن ذلك كان مرة واحدة ، ولا عبرة بغير ذلك وأن ذلك كان بمكة ، وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس عن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان - وذكر بين الرجلين - فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإيمانًا فشق من النحر إلى مراق البطن ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانًا ، وأتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار - البراق - ، فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : من معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجئ جاء ، فأتيت على آدم فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من ابن ونبي ، فأتينا السماء الثانية ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . وقيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء الثالثة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم .(1/95)
فقيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على يوسف فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء الرابعة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم لمجيء جاء، فأتيت على إدريس فسلمت عليه فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء الخامسة ، قيل: من هذا ؟ قال: جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - . قيل : أرسل إليه ؟ قال: نعم . قيل: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتينا على هارون فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فأتينا السماء السادسة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك . قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - . قيل : أرسل إليه ؟ قال نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على موسى فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من أخ ونبي ، فلما جاوزت بكى ، فقيل : ما أبكاك ؟ قال : يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي ، فأتينا السماء السابعة ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - . قيل : أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبًا به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على إبراهيم فسلمت عليه ، فقال : مرحبًا بك من ابن ونبي ، فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل ، فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم ، ورفعت سدرة المنتهى ، فإذا نبقها كأنه قلال هجر وورقها كأنه آذان الفيول ، في أصلها أربعة أنهار : نهران باطنان ، ونهران ظاهران ، أما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم فرضت عليَّ خمسون صلاة ، فأقبلت حتى جئت موسى فقال : ما صنعت ؟ قلت : فرضت عليَّ خمسون صلاة .(1/96)
قال : أنا أعلم بالناس منك ، قد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، وإن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فسله ، فرجعت فسألته فجعلها أربعين ، ثم مثله ، ثم ثلاثين ، ثم مثله ، فجعل عشرين ، ثم مثله ، فجعل عشرًا ، فأتيت موسى فقال مثله ، فجعلها خمسًا ، فأتيت موسى فقال : ما صنعت ؟ قلت : جعلها خمسًا ، فقال مثله ، قلت : سلمت بخير ، فنودي إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي الحسنة عشرًا )) .
... واعلم أنه وقع بعض الأغلاط في بعض ألفاظ حديث الإسراء ، كقول شريك : (( ثم استيقظت )) وهذا من جملة أغلاطه التي عدها أهل العلم ، وقد قيل : إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة . فهذا خلاصة عقيدتنا في الإسراء والمعراج ، والله أعلم .
* * *
... س351: ما عقيدة أهل السنة في كرامات الأولياء ؟
... ج351: تتلخص عقيدة أهل السنة - رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم - في مسألة كرامات الأولياء في عدة نقاط :
... الأولى : الإيمان بها وإثباتها على وجه العموم ، أي يؤمنون إيمانًا جازمًا ويصدقون تصديقًا يقينيًا أن الله تعالى يجري بعض أنواع الخوارق على يد من شاء من أوليائه وأن هذه الكرامة قد تكون في مكاشفةٍ أو أمرٍ خارق للعادة ليس بمقدورٍ لهذا الولي وإنما الله تعالى هو الذي أجراها على يده ، وذلك لإظهار فضله وشرفه ولتثبيته ، فكم من كرامة صارت سببًا لثبات من ظهرت على يديه ، والله أعلم .(1/97)
... الثانية : أن الكرامة المعتبرة والتي تعد كرامة لا تجري إلا على يد أولياء الله تعالى الذين اتصفوا بصفات الولي ، وهي المذكورة في قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون } ، فالولي هو من اتصف بالإيمان والتقوى ، وتختلف مراتب الولاية كمالاً ونقصًا باختلاف تكميل مراتب الإيمان والتقوى ، فكلما ازداد العبد إيمانًا وتقوى كلما ازداد ولاية لله تعالى ، وهذا شرط في اعتبار الكرامة ، فلابد من عرض مدعيها على الكتاب والسنة ، وبناءً عليه فيما يجري على يد أولياء الشيطان من الخوارق والمكاشفات لا تعد من باب الكرامات ، بل هي أحوال شيطانية وتلبيسات إبليسية يقصد منها إحقاق الباطل وإبطال الحق ، وذلك كما يظهر عند السحرة والكهان والمشعوذين ومخاريق الصوفية والدراويش أصحاب الطرق المخالفة للكتاب والسنة ، فإن هؤلاء وإن مشوا على الماء ، أو طاروا في الهواء ، أو دخلوا النار وخرجوا منها ، أو أدخلوها في أجوافهم ، أو أخبروا ببعض الأمور الغائبة ونحو ذلك ، فكل ذلك من أحوال الشياطين ، وخوارق الكهان والسحرة ، وكله دجل وتلبيس من إبليس ومخادعة وتخييل وكذب وفجور ، بل ويصل في أحوالٍ كثيرة إلى الكفر والشرك ؛ لأن الشياطين لا تعين أحدًا لمحبته وسواد عينيه ، وإنما لما يتقرب إليها بذبح توحيده بفعل ما يطلبونه منه من أمور الشرك ، فالكرامة لا تكون إلا لأولياء الله تعالى ، وهم المؤمنون المتقون، وأما المخالفون للشريعة المتنكبون عن الصراط المستقيم الأفاكون الفاجرون فإن ما يظهر على أيديهم إنما هو من إعانة الشيطان لهم ، فانتبه لهذا ، فإن هذا هو الفرقان بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهان .(1/98)
... الثالثة : منهج أهل السنة طلب الاستقامة لا طلب الكرامة ، فالمؤمن إنما يعبد الله تعالى ويستقيم على شرعه بفعل أوامره واجتناب زواجره وتصديق أخباره طلبًا لرضاه والفوز بالجنة ، لا أنه يفعل ذلك طلبًا للكرامة ، فإن هذا شرك في القصد ؛ لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له جل وعلا ؛ لأنه أغنى الشركاء عن الشرك ، ولذلك قال بعض السلف : (( كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة )) .
... ولذلك فالموفقون هم الذين يطلبون الاستقامة والهداية لذات الاستقامة والهداية ، ولنيل رضى الله تعالى والفوز بعالي الدرجات ، فهم يتنافسون فيها تنافسًا سواءً ظهرت لهم كرامة أو لم تظهر .
... وبناءً عليه فالذين يفنون أنفسهم في طلب الكرامة ليسوا على شيء ، وقد خالفوا منهج أهل السنة بذلك ، فترى الواحد منهم يهيم في القفار ، أو يعاشر الوحوش ، أو يحبس نفسه مع الحيات والثعابين ، أو يَدْخُل النار ، أو يُدْخِلُ النار في جوفه ونحو ذلك من خرافاتهم وهذيانهم ، وكل ذلك طلبًا للكرامة ، وهذا منكر في الشرع وخبل في العقل وتعريض للنفس للهلاك بلا مصلحة شرعية ، ولا قصد ممدوح ، فاحذر من ذلك وحذر منه ، ولا نقول إلا كما قال السلف : كن طالبًا للاستقامة ، موافقًا للحق ، مهتديًا بهدي الكتاب والسنة ، متبعًا لا مبتدعًا ، مقتديًا لا مبتديًا ، ودع عنك السبل المعوجة والمذاهب المعتلة والآراء المختلة ، فإنه ما سلم في دينه إلا من أخلص وتابع ، ولا تكن طالبًا للكرامة ، وليكن همك رضى الله جل وعلا . أسأله جل وعلا أن يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا ، والله أعلم .(1/99)
... الرابعة : يعتقد أهل السنة أن الكرامة لا تستلزم أن يكون من ظهرت على يديه أنه أفضل من غيره في الإيمان والتقوى ؛ لأن من أسبابها تثبيت الولي ، ولذلك فإن كرامات عمر بن الخطاب أكثر من كرامات أبي بكر - رضي الله عنه - ، وإيمان أبي بكر أكمل ولاشك ، بل وقد ظهرت كرامات كثيرة على يد بعض التابعين وتابعيهم لم تظهر على يد الصحابة ، ولا مقارنة بين إيمان الصحابة وإيمان من بعدهم ، فلا تلازم بين الكرامة وكمال الإيمان ، بل قد تظهر الكرامة على يد من عنده تقصير في تكميل مراتب الإيمان ، ولا تظهر على يد من كمل إيمانه وتقواه ، وهذا يوجب أن لا نجعل الكرامة سببًا لتفضيل من ظهرت على يديه على من لم تظهر له هذه الكرامة ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض الطوائف والأفراد يفني حياته في طلب الكرامة ، وذلك طلبًا لأنْ يكون أفضل من غيره ، فَضَلَّ في سعيه وخاب في قصده ، فانتبه لهذا الأمر فإنه مهم جدًا لكثرة من خالف فيه .(1/100)
... الخامسة : يعتقد أهل السنة أن الموفق عند حصول الكرامة له إنما هو من عاملها بإكثار الشكر والحمد وازداد بها تواضعًا للخلق وازداد ثباتًا واستقامة على الحق واستعملها فيما يقربه إلى الله تعالى وفيما ينفع عباد الله ، وجعلها وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، واستعان بها على طاعة الله جل وعلا، فهذا هو الموفق. وبناءً عليه فمن استعان بها على حرامٍ أو كانت سببًا لاستكباره واتكاله عليها وترك العمل الصالح ، فإن هذه الكرامة لم تزده في الحقيقة إلا ندامة وخيبة وخسارة ، وكان عدمها له أنفع ، واستمع إلى قول الله جل وعلا : { واتل عليهم نبأ الذين آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } ، وبه تعلم أن ظهور الكرامة على يدي الولي نوع ابتلاءٍ له ، فليتق العبد ربه وليكثر من حمده وشكره وليترق في مراتب الاستقامة ، ولا تكون هذه الكرامة سببًا لتكبره وغروره ورفضه للحق وتعاليه على الخلق ، والله المستعان .(1/101)
... السادسة : قال أهل السنة : بما أن الكرامة قد تشتبه على بعض الناس مع خوارق الكهان والسحرة ، فإنه لابد من عرض الأمر على أهل العلم الثقات الأثبات الذين يعرفون الفرقان بين كرامات الأولياء ومخاريق الفجرة ، فلا ينبغي اعتمادها وعدها كرامة إلا بعد أن يقول أهل العلم كلمتهم فيها ، ولاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه المدعون للصلاح ، فالعامي قد يغتر ببعض هذه الظواهر ، فلابد من عرض الأمر على أهل العلم ليصدر عن رأيهم ، فهم أهل الاستنباط والفهم المبني على الكتاب والسنة ، وقد فضح أبو العباس - رحمه الله تعالى - كثيرًا من هذه الدعاوى الكاذبة وبَيَّنَ زيفها وأنها من الشيطان ، فلا ينبغي أن يصدر العبد في هذه المسائل من رأي نفسه ، بل لابد من رد الأمر إلى العلماء الراسخين ، قال تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ، ولأنه قد يدعي الكرامة من هو كاذب في دعواه ، فيقول : إني رأيت كذا وكذا ، وكوشفت بكذا وكذا ، وحصل لي كذا وكذا ، وهو كاذب في ذلك ، فإذا أخذ الأمر بمعزل عن العلماء فناهيك عن الفساد والضلال الذي سيحصل ، لكن إذا كان الأمر وقفًا على أهل العلم فلنبشر جميعًا بالهداية والصلاح والتوفيق ، والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
... السابعة : أن الكرامات التي تخرج على أيدي الأولياء هي دليل على صدق نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الكرامة تختلف باختلاف متابعته ، فإذا أكرم الله من آمن به واتبع سبيله واقتفى أثره فهذا دليل على أنه رسول من عند الله وأنه صادق كل الصدق في قوله : (( إني رسول الله )) ، إذ لو كانت دعواه للنبوة كذبًا لا يرضاه الله لما أكرم الله أتباعه بمثل هذه الكرامات ، والله أعلم .(1/102)
... فهذا خلاصة مذهب أهل السنة في هذه المسألة المهمة التي حصل بسبب الجهل بها ضلال كثير وبلاء مستطير ، فأسأله جل وعلا أن يحفظك من نزغات الشيطان ويعصمك من زلل اللسان والبنان ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س352: هَلاَّ ذكرت لنا بعض الكرامات التي ثبتت بالنقل الصحيح ، مقرونة بأدلتها لنتعرف على شيء منها .
... ج352: نعم ، وعلى العين والرأس ، وأعيد تذكيرك بما قررته لك سابقًا من أني لا أحسب نفسي إلا خادم ، بل خويدم لك في إيصال ما فتحه الله تعالى بتوفيقه وحسن فضله وتعليمه وامتنانه ، وكلي شرف أن تقبل مني هذا العرض ، فإن من دواعي افتخاري أن أكون خويدمًا لعباد الله تعالى .
... فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون : الكرامات الثابتة كثيرة جدًا ، ودونك بعضها :
... فمن ذلك : ما أجراه الله تعالى على يد الصالحة التقية الزكية النقية المصطفاة الطاهرة العفيفة مريم الصديقة - رضي الله عنها وأرضاها - ، قال تعالى : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } .
... فإنه قد ورد عن السلف أنه كان يوجد عندها الفاكهة في غير أوقاتها المعتادة ، ورد ذلك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة ، فهذا الرزق المذكور في الآية كان يوجد عندها في غير حينه وأوانه ، وكانت امرأة صالحة تتعبد في محرابها ولا تتكلف أن تأتي به ، وأيضًا لم يكن أحد يدخل عليها في محرابها إلا زكريا - عليه السلام - فكانت كلما دخل عليها مكان تعبدها وجد عندها هذا الرزق ، فيتعجب ويقول : { يا مريم أنى لك هذا } فكانت تجيبه بقولها : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } .(1/103)
... ومن ذلك : ما أجراه الله تعالى على يد الصالحة العابدة سارة - رضي الله عنها وأرضاها - امرأة نبي الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، فإنها قد بشرت بالولادة وهي عجوز كبيرة لا يلد مثلها ، قال تعالى : { وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } .
... ومن ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في حديث النفر الثلاثة - وقد تقدم في التوسل - انطبقت عليهم الصخرة ، فدعوا الله تعالى بصالح أعمالهم فاستجاب الله لهم وفرج عنهم أمر هذه الصخرة بلا فعل إنسان وإنما كرامة من الله تعالى لهم على صلاحهم وتوسلهم بهذه الأعمال الصالحة .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( بينما رجل يمشي بأرض فلاة إذ سمع صوتًا في سحابة : اسق حديقة فلان ، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرَّةٍ فانتهى إلى الحرة ، فإذا هي أذناب شراج وإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت الماء ، فتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له : يا عبد الله ما اسمك ؟ قال : فلان ، الاسم الذي سمع في السحابة ، فقال له . يا عبد الله لِمَ سألتني عن اسمي ؟ قال : إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان ، باسمك فما تصنع فيها ؟ قال : إن قلت هذا فإني أنظر إلى ما خرج منها فأتصدق بثلثه ، وآكل وعيالي ثلثه ، وأرد فيها ثلثه )) ، وهذه كرامة أجراها الله تعالى على يد هذا العبد الصالح ، جزاء هذا العمل الصالح الذي يعمله في حديقته .(1/104)
... ومن ذلك : ما أجراه الله تعالى على يد عبده الصالح جريج ، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كان جريج يتعبد في صومعته فأتته أمه فقالت : يا جريج أنا أمك كلمني ، فقال : اللهم أمي أو صلاتي ، فاختار صلاته ، ثم جاءت الثانية فقالت : يا جريج أنا أمك ، كلمني فصادفته يصلي ، فقالت : اللهم هذا جريج وإنه ابني وإني قد كلمته فلم يكلمني ، اللهم لا تمته حتى تريه المومسات ، قال : ولو دعت عليه أن يفتن لافتتن . قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى الدير فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلامًا فقيل لها : ممن هذا ؟ قالت : من صاحب هذه الصومعة ، قال : فأقبلوا إليه بفئوسهم فصوتوا به ، فصادفوه يصلي ، فلم يكلمهم ، فأخذوا يهدمون ديره ، فلما رأى ذلك نزل إليهم فقالوا له سل هذه ، قال : فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال : من أبوك ؟ فقال : أبي راعي الضأن فلما سمعوا ذلك منه ، قالوا : نبني لك ما هدمنا بالذهب والفضة ، فقال : لا ، ولكن أعيدوه ترابًا ثم علاه )) ، فانظر هذه الكرامة العظيمة ، فإن الله تعالى أنطق هذا الصبي في المهد ليبرأ هذا العبد الصالح - رضي الله عنه وأرضاه - ، فهذا لاشك كرامة أجراها الرب جل وعلا على يد هذا العبد الصالح التقي .(1/105)
... ومن ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لم يكذب إبراهيم - عليه السلام - إلا ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله تعالى قوله : { إني سقيم } ، وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا } ، وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت من أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي - وإنك أختي في الإسلام - فإني لا أعلم اليوم مسلمًا غيري وغيرك ، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال : لقد دخل أرضك امرأة لا تنبغي إلا أن تكون لك ، فأرسل إليها فأتي بها ، وقام إبراهيم - عليه السلام - إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها ، فقبضت يده قبضة شديدة ، فقال لها : سلي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ، ففعلت فانطلقت يده ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى ، فقال لها : سلي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ، ففعلت ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين ، فقال : سلي الله أن يطلق يدي ولك الله علي أن لا أضرك ، ففعلت ، فانطلقت يده فدعا الذي جاء بها فقال : إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فلما رآها إبراهيم قال لها : مهيم ؟ قالت : خير ، كف الله يد الفاجر وأخدمني هاجر )) ، قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء .
... وما حصل ليد هذا الملك الظالم الفاجر إنما هو كرامة أجراها الله تعالى على يد هذه المرأة الطاهرة الصالحة ، والله أعلم .(1/106)
... ومن ذلك : الإلهام والفهم الثاقب ، الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحديث ، وهو قول الشيء موافقًا للحق في ذات الأمر ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( قد كان فيمن خلا من الأمم محدثون فإن يكن من أمتي محدث فهو عمر بن الخطاب )) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، ورواه مسلم أيضًا من حديث عائشة - رضي الله عنها - ، فهذا التحديث نوع من الكرامة .
... ومن ذلك : ما جاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة ظلماء حندس ، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فجعلا يمشيان بضوئها ، فلما تفرقا أضاءت عصا الآخر ، وهذه الإضاءة كانت كرامة لهذين الصحابيين الفاضلين - رضي الله عنهما - وعن سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
... ومن ذلك : ما جاء في الصحيح أيضًا من حديث البراء - رضي الله عنه - قال : قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت عند القرآن )) أو قال : (( نزلت للقرآن )) .(1/107)
... وفي حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - عن أسيد بن حضير أنه كان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن ، قال : فقرأت ليلة سورة البقرة وفرس لي مربوط ويحيى ابني مضطجع قريب منه ، فجالت جولةً فقمت ما لي هم إلا ابني يحي ، فسكنت الفرس ، ثم قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني ، ثم قرأت فجالت فرفعت رأسي فإذا شيء كهيئة الظلة فيها المصابيح تقبل من السماء فهالني فسكت ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال : (( اقرأ أبا يحيى )) . فقلت : قد قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني . فقال : (( اقرأ أبا يحيى )) . فقلت : قد قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني . فقال : (( اقرأ أبا يحيى )) . فقلت : قد قرأت فجالت الفرس فرفعت رأسي فإذا كهيئة الظلة فيها مصابيح فهالني . فقال : (( تلك الملائكة دنت دنوًا لصوتك ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم )) .
... وهذا لاشك أنه كان كرامة لهذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه .
... ومن ذلك : ما حصل للصحابي المجاهد الشجاع خبيب لما كان أسيرًا ، فإنه كان يأكل من قطف عنب وما بمكة ثمرة وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقًا رزقه الله إياه ، والقصة بطولها رواها الإمام البخاري في صحيحه .
... ومن ذلك : ما حصل للصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما وأرضاهما وعن سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نزول براءتها في آيات تتلى إلى يوم القيامة والحديث في الصحيح.(1/108)
... ومن ذلك : ما رواه مسلم - رحمه الله - في صحيحه من حديث جابر قال : كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا أتت عليه وفود اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس ، فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم . قال : من مراد ؟ قال : نعم . قال : ثم من قرن ؟ قال : نعم . قال : ألك والدة أنت بها بار ؟ قال : نعم . قال : وكان بك وضح فبرئت منه إلا موضع درهم ؟ قال : نعم . قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( يأتي عليك أويس بن عامرٍ من أمداد اليمن ثم من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بار ، لو أقسم على الله تعالى لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل )) فاستغفر لي .
... وهذا الأمر الجليل الكبير والكرامة العظيمة بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي بحق تصف مصاف العطايا العظام لهذه الأمة المرحومة ، زادها الله شرفًا ورفعة .
... ومن ذلك : ما رواه الشعبي قال : قال علي - رضي الله عنه - : (( كنا نحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه )) ورجاله ثقات . وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عبدالله بن عمر قال : (( ما سمعت عمر يقول لشيء قط : إني لأظن كذا إلا كان كما ظن )) .
... وبالمناسبة فالقصة التي تروى عن عمر من كتابة البطاقة بعد وقوف نيل مصر فلما ألقيت فيه جرى ، لا يصح سندها ؛ لأن فيها رجل مجهول ، وكذلك القصة التي قال فيها عمر - رضي الله عنه - : يا سارية الجبل . فإنها ضعيفة أيضًا ، وكراماته الثابتة فيها كفاية ، والله أعلم .
... ومن ذلك : إكرام الله تعالى لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن جعله مستجاب الدعوة ، فروى الترمذي والحاكم بسند حسن عن سعد أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم استجب دعوته )) ، فكان - رضي الله عنه - لا يدعو بشيءٍ إلا واستجيب له .(1/109)
... ومن كراماته - رضي الله عنه - ما رواه البخاري ومسلم - رضي الله عنهما - بسندهما عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : (( رأيت عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض لم أرهما قبل ولا بعد )) وهم الملائكة ، ولاشك أن رؤيتهم كانت كرامة له - رضي الله عنه وأرضاه - .
... ومن ذلك : أن خالد بن الوليد شرب السم ولم يصب بقلبه ، فعن قيس بن حازم - رضي الله عنه - قال : (( شهدت خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بالحيرة أُتِيَ لهم بسم فقال : ما هذا ؟ قالوا : سُمَّ ساعة . فقال : بسم الله ، ثم شربه فلم يصبه شيء )) وسندها حسن لغيره - إن شاء الله تعالى - .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حميد بن هلال قال : (( سمعت مطرف بن عبدالله يقول : قال لي عمران بن حصين : إني أحدثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الحج والعمرة ولم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه ، ولقد كان يُسَلَّمُ عَلَيَّ - يعني الملائكة - فلما اكتويت أمسك فلما تركته عاد إلي )) .
... فهذه غيض من فيض مما ثبت من الكرامات لأولياء الله جل وعلا ، ومن أراد الاستزادة فليراجع المجلد التاسع من شرح أصول اعتقاد أهل السنة ، للإمام اللالكائي ، فإنه قد ذكر فيه قرابة ثلاثين ومائتي كرامة ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س353: هل الجن مكلفون ؟ وضح ذلك ؟ مع بيان ما يدل عليه .(1/110)
... ج353: نعم ، الجن مكلفون ، وهذه قضية قطعية ومسلمة ثابتة الثبوت اليقيني بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع ، فهم مأمورون بفعل الطاعات ومنهيون عن فعل المعاصي والمنكرات ، ولا أقول هذا قول أهل السنة فقط ، بل هو قول جمهور أهل الإسلام ولا اعتداد ولا عبرة بالأقوال الزائغة عن الحق المائلة عن الهدى المبنية على التخرصات الكاذبة والظنون الباطلة العاطلة ، فهم مكلفون بالإسلام ومنهيون عن الشرك ، ومكلفون بالإيمان ومنهيون عن الكفران ، ومكلفون بالصلاة والزكاة والحج والصيام ، ومنهيون عن تركها ، ومكلفون بالجهاد ، وببر الوالدين ومنهيون عن العقوق ، وعن أكل الربا ، وقتل النفس ، وشهادة الزور ، والزنا ، والكذب ، والقذف ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وهكذا .
... وبالجملة فنقول : كل ما أمر الشارع به أمر إيجاب أو استحباب فإنه عام للثقلين الإنس والجن ، وكل ما نهى الشارع عنه نهي تحريم أو كراهة فهو عام للثقلين الإنس والجن ، وكل مباح شرعًا فإن إباحته عامة للثقلين الإنس والجن ، والأدلة على تكليف الجن كثيرة جدًا ، ونذكر منها ما يلي :
... فمن ذلك : قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، وهذه الآية نص صريح قاطع الدلالة في إثبات تكليف الجن وبيان الحكمة والغاية من خلقهم وأن المقصود بذلك عبادة الله وحده بفعل المأمور إيجابًا واستحبابًا وترك المنهي تحريمًا أو كراهة ، وأعظم ذلك وأجله وأكبره توحيده جل وعلا وإفراده بالعبادة .(1/111)
... ومن ذلك : قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا . قالوا بلى ... } الآية ، وهذا نص قاطع بأن الجن مكلفون بالإيمان بالرسل ، ومتعبدون باتباع ما يقصه الرسل عليهم من الآيات ، فكما أن الرسل مبعوثون إلى الإنس ، فكذلك أيضًا هم مبعوثون إلى الجن ، ولذلك فإن الثقلين يوم القيامة يسألهم الله تعالى عن مجيء الرسل إليهم وإبلاغهم آياته فيقرون ويتعرفون بأن الرسل قد أتوا وبلغوا وأنه لا حجة لهم ، فيقال لهم : { النار مثواكم خالدين فيها ... } الآية .
... ومن ذلك : قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولَّوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى مصدقًا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } ، وهذه الآية تدل على تكليف الجن من عدة وجوه :
... أحدها : أن الله تعالى هو الذي صرفهم إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - لاستماع القرآن ، وحكمة ذلك وغايته أن يؤمنوا به ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه .
... ثانيها : أنهم لما استمعوه تواصوا بالإنصات له وبعد سماعه اعترفوا بأنه يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم وأنه متوافق لما جاء به موسى - عليه السلام - من قبل ، وهذا يدل على أن عندهم آلات الفهم والعقل وأنهم قادرون على امتثال ما فيه من العلم النافع والعمل الصالح ، وهي شروط التكليف ، فإن من كان قادرًا على العلم والفهم والعمل فإنه مكلف .(1/112)
... ثالثها : أنهم بعد سماعهم للقرآن وإيمانهم به أسرعوا إلى قومهم منذرين يقولون لهم : { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به } ، وهذا نص صريح في أنهم مكلفون بالإيمان بهذا القرآن ، ومن المعلوم أن الإيمان به يتضمن امتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره ، وإيمانهم بالقرآن مستلزم للإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأي دليل أصرح من هذا الدليل ؟ ولكن سبحان من أعمى قلوب بعض الطوائف عن هذا النور الذي يبهر العيون وينير الصدور ، والله أعلم .
... ومن الأدلة أيضًا : قوله تعالى : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا . وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا ... } إلى قوله : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا ... } ، وهذه الآيات دليل على تكليف الجن من عدة وجوهٍ أيضًا :
... أحدها : أن إخبار الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاستماع فيه التصريح بأن هؤلاء النفر قد آمنوا وقر الإيمان في قلوبهم ، وهذا فيه دليل أنهم مكلفون بالإيمان به ، وإلا لما كان في هذا الإخبار فائدة ولم يكن ليمدح هؤلاء بأنهم فعلوا شيئًا لم يكلفوا به ، فلما أخبر بذلك إخبار المادح لهم دل ذلك على أنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعلوه ، وهو الإيمان بالرسول وبالقرآن .
... ثانيها : أنهم تعجبوا من هذا القرآن ، من بيانه وفصاحته وبلاغته ومعانيه وأخذه بمجامع القلوب ، وهذا فيه دليل على أن عندهم القدرة على الفهم والتذكر والاتعاظ الاعتبار والعقل ، وهذا كافٍ في تكليفهم ، فما المانع من تكليفهم وهم عقلاء يفهمون وقادرون على الامتثال ؟
... ثالثها : التصريح بوقوع الإيمان منهم ، وذلك في قوله تعالى : { فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا } ، وهذا نص صريح قاطع في أنهم مكلفون بالإيمان بالرسول وبالقرآن ، ومنهيون عن الشرك .(1/113)
... رابعها : في قوله تعالى : { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ... } الآية ، ففيها التصريح أيضًا بوقوع الإيمان منهم ، وهو دليل على أنهم كانوا مكلفون به .
... خامسها : في قوله تعالى : { وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك } ، ولا يعرف الصالح من غير الصالح إلا بمتابعته الرسل الذين بعثوا إليهم ، فمن تابع رسوله الذي بعث إليه فهو الصالح ، ومن خالف واستكبر فهو الطالح ، وهذا فيه دليل على أن منهم طائفة قد آمنوا برسلهم واتبعوا ما جاءوا به من الحق ، وهؤلاء هم الصالحون ، وهذا يدل على أنهم مكلفون .
... سادسها : { وأنا منا المسلمون ومن القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا } ، وهذا فيه دليل أيضًا على أنهم مكلفون وأن المسلمين منهم هم الناجون ، وأما الكفار القاسطون المشركون فهم الخاسرون .
... وكل ذلك دليل على أنهم مطالبون بالإسلام والإيمان ومنهيون عن الشرك والطغيان ، وبالجملة فسورة الجن من أولها إلى آخرها كلها أدلة على القول بتكليف الجن كما هو قول جماهير أهل الإسلام ، والله أعلم .
... ومن ذلك : سورة الرحمن ، فإن الله تعالى قد ذكر فيها قوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ، في واحدٍ وثلاثين موضعًا ، والخطاب فيها للثقلين الإنس والجن ، وهذا يفيد أنهم مكلفون بالإيمان بالله والاعتراف بعظيم نعمته عليهم والقيام بحق هذه النعم من شكرها باللسان والجوارح ، وقبل ذلك بالقلب ، ومأمورون بالإيمان بجميع الشرائع والقضايا التي أخبرت عنها هذه السورة العظيمة ، والله أعلم .
... ومن ذلك : قوله تعالى في سورة سبأ إخبارًا عن سليمان - عليه الصلاة والسلام - : { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } ، وهذا تهديد للجن بالعذاب الشديد حال زيغهم عن أمره جل وعلا ، وهو يدل على تكليفهم وإلا لما استحقوا العذاب على هذه المخالفة .(1/114)
... ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال : علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل . قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء . قال : فقلنا : فقدناك يا رسول الله فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : (( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن )) قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد ، فقال : (( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا ، وكل بعرة علف لدوابكم )) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم )) ، وهذا نص صحيح صريح في تكليف الجن لدعوتهم له وذهابه إليهم وقراءة القرآن عليهم ، وهذا دليل على أنهم مكلفون بهذا الكتاب ، كما أن الإنس مكلفون به .(1/115)
... ومن ذلك : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : (( انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بينهم وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : مالكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهم بنخلة عامدين إلى عكاظ ، فأتوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا : { إنا سمعنا قرآنًا عجبًا . يهدي إلى الرشد ... } الآية )) رواه مسلم في الصحيح .
... فقد دل هذا الحديث على استماع الجن للقرآن وتعجبهم منه ثم انطلاقهم إلى قومهم منذرين بهذا القرآن ، ولاشك أن هذا يدل على تكليفهم وإلا لما انطلقوا ولما تكلفوا الاستماع والإنذار والتحذير لأقوامهم ، والله أعلم .
... ومن ذلك : ما رواه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( فضلت على الأنبياء بستٍ : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدًا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون )) ، ومحل الشاهد منه قوله : (( وأرسلت إلى الخلق كافة )) ، فإنه لفظ شامل للإنس والجن ، وأنت خبير بأن حمله على الإنس فقط تخصيص للفظ بلا دليل ، وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، وذكر الشيخ علاء الدين الهندي في كنز العمال رواية لهذا الحديث وهي قوله : (( أرسلت إلى الإنس والجن )) ، وهي عند الإمام أحمد في المسند عن أبي ذرٍ، والله أعلم .
... فهذه بعض الأدلة التي تفيد ذلك .(1/116)
... وأما الإجماع : فإنه قد انعقد إجماع أهل السنة على أن الجن مكلفون ، مأمورون منهيون ، ولم يخالف في ذلك أحد فيما أعلم ، والله ربنا أعلى وأعلم .
* * *
... س354: ما طبيعة التكاليف التي كلف بها الجن ؟
... ج354: أقول : بعد اتفاق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على القول بتكليف الجن ، وقع خلاف في نوعية هذه التكاليف ، وهذه الجزئية لا تكدر صفو الإجماع السابق ؛ لأن الجميع ذهبوا إلى القول بتكليف الجن ، وإنما النزاع حصل في ماهية هذه التكاليف .
... إذا علمت هذا فأقول : القول الصحيح والرأي الراجح المليح في هذه المسألة هو القول بأن تكاليف الجن تماثل تكاليف الإنس ؛ وذلك لأن الآيات والأحاديث الدالة على تكليفهم بشريعة نبينا - عليه الصلاة والسلام - جاءت عامة في كل شيء فإذا ثبت إرساله - عليه الصلاة والسلام - إليهم كإرساله إلينا لزمهم - أي الجن - على هذا الأساس أن يكون التكليف واحدًا ، ولكن مع القول باتحاد نوعية التكاليف قد يكون بعض شروط العبادات لا تتحقق فيهم لعدم وجودها في طبيعة خلقتهم ، كاشتراط القدرة بالراحلة في الحج ، فإنه غير مشترط فيمن يطير منهم ، ونحو ذلك ، وإلا فالأصل أن التكاليف واحدة ، والقرآن والسنة قد علما ولا خفاء فيهما ، وقد خوطب بها جميع الثقلين وفيهما كل التكاليف الشرعية التي طولب بها الجن والإنس ، فكيف يدخل الجهل في ذلك .(1/117)
... وبناءً عليه فهم مطالبون بالإسلام والإيمان أي الشهادتين وشروطها الثمانية المعروفة ، ومنهيون عن الوقوع في شيء من نواقضها ، ومطالبون باعتقاد أهل السنة والجماعة ومنهيون عن سلوك مناهج أهل الأهواء والبدع ، ومطالبون بالصلاة وشروطها ، وبالزكاة ، وبالصوم ، وبالحج ، وببر الوالدين ، وبالصدق ، وبالوفاء بالعقود ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، وبالحكم بين بعضهم بالعدل ، وبصلاة الجماعة ، وبصلاة العيدين ، وبالجهاد بالمال والنفس ، وهكذا في سائر مأمورات الشريعة ، ومنهيون عن الشرك ، والسحر والكهانة ، واتخاذ الوسائط بينهم وبين الله ، وبقتل النفس ، وبإيذاء بني آدم بالمس ونحوه ، وعن الزنا ، والسرقة ، والربا ، والكذب ، والنفاق بأنواعه ، وعن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وعن شرب الخمر ، وعن الغش ، وعن أكل الأموال بالباطل ، وعن الظلم والبغي ، وعن أكل الحرام بجميع أنواعه ، وعن الغيبة والنميمة ، وظن السوء .
... وبالجملة نقول : هم مكلفون بفعل ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وجوبًا في أوامر الوجوب واستحبابًا في أوامر الاستحباب ، ومكلفون باجتناب جميع ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تحريمًا فيما كان من قبيل التحريم وكراهةً فيما كان من قبيل الكراهة ، ومن قال غير ذلك فإنه قد جاء بما لا دليل عليه ، والله أعلم .
* * *
... س355: ما مصير العاصي والمحسن منهم ؟ مع الدليل .(1/118)
... ج355: أقول : لقد نقل ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه القيم طريق الهجرتين وباب السعادتين اتفاق المسلمين على أن كفار الجن في النار ، فالعاصي منهم بالكفر مصيره النار باتفاق المسلمين ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : { ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ، وقوله تعالى : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } ، وقوله تعالى : { ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجَّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكم عليم . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون } ، وقال تعالى حاكيًا مقالتهم : { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا . وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا } ، والقاسطون هم الجائرون العادلون عن الصراط المستقيم ، وقد أثبتت الآية أنهم حطب لجنهم ، وقوله تعالى : { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } ، وهي نص في الموضوع أيضًا ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فقد تبين لك - إن شاء الله تعالى - حال الكافر منهم وأنه يدخل النار كما يدخلها كافر الإنس ، وهذا بالاتفاق كما ذكرت لك سابقًا نقلاً عن ابن القيم - رحمه الله تعالى - .
... وأما حال مؤمنهم فقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال :
... فقيل : أنه لا ثواب له إلا النجاة من النار ثم يقال لهم : كونوا ترابًا مثل البهائم ، وهو قول أبي حنيفة وبعض أهل العلم .
... وقيل : بل يثابون على الطاعة بدخول الجنة ، وهو مذهب جماهير أهل العلم على خلاف بينهم في نوعية هذا الثواب .
... وقيل : بالتوقف في المسألة .(1/119)
... والقول الصحيح في هذه المسألة هو أن مؤمنهم يدخل الجنة وينعم فيها بما ينعم به الإنس على اختلاف مراتبهم في الجنة ، فكل النعيم الذي يصيبه المؤمن من الإنس في الجنة يصيبه المؤمن من الجن أيضًا ، وكل له مرتبته ودرجته التي أنزله الله إياها ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { ولكل درجات مما عملوا } ، قال ابن القيم - رحمه الله - : (( أي ولكل درجات في الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئًا من أعمالهم ، وهو ظاهر جدًا في ثوابهم وعقابهم وأن مسيئهم يستحق العذاب بإساءته ومحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه )) ا.هـ
... ويدل عليه أيضًا قوله تعالى : { وأنَّا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسًا ولا رهقًا } ، وبهذه الآية استدل البخاري . ووجه الاحتجاج بها : أن البخس المنفي هو نقصان الثواب ، والرهق هو الزيادة في العقوبة على ما عمل ، وهما منفيان عن المؤمن ، وبناءً عليه فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد في سيئاته ، فالمؤمن من الجن إذا عمل الصالحات فإنه لا يخاف بخسًا ولا رهقًا .
... ويدل عليه أيضًا قوله تعالى : { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدًا } . قال المفسرون : أي أصابوا طريق الحق والهداية الموصل إلى المطلوب الأعظم وهو الجنة ، فهو دليل على أن المسلم قد أصاب الطريق الموصل للجنة بإسلامه .(1/120)
... ومن الأدلة أيضًا : أن الآيات التي تذكر نعيم الجنة لا تعلقها بالجنس - أي بجنس النار أو الطين - ، بل تعلقها بأعمال معلومة كقوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم على صلواتهم يحافظون . أولئك } أي أصحاب هذه الصفات { هم الوارثون . الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } ، فعلق دخول الجنة على صفات من قام بها وحقق فيها الإخلاص والمتابعة فإنه يستحق أن يكون من الذين يرثون جنة الفردوس ولم يربط ذلك بإنس ولا جن .
... ومن المعلوم أن من الجن من يفعل هذه الأعمال بشروطها ، وإذا تحقق الشرط تحقق المشروط ووعد الله تعالى لا خلف فيه .
... والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا ، وهذا يدل على أن الجني إذا اتصف بالصفات التي علقت الأدلة عليها دخول الجنة أنه يستحق دخولها ، لاسيما وهذه الصفات خرجت مخرج العموم ، وغالبًا تصدر بكلمة (( والذين )) ، وهي اسم موصول ، وقد تقرر في الأصول أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم ، فيدخل فيها من يصلح لخطاب التكليف وهم الثقلان .
... وتقرر أيضًا أن الأصل هو البقاء على دلالة العموم حتى يرد المخصص ، فما الذي خصص الجن وأخرجهم من هذه العمومات ؟ وهذا دليل قوي جدًا ، فلا تعد عيناك عنه إلا بعد فهمه وإتقانه .(1/121)
... ويدل عليه أيضًا : التقابل في الجزاء الذي هو مقتضى العدل ، فإن المشرك منهم استحق النار بإساءته وخطيئته ، فكذلك المسلم منهم يستحق الجنة بسبب إحسانه وطاعته ، وهذا ما يسميه أهل الأصول بقياس العكس ، ويدل عليه أيضًا : قوله تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } ، فمن جاء بالإحسان من الطاعات وعمل الصالحات فإنه يجازى بالإحسان ، وهذا وعد من الله تعالى ، ووعده لا يخلف ، وبناءً عليه فالجني إذا جاء بالإيمان ، والصلاة ، والزكاة ، والبر ، والصدقة ، والصوم ، والحج ونحو ذلك ، فقد جاء بالإحسان فله الإحسان ، وهذا دليل قوي في الموضوع لا ينبغي أن تغفل عنه .
... ويدل عليه أيضًا قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا } ، أي لا يخاف أن يوضع عليه وزر غيره ولا ينقص من ثواب عمله ، وقوله : { ومن } اسم شرط ، وهو من صيغ العموم كما تقرر في الأصول ، فيدخل في ذلك الإنس والجن ، فالجني إذا عمل صالحًا وهو مؤمن فإننا نقول له : لا تخف ظلمًا ولا هضمًا ، وإذا كان لا يخاف عليه هضم حقه فلابد أن ينعم بهذا العمل الصالح الذي جاء به وهو مؤمن ، وهذا واضح في أن مؤمنهم في الجنة يتنعم بما يتنعم به مؤمن الإنس ، فليس عند ربنا جل وعلا لا ظلم ولا هضم ؛ لأنه الحق الحكم ذو العدل الكامل من كل وجه ، والله أعلم .
... ومثله في وجه الاستدلال قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } ، فقوله : { من } هي اسم موصول بمعنى ( الذي ) ، والأسماء الموصولة من صيغ العموم ، والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، فيدخل في هذا العموم الإنس والجن .
... ويدل عليه أنه قال بعدها مخاطبًا لهما : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ، والله أعلم .(1/122)
... وبهذه الأدلة يتضح وضوحًا جليًا أن الصحيح من أقوال أهل العلم في مؤمني الجن أنهم يدخلون الجنة ويتنعمون بما يتنعم به الإنس على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم فيها ، وبه تعلم أن من جملة النعيم ، بل هو أعظمه وأكمله وأكبره رؤية الله تعالى ، والجن إذا دخلوا الجنة ينعمون بكل النعيم ، ومن ذلك رؤيته جل وعلا ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س356: ما أنواع استخدام الجن ؟ موضحًا حكم كل قسم ، مع الدليل .
... ج356: أقول : هذه من المسائل المهمة في هذا المبحث ، والتي بمعرفة أقسامها يتحدد لك غالب المخالفات في هذا الباب ، وبيانها أن يقال :
... استخدام الإنس والجن له أنواع :
... الأول : الاستخدام المحرم الشيطاني ، وهو كاستخدام السحرة والكهنة والمشعوذين والعرافين ، وكالذي يستخدمهم في سرقة الأموال ونهب المتاع ونحو ذلك ، فهذا النوع محرم بالاتفاق ، وهو يوصل صاحبه في كثير أحيانه إلى الكفر والشرك ، وعليه يحمل قوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقًا } ، فقد استخدموهم في الحفظ بصرف الاستعاذة لهم ، وهذا شرك أكبر ، وقوله تعالى : { ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجَّلت لنا ... } الآية ، وهذا هو موضع الاستمتاع المحرم ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن استمتاع الإنس بالجن يكون بما يخبرونه به من الأمور الغائبة وبما يوفرونه له من خدمة في إيصال ما يريد إيصاله إلى الغير من الشر ونحو ذلك ، وأن استمتاع الجن بالإنس يكون بما يفعله لهم من العبادات ويصرفه لهم من القربات والطاعات ، وبما ينفذه لهم من أمور الشرك كالذبح لهم والاستعاذة والاستعانة بهم وبفعل الأمور العظام كالبول على المصحف وسب الله أو الشريعة أو الرسول ، فكل ذلك مما يستمتع به الشياطين من الإنس ، فالاستمتاع المذكور هو الاستمتاع المحرم الشيطاني .(1/123)
... وبالجملة : فهذا الاستخدام محرم وزندقة وفجور ، وفي كثير أحيانه كفر وشرك .
... الثاني : الاستخدام الملكي القهري السلطاني السليماني ، وهذا إنما كان معجزة لنبي الله سليمان - عليه وعلى أبيه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم - ، فالله تعالى قد سخر الجن له يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ، توعدهم بأن من يزغ عن أمره فله عذاب السعير ، وأنهم أصناف : فمنهم البناء ، ومنهم الغواص ، ومنهم المقرن في الأصفاد وهي السلاسل العظام ، وذلك لتمرده وشدة طغيانه ، فعوقب بذلك ، فهذا النوع من الاستخدام لا يستطيعه أحد بعد سليمان - عليه السلام - ؛ لأنه كان من جملة معجزاته ، ولأنه قال : { وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدي } ، ولعلك بذلك فهمت العلة من قوله - صلى الله عليه وسلم - لما تفلت عليه الشيطان ليقطع صلاته فأمسك به وخنقه ، وقال : (( لقد هممت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا له جميعًا ويلعب به صبيان المدينة ، ولكن ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته )) ؛ وذلك لأن الربط بالأغلال ، والتقييد والإذلال نوع من الاستخدام الملكي القهري ، وهو من خصائص سليمان - عليه السلام - فتوقيرًا منه - صلى الله عليه وسلم - لأخيه سليمان - عليه السلام - ترك ذلك الشيطان ، ولذلك قال : (( ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقًا يلعب به صبيان المدينة )) ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يريد أن يتصرف فيهم التصرف الملكي القهري السلطاني السليماني .
... والخلاصة : أن هذا النوع من الاستخدام لا يستطيعه أحد ولا يمكن لأحدٍ أصلاً بعد نبي الله سليمان - عليه السلام - ، فهو من جملة معجزاته التي أُعطيها ، والله أعلم .(1/124)
... الثالث : الاستخدام الرحماني المحمدي ، وهو استخدامهم فيما يعود عليهم وعلى قومهم نفعه في العاجل والآجل من أمور الشريعة ، من أمرٍ بمعروف أو نهيٍ عن منكر ، أو تبليغًا لعلم ، فهذا أمر مشروع شرع إيجاب أو استحباب ، وذلك لمن توفرت له أسبابه وتحققت فيه الأهلية لذلك ، لكمال صلاحه ووفور علمه ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بإبلاغ الشريعة للثقلين ؛ لأنه صاحب الرسالة العامة للإنس والجن ، وقد ثبت لقيه معهم كما مضى في الأدلة وليس كلهم قد حضر ولاشك ، فيكون بذلك قد حملهم أمانة التبليغ لمن خلفهم من أقوامهم ، وهذا أمر يعود عليهم نفعه في العاجل والآجل ، وهو أمر محبوب للشارع .
... وبناءً عليه فإذا أسلم عندك أحد منهم فلا بأس عليك أن تأمره بدعوة قومه للإسلام ، ويأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن الشرك ، بل أنت مأمور بذلك ؛ لأنه يحقق كثيرًا من المصالح الشرعية ، ولا مفسدة تصادم ذلك ، وكاستخدامه في الاستدلال على مكان السحر ، فهذا أمر طيب وقد حصلت منه آثار حميدة ، لكن لابد من الحذر من كثرة كذبهم ، وكاستخدامهم في إبلاغ بعض أمور المجاهدين الذين انقطعت معهم وسائل الاتصال ، فهذا طيب أيضًا ، لكن لابد من ابتلاء المخبر منهم عدة مرات ، ليتبين صدقه ونصحه للمسلمين ، وإلا فالكذب فيهم كثير جدًا ، ونحو ذلك مما يحقق مصلحة شرعية ، ويدل على ذلك أن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وهذا النوع من الاستخدام فيه تحقيق للمصالح وتعطيل للمفاسد .
... الرابع : استخدام بعضهم في بعض الأمور المباحة ، كبناء شيء أو حفر شيء أو صنع شيء أو الذهاب به إلى بقعةٍ ما ونحو ذلك ، فهذا لنا فيه نظران :(1/125)
... أحدهما : بيان حكمه من جهة الأصل وهو أن الأصل فيه الجواز بشرط أن لا يترتب عليه محرم أو مكروه ، وانتبه لهذا الشرط ؛ لأنه إن ترتب عليه محرم فيلحق بالقسم الأول ، وإن ترتب عليه مكروه فإنه يمنع سدًا للذريعة - أي لذريعة الوقوع في الحرام - فإن المكروهات بريد المحرمات ، فمن سوغ لنفسه كثرة الوقوع في المكروهات ولم يتحرز منها فإنه يوشك أن يقع في الحرام ، فسدًا للباب وحسمًا لمادة الفساد يمنع الاستخدام المباح ، وإلا فالأصل فيه الجواز ، لكن بهذا الشرط ؛ لأن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ، ولم تمنع الأدلة إلا الاستخدام الشيطاني كما مضى في سياق أدلة تحريمه ، فيخرج ما دل الدليل على تحريمه ، ويبقى ما عداه على أصل الجواز والحل ، وهذا هو الذي يفيده كلام أبي العباس - رحمه الله تعالى - في الفتاوى ، فإنه ذكر أن استخدام الإنسي للجني في الأمور المباحة كاستخدام الإنسي بعضهم لبعض ، بل وأزيده إيضاحًا وأقول : لو أن بعض الجن أمرك بشيءٍ من الأشياء المباحة ولم يترتب على استجابتك له شيء من المحرم ولا المكروه ، فإن استجابتك له مباحة ، فكذلك لو كنت أنت الطالب ، لكن بالشرط المذكور ، وهذا من قياس العكس ، وهو حجة على القول الصحيح .
... وأما قوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } ، فإن هذا الاستعمال ترتب عليه الوقوع في المحرم ، وهو الاستعاذة بغير الله في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله ، وقد اشترطنا في إباحة النوع الرابع أن لا يترتب عليه محرم ، وتممنا ذلك بألاَّ يترتب عليه مكروه أيضًا .
... وبالجملة : فلا مانع يمنع ذلك ، لكن أعيد وأكرر وأنبه على الشرط المذكور وهو أن لا يترتب على هذا الاستخدام محرم أو مكروه ، فهذا بالنسبة لحكم أصله .
... ثانيهما : لو جاءنا أحد يسألنا عن مدى إمكانية فعل ذلك لأجبناه بالمنع، وذلك لأمور:
... منها : سدًا للذريعة .
... ومنها : خروجًا من خلاف أهل العلم في ذلك .(1/126)
... ومنها : خروجًا من الدخول في هذه المسالك الغامضة التي يلتبس كثيرًا حقها بباطلها .
... ومنها : أن كثيرًا ممن سوغ لنفسه الدخول في بدايات هذه الأمور اشتغف بها وأحبتها نفسه حبًا شديدًا حتى صار جزءًا من حياته، وكان الجان يحضر عنده بلا مطالب ، فلما علم بأن نفسه لا تستطيع فراقها بدأت المطالب وزادت الشروط من الجن عليه حتى أوقعته في المهالك ، فعاد الأمر إلى المخادعة بالملاطفة بادئ الأمر ، ثم بالمخاطفة في نهاياته، والله المستعان .
... ومنها : أنه موجب لغرور النفس وارتفاع الذات إذا اشتهر أمره وأنه صاحب بعض الجن وأنها تطيعه فيما يأمر به ، وهذا الغرور موجب لزهو النفس وللكبر وللإعجاب بالذات ، وهذا مزلق خطير ومهيع وخيم ، وهو أساس البلاء وبدايات الشر .
... ومنها : أن الجن قد تصاحبه في أول الأمر ثم تتسلط عليه في الأخير ، وذلك لأن الجن قبائل ، ولكل قبيلة كبير وقائد ، فإذا كان كافرًا وعلم بأن من أفراد قبيلته من يعين المسلمين على بعض حوائجهم فإنه يقهره بالملك والسلطان والقوة على ترك ذلك أو عكس الأمر بإيذاء ذلك الإنسي ، وقد رأينا ذلك في عددٍ من الأفراد ، والله المستعان .
... ومنها : أن الكذب فيهم - أي في الجن - من الصفات المؤكدة ، وهي كثيرة فيهم جدًا ، ويدل على ذلك حديث : (( وهو كذوب )) ، وقبل ذلك قوله تعالى : { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا } ، وغير ذلك ، ومن طبيعتهم وأصل خلقهم أنهم لا يراهم الإنس على الخلقة التي خلقهم الله عليها ، لقوله : { من حيث لا ترونهم } ، فنخشى أن يأتيه نفر منهم ويعرضوا عليه أن يخدموه لصلاحه ودينه حتى يوقعوه في حبالهم ، فإذا أوقعوه في حبالهم جروه من رقبته إلى الشرك والعقائد الباطلة والملل الزائغة ، ولغير ذلك من الأمور .(1/127)
... وبناءً عليه فمن جاءنا يسألنا عن ذلك فإننا نمنعه من الدخول في هذه الطرق ، لهذه العلل التي وإن لم تشاركني في كلها فإني لا أظنك تخالفني إلا في بعضها ، والله المستعان .
... فإن قلت : فإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم تقل بالمنع بادئ الأمر واسترحت وأرحت ؟ ولماذا تفصل الجواب في جزئين فتجيزه أولاً وتمنعه ثانيًا ؟ فأقول : هذا لأن بعض أهل العلم قال بالجواز ، وبعضهم قال بالمنع ، فأحببت أن أبين لك مأخذ كل واحد ، وأن من قال بالجواز إنما أفتى بالأصل ، ومن قال بالمنع فإنما نظر إلى هذه العلل ، وإلا فلو عرضت هذه العلل على من أفتى بالأصل لمنع منه ، ولو خلا الأمر من هذه العلل لأفتى المانع بالأصل ، ومعرفة مآخذ أهل العلم مطلب أساسي من مطالب طالب العلم في مسيرته العلمية . وأقول أيضًا : هذا من باب تغير الأحكام بتغير الأحوال والأزمان ، وذكرت لك أنه لو جاءنا أحد يسألنا في هذه الأزمنة لقلنا بالمنع مراعاة لهذه العلل ، ولعل من أفتى بالجواز لم يكن في زمنه هذه المفاسد أو كانت ولكنها ليست بالكثيرة كما هي الحال في زمننا ، وقد يفتى طائفة بالجواز وتفتى طائفة أخرى بالمنع وهكذا ، وهذا التغير في مثل هذه الأحكام ليس بمنكر من القول ولا ببدع من الإفتاء . وأقول أيضًا : إن بيان حكم أصل الشيء ثم بيان انتقال الحكم من كذا إلى كذا بسبب كذا وكذا من تمام شرح المسألة ، فإنك لو أجزت الإجازة المطلقة لظن الطالب أن هذا هو حكمه الأصلي ، لكن مع التفصيل يزول اللبس ويتحقق كمال الفهم ويعرف الطالب كيف يتعامل مع المتغيرات والظروف ، والله ربنا أعلى وأعلم .
... فهذا هو الجواب عن السؤال المهم ، وأرجو منك رجاء المحب لحبيبه والأخ لأخيه أن تعيد قراءة السؤال والجواب ، ليزداد فيه فهمك ويرسخ في ذهنك ، والله يحفظك ويرعاك ويسدد على طريق الهدى والحق خطاك ، وهو أعلم وأعلى .
* * *
... س357: ما المراد بقاعدة الوسطية ؟ مع بيانها بضرب الأمثلة .(1/128)
... ج357: المراد بقاعدة الوسطية قول العلماء : (( أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة كوسطية الأمة بين الأمم )) .
... وبيان ذلك أن يقال : إن هناك وسطيتين : وسطية عامة ، ووسطية خاصة .
... فالوسطية العامة : يراد بها وسطية الأمة الإسلامية بين سائر النحل كاليهودية والنصرانية ، فأنت إذا نظرت إلى دين اليهود الذي هم عليه وجدته دينًا يقوم على الغلو والإفراط والتشديد ، وإذا نظرت إلى دين النصارى الذي هم عليه وجدته دينًا يميل إلى التفريط والتساهل المخزي الفاضح في غالب أموره ، فمثلاً : يعتقد اليهود أن عيسى كذاب وابن بغي - نعوذ بالله من ذلك - ، بينما يعتقد النصارى أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا - ، وكلا الملتين على طرفي نقيض بين الإفراط والتفريط . فتوسط المسلمون في ذلك وقالوا : (( هو عبدالله ورسوله )) ، فقولهم : (( عبدالله )) رد على النصارى الذين غلوا فيه ، وقولهم : (( ورسوله )) رد على اليهود الذين كذبوه وأهانوه ، فاعتقاد المسلمين في عيسى - عليه السلام - وسط بين هاتين الأمتين الضالتين المغضوب عليهما .
... ومثال آخر : يعتقد اليهود في الحائض أنها نجسة العين وبنوا على ذلك أنها لا يجوز مؤاكلتها ولا مجالستها ولا الحديث معه ولا مسها ؛ لأنه عندهم نجسة قذرة ، وهذا هو الغلو بعينه ، بينما يعتقد النصارى جواز فعل كل شيء معها حتى النكاح ، وهذا تفريط وتساهل ، فجاءت الشريعة الإسلامية فقالت : (( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )) ، فقوله : (( اصنعوا كل شيء )) رد على اليهود الذين قالوا : لا تصنعوا معها شيئًا ، وقوله : (( إلا النكاح )) رد على النصارى الذين يجيزون ذلك ، فالأمة الإسلامية بهذا التشريع توسطت بين الأمتين الضالتين المغضوب عليهما ، وهكذا في سائر الاعتقادات والشرائع ، وهذا هو الذي نعنيه بالوسطية العامة ، أي وسطية الأمة بين الأمم الكافرة .(1/129)
... إذا علمت هذا فاعلم أن الدليل الشرعي الذي يصح بمجموع طرقه قد أخبر أنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة ، وحكم على سائر الفرق أنها في النار إلا فرقة واحدة ، وهذه الفرقة هم أهل السنة والجماعة الذين هم على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وإذا نظرت إلى اعتقادات هذه الفرق في سائر أبواب الاعتقاد وجدتهم على طرفي نقيض ، ففرقة فرطت وفرقة أفرطت ، وفرقة واحدة توسطت في سائر هذه الأبواب ، وهم أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - ، وسبب هذه الوسطية هو أنهم اعتمدوا النص وأخذوا بكل أطراف الأدلة وقدموها على العقل وعظموا قدرها في نفوسهم فلم يخالفوها برأي ساقط ولا بعقل متهافت ولا بمذهب باطل ، وسلكوا في فهمهم لهذه النصوص مسلك الصحابة - رضي الله عنهم - ، فهم لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، فلا يدخلون في أبواب الاعتقاد متأولين بآرائهم ولا متوهمين بأفكارهم - حاشاهم وكلا - ، بل يقولون كما قال السلف الصالح ، ويعملون كما عمل السلف الصالح ، ويقفون حيث وقف السلف الصالح ، ويسلكون ما سلكه السلف الصالح ، فيصدق عليهم قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا } ، فكما أن الأمة شهيدة على سائر الأمم ، فكذلك أهل السنة شهداء على سائر الطوائف والفرق ، وهذا الذي نعنيه بقولنا : الوسطية الخاصة .
... وحتى يتضح لك الأمر أكثر نضرب بعض الأمثلة ، وقد سبق معنا في هذا الكتاب - الذي أسأل الله أن ينفع به عامة المسلمين - بعض هذه الأمثلة ، فأقول :
... منها : وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات ، فإنهم توسطوا فيه بين الممثلة والمعطلة .
... ومنها : وسطيتهم - أعلى الله قدرهم في الدنيا ورفع منازلهم في الآخرة - في باب القدر بين الجبرية والقدرية .(1/130)
... ومنها : وسطيتهم - رحمهم الله تعالى - في باب مسائل الدين والأحكام بين الوعيدية والمرجئة .
... ومنها : وسطيتهم - غفر الله لأمواتهم وثبت أحياءهم - في باب الصحابة وآل البيت بين النواصب ( الخوارج ) والروافض .
... ومنها : وسطيتهم في باب التعامل مع الولاة بين من ارتمى في أحضانهم وجعلهم أربابًا من دون الله فيحل ما أحلوه وإن كان حرامًا في الشرع ، ويحرم ما حرموه وإن كان حلالاً في الشرع ، وبين من دعا للخروج عليهم وسفك دمائهم ووقع فيهم تكفيرًا وتبديعًا زاعمًا أنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقوله المعتزلة ، بل هو أصل من أصولها ، فجاء أهل السنة فقرروا أنه تجب طاعتهم ولا يجوز الخروج عليهم بقولٍ ولا بفعلٍ إلا إذا رأينا كفرًا بواحًا عندنا فيه برهان صحيح وغلب على الظن الغلبة بلا دماء ، وأنه تقام خلفهم الجمع والجماعات ، ويجاهد ويحج معهم ولا يتخلف عن ذلك إلا مبتدع ، ولكن الطاعة إنما تكون في المعروف وأنه لا معصية لمخلوقٍ في معصية الخالق ، ويدينون لله تعالى بمناصحتهم والإنكار عليهم بالطرق الشرعية التي لا توجب فسادًا ولا سفك دماء ، وهذا المذهب هو الوسط بين من أطاعهم الطاعة المطلقة وبين من يدعو إلى الخروج عليهم وعصيانهم في كل أوامرهم .
... ومنها : وسطيتهم في باب الكرامات ، بين من جعل كل أمرٍ خارقٍ للعادة من الكرامات ، ولو ظهر على يد أفجر الخلق ، وبين من أنكر الكرامات جملة وتفصيلاً ، وتقدم مذهب أهل السنة في الكرامات وهو المذهب الحق بلا ريب لأنه قائم على منهج الوسطية .
... ومنها : وسطيتهم في مسألة تسيير العبد وتخييره بين من قال بأنه مسير مطلقًا وهم الجبرية ، وبين من قال مخير مطلقًا وهم القدرية ، فقال أهل السنة : (( العبد مسير باعتبار سبق الكتابة ، ومخير باعتبار دخول الفعل تحت قدرته واختياره )) .(1/131)
... ومنها : وسطيتهم في مسألة التعامل مع القبور وأصحابها بين من لم يعرف للقبور قدرًا ولم يقم عليها وزنًا وبين من غلا فيها وعظمها التعظيم الزائد حتى جعلها أوثانًا تعبد من دون الله .
... ومنها : وسطيتهم في مسألة تعليق الكلام بالمشيئة بين من يعلق كل كلامه بالمشيئة ، وبين من لا يعرف للمشيئة طريقًا ، فقال أهل السنة : يعلق الكلام بالمشيئة في أحوال ولا يعلق في أحوال ، فيعلق بها في الكلام المستقبلي الذي لم نتحقق وقوعه بالدليل ، ويعلق بها أيضًا في الأمور الغيبية، ولا يعلق بها في الدعاء وفي الأمور التي مضت وانقضت، وهذا هو عين الوسطية .
... ومنها : وسطيتهم في باب التعامل مع الأولياء ، بين من لم يقم لهم وزنًا ولم يعرف لهم قدرًا ، بل يقع فيهم ثلبًا وسبًا وشتمًا وقدحًا وأذىً وغير ذلك ، وبين من رفعهم إلى منازل الألوهية فاعتقد فيهم أنهم يتصرفون في أمر هذا العالم كما هو معتقد غلاة الروافض والقبوريين والصوفية ، فقال أهل السنة : الأولياء لهم المنزلة العالية والمراتب السامية ، لكنهم عبيد لله تعالى لا يملكون مع الله تعالى في خلقه وأمره لا نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ولا تدبيرًا ولا تصريفًا ، فعرفوا قدرهم وأنزلوهم منزلتهم ولم يرفعوهم عن هذه المنزلة التي أنزلهم الله إياها ، وهذا هو الوسطية .
... ومنها : وسطيتهم في باب تعليق الإيمان بالمشيئة بين من يوجبه مطلقًا ، وبين من يمنعه مطلقًا ، فقالوا : إن كان المراد كمال الإيمان فلابد من تعليقه بالمشيئة وإن كان المراد به أصله فيمنع تعليقه بها .
... فهذه بعض الأمثلة على هذه القاعدة ، ولأهميتها فقد أفردها بعض أهل العلم في تأليف خاص ، وقد اعتمدناها في جملة قواعد أهل السنة في كتاب القواعد المذاعة ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س358: من المعتزلة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ وما أبرز أصولهم التي يقوم عليها مذهبهم ؟ مع توضيح المراد بها .(1/132)
... ج358: المعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء ، وهي فرقة ظهرت في أوائل القرن الثاني ، وسلكت منهجًا عقليًا متطرفًا في بحث العقائد الإسلامية .
... وسموا بذلك : لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري لما خالفه في حكم مرتكب الكبيرة ، فاعتزله وجلس عند سارية يقرر هذا المذهب ، فاجتمع معه بعض الأتباع كعمرو بن عبيد وغيره ، فسمي واصل ومن جلس إليه بالمعتزلة ، لاعتزالهم حلقة أهل السنة وأهل الحديث .
... ومذهبهم مبني على خمسة أصول وهي التي يسميها أصحابها الأصول الخمسة :
... التوحيد : ويقصدون به نفي صفات الله تعالى ، بحجة أنهم لو أثبتوا الصفات لاستلزم ذلك تعدد القدماء ، فلابد من توحيد الله بالقدم ، ولا يمكن ذلك إلا بإنكار الصفات وتحريفها ، وبه تعلم موقف المعتزلة في باب الأسماء والصفات ، فإنهم ينكرون الصفات جميعها ، ويثبتون الأسماء بلا صفات ، فأسماء الله تعالى عندهم أعلام محضة لمجرد التعريف فقط ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة جهمية نفاة .
... والأصل الثاني عندهم العدل : ويقصدون به إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى ؛ لأنهم يعتقدون أن العبد هو الذي يخلق فعله وأنه لا تعلق أبدًا لأفعال العباد بمشيئة الله تعالى ، فالعبد هو الذي يوجد فعله استقلالاً ، وبه تعلم أن المعتزلة في باب خلق أفعال العباد قدرية مجوسية ثنوية .(1/133)
... والأصل الثالث عندهم الوعد والوعيد ، ويعنون به أنه يجب على الله تعالى إنفاذ وعده ووعيده ، فلا يجوز على الله تعالى أن يخلف شيئًا مما وعد به ولا مما أوعد به ، وأصلهم هذا مخالف لما قرره أهل السنة في باب الوعد والوعيد ، فإن أهل السنة قالوا في الوعد : إن العبد لا يستحق بنفسه شيئًا على الله تعالى ، واتفق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على أن الله تعالى لا يخلف وعده أبدًا ، لكن لا لأن العبد يستحق ذلك بنفسه ، وإنما لأن الله تعالى أوجب ذلك الوعد على نفسه لعبده تفضلاً منه وإحسانًا للعبد ، والله تعالى لا يخلف الميعاد ، فالله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبًا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما يقوله المعتزلة ، وبذلك تعرف الفرق بين المذهبين .
... وخلاصته أن نقول : إن المعتزلة قالوا : إنفاذ الوعد واجب ، وقال أهل السنة : إنفاذ الوعد واجب ، لكن قال المعتزلة : واجب بحكم استحقاق العبد له ، وقال أهل السنة : واجب بحكم الوعد تفضلاً وإحسانًا ومنَّة .
... وأما الوعيد فالمذهب فيه عند أهل السنة : أن الله تعالى قد يخلفه إحسانًا منه وتفضلاً ورحمة وجودًا وكرمًا على من استحق شيئًا من وعيده ، فيجوز أن يعفو الله تعالى عن المذنب ويخرج أهل الكبائر من النار فلا يبقى فيها أحد من أهل التوحيد ، والله أعلم .
... والمقصود : أن المعتزلة يقصدون بهذا الأصل تخليد أصحاب الكبائر في النار ، وهم في هذا الاعتقاد خوارج مارقة وعيدية .(1/134)
... والأصل الرابع عندهم : المنزلة بين المنزلتين ، وهي من أوائل أصولهم ، وهي التي بسببها سموا معتزلة كما ذكرت آنفًا ، ويعنون به أن مرتكب الكبيرة خرج من مسمى الإيمان ، ولكنه لم يدخل في مسمى الكفر ، بل أصبح بفعل الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر ، فلا هو مؤمن ولا هو كافر ، بل هو بين المنزلتين ، وهذا كلام ساقط ؛ وذلك لأن تقابل الإيمان والكفر الأكبر تقابل نقيض ، فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، فلما سلبوا مطلق الإيمان عنه لزمهم وصفه بالكفر ، لكن لأنهم خناثر للخوارج هابوا من وصفه بالكفر الصريح فتستروا وراء هذه اللفظة ، والدليل على ذلك حكمهم عليه في الآخرة ، فإنهم يخلدونه في النار الخلود الأبدي ، وهل يخلد في النار أبدًا إلا الكفار الكفر الأكبر ؟
... والأصل الخامس والأخير عندهم : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقصدون به استعمال السيف والخروج على الأئمة بسبب ضلالهم وطغيانهم ، فهم يجيزون الخروج على السلطان إذا فعل الكبيرة ووصف بالفسق ، وأما أهل السنة فقد تقدم لك كيفية تعاملهم مع الحكام في سؤال مستقل .
... فهذه هي أصولهم ، فهي وإن كانت بعض أسمائها براقة إلا أن معانيها خاطئة زائغة عن الحق ، لكنهم يعبرون عنها بهذه الأسماء لتقبلها النفوس وتروج عند الأتباع ، فهذا جواب هذا السؤال باختصار شديد ، والله أعلم .
* * *
... س359: من الجهمية؟ مع ذكر بعض عقائدهم في بعض المسائل، وهل هم من فرق الأمة؟
... ج359: الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، الذي أخذ مقالة التعطيل عن الجعد بن درهم ، وهو الذي أذاعها ونشرها ، فنسبت الفرقة إليه ، وقتل الجهم في خراسان سنة 128هـ ، وهم من أخبث الطوائف وأضلها وأبعدها عن الحق .
... ومذهبهم في الصفات والأسماء إنكارها وتعطيلها ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة ، بل هم رؤوس المعطلة .(1/135)
... ومذهبهم في أفعال العباد الجبر ، أي أن العبد مجبور على فعله ، فيسلبون العبد مطلق القدرة والاختيار ، فهم في باب القدر جبرية .
... ومذهبهم في الوعد الوعيد الإرجاء ، أي أنه لا يضر مع الإيمان فعل الكبائر ما خلا الشرك ، فهم في باب أسماء الأحكام والدين يقال لهم المرجئة .
... ولذلك فإن كثيرًا من أهل السنة المتأخرين يخرجونهم من جملة طوائف الأمة ؛ لأنهم كفار الكفر الأكبر ، وقد ذكر بعض أهل السنة الإجماع على ذلك ، ويعني به إجماع المتأخرين ، والله أعلم .
* * *
... س360: من الخوارج ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم ؟
... ج360: الخوارج هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخرجوا على الأمة الإسلامية .
... ولذلك سموا بالخوارج لخروجهم على إمام المسلمين والأمة الإسلامية .
... وهم من أوائل الفرق خروجًا ، ويقال لهم : الحرورية نسبة إلى حروراء موضع بالعراق قرب الكوفة ، وهم يوصفون بأنهم من أشد الناس تدينًا كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة )) .(1/136)
... وهم يستحلون قتل المسلمين ويجعلون ديارهم ديار حرب ، وهم يكفرون أهل التحكيم كعلي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، ومن شارك في القتال ورضي بالتحكيم ، وينكرون الأخذ بالسنة ، فلا يأخذون بها جملة وتفصيلاً ، ويكفرون مرتكب الكبيرة ، ويعتقدون أنه إن مات مصرًا عليها فهو خالد في النار أبدًا كخلود الكفار ، وينكرون الشفاعة في الآخرة ، ويقولون في كثير من الصفات كقول الجهمية ، فينكرون الرؤية ، ويقولون : إن القرآن مخلوق ، ويحرفون سائر الصفات ، وقد تفرقوا أحزابًا وتمزقوا شيعًا وصاروا طوائف كثيرة ، ومن أخبث فرقهم في هذا الزمان الإباضية ، فإنهم هم الخوارج ، والله أعلم .
... س361: من الأشاعرة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم .
... ج361: الأشاعرة هم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهذه الفرقة تنسب إليه ، وقد تاب وعاد إلى مذهب أهل السنة وألف في ذلك بعض الكتب ، ولكن لم يسلم من بعض الألفاظ الكلامية حتى ولو بعد توبته - فنسأل الله تعالى أن يعفو عنه ويغفر له - .
... والأشاعرة في باب الأسماء والصفات معطلة ، فهم يثبتون الأسماء ، ولكن لا يثبتون من الصفات إلا الصفات السبع فقط ، وهي : الحياة ، والكلام ، والبصر ، والسمع ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة فقط ، مع اختلاف مع أهل السنة في طريق إثباتها ، ويسمونهها بالصفات العقلية .
... وهم في باب القدر مرجئة ، لأنهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، بل ويخرجون القول أيضًا ويزعمون أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي فقط ، وأما القول والعمل فهما فضلة زائدة لا تأثير لوجودهما ، ولا لعدمهما في زيادة الإيمان ونقصه ، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص ، وهم في باب القدر جبرية لاعتقاد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ، والله أعلم .
* * *
... س362: من الرافضة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر أبرز عقائدها وأصولها .(1/137)
... ج362: الرافضة هم الذين يغلون في آل البيت ويرفعونهم عن مرتبة البشرية إلى مرتبة الإلهية ويضفون عليهم من الصفات والأفعال ما لا يليق إلا برب الأرض والسماء ويفضلون علي بن أبي طالب على سائر الصحابة ، وبعضهم يعتقد أنه هو الرسول ولكن الملك أخطأ في الرسالة .
... وسموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، فإنهم قالوا له : ما قولك في أبي بكرٍ وعمر ؟ فقال : هما وزيرا جدي - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فانصرفوا عنه ورفضوه .
... ويقال لهم الشيعة وذلك لتشيعهم لآل البيت وغلوهم فيهم .
... وأشهر طوائفهم الاثني عشرية وهم الذين يعتقدون أن الإمامة في الاثني عشر الذين آخرهم محمد بن الحسن العسكري صاحب السرداب - أعني سرداب سامراء بالعراق - .
... وقد ذكر أبو العباس - رحمه الله تعالى - في فاتحة كتابه منهاج السنة أوجهًا كثيرة في مشابهة الرافضة لليهود ، فهم بحق اليهودية الصغرى ، ولذلك فهم يلتقون مع اليهود في جوانب كثيرة ، فبينهم توافق وتجانس كبير يعرف ذلك من نظر في عقيدة الطائفتين .
... ومن أوائل عقائدهم الفاسدة : الإمامة ، وتكون بالنص ، وهم يعظمون هذا الأصل التعظيم المطلق .
... ومن عقائدهم الفاسدة : التقية ، وهي إظهار الموافقة للخصوم ، وإبطال التشيع وهذا يكون في أزمنة الضعف ، وأما في أزمنة القوة فناهيك عما يفعلونه بأهل السنة من التعذيب والقتل ، وفتح أبواب العدو عليهم .
... ومن عقائدهم الفاسدة : الرجعة ، فهم يعتقدون بأن إمامهم المزعوم الغائب في السرداب سيرجع ، فهم يقفون عند السرداب كل ليلة انتظارًا لخروجه ، وقد وضعوا دابة وسلاحًا ويهتفون باسمه ، وهكذا كل ليلة .
... ومن عقائدهم الفاسدة : عدم إقامة الجمع والجماعات إلا خلف إمام معصوم .(1/138)
... ومن عقائدهم : تعظيم القبور بالذبح ، والطواف ، والسجود ، والركوع ، والتقبيل ، والنذور ، فهم سادات عباد القبور ، وبخاصة القبور التي يزعمون أنها لآل البيت .
... ومن عقائدهم : تجويز المتعة .
... ومن عقائدهم : تجويز البدا على الله تعالى ، أي أنه يجوز على الله تعالى أن يفعل فعلاً ثم يبدو له عدم صلاحيته ، فينتقل منه إلى غيره ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .
... ومن عقائدهم : البراءة ، وهي قولهم : لا ولاء إلا ببراء ، أي أنه لا ولاء لآل البيت وخصوصًا علي بن أبي طالب إلا بالبراءة من الخلفاء الثلاثة : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان .
... ومن عقائدهم : المغالاة في آل البيت ، حتى أضفوا عليهم صفات الرب ، ولهم في ذلك أقوال ونقول يشيب منها الرأس .
... ومن عقائدهم : أن هناك مصحفًا آخر غير هذا المصحف ليس فيه مما في مصحفنا حرف واحد ، وقد رواها إمامهم في الحديث الكليني في أصوله الكافي .
... ومن عقائدهم : وجوب تعذيب النفس بالضرب بالسيوف والسلاسل حتى تسيل الدماء على الوجوه ، وأكثرهم تعذيبًا لنفسه أشدهم موالاة لآل البيت ، وهذا يفعلونه في يوم عاشوراء . وأقول : الحمد لله لقد كفينا مئونة ضربهم والتنكيل بهم ، فإننا لو تكلفنا ذلك لما وجدنا له سبيلاً ، فكفانا الله بأنفسهم .
... وبالجملة : فعقائد القوم ضحكة للعقلاء ومحطًا لسخرية أهل الألباب ، ولكن القوم لا عقول لهم تمنعهم من مواقعة ذلك ، ولا نُقُولَ تهديهم إلى الصراط المستقيم ، فذرهم في غمرتهم حتى حين ، وذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ، والله أعلم .
* * *
... س363: اذكر بعض الأوجه الدالة على صحة منهج السلف .(1/139)
... ج363: أقول : الأوجه الدالة على صحة منهج السلف كثيرة ، وقد استوفاها الشيخان أبو العباس وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى ورفع نزلهما في الفردوس الأعلى وخَلَّدَ ذكرهما إلى يوم القيامة وجزاهما خير ما جزى عالمًا عن أمته وجمعنا بهم في الجنة - ، وذكر الأوجه كلها يطول ، ولكن أذكر لك بعضها فأقول :
... الوجه الأول : أن منهج السلف الصالح مبناه على الدليل من الكتاب والسنة ، لأنهم لا يأخذون معتقداتهم إلا من الكتاب والسنة وليس لهم أصول أخرى ليسوقوا منها اعتقادهم ، ولاشك ولاريب أن الكتاب والسنة حق وصدق وصواب وما بني على الحق فهو حق ، وما بني على الصدق فهو صدق ، وما بني علي الصواب فهو صواب ، ومن قال بغير ذلك فهو قادح في الكتاب والسنة .
... إذًا فنقول : لما كان منهج السلف موافقًا للكتاب والسنة ، فهو يسير معهما حيث سارا ويقف معهما حيث وقفا ، لزم من ذلك أن يكون هو الصحيح والحق ؛ لأنهما - أي الكتاب والسنة - حق وما وافق الحق فهو حق ، والله أعلم .(1/140)
... الوجه الثاني : أن منهج السلف متوافق كل الموافقة مع ما كان يعتقده الصحابة والتابعون وتابعوهم ، ومن المعلوم أنهم - أي الصحابة والتابعون وتابعوهم - هم خير قرون الأمة بشهادة النص الصحيح الصريح ، وهذا المدح والثناء العظيم لم يكن ليحصل لو كان المنهج مخالفًا للكتاب والسنة ، فإن مخالف الكتاب والسنة حقه الذم لا المدح ، فلما مدحوا بذلك ومنحوا هذه الشهادة العظيمة دل ذلك على صفاء اعتقادهم ، وصحة مذهبهم ، وسلامة سبيلهم ، وأنهم أهل الهدى والصراط المستقيم ، وأهل العلم النافع والعمل الصالح ، وأن الحق معهم يدور حيث داروا ، بل وإن هذه الشهادة بالخيرية فيها حث للأمة اللاحقة أن تقتفي آثار الأمة السابقة ، وأن يترسموا خطاهم ويهتدوا بهديهم ، وإنك إذا سبرت فرق الأمة كلها لم تجد أشدهم شبهًا بالسابقين ، ولا ألزمهم اتباعًا لهم ، ولا أعظمهم موافقة لاعتقادهم ولا أبرهم قلوبًا ولا أشدهم تمسكًا بالكتاب والسنة إلا أهل السنة والجماعة ، فيلزم من ذلك أن يكون أهل السنة هم أهل الهدى وأهل المعتقد الصافي والصراط المستقيم ، وهم أهل الحق وأهل العلم النافع والعمل الصالح ، وذلك لموافقتهم لخير القرون في العلم والهدى والاعتقاد ، فالسبب الذي من أجله مدح السابقون متحقق في أهل السنة ، وهذا يفيدك صحة منهج السلف لتوافقه مع معتقد خير القرون ، والله أعلم .(1/141)
... الوجه الثالث : أن العقل السليم من الآفات والعلل والشبه والشهوات يفرض فرضًا قطعيًا لا نقاش فيه ولاشك ولاريب يخالطه تقديم الكتاب والسنة على كل شيء وألاَّ تعارض بقولٍ أو فعل أو قاعدة كلامية أو مذهب ما ، وهذا هو حال أهل السنة والسلف الصالح - رضوان الله عليهم - ، فإنهم يقدمون النقول على العقول وعلى آراء الرجال وعلى المذاهب وعلى شهوات النفوس ، فالنص عندهم هو الأصل وغيره الفرع ، وهو الميزان وغيره الموزون ، وهو المتبوع وغيره التابع ، وهو الأول والمقدم ، وغيره الثاني والمؤخر ، ولا تجد مذهبًا أو فرقة من الفرق إلا وعندها من مخالفة المنقول الشيء الكثير ، إلا أهل السنة والجماعة ، وهذا يدل على صحة منهجهم وسلامة طريقهم ، لأنه متوافق مع العقل السليم كل الموافقة ، وما وافق العقل السليم فهو صحيح ؛ لأنه لا يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح ، فقد توافر في منهج أهل السنة توافقه مع النقل وتوافقه مع العقل السليم وتوافقه مع منهج خير القرون .(1/142)
... الوجه الرابع : في بعض روايات حديث الافتراق الذي يصح لمجموع طرقه وتلقي الأمة له بالقبول والاعتماد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( كلها في النار إلا واحدة )) . قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، فهذا النص يشهد أن من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهو الناجي ، وإنك إذا نظرت إلى سائر الفرق لن تجد فرقة إلا وعندها من المخالفة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الشيء الكثير ، سواءً في اعتقاداتهم أو أعمالهم ، إلا أهل السنة والجماعة ، فإنهم الفرقة الوحيدة التي هي على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الاعتقاد وفي العمل ، وهذا يفيد أنها الفرقة الناجية ، ونجاتها دليل على صحة مسلكها وسلامة منهجها ، فإن النجاة ثمرة السلامة في الاعتقاد والعمل ، فهم الناجون بشهادة الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - .
... الوجه الخامس : أنك إذا نظرت إلى كل الفرق وجدت أن عقائدها تتكيف مع المتغيرات بالزيادة والنقصان ، كالقدرية كان أوائلهم ينكرون علم الله السابق بالأشياء مع إنكار تقديرها ، ولكن لما كان هذا القول مفضوحًا أنكره متأخروهم وأبوه ورفضوه ، وقالوا : يعلمها ولكنه لم يخلقها ، وهذا الاختلاف والاضطراب دليل الفساد .
... والرافضة كانوا في أول أمرهم ممثلة ثم صاروا في آخر الأمر معطلة .
... والمعتزلة كانوا فرقة واحدة ثم تفرقوا أحزابًا وشيعًا كل حزب بما لديهم فرحون ، وكل من جاء متأخرًا يزيد أصولاً ويحذف أشياء مما قرره السابقون في مذهبه .(1/143)
... وكل فرقة من هذه الفرق افترقت في اعتقاداتها إلى فرق شتى ، وكل فرقة منها تقرر أصولاً تخالف به الفرقة الأخرى ، وهم منتمون لفرقة واحدة ، فالخوارج صاروا فرقًا شتى ، والرافضة صاروا فرقًا شتى ، والصوفية صاروا فرقًا شتى ، وهذا الاختلاف والتنافر والتناقض دليل على فساد أصول هذه الفرق ، ولكن إذا نظرت إلى أهل السنة وجدت أنهم مؤتلفون لا يختلفون ومتحدون مؤتلفون لا يفترقون ، أصولهم واحدة ، وطريقهم واحدة ، وعقيدتهم واحدة ، يأخذه الآخر عن الأول ، واللاحق عن السابق ، غضًا طريًا واضحًا سهلاً بعيدًا عن الإغراب والغموض ، لا تشوبه شائبة ، ولا تكدر صفو مشربه شبهة أو شهوة ، قريب المأخذ ، سهل المدرك ، قوي الأساس ، ثابت لا يتغير ، واحد لا يتعدد ، صامد لا يهتز على كثرة من حاربه وكاد لأهله ، تقرأ الكتب الكثيرة فيه وكأنها لمؤلف واحد ، هو المذهب الذي ترتاح له القلوب ، وتنشرح له الصدور وتطمئن له النفوس ، ليس بين أهله اختلاف في أصوله وقواعده ، ولا تنافر في أدلته وثوابته ؛ لأنه مبني على أصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قد تأيدت بالدلائل مسائله ، وانتشرت بين البرية فضائله ، فهو الحق وما سواه فباطل ، وهو الصواب المقطوع به ، وما سواه فباطل مردود على صاحبه ، وهو الثريا وغيره الثرى ، وهذا كله دليل صحته ، وعلامة على خيريته ، فوا عجبًا لمن شك أو شكك في سلامته وصلاحيته ، إن هي إلا شِنْشِنَةٌ نعرفها من أخزم ، ونخالة فكر مزجت بحثالة قولٍ نسمعها ممن ضل وأجرم ، والله ربنا أعلى وأعلم .
... الوجه السادس : من المعلوم أن مذهب السلف يختلف عن مذهب الخلف ، ونعني بالسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وتابعيهم ، ونعني بالخلف المتأثرون بالمناهج الكلامية الفلسفية كالجهمية والمعتزلة والخوارج والشيعة والأشاعرة وسائر طوائف أهل الكلام .(1/144)
... فمذهب السلف يتنافر مع مذهب الخلف ، فحينئذٍ لا يخلو : إما أن يكون الحق مع السلف ، وإما أن يكون مع الخلف ؟ لا يمكن أن يقول مؤمن يدري ما يقول إن الحق مع الخلف ؛ لأنه يلزم عليه تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهذا أعظم القدح في خير قرون الأمة ، ويلزم عليه أيضًا أن من اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه كانوا أجهل الخلق وأضلهم وأبعدهم عن الهدى في أبواب الاعتقاد ، ويلزم عليه أيضًا أن الحق لم يزل خافيًا غامضًا ملتبسًا ، ولا يدرى عن حقيقة أمره ، حتى جاء أولئك المتأخرون الأوباش فاستخرجوه بغرائب الألفاظ ومستكره العبارات التي هي للألغاز والأحاجي أقرب منها إلى العلم والبيان والهدى ، ويلزم عليه أيضًا أن الصحابة قد ضلوا في هذا الباب - أي باب الاعتقاد - وأضلوا غيرهم ؛ لأنهم علموا الأجيال التي جاءت بعدهم أبواب الاعتقاد ، وأي كفر بعد هذا الكفر ، وأي زندقة بعد هذه الزندقة ، وأي قدح بعد هذا القدح ، ويلزم عليه أيضًا تفضيل الخلف على السلف ، وهذا هو الضلال بعينه ، فبالله عليك كيف تكون زبالات أذهان الفلاسفة ، وخرافات اليهود والنصارى أفضل وأكمل وأصح منهجًا من منهج السابقين الأولين ؟ أم كيف يكون هؤلاء المتهوكون الأفاكون الذي هم أعظم الناس شكًا وتيهًا وضلالاً وحيرة واضطرابًا أهدى من طريق محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من المهاجرين والأنصار ، رضي الله عنهم وأرضاهم ؟ أم كيف يكون من تربى في حظائر الفلسفة وتروى من بالوعة الباطنية القرامطة ، وعشعشت في عقله القواعد التي تناقض المعقول وتصادم المنقول أعلم وأحكم من الذين استنارت قلوبهم بنور الكتاب والسنة ، وترووا من معينها الصافي الذي لا شوب فيه ولا كدر وتربوا في حلقات خاتم الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليه - ونهلوا من العلم النافع المؤيد لنصوص الوحيين ؟ بالله عليك كيف يكون ذلك ؟(1/145)
... فهذا القول باطل كل البطلان ، لفساده في جميع نتائجه - أعني القول بأن الحق مع الخلف - ؛ لأنه مفضٍ إلى لوازم كلها فاسدة باطلة ، وقد تقرر في الأصول أن فساد اللازم دليل على فساد الملزوم ، فإذا بطل ذلك الأمر لزم الأمر الآخر وهو أن الحق مع السلف ، ومن كان الحق معه فمذهبه هو الصحيح ، وهذا هو الذي لا يجوز القول بغيره ، ولا تنس أن من جملة نواقض الشهادتين أن يعتقد العبد أن هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه ، فنعوذ بالله من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة ، والله أعلم .
... الوجه السابع : أن كبار المتعمقين في مناهج الخلف قد أعلنوها صريحة أنهم ليسوا على شيء وأن أصولهم وقواعدهم التي عظموها وأفنوا فيها أعمارهم وألَّفُوا فيها المؤلفات وأشغلوا في تقريرها الأوقات إنما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه بعد جهدٍ جهيد لم يجده شيئًا وأنها لا توصل إلى الهدى ولا إلى علم ، بل هي مجرد شبه وخيالات ظنوها حججًا مستقيمة فإذا هم يعترفون في آخر أمرهم أنها خرافات عقيمة ، فمنهم من أسعفه الله برحمته وهداه في آخر أمره إلى مذهب السلف ، ومنهم من بقي مترددًا في ضلاله ، ويعمه في غيِّه ، وهو معترف بأنه ليس على شيء ، لكنه لا يدري أي طريق الهدى . وهذه شهادة من هؤلاء بصحة مذهب السلف ، وقد تقرر في قواعد النقد أن الحق ما شهدت به الأعداء ، فقد قال كبيرهم الغزالي : (( أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام )) ا.هـ .
... ويقول كبير من أئمتهم :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائرٍ ... على ذقن أو قارعًا سن نادم
... ويقول الرازي وهو من هو في علم الكلام فإنه أسرف على نفسه في الحيرة والشك والاضطراب، له نهمة في ذلك ، فهو مغرم بالتشكيك لا التحقيق، فقد قال يخبر عن نهاية أمره :
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال(1/146)
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
... ثم قال : (( لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات { الرحمن على العرش استوى } ، { إليه يصعد الكلم الطيب } ، واقرأ في النفي : { ليس كمثله شيء } ، { ولا يحيطون به علمًا } ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )) ا.هـ .
... ويقول الآخر منهم : (( لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي )) ا.هـ .
... فهذه بعض اعترافات كبارهم كالغزالي ، والجويني ، والرازي ، والشهرستاني ، واعترافاتهم هذه دليل على فساد المذاهب الكلامية ، ورجوعهم إلى مذهب السلف بعد توغلهم في عمق الفلسفة ، دليل على صحة مذهب السلف وأنه المتوافق مع الفطر السليمة والأفهام المستقيمة ، والله أعلم .
... الوجه الثامن : أن السلف هم ورثة الأنبياء والمرسلين ، فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية وحقائق الإيمان ، ولا يمكن أبدًا أن يكون الحق إلا مع هؤلاء وإلا لفسدت العلوم وهلكت البشرية كلها ، فإن الخلف قد تلقوا ما عندهم من المجوس والمشركين وضلال اليهود واليونان ، أفيكون أعداء الله تعالى وأعداء الرسل أعلم وأحكم وأهدى من الرسل وأتباعهم ؟ لا والله هذا لا يكون أبدًا ولا يمكن للعقل السليم أصلاً أن يتصوره ، بل إن الذي ندين الله تعالى به أنه لا يجوز أصلاً عقد المقارنة بين المذهبين ؛ لأن مجرد عقد المقارنة تنقيص لمذهب السلف ولقد أحسن القائل :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصى
... فكيف بمن يفضل مذهب الخلف على السلف ؟ فالله المستعان .(1/147)
... الوجه التاسع : أننا لا نزال - ولله الحمد والمنة - نرى ونسمع ونقرأ انتصارات السلف بالحجة والبرهان ، وبالسيف والسنان ، فما يتبجح صاحب بدعة ببدعته ، ولا مفتون بقوله المخالف للكتاب والسنة إلا وقيض الله له من جنده من يريق دم بدعته ويقطعها من دابرها ، والأمثلة على ذلك كثيرة شهيرة .
... فالسلف هم المنصورون بالحجة والسيف ، فكلمتهم ظاهرة ، ورايتهم عالية لا تنزل أبدًا ، لهم من الله مؤيدًا ونصيرًا ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله عز وجل ، وهذا أمر يشهد به القريب والبعيد ، والموافق والمخالف ، وهذا ليس في زمن دون زمن ، بل في كل الأزمنة ، وما كان الله ليؤيدهم لولا أنهم على الحق ، وما كان الحكيم العليم ليديم نصرهم إلا لأنهم نصروه بإعلاء كلمته والجهاد في سبيله بالقول واليد والمال ، إذ من المعلوم أنه يمتنع في عدله وحكمته جل وعلا أن يديم نصر الباطل وأن يعلي كلمة السوء الإعلاء المطلق .
... فلما أدام الله عزهم وأعلا منارهم وثبت أقدامهم ونشر علومهم وأتم نصرهم على مخالفيهم بكل معاني النصر في كل الأزمان ومختلف مجاري الأحوال دل ذلك أنهم على الحق ، وأن مذهبهم هو الصواب الصحيح ، ومن قال بغيره فقد قدح في حكمة الله تعالى وعدله ونسبه إلى ما لا يجوز من وصف السوء - تعالى الله عن كل أوصاف النقص علوًا كبيرًا - ، وبهذا الدليل استدل بعض أهل العلم على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال مناظرته مع بعض النصارى ، فتدبره وأعد النظر فيه ، فإنه قوي ، لكن يحتاج إلى تمهيده ببعض المقدمات ، والله أعلم .(1/148)
... الوجه العاشر : إنه من المحال في العقول السليمة نسبة الصحابة إلى الجهل في باب معرفة الله بأسمائه وصفاته ؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أمته آداب الخلاء ، والطعام والشراب ، والنوم ونحوها ، وبينها لهم البيان الشافي الكافي ، ولا مقارنة بين هذه الآداب وبين باب معرفة الله بأسمائه وصفاته وغيرها من أبواب الاعتقاد ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين هذه الآداب البيان الكامل التام فإنه من باب أولى أن يكون بيانه لأبواب الاعتقاد أكمل وأتم ، وهذا من القياس الأولوي ، وهو حجة عند الجميع .
... ويقال أيضًا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بالنور والهدى ، فشريعته كلها نور وهدى ، وأعظم ذلك النور والهدى وأكبره وأهمه أبواب الاعتقاد ، فمن المحال مع عظم أهميته أن يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - غامضًا ملتبسًا حقه بباطله ، بل المتوافق مع كمال نصحه وتمام شفقته والقيام بأمانة البلاغ أن يكون بيانه لأبواب الاعتقاد أكبر وأعظم ، ولازم ذلك أن يكون الصحابة قد أخذوا الحظ الأوفر والنصيب الأكبر في بيان هذه الأبواب - أعني أبواب الاعتقاد - .(1/149)
... ويقال أيضًا : إن أبواب الاعتقاد هي أساس العمل وقاعدته ، وما عداه فثمرة وفروع له ، ومن المحال في المعقولات أن يهتم الشخص كل الاهتمام ببيان الفروع والثمرة ويترك القاعدة والأصل والأساس ، فهذا لا يجوز ظنه في أصغر داعية من دعاة الإسلام ، فكيف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وإذا تقرر لك ذلك وفهمته فهمًا جيدًا فإنه يلزم من ذلك كله أن يكون الصحابة قد حققوا هذه الأبواب التحقيق التام وفهموها الفهم الكامل ، وعرفوها المعرفة المطلقة ، وأنهم أهل الحق في هذه الأبواب ، فالهدى معهم ، والبر والإحسان في سلوك سبيلهم ، وليس مع من خالفهم في أبواب الاعتقاد إلا الضلال والتيه والحيرة والشكوك والأوهام ، ومخالفة المنقول ومناقضة المعقول ، فالحق كل الحق مع الصحابة ، والهدى كل الهدى مع الصحابة ، والبر والإحسان كله مع الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - ؛ وذلك لأن معلمهم ومدرسهم خير المعلمين وأعظم المدرسين - صلى الله عليه وسلم - .
... فهذه الأوجه العشرة فيها البيان الشافي لصحة السلف ، وليست هي كل الأوجه ، وإنما هذه أهمها ، والعذر ثم العذر من الإطالة في إجابة هذا السؤال ، فإنه مقصود هذا الكتاب - الذي أسأله جل وعلا أن يجعله مباركًا - ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س364: كيف التوفيق بين وصف القرآن كله بالتشابه والإحكام ، ووصف بعضه بالتشابه والإحكام ؟
... ج364: قبل البدء في الجواب لابد من ذكر الآيات أولاً ، فأقول : قال تعالى : { كتاب أحكمت آياته } ، وهذا وصف بالإحكام العام . وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا } ، وهذا وصف بالتشابه العام . وقال تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وأخر متشابهات } ، وهذا وصف لبعضه بالإحكام ووصف لبعضه بالتشابه .(1/150)
... ولا اختلاف بين هذه الآيات ولا تناقض بينها ، فإن الإحكام العام معناه الإتقان ، فالقرآن كله متقن الإتقان المطلق في ألفاظه ومعانيه وترابط آياته وعمق بلاغته وكبير إعجازه ووضوحه ؛ وذلك لأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق .
... والتشابه العام هو بعينه الإحكام العام ، أي أن بعضه يشبه بعضًا في أوامره وزواجره وأخباره وأمثاله ، فهو يصدق بعضه بعضًا ، ويؤيد بعضه بعضًا ، ويوافق بعضه بعضًا ، فهو متشابه في الكمال والإحسان والبلاغة والإعجاز والإتقان والائتلاف ، فالإحكام العام هو التشابه العام ، فلا اختلاف بين وصفه بالإحكام العام والتشابه العام ، والله أعلى وأعلم .
... وأما الإحكام الخاص والتشابه الخاص فلا تعارض بينها أيضًا ، وبيان ذلك أن يقال : المراد بالإحكام الخاص أي وضوح المراد وبيانه وظهور المقصود منه ، والتشابه الخاص هو ما خفي معناه ولم يتضح المراد به ، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى ، وبعضه متشابه خفي المعنى ، ويتضح الكلام على مسألة الإحكام الخاص والتشابه الخاص في هذه المسائل :
... المسألة الأولى : اعلم أن مسلك أهل العلم الراسخين الموفقين إذا ورد عليهم الأمر المتشابه الخفي في القرآن أن يقولوا : { آمنا به كل من عند ربنا } ، كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } ، فهذا مسلك الراسخين في العلم .(1/151)
... وأما مسلك الهالكين الزائغين فهو اتباع هذا المتشابه واعتماده والصدود عنه ومعارضة المحكم به ابتغاء الفتنة للمؤمنين وابتغاء تأويله ، كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } ، وفي الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب ... } فقال : (( فإذا رأيت )) وعند مسلم : (( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم )) .
... فاسلك منهج الراسخين في العلم فإنه النجاة والسلامة ، جعلنا الله وإياك منهم .
... المسألة الثانية : اعلم - رحمك الله تعالى - أن التشابه الخاص أمر نسبي - أي باعتبار صاحبه - ، فإنه قد يخفى على بعض أهل العلم ما لا يخفى على البعض الآخر ، وقد يكون متشابهًا في حق البعض ما هو محكم في حق الآخر ، وهذا يفيدك أنه - أي التشابه الخاص - أمر نسبي - أي بالنسبة إلى صاحبه - ، وبه تعلم أن التشابه ليس وصفًا ذاتيًا في الدليل - حاشا وكلا - ، بل الأدلة في ذاتها واضحة كل الوضوح ومحكمة كل الإحكام ، وإنما التشابه حصل في ذهن المجتهد - أي الناظر في الدليل - ، وذلك لقلةٍ في العلم وضعفٍ في الفهم ، بدليل أنه يتفاوت بين مجتهدٍ ومجتهد ، فليكن ذلك منك على ذكرٍ فإنه مهم جدًا ، والله أعلم .(1/152)
... المسألة الثالثة : اعلم - رحمك الله تعالى - أن عندنا صنفين من الأدلة لابد أن نفرق في الكلام على معانيها وكيفياتها التي هي عليه في الواقع ، وهي الأدلة التي تثبت وقائع اليوم الآخر ، وهي كثيرة في القرآن ، فالمتقرر عند أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفرودس الأعلى - هو أننا نعلم معانيها ونكل علم كيفياتها إلى الله تعالى ، وقد قدمنا ذلك في أسئلة خاصة ، ولكن أعدته هنا لأهميته ؛ وذلك لأن بعض من يتكلم على الفرق والمذاهب ينسب أهل السنة إلى الجهل بمعاني هذه الأدلة ، وهذه النسبة جهل إن كان صاحبها جاهلاً بحقيقة الحال ، وظلم وغواية إن كان صحابها يريد التلبيس على العامة ، وإلا فأهل السنة يعلمون معاني أدلة الصفات واليوم الآخر ، فيعلمون معنى السمع ، والنزول ، والبصر ، والوجه ، واليد ، والعلو ، والاستواء ونحو ذلك ، ولكنهم لا يعلمون كيفياتها على ما هي عليه في الواقع .
... وقد ذكرت لك أن القاعدة المتقررة عند أهل السنة أن آيات الصفات نعلمها من جهة معانيها ونجهلها من جهة كيفياتها ، وكذلك نحن نعلم معنى انشقاق السماء ، وانكدار النجوم ، وتكوير الشمس ، والقمر ، والميزان ، والصراط ، ونعلم معاني أسماء ما في الجنة من النعيم ، وما في النار من العذاب الجحيم ونحو ذلك ، ولكننا نجهلها من جهة كيفيتها التي ستكون عليه في الواقع .(1/153)
... وبالجملة : فأهل السنة - رحمهم الله تعالى - يعلمون معاني الصفات ونصوص اليوم الآخر ، لكنهم يكلون علم كيفياتها إلى الله تعالى ، أي : أن آيات الصفات واليوم الآخر محكمة من قبل معانيها ، متشابهة في كيفياتها ، أي : أنه قد اتضح المراد منها في معانيها ، وخفي علينا المراد من كيفياتها ، وهذا الخفاء في كيفياتها أمر عام لكل أحدٍ من المكلفين وهو التشابه الحقيقي ؛ لأنه لم ير ، ولم ير نظيره ، ولم يخبرنا الصادق عن حقيقة كيفيته ، وليس ذلك لعيب في الأدلة أو أنها في ذاتها متشابهة - حاشا وكلا - ، وإنما القصور في عقولنا ، فإن كيفيات هذه الأشياء لا تحتملها عقولنا ، وليست داخلة في حدود مدركاتها وما خلقت له ، ولم يكلفنا الله تعالى في هذين الصنفين من الأدلة إلا بالإيمان بها وبما اتضح لنا من معانيها ، وبالعمل بمقتضياتها والاستعداد لها ، وأما الغوص في معرفة تفاصيل كيفية هذه الأشياء فلم نكلف به ، بل كلفنا باجتنابه والتباعد عنه ؛ لأنه دخول فيما لا دليل عليه وإقحام للعقل فيما ليس له فيه مجال .
... والخلاصة : أن آيات الصفات واليوم الآخر إنما تعلم من جهة معانيها لا من جهة كيفياتها ، وأهل السنة في هذا المذهب النبيل الكامل والمسلك السليم الفاضل وسط بين ضلالتين وهدىً بين غوايتين : بين المفوضة الذين يزعمون أنهم لا يعلمون المعاني ولا الكيفيات ، وبين أهل التمثيل الذين يزعمون أنهم يعلمون المعاني والكيفيات . فقال أهل السنة : بل المعنى معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
... فلا خفاء في المعاني ولا غموض فيها ولا لبس ، وإنما الخفاء في الكيفية فقط ، فانتبه لهذا - بارك الله فيك - فإنه مهم غاية الأهمية ، ونعوذ بالله من زلل البنان واللسان ، وخطأ الفهم وتحكم الهوى ، والله أعلم .(1/154)
... المسألة الرابعة : اعلم أن القاعدة في المتشابه أنه يرد إلى المحكم ، وهذا هو المخرج الشرعي الصحيح في هذه المتشابهات التشابه الخاص ، فما سلم في دينه من اعتمد الكلام في المتشابهات وخاض فيها وجادل بلا برهان ولا علم ، وإنما السالم في دينه هو من آمن بها وقال : { كل من عند ربنا } وردها إلى المحكمات الواضحات ، فاحفظ هذه القاعدة أعني قاعدة : (( المحكم مقدم على المتشابه )) أو تقول : (( المتشابه مردود إلى المحكم )) ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س365: ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابهًا ؟
... ج365: إن الحكمة في ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه ، الراسخ في علمه ، الذي يؤمن بالله وكلماته ، ويعلم أن كلام الله تعالى ليس فيه تناقض ولا اختلاف ، فيرد ما تشابه منه إلى المحكم ، ليصير بذلك كله محكم ، من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه ليضرب كتاب الله بعضه ببعض ، فيضل ويضل ، ويكون إمامًا في الضلال والشقاء ، فيفتن الناس في دينهم ويوقعهم في الحيرة والشك ، قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } ، فالحكمة من ذلك هي الابتلاء والاختبار ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س366: ما الأسباب التي بسببها ضل من ضل في أبواب الاعتقاد ؟(1/155)
... ج366: هذا سؤال عظيم النفع غزير البركة ، وقبل الإجابة عنه أقول : أنني لا أدري الآن هل كنت قد كتبته سابقًا أو لا ؟ لأنني أكتب الأسئلة درجًا تباعًا بلا فهرسة ، والطلبة يأخذون مني ما أكتبه أولاً بأول ، فإن كان قد سبق فالعفو والمعذرة ، وإن كان لم يكتب فهذا أوان كتابته ، والله يعفو عن الزلل وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه .
... فأقول : الأسباب كثيرة وأذكر لك أهمها :
... الأول وهو أعظمها وأخطرها : وهو إرادة الهدى من غير الكتاب والسنة ، فإن هذه الطوائف التي ضلت في هذا الباب لم تأخذ معتقداتها من الكتاب والسنة ، وإنما أخذت عقائدها ومناهجها من عقولها المجردة وأهوائها العفنة ، وما تمليه عليهم شياطينهم .
... وقد وردت الأدلة الكثيرة أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة أضله الله تعالى ، فهم لا ينظرون في الكتاب والسنة نظر من يطلب الهداية والحق ، وإنما نظر المجادل المعاند المستكبر الذي يصدق عليه قوله تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } ، ولا يخفاك قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ، كتاب الله وسنتي ... )) ، وغير ذلك من الأدلة التي قدمتها في أول الكتاب .
... الثاني : اختلاط النبع ، ونعني به أن هناك بعض الطوائف الإسلامية تأخذ بالكتاب والسنة ، ولكنها لم تقصر أخذ الاعتقاد عليهما ، بل عولت على مناهج أخرى ، كمناهج أهل الكلام وطرائق أهل الفلسفة ، فكدر هذا الأخذ الآخر أصل المنبع الشافي والمورد الكافي الصافي كالأشاعرة ، فهم لم يتركوا الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً ، بل أخذوا بهما ، لكن في بعض المسائل فقط ، ولكنهم عولوا على مذاهب الفلاسفة الأغبياء في باب الصفات والقدر وغير ذلك .(1/156)
... وهذا السبب وإن كان داخلاً فيما قبله إلا أنني أفردته بالذكر حتى لا يقول قائل : إن بعض هذه الفرق تذكر في مذاهبها واستدلالاتها الكتاب والسنة ، فذكرت لك لتعرف أن الاهتداء بالكتاب والسنة كافٍ لوحده بلا منابع أخرى تكدر صفوه ، فهذه الطوائف لم تقصر أمور اعتقادها على الكتاب والسنة ، بل أخذت بغير الكتاب والسنة في كثير من المسائل ، فالطائفة الأولى سبب ضلالهم تركهم الأخذ بالكتاب والسنة أصلاً ، والطائفة الثانية سبب ضلالهم تشريكهم في الأخذ من الكتاب والسنة أصولاً أخرى ومناهج مختلفة ومخالفة، والله أعلم .
... الثالث : عزل أدلة الكتاب والسنة عن فهم السلف الصالح ، فهم وإن أخذوا بآيات القرآن والسنة لكنهم لا يفهمونها كما فهمها السلف الصالح ، وإنما اخترعوا لها فهمًا آخر يكون في كثير من أحيانه مناقضًا المناقضة التامة لما فهمه السلف ، وهذا كثير جدًا .
... وقد ذكرت لك سابقًا أن فهم السلف شرط في فهم الكتاب والسنة وبخاصة مسائل الاعتقاد ، فلابد من هذين الأمرين ، فإن الهداية تحصل بمجموعها وهما : الأخذ بالكتاب والسنة ، ويكون ذلك الأخذ على فهم سلف الأمة ، فهؤلاء الضالون في أبواب الاعتقاد وإن أخذوا ببعض الكتاب والسنة إلا أنهم لم يفهموها الفهم الموافق لفهم السلف ، وهذه طامتهم وتلك بليتهم ، فإنهم اغتروا بفهمهم وتكبروا بذكائهم الفطري المجرد عن هداية الكتاب والسنة ، فضلوا وأضلوا ، ولله در أبي العباس - رحمه الله تعالى - لما وصفهم بقوله : هؤلاء أقوام أتوا فهومًا ولم يؤتوا علومًا ، وأتوا ذكاءً ، ولم يؤتوا زكاءً ، لهم سمع وأبصار وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . ا.هـ بمعناه .(1/157)
... الرابع : تحميل الأدلة مالا تحتمل أو التقصير عنها من حد دلالتها ، فهم بين طرفين : إما مُفْرِطٌ ، وإما مُفَرِّطٌ ، فترى طوائف منهم تذكر أشياء في الأدلة لم يدل عليها النص لا مطابقة ولا تضمنًا ولا التزامًا ، وتجد بعض الطوائف تبتر دلالة النص فتأخذ ببعضه وتترك بعضه ، وذلك كاستدلال بعض المتهوكين السفلة الحمقى على نفي الصفات بقوله تعالى : { قل هو الله أحد } ، فبالله عليك أين وجه الاستشهاد ؟ إن هو إلا قلة الأدب والسفه والتفاهة والغي والهوى ، وكاستدلال بعضهم على نفي الصفات أيضًا بقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } ، وغير ذلك مما تراه في كتبهم أو في كتب من نقل مقالاتهم مما لا ينقضي منه العجب .
... وتجد القدري الذي ينكر مشيئة الله تعالى يأخذ بقوله تعالى : { وما تشاءون } فقط ، وينكر قوله تعالى بعدها في نفس الآية : { إلا أن يشاء الله } ، وهذا السبب كثير فيهم ، فتجد بعضهم يأخذ ببعض الدليل أو الأدلة ويترك الطرف الآخر ، وتجد بعضهم يحمل الدليل أوجهًا من الاستدلال لا خطام لها ولا زمام ، فنعوذ بالله من هذه الطرق .
... الخامس : اتباع الأهواء وتحكيمها في الأدلة وعرض الأدلة عليها فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه واتهموه ، ولذلك فإن أهل السنة يطلقون على هذه الطوائف الضالة أهل الأهواء ، وهي في الحق تسمية مناسبة لهم كل المناسبة ، فهل وقع التمثيل فيما وقعوا فيه من تمثيل صفات الله بصفات خلقه إلا بالأهواء ، وهل وقع أهل التعطيل فيما وقعوا فيه من التعطيل إلا بالأهواء ، وهل وقع القدرية الجبرية فيما وقعوا فيه إلا بالأهواء ، وهل وقع الرافضة فيما وقعوا فيه إلا بالأهواء ، وغير ذلك مما هو معلوم من حال هذه الطوائف .(1/158)
... فالهوى إن لم يكن مضبوطًا بالكتاب والسنة فإنه مدخل إبليسي واسع ، وباب فتنة عظيم يجر على أصحابه العلوم الفاسدة والأعمال الطالحة ، ولقد عصم الله تعالى بمنه وفضله وحسن توفيقه أهل السنة من هذه الأهواء وسد أبوابها ؛ لأنهم يعتمدون ما اعتمده النص لا ما اعتمده الهوى ، ويتبعون ما جاء به النص لا ما قرره الهوى، قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به )) ، فاستعذ بالله من هذه الأهواء ، وليكن قائدك الدليل ، عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاء .
... السادس : تقعيد القواعد المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، فتجد هذه الطوائف الضالة تقعد بعض القواعد ثم تنزل عليها أدلة الكتاب والسنة وتلوي أعناق الأدلة حتى تتوافق مع هذه القواعد ، وإذا كانت نتائج هذا الإنزال لا تتناسب مع مذاهبهم فإنهم يقعون في الأدلة ردًا وتحريفًا وتعطيلاً وجحودًا ، كل ذلك حتى لا تنخرم هذه القاعدة ، فيحرفون كلام رب البشر صيانة لكلام حثالة البشر .
... ومثال ذلك أن القاعدة المتقررة عند عامة أهل الكلام أن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، وهي قاعدة باطلة كل البطلان نقلاً وحسًا وعقلاً ، لكنهم قعدوها وورثوها من فلاسفة اليونان الذين لا عقل عندهم ولا نقل ، فلما أنزلت أدلة الصفات على هذه القاعدة وبانت نتائجها رضي بها أهل التمثيل فمثلوا وأباها أهل التعطيل فعطلوها ، فما وقع أهل التمثيل في التمثيل إلا بسبب هذه القاعدة ، وما وقع أهل التعطيل في التعطيل إلا بسبب هذه القاعدة ، وما وقع المرجئة والوعيدية في إنكار زيادة الإيمان ونقصه إلا بسبب تقعيدهم للقاعدة التي تقول : الإيمان جزء واحد فلا يزيد ولا ينقص ، فخالفوا بهذه القاعدة أدلة الوحيين وعطلوها عن مدلولاتها الصحيحة صيانة لهذه القاعدة .(1/159)
... وما وقع الجبرية في القول بالجبر والقدرية في نفي القدر إلا بسبب تقعيدهم للقاعدة التي تقول : (( كل مراد لله فهو محبوب )) وهي قاعدة باطلة، فلم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية وغير ذلك ، فلأنهم قعدوا هذه القواعد المخالفة للكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة ضلوا وتاهوا في كثير من أبواب الاعتقاد ، وأما أهل السنة - رفع الله نزلهم في الفردوس العلى - فإنه لما كانت كل قواعدهم مستمدة من الكتاب والسنة كانوا هم أهل الهدى والحق ، فاللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وثبتنا على صراطهم المستقيم إلى الممات ، والله أعلى وأعلم .
... السابع : كثرة الجدال والخوض بالباطل بلا علم ولا برهان مع التعصب المقيت وحب رفع الذات ولو كان الحق في خلاف ذلك ، وهذا سببه ضعف التعبد لله تعالى وعدم تجرد النفس من الهوى ، قال تعالى : { ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } ، وقال تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( ما ضل قوم بعد هوى إلا أوتوا الجدل )) .
... فالمجادل بلا علم ولا برهان ضال ، لم يرد الله به خيرًا ، وهذه الطوائف تجادل بعد بيان الحق واتضاحه كل الوضوح ، ومع ذلك فلا يزالون من الحق في حيص بيص ، فكيف إن قيل ؟ وماذا لو كان كذا ؟ وهب أنه كان كذا وكذا فماذا يقال ؟ وغير ذلك من الأسئلة الجدلية العقيمة التي تزيد القلوب شكًا وتطمس نور البصائر ، قال تعالى : { يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } ، فكلما ازداد هؤلاء جدالاً كلما ازدادوا ضلالاً ، ولذلك قال الغزالي وقد كان كبيرًا من كبرائهم : (( أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام )) ا.هـ .(1/160)
... الثامن : تقديم العقول على النقول ، وهذا أصل من أصول فسادهم ، فإن النقل عندهم تابع للعقل ، والعقل مقدم عليه ، بل العقل هو الميزان ، والنقل هو الموزون ، والعقل هو المبتدع ، والنقل هو التابع ، ولذلك فإنهم يعرضون النقول على العقول ، فما وافقها أخذوه واعتمدوه وما خالفها ردوه سندًا إن كان آحادًا وقالوا : إن الآحاد لا يقبل في مسائل الاعتقاد ، وردوه معنى بالتحريف تارة والتعطيل تارة إن كان متواترًا بحجة أنه لم يتناسب مع عقولهم ، ألا فشاهت عقول القردة والخنازير ومن ارتضع من ثديهم ، والله أعلى وأعلم .
... التاسع : ضعفهم في معرفة لسان العرب ، وهذا أمر واضح فيهم كل الوضوح ، فإن الأدلة من الكتاب والسنة نزلت باللسان العربي المبين ، فيشترط أن يكون الناظر فيها ذا معرفة باللسان العربي ، فيعرف العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والأمر والنهي ، والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك ، ولكن هؤلاء الطوائف معرفتهم بلسان العرب ضعيفة ، فإن غالبهم من الأعاجم ويعرف ذلك من تتبع تراجمهم ، والله أعلى وأعلم .
... العاشر : الأخذ بالمرويات الضعيفة والنقول الكاذبة الموضوعة التي لا خطام لها ولا زمام ، ويظهر ذلك جليًا في مذاهب الرافضة ، فإنهم يبنون معتقداتهم على النقول الكاذبة والمرويات الباطلة التي يروونها - زورًا وبهتانًا - عن آل البيت ، والعجب من هؤلاء يتركون الأدلة الصحيحة المتواترة الصريحة ويعتمدون على هذه النقول الباطلة ، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هي خير ، وتجد هذا السبب واضحًا في كثيرٍ من الطوائف والفرق ، والله أعلم .
... فهذه بعض الأسباب وهي أهمها ، فنسأل الله تعالى أن يعافينا وإخواننا من كل فتنة وبلاءٍ ، والله أعلم .
* * *
... س367: من المقصود بأهل التخييل ، وأهل التأويل ، وأهل التجهيل الذين ذكرهم أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في الفتوى الحموية ؟ مع ذكر شيء من مذاهبهم .(1/161)
... ج367: أقول : هذه الطوائف الثلاث هم المنحرفون عن منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ ، في العقيدة والعمل ، فإنه قد تقرر لنا سابقًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه التابعين كانوا على الصراط المستقيم علمًا وعملاً ، فقد حققوا الإيمان بالله واليوم الآخر وأقروا بأن ذلك حق على حقيقته وهم في عملهم مخلصون لله تعالى ، متبعون لشريعته فلا شرك ولا ابتداع ولا تحريف ولا تكذيب ، وأما المنحرفون عن منهجه فهم طوائف ثلاث ، وهي هذه الطوائف التي ذكرها أبو العباس - رفع الله نزله في الفردوس الأعلى - في الفتوى الحموية :
... فأما أهل التخييل : فهم الفلاسفة والباطنية ومن سلك سبيلهم من المتكلمين وغيرهم ، وحقيقة مذهبهم أن ما جاءت به الأنبياء مما يتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو أمثال مضروبة وتخييلات لا حقيقة لها في الواقع ، وإنما المقصود بها انتفاع العامة وجمهور الناس ؛ لأن الناس إذا قيل لهم : إن لكم ربًا عظيمًا رحيمًا قادرًا قاهرًا سميعًا بصيرًا ، وأمامكم يومًا عظيمًا تبعثون فيه وتحاسبون فيه على كل صغيرة وكبيرة ، استقامت أمورهم وصاروا على الطريقة المطلوبة ، ولكن في حقيقة الأمر لا حقيقة لهذه الأخبار ، هكذا زعم هؤلاء الكفار الفجار .
... وقد انقسموا إلى قسمين : إلى غلاةٍ ، وغير غلاة .
... فأما غلاتهم ، فإنهم يزعمون أن الأنبياء أيضًا لم يكونوا يعلمون حقائق هذه الأمور وأنه قد لُبِّسَ عليهم ، فهم والعامة سواء ، وإنما الذي يعلم حقيقة هذه الأخبار هو الكبراء والأولياء من أهل مذهبهم ، فزعموا أن الفلاسفة والأولياء أعلم بالله واليوم الآخر من الأنبياء والمرسلين .(1/162)
... وأما غير الغلاة منهم ، فإنهم قالوا : إن الأنبياء والرسل كانوا على علمٍ يقيني بأنه لا حقيقة لهذه الأخبار ، ولكنهم قد كتموا ذلك لأنه سر الأسرار ونهاية الأخبار ، وهذان المذهبان للفلاسفة الباطنية كفر وإلحاد وزندقة ؛ لأنه تكذيب لله تعالى في خبره وتكذيب للرسل - عليهم الصلاة والسلام - في أخبارهم وإنكار عن علم وجحود للصفات ويوم المعاد ، وحقائق اليوم الآخر ، ونسبة للرسل الجهل والخيانة والكذب والغش والتدليس ، ولا أظن أحدًا يتوقف في كفر هؤلاء ، بل أقول : إن من شك في كفرهم بعد علمه التام بمذاهبهم في الصفات ويوم المعاد وما أخبرت به الرسل فإنه كافر ، وأما في بقية أمور التشريع فإن غالب هؤلاء يجعلون أدلة التشريع رموزًا وإشارات لا يعرف حقيقتها إلا خاصتهم ، فيقولون : إن الصلاة معناها معرفة أسرارهم ، والصيام معناه كتمان هذه الأسرار ، والحج معناه السفر إلى شيوخهم وغير ذلك ، وهؤلاء الملاحدة من الإسماعيلية والباطنية الذين نص على كفرهم أكثر أهل السنة ، فهذا بالنسبة لأهل التخييل والحكم عليهم .(1/163)
... وأما أهل التأويل : فهم المتكلمون من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم ، وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من نصوص الصفات لم يقصد به ظاهره وإنما المقصود به معانٍ تخالف ما يظهر منها ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ذلك ، ولكنه لم يظهره للناس وإنما ترك اكتشاف ذلك إلى الناس ليظهروها بعقولهم ، والغرض من ذلك امتحان العقول ، فيعطلون الله تعالى عن صفاته ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ويقحمون في الآيات معانٍ غريبة يزعمون أنها هي الحقيقة المرادة من هذه الآيات ، وهؤلاء أخطر على الإسلام من الفرقة الأولى ؛ لأن كفر الفرقة الأولى ظاهر واضح ، وقولهم ممجوج لا يقبله المسلم ولذلك فهم يتكتمون عليه ولا يظهرونه إلا لخواصهم ، وأما أهل التأويل فإنهم يتظاهرون بنصر السنة والذب عن حياضها ويلبسون ثوب المشفق الناصح للأمة والعامة ، فالاغترار بهم أكثر من الاغترار بغيرهم ، فهذا مذهب أهل التأويل في باب الصفات وهو تعطيلها وتحريفها ، وادعاء أنها مجازات لا يراد به ما يظهر منها .
... وأما مذهبهم في نصوص المعاد فهو الإيمان بها إجمالاً وإن كانوا يعارضون في بعض تفاصيلها ، وأنبهك على أمر مهم وهو أن بعض أهل السنة يقول : إن أهل التأويل لا يحرفون نصوص المعاد . وأقول : هذا القول فيه نظر ، فإن بعض طوائفهم تزعم أن الصراط كناية عن العدل لا أنه صراط حقيقي ، وهذا تحريف ، ويزعمون أن الميزان ليس له حقيقة ترى وإنما هو كناية عن إقامة الحق والحكم بالقسط فقط وهذا تحريف ، ويزعمون أن الجنة والنار لم توجدا بعد كما وأنهما تفنيان وتبيدان ، أو تفنى حركات أهلها كما يقوله بعض المعتزلة وهذا تحريف ، وهكذا في كثير من قضايا اليوم الآخر .(1/164)
... فالحقيقة أن أهل التأويل قد حرفوا عددًا كبيرًا من قضايا اليوم الآخر بإخراجها عن معانيها الصحيحة اللائقة بها ، إلى معانٍ أخرى ، أو نقول : إنهم آمنوا ببعض مدلولاتها وأنكروا بعضها ، فهذا حقيقة مذهب أهل التأويل في الصفات ونصوص المعاد .
... وأما أهل التجهيل : فهم الذين يزعمون أنهم لا يفهمون من نصوص الصفات ولا المعاد شيئًا ، بل هي عندهم بمنزلة من خوطب بلسانٍ لا يفهمه ، فيقرءون ألفاظًا فقط ، ولكن يعتقدون أن هذه الألفاظ لا يعرف معناها ولا سبيل إلى العلم بدلالاتها ، ويزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أيضًا لم يكن يعرف معاني هذه الألفاظ ، وهذا المذهب شر مذاهب أهل البدع والإلحاد كما ذكره الشيخ تقي الدين - قدس الله روحه في الفردوس الأعلى - .
... فهذا بالنسبة للكلام على هذه الطوائف الثلاث ، ولو أن شيخ الإسلام - رحمه الله - سمى أهل التخييل بأهل التخريف لكان أنسب ، ولو أنه سمى أهل التأويل بأهل التحريف لكان أنسب ، والله أعلم وأعلى .
* * *
... س368: ما حكم من يدعي علم الغيب ؟ مع بيان ذلك بالتدليل والتمثيل .
... ج368: الحكم فيمن يدعي علم الغيب أنه كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، لقوله تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ، وهذا خبر الله تعالى الحق الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .(1/165)
... وهذا المدعي لعلم الغيب مكذب بهذا الخبر القرآني ومصادم له وناقض لدلالته ، وقد تقرر في القواعد أن من كذب بشيء من أخبار القرآن فإنه كافر بهذا التكذيب ، وهذه الآية قد صدرت بقوله تعالى : { قل } ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا كان الله تعالى يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يعلن أمام الملأ جميعًا أنه لا يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله تعالى ، فغيره من باب أولى ، فقد تقرر في القاعدة القرآنية حصر علم الغيب له جل وعلا لا لغيره ، ومن المعلوم في اللغة أن الفائدة من الحصر إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه ، ومن قال بغيره فهو مكذب لدلالة هذا الخبر .
... وقال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا } ، فقوله تعالى : { فلا يظهر } هذا نفي ، وقوله : { أحدًا } نكرة ، فهو نكرة في سياق النفي ، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم فيدخل في ذلك النفي كل أحد ، الملائكة والأنبياء ومن دونهم من باب أولى إلا أن الله تعالى قد استثنى جل وعلا من ارتضاه من رسول فإنه يعلمه من الغيب بما أرد جل وعلا .
... وقال تعالى : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا } ، وهذا الإنكار دليل على أنه لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عهدًا من الله تعالى .
... ووجه الدلالة منه : أنه نفى اطلاعه على الغيب ، وقد ثبت في القواعد أن ما ثبت في حق واحدٍ من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة إلا بدليل الاختصاص ، فالاطلاع على الغيب منتفٍ في حقه وفي حق سائر الأمة إلا بدليل الاختصاص ، والله أعلم .(1/166)
... وقال تعالى عن نبيه نوح - عليه الصلاة والسلام - : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } ، وقال تعالى عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } ، فهذا أول الرسل وآخرهم يؤمرون بإعلان ذلك القول أمام الملأ بأسرهم بأنهم لا يعلمون الغيب ، فإذا كان هذا حال الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - فكيف يعتقد علم الغيب فيمن هو دونهم ؟
... وقال تعالى : { قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب } ، وقال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } ، وهذه المفاتح هي الأمور الغيبية الخمسة المذكورة في آخر سورة لقمان : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ... } الآية .
... وبناءً عليه فلا أحد يعلم الغيب لا ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من أطلعه الله على شيء من ذلك .
... وكذلك الجن لا مدخل لهم في علم شيء من أمور الغيب ، قال تعالى : { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } ، فعلم الغيب من خصائصه جل وعلا ، وإذا سمعت أحدًا ينسب علم الغيب لأحدٍ فقل له منكرًا عليه مقالته : { أعنده علم الغيب فهو يرى } .
... وخلاصة الجواب : أن من ادعى علم الغيب فهو كافر ومن صدقه في هذه الدعوى فهو كافر أيضًا .
... ومثال ذلك : الأبراج التي يضعها الكهنة على بعض صفحات الجرائد كبرج الثور وبرج الأسد والعقرب ونحو ذلك ، وهي معروفة ، فإن واضعها كافر لأنه مدع لعلم الغيب ومصدق ذلك كافر أيضًا إن كان عالمًا بحقيقة الحال .
... ومثال آخر : من يصدق السحرة فيما يدعونه من علم الغيب .
... ومثال آخر : وهو من يصدق الشياطين فيما تخبر به من أمور الغيب ، وكذلك من يصدق الكهنة ، والله تعالى أعلم وأعلى .
* * *(1/167)
... س369: ما الترياق الشافي والعلاج الكافي للوساوس الشيطانية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته ونحو ذلك ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة .
... ج369: العلاج الشافي والترياق الكافي هو الأخذ بهدي الكتاب والسنة اعتقادًا وقولاً وعملاً ، وتفصيل ذلك في عدة أمور :
... الأول : كثرة الاستعاذة بالله من هذه الوساوس ، وذلك لأن مصدرها الشيطان ، فإنه حريص على إدخال ما يكدر صفو الاعتقاد وما يوجب ضيق الصدر ، بل هذا من أكبر مقاصده ، وهو عدو يرانا من حيث لا نراه ، فطريق الخلاص من وساوسه أن نستعيذ بالله تعالى منه ومن وساوسه ، قال تعالى : { قل أعوذ برب الناس . ملك الناس . إله الناس . من شر الوسواس الخناس } ، وقد أعلمنا ربنا جل وعلا أنه بالاستعاذة يزول سلطانه عنَّا ، قال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } ، وهذا العلاج من أعظم ما يدافع به العبد هوى الواردات ، فالله تعالى جعل للشيطان سبيلاً على القلوب والنفوس ، والاستعاذة بالله منه تسد عليه هذه الأبواب التي ينفذ منها . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يأتي الشيطان أحدكم فيقول : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله عز وجل ، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته )) .
... فالوصية لمن يرد عليه شيء من ذلك أن يكثر من الاستعاذة بالله من هذا العدو المترصد اللدود الذي لا يرضيه إلا هلاك بنو آدم حسًا ومعنى .
... الثاني : الانتهاء عن هذه الوساوس وقطع التفكير فيها والاشتغال بغيرها وتغيير الحال الراهنة ، فإن كان وحيدًا فليطلب من يجلس معه ، وإن كان ساكتًا فليتكلم بشيء من ذكر وتسبيح أو قراءة قرآن ، ونحو ذلك ، بل ولو بحديث الدنيا النافع ، والمقصود أنه ينتهي عنها بغيرها ، ودليل ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وفيه : (( ولينته )) .(1/168)
... وبناءً عليه فلا يجوز الرضى بها - أي بمثل هذه الأفكار والوساوس - ولا الاسترسال معها وفتح أبواب العقل والروح أمامها ، فإنها هلكة مميتة ، وحفر عميقة ، من وقع فيها فقل عليه السلام .
... الثالث : أن يقول آمنت بالله ورسله ، ويكرر ذلك القول حتى يندحر عدو الله ويخف أثر وسوسته على القلب والعقل ، فإن هذه الكلمة تقطع دابره وتبعث اليأس في قلبه ، وفي هذا معاملة للخبيث بنقيض قصده ، فإنه يقصد بهذه الوساوس هز الاعتقاد في الله تعالى ، فإذا قلت : آمنت بالله ورسوله ، ازدادت حيرته وعظم كربه وندم على وسوسته ؛ لأنك بهذا القول قد جددت إيمانك واعتصمت بربك التجأت إليه وعذت به ، ولربما قد كنت غافلاً عن ذلك من قبل ، فذكرك إبليس بهذه الوسوسة ، فيصدق عليه أنه حفر حفرة فوقع فيها وأراد بك شرًا فقادك إلى خير ، ودليل هذا القول حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يزال الناس يقولون ما كذا ؟ ما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل : آمنت بالله ورسله )) متفق عليه .
... الرابع : أن يعلم العبد أن هذه الوساوس لا تدل على قلة الإيمان وضعف اليقين ، بل إنها ترد على الجميع إلا من عصمه الله تعالى ، وليعلم أيضًا أن نتائجها إذا عوملت بالعلاج الشرعي إنها طيبة ، فقد كانت هذه الوساوس تعرض لبعض الصحابة وهم أكمل الأمة إيمانًا وأعمقها علمًا ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، إنا لنجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : (( أوقد وجدتموه )) ؟ قالوا : نعم . فقال : (( ذاك صريح الإيمان )) .(1/169)
... وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل فقال : إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكوه حممة أحب إلي من أن أتكلم به . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة )) رواه أبو داود .
... فإذا كان مثل ذلك قد عرض لبعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم في عصر العلم ، فلأن يعرض لمن هو دونهم في العلم والإيمان من باب أولى ، فلا ينزعج العبد من مثل هذه الوساوس أو يتهم نفسه بقلة الإيمان أو أنه ضعيف التقوى ، كل ذلك لا يدل عليه مثل هذه الوساوس ، بل العكس هو الصحيح ، وهو أن مدافعتها ومقابلتها بالعلاج الشرعي هو صريح الإيمان ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - مطمئنًا لمن سأله عن ذلك : (( ذاك صريح الإيمان )) ، بل إن حرص الشيطان على إثارة مثل هذه الوساوس عليك دليل على وجود الإيمان الذي أخافه وأجلب بخيله ورجله عليه .
... ولما سُئل ابن عباس عن السبب الذي جعلنا نوسوس واليهود والنصارى لا يوسوسون قال : (( وماذا يريد الشيطان بالبيت الخرب )) ، فلو كان قلبك خاليًا من الإيمان لما حرص على مثل هذه الوساوس ، فأبشر بالخير ولا تخف ولا تنزعج ، فإن النتائج طيبة والعاقبة للمتقين ، والله المستعان .
... الخامس : أن تقنع نفسك وتذكرها دائمًا أن هذه الوساوس لا أثر لها ما دامت في حيز حديث النفس ووسوسة الصدر ، ولم تقرن بعملٍ أو قولٍ أو استرسالٍ تستطيع أن تدفعه عن نفسك ، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم )) وفي رواية : (( ما حدثت به أنفسها )) . وهذا من عظيم فضله جل وعلا وتبارك وتقدس .(1/170)
... واعلم أن التكاليف منوطة بالاستطاعة ، وليس في استطاعة العبد أن يمنع من ابتداء مثل هذه الوساوس الشيطانية، لكنه مكلف بما هو داخل تحت قدرته واستطاعته، وهو عدم العمل بها ولا التكلم فيها ، ومكلف بقطع الاسترسال معها وبمجاهدتها بالطرق الشرعية ، وهذه نعمة عظيمة ومنحة جليلة فالوصية لمن وقع له شيء من ذلك أن لا يؤثم نفسه ، ولا يجعله في عداد الذنوب والخطايا ، فإنه عفو بنص الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، لكن بالشروط المذكورة : وهي أن لا يقارنه عمل ، ولا يقارنه قول ، ولا يقارنه استرسال ، بل يبادر بقطع التفكير فورًا ، والله المستعان.
... السادس : أن يتجنب العبد ما يثير مثل هذه الوساوس ، ومن ذلك : السؤال عما لا يليق كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله )) ؟ فمبدأ الأمر مطلوب وهو السؤال عن العلم ، ولكن الانسياق وراء هذه الأسئلة حتى تصل الحال بالعبد إلى هذه المرحلة المغلقة ، فهذا هو الممنوع وصاحبه هالك ؛ لأنه هو الذي تسبب في إثارة ذلك بالتنطع بمثل هذه الأسئلة وفي الحديث : (( هلك المتنطعون )) .
... ومن ذلك : تجنب قراءة أو سماع الشبه في الأسماء والصفات خاصة ، فإن هذه الشبه تخطف القلوب وتطمس نور البصيرة ، وخصوصًا في وسائل الإعلام ، فاحذر من ذلك كل الحذر ، فلا تفتح الباب على نفسك ، فإنه إن فتح فإنه لا يكاد يغلق إلا بكلفة ، وأقبل على المعين الصافي والمورد العذب الشافي ، وهو كتاب الله وسنة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، وأَكْثِرْ من قراءة كتب السلف ، فإنها تعطيك العلم صافيًا لا شوب فيه ولا كدر .
... ومن ذلك : كثرة الجدال في باب الأسماء والصفات بلا علم ولا برهان ، وهذا أمر ممنوع شرعًا ، وهو عنوان الخاسرين المخذولين الذين لم يرد الله بهم خيرًا .(1/171)
... وغير ذلك ، والمقصود أن يتجنب العبد الأسباب التي من شأنها إثارة مثل هذه الأفكار المذمومة ، ومن القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع المفضية إلى الممنوع .
... السابع : الحرص التام على توطين النفس لطلب العلم الشرعي النافع وإشغال النفس به الإشغال التام ، وخصوصًا في أبواب المعتقد ، فأقبل على حلقات أهل العلم واجث بالركب عندهم وأطل ملازمتهم وانهل من معين علومهم وأخلاقهم وأقبل على وكتب السلف الصالح فأكثر من مطالعتها واستخراج فوائدها وأبرد حرارة ظمأ قلبك ببرد يقينه ، فطوبى لعبد أشغل وقته بمطالعتها ، ويا سعادة قلبٍ استقرت فيه علومها ، ودع عنك قيل وقال وخذ وهات وإضاعة الأوقات في الذهاب والإياب ، والله يحفظنا وإياك .
... الثامن : أن تقرأ سورة الإخلاص ، فإنه قد ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة : (( وليقرأ : { قل هو الله أحد } )) ، فالله تعالى هو الأحدُ في ذاته وفي صفاته وأسمائه وأفعاله ، والصمدُ الذي له من الصفات أعلاها وغاياتها ونهاياتها ، وهو الغني بذاته عن كل أحد ، فلا صاحبة له ولا ولد ، ولا أصول ولا فروع ، لأنه الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، الذي له الملك كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، المنفرد بالأحدية والصمدية والربوبية والألوهية ، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلا مكافئ له في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في أفعاله جل وعلا وتقدس وتنزه عن مماثلة المحدثات ، وتعالى جل وعلا عن الأوهام الفاسدة والظنون الكاذبة والاعتقادات الباطلة والأفكار العاطلة ، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ، فلا ندخل في هذه الأبواب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا .(1/172)
... التاسع : أن تكثر من دعاء الله تعالى بقلبٍ حاضر ونبرةٍ صادقة أن يملأ قلبك إيمانًا ويقينًا وثباتًا وعافية ، فلرب دعوة صادقة صارت سببًا لسعادة صاحبها في الدنيا والآخرة ، وكم وكم من البلاء الذي دفع ورفع بسبب الدعاء ، فعلق قلبك بالله تعالى بالإكثار من التضرع إليه والانطراح بين يديه واللجئ إلى جنابه ، فنعم المولى ، ونعم النصير ، ونعم العضيد ، والمعين والمؤيد ، ونعم المجيب ، فاجتهد في دعائه أن يرفع عنك هذه الوساوس وأن يجعل قلبك قلبًا سليمًا وأن يملأه خشية وتقوى ، ولا تستطل الدعاء ولا تستبطئ الإجابة ، وأبشر بالخير فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، والله يحفظك من كل سوءٍ وبلاءٍ ، والله أعلم .
... العاشر : إذا زادت عليك هذه الوساوس ولم تذهب بالعلاجات السابقة وترقت معك حتى صارت من الوساوس القهرية ، فأوصيك بمراجعة بعض الأطباء النفسانيين الموثوقين في علمهم وديانتهم وأمانتهم ، فإن بعض هذه الوساوس تكون أسبابها اضطرابات نفسية ومزاجية بسبب زيادة بعض الإفرازات أو نقصها وعلاجها عند الأطباء النفسيين ولا عيب في ذلك فإن علم النفس علم له أدواته وقواعده ، وقد تحققت منه الفوائد العظيمة والعوائد الحميدة ، فلا ينبغي إهمال جانبه ولا إغفال أهميته ، فاذهب إليهم وأخبرهم بحقيقة ما تجده وستجد عندهم الخير - إن شاء الله تعالى - ، فهذا ما حضرني من العلاجات لمثل هذه الوساوس ، أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يعيذنا وإخواننا من هذه الوساوس إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو أعلى وأعلم .
... س370: ما أقسام التكفير عند أهل السنة مع التمثيل ؟
... ج370: التكفير عند أهل السنة نوعان : تكفير بالوصف الأعم أو العام ، وتكفير بالوصف الأخص أو الخاص .(1/173)
... ونعني بالتكفير بالوصف الأعم : أي أن يكون الحكم بالكفر متوجهًا إلى القول أو الفعل ذاته بغض النظر عن القائل أو الفاعل ، وذلك كقول أهل السنة : من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف به نفسه كفر ، ومن حلف بغير الله فقد أشرك ، ومن صرف عبادة لغير الله فقد أشرك ، ومن قال بخلق القرآن كفر ، ومن ترك الصلاة فقد كفر ، ونحو ذلك .
... فهذا يسمونه التكفير العام ، أي أن ذلك لبيان حكم هذه الأقوال والأفعال ، ولا يقصدون بذلك الحكم على كل فردٍ بعينه ، فهذا غير مراد لهم ، ومن فهم من كلامهم ذلك فقد غلا في الفهم ونسبهم إلى ما لم يقولوا به .
... والمقصود : أن التكفير العام جائز باتفاق أهل السنة ، فمتى ما ثبت بالدليل الشرعي الصحيح أن هذا القول أو هذا الفعل كفر ، فإنهم - رضي الله عنهم - يحكمون عليه بذلك ، ولكنهم لا يتعرضون إلى قائله أو فاعله إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع التي ستذكر آنفًا - إن شاء الله تعالى - .
... فقولهم : من قال بخلق القرآن فقد كفر ، لا يلزم منه تكفير كل قائل بذلك بعينه .
... وقولهم : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، لا يلزم منه تكفير كل مشبهٍ بعينه .
... وقولهم : من ترك الصلاة فقد كفر ، لا يلزم منه تكفير كل تارك بعينه .
... وقولهم : من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة كفر ، لا يلزم منه تكفير كل منكر بعينه ، وهكذا .(1/174)
... فالحكم بالكفر على هذه المقالات والأفعال إنما هو حكم عام ، والحكم بالكفر على وجه العموم لا يلزم منه تكفير كل أفراد العام بأعيانهم ، وذلك لأنه قد يتخلف في الشخص المعين شرط من شروط التكفير أو يوجد فيه مانع من موانعه ، فلا تلازم بين الحكم العام والحكم الخاص ، ولذلك فإنهم - رضي الله عنهم - قد قعدوا هذه القاعدة العظيمة في هذا الباب المهم والتي تقول : التكفير العام لا يستلزم تكفير الأعيان إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع ، فاحفظ هذه القاعدة كما تحفظ اسمك ، فإنه قد حصل بسبب الخلط بين التكفير العام وتكفير الأعيان مفاسد عظيمة وبلايا وخيمة لا زلنا نعايش آثارها إلى اليوم ، فالتكفير العام يشترط فيه النظر إلى حقيقة القول أو الفعل هل هو كفر أم لا ؟
... وأما تكفير الأعيان فإنه يشترط فيه النظر إلى توافر الشروط وانتفاء الموانع ، فإنها قد تتوفر في شخص وتتخلف في شخص ، ولذلك فإن المنقول الصحيح عن أهل السنة في تكفير الأعيان قليل جدًا مقارنة بما نقل عنهم من التكفير العام .
... وخلاصة القول : أن التكفير قسمان :
... التكفير العام : وهو أن يكون التكفير منصبًا على الأقوال والأفعال كما مثلنا سابقًا .
... والنوع الثاني ، التكفير للمعين : وهذا قد ورد فيه عن أهل القبلة ثلاثة أقوال :
... فقيل : بعدمه مطلقًا .
... وقيل : بفتحه مطلقًا .
... وقيل : بالوسطية ، وهو قول أهل السنة المشهور عنهم - رحمهم الله تعالى وأعظم لهم الأجر المثوبة وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالمًا عن أمته - .(1/175)
... وحقيقة قولهم في تكفير المعين : أنه لا يفتح مطلقًا ولا يغلق مطلقًا ، بل هو موقوف على تحقيق شروط معينة وانتفاء موانع معينة ، فإذا توفرت في المعين شروط التكفير وانتفت موانعه حكم بالكفر عليه عينًا ، ومن تخلف فيه شرط من شروط التكفير أو وجد فه مانع من موانعه فإنه لا يحكم عليه بالكفر عينًا ، وهذا الكلام فيمن كان من أهل القبلة ، وأما من شهد النص من الكتاب وصحيح السنة بكفره عينًا فهذا لا كلام لنا فيه ، وقد قدمناه سابقًا ، وأما المعين من أهل القبلة فإنه لا يحكم عليه بالكفر عينًا بقولٍ أو فعل يقتضي التكفير إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
... ومن باب زيادة التسهيل أقول : التكفير قسمان : التكفير العام وهو جائز باتفاقهم ، والتكفير للمعين وهو موقوف على تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، والله أعلم .
* * *
... س371: ما الشروط والموانع التي يتوقف عليها كفر المعين مع بيانها بالأدلة والتمثيل ؟
... ج371: أقول : إن العلم بهذه الشروط من واجبات الأعيان على من أراد الحكم على المعين بالكفر لوقوعه في شيءٍ مما يقتضي الكفر ، ولا يمكن أن يكون الحكم سليمًا موافقًا للحق إلا بالعلم بذلك ، ودونك هذه الشروط بأدلتها وشيء من أمثلتها :
... الأول : العقل ، أي أن يكون قائل الكفر أو فاعله عاقلاً ، وضد العقل الجنون ، فالعقل شرط والجنون مانع .
... وبناءً عليه : فمن فعل شيئًا من المكفرات قولية كانت أو فعلية وهو مجنون فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو العقل ، ووجود مانع وهو الجنون ، وفي الحديث : (( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق )) وهذا الشرط متفق عليه بين العلماء ، والله أعلم.
... الثاني : البلوغ ، أي أن يكون قائل الكفر أو فاعله بالغًا وضد البلوغ الصغر ، فالبلوغ شرط والصغر مانع .(1/176)
... وبناءً عليه : فمن فعل شيئًا من هذه المكفرات قولية كانت أو فعلية وهو صغير لم يبلغ فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو البلوغ ووجود مانع ، وهو الصغر ، وفي الحديث السابق : (( وعن الصغير حتى يحتلم )) ، والله أعلم .
... الثالث : العلم ، أي أن يكون فاعل الكفر أو قائله عالمًا ، وضد العلم الجهل ، فالعلم شرط والجهل مانع .
... وبناءً عليه : فمن فعل شيئًا من المكفرات قولية كانت أو فعلية وهو جاهل بحقيقة الحال ومثله يجهل فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو العلم ووجود مانع وهو الجهل ، لكن لابد أن يكون ذلك الجهل من الجهل الذي يعتبر عذرًا في حقيقة الأمر ، وهو الذي يعبر عنه الفقهاء بقولهم : (( ومثله يجهل )) ، قال تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } والجهل نوع من الخطأ ، وقال تعالى : { لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها } ، وتكليف العبد بما لا يعلمه تكليف له بما لا يطاق ، وهو منتفٍ شرعًا ، وقد ذكر أبو العباس - رحمه الله تعالى - أن الجهل عذر معتبر مطلقًا أي سواءً كان في مسائل الشريعة أو العقيدة ، وذكر - رحمه الله تعالى - أن القول بعدم العذر في مسائل الاعتقاد مسلك المبتدعة ، أما أهل السنة فهم يعذرون الجاهل في كل المسائل ، لكن بهذا الشرط المعبر عنه بقولهم : (( ومثله يجهل )) .
... ويدل على ذلك أيضًا : حديث ابن عمر في الصحيحين في صلاة أهل قباء إلى القبلة المنسوخة ، فعذروا بذلك ، وسبب العذر الجهل بالدليل الناسخ ، فإذا كان هذا حال أهل قباء مع قربهم من المدينة فكيف بحال البعيدين عن المدينة ، فالكل قد عذر ولم يؤمر بالإعادة ، وسبب العذر هو الجهل .(1/177)
... وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث المسيء صلاته وأنه قال : (( والذي بعثك بالحق لا أحسن غيره فعلمني )) ، وذلك يفيد أن جميع صلواته السابقة كانت كهذه الصلاة التي قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( فإنك لم تصل )) ، ومع ذلك فلم يأمره بإعادة هذه الصلاة ، فلأن وقتها لا يزال حاضرًا وقد بلغه العلم الشرعي في الكيفية الصحيحة للصلاة في وقتها فلزمه إعادتها .
... وحديث عمر وعمار لما بعثهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجنبا فلم يجدا الماء ، فأما عمر فلم يصل وأما عمار فتمعك في الصعيد كا تتمعك الدابة ... الحديث ، رواه البخاري .
... ووجه الاستشهاد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصفة الشرعية ولم يأمر عمر بقضاء ما فاته ؛ لأنه تركه حال كونه جاهلاً بحقيقة الحال ولم يأمر عمارًا بالإعادة مع أنه لم يتطهر الطهارة الشرعية على الصفة الشرعية ، مما يدل على أنه عذرهما لجهلهما .
... ويدل عليه أيضًا : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الرجل الذي أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي فقال لأبنائه : (( إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في يوم ريح حتى لا يقدر عليَّ ربي فيعذبني )) والحديث في الصحيح ، فهذا الرجل وقع في مكفرين ، وقع في إنكار القدرة وإنكار بعث الأجساد ، ولكنه لم يكفر بدليل أنه قال في آخر الحديث : (( قد غفرت لك )) ، فلو كان كافرًا لما دخل في حيز المغفرة ، فلما غفر له علمنا أنه لم يكفر بقوله هذا ؛ لأنه كان جاهلاً بحقيقة القول ، فعذر لجهله ، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - .(1/178)
... ويدل عليه أيضًا : ما رواه مسلم عن عائشة قالت : لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي ... - فذكرت حديثًا طويلاً - وفيه أنها قالت : يا رسول الله ، مهما يكتم الناس يعلمه الله ؟ قال : (( نعم ... )) الحديث ، وهذا موضع الشاهد منه ، فهذه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها وأرضاها - سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل يعلم الله كل ما يكتم الناس ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( نعم )) ، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك من قبل ولم تكن قبل معرفتها بذلك كافرة وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان لكنها عذرت لجهلها بذلك ، مما يدل على أن العذر بالجهل من أصول الشريعة .
... ومن الأدلة أيضًا : قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ، وقال تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، فنفى الله العقوبة عن الذي لم تبلغه دعوة الرسل ، ومن باب أولى نفى العقوبة عمن كان مؤمنًا بالله ورسوله ولم يبلغه بعض ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فخالف فيه ، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة الرسالية ، والأدلة على ذلك الشرط كثيرة ، والمقصود أن العلم شرط والجهل مانع .
... الرابع : الإرادة ، ومعناه أن يفعل الفعل الكفري أو يقول القول الكفري مريدًا مختارًا طائعًا ، وضد الإرادة الإكراه ، فالإرادة شرط والإكراه مانع .
... وبناءً عليه : فمن فعل أو قال شيئًا من المكفرات وهو مكره على ذلك فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه ، وذلك لفوات شرط وهو الإرادة ووجود مانع وهو الإكراه ، قال تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) حديث حسن .(1/179)
... وهذا العذر عذر عام في الأقوال والأفعال الكفرية التي أكرهت عليها ، لا في الأقوال فقط ، فإن هذا تخصيص للدليل بلا مخصص ، والآية وإن نزلت على سبب خاص ، فإن المتقرر في القواعد : (( أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )) .
... والخلاصة : أن الإرادة شرط والإكراه مانع ، والله أعلم .
... الخامس : القصد ، ومعناه أن يقول الكفر قاصدًا حقيقة ذلك القول ، وأما من سبق لسانه بقول شيء من ألفاظ الكفر بلا قصدٍ فلا شيء عليه ، وهو الخطأ ، فالقصد شرط والخطأ مانع، والله تعالى لا يؤاخذنا إلا بما تعمدت قلوبنا، وأما الخطأ فهو معفو - ولله الحمد والمنة - ، قال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا } ، ولما قال الرجل : (( اللهم أنت عبدي وأن ربك )) ، قال - عليه الصلاة والسلام - معتذرًا عنه : (( أخطأ من شدة الفرح )) والحديث متفق عليه من حديث أنس - رضي لله عنه وأرضاه - .
... ووجه الاستشهاد من ذلك : أن هذا الرجل قال هذه الكلمة الكفرية بلا قصد ، وإنما أخطأ في هذا القول من شدة الفرح الذي داخله ، فعُذِر لأنه لم يك قاصدًا حقيقة هذا القول ، والله أعلم .
... السادس : عدم التأويل ، ومعناه أن يتلبس العبد بشيء من الأقوال أو الأفعال التي هي كفر من غير قصد لذلك ، ويكون سببه القصور في فهم الأدلة الشرعية دون تعمد للمخالفة ، بل هو يعتقد صواب نفسه وأنه على الحق ، وقد قال العلماء : كل متأول فليس بآثم ، بل هو معذور بتأويله ، بشرط أن يكون تأويله مما يسوغ في لسان العرب ، وهذا العذر يجب النظر فيه بعين الرحمة للخلق الموجبة لبيان الحق بيانًا شافيًا كافيًا ، مع العلم بأن الأفهام تختلف والمسائل قد يشتبه بعضها ببعض .(1/180)
... فعدم التأويل شرط ، ووجوده مانع ، لكن كما ذكرت لك أنه لابد أن يكون من التأويل السائغ في لغة العرب ، ولذلك فإن أهل السنة لم يكفروا الأشاعرة مع أنهم يحرفون الصفات الخبرية - أي ما عدا الصفات السبع - والمانع من ذلك وجود التأويل الذي يسوغ في لسان العرب ، فإنكارهم لبقية الصفات ليس إنكار جحودٍ وتكذيب ، بل إنكار تأويل سائغ في لسان العرب ، ولا يفهم من ذلك أننا نبرئهم من هذه المزالق الخطيرة التي وقعوا فيها ، بل المقصود أن نبين لماذا لم يكفرهم أهل السنة، وأزيد الأمر وضوحًا بذكر بعض الأدلة على ذلك:
... فمن الأدلة : أنه ثبت الثبوت الصحيح الصريح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه )) وقال : (( هم سواء )) رواه مسلم .
... وصح عنه أنه قال لمن باع صاعين بصاع : (( أَوَّهٌ عن الربا )) متفق عليه .
... وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( البر بالبر ربا إلا هاء وهاء ... )) الحديث .
... وغير هذه الأدلة ، وهي مفيدة بعمومها دخول نوعي الربا : ربا الفضل ، وربا النسيئة ، ثم إن الذين بلغهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الربا في النسيئة )) قد استحلوا بيع الصاعين بالصاع إذا كان يدًا بيد مثل ابن عباس - رضي الله عنه - وأصحابه ، وهم صفوة الأمة علمًا وعملاً ، فهل بالله يوصفون بشيء من أوصاف السوء بسبب هذه المخالفة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، وذلك لأنهم خالفوا عموم الأدلة السابقة متأولين تأويلاً سائغًا في الجملة فعذروا لذلك ، والله أعلم .(1/181)
... ومن الأدلة أيضًا : لما نزل قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } عمد عدي بن حاتم إلى عقالين فوضعهما عنده ، فصار يأكل ويشرب حتى تبينا ، فإذا الصبح قد طلع ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فوضح له المراد الصحيح من الآية ولم يأمره بإعادة ذلك اليوم الذي أكل في نهاره ، وذلك لأنه معذور بالتأويل السائغ ، فقد ظن - رضي الله عنه وأرضاه - صواب نفسه في هذا العمل ، فمخالفته - رضي الله عنه وأرضاه - ليست عن قصدٍ للمخالفة - حاشاه وكلا - وإنما كانت عن فهم للآية على غير وجهها الصحيح ، والله أعلم .
... ومن الأدلة أيضًا : ما ثبت في الصحيح من حديث أسامة بن زيد في قتله الرجل المشرك بعدما قال : لا إله إلا الله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله )) ! قال : يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح . الحديث
... ووجه الاستشهاد به : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب الدية على أسامة - رضي الله عنه - مع أنه قتل مسلمًا في الظاهر ، والمسلم معصوم الدم ، وهذا دليل على أنه عذره ؛ لأنه كان متأولاً في قتله هذا ، فإنه ظن أنه وإن قال : لا إله إلا الله ، فإنها لا تعصم دمه ؛ لأنه يريد بقولها التعوذ من القتل فقط ، ولا يريد حقيقة الإسلام ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك التأويل عذرًا له في إسقاط الدية عنه ، مما يدل على أن التأويل السائغ عذر في عدم الحكم بالكفر ، وأن عدم التأويل شرط من شروط التكفير ، ووجوده مانع من موانعه .(1/182)
... ومن الأدلة أيضًا : ما رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : (( بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ، ودفع إلى كل رجلٍ منا أسيره ، فقلت : والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره ، حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال : (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد - مرتين - )) .
... ووجه الاستشهاد به : هو أن خالدًا - رضي الله عنه وأرضاه - قتل هؤلاء خطأ وقد تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، ومع هذا لم يؤاخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يوجب عليه القصاص أو الدية ؛ لأنه كان متأولاً .
... ومن الأدلة أيضًا : قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، والتأويل السائغ لا يعدو أن يكون نوعًا من الخطأ فيدخل في عموم هذه الآية .
... ومن الأدلة أيضًا : ما رواه البخاري من قصة حاطب - رضي الله عنه - وفيها أن عمر قال : (( يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين دعني فأضرب عنقه ... )) الحديث .
... وفي الصحيح أيضًا من حديث جابر - رضي الله عنه - في قصة صلاة معاذٍ بأصحابه العشاء وأنه أطال عليهم الصلاة فاعتزل رجل وتجوز في صلاته فقال معاذ : (( إنه منافق )) الحديث .
... ووجه الاستشهاد بهما : أن عمر - رضي الله عنه - وصف حاطبًا بأنه خان الله ورسوله ، ومعاذ وصف الرجل بأنه منافق ، ومع ذلك فقد عذرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في رميهما ذلك لهذين المسلمين ؛ لأنهما - أي عمر ومعاذ - كانا متأولين في قولهما ذلك ، وهذا واضح .(1/183)
... ومن الأدلة أيضًا : حادثة سجود معاذ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - متأولاً في ذلك - إن صح الحديث - ، فإن معاذًا - رضي الله عنه - لم يرد التعبد له بهذا السجود ، وإنما أراد به التحية والتقدير ؛ لأنه رأى بعض أساقفة الشام يسجد بعضهم لبعض تحية وإكرامًا، فأراد أن يفعل ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومع ذلك فلم يحكم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء وإنما أخبره بأن ذلك لا يجوز وأنه لا يسجد إلا لله تعالى ، مما يدل على العذر بالتأويل ، لكن إذا صح الحديث وإن لم يصح ففيما مضى كفاية وهداية - إن شاء الله تعالى - .
... ومن الأدلة أيضًا : ما رواه محمد بن نصر المروزي بسنده عن طارق بن شهاب قال : (( كنت عند علي حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له : أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فروا . فقيل : فمنافقون ؟ قال : المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل : فما هم ؟ قال : قوم بغوا علينا فقاتلناهم )) ؛ وذلك لأنهم متأولون ، فعذرهم علي - رضي الله عنه - من أجل ذلك ، وعلى ذلك جرى عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين أدركهم الخوارج ، بل قال الإمام الزهري - رحمه الله تعالى : (( وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون فأجمعوا أن كل دمٍ أو مالٍ أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم منزلة الجاهلية )) .
... فهذه الأدلة تفيدك إفادة صريحة أن التأويل عذر من الأعذار المانعة من إطلاق الكفر على صاحبه ، فإذا تبين لك هذا فلابد من التنبيه على أمرين :
... أحدهما : أن يكون هذا التأويل مما يسوغ في لغة العرب ، وبناءً عليه : فمن جاءنا بتأويل لا مساغ له في لسان العرب فإنه لا يعذر به ، وذلك كمن قال : إن المراد بقوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } السماء والأرض ، فهذا في حقيقته تكذيب للنص واستهزاء به .(1/184)
... الثاني : أن لا يكون هذا التأويل في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وقبول شريعته ؛ لأن هذا الأصل الذي هو الشهادتان ، لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه ، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية وأنهم لا يعذرون بالتأويل ؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى وعدم عبادة الله وحده وإسقاط شرائع الإسلام ، فتأويلهم هذا يعود على أصل التوحيد والشرائع بالإبطال .
... فإذا تحقق هذان الشرطان فإن العذر بالتأويل أصل مهم من الأصول التي بها يعذر أهل السنة كثيرًا من المخالفين لهم .
... وبعد ذلك أقول : لقد تبين لنا شروط التكفير وموانعه وهي كما يلي :
... الأول : العقل ، فإنه شرط ، وضده الجنون وهو مانع .
... الثاني : البلوغ ، فإنه شرط ، وضده الصغر وهو مانع .
... الثالث : العلم ، فإنه شرط ، وضده الجهل وهو مانع .
... الرابع : الإرادة ، فإنها شرط ، وضدها الإكراه وهو مانع .
... الخامس : القصد ، فإنه شرط ، وضده الخطأ وهو مانع .
... السادس : عدم التأويل، فإنه شرط، وضده وجود التأويل وهو مانع، والله أعلى وأعلم.
* * *
... س372: اذكر لنا أمثلة على بعض نواقض الإيمان الاعتقادية والقولية والعملية إجمالاً ؟
... ج372: سمعًا وطاعة ، وقد تولى بعض العلماء - مشكورًا مأجورًا - الكتابة فيها بمؤلفٍ لم أطالع مثله في مثل هذا الموضوع المهم - فجزاه الله خيرًا ووفقه الله - ودونك هذه النواقض مختصرة فأقول :
... منها : القول بقدم العالم فإنه كفر بالاتفاق .
... ومنها : سب الله تعالى أو الاستهزاء به فإنه كفر بالاتفاق .
... ومنها : الاستعاذة بغيره في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا هو .
... ومنها : الاستعانة والاستغاثة بغيره في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا هو .
... ومنها : الذبح لغيره متقربًا للغير ومتعبدًا له بهذا الذبح .
... ومنها : سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الطعن فيه .
... ومنها : سب الأنبياء أو الطعن فيهم فإن ذلك كفر بالاتفاق .(1/185)
... ومنها : ادعاء النبوة فإنه كفر بالاتفاق .
... ومنها: اتهام أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله تعالى فهو كفر بالاتفاق.
... ومنها : إنكار معلوم من الدين بالضرورة .
... ومنها : القول بإنكار الملائكة فهو كفر بالاتفاق .
... ومنها : إنكار البعث ومعاد الأبدان فهو كفر بالاتفاق .
... ومنها : القول بإنكار وجود الجن فهو كفر بالاتفاق .
... ومنها : إنكار الوعد والوعيد أو الاستهزاء بهما .
... ومنها : دعاء غير الله في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإنه كفر بالاتفاق .
... ومنها : النذر لغير الله تعالى .
... ومنها : الحلف بغيره معظمًا لذلك الغير كتعظيم الله تعالى .
... ومنها : السجود للقبور أو الأولياء والركوع لها فهو كفر بالاتفاق .
... ومنها : اعتقاد أن بعض الخلق له نوع تصرف في الكون من إحياءٍ أو إماتة أو إنزال مطر وإجراء سحاب ونحو ذلك .
... ومنها : تقرير القوانين الوضعية المضادة لشريعة الله تعالى .
... ومنها : الحكم بهذه القوانين الحكم المطلق ، بحيث يحكم بها في كل مصادره وموارده .
... ومنها : اعتقاد أن في وسعه الخروج عن شريعة الله .
... ومنها : الإعراض التام عن شريعة الله فلا يتعلمها ولا يعمل بها .
... ومنها : سب الصحابة على وجه العموم أو القدح فيهم بما يوجب سقوط عدالتهم ، أو سب من تواترت الأدلة بإثبات عدالته وفضله وعلو مرتبته .
... ومنها : من اعتقد أن التميمة هي التي تجلب الخير وتدفع الشر بذاتها لا بتقدير الله تعالى .
... ومنها : الطواف على القبور بقصد تعظيم أصحابها واعتقاد أنهم يجلبون الخيرات ويدفعون المضرات .
... ومنها : السحر تعلمه وتعليمه .
... ومنها : إنكار علم الله إنكار جحود .
... ومنها : إنكار تقدير الله تعالى للأشياء أي من زعم أن لا قدر وأن الأمر أنف فإنه كافر.(1/186)
... ومنها : من اعتقد أنه لا حقيقة لما أخبرت به الرسل من نصوص الأسماء والصفات ونصوص البعث والجزاء والحساب ، وإنما هي خيالات يقصد بها استقامة أمور العامة ، من زعم ذلك فإنه كافر بالاتفاق .
... ومنها : الاستهزاء بشيء مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... ومنها : بغض شيءٍ مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... ومنها : ادعاء علم الغيب أو تصديق من يدعي ذلك .
... ومنها : من اعتقد أنه ليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد فإنه كافر بالاتفاق .
... ومنها : من اعتقد أن القرآن مخلوق فإنه كافر .
... ومنها : من جحد شيئًا من صفات الله تعالى فإنه كافر .
... ومنها : من شبه الله بخلقه فإنه كافر .
... ومنها : من جحد أو كذب بشيء من القرآن فإنه كافر .
... ومنها : من اعتقد أن الشريعة لا تصلح للقرن العشرين فإنه كافر .
... ومنها : من تحاكم إلى القوانين الوضعية المخالفة للشريعة وهو راض بذلك مقدمًا لها على التحاكم لله تعالى فإنه كافر .
... ومنها : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فإنه يكفر إجماعًا .
... فهذه بعض ما حضرني حال كتابة هذه النواقض ، ولا أقصد به الحصر وإنما المقصود التمثيل فقط ، والله أعلم .
... س373: ما القواعد المقررة في مذهب أهل السنة في باب الأسباب ؟ مع شيء من شرحها .
... ج373: إن باب الأسباب وارتباطها بآثارها له عند أهل السنة أهمية كبرى ، ولذلك فإنهم نظروا له نظر المؤصل له ، فذكروا في هذا الباب ثلاث قواعد مهمة جدًا ، كل قاعدة منها تعتبر فاصلاً بينهم وبين المبتدعة ، فلابد من حفظها وفهمها الفهم الجيد ، وسوف أحاول - إن شاء الله تعالى - أن أبذل جهدي في تيسيرها لك ، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق :
... القاعدة الأولى : قال أهل السنة : (( الأسباب مؤثرة لا بذاتها )) .
... وبيانها أن يقال : اعلم - رحمك الله تعالى - أن الناس قد انقسموا في تأثير الأسباب إلى ثلاث طوائف : طرفين ، ووسط .(1/187)
... فالطرف الأول هم المعطلة ، أي معطلة الأسباب ، وهم الذين يعتقدون أنه لا تأثير للأسباب أصلاً ، وإنما الآثار توجد عند السبب لا به ، فالانكسار حصل عند رمي الزجاجة ولا أثر للرمي فيه ، والموت حصل عند رمي الرصاصة وإصابتها للجسد ولا أثر لها فيه ، وهذا المذهب مذهب باطل كل البطلان ، وحق الواحد منهم أن يُصْفَع فإذا أحس بالألم وقال : لم صفعتني ؟ فقل : إن الألم حصل عند الصفعة ولا أثر للصفعة فيه .
... فهذه الطائفة تعتقد نفي تأثير الأسباب ولو مطلق التأثير ، أي أنه لا أثر للأسباب في مسبباتها البتة .
... وناقضهم الطائفة الأخرى وهم مشركة الأسباب ، وهؤلاء يعتقدون أن السبب هو المؤثر بذاته لا بتقدير الله تعالى ، فالسبب هو الذي يوجد أثره بنفسه بلا تدخل شيء آخر ، وهذا المذهب أيضًا باطل كل البطلان ، وهو في ذاته شرك في الربوبية ؛ لأنهم يعتقدون أن ثمة متصرفًا وخالقًا في هذا الكون غير الله تعالى .
... فالأولون فرطوا في الأسباب حتى نفي تأثيرها النفي المطلق ، والآخرون غلو في إثباتها حتى أثبتوا لها التأثير المطلق ، فجاء أهل السنة - رفع الله قدرهم وأعلا نزلهم وأدام عزهم وجعلنا من أتباعهم - فتوسطوا بين هذين المذهبين ، فقروا هذه القاعدة العظيمة فقالوا : (( السبب يؤثر لكن لا بذاته وإنما يجعل الله له مؤثرًا )) ، فلم ينفوا تأثير الأسباب كما زعمه المعطلة ، ولم يثبتوا التأثير المطلق كما زعمه مشركة الأسباب ، بل قالوا : (( السبب يؤثر لا بذاته )) ، فقولهم : (( السبب يؤثر )) رد على معطلة الأسباب ، وقولهم : (( لا بذاته )) رد على مشركة الأسباب ، فالله جل وعلا هو الذي خلق الأسباب وآثارها وهو الذي يربط بينها ويفصل على ما تقتضيه حكمته البالغة ، فلا خالق إلا هو جل وعلا .
... وبناءً عليه : فأول اعتقاد يجب عليك في مسألة الأسباب وآثارها هو أن تعتقد أنها مؤثرة لكن لا بذاتها ، وهذا هو خلاصة القاعدة الأولى .(1/188)
... القاعدة الثانية : كل من اتخذ سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فشرك أصغر وإن اعتقده الفاعل بذاته فشرك أكبر .
... أقول : وهذه القاعدة مهمة أيضًا في باب الأسباب وآثارها .
... وبيانها أن يقال : إن المتقرر في القواعد أنه لا خالق إلا الله تعالى ، وقد ذكرنا سابقًا أن الأسباب لابد لها من آثار .
... وبناءً عليه : فمن اعتقد أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء ، فإن دعواه هذه موقوفة على إثباتها بأحد دليلين ، إما بدليل الشرع وإما بدليل القدر أي التجربة ، فإذا أثبت هذه الدعوى بأحد هذين الدليلين قبلنا كلامه واعتقدنا سببية هذا الشيء لهذا الشيء ، وأما إذا لم يكن هناك دليل يثبت صدق الدعوى لا من الشرع ولا من القدر فإن كلامه مردود عليه مضروب به في وجهه ولا كرامة له ، بل ونقول له : إن اعتقادك هذا شرك أصغر ؛ لأنك تدخلت فيما هو من خصائص الله تعالى ، فالله تعالى هو الذي يربط بين الأسباب وآثارها ، فلابد لاعتقاد سببية شيء لشيء من دليل شرعي أو قدري ، وأما أن يزعم أحد سببية شيء لشيء بلا دليل ، فهذا تدخل فيما هو من فعل الله تعالى وإقحام للنفس فيما قد اختص الله به ، وأقل أحواله أن يكون شركًا أصغر ، وهذا هو معنى قولنا : (( من اعتقد سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فشرك أصغر )) .(1/189)
... وبناءً عليه : فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء إلا بالدليل وإلا لكان واقعًا في هذا المحظور العظيم ، ويزداد الأمر سوءًا على سوء إذا كان يعتقد أن السبب هو الفاعل بذاته ، وهذا هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية ، وهو اعتقاد مشركة الأسباب الذين ذكرناهم في القاعدة الأولى ، وهذا هو معنى قولنا : (( وإن اعتقده الفاعل بذاته فشرك أكبر )) ، وذلك كمن يعتقد أن التمائم هي التي تجلب الخير وتدفع الشر بذاتها ، وكمن يعتقد أن الرقية تدفع المرض بذاتها ، أو اعتقد أن الأنواء هي التي أنزلت المطر بذاتها ، أو اعتقد أن هذا الشيء الذي تبرك بهو هو الذي يفيض البركة عليه بذاته ، كل ذلك من الشرك الأكبر الذي يخرج من الإسلام بالكلية ، فهذه بعض الأمثلة على هذه القاعدة ، وخلاصتها أن يقال :
... أولاً : من اعتقد سببًا قد دل على سببيته الشرع فلا شيء عليه .
... ثانيًا : من اعتقد سببًا قد دل على سببيته القدر فلا شيء عليه .
... ثالثًا : من اعتقد سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فشرك أصغر .
... رابعًا : من اعتقد في سبب أنه هو الفاعل بذاته فشرك أكبر ، والله أعلى وأعلم .
... القاعدة الثالثة : الالتفات إلى الأسباب مطلقًا شرك في الشرع ، وعدم الالتفات لها مطلقًا قدح في الشرع ، والأخذ بها مع كمال التوكل على الله هو حقيقة الشرع .
... أقول : لقد اشتملت هذه القاعدة على ثلاث فقرات :
... الفقرة الأولى : وهو شأن مشركة الأسباب الذين لا ينظرون إلا إلى السبب ؛ وذلك لاعتقادهم أنه هو المؤثر بذاته ، وقد علمت أن هذا الاعتقاد شرك في توحيد الربوبية لاعتقاد أن ثمة خالقًا ومتصرفًا في هذه الكون غير الله تعالى ، فهذه نظرة متطرفة جائرة قد تعلقت قلوب أصحابها بالمخلوق العاجز الضعيف وانصرفت عن التعلق بالخالق القوي القادر من كل وجه ، فخابوا الخيبة المطلقة وخسروا الخسران المبين ، نعوذ بالله منهم ومن حالهم .(1/190)
... الفقرة الثانية : وهو شأن معطلة الأسباب الذين صرفوا نظرهم الصرف المطلق عن تحصيل الأسباب اعتمادًا على القدر ، فتركوا العمل والسعي اتكالاً على ما كتب وسبق به القلم ؛ وذلك لأنهم ظنوا أنه لا تأثير للأسباب في المسببات أبدًا ، فحيث لا تأثير لها فلماذا يتعبون أنفسهم في تحصيلها ، وهذا الاعتقاد قدح في الشرع ؛ لأن الشرع قد رتب الآثار على أسبابها وربط الكون بعضه ببعض ، وأمرنا بتحصيل الأسباب الشرعية والقدرية ، فأمرنا بالعمل الصالح لأنه سبب لدخول الجنة ، وأمرنا بالجهاد حتى لا تكون فتنة ، وقال لنا : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } ، وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك ، فيأتي هؤلاء الأغبياء الحمقى ويقولون : إنه لا تأثير للأسباب ، فأي قدح في الشرع أعظم من ذلك ، وأي تعطيل للأدلة التي تثبت الأسباب أعظم من ذلك ، فهاتان الفرقتان الضالتان قد تاهتا في باب الأسباب ، ففرقة زلت بها القدم في مهاوي الشرك ، وفرقة زلت بها القدم في القدح في الشرع ، وعصم الله أهل السنة والجماعة - رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى - فتوسطوا بين المذهبين فقالوا : نأخذ بالأسباب ونتوكل أولاً وآخرًا على الله تعالى وهو الفقرة الثالثة : فجمعوا بين الأمرين فسعوا في تحصيل الأسباب مع اعتماد قلوبهم الاعتماد المطلق على ربهم جل وعلا ، فلا هم اعتمدوا على الأسباب الاعتماد المطلق كما فعل مشركة الأسباب ولا هم عطلوا الأسباب وتركوا تحصيلها الترك المطلق كما فعل معطلة الأسباب ، بل أخذوا بالأسباب وسعوا في تحصيلها وتوكلوا على الله حق التوكل ، وهذا هو الصراط المستقيم والنهج القويم ، بل ما صدق في دعوى التوكل من ترك تحصيل الأسباب ، فإنه لو كان صادقًا لأخذ بها ، فالأخذ بالأسباب من تمام التوكل على الله تعالى .(1/191)
... فهذا سيد المتوكلين - عليه الصلاة والسلام - قد دخل مكة وعلى رأسه المغفر ، وظاهر يوم أحد بين درعين ، وقد تواترت الأدلة التواتر المعنوي بحرصه - صلى الله عليه وسلم - على الأخذ بأذكار الصباح والمساء ، وذلك أخذًا بأسباب الحفظ ، وثبت عنه أنه كان يحرص أن يضع بين يديه العنزة لتكون سترة له أخذًا بأسباب حفظ صلاته من القطع أو نقص الأجر ، وكان في بداية أمره - صلى الله عليه وسلم - مستخفيًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم ولا يصلي إلا في الشعاب بأصحابه أخذًا بأسباب حفظ بيضة المسلمين ، وهاجر هو وأبو بكر ليلاً مستخفيين أخذًا بأسباب السلامة من العدو ، واستأجر في سفر الهجرة عبدالله بن الأريقط هاديًا خريتًا أخذًا بأسباب الاهتداء للوجهة الصحيحة وعدم الضياع ، ولما أدركهم سراقة أمره - صلى الله عليه وسلم - بإخفاء خبرهم ووعده تاج كسرى بن هرمز أخذًا بأسباب الاحتماء من العدو ومن كيده ، واتخذ خاتمًا من فضة نقشه محمد رسول الله أخذًا بأسباب قبول وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله وهي المكاتبة ، لأنه قيل له إن الروم لا يقرأون الكتاب إلا إذا كان مختومًا ، واتخذ المنبر ليخطب عليه أخذًا بأسباب إبلاغ الصوت لمن كان بعيدًا ، وبنى حجر نسائه حول المسجد أخذًا بأسباب الاستتار عن الأعين ، وباع واشترى أخذًا بأسباب تحصيل المعاش، وكان يتسحر ويأمر به أخذًا بأسباب التقوية على الصيام، وأفطر يوم عرفة وأظهر فطره للناس ليتقوى على الاجتهاد في الدعاء ، وأفطر في سفر من أسفار الجهاد وأظهر فطره للناس ليتقوى على مواجهة العدو وقتالهم ، وكان يتخول الصحابة بالموعظة في الأيام أخذًا بأسباب عدم إملالهم أي لئلا تدخل السآمة في قلوبهم من المواعظ ، وآخى بين المهاجرين والأنصار في بداية الهجرة ليرسخ أخوة الإيمان في القلوب ولإزالة الوحشة من النفوس وليكسر حاجز العوائد وليكتسب بعضهم من بعض عاداته وتقاليده وليخفف على المهاجرين ألم الفقر والغربة وفراق(1/192)
الأهل والأولاد والأوطان وغير ذلك ، فهذه المؤاخاة أخذًا بأسباب هذه المصالح كلها .
... والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر ، وكلها بمجموعها تثبت هذه القضية المهمة ، وهو وجوب الأخذ بالأسباب واعتماد القلب على الله تعالى ، وهذا هو حقيقة الشرع ، فالشرع جاء بالأمر بتحصيل الأسباب وجاء بالأمر بالتوكل على الله تعالى ، فلا تنافي بينها ، بل هما متلازمان متآلفان يكمل أحدهما الآخر ، فمن أخذ بالأسباب فقط فقد قصر ، ومن توكل فقط فقد قصر ، ومن أخذ بالأسباب وتوكل فهو المؤمن الصادق والموحد الموفق ، والله يحفظنا وإياك ، فهذه قواعد الأسباب عند أهل السنة مع شيء من شرحها ، والله أعلى وأعلم .
* * *
... س374: ما الأخلاق التي يدعو إليها أهل السنة ؟(1/193)
... ج374: أقول : أهل السنة - رحمهم الله تعالى وغفر لهم وحشرنا في زمرتهم - يدعون إلى كل مكارم الأخلاق وأعظمها الإخلاص والمتابعة ، ويدعون إلى أن تعفو عن من ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وإكرام المسكين ، والتعاون على البر التقوى والتناهي عن الإثم العدوان ، وبر الوالدين ، والإحسان إلى الفقراء واليتامى والمملوك والبهيمة بل والإحسان في كل شيء ، ويدعون إلى حفظ اللسان عن الغيبة والسباب والشتائم ولغو القول والكذب والنميمة والخوض في أعراض الخلق ، وقول الزور ، ويدعون إلى حفظ الجوارح وحماية الأركان عن الحرام ، ويدعون إلى حفظ الأوقات من الضياع فيما لا يفيد فضلاً عن ما فيه من مضرة ، ويدعون إلى التحلي بآداب القرآن والسنة تحقيقًا لقول عائشة - رضي الله عنها - : (( كان خلقه القرآن )) ، ويدعون إلى تنفيس الكرب عن المؤمنين والتيسير على المعسرين والستر على المذنبين إذا كان الستر مصلحة راجحة أو خالصة ، وأن يكون العبد في عون أخيه ، ويدعون إلى احترام وطاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله ، وأن لا يذكرون إلا بالجميل ، ويدعون إلى طلاقة الوجه ، ونصر المظلوم ، وإبرار القسم ، ويدعون إلى إحسان الظن وصفاء النفوس والتسامح ، وسلامة الصدر ، ونفع من يحتاج إلى النفع بالجاه والمال ، ويدعون إلى نبذ التعصب والحذر من الكبر والتزام التواضع ولين الجانب ، واتباع الحق واحترام الخلق وإنزال الناس منازلهم ، ويدعون إلى تعلم العلم النافع وقرنه بالعمل الصالح والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه ، ويدعون إلى قول الحق والحكم به على المؤالف والمخالف والقريب والبعيد والصديق والعدو ، ويدعون إلى أداء الأمانات إلى أهلها ، وإلى صحبة الأخيار والتباعد والتجافي عن مقاربة الأشرار ، ويدعون إلى الرفق واللين في الأمر كله ، وإلى الزهد في متاع الحياة الدنيا وعدم الاغترار بزخرفها ، ويدعون إلى إفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام(1/194)
وإلى إطعام الطعام ليدخل العبد جنة ربه بسلام ، ويدعون إلى توافق الظاهر مع الباطن والوفاء بنذر الطاعة والتبرر ، ويدعون إلى إصلاح ذات البين ، وإلى سد أبواب الفتنة ، وعدم الجدال بالباطل ، وإلى الاعتذار عن مخالفتهم ما أمكنهم ذلك ، ويدعون إلى قول التي هي أحسن ، ودرء السيئة بالحسنة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
... وبالجملة : فيدعون إلى كل ما صح به الدليل من التشريع إيجابًا واستحبابًا ، وإلى ترك كل ما صح النهي عنه تحريمًا أو كراهة ، والله ربنا أعلى وأعلم .
... وهذا آخر سؤال وجواب أحببت أن أتحفك به ، راجيًا المولى باسمه الأعظم أن ينفع بها مؤلفها وقارئها وشارحها وسامعها وجميع المسلمين ، وأُشْهِدُ الله تعالى ومن حضرني من الملائكة أنها وقف لله تعالى على جميع عباد الله المؤمنين ، ولا حق لأحدٍ كائنًا من كان أن يحتفظ بحقوق طبعها ؛ لأن ما فيها من العلم ليس من إنتاجي وإنما هو ميراث أهل السنة والجماعة ، وليس لي في هذه الوريقات اليسيرة إلا الجمع والتنسيق فقط ، ولا أرجو ثوابًا من ورائها إلا من الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
... فأناشد بالله أخًا وقعت في يده وانتفع بما فيها أن يرفع يديه داعيًا لمقيدها بالمغفرة والرحمة والرضوان ، فإنه العبد الذليل الفقير الحقير المهين الذي قد كثر خطأه وزادت حيرته وعظمت ذنوبه وكبرت غفلته ، وليس له إلا الله الغفور الرحيم الكريم الجواد التواب ، فيا رب عذرًا ثم عذرًا من الزلل التقصير ، واجعلني دائرًا بين الأجرين أو الأجر ، ولا تحرمني بركة هذا العلم ، وانفعني به في الدنيا والآخرة ، وأنزل فيه البركة تلو البركة ، واشرح له الصدور وافتح فيه الأفهام .
... اللهم واستر زللنا واعف عنا حوبنا وخطايانا وآمن روعاتنا واكفنا شرور أنفسنا ، ونعوذ بك من الكبر والبغي والحسد والفحش ما ظهر منه وما بطن .(1/195)
... فهذا ما كتبته يداي المذنبتان أضعه بين يديك أيها الأخ المبارك لتشهد على صاحبه بالإحسان أو التقصير ، ولقد تقرر في القواعد أن عمل البشر مناطه النقص ؛ لأنهم ناقصون في ذواتهم وصفاتهم ، والمعصوم من عصمه الله تعالى ، ويبعد جدًا ألاَّ نجد عيبًا أو خللاً ، لكن فإن تجد عيبًا فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا ، وانظر فيه بعين المحب المشفق الناصح المستفيد المفيد ، لا بعين الناقد الذي همه إخراج الخطأ والبحث عن الزلة ، أعاذك الله من ذلك .
... والله أعلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه ، ثم أستغفر الله وأتوب إليه ، ثم أستغفر الله وأتوب إليه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
... وكان الفراغ منه في عصر يوم الأربعاء الموافق لليوم الأول من شهر ذي القعدة عام أربع وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة من هجرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - .
الفهرس
رقم السؤال ... السؤال ... الصفحة
308 ... عرف الولاء والبراء في اصطلاح علماء الاعتقاد ... 358
309 ... ما الذي يدور عليه الولاء والبراء ؟ ... 358
310 ... ما مفهوم البراء في الشريعة الإسلامية والعقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة ؟ ... 360
311 ... ما الولاء الذي يريده الله منا ؟ مع بيان ذلك بالدليل ، وتوضيح المراد من كل واحدٍ منها بأدلته ؟ ... 361
312 ... كيف يكون ولاء المؤمن لكتاب الله تعالى ؟ ... 367
313 ... كيف يكون ولاء المؤمن لدين الله جل وعلا ؟ ... 369
314 ... كيف يكون ولاء المؤمن لصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ... 370
315 ... ما أقسام البراء ؟ مع توضيح ذلك بالدليل والتمثيل ؟ ... 371
316 ... هلا ضربت لنا أمثلة على موالاة الكفار لنحذرها ونحذِّر منها ؟ ... 374
317 ... ما خلاصة عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء للكفار - باختصار - ؟ ... 377
318 ... ما حكم ما يتردد على ألسنة البعض من قولهم : ( الدين لله والوطن للجميع ) فهل لهذه الكلمة تعلق بقضية الولاء والبراء ؟ ... 379(1/196)
319 ... كيف يتعامل المسلم مع المنافقين ؟ مع توضيحها بالدليل ؟ ... 380
320 ... اذكر لنا شيئًا من صفات المنافقين مؤيدة بالأدلة حتى نَحْذَرَ من الاتصاف بها ونُحَذِّر المسلمين منها ؟ ... 382
321 ... اذكر لنا شيئًا من صور الموالاة للمنافقين ؟ ... 385
322 ... هل يجوز السفر لبلاد الكفر ؟ ... 386
323 ... ما القواعد التي يجب مراعاتها في الحكم على الآخرين ؟ اذكرها مجملة ؟ ... 388
324 ... عرف الساعة اصطلاحًا ، مع بيان إطلاقاتها ... 389
325 ... ما أقسام أشراط الساعة باعتبار ذاتها ، وباعتبار ظهورها من عدمه ؟ ... 390
326 ... عدد لنا بعض أشراط الساعة الصغرى مقرونة بأدلتها مع شيء يسير من تفاصيلها ؟ ... 392
327 ... اذكر لنا نسب المهدي وشيئًا من صفاته مقرونة بالأدلة ؟ ... 405
328 ... هل أحاديث المهدي في صفته وخروجه بلغت مبلغ التواتر أم أنها من الآحاد ؟ ... 407
329 ... كيف نجمع بين أحاديث إثبات خروج المهدي وحديث : لا مهدي إلا عيسى ابن مريم ؟ ... 408
رقم السؤال ... السؤال ... الصفحة
330 ... ما العلامة الثانية من العلامات الكبرى على قيام الساعة في ذكر الأدلة الدالة عليها ؟ ... 409
331 ... اذكر لنا شيئًا من صفاته بالدليل ، وما سبب افتتان الناس به ؟ ... 411
332 ... كيف العصمة من فتنته ؟ مع تأييد ذلك بالدليل ؟ ... 415
333 ... كيف يكون هلاك هذا الطاغية ؟ وعلى يد مَنْ ؟ مع بيان ذلك بالدليل . ... 418
334 ... ما قصة الجساسة ؟ ولماذا سميت بذلك ؟ ... 418
335 ... ما العلامة الثالثة من العلامات الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة . ... 421
336 ... لماذا سمي عيسى ابن مريم بالمسيح ؟ واذكر لنا شيئًا من صفاته ، ومكان نزوله ووقته ، مؤيدًا جميع ما تذكره بالأدلة . ... 423
337 ... كم مدة مكثه - عليه السلام - في الأرض ؟ وبماذا يحكم عند نزوله ؟ وهل يصدق عليه أنه صحابي ؟ ... 425
338 ... ما العلامة الرابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع بيانها بالأدلة . ... 426
339 ... ما أصل يأجوج ومأجوج ؟ ومن الذي بنى السد بينهم وبين الناس ؟ وأين هو الآن ؟ واذكر شيئًا من صفاتهم ؟ ... 429(1/197)
340 ... ما العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع الدليل . ... 431
341 ... ما العلامة السادسة من علامات الساعة الكبرى ؟ موضحًا لها بالأدلة ؟ ... 432
342 ... ما العلامة السابعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع توضيحها بالأدلة . ... 433
343 ... ما العلامة الثامنة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها . ... 435
344 ... ما الذي يجب على المؤمن في أمر هذه الدابة ؟ وما الذي ينبغي له الحذر منه ؟ ... 436
345 ... ما العلامة التاسعة من علامات الساعة الكبرى ؟ مع ذكر الأدلة عليها . ... 437
346 ... كيف يكون حشر هذه النار للناس ؟ مع بيان ذلك بالدليل . ... 438
347 ... ما الأرض التي يحشر إليها الناس ؟ مع ذكر الدليل . ... 438
348 ... من آخر من تحشرهم النار ؟ مع ذكر الدليل . ... 439
349 ... اذكر لنا بعض الوصايا التي منها ننطلق في تعلم هذه الأشراط . ... 439
350 ... ما عقيدة أهل السنة في قضية الإسراء والمعراج ؟ مع ذكر الدليل على ذلك . ... 442
351 ... ما عقيدة أهل السنة في كرامات الأولياء ؟ ... 444
352 ... هَلاَّ ذكرت لنا بعض الكرامات التي ثبتت بالنقل الصحيح، مقرونة بأدلتها لنتعرف على شيء منها. ... 448
رقم السؤال ... السؤال ... الصفحة
353 ... هل الجن مكلفون ؟ وضح ذلك ؟ مع بيان ما يدل عليه . ... 453
354 ... ما طبيعة التكاليف التي كلف بها الجن ؟ ... 458
355 ... ما مصير العاصي والمحسن منهم ؟ مع الدليل . ... 460
356 ... ما أنواع استخدام الجن ؟ موضحًا حكم كل قسم ، مع الدليل . ... 463
357 ... ما المراد بقاعدة الوسطية ؟ مع بيانها بضرب الأمثلة . ... 468
358 ... من المعتزلة ؟ ولماذا سموا بذلك؟ وما أبرز أصولهم التي يقوم عليها مذهبهم؟ مع توضيح المراد بها. ... 472
359 ... من الجهمية ؟ مع ذكر بعض عقائدهم في بعض المسائل ، وهل هم من فرق الأمة ؟ ... 474
360 ... من الخوارج ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم ؟ ... 475
361 ... من الأشاعرة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر بعض عقائدهم . ... 476
362 ... من الرافضة ؟ ولماذا سموا بذلك ؟ مع ذكر أبرز عقائدها وأصولها . ... 476(1/198)
363 ... اذكر بعض الأوجه الدالة على صحة منهج السلف . ... 478
364 ... كيف التوفيق بين وصف القرآن كله بالتشابه والإحكام ، ووصف بعضه بالتشابه والإحكام ؟ ... 486
365 ... ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابهًا ؟ ... 489
366 ... ما الأسباب التي بسببها ضل من ضل في أبواب الاعتقاد ؟ ... 490
367 ... من المقصود بأهل التخييل ، وأهل التأويل ، وأهل التجهيل الذين ذكرهم أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في الفتوى الحموية ؟ مع ذكر شيء من مذاهبهم . ... 495
368 ... ما حكم من يدعي علم الغيب ؟ مع بيان ذلك بالتدليل والتمثيل . ... 497
369 ... ما الترياق الشافي والعلاج الكافي للوساوس الشيطانية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته ونحو ذلك ؟ مع تأييد ذلك بالأدلة . ... 500
370 ... ما أقسام التكفير عند أهل السنة مع التمثيل ؟ ... 505
371 ... ما الشروط والموانع التي يتوقف عليها كفر المعين مع بيانها بالأدلة والتمثيل ؟ ... 507
372 ... اذكر لنا أمثلة على بعض نواقض الإيمان الاعتقادية والقولية والعملية إجمالاً ؟ ... 515
373 ... ما القواعد المقررة في مذهب أهل السنة في باب الأسباب ؟ مع شيء من شرحها . ... 518
374 ... ما الأخلاق التي يدعو إليها أهل السنة ؟ ... 522(1/199)